فصل: باب مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلا إِشْرَافِ نَفْسٍ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلا إِشْرَافِ نَفْسٍ

- فيه‏:‏ عُمَر، قَالَ‏:‏ كَانَ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِى الْعَطَاءَ، فَأَقُولُ‏:‏ أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّى، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏خُذْهُ إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَىْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ، وَلا سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَمَا لا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ليس معنى هذا الحديث فى الصدقات، وإنما هو فى الأموال التى يقسمها الإمام على أغنياء المسلمين وفقرائهم، فكانت تلك الأموال يعطاها الناس لا من جهة الفقر، ولكن بحقوقهم فيها، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر حين أعطاه قوله‏:‏ ‏(‏أعطه من هو أفقر إليه منى‏)‏ لأنه إنما أعطاه لمعنى غير الفقر، ثم قال له‏:‏ ‏(‏خذه فتموله‏)‏، هكذا رواه شعيب عن الزهرى، فدل أن ذلك ليس من أموال الصدقات، لأن الفقير لا ينبغى له أن يأخذ من الصدقات ما ينبغى له أن يتخذه مالاً، كان عن مسألة أو غير مسألة، ثم قال‏:‏ ‏(‏إذا جاءك من هذا المال‏)‏ الذى هذا حكمه ‏(‏فخذه‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ اختلف العلماء فى معنى قوله صلى الله عليه وسلم لعمر‏:‏ ‏(‏ما جاءك من هذا المال فخذه‏)‏ بعد إجماعهم على أنه أمر ندب وإرشاد، فقال بعضهم‏:‏ هو ندب من النبى صلى الله عليه وسلم لكل من أعطى عطية إلى قبولها كائنًا من كان معطيها، سلطانًا أو عاميًا، صالحًا أو فاسقًا، بعد أن يكون ممن تجوز عطيته‏.‏

ذكر من قال ذلك‏:‏ روى عن أبى هريرة أنه قال‏:‏ ‏(‏ما أحد يهدى إلى هدية إلا قبلتها، فأما أن أسأل فلا‏)‏‏.‏

وعن أبى الدرداء مثله، وقبلت عائشة من معاوية، وقال حبيب بن أبى ثابت‏:‏ رأيت هدايا المختار تأتى ابن عمر، وابن عباس فيقبلانها، وقال عثمان بن عفان‏:‏ جوائز السلطان لحم ظبى ذكى، وبعث سعيد بن العاص إلى على بن أبى طالب هدايا فقبلها، وقال‏:‏ خذ ما أعطوك، وأجاز معاوية الحسين بأربعمائة ألف، وسئل أبو جعفر محمد بن على بن حسين عن هدايا السلطان، فقال‏:‏ إن علمت أنه من غصب أو سحت فلا تقبله، وإن لم تعرف ذلك فاقبله، فإن بريرة تصدق عليها بلحم فأهدته لآل النبى صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏هو عليها صدقة، ولنا هدية‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏ما كان من مأثم فهو عليهم، وما كان من مهنأ فهو لك‏)‏‏.‏

وقبلها علقمة، والأسود، والنخعى، والحسن البصرى، والشعبى‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل ذلك ندب من النبى صلى الله عليه وسلم أمته إلى قبول عطية غير ذى سلطان، فأما السلطان فإن بعضهم كان يقول‏:‏ حرام قبول عطيته، وبعضهم كرهها‏.‏

ذكر من قال ذلك‏:‏ روى أن خالد بن أسيد أعطى مسروقًا ثلاثين ألفًا، فأبى أن يقبلها، فقيل له‏:‏ لو أخذتها فوصلت بها رحمك، فقال‏:‏ أرأيت لو أن لصًا نقب بيتًا ما أبالى أخذتها أم أخذت ذلك‏.‏

ولم يقبل ابن سيرين ولا أبو رزين ولا ابن محيريز من السلطان، وقال هشام بن عروة‏:‏ بعث إلىّ عبد الله بن الزبير، وإلى أخى بخمسمائة دينار، فقال أخى‏:‏ ردها فما أكلها أحد وهو غنى عنها إلا أحوجه الله إليها‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ كره جوائز السلطان‏:‏ محمد بن واسع، والثورى، وابن المبارك، وأحمد ابن حنبل، وجماعة‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل ذلك ندب إلى قبول هدية السلطان دون غيره‏.‏

وروى عن عكرمة أنه قال‏:‏ إنا لا نقبل إلا من الأمراء‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والصواب عندى أنه ندب منه صلى الله عليه وسلم أمته إلى قبول عطية كل معط جائز عطيته، سلطانًا كان أو رعية، وذلك أن الرسول قال لعمر‏:‏ ‏(‏ما آتاك الله من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فاقبله‏)‏، فندبه صلى الله عليه وسلم إلى قبول كل ما آتاه الله من المال من جميع وجوهه من غير تخصيص وجه من الوجوه دون غيره، سوى ما استثناه صلى الله عليه وسلم، وذلك ما جاء من وجه حرام عليه، فلا يحل له قبوله، كالذى يغصب رجلاً مسلمًا ماله ثم يعطيه بعينه آخر، والذى يُعطاه يعلم غصبه، أو سرقته، أو خيانته، فإن قبله كان واجبًا عليه رده‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فإن كان الأمر كما وصفت من أنه لا يحرم على امرئ قبول عطية أحد يجوز حكمه فى ماله إلا عطية حرم الله قبولها، فما وجه فعل من رد عطايا السلاطين، وامتنع من قبول هدايا الأمراء، وقد ندب صلى الله عليه وسلم إلى قبول عطية كل أحد‏؟‏‏.‏

قيل له‏:‏ إن من رد من ذلك شيئًا إنما كان على من كان الأغلب من أمره أنه لا يأخذ المال من وجهه، فرأى أن الأسلم لدينه والأبرأ لعرضه ترك قبوله إذ كان الأمر بالقبول غير حتم واجب، وإنما هو ندب إلى قبول ما لا شك فى حله، فإذا كان فيه لبس فالحق ترك قبوله، وما لم يكن حلالاً يقينًا فلم يدخل فى أمره صلى الله عليه وسلم عمر بقبوله، فأحله محل الشبهات التى مَنْ وَاقَعَها لم يُؤمَنْ منه مواقعة الحرام‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما تقول فيمن قبل ممن لم يتبين من أين أخذ المال ولا فيما وضعه‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ ذلك ينقسم إلى ثلاثة أقسام‏:‏ فما علمت يقينًا أنه حلال فلا أستحب رده، وما علمت يقينًا أنه حرام فلا أستحل قبوله وما لم أعلم وجه مصيره ولا سبب وصوله إليه، فذلك ما قد وضع عنى تكلف البحث عن أسبابه، وألزمنى فى الظاهر الحكم بأنه أولى به من غيره، ما لم يستحقه عليه مستحق، كما أحكم بما فى يد أعدل العدول أنه أولى بما فى يده ما لم يستحقه عليه مستحق، فسوى عز وجل بين حكم أفضل خلقه فى ذلك وأفجرهم، فالواجب على التسوية فى قبول عطية كل واحد منهما وردها من جهة ما يحل ويحرم، وإن اختلفا فى أن البر أحق بأن يسر بقبول عطيته من الفاجر‏.‏

فإن قيل‏:‏ يجوز على هذا مبايعة من يخالط، ماله الحرام وقبول هداياه‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ قد كره ذلك قوم وأجازه آخرون، فممن كرهه‏:‏ عبد الله بن يزيد، وأبو وائل، والقاسم، وسالم، وروى أنه توفيت مولاة لسالم كانت تبيع الخمر بمصر فترك ميراثها، وكانت تبيع مولاة للقاسم الفضة بالفضة متفاضلة فترك ميراثها أيضًا، وقال مالك‏:‏ قال عبد الله بن يزيد بن هرمز‏:‏ إنى لأعجب ممن يرزق الحلال فيرغب فى الربح فيه الشىء اليسير من الحرام فيفسد المال كله، وكره الثورى المال الذى يخالطه الحرام‏.‏

وأما الذين أجازوا ذلك، فروى عن ابن مسعود أن رجلا سأله فقال‏:‏ إن لى جارًا لا يتورع من أكل الربا، ولا من أخذ ما لا يصلح، وهو يدعونا إلى طعامه، وتكون لنا الحاجة فنستقرضه‏؟‏ فقال‏:‏ أجبه إلى طعامه واستقرضه، فلك المهنأ وعليه المأثم، وسئل ابن عمر عن أكل طعام من يأكل الربا فأجازه، وسئل النخعى عن الرجل يرث الميراث منه الحلال والحرام، قال‏:‏ لا يحرم عليه إلا حرام بعينه، وعن سعيد بن جبير أنه مر بالعشارين وفى أيديهم شماريخ، فقال‏:‏ ناولونا من سحتكم هذا، إنه عليكم حرام ولنا حلال، وأجاز الحسن البصرى أكل طعام العشار والصراف والعامل، وعن مكحول والزهرى، إذا اختلط المال الحلال والحرام فلا بأس به، وإنما يكره من ذلك الشىء يعرف بعينه، وأجاز ذلك ابن أبى ذئب، قال ابن المنذر‏:‏ واحتج من رخص فى ذلك بأن الله تعالى ذكر اليهود فقال‏:‏ ‏(‏سماعون للكذب أكالون للسحت‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 42‏]‏ وقد رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودى‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ وفى إباحة الله أخذ الجزية من أهل الكتاب مع علمه بأن أكثر أموالهم أثمان الخمور والخنازير، وهم يتعاملون بالربا، أبين الدلالة على أن من كان من أهل الإسلام بيده مال لا يدرى أمن حرام كسبه أم من حلال، فإنه لا يحرم قبوله لمن أعطيه، وإن كان لا يبالى اكتسبه من غير حله بعد أن لا يعلمه حرامًا بعينه، وبنحو ذلك قالت الأئمة من الصحابة والتابعين، ومن كرهه فإنما ركب فى ذلك طريق الورع، وتجنب الشبهات، والاستبراء لدينه، لأن الحرام لا يكون إلا بينًا غير مشكل، والله الموافق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏غير مشرف‏)‏ يعنى‏:‏ غير متعرض ولا حريص عليه بشره وطمع، وأصله من قولهم‏:‏ أشرف فلان على كذا، إذا تطاول له ورماه ببصره، ومنه قيل للمكان المرتفع‏:‏ شرف، وللشريف من الرجال شريف لا رتفاعه عمن هو دونه بمكارم الأخلاق‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى حديث عمر من الفقه أن للإمام أن يعطى الرجل العطاء وغيره أحوج إليه منه، إذا رأى لذلك وجهًا لسابقة أو لخير، أو لغناء عن المسلمين، وفيه أن ما جاء من المال الطيب الحلال من غير مسألة، فإن أخذه خير من تركه إذا كان ممن يجمل الأخذ منه، وفيه أن رد عطاء الإمام ليس من الأدب، لأنه داخل تحت عموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏ فإذا لم يأخذه فكأنه لم يأتمر لله، فكأنه من سوء الأدب‏.‏

باب مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا

- فيه‏:‏ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِىَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِى وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأذُنِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه ذم السؤال وتقبيحه، وفهم البخارى، رحمه الله، أن الذى يأتى يوم القيامة لا لحم فى وجهه من كثرة السؤال أنه السائل تكثرًا بغير ضرورة إلى السؤال، ومن سأل تكثرًا فهو غنى لا تحل له الصدقة، فعوقب فى الآخرة‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ عوقب فى وجهه بأن جاء لا لحم فيه، فجازاه الله من جنس ذنبه حين بذل وجهه وعنده كفاية‏.‏

قال المهلب‏:‏ والمزعة‏:‏ القطعة من اللحم، فإذا جاء لا لحم فى وجهه فتؤذيه الشمس فى وجهه أكثر من غيره، ألا ترى قوله فى الحديث‏:‏ ‏(‏إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن‏)‏ فحذر صلى الله عليه وسلم من الإلحاف فى المسألة لغير حاجة إليها، وأما من سأل مضطرًا فقيرًا فمباح له المسألة، ويرجى له أن يؤجر عليها إذا لم يجد عنها بدًا، ورضى بما قسم الله لهن ولم يتسخط قدره‏.‏

قال الخطابى‏:‏ معنى الحديث أنه يأتى يوم القيامة ذليلا ساقط القدر، لا وجه له عند الله، فهذا التأويل على المجاز، والأول على الحقيقة‏.‏

وروى شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن زيد بن عقبة الفزارى، عن سمرة بن جندب، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏للسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، أو فى أمر لا يجد منه بدًا‏)‏‏.‏

باب قَوْله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 273‏]‏ وَكَمِ الْغِنَى

وَقَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَلا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ‏)‏، يقَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 273‏]‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِى تَرُدُّهُ الأكْلَةَ وَالأكْلَتَانِ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنًى وَيَسْتَحْيِى، أَوْ لا يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِى يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِي لا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلا يُفْطَنُ بِهِ، فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ الْمُغِيرَةِ أَنَّ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، كَرِهَ لَكُمْ ثَلاثًا، قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ‏.‏

- فيه‏:‏ سَعْدٍ، أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ رَهْطًا، وَأَنَا جَالِسٌ فِيهِمْ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ فِيهِمْ رَجُلا لَمْ يُعْطِهِ، وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَىَّ، فَقُمْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ‏:‏ مَا لَكَ عَنْ فُلانٍ‏؟‏ وَاللَّهِ إِنِّى لأرَاهُ مُؤْمِنًا، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَوْ مُسْلِمًا‏)‏، قَالَ‏:‏ فَسَكَتُّ قَلِيلا، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَعْلَمُ فِيهِ‏.‏‏.‏

الحديث‏.‏

قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنِّى لأعْطِى الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِى النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لأنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، ثُمَّ يَغْدُوَ- أَحْسِبُهُ قَالَ‏:‏ إِلَى الْجَبَلِ- فَيَحْتَطِبَ، فَيَبِيعَ فَيَأْكُلَ، وَيَتَصَدَّقَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قال مجاهد فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 73‏]‏ هم فقراء المهاجرين بالمدينة خاصة مع النبى صلى الله عليه وسلم، أمر بالصدقة عليهم، وقيل‏:‏ حصروا أنفسهم للغزو ومنعهم فرض الجهاد من التصرف، وقيل‏:‏ إنها كانت الأرض كلها كفرًا بها وحربًا على أهل البلد وكانوا لا يتوجهون جهة إلا لهم فيها عدو، فلا يستطيعون تصرفًا فى البلاد ابتغاء المعاشر فيستغنوا به عن الصدقة رهبة للعدو وخوفًا على أنفسهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا يسألون الناس إلحافًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 273‏]‏ اختلف المفسرون فى تأويله، فقيل‏:‏ يسألون ولا يلحفون فى المسألة، وقيل‏:‏ إنهم لا يسألون الناس أصلا، قال ابن الأدفوى‏:‏ أى لا يكون منهم سؤال فيكون منهم إلحاف كما قال امرؤ القيس‏:‏ على لاحبٍ لا يهتدى لمناره أى‏:‏ ليس له منار يهتدى بها، والدليل على أنهم لا يسألون وصف لله لهم بالتعفف، ولو كانوا أهل مسألة لما كان التعفف من صفتهم‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ويشهد لهذ التأويل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس المسكين الذى يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذى لا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس‏)‏، واحتج من أوجب لهم السؤال، ونفى عنهم الإلحاف بقوله فى الحديث الأول‏:‏ ‏(‏ولكن المسكين الذى ليس له غنى ويستحى، أو لا يسأل الناس إلحافًا‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ والمسألة بغير إلحاف مباحة إلى المضطر إليها، يدل على ذلك ما رواه مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بنى أسد، عن رسول الله قال‏:‏ ‏(‏من يسأل الناس وله أوقية أو عدلها، فقد سأل إلحافًا‏)‏ فدل هذا الحديث أن من لم يكن له أوقية فهو غير ملحف ولا ملوم فى المسألة، ومن لم يكن ملومًا فى مسألته، فهو ممن يليق به اسم التعفف، وليس قول من قال‏:‏ لو كانوا أهل مسألة لما كان التعفف من صفتهم بصحيح، لأن السؤال المذموم إنما هو لمن كان غنيًا عنه لوجود أوقية أو عدلها‏.‏

فالحديثان مختلفان فى المعنى لا ختلاف ظاهرهما، فالحديث الأول‏:‏ نفى فيه الإلحاف، ودل على السؤال، والحديث الثانى‏:‏ نفى فيه السؤال أصلاً، وانتفى فيه الإلحاف بنفى السؤال، وإنما اختلف الحديثان لا ختلاف أحوال السائلين، لأن الناس يختلفون فى هذا المعنى، فمنهم من يصبر عن السؤال عند الحاجة ويتعفف، ويدافع حاله، وينتظر الفرج من الله تعالى، ومنهم من لا يصبر ويسأل بحسب حاجته وكفايته، ومنهم من يسأل وهو يجد للاستكثار، وهذا هو الملحف الذي لا ينبغى له المسألة، وقد يحتمل أن يكون الحديثنا معناهما واحد فى نفى السؤال أصلا، ويحتمل أن يكونا جميعًا حقيقى المعنى فى إثبات السؤال، ونفى الإلحفاف‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف وقد قال فى الحديث الواحد‏:‏ ‏(‏لا يقوم فيسأل الناس‏؟‏‏)‏ قيل‏:‏ فى أكثر أمره وغالب حاله، ويلزم نفسه التعفف عن المسألة حتى تغلبه الحاجة والفقر، ويقع سؤاله فى النادر والشاذ، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يضع عصاه عن عاتقه‏)‏ ومعلوم أنه أراد فى بعض الأوقات، وكما قال‏:‏ ‏(‏لا تحل الصدقة لغنى ولا لذى مرة سوى‏)‏ وقد يحل له فى بعض الأوقات، ومن كان سؤاله عند الضرورة وفى النادر، فليس بملحف فى المسألة، واسم التعفف أولى به، لدليل حديث عطاء بن يسار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ليس المسكين الذى ترده اللقمة واللقمتان‏)‏ يريد ليس المسكين المتكامل أسباب المسكنة، لأنه بمسألته يأتيه الكفاف والزيادة عليه، فيزول عنه اسم المبالغة فى المسكنة، وإنما المسكين المتكامل أسباب المسكنة من لا يجد غنى ولا يتصدق عليه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏ أى‏:‏ ليس ذلك غاية البر، لأنه لا يبلغ بر من آمن بالله واليوم الآخر الآية‏.‏

واختلف أهل اللغة والفقهاء فى الفقير والمسكين، من هو أسوأ حالا منهما‏؟‏ فقال ابن السكيت وابن قتيبة‏:‏ المسكين أسوأ حالا من الفقير، لأن المسكين الذى قد سكن وخشع، والفقير له بعض ما يغنيه واحتجوا بقول الشاعر‏:‏

أما الفقير الذى كانت حلوبته *** وفق العيال فلم يترك له سَبَدُ ***

فذكر أنه كانت له حلوبة، وجعلها وفقًا لعياله، أى قدر قوتهم، وحكى ابن القصار أنه هذا قول أصحاب مالك وقول أبى حنيفة‏.‏

وقال طائفة‏:‏ الفقير أسوأ حالا من المسكين، هذا قول الأصمعى وابن الأنبارى، وهو قو الشافعى، واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضربًا فى الأرض‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 273‏]‏ الآية، وبقوله‏:‏ ‏(‏أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏ فأخبر أن المسكين يملك بعض السفينة‏.‏

قالوا‏:‏ والفقر هو استئصال الشىء، يقال‏:‏ فقرتهم الفاقرة، إذا أصابتهم داهية أهلكتهم، والفقير عند العرب الذى قد انكسر فقار ظهره، ومن صار هكذا فقد حل به الموت، وقد يقال‏:‏ مسكين لغير الفقير، ولكن لما نقصت حالته عن الكمال فى بعض الأمور كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مسكين مسكين من لا زوجة له‏)‏ وقال لقيلة‏:‏ ‏(‏يا مسكينة عليك بالسكينة‏)‏ قالوا‏:‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم أحينى مسكينًا، وأمتنى مسكينًا، واحشرنى فى زمرة المساكين‏)‏ وتعوذ بالله من الفقر، فعلم أنه أسوأ حالا وأشد من المسكنة‏.‏

وقد قالت طائفة من السلف‏:‏ الفقير الذى لا يسأل، والمسكين الذى يسأل، روى هذا عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، والزهرى، وروى عن على بن زياد عن مالك أنه قال‏:‏ الفقير الذى لا غنى له ويتعفف عن المسألة، والمسكين الذى لا غنى له ويسأل‏.‏

واختلفوا أيضًا كم الغنى الذى لا يجوز لصاحبه أخذ الصدقة، وتحرم عليه المسألة‏؟‏ فقال بعضهم‏:‏ هو بوجود المرء قوت يومه لغدائه وعشائه، وهذا قول بعض المتصوفة الذين زعموا أنه ليس لأحد ادخار شىء لغد، قولهم مردود بما ثبت عن النبى وأصحابه أنهم كانوا يدخرون‏.‏

وقال آخرون‏:‏ لا تجوز المسألة إلا عند الضرورة، وأحلوا ذلك محل الميتة للمضطر، وقال آخرون‏:‏ لا تحل المسألة بكل حال، واحتجوا بما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبى ذر‏:‏ ‏(‏لا تسأل الناس شيئًا‏)‏ وجعلوا ذلك نهيًا عامًا عن كل مسألة، وبما رواه ابن أبى ذئب عن محمد بن قيس، عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية، عن ثوبان مولى رسول الله أنه قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من تكفل لى بواحدة تكفلت له بالجنة‏)‏، قال ثوبان‏:‏ أنا، قال‏:‏ ‏(‏لا تسأل الناس شيئًا، فكان سوطه يقع فما يقول لأحد ناولنيه فينزل فيأخذه‏)‏‏.‏

وقال قيس بن عاصم لبنيه‏:‏ إياكم والمسألة فإنها آخر كسب المرء، فإن أحدًا لن يسأل إلا ترك كسبه‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا يأخذ الصدقة من له أربعون درهما لقول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافًا‏)‏، وممن قال بذلك أبو عبيد روى عن مالك أنه قال‏:‏ يعطى من له أربعون درهمًا إذا كان له عيال‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهمًا، هذا قول النخعى، والثورى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بحديث يروى عن ابن مسعود عن النبى بذلك، وعلله يحيى ابن سعيد وشعبة فقالا‏:‏ يرويه حكيم بن جبير، وهو ضعيف‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ من ملك مائتى درهم تحرم عليه الصدقة المفروضة‏.‏

وهذا قول أبى حنيفة وأصحابه، ورواه المغيرة المخزومى عن مالك، وقال المغيرة‏:‏ لا بأس أن يعطى أقل مما تجب فيه الزكاة ولا يعطى ما تجب فيه الزكاة واحتج أصحاب أبى حنيفة بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها فى فقرائكم‏)‏ فجعل المأخوذ منه الزكاة غير المردود عليه، ومن معه مائتا درهم تؤخذ منه الزكاة، فلم يجز أن ترد عليه لما فيه من إبطال الفرق بين الجنسين بين الغنى والفقير‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من سأل وله أوقية أو عدلها‏)‏ منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من سأل وله خمس أواق، فقد سأل إلحافًا‏)‏ فجعل هذا حدًا لمن لا تحل له الصدقة‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ وكل من حد من الفقهاء فى الغنى حدًا أو لم يحد، فإنما هو بعد ما لا غنى عنه من دار تحمله ولا تفضل عنه، وخادم هو محتاج إليها، ولا فضل له من مال يتصرف فيه، ومن كان هكذا فأجمع الفقهاء أنه يجوز له أن يأخذ من الصدقة ما يحتاج إليه‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والصواب عندنا فى ذلك أن المسألة مكروهة لكل أحد إلا المضطر يخاف على نفسه التلف بتركها، ومن بلغ حد الخوف على نفسه من الجوع ولا سبيل له إلى ما يرد به رمقه ويقيم به نفسه إلا بالمسألة، فالمسألة عليه فرض واجب، لأنه لا يحل له إتلاف نفسه وهو يجد السبيل إلى إحيائها بما أباح الله له إحياءها به والمسألة مباحة لمن كان ذا فاقة وإن كرهناها له ما وجد عنها مندوحة بما يقيم به رمقه من عيش وإن خاف، وإنما كرهناها له لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اليد العليا خير من اليد السفلى‏)‏ ولقوله‏:‏ ‏(‏لأن يأخذ أحدكم حبلة فيحتطب خير له من أن يسأل الناس‏)‏ ولا مأثم عليه إلا على سائل سأل من غنى متكثرًا بها ماله فالمسألة عليه حرام‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى حديث سعد من الفقه الشفاعة للرجل من غير أن يسألها ثلاثًا فى الصدقات وغيرها، وفيه النهى عن القطع لأحد من الناس بحقيقة الإيمان، وقد تقدم فى كتاب الإيمان‏.‏

وفيه‏:‏ أن العالم يجب أن يدعو الناس إلى ما عنده وإلى الحق والعلم بكل شى حتى بالعطاء، وفيه‏:‏ أن الحرص على هداية غير المهتدى آكد من الإحسان إلى المهتدى، وفيه أنه قد يعطى من المال أهل النفاق ومن على غير حقيقة الإسلام على وجه التألّف إذا طمع بإسلامه، وفى أحاديث هذا الباب كله الأمر بالتعفف والاستغناء وترك السؤال‏.‏

وقال المؤلف‏:‏ وفى دليل قوله‏:‏ ‏(‏للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 273‏]‏ ودليل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب خير له من أن يسأله الناس‏)‏ بيان ما روى عنه صلى الله عليه وسلم من قوله‏:‏ ‏(‏لا تحل الصدقة لذى مرة سوى‏)‏ أن معناه الخصوص؛ لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضربًا فى الأرض ‏(‏يدل أنه لو زال عنهم الإحصار لقدروا على الضرب فى الأرض، ودل ذلك على أنهم ذو مرة أقوياء، وقد أباح لهم تعالى أخذ الصدقة بالفقر خاصة، وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب‏)‏ يدل على هذا المعنى؛ لأنه لا يقدر على ذلك إلا ذو المرة السوى، ولم تحرم عليه المسألة‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تحل الصدقة لغنى ولا لذى مرة سوى‏)‏ رواه سفيان عن سعد بن إبراهيم، عن ريحان بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبى صلى الله عليه وسلم، ورواه أبو بكر ابن عياش، عن أبى حصين، عن سالم بن أبى الجعد، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم، فذهب قوم إلى الأخذ بهذا الحديث، وقالوا‏:‏ لا تحل الصدقة لذى مرة سوى، وجعلوه كالغنى‏.‏

هذا قول الشافعى، وإسحاق، وأبى ثور، وأبى عبيد، ذكره ابن المنذر، وذكر ابن القصار أنه قول عبد الله بن عمرو، راوى الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

وخالفهم آخرون فقالوا‏:‏ كل فقير من قوى وزَمِنٍ فالصدقة له حلال، وتأولوا قوله‏:‏ ‏(‏لا تحل الصدقة لغنى ولا لذى مرة سوى‏)‏ لأن معناه الخصوص، هذا قول الطبرى، قال‏:‏ إنه لا خلاف بين جميع علماء الأمة أن الصدقة المحرمة التى يكون أصلها محبوسًا وغلتها صدقة على الغنى والفقير أنه يجوز للأغنياء أخذها وتملكها، فمعلوم بذلك أن الصدقات التطوع لم تدخل فى هذا الحديث، وإنما عنى بها الصدقات المفروضة للفقراء فى بعض الأحوال، ولذلك أجمعوا على أن غنيا فى بلده لو كان فى سفر فذهبت نفقته، فلم يجد ما يتحمل به إلى بلده أن له أن يأخذ من الصدقة المفروضة ما يتحمل به إلى موضع ماله، فمعلوم بذلك أن الحديث معناه الخصوص، وأنه معنى به من الصدقة المفروضة بعضها لما ذكرناه، ولأن الله قد جعل فى الصدقة المفروضة حقًا لصنوف من الأغنياء وهم المجاهدون فى سبيل الله، والعاملون عليها، وأبناء السبيل الذين لهم ببلدهم غنى، وهم منقطع بهم فى سفرهم، فكذلك ذو المرة السوى فى حال تعذر الكسب عليه، جاز له الصدقة المفروضة، فأما التطوع منها ففى كل الأحوال‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ لا تحرم الصدقة بالصحة إذا أراد بها سد فقره، وإنما تحرم عليه إذا أراد بها التكثر والاستغناء، يدل على ذلك ما رواه شعبة عن عبد الملك بن عمير، عن زيد بن عقبة، قال‏:‏ سمعت سمرة بن جندب، عن النبى صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏(‏المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء تركه، إلا أن يسأل ذا سلطان أو فى أمر لا يجد منه بدًا‏)‏ قد أباح فى هذا الحديث المسألة فى كل أمر لابد من المسألة فيه، وذلك إباحة المسألة بالحاجة لا بالزمانة‏.‏

وروى يحيى بن سعيد عن مجالد، عن الشعبى، عن وهب ين خنبش، قال‏:‏ جاء رجل إلى النبى- عليه السلام-، وهو واقف بعرفة فسأله رداءه، فأعطاه إياه، فذهب به ثم قال النبى‏:‏ ‏(‏إن المسألة لا تحل إلا من فقر مدقع أو غرم مفظع، ومن سأل الناس ليثرى به، فإنه خموش فى وجهه، ورضف يأكله من جهنم، إن قليل فقليل، وإن كثير فكثير‏)‏، فأخبر صلى الله عليه وسلم فى هذا الحديث أن المسألة تحل بالفقر والغرم، ولا يختلف فى ذلك حال الزمن والصحيح‏.‏

وكانت المسألة التى أباحها النبى صلى الله عليه وسلم، هى للفقر لا لغيره وكان تصحيح الأخبار عندنا يوجب أن من قصد إليه النبى صلى الله عليه وسلم، بقوله‏:‏ ‏(‏لا تحل الصدقة لذى مرة سوى‏)‏ هو غير من استثناه فى هذه الأحاديث، وأن الذى تحرم عليه الصدقة من الأصحاء، هو الذى يريد أن يكثر ماله بالصدقة، حتى تصح هذه الآثار وتتفق معانيها، ولا تتضاد، وتوافق معنى الآية المحكمة، وهى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما الصدقات للفقراء والمساكين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏ الآية؛ لأن كل من وقع عليه اسم صنف من تلك الأصناف فهو من أهل الصدقة التى جعلها الله لهم فى كتابه وسنة رسوله زمنًا كان أو صحيحًا، وهذا الذى حملنا عليه وجوه هذه الآثار هو قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وهو قول مالك أيضًا، وروى المغيرة عنه أنه يعطى القوى البدن من الزكاة ولا يمنع لقوة بدنه، من ‏(‏المجموعة‏)‏‏.‏

باب خَرصِ التمرِ

- فيه‏:‏ أَبُو حُمَيْدٍ، غَزَوْنَا مَعَ رَسُولُ اللَّهِ غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَلَمَّا جَاءَ وَادِىَ الْقُرَى إِذَا امْرَأَةٌ فِى حَدِيقَةٍ لَهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لأصْحَابِهِ‏:‏ ‏(‏اخْرُصُوا‏)‏، وَخَرَصَ رَسُولُ اللَّهِ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، فَقَالَ لَهَا‏:‏ ‏(‏أَحْصِى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا‏)‏، فَلَمَّا أَتَيْنَا تَبُوكَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَمَا إِنَّهَا سَتَهُبُّ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلا يَقُومَنَّ أَحَدٌ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ بَعِيرٌ فَلْيَعْقِلْهُ‏)‏، فَعَقَلْنَاهَا وَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَقَامَ رَجُلٌ فَأَلْقَتْهُ بِجَبَلِ طَىِّءٍ، وَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ بُرْدًا وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ، فَلَمَّا أَتَى وَادِىَ الْقُرَى، قَالَ لِلْمَرْأَةِ‏:‏ ‏(‏كَمْ جَاءَ حَدِيقَتُكِ‏)‏‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، خَرْصَ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنِّي مُتَعَجِّلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَعَجَّلَ مَعِى فَلْيَتَعَجَّلْ‏)‏، فَلَمَّا قَالَ ابْنُ بَكَّارٍ‏:‏ كَلِمَةً مَعْنَاهَا‏:‏ أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏هَذِهِ طَابَةُ‏)‏، فَلَمَّا رَأَى أُحُدًا، قَالَ‏:‏ ‏(‏هَذَا جُبَيْلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأنْصَارِ‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ بَلَى، قَالَ‏:‏ ‏(‏دُورُ بَنِى النَّجَّارِ، ثُمَّ دُورُ بَنِى عَبْدِالأشْهَلِ، ثُمَّ دُورُ بَنِى سَاعِدَةَ، أَوْ دُورُ بَنِى الْحَارِثِ ابْنِ الْخَزْرَجِ، وَفِي كُلِّ دُورِ الأنْصَارِ، يَعْنِى خَيْرًا‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ذهب قوم إلى أن الثمرة التى يجب فيها العشر تخرص وهى رطب تمرًا فيعلم مقدارها فتسلم إلى أربابها ويملك بذلك حق الله فيها ويكون عليه مثلها مكيلة ذلك تمرًا، وكذلك يفعل بالعنب، واحتجوا بحديث أبى حميد، وفيه أن النبى صلى الله عليه وسلم، خرصها وقال لأصحابه‏:‏ ‏(‏اخرصوا‏)‏، وأنه بعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر فخرص عليهم النخل أول ما يطيب الثمر‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ممن كان يرى الخرص‏:‏ عمر بن الخطاب، والقاسم بن محمد، والحسن البصرى، وعطاء، والزهرى، ومالك، والشافعى، وأبو ثور، وعامة أهل العلم، وخالف ذلك أبو حنيفة وأصحابه، وقالوا‏:‏ ليس فى شىء من الآثار المروية بالخرص أن الثمرة كانت رطبًا فى وقت ما خرصت، وكيف يجوز أن تكون رطبًا، فيجعل لصاحبها فيها حق الله بمكيلة ذلك تمرًا يكون عليه نسيئة، وقد نهى رسول الله عن ذلك‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ووجه الخرص عندنا إنما أريد بخرص ابن رواحة ليعلم مقدار ما فى أيدى كل قوم من الثمار، فيؤخذ منه بقدره وقت الصرام لا أنهم يملكون شيئًا مما يجب لله ببدل، لا يؤخذ منهم ذلك الوقت، ويدل على ذلك حديث أبى حميد الساعدى، وهو قوله‏:‏ ‏(‏فخرصها رسول الله وخرصناها عشرة أوسق، وقال‏:‏ أحصها حتى نرجع إليك، إن شاء الله‏)‏، فدل هذا أنها لم تملك بخرصهم إياها ما لم تكن مالكة له قبل ذلك، وإنما أرادوا أن يعلموا مقدار ما فى نخلها، ثم يأخذون منها الزكاة وقت الصرام على حسب ما يجب فيها، هذا معنى الخرص عندنا‏.‏

قالوا‏:‏ وقد قيل فى الخرص أنه كان فى أول الزمان على ما قال أهل المقالة الأولى من تمليك الخراص أصحاب الثمار حق الله فيها، وهى رطب، ببدل يأخذونه منهم تمرًا، ثم نسخ ذلك بنسخ الربا والمزابنة، قال غيره‏:‏ وقالوا‏:‏ إن الخرص لا يوجب العلم والإحاطة، وقد يختلف فهو كالتبخيت والظن اللذين لا يجوز الحكم بهما‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وما هرب منه أبو حنيفة من تضمين أرباب الأموال حق الفقراء، فإن أصحاب مالك، وأصحاب الشافعى لا يضمنون أرباب الأموال، لأن الثمرة لو تلفت بعد الخرص لم يضمنهم شيئًا‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ أجمع من يحفظ عنه العلم أن الخارص إذا خرص التمر، ثم أصابته جائحة لا شىء عليه إذا كان ذلك قبل الجداد‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ لأننا نخرصها حتى يتصرف أصحاب الثمار بالأكل والبيع وغير ذلك إن اختاروا، فحينئذ يضمنون حق الفقراء، لأننا لو منعناهم من التصرف لحقتهم المشقة والضرر، ولو أبحنا لهم التصرف نقص حق الفقراء، فكان الحظ فى خرصها عليهم ليعلم مقدار ما يجب للفقراء، فإن سلمت أخذنا القدر الذى يجب لهم، إلا أن يتصرفوا فيها فحينئذ يضمنون‏.‏

ومن الحجة لنا أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة، وأرخص فى العرايا أن تباع بخرصها، فأجاز البيع إذا لم يقصد به المزابنة فى الخرص ليعلم حظ المساكين ويحفظ عليهم وليس ببيع، والخرص أولى أن يجوز، وقد ثبت ذلك عن عائشة، فقالت‏:‏ ‏(‏خرص النبى صلى الله عليه وسلم لئلا يتلف حق المساكين، وليحصى الزكاة قبل أن تؤكل‏)‏، لأنه لو منع رب المال من الاستمتاع بماله لأدى ذلك الإضرار به، فكان فى الخرص رفق برب المال والفقراء‏.‏

وأما قولهم‏:‏ فإن الخرص منسوخ بنسخ الربا، فالجواب‏:‏ أن بعض آية الربا منسوخة بالخرص ومخصوصة به كما خصت الحوالة من بيع الدين بالدين، والقرض من بيع الذهب والفضة بمثلهما إلى أجل، والإقالة والشركة من بيع الطعام قبل قبضه، وكذلك العرية وبيعها من جملة المزابنة حين لم يقصد بها المغابنة والمكايسة، والخرص ليس بربا لأنه لا نبيع شيئًا بأكثر منه، وإنما هو ليعرف حق المساكين، وقد أنفذ الأئمة بعد النبى صلى الله عليه وسلم الخراص، وجرى العمل بذلك، فهى سنة معمول بها‏.‏

وأما قولهم‏:‏ فإن الخرص ظن، فإن الحكم قد ورد فى الشريعة بغالب الظن كثيرًا مع جواز وقوع الاختلاف فيه، وعدم الإحاطة، ألا ترى أن الحكم بقيم المتلفات إنما هو بالاجتهاد، وكذلك أمور الديانات المستدل عليها من العقليات والشرعيات قد صار أكثرها معرضًا للخلاف ومنازعة العقلاء، ولم يجب مع ذلك بطلان الاستدلال، ولأن اختلاف المستدلين إنما هو لخطأ فى الاستدلال، وكذلك حكم الحاكم قد يجوز مع الخطأ، ولم يجب لذلك بطلان حكمه‏.‏

وأما خرص العنب فإنما هو بحديث عتاب بن أسيد، رواه عبد الرحمن بن إسحاق، وابن عيينة، عن الزهرى، عن سعيد بن المسيب، مرسل عن عتاب بن أسيد، قال‏:‏ أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرص العنب وآخذ زكاته زبيبًا، كما تؤخذ زكاة النخيل تمرًا‏.‏

وأجمعوا أن الخرص فى أول ما يطيب الثمر ويزهى بصفرة أو حمرة، وكذلك العنب إذا جرى فيه الماء وصلح للأكل، واختلفوا فيما يأكله الرجل من ثمره وزرعه قبل الحصاد والجداد، هل يُحْسب عليه أم لا‏؟‏ فقال مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وزفر‏:‏ يحسب عليه ذلك، وقال الليث، والشافعى‏:‏ لا يحسب عليه، ويترك له الخارص ما يأكله أهله رطبًا ولا يخرصه، والحجة لهما ما رواه الثورى عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، قال‏:‏ كان عمر بن الخطاب يأمر الخراص أن يخففوا، وأن يرفعوا عنهم قدر ما يأكلون‏.‏

قال الشافعى‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا حقه يوم حصاده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 141‏]‏ يدل أنه لا يحتسب بالمأكول قبل الحصاد، وحمل مالك ومن وافقه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا حقه يوم حصاده ‏(‏على العموم، أى آتوا حق جميع المأكول والباقى‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه من الفقه‏:‏ أن الإمام يدرب أصحابه ويعلمهم أمور الدنيا كما يعلمهم أمور الآخرة، وفيه‏:‏ من علامات النبوة، لأنه أخبر صلى الله عليه وسلم عن الريح التى هبت قبل كونها، وهذا لا يعلم إلا بالوحى، وفيه‏:‏ جواز قبول هدايا المشركين، وسيأتى مذاهب العلماء فى ذلك فى كتاب الهبة، إن شاء الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏جبل يحبنا ونحبه‏)‏ يعنى أهل الجبل، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واسأل القرية التى كنا فيها‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ يريد أهلها، قال الخطابى‏:‏ فحمل الكلام على عمومه وحقيقته أولى من حمله على المجاز وتخصيصه من غير دليل، وقد ثبت ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتج حراء تحته، فقال‏:‏ اثبت، فليس عليك إلا نبى أو‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

فسكن‏)‏‏.‏

وأخبره اللحم المسموم أنه مسموم، فلم ينكر حب الجبل‏.‏

باب الْعُشْرِ فِيمَا يُسْقَى مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَالْمَاءِ الْجَارِى

وَلَمْ يَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِى الْعَسَلِ شَيْئًا - فيه‏:‏ ابْن عُمَر، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ، وَكَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَفَيمَا سُقِىَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ‏)‏‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ العثرى والعذى ما سقته السماء، وما سقته الأنهار والعيون فهو سيح وغيل، والبعل‏:‏ ما شرب بعروقه من الأرض من غير سقى سماء ولا غيرها، والنضح ما سقى بالسواقى، وقال غيره‏:‏ وأجمع العلماء على القول بظاهر هذا الحديث فى المقدار المأخوذ، وذلك العشر فى البعل وفيما سقت العيون والأنهار، لأن المؤنة فيه قليلة، وما سقى بالدلو فنصف العشر فى الحبوب والثمار التى تجب فيها الزكاة على ما نذكره، إن شاء الله، فأما مقدار المأخوذ منه فهو فى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة‏)‏‏.‏

واتفق جمهور العلماء بالحجاز والعراق والشام على أن التأويل عندهم فى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فيما سقت السماء والعيون العشر، وفيما سقى بالنضح نصف العشر‏)‏ إذا كان الذى سقته السماء خمسة أوسق، وهو مثل قوله‏:‏ ‏(‏فى الرقة ربع العشر‏)‏ مع قوله‏:‏ ‏(‏ليس فيما دون خمس أواق صدقة‏)‏، لأنا نقضى بالخاص على العام، والعام قوله‏:‏ ‏(‏فيما سقت السماء العشر‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏وفى الرقة ربع العشر‏)‏، والخاص قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة‏)‏ هذا قول مالك، والثورى، والأوزاعى، والليث، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وقال النخعى وأبو حنيفة وزفر‏:‏ الزكاة فى كل ما أخرجت الأرض من قليل ذلك وكثيره العشر، أو نصف العشر، ولم يعتبروا خمسة أوسق فى مقدار المأخوذ منه، وهذا خلاف السنة والعلماء، وقد تناقض أبو حنيفة فى هذه المسألة، لأنه استعمل المجمل والمفسر فى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فى الرقة ربع العشر‏)‏ مع قوله‏:‏ ‏(‏ليس فيما دون خمس أواق صدقة‏)‏ ولم يستعمله فى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فيما سقت السماء العشر‏)‏ مع قوله‏:‏ ‏(‏ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة‏)‏ وكان يلزمه القول به‏.‏

ولا زكاة فى العسل عند مالك والشافعى، وهو مذهب ابن عمر، وقال أبو حنيفة‏:‏ فيه العشر، وقال ابن المنذر‏:‏ وليس فى وجوب الزكاة فيه خبر يثبت عن النبى، ولا إجماع، فلا زكاة فيه‏.‏

باب لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، قَالَ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَيْسَ فِيمَا أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَلا فِى أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ مِنَ الإبِلِ صَدَقَةٌ، وَلا فِى أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ‏)‏‏.‏

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ، البخارى‏:‏ هَذَا تَفْسِيرُ الأوَّلِ؛ لأنه لم يوقت فى الأول، يعنى حديث ابن عمر‏:‏‏}‏‏.‏

فيما سقت السماء العشر‏)‏، وبيَّن فى هذا ووقت، فالزيادة مقبولة، والمفسر يقضى على المجمل إذا رواه أهل الثبت، كما روى الفضل بن عباس، أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يصل فى الكعبة‏.‏

وقال بلال‏:‏ قد ‏(‏صلى‏)‏ فأخذ بقول بلال، وترك قول الفضل‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذا الذى رواه البخارى عليه أئمة الفتوى بالأمصار، وأن الخمسة الأوسق هو بيان المقدار المأخوذ منه العشر، أو نصف العشر، وشذَّ أبو حنيفة وزفر فى ذلك، وقيل‏:‏ أنهما خالفا الإجماع، فأوجبا العشر أو نصف العشر فى قليل ما تخرجه الأرض وكثيره، وخالفه صاحباه فى ذلك‏.‏

وقال ابن القصار‏:‏ الحجة عليه أن ما طريقه المواساة فى الصدقات يقتضى أوله حدًا ونصابًا كالذهب والفضة والماشية، والنصاب إنما وضع فى المال لمبلغ الحد الذى يحمل المواساة من غير إجحاف لرب المال، ولا تعذر عليه، وخالف أيضًا أبو حنيفة معنى آخر من هذا الحديث، فأوجب العشر أو نصف العشر فى البقول والرياحين والفواكه، وما لا يوسق كالرمان والتفاح والخوخ وشبه ذلك، والجمهور على خلافه لا يوجبون الزكاة إلا فيما يوسق ويقتات ويدخر، قال مالك‏:‏ السنة عندنا فى الحبوب التى يدخرها الناس ويأكلونها، أن يؤخذ منها العشر، أو نصف العشر إذا بلغ ذلك خمسة أوسق والوسق‏:‏ ستون صاعًا، والصاع‏:‏ أربعة أمداد بمد النبى صلى الله عليه وسلم وما زاد على خمسة أوسق ففيه الزكاة بحساب ذلك، قال‏:‏ والحبوب التى فيها الزكاة‏:‏ الحنطة والشعير، والسلت، والذرة، والدُّخْن، والأرز، والحمص، والعدس، والجلبان، واللوبيا، والفول، والجلجلان، وما أشبه ذلك من الحبوب التى تصير طعامًا يؤخذ منها الزكاة بعد أن يصير حبًا ويحصد، والناس مصدقون فيما رفعوه من ذلك، ولا زكاة فى البقول والخضر كلها والتوابل‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ لم ينقل عن النبى صلى الله عليه وسلم أحد بالحجاز أنه أخذ من البقول والفواكه الزكاة، ومعلوم أنها كانت عندهم بالمدينة، وأهل المدينة متفقون على ذلك عاملون به إلى وقتنا هذا ومحال أن يكون فى ذلك زكاة، ولا تؤخذ مع وجود هذه الأشياء عندهم وحاجتهم إليها، ولو أخذ منها مرة واحدة لم يجز أن يذهب عليهم حتى يطبقوا على خلافه إلى هذه الغاية‏.‏

باب أَخْذِ صَدَقَةِ التَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ وَهَلْ يُتْرَكُ الصَّبِىُّ فَيَمَسُّ تَمْرَ الصَّدَقَةِ‏؟‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى بِالتَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ، فَيَجِىءُ هَذَا بِتَمْرِهِ، وَهَذَا بِتَمْرِهِ، حَتَّى يَصِيرَ عِنْدَهُ كَوْمًا مِنْ تَمْرٍ، فَجَعَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَلْعَبَانِ بِذَلِكَ التَّمْرِ، فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا تَمْرَةً فَجَعَلَهَا فِى فِيهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْرَجَهَا مِنْ فِيهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَوْ مَا عَلِمْتَ أَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لا يَأْكُلُونَ الصَّدَقَةَ‏)‏‏.‏

قال بعض أهل العلم‏:‏ سنة أخذ صدقة التمر عند جداده، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا حقه يوم حصاده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 141‏]‏، فإن أخرجها عند محلها فسرقت أو سقطت فقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ يجزئ عنه، وهو قول الحسن البصرى، وقال الزهرى، والثورى، وأحمد‏:‏ هو ضامن لها حتى يضعها مواضعها‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ إن كان بقى له من ماله ما فيه زكاة زَكَّاه، وحجة القول الأول أن إخراجها موكول إليه، وهو مؤتمن على إخراجها، فإذا أخرجها من ماله وجعلت فى يده جعلت يده كيد الساعى، وقد اتفقنا أن يد الساعى يد أمانة، فإذا قبض الزكاة ولم يفرط فى دفعها وتلفت بغير صنعه لم يضمن، فكذلك رب المال، لأن الزكاة ليست متعلقة بذمته، وإنما تجب فى ماله، وإذا أخر إخراج الزكاة، حتى هلكت، فقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعى‏:‏ إذا أمكن الأداء بعد حلول الحول وفرط حتى هلك المال فعليه الضمان‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه من الفقه‏:‏ دفع الصدقات إلى السلطان، وفيه‏:‏ أن المسجد قد ينتفع به فى أمر جماعة المسلمين لغير الصلاة، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع فيه الصدقات وجعله مخزنًا لها، وكذلك أمر أن يوضع فيه مال البحرين وأن يبات عليه حتى قسمه فيه، وكذلك كان يقعد فيه للوفود والحكم بين الناس، ومثل ذلك مما هو أبين منه لعب الحبشة بالحراب، وتعلم المثاقفة، وكل ذلك إذا كان شاملاً لجماعة المسلمين، وإذا كان العمل لخاصة الناس فيكره مثل الخياطة والجزارة، وقد كره قوم التأديب فى المسجد، لأنه خاص، ورخص فيه آخرون لما يرجى من نفع تعلم القرآن فيه، وفيه‏:‏ جواز دخول الأطفال فى المسجد واللعب فيه بغير ما يسقط حرمته إذا كان الأطفال ممن إذا نهوا انتهوا، وفيه‏:‏ أنه ينبغى أن يجنب الأطفال ما يجنب الكبار من المحرمات، وفيه‏:‏ أن الأطفال إذا نهوا عن الشىء يجب أن يعرفوا لأى شىء نهوا عنه، ليكبروا على العلم ليأتى عليهم وقت التكليف وهم على علم من الشريعة‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ وفيه الدليل على أن لأولياء الصغار المعاتبة وتجنيبهم التقدم على ما يجب على الأصحاء البالغين الانزجار عنه، والحول بينهم وبين ما حرم الله على عباده فعله، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم استخرج التمرة من الصدقة من فىّ الحسن، وهو طفل لا تلزمه الفرائض، ولم تجر عليه الأقلام، ولا شك أنه لو أكل تمر جميع الصدقات لم تلزمه تبعة عند الله، وإن لزم ماله غرمه، فلم يخله رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل لا من أجل ما كان يلزمه من ضمن ذلك، ولكن من أجل أنه كان مما حرم الله على أهل التكليف من أهل بيته، فبان بذلك أن الواجب على ولى الطفل والمعتوه إن رآه قد تناول خمرًا يشربها، أو لحم خنزير يأكله، أو مالاً لغيره ليتلفه أن يمنعه من فعله، ويحول بينه وبين ذلك‏.‏

وفيه‏:‏ الدليل الواضح على صحة قول القائلين أن على ولى الصغيرة المتوفى عنها زوجها أن يجنبها الطيب والزينة والمبيت عن المسكن الذى تسكنه والنكاح، وجميع ما يجب على البوالغ المعتدات اجتنابه، وخطأ قول من قال‏:‏ ليس ذلك على الصغيرة اعتلالاً منهم أنها غير متعبدة بشىء من الفرائض، لأن الحسن كان لا تلزمه الفرائض، فلم يكن لإخراج التمرة من فيه معنى إلا من أجل ما كان على النبى من منعه ما على المكلفين الامتناع منه من أجل أنه وليّه‏.‏

باب مَنْ بَاعَ ثِمَارَهُ أَوْ نَخْلَهُ أَوْ أَرْضَهُ أَوْ زَرْعَهُ وَقَدْ وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ أَوِ الصَّدَقَةُ فَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ بَاعَ ثِمَارَهُ وَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الصَّدَقَةُ

وَقَوْلُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَبِيعُوا الثَّمَرَةَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا‏)‏، فَلَمْ يَحْظُرِ الْبَيْعَ بَعْدَ الصَّلاحِ عَلَى أَحَدٍ وَلَمْ يَخُصَّ مَنْ وَجَبَت عَلَيْهِ الزَّكَاةُ مِمَّنْ لَمْ تَجِبْ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَر، نَهَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا، وَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلاحِهَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏حَتَّى تَذْهَبَ عَاهَتُها‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِىَ قَالَ‏:‏ ومَا تُزْهِىَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ حَتَّى تَحْمَارَّ‏.‏

اختلف العلماء فى هذه المسألة، فقال مالك‏:‏ من باع أصل حائطه أو أرضه، وفى ذلك زرع أو ثمر قد بدا صلاحه وحل بيعه، فزكاة ذلك التمر على البائع إلا أن يشترطها على المبتاع، ووجه قوله أن المراعاة فى الزكاة إنما تجب بطيب الثمرة، فإذا باعها ربها وقد طاب أولها فقد باع ماله، وحصة المساكين معه، فيحمل على أنه قد ضمن ذلك ويلزمه‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ المشترى بالخيار بين إنفاذ البيع ورده، فالعشر مأخوذ من الثمرة من يد المشترى، ويرجع على البائع بقدر ذلك، ووجه قوله فى العشر مأخوذ من الثمرة، لأن سنة الساعى أن يأخذ الزكاة من كل ثمرة يجدها، فوجب الرجوع على البائع بقدر ذلك، كالعيب الذى يرجع بقيمته، وقال الشافعى فى أحد قوليه‏:‏ إن البيع فاسد، لأنه باع ما يملك وما لا يملك، وهو نصيب المساكين ففسدت الصفقة، وعلى هذا القول رد البخارى بقوله فى هذا الباب فلم يحظر البيع بعد الصلاح على أحد، ولم يخص من وجبت عليه الزكاة ممن لم تجب، والشافعى منع البيع بعد الصلاح فخالف إباحة النبى صلى الله عليه وسلم لبيع الثمار إذا بدا صلاحها، واتفق مالك وأبو حنيفة والشافعى أنه إذا باع أصل الثمرة وفيها ثمر لم يبد صلاحه أن البيع جائز، والزكاة على المشترى لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا حقه يوم حصاده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 141‏]‏ وأما الذى ورد فيه نهى النبى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها هو بيع الثمرة خاصة دون الأصل، لأنه يخشى عليه أن لا تتم الثمرة، فيذهب مال المشترى فى غير عوض، وإن ابتاع رقبة الثمرة، وإن كان فيها ثمر لم يبد صلاحه، فهو جائز، لأن البيع إنما وقع على الرقبة لا ثمرتها التى لم تظهر بعد، فهذا الفرق بينهما‏.‏

باب هَلْ يَشْتَرِى الرَّجُلُ صَدَقَتَهُ‏؟‏

وَلا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِىَ صَدَقَهُ غَيْرُهُ لأنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا نَهَى الْمُتَصَدِّقَ خَاصَّةً عَنِ الشِّرَاءِ وَلَمْ يَنْهَ غَيْرَهُ - فيه‏:‏ ابْنَ عُمَر، أَنَّ عُمَرَ تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَوَجَدَهُ يُبَاعُ، فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْمَرَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لا تَعُدْ فِى صَدَقَتِكَ‏)‏، فَبِذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَتْرُكُ أَنْ يَبْتَاعَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِهِ إِلا جَعَلَهُ صَدَقَةً‏.‏

وقال عُمَر‏:‏ حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَضَاعَهُ الَّذِى كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لا تَشْتَرِهِ، وَلا تَعُدْ فِى صَدَقَتِكَ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِى صَدَقَتهِ كَالْعَائِدِ فِى قَيْئِهِ‏)‏‏.‏

كره أكثر العلماء شراء الرجل صدقته لحديث عمر فى الفرس، وهو قول مالك، والليث، والكوفيين، والشافعى، وسواء عندهم صدقة الفرض أو التطوع، فإن اشترى أحد صدقته لم يفسخ بيعه، والأولى به التنزه عنها، وكذلك قولهم فيما يخرجه المكفر عن كفارة اليمين مثل الصدقة سواء‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ورخص فى شراء الصدقة‏:‏ الحسن، وعكرمة، وربيعة، والأوزاعى، وقال ابن القصار‏:‏ قال قوم‏:‏ لا يجوز لأحد أن يشترى صدقته، ويفسخ البيع، ولم يذكر قائلى ذلك، ويشبه أن يكونوا أهل الظاهر، وحجة من لم يفسخ البيع أن الصدقة راجعة إليه بمعنى غير معنى الصدقة، كما خرج لحم بريرة، وانتقل عن معنى الصدقة المحرمة على النبى صلى الله عليه وسلم إلى معنى الهدية المباحة له‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تحل الصدقة لغنى إلا لخمسة‏)‏ وذكر منهم من اشتراها بماله، ولم يفرق بين أن يكون المشترى لها صاحبها أو غيره، ورواه أبو سعيد الخدرى، وقد تقدم فى باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفى الرقاب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏ قبل هذا‏.‏

وأجمعوا أن من تصدق بصدقة ثم ورثها أنه حلال له، وروى سفيان، عن عبد الله ابن عطاء، عن ابن بريدة، عن أبيه، أن امرأة جاءت إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله، إنى تصدقت على أمى بجارية وإنها ماتت، قال‏:‏ ‏(‏وجب أجرك، ورَدَّها عليك الميراث‏)‏، فإن قيل‏:‏ فلم كرهتم شراءه إياها‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ لئلا يحابيه الذى تصدق عليه بها فيصير عائدًا فى بعض صدقته، لأن العادة أن الذى تصدق عليه بها يسامحه إذا باعها، وقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم فى لحم بريرة أنه إذا كانت الجهة التى يأخذ بها الإنسان غير جهة الصدقة جاز ذلك، ومن ملكها بماله لم يأخذها من جهة الصدقة، فدل هذا المعنى أن النهى فى حديث عمر فى الفرس محمول على وجه التنزه لا على التحريم، لأن المتصدق عليه بالفرس لما ملك بيعه من سائر الأجانب، وجب أن يملكه من المتصدق عليه، دليله إن وهب له جاز أن يشتريه الواهب‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ معنى حديث عمر فى النهى عن شراء صدقة التطوع خاصة، لأنه لا صدقة فى الخيل، فيقال‏:‏ إن الفرس الذى تصدق به عمر كان من الصدقة الواجبة، وصح أنه لم يكن حبيسًا لأنه لو كان حبيسًا لم يكن ليباع، فعلم أنه كان مما تطوع به عمر‏.‏

قال غير الطبرى‏:‏ ولا يكون الحبس إلا لينفق عليه المحبس من ماله، وإذا خرج خارج إلى العدو دفعه إليه مع نفقته، على أن يغزو به ويصرفه إليه، فيكون موقوفًا على مثل ذلك، فهذا لا يجوز بيعه بإجماع، وأما إذا جعله فى سبيل الله وملكه الذى دفعه إليه، فهذا يجوز بيعه‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والدليل على جواز شراء صدقة الفرض وصحة البيع فيها ما ثبت عن الرسول فيمن وجبت عليه سن من الإبل فلم تكن عنده، وكان عنده دونها أو فوقها أن يأخذ ما وجد ويرد دراهم أو غنمًا، إن كان أخذ أفضل من الذى له، وإن كان الذى وجد عنده دون، أن يأخذه ويلزمه دراهم، أو غنمًا وهذا لا شك أخذ عوض وبدل من الواجب على رب المال، وإذا جاز تملك الصدقة بالشراء قبل خروجها من يد المتصدق بعوض، فحكمها بعد القبض كذلك، وبنحو ذلك قال جماعة من العلماء، حدثنا محمد ابن بزيع، حدثنا بشر بن مفضل، عن الأشعث، أن الحسن حدثهم أن عمر بن الخطاب كان لا يكره أن يشترى الرجل صدقته إذا خرجت من يد صاحبها إلى غيره، وهو قول الحسن، وابن سيرين، فأما إن رجعت إلى المتصدق صدقته بميراث، أو هبة من المتصدق عليه، أو غيره فإنه لا يكره له تملكها، ولا يكون عائدًا فى صدقته لحديث بريرة، وسيأتى الكلام فى حديث عمر فى كتاب الجهاد باب إذا حمل على فرس فى سبيل الله فرآها تباع، وفى كتاب الأوقاف، وفى آخر كتاب الهبات على حسب ما يقتضيه التبويب، إن شاء الله‏.‏

باب مَا يُذْكَرُ فِى الصَّدَقَةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِى فِيهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كِخْ كِخْ‏)‏، لِيَطْرَحَهَا، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ اختلف العلماء فى الصدقة المحرمة على آل النبى، فقال الطحاوى‏:‏ قال أبو يوسف ومحمد‏:‏ يحرم على بنى هاشم صدقة الفريضة والتطوع، وكره أصبغ بن الفرج لهم فيما بينهم وبين الله أن يأخذوا من التطوع‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ اختلف فى ذلك قول أبى حنيفة، فروى عنه مثل هذا القول، وروى عنه أن صدقة الفريضة، وسائر الصدقات حلال لبنى هاشم، وقال مالك‏:‏ الصدقة المحرمة عليهم هى الزكاة لا التطوع، وذكر الطبرى عن أبى يوسف أنه يحل لبنى هاشم الصدقة بعضهم من بعض، ولا يحل لهم من غيرهم، وذكر الطحاوى أن علة أبى حنيفة فى ذلك أن الصدقات إنما كانت محرمة عليهم من أجل ما جعل لهم فى الخمس من سهم ذوى القربى، فلما انقطع عنهم ذلك ورجع إلى غيرهم بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم حل بذلك لهم ما كان حرم عليهم‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فأما أهل المقالة الأولى فإنهم أخذوا بعموم النهى، فكرهوا جميع أنواع الصدقات، ولا يصح تأويلهم، لأن هذه التمرة التى أخرج النبى صلى الله عليه وسلم من فى الحسن بن على كان من تمر الصدقة المفروضة التى كان يقسمها النبى، صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وإنما حرم على بنى هاشم من الصدقات لقرابتهم مثل ما حرم على الأغنياء لأموالهم، فأما الصدقة التى يراد بها طريق الهبات، وإن سميت صدقات فلا تدخل فى التحريم، ألا ترى لو أن رجلاً أوقف داره على غنى أن ذلك جائز، ولا يمنعه ذلك غناه، وحكم ذلك خلاف حكم سائر الصدقات من الزكوات والكفارات، وكذلك من كان من بنى هاشم فذلك حلال، وقد روى الطبرى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه حرم الصدقة المفروضة على بنى هاشم وهذا نص قاطع، قال الطبرى‏:‏ وفى إخراج النبى صلى الله عليه وسلم التمرة من فى الحسن فساد قول من زعم أن الصدقة المفروضة حلال لآل النبى، وفساد قول من زعم أنها تحرم عليهم من غيرهم، وأنها حلال لبعضهم من بعض، وذلك أن الأخبار وردت أن الصدقة محرمة عليه وعلى أهل بيته، وبذلك نطق القرآن، وذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة فى القربى‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 23‏]‏، وذلك أنه لو حلت له الصدقة فأخذها منهم، وجد القوم السبيل أن يقولوا‏:‏ إنما تدعونا إلى ما تدعونا إليه لتأخذ أموالنا وتعطيها إلى أهل بينك ولا تدعونا إلى سبيل الرشاد، ولكنه أمر صلى الله عليه وسلم بأخذها من أغنياء كل قبيلة وردها فى فقرائهم، ليعلموا أنه إنما يدعوهم إلى مصلحتهم دون عوض يأخذه منهم، وبذلك بعثت الرسل من قبله، فقال نوح إذ كذبه قومه، وقال هود إذ كذبته عاد، وقال صالح إذ كذبته ثمود‏:‏ ‏{‏وما أسألكم عليه من أجر‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 145‏]‏ وإنما سألوا الأجر من الله تعالى‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما حرمت الصدقة عليه وعلى آله، لأنها أوساخ الناس، ولأن أخذ الصدقة منزلة ذل وضعة، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اليد العليا خير من اليد السفلى‏)‏، فجعل يد الذى يأخذ السفلى، والأنبياء وآلهم منزهون عن الذل، والضعة، والخضوع، والافتقار إلى غير الله‏.‏

وقد فرض الله عليه وعلى الأنبياء قبله ألا يطلبوا على شىء من الرسالة أجرًا، فلو أخذ الصدقة لكانت كالأجرة، وكذلك لو أخذها الذين تلزمهم صلته لكان ذلك كالواصل إليه، فلذلك حرمها عليهم، قال الطبرى‏:‏ وأما الذين حظروا على بنى هاشم أخذ الصدقة المفروضة من غيرهم، وأباحوا أخذها من بعضهم لبعض، فإنهم لا القياس فى ذلك أصابوا، ولا خبر الرسول اتبعوا، وذلك أن كل صدقة وزكاة أوساخ الناس، وغسالة ذنوب من أخذت منه هاشمبًا كان أو نبطيًا، ولم يفرق الله ولا رسوله بين شىء منها بافتراق حال المأخوذ ذلك منه، وصاحبهم أشد قولاً منهم، لأنه لزم ظاهر التنزيل، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما الصدقات للفقراء والمساكين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏ وأنكر الأخبار الواردة بتحريم الصدقة على بنى هاشم، فلا ظاهر التنزيل لزموا، ولا بالخبر عنه صلى الله عليه وسلم قالوا‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى هذا الحديث أن قليل الصدقة لا يحل لآل محمد بخلاف اللقطة التى لا يحرم منها ما لا قيمة له، لقوله صلى الله عليه وسلم فى التمرة الملقاة‏:‏ ‏(‏لولا أنى أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ واختلف العلماء فى آل النبى صلى الله عليه وسلم من هم‏؟‏ فقال مالك‏:‏ هم بنو هاشم خاصة‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ ولا يدخل فى آل محمد من كان فوق بنى هاشم من بنى عبد مناف، أو بنى قصى، أو غيرهم، وهكذا فسر ابن الماجشون ومطرف، وحكاه الطحاوى عن أبى حنيفة، وذكر عبد الرزاق عن الثورى، عن يزيد بن حيان التيمى، قال‏:‏ سمعت زيد بن أرقم، وقيل له‏:‏ من آل محمد الذين لا تحل لهم الصدقة‏؟‏ قال‏:‏ آل على بن أبى طالب، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس، وقال الشافعى‏:‏ آل محمد بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، أخى هاشم أيضًا ممن لا تحل لهم الصدقة‏.‏

وقال أصبغ بن الفرج‏:‏ آل محمد الذين لا تحل لهم الصدقة عشيرته الأقربون، الذين ناداهم حين أنزل عليه‏:‏ ‏{‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 214‏]‏ وهم آل عبد المطلب، وآل هاشم، وآل عبد مناف، وقصى، وقال أصبغ‏:‏ وقد قيل‏:‏ قريش كلها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏كخ كخ‏)‏، قال أبو على البغدادى‏:‏ يقال للصبى إذا زجروه عن الشىء يريد أكله‏.‏

كخ كخ بكسر الكاف مرتين‏.‏

باب الصَّدَقَةِ عَلَى مَوَالِي أَزْوَاجِ النَّبِىِّ عليه السلام

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاس، وَجَدَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم شَاةً مَيِّتَةً أُعْطِيَتْهَا مَوْلاةٌ لِمَيْمُونَةَ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هَلا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا‏)‏، قَالُوا‏:‏ إِنَّهَا مَيْتَةٌ، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، ‏(‏أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِىَ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ، وَأَرَادَ مَوَالِيهَا أَنْ يَشْتَرِطُوا وَلاءَهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

‏(‏وَأُتِىَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ، فَقُلْتُ‏:‏ هَذَا مَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ النّبِىّ‏:‏ هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ اتفق كافة الفقهاء على أن أزواج النبى عليه السلام لا يدخلن فى آله الذين تحرم عليهم الصدقة، فمواليهن أحرى بالصدقة على ما ثبت فى شاة ميمونة ولحم بريرة‏.‏

وإنما اختلف العلماء فى موالى بنى هاشم خاصة إن كان لهم حكم بنى هاشم فى تحريم الصدقة عليهم أم لا فذهب الكوفيون، والثورى، وابن الماجشون، ومطرف، وابن نافع إلى أن الصدقة محرمة على موالى بنى هاشم كتحريمها على بنى هاشم، واحتجوا بحديث أبى رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنا آل محمد لا نأكل الصدقة، وموالى القوم منهم‏)‏‏.‏

وذهب مالك، وابن القاسم، والشافعى، إلى أن موالى بنى هاشم تحل لهم الصدقات وتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏موالى القوم منهم‏)‏ على الخصوص، قال ابن القاسم‏:‏ ومثل الحديث الذى جاء ‏(‏ابن أخت القوم منهم‏)‏ قال أصبغ‏:‏ وتفسير مولى القوم منهم يريد فى الحرمة والبر منهم به، كما جاء فى الحديث‏:‏ ‏(‏أنت ومالك لأبيك‏)‏ يريد فى البر والمطاوعة لا فى اللازم ولا فى القضاء‏.‏

باب إِذَا تَحَوَّلَتِ الصَّدَقَةُ

- فيه‏:‏ أُمِّ عَطِيَّةَ الأنْصَارِيَّةِ، قَالَتْ‏:‏ دَخَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ عِنْدَكُمْ شَىْءٌ‏)‏‏؟‏ فَقَالَتْ‏:‏ لا، إِلا شَىْءٌ بَعَثَتْ بِهِ إِلَيْنَا نُسَيْبَةُ مِنَ الشَّاةِ الَّتِى بَعَثَتْ بِهَا مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أُتِىَ بِلَحْمٍ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ‏)‏‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ لما كانت الصدقة يجوز فيها التصرف للفقير بالبيع والهبة، لصحة ملكه لها، وأهدتها نسيبة وبريرة إلى عائشة، حكم لها بحكم الهبة، وتحولت عن معنى الصدقة بملك المتصدق عليه بها، وانتقلت إلى معنى الهدية الحلال للنبى صلى الله عليه وسلم وإنما كان يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، لما فى الهدية من تألف القلوب والدعاء إلى المحبة‏.‏

وجائز أن يثبت عليها بمثلها وأفضل منها فترتفع المنة والذلة، ولا يجوز ذلك فى الصدقة، فافترق حكمهما لافتراق المعنى فيهما، وقال سحنون‏:‏ لا بأس أن يشترى الرجل كسور السؤال منهم، واستدل على ذلك بقول الرسول فى لحم بريرة‏:‏ ‏(‏هو لها صدقة ولنا هدية‏)‏‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ فى حديث أم عطية، وحديث بريرة دليل على أنه يجوز للهاشمى أن يستعمل على الصدقة، ويأخذ جعله على ذلك، وقد كان أبو يوسف يكره ذلك إذا كانت جعالتهم منها‏.‏

قال‏:‏ لأن الصدقة تخرج من ملك المتصدق إلى غير الأصناف التى سماها الله، فيملك المصدق بعضها، وهى لا تحل له، واحتج بحديث أبى رافع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً من بنى مخزوم على الصدقة، فقال لأبى رافع‏:‏ اصحبنى كيما تصيب منها، فقال‏:‏ لا حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاها فذكر ذلك له، فقال‏:‏ إن آل محمد لا تحل لهم الصدقة، وموالى القوم من أنفسهم‏.‏

وخالف أبا يوسف فى ذلك آخرون، فقالوا‏:‏ لا بأس أن يجتعل منها الهاشمى، لأنه إنما يجتعل على عمله، وذلك قد يحل للأغنياء، فلما كان هذا لا يَحْرُمُ على الأغنياء يُحَرِّمُ عليهم غناهم الصدقة، كان ذلك أيضًا فى النظر لا يَحْرُمُ على بنى هاشم الذى يُحَرِّمُ عليهم نسبهم الصدقة‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ فلما كان ما تصدق به على بريرة جائزًا للنبى صلى الله عليه وسلم أكله، لأنه إنما ملكه بالهدية، جاز أيضًا للهاشمى أن يجتعل من الصدقة، لأنه إنما تملكها بعمله لا بالصدقة، هذا هو النظر عندنا، وهو أصح مما ذهب إليه أبو يوسف‏.‏

باب أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنَ الأغْنِيَاءِ وَتُرَدَّ فِى الْفُقَرَاءِ حَيْثُ كَانُوا

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ‏:‏ قَالَ النّبِى صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ‏:‏ ‏(‏إِنَّكَ سَتَأْتِى قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها ‏(‏إلى‏)‏ وابن السبيل‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏، واختلف العلماء فى الصدقات، هل هى مقسومة على من سمى الله تعالى فى هذه الآية‏؟‏ فقال مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وأصحابه‏:‏ يجوز أن توضع الصدقة فى صنف واحد من الأصناف المذكورة فى الآية على قدر اجتهاد الإمام، وهو قول عطاء، والنخعى، والحسن البصرى، وقال الشافعى‏:‏ هى مقسومة على ثمانية أصناف لا يصرف منها سهم عن أهله ما وجدوا، وهو قول عكرمة، وأخذ بظاهر الآية، قال‏:‏ وأجمعوا لو أن رجلاً أوصى بثلثه لثمانية أصناف لم يجز أن يجعل ذلك فى صنف واحد، فكان ما أمر الله بقسمته على ثمانية أصناف أولى أن لا يجعل فى واحد، ومعنى الآية عند مالك والكوفيين‏:‏ إعلام من الله تعالى لمن تحل له الصدقة، بدليل إجماع العلماء أن العامل عليها لا يستحق ثمنها، وإنما له بقدر عمالته، فدل ذلك أنها ليست مقسومة على ثمانية أصناف بالسوية، واحتجوا بما روى عن حذيفة، وابن عباس أنهما قالا‏:‏ إذا وضعتها فى صنف واحد أجزأك، ولا مخالف لهما من الصحابة، فهو كالإجماع، وقال مالك والكوفيون‏:‏ المؤلفة قلوبهم قد سقطوا ولا مؤلفة اليوم، وليس لأهل الذمة فى بيت المال حق، وقال الشافعى‏:‏ المؤلفة قلوبهم من دخل فى الإسلام، ولا يعطى مشرك يتألف على الإسلام‏.‏

واختلفوا فى نقل الصدقة من بلد إلى بلد، فقال الشافعى‏:‏ لا يجوز نقلها من بلد إلى بلد آخر، وقال مالك‏:‏ إذا وجد المستحقون للزكاة فى البلد الذى تؤخذ فيه لم تنقل عنه إلى بلد آخر، وذكر ابن المواز، عن مالك لو أن رجلاً بالشام أنفذ زكاته إلى المدينة كان صوابًا، ولو أنفذها إلى العراق لم أر به بأسًا، وقال أبو حنيفة‏:‏ يجوز نقلها إلى بلد آخر مع وجود الفقراء فى البلد الذى تؤخذ فيه، وإن كنا نكرهه، واحتج الشافعى بحديث معاذ حين بعث إلى اليمن فأمره أن يأخذ الزكاة من أغنيائهم فيردها فى فقرائهم، فأخبر أنها ترد فى فقراء اليمن إذا أخذت من أغنيائهم‏.‏

واحتج من أجاز نقلها إلى بلد آخر بما روى عن معاذ أنه قال لأهل اليمن‏:‏ ائتونى بعرض ثياب خميس، أو لبيس فى الصدقة، فإنها أنفع لأهل المدينة، فأعلمهم أنه ينقلها إلى المدينة، وكان عدى بن حاتم ينقل صدقة قومه إلى أبى بكر بالمدينة، فلم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب‏)‏‏.‏

فيه‏:‏ أن للإمام أن يعظ من ولاه النظر فى أمور رعيته، ويأمره بالعدل بينهم، ويخوفه عاقبة الظلم، ويحذره وباله، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا لعنة الله على الظالمين ‏(‏ولعنة الله الإبعاد من رحمته‏.‏

والظلم محرم فى كل أمة، وقد جاء فى الحديث‏:‏ أن دعوة المظلوم لا ترد وإن كانت من كافر، ومعنى ذلك أن الله تعالى لا يرض ظلم الكافر كما لا يرضى ظلم المؤمن، وأخبر تعالى أنه لا يظلم الناس شيئًا، فدخل فى عموم هذا اللفظ جميع الناس من مؤمن وكافر‏.‏

باب صَلاةِ الإمَامِ وَدُعَائِهِ لِصَاحِبِ الصَّدَقَةِ

وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏سَكَنٌ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ‏:‏ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلانٍ‏)‏، فَأَتَاهُ أَبِى بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِى أَوْفَى‏)‏‏.‏

قال أهل الظاهر‏:‏ إذا أخذ الإمام الصدقة من صاحبها وجب عليه أن يدعو له، وقال جميع الفقهاء‏:‏ إن ذلك غير واجب، واحتج أهل الظاهر بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وصل عليهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏ قالوا‏:‏ والأمر يقتضى الوجوب، والنبى صلى الله عليه وسلم قد دعا لآل أبى أوفى، وفعله ممتثل، والاقتداء به واجب‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ حجة الجماعة أنه لا يخلو أن يكون الأمر إذا لم يدع له أن تجزئه الزكاة أم لا‏؟‏ فإن قالوا‏:‏ لا تجزئه دللنا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا الزكاة ‏(‏وهذا قد أعطاها، فإن قالوا‏:‏ تجزئه، دللنا أن الإمام لا يجب عليه شىء بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ خذ الصدقة من أغنيائهم وردها فى فقرائهم، ولم يقل‏:‏ ادع لهم، ولو كان مأمورًا بالدعاء لذكره، ليعلم كما علمنا وجوب الزكاة، ولأمر به السعاة، ولم ينقل أحد أنه أمرهم بذلك‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ‏(‏فإنما أراد إذا ماتوا، هكذا يقتضى إطلاق الصلاة فى الشريعة، ولو ثبت أنه أراد الدعاء لكان خصوصًا للنبى صلى الله عليه وسلم لقوله‏:‏ ‏(‏إن صلاتك سكن لهم ‏(‏فلا يعلم هذا فى غير النبى، ويجوز أن يحمل على الاستحباب بدليل أن كل حق لله أو للآدميين استوفاه الإمام فلا يجب عليه الدعاء لمن استوفاه منه كالحدود والكفارات والديون‏.‏

باب مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ لَيْسَ الْعَنْبَرُ بِرِكَازٍ هُوَ شَىْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ‏.‏

وقال الْحَسَنُ‏:‏ فِى الْعَنْبَرِ وَاللُّؤْلُؤِ الْخُمُسُ، فَإِنَّمَا جَعَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فِى الرِّكَازِ الْخُمُسَ لَيْسَ فِى الَّذِى يُصَابُ فِى الْمَاءِ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَنَّ رَجُلا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِى إِسْرَائِيلَ بِأَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَخَرَجَ فِى الْبَحْرِ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً، فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ، فَرَمَى بِهَا فِى الْبَحْرِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِى كَانَ أَسْلَفَهُ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ فَأَخَذَهَا لأهْلِهِ حَطَبًا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، ‏(‏فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى العنبر واللؤلؤ حين يخرجان من البحر هل فيهما خمس أم لا‏؟‏ فجمهور العلماء على ألا شىء فيهما، وأنهما كسائر العروض، وهذا قول أهل المدينة، والكوفيين، والليث، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، وقال أبو يوسف‏:‏ فى اللؤلؤ والعنبر وكل حلية تخرج من البحر خمس‏.‏

وهو قول عمر بن عبد العزيز، والحسن البصرى، وابن شهاب‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وهذا غلط، لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏وفى الركاز الخمس‏)‏ فدل أن غير الركاز لا خمس فيه، والبحر لا ينطلق عليه اسم ركاز، واللؤلؤ والعنبر متولدان من حيوان البحر فأشبها السمك والصدف‏.‏

قال غيره‏:‏ وحجة أخرى أن الله فرض الزكاة، فقال‏:‏ ‏(‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ فأخذ الرسول من بعض الأموال دون بعض، فعلمنا أن الله تعالى لم يرد جميع الأموال، فلا سبيل إلى إيجاب زكاة إلا فيما أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف عليه أصحابه‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى أخذ الرجل الخشبة حطبًا لأهله دليل أن ما يوجد فى البحر من متاع البحر وغيره أنه لا شىء فيه، وهو لمن وجده حتى يستحق ما ليس من متاع البحر من الأموال كالدنانير والثياب وشبه ذلك، فإذا استحق رد إلى مستحقه، وما ليس له طالب ولم تكن له كبير قيمة، وحكم بغلبة الظن بانقطاعه كان لمن وجده ينتفع به، ولا يلزمه فيه تعريف إلا أن يوجد فيه دليل يستدل به على مالكه كاسم رجل معلوم، أو علامة، فيجتهد فيه الفقهاء فى أمر التعريف له‏.‏

وفيه‏:‏ أن الله تعالى متكفل بعون من أراد الأمانة ومعينه على ذلك‏.‏

وفيه‏:‏ أن الله يجازى على الإرفاق بالمال بحفظه عليهم مع الأجر المدخر لهم فى الآخرة، كما حفظه على المسلف حين رده الله إليه، وهذان فضلان كبيران لأهل المواساة والثقة بالله والحرص على أداء الأمانة‏.‏

وفيه‏:‏ دليل على جواز ركوب البحر بأموال الناس والتجارة فيه‏.‏

باب فِى الرِّكَازِ الْخُمُسُ

وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ إِدْرِيسَ‏:‏ الرِّكَازُ دِفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ فِى قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الْخُمُسُ، وَلَيْسَ الْمَعْدِنُ بِرِكَازٍ‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْمَعْدِنِ جُبَارٌ، وَفِى الرِّكَازِ الْخُمُسُ‏)‏، وَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ الْمَعَادِنِ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْنِ خَمْسَةً‏.‏

وقال الْحَسَنُ‏:‏ مَا كَانَ مِنْ رِكَازٍ فِى أَرْضِ الْحَرْبِ فَفِيهِ الْخُمُسُ، وَمَا كَانَ مِنْ أَرْضِ السِّلْمِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ وَجَدْتَ اللُّقَطَةَ فِى أَرْضِ الْعَدُوِّ فَعَرِّفْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْعَدُوِّ فَفِيهَا الْخُمُسُ‏.‏

وقال بَعْضُ النَّاسِ‏:‏ الْمَعْدِنُ رِكَازٌ مِثْلُ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ لأنَّهُ يُقَالُ‏:‏ أَرْكَزَ الْمَعْدِنُ، إِذَا خَرَجَ مِنْهُ شَىْءٌ، فقَدْ يُقَالُ لِمَنْ وُهِبَ لَهُ الشَىْءٌ أَوْ رَبِحَ رِبْحًا كَثِيرًا أَوْ كَثُرَ ثَمَرُهُ‏:‏ أَرْكَزْتَ ثُمَّ نَاقَضَ، وَقَالَ‏:‏ لا بَأْسَ أَنْ يَكْتُمَهُ، وَلا يُؤَدِّىَ الْخُمُسَ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِى الرِّكَازِ الْخُمُسُ‏)‏‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ الركاز دفن الجاهلية خاصة، والكنز دفن الإسلام، فدفن الإسلام فيه التعريف ودفن الجاهلية فيه الخمس فى قليله وكثيره، وباقية لمن وجده سواء كان فى أرض العرب، أو أرض عنوة، أو صلح، قاله مطرف، وابن الماجشون، وابن نافع، وأصبغ، ورواه ابن وهب، عن على بن أبى طالب، وعمر بن عبد العزيز، ومكحول، والليث، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى، وروى ابن القاسم عن مالك فى العتبية أنه فرق بين أرض العنوة، والصلح فى ذلك، فقال‏:‏ من أصابه ببلد العنوة فليس لمن وجده، وفيه الخمس وأربعة أخماسه لمن افتتح تلك البلاد، ولورثتهم إن هلكوا، ويتصدق به عنهم إن لم يعرفوا‏.‏

وقد رد عمر السفطين اللذين وجدا بعد الفتح وسكنى البلاد، قال‏:‏ وإن كانت أرض فهو كله لهم، لا خمس فيه إذا عرف أنه من أموالهم، وإن عرف أنه ليس من أموال أهل تلك الذمة ولم يرثه عنهم أهل هذه الذمة، فهو لمن وجده وكذلك إن وجده رجل فى دار صلح من صالح عليها، فهو لرب الدار لا شىء فيه، لأن من ملك شيئًا من أرض الصلح ملك ما تحتها‏.‏

قال سحنون‏:‏ فإن لم تعرف أعنوة هى الأرض أو صلح، فهو لمن أصابه بعد أن يخمسه، قال الأبهرى‏:‏ وإنما جعل فى الركاز الخمس، لأنه مال كافر لم يملكه مسلم، فأنزل واجده بمنزلة الغانم مال الكافر، فكان له أربعة أخماسه، واحتج الطحاوى، فقال‏:‏ لا فرق بين أرض العنوة وأرض الصلح، لأن الغانمين لم يملكوا الركاز كما أن من ملك أرض العرب لا يملك ما فيها من الركاز، وهو للواجد دون المالك بإجماع، فوجب رد ما اختلفوا فيه من أرض الصلح إلى ما أجمعوا عليه من أرض العرب‏.‏

قال ابن المواز‏:‏ واختلف قول مالك فيما وجد من دفنهم سوى العين من جوهر وحديد ونحاس ومسك وعنبر، فقال‏:‏ ليس بركاز، ثم رجع فقال‏:‏ له حكم الركاز، وأخذ ابن القاسم بالقول الأول أنه ليس بركاز، قال ابن أبى زيد‏:‏ وهو أبين، لأنه لا خمس إلا فيما أوجف عليه، وإنما أخذ من الذهب والفضة، لأنه الركاز نفسه الذى جاء فيه النص، وقال مطرف، وابن الماجشون، وابن نافع‏:‏ إنه ركاز‏.‏

وبه قال أشهب إلا النحاس، والرصاص، ومن جعل ذلك كل ركازًا شبهه بالغنيمة يؤخذ منها الخمس، سواء كانت عينًا أو عرضًا، واختلفوا فى من وجد ركازًا فى منزل اشتراه، فروى على بن زياد، عن مالك أنه لرب الدار دون من أصابه، وفيه الخمس، وهو قول أبى حنيفة ومحمد، وقال ابن نافع‏:‏ هم لمن وجده دون صاحب المنزل، وهو قول الثورى، وأبى يوسف‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ لا خلاف بين العلماء أن فى الركاز الخمس، ولا نعلم أحدًا خالف ذلك إلا الحسن البصرى فأوجب فيه الخمس إذا وجد فى أرض الحرب، وأوجب الزكاة فيه إذا وجد فى أرض العرب، قال غيره‏:‏ وهذا غلط، لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏وفى الركاز الخمس‏)‏، وهذا عموم فى كل ركاز سواء كان فى أرض العرب أو غيرها، لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يخص أرضًا دون أرض‏.‏

واختلفوا فى المعدن، فعند مالك، والليث أن المعادن مخالفة للركاز، لأنه لا ينال شىء منها إلا بالعمل، بخلاف الركاز، وفيها الزكاة إذا حصل له نصاب ولا يستأنف له الحول، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، قال مالك‏:‏ لما كان ما يخرج من المعدن يعتمل وينبت كالزرع، كان مثله فى تعجيل زكاته يوم حصاده، كما قال الله فى الزرع، ولا يسقط الدين زكاة المعدن كالزرع، وما كان فى المعدن من الندرة يؤخذ بغير تعب ولا عمل فهو ركاز، وفيه الخمس‏.‏

وعند الشافعى فى المعدن الزكاة، إلا أنه اختلف قوله، فقال مرة‏:‏ الزكاة فى قليله وكثيره، وقال مرة‏:‏ لا زكاة فيه حتى يبلغ نصابًا، وكذلك اختلف قوله فى الندرة توجد فيه، فمرة قال فيها الخمس، كقول مالك، ومرة قال فيها‏:‏ الزكاة ربع العشر على كل حال، وذهب أبو حنيفة والثورى، والأوزاعى إلى أن المعدن كالركاز، وفيه الخمس فى قليله وكثيره على ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وفى الركاز الخمس‏)‏ واحتج أبو حنيفة بقول العرب‏:‏ أركز الرجل إذا أصاب ركازًا، وهو قطع من الذهب تخرج من المعادن، هذا قول صاحب العين‏.‏

وذكر ابن المنذر، عن الزهرى، وأبى عبيد أن الركاز‏:‏ المال المدفون والمعدن جميعًا، وفيهما الخمس كقول أبى حنيفة، وهما إمامان فى اللغة ومن حجة مالك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المعدن جبار، وفى الركاز الخمس‏)‏ ووجه حجته أنه صلى الله عليه وسلم فرق بين المعدن والركاز بواو فاصلة، فصح أن الركاز ليس بمعدن من جهة الاسم، وأنهما مختلفان فى المعنى فدل ذلك أن الخمس فى الركاز لا فى المعدن، وما ألزمه البخارى أبا حنيفة، من قوله‏:‏ قد يقال لمن وهب له الشىء أو ربح ربحًا كثيرًا، أو كثر ثمره أركزت، فهى حجة قاطعة لأنه لا يدل اشتراك المسميات فى الأسماء على اشتراكهما فى المعانى والأحكام، إلا أن يوجب ذلك ما يوجب التسليم له‏.‏

وقد أجمعوا على أن من وهب له مال أو أكثر ربحه أو ثمره فإنما يلزمه فى ذلك الزكاة خاصة على سنتها، ولا يلزمه فى شىء منه الخمس، وإن كان يقال فيه أركز، كما يلزمه فى الركاز الذى هو دفن الجاهلية إذا أصابه، فاختلف الحكم، وإن اتفقت التسمية‏.‏

ومما يدل على ذلك حديث مالك بن ربيعة ‏(‏أن رسول الله أقطع بلال بن الحارث معادن القبلية‏)‏ ولا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة، فلما ثبت أنه لم يؤخذ منها غير الزكاة فى عصر النبى وعصر الصحابة، علم أن الذى يجب فى المعادن هو الزكاة، وأما قول البخارى عن أبى حنيفة، ثم ناقض، فقال‏:‏ لا بأس أن يكتمه ولا يؤدى الخمس، فهو تعسف منه، وليس بمناقضة، لأن الطحاوى حكى عن أبى حنيفة أنه قال‏:‏ من وجد ركازًا فلا بأس أن يعطى الخمس للمساكين، وإن كان محتاجًا جاز له أن يأخذه لنفسه، وإنما أراد أبو حنيفة أنه تأول أن له حقًا فى بيت المال، وله نصيب فى الفىء، فذلك جاز أن يأخذ الخمس لنفسه عوضًا من ذلك، لأن أبا حنيفة أسقط الخمس من المعدن بعد ما أوجبه فيه، فتأول عليه البخارى غير ما أراده، وبالله التوفيق‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏ وَمُحَاسَبَةِ الْمُصَدِّقِينَ مَعَ الإمَامِ

- فيه‏:‏ أَبُو حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلا مِنَ الأسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِى سُلَيْمٍ، يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ‏.‏

اتفق العلماء أن العاملين عليها هم السعاة المتولون لقبض الصدقة، واتفقوا أنهم لا يستحقون على قبضها جزءًا منها معلومًا سبعًا أو ثمنًا، وإنما للعامل بقدر عمالته على حسب اجتهاد الإمام، ودلت هذه الآية على أن لمن شغل بشىء من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله ذلك كالولاة والقضاة وشبههم، وسيأتى قول من كره ذلك من السلف فى كتاب الأحكام فى باب رزق الحكام والعاملين عليها، إن شاء الله‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى هذا الحديث من الفقه‏:‏ جواز محاسبة المؤتمن، وأن المحاسبة تصحح أمانته‏.‏

قال غيره‏:‏ وهذا الحديث هو أصل فعل عمر بن الخطاب فى مقاسمته العمال، وإنما فعل ذلك لما رأى ما نالوه من كثرة الأرباح، وعلم أن ذلك من أجل سلطانهم، وسلطانهم إنما كان بالمسلمين، فرأى مقاسمة أموالهم نظرًا للمسلمين واقتداء بقول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أفلا جلس فى بيت أبيه، وأمه فيرى أيهدى له شىء أم لا‏)‏‏.‏

ومعناه أنه لولا الإمارة لم يهد إليه شىء، وهذا اجتهاد من عمر، وإنما أخذ منهم ما أخذ لبيت مال المسلمين لا لنفسه، وسيأتى فى باب احتيال العامل ليهدى له فى آخر كتاب ترك الحيل زيادة فى هذا المعنى، إن شاء الله، قال المهلب‏:‏ وفيه من الفقه‏:‏ أن العالم إذا رأى متأولاً قد أخطأ فى تأويله خطأ يعم الناس ضرره أن يعلم الناس كافة بموضع خطئه، ويعرفهم بالحجة القاطعة لتأويله كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم بابن اللتبية فى خطبته للناس‏.‏

وفيه‏:‏ جواز توبيخ المخطئ‏.‏

وفيه‏:‏ جواز تقديم الأدون إلى الإمارة والأمانة والعمل وثم من هو أعلى منه وأفقه، لأن النبى صلى الله عليه وسلم قدم ابن اللتبية وثم من صحابته من هو أفضل منه‏.‏

باب اسْتِعْمَالِ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَأَلْبَانِهَا لأبْنَاءِ السَّبِيلِ

- فيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ اجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَرَخَّصَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قال المؤلف‏:‏ غرضه فى هذا الباب، والله أعلم، إثبات وضع الصدقات فى صنف واحد ممن ذكر فى آية الصدقة خلافًا للشافعى الذى لا يجوز عنده قسمة الصدقات إلا على ثمانية أسهم، والحجة بهذا الحديث قاطعة، لأن النبى صلى الله عليه وسلم أفرد أبناء السبيل بالانتفاع بإبل الصدقة وألبانها دون غيرهم، وقد تقدم هذا المعنى، قال صاحب العين‏:‏ اجتويت الأرض إذا لم توافقك‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ افتعلت من الجوى، والجوى أصله فساد يكون فى الجوف يقال منه‏:‏ قد جوى الرجل يجوى جوى شديدًا، فلذلك كره العرنيون المدينة لما أصابهم من الداء فى أجوافهم‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ اجتويت البلاد، إذا كرهتها وإن كانت موافقة لك فى بدنك استوبأتها إذا لم توافقك فى بدنك، وإن أحببتها، وقول صاحب العين أشبه بهذا الحديث، وسيأتى ما فيه من غريب اللغة بعد هذا‏.‏

باب وَسْمِ الإمَامِ إِبِلَ الصَّدَقَةِ بِيَدِهِ

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ‏:‏ غَدَوْتُ إِلَى النّبِىّ صلى الله عليه وسلم بِعَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ، لِيُحَنِّكَهُ، فَوَافَيْتُهُ فِى يَدِهِ الْمِيسَمُ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه من الفقه‏:‏ أن للإمام أن يتناول أمور المسلمين بنفسه ويلى أمر الصدقة بيده، وفيه‏:‏ جواز إيلام الحيوان وبنى آدم، إذا كان فى ذلك منفعة، وكان ألما لا يجحف بهم‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وقد تظاهرت الأخبار عن الصحابة والتابعين أنهم وسموا البهائم، وروى يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن أبى الزبير، عن جابر، عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنه نهى عن الوسم فى الوجه‏)‏‏.‏

وروى ابن عباس، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه لعن من يسم فى الوجه‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فغير جائز لأحد عرف نهى النبى، صلى الله عليه وسلم عن الوسم فى الوجه أن يسم بهيمة فى وجهها، فإن قال‏:‏ فأى المواضع يجوز الوسم فيه‏؟‏ قيل‏:‏ حيث شاء ربها إذا عدا به وجهها، وإن كان أحب الأماكن أن يسم من الإبل والبغال والحمير جاعرتها، ومن الغنم آذانها، وقد روى شعبة، عن هشام بن زيد، قال‏:‏ سمعت أنس بن مالك يقول‏:‏ غدوت إلى النبى بعبد الله بن أبى طلحة ليحنكه، فإذا النبى يسم غنمًا‏.‏

قال شعبة‏:‏ وأكبر علمى أنه قال‏:‏ فى آذانها، وروى عن عمر بن عبد العزيز أنه وسم الخيل التى حمل عليها فى سبيل الله فى أفخاذها، وروى عنه صلى الله عليه وسلم خبر فى إسناده نظر أنه أمر بوسم الإبل فى أفخاذها‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه‏:‏ أن للإمام أن يتخذ ميسمًا لخيله ولخيل السبيل، ليميز بعضها من بعض، وليس للناس أن يتخذوا مثل خاتمه وميسمه، لينفرد السلطان بعلامة لا يشارك فيها، وفيه‏:‏ أن الطفل إذا وُلِدَ حَسُنَ أن يُقْصَدَ به أهل الفضل والصلاح ليحنكوه ويدعوا له بالبركة، وتلك كانت عادة الناس بأبنائهم فى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبركًا بريقه ودعوته ويده- عليه السلام-‏.‏

باب فَرْضِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ

وَرَأَى أَبُو الْعَالِيَةِ وَعَطَاءٌ وَابْنُ سِيرِينَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فَرِيضَةً - فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أنه قَالَ‏:‏ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالذَّكَرِ وَالأنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ذهب جماعة الفقهاء إلى أن صدقة الفطر فريضة فرضها رسول الله، وقال مالك‏:‏ هى داخلة فى جملة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا الزكاة ‏(‏واختلف أصحابه فى وجوبها، فقال بعضهم‏:‏ هى فريضة، وقال بعضهم‏:‏ هى سنة مؤكدة، وذكر ابن المواز، عن أشهب، قال‏:‏ لا أرى أن تُبدأ الزكاة على العتق المعين، ولا تبدأ إلا على الوصايا، وتُبدأ على زكاة الفطر، لأنها فرض وزكاة الفطر سنة، وزكاة الفطر بعد زكاة الأموال، وقال أبو حنيفة‏:‏ هى واجبة، وليست بفريضة، وكل فرض عنده واجب، وليس كل واجب فرضًا، بل الفرض آكد من الواجب‏.‏

قال بعض أهل العراق‏:‏ هى منسوخة بالزكاة وروى عن قيس بن سعد بن عبادة، أنه قال‏:‏ ‏(‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بها قبل نزول الزكاة، فلما نزلت آية الزكاة لم يأمر بها، ولم ينه عنها، ونحن نفعله‏)‏، وتأول قول ابن عمر‏:‏ ‏(‏فرض رسول الله‏)‏ بمعنى أنه قدر ذلك كما يقال‏:‏ فرض القاضى النفقة، أى قدرها قالوا‏:‏ ألا ترى قوله تعالى فى آية الصدقات بعد ذكر الأصناف الثمانية‏:‏ ‏(‏فريضة من الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏ قالوا‏:‏ وأهل المدينة وأهل العراق متفقون على أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فريضة من الله ‏(‏لا يراد بها الفرض، فكذلك قول ابن عمر‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ ومما يدل أنها ليست بفريضة إجماع الأمة على أن الرجل يلزمه الأداء عن زوجته وخادمه وولده الفقراء، وقد أجمعوا أن لا زكاة على الفقراء، فدل هذا أن صدقة الفطر خارجة عن باب الفرض، ومن جعلها خارجة من آية الزكاة، يَرُدُّ قَوْلَهُ حديثه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم‏)‏ وصدقة الفطر تجب على غير الأغنياء‏.‏

واحتج من قال أنها فريضة بظاهر قول ابن عمر‏:‏ ‏(‏فرض رسول الله‏)‏، واسم الفرض لا يقع إلا على الواجب، ولا يجوز للراوى أن يعبر بالفرض عن السنة ويترك العبارة التى تختص بالسنة مع علمه بالفرق بينهما إلا والمراد اللزوم‏.‏

واختلف العلماء فى وجوبها على الفقير، واختلف فى ذلك قول مالك، فقال فى المدونة‏:‏ تجب زكاة الفطر على من يحل له أخذها، وقد قال قبل ذلك‏:‏ من له أن يأخذها فلا تجب عليه، وهو قول ابن الماجشون، وأبى حنيفة، وروى عنه أشهب‏:‏ من لم يكن له شىء فلا شىء عليه، وروى عنه ابن وهب‏:‏ إن وجد من يسلفه فليستسلف، قال ابن المواز‏:‏ ليس عليه أن يستسلف، وليس هو ممن تجب عليه، وهو قول ابن حبيب‏.‏

وفى العتبية عن مالك إذا أدَّى الفقير زكاة الفطر، فلا أرى أن يأخذ منها، ثم رجع فأجازه إن كان محتاجًا، وقال الشافعى‏:‏ إذا فضل عن قوت المرء وقوت عياله مقدار زكاة الفطر، فعليه أن يؤدى، وهو قول أحمد، وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ ليس على من تحل له صدقة الفطر إخراجها حتى يملك مائتى درهم، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها فى فقرائكم‏)‏، وهذا فقير فوجب أن تصرف إليه الزكاة، ولا تؤخذ منه، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى‏)‏، فثبت بهذا نفيها عن الفقير‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وحجة القول الأول قول ابن عمر‏:‏ ‏(‏فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على كل حر وعبد، وذكر وأنثى من المسلمين‏)‏، ولم يخص من له نصاب ممن لا نصاب له، فهو عام‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أغنوهم عن طواف هذا اليوم‏)‏ والمخاطب غنى بقوت يومه، ولم يفرق بين أن يكون المأمور غنيًا أو فقيرًا، وأيضًا فإن زكاة الفطر حق فى المال لا تزداد بزيادة المال، ولا تفتقر إلى نصابٍ أصله الكفارة‏.‏

باب صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى الْعَبْدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ لم يختلف علماء الأمصار أن على السيد أن يخرج زكاة الفطر عن عبيده المسلمين، وقال أهل الظاهر‏:‏ إن زكاة الفطر تلزم العبد فى نفسه، وعلى السيد تمكينه من اكتساب ذلك وإخراجه عن نفسه، واستدلوا بقوله‏:‏ ‏(‏على كل حر وعبد‏)‏ وإلى هذا القول ذهب البخارى فى هذا الباب، والدليل للجماعة قول نافع‏:‏ فكان ابن عمر يعطى عن الصغير والكبير حتى إن كان ليعطى عن بنَىَّ‏.‏

فهذا يدل أن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏على العبد‏)‏ إنما معناه على سيد العبد، والخطاب للعبد، والمراد مالكه المحتمل لها عنه، لأن العبد لا يملك شيئًا، ألا ترى أن العبد لا تلزمه زكاة ماله، لأن ملكه غير مستقر، ونفقته واجبة على سيده، وإن كان له مال، فإذا أذن له سيده أن ينفق على نفسه من المال ويزكى زكاة الفطر جاز، لأنه يكون كأن سيده انتزع منه ذلك المقدار، و ‏(‏على‏)‏ بمعنى ‏(‏عن‏)‏ لغة مشهورة للعرب، قال القحيف‏:‏ إذا رضيت علىَّ بنو قشير لعمر الله أعجبنى رضاها أى رضيت عنى، وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ لما فرضت على المملوك كان السيد الغارم عنه، لأنه عبد مملوك لا يقدر على شىء، فكذلك إذا جنى كان الغرم على سيده‏.‏

واختلفوا فى إخراج صدقة الفطر عن العبد الكافر، فقال سعيد بن المسيب والحسن‏:‏ لا يؤدى إلا عمن صام وصلى‏.‏

وهو قول مالك، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، وحجتهم قوله فى حديث ابن عمر‏:‏ ‏(‏من المسلمين‏)‏ فدل أن الكفار بخلاف ذلك‏.‏

وقال آخرون‏:‏ يجب على السيد أن يخرج عن عبده الكافر، هذا قول عطاء، ومجاهد، والنخعى، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال الثورى، وسائر الكوفيين، وإسحاق، واحتج لهم الطحاوى بأن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من المسلمين‏)‏ خطاب متوجه معناه إلى السادة، يريد أن من يلزمه إخراج الزكاة عن نفسه، وعن عبده لا يكون إلا مسلمًا، وأما العبد فإنه لم يدخل فى هذا الحديث، لأنه لا يملك شيئًا ولا يفرض عليه شىء، وإنما أريد بالحديث مالك العبد، ألا ترى إجماعهم فى العبد يعتق قبل أن يؤدى عنه مولاه صدقة الفطر أنه لا يلزمه إذا ملك بعد ذلك مالا إخراجها عن نفسه، كما يلزمه إخراج كفارة ما حنث فيه من الأيمان وهو عبد، فإنه لا يكفرها بصيام، ولو لزمته صدقة الفطر لأداها عن نفسه بعد عتقه، وقال ابن المنذر‏:‏ القول الأول أصح، لأنها طهرة للمسلمين وتزكية، والكافر لا يتزكى، فلا وجه لأدائها عنه، وحجة هذا القول ما رواه أبو داود بإسناده، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال‏:‏ فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين‏.‏

فدل هذا الحديث أن زكاة الفطر لا تكون إلا عن مسلم، والله أعلم‏.‏

باب صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِىَّ، كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ‏.‏

لم يختلف العلماء أن الطعام المذكور فى هذا الحديث هو البُّر، واختلفوا فى مكيلته فى صدقة الفطر، فروى عن الحسن البصرى، وأبى العالية، وجابر بن زيد، أنه لا يجزئ من البر إلا صاع، وهو قول مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وروى عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم قالوا‏:‏ يجزئ من البر نصف صاع، ولا يجزئ مما ذكر فى الحديث إلا صاع، وهو قول أبى حنيفة، والثورى‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وروى عن أبى بكر وعثمان، ولا يثبت عنهما، وروى عن على بن أبى طالب، وابن عباس، وابن مسعود، وجابر، وأبى هريرة، وابن الزبير، ومعاوية، وأسماء واختلف عن على، وابن عباس، فروى عنهما القولان جميعًا واحتج الكوفيون بقول ابن عمر‏:‏ فعدل الناس بالتمر والشعير نصف صاع من بر، والناس فى ذلك الزمان كبار الصحابة‏.‏

وحجة من أوجب صاعًا من بر حديث أبى سعيد، وأنه ذكر فيه صاعًا من طعام وصاعًا من سائر الحبوب، ولم يفصل بين واحد منهما فى المكيلة، فوجب أن لا يتعدى هذا المقدار‏.‏

قال أشهب‏:‏ سمعت مالكًا سئل عمن يقول‏:‏ مدين من بُرّ، فقال‏:‏ القول ما قال رسول الله‏:‏ ‏(‏صاع‏)‏، فذكر له الأحاديث التى تروى عن رسول الله فى المدين من الحنطة فأنكرها‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وأيضًا فإن اعتبار القيمة لا وجه له، وذلك أن قيمة التمر والشعير تختلف، ثم لم ينظر إلى ذلك واعتبرت المكيلة ومقدارها، فكذلك البر، وعندنا أن البر والشعير جنس واحد فى تحريم التفاضل بينهما، وجمعهما فى الزكاة لتقاربهما فى المنفعة، ولكونهما قوتًا يستغنى به الفقير عن قوت يومه، فلا ينبغى أن يفترق حكمهما‏.‏

قال ابن القاسم‏:‏ ويخرج أهل كل بلد من جل عيشهم، فالتمر عيش أهل المدينة، ولا يخرج أهل مصر إلا البر، إلا أن يغلو سعرهم، ويصير جل عيشهم الشعير فيجزئهم، وذكر عبد الرزاق، عن ابن عباس، قال‏:‏ من أدى زبيبًا قبل منه، ومن أدى تمرًا قبل منه، ومن أدى شعيرًا قبل منه، ومن أدى سلتا قبل منه صاع صاع‏.‏

باب الصَّدَقَةِ قَبْلَ الْعِيدِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، كُنَّا نُخْرِجُ فِى عَهْدِ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، وَكَانَ طَعَامَنَا الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ وَالأقِطُ وَالتَّمْرُ‏.‏

قال أَبُو سَعِيد‏:‏ فلما جاء معاوية وجاءت السمراء، قال‏:‏ أرى مدًا من هذا يعدل مدين‏.‏

قال المؤلف‏:‏ السنة إخراج زكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة، لأمر النبى بذلك، وروى هذا عن ابن عباس، وابن عمر وعطاء، وهو قول مالك والكوفيين‏.‏

وقال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز فى قوله‏:‏ ‏(‏قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 14، 15‏]‏، قالا‏:‏ هى صدقة الفطر‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ من أراد الخروج إلى الصلاة تصدق بشىء، وقال عطاء‏:‏ الصدقات كلها‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏قد أفلح من تزكى ‏(‏من الشرك‏)‏ وذكر اسم ربه ‏(‏قال‏:‏ وحد الله سبحانه فصلى الصلوات الخمس، قال عكرمة‏:‏ ‏(‏قد أفلح ‏(‏من قال‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

وقول أبى سعيد‏:‏ كنا نخرج يوم الفطر، هو مجمل يحتمل أن يكون قبل الصلاة، ويحتمل أن يكون بعد الصلاة، وإذا كانت صدقة الفطر لإغناء السؤال عن المسألة ذلك اليوم جاز إخراجها بعد الصلاة؛ لأن ذلك كله يوم الفطر وفى المدونة، إن أداها بعد الصلاة فواسع، وقد رخص قوم فى تأخيرها عن يوم الفطر، روى ذلك عن النخعى وابن سيرين، وقال أحمد بن حنبل‏:‏ أرجو ألا يكون به بأس، وروى عن ابن شهاب أنه لا بأس أن تؤدى زكاة الفطر قبله بيوم أو بيومين أو بعده بيوم أو يومين، وكان يخرجها هو قبل أن يغدو‏.‏

وقال ابن القاسم فى المدونة‏:‏ إن أداها قبل الفطر بيوم أو يومين أجزأه، وقال أصبغ‏:‏ لا بأس أن يخرجها قبل الفطر بيومين أو ثلاثة وتجزئه، قال ابن المواز‏:‏ ولو هلكت ضمنها، واختلف قول مالك فى وقت وجوب صدقة الفطر، فروى عنه أشهب أنها تجب بغروب الشمس من ليلة الفطر، وبه قال أشهب والشافعى وروى عنه ابن القاسم، وعبد الملك ومطرف أنها تجب بطلوع الفجر من يوم الفطر وبه قالوا وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والحجة لرواية أشهب قول ابن عمر‏:‏ فرض رسول الله صدقة الفطر من رمضان وأول فطر يقع من رمضان هو ليلة العيد، ووجه الرواية الأخرى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أغنوهم عن المسألة فى هذا اليوم‏)‏ أمر بأدائها يوم الفطر فدل أنه أول أحوال الوجوب‏.‏

باب صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى الْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ

وَقَالَ الزُّهْرِىُّ فِى الْمَمْلُوكِينَ لِلتِّجَارَةِ‏:‏ يُزَكَّى فِى التِّجَارَةِ، وَيُزَكَّى فِى الْفِطْرِ - فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ قَالَ‏:‏ فَرَضَ النَّبِىُّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ، أَوْ قَالَ‏:‏ ‏(‏رَمَضَانَ عَلَى الذَّكَرِ وَالأنْثَى، وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ‏)‏، قَالَ نافع‏:‏ فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِى التَّمْرَ، فَأَعْوَزَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنَ التَّمْرِ، فَأَعْطَى شَعِيرًا، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِى عَنِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ حَتَّى إِنْ كَانَ يُعْطِي عَنْ بَنِىَّ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِيهَا الَّذِينَ يَقْبَلُونَهَا، وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ‏.‏

وترجم له باب صدقة الفطر عن الصغير، قال مالك‏:‏ أحسن ما سمعت أن الرجل تلزمه زكاة الفطر عمن تلزمه نفقته، ولابد له من أن ينفق عليه، وعن مكاتبه ومدبريه ورقيقه غائبهم وشاهدهم، للتجارة كانوا أو غير تجارة إذا كان مسلمًا، وهو قول جمهور العلماء‏.‏

وقال أبو حنيفة والثورى‏:‏ لا تلزمه زكاة الفطر عن عبيد التجارة، وهو قول عطاء والنخعى، وحجة من أوجب الزكاة قوله‏:‏ ‏(‏فرض النبى صدقة الفطر على الحر والمملوك‏)‏ وهو على عمومه فى كل العبيد، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يخص عبد الخدمة من عبد التجارة، وكذلك خالف أبو حنيفة والثورى الجمهور فقالا‏:‏ ليس على الزوج أن يؤدى عن زوجته ولا خادمها صدقة الفطر‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والحجة للجمهور أن على بمعنى عن فقوله فى الحديث‏:‏ ‏(‏على الذكر والأنثى‏)‏ معناه‏:‏ عمن يلزم الرجل نفقته، وقد روى عن نافع ستة نفر‏:‏ عن كل حر وعبد، ويدل على صحة هذا قول نافع‏:‏ فكان ابن عمر يعطى عن الصغير والكبير، وأيضًا فإن زكاة الفطر تتبع النفقة لإجماعهم أن نفقة الصغير المعسر على أبيه ففطرته عليه، وإذا أيسر سقطت عنه نفقته وفطرته، ولما وجبت نفقة الزوجة على زوجها وجبت فطرتها عليه‏.‏

فإن قيل‏:‏ العبد تجب عليه نفقة امرأته، ولا تلزمه فطرتها، قيل‏:‏ ليس للعبد أن ينفق عليها من مكاسبه إلا بإذن السيد، فإذا أذن له قلنا له‏:‏ زك عنها زكاة الفطر، ولست أعرفه منصوصًا، واختلفوا فى الولد الصغير إذا كان موسرًا، فذهب مالك، وأبو حنيفة، والشافعى وأحمد إلى أن نفقته فى ماله، فكذلك زكاة الفطر، وذهب محمد بن الحسن إلى أن نفقته فى ماله، وزكاة الفطر على أبيه، وهذا غلط، لأن كل من لا تلزمه نفقته لا تلزمه عنه زكاة الفطر، دليله الأجنبى والأب إذا كان موسرًا، قوله‏:‏ ‏(‏فأعوز أهل المدينة من التمر فأعطى شعيرًا‏)‏ يدل أنه لا يجوز أن يعطى فى زكاة الفطر إلا من قوته، لأن التمر كان من جل عيشهم بالمدينة، فأعطى شعيرًا حين لم يجد التمر، وقوله‏:‏ ‏(‏وكان ابن عمر يعطيها الذين يقبلونها قبل الفطر بيومين‏)‏ يريد الذين تجتمع عندهم ويتولون تفرقتها صبيحة يوم العيد لأنها السنة، وكان ابن عمر كثير الاتباع ولا يخالف السنة‏.‏

وروى ابن جريج قال‏:‏ أخبرنى عبيد الله بن عمر قال‏:‏ أدركت سالم بن عبد الله وغيره من علمائنا وأشياخنا فلم يكونوا يخرجونها إلا حين يغدون، وقال عكرمة وأبو سلمة‏:‏ كانوا يخرجون زكاتهم ويأكلون قبل أن يخرجوا إلى المصلى‏.‏

تم كتاب الزكاة ‏[‏والحمد لله رب العالمين، يتلوه كتاب الصيام- إن شاء الله‏]‏‏.‏