فصل: الجزء الرابع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


الجزء الرابع

بسم الله الرحمن الرحيم

كِتَاب الصَّيامِ

باب وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَان

وَقَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ‏}‏ ‏[‏البقرة 183‏]‏ الآية - فيه‏:‏ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِاللَّهِ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، ثَائِرَ الرَّأْسِ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِى مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ الصَّلاةِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، إِلا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا‏)‏، قَالَ‏:‏ أَخْبِرْنِى مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ الصِّيَامِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏شَهْرَ رَمَضَانَ، إِلا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا‏)‏، قَالَ‏:‏ أَخْبِرْنِى بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ الزَّكَاةِ‏؟‏ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَرَائِعَ الإسْلامِ، قَالَ‏:‏ وَالَّذِى أَكْرَمَكَ، بالحق لا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا، وَلا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ ابن عمر‏:‏ صام النبى عاشوراء وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك، وكان عبد الله بن عمر لا يصومه إلا أن يوافق صومه‏.‏

وفيه‏:‏ عائشة‏:‏ أن قريشًا كانت تصوم عاشوراء فى الجاهلية، ثم أمر رسول الله بصيامه حتى فرض رمضان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من شاء فليصمه، ومن شاء فليفطره‏)‏‏.‏

وقال المؤلف‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 183‏]‏، أى فرض عليكم كما فرض على الذين من قبلكم، والكتاب فى اللغة بمعنى الوجوب والفرض، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏ بمعنى فر ض، وقال ابن عباس فى هذه الآية‏:‏ كان كتاب الصيام على أصحاب محمد، أن الرجل كان يأكل ويشرب وينكح ما بينه وبين أن يصلى العتمة أو يرقد، فإذا صلى العتمة أو رقد، منع من ذلك إلى مثلها من القابلة، فنسختها هذه الآية‏:‏ ‏(‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ الآية‏.‏

وروى‏:‏ أن صرمة بن مالك كان شيخًا كبيرًا جاء إلى أهله وهو صائم، فدعا بعشائه، فقالوا‏:‏ امهل حتى نجعل لك طعامًا سَخنًا تفطر عليه، فوضع الشيخ رأسه فنام، فجاءوا بطعامه، فقال‏:‏ قد كنت نمت، فلم يطعم، فبات ليلته يتسلق ظهرًا لبطن، فلما أصبح أتى النبى، عليه السلام، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏(‏وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ الآية‏.‏

وجاء عمر بن الخطاب فأراد أهله، فقالت‏:‏ إنها قد كانت نامت، فظن أنها اعتلت عليه، فواقعها، وفعل مثل ذلك كعب بن مالك، فذكر ذلك للنبى، عليه السلام، فنزلت‏:‏ ‏(‏عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ ‏(‏، إلى قوله‏:‏ ‏(‏ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏، وقد تقدم الكلام فى قوله‏:‏ والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أفلح إن تصدق‏)‏، فى كتاب الإيمان، فأغنى عن إعادته هاهنا‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه أن أداء الفرائض يوجب الجنة، وأن عمل السنن والرغائب يوجب الزيادة فى الجنة‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وأما الآثار فى صيام عاشوراء، فإن أهل العلم اختلفوا فى حكم صومه اليوم، هل هو فى فضله وعيظ ثوابه على مثل ذلك الذى كان عليه قبل أن يفرض رمضان‏؟‏ فقالت طائفة‏:‏ كان ذلك يومًا تصومه اليهود شكرًا لله على أن نجى موسى وبنى إسرائيل من البحر وأغرق فرعون، فصامه رسول الله وأمر بصومه، فلما فرض رمضان لم يأمر بصومه ولم ينه عنه، فمن شاء صامه ومن شاء تركه‏.‏

وقال آخرون‏:‏ لم يزل رسول الله يصومه ويحث أمته على صومه حتى مضى بسبيله، عليه السلام، روى هذا عن ابن عباس، قال‏:‏ ما رأيت رسول الله يومًا يتحرى فضله إلا يوم عاشوراء وشهر رمضان‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما وجه كراهية ابن عمر صومه‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ نظير كراهية من كره صوم رجب، إذ كان شهرًا تعظمه الجاهلية، فكره أن يعظم فى الإسلام ما كان يعظم فى الجاهلية، من غير تحريم صومه على من صامه، ولا مؤيسه من الثواب الذى وعد الله صائمه على لسان رسوله إذا صامه مبتغيًا بصومه ثواب الله، لا مريدًا به إحياء سنة أهل الشرك، وكذلك صوم رجب، وسيأتى بقية القول فى هذا المعنى فى باب صوم عاشوراء بعد هذا إن شاء الله‏.‏

باب فَضْلِ الصَّوْمِ

- فيه‏:‏ أَبِو هُرَيْرَةَ‏:‏ قَالَ النَّبىِّ، عليه السلام‏:‏ ‏(‏الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلا يَرْفُثْ، وَلا يَجْهَلْ، فإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ‏:‏ إِنِّى صَائِمٌ، مَرَّتَيْنِ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِى، الصِّيَامُ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الصيام جنة‏)‏، أى ستر من النار، ومنه قيل للترس‏:‏ مجن؛ لأن صاحبه يستتر به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فلا يرفث‏)‏، فالرفث هاهنا الفحش والخنا، والجهل ما لا يصلح من القول والفعل، قال الشاعر‏:‏

فنجهل فوق جهل الجاهلينا ***

ألا لا يجهلن أحد علينا ***

والجهل‏:‏ السفه‏.‏

قال المهلب‏:‏ واختلف أهل العلم فى معنى قوله‏:‏ ‏(‏فليقل‏:‏ إنى صائم‏)‏، فقيل‏:‏ يقول‏:‏ إنى صائم، للذى يشاتمه، ليكف عن شتمه، واستدل بعضهم بقول مريم‏:‏ ‏(‏إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 26‏]‏، فكان حكم الصيام عند مريم وأهل زمانها أن لا يتكلموا فيه، وكان هذا متعارفًا عندهم‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ قلت لعطاء‏:‏ أبلغك أنه يؤمر الإنسان إذا دعى إلى طعام أن يقول‏:‏ إنى صائم‏؟‏ قال‏:‏ سمعنا أبا هريرة يقول‏:‏ إذا كنت صائمًا، فلا تساب ولا تجهل، فإن جهل عليك فقل‏:‏ إنى صائم‏.‏

وروى عن ابن مسعود‏:‏ إذا دعى أحدكم إلى طعام وهو صائم، فليقل‏:‏ إنى صائم، وقاله قتادة، والزهرى‏.‏

وقال طائفة‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏(‏فليقل‏:‏ إنى صائم‏)‏، أى يذكر نفسه بذلك، ولا يجهر به، ولا يراجع به من سبه؛ لأنه إذا تكلم به، فقد أظهر نيته، وربما دخل فيه الرياء، قال ثابت‏:‏ ومعنى القول هاهنا‏:‏ العلم‏.‏

قال الشاعر‏:‏

خلوت ولكن قل على رقيب ***

إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل ***

ومثله قول مجاهد فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 9‏]‏ قال‏:‏ أما إنهم لم يتكلموا به، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى عليهم به؛ ليرغب فى ذلك راغب، وعلى هذا المعنى يدل قوله فى الحديث‏:‏ ‏(‏الصيام لى وأنا أجزى به‏)‏، ولا يكون لله خالصًا إلا بانفراده بعلمه دون الناس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏الصيام لى وأنا أجزى به‏)‏، فالصيام وجميع الأعمال لله، لكن لما كانت الأعمال الظاهرة يشرك فيها الشطان بالرياء وغيره، وكان الصيام لا يطلع عليه أحد إلا الله، فيثيبه عليه على قدر خلوصه لوجهه، جاز أن يضيفه تعالى إلى نفسه‏.‏

قال الطبرى‏:‏ ألا ترى قوله فى الحديث‏:‏ ‏(‏يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلى‏)‏، وكان ابن عيينة يقول فى قوله‏:‏ ‏(‏ألا الصوم فإنه لى‏)‏، قال‏:‏ لأن الصوم هو الصبر، يصبر الإنسان نفسه عن المطعم والمشرب والمنكح، ثم قرأ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏ وهذا كله إنما يكون فيما خلص لله من الرياء قال عبد الواحد أيضًا قوله عليه السلام عن الله تعالى أنه قال‏:‏ ‏(‏من عمل عملا أشرك فيه غيرى فهو له، وأنا أغنى الشركاء عن الشرك‏)‏ فجعل عمل الرياء لغيره، وجعل ما خلص من الرياء له تعالى، وقال آخرون‏:‏ إنما خص الصوم بأن يكون هو الذى يتولى جزاءه، لأن الصوم لا يظهر من ابن آدم بلسان، ولا فعل فتكتبه الحفظة، إنما هو نية فى القلب، وإمساك عن المطعم والمشرب، فيقول‏:‏ أنا أتولى جزاءه على ما أحب من التضعيف، وليس على كتاب كتب، وهذا القول ذكره أبو عبيد‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والصواب عندى القول الأول، وأما معنى قوله‏:‏ ‏(‏وأنا أجزى به‏)‏، فأنا المنفرد بجزائه على عمله ذلك لى بما لا يعلم كنه مبلغه غيرى، إذ كان غير الصيام من أعمال الطاعة قد علم غيرى بإعلامى إياه أن الحسنة فيها بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وقد روى يحيى بن بكير عن مالك فى هذا الحديث بعد قوله‏:‏ ‏(‏الحسنة بعشر أمثالها‏)‏، فقال‏:‏ ‏(‏كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فهو لى وأنا أجزى به‏)‏‏.‏

فخص الصيام بالتضعيف على سبعمائة ضعف فى هذا الحديث، وقد نطق التنزيل بتضعيف النفقة فى سبيل الله أيضًا كتضعيف الصيام، فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 261‏]‏ وجاء فى ثواب الصبر مثل ذلك وأكثر، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏ فيحتمل والله أعلم أن تكون هاتان الآيتان نزلتا على النبى عليه السلام، بعد ما أعلمه الله ثواب الصيام، لأنه لا ينطق عن الهوى، والفضائل إنما تدرك من طريق الوحى‏.‏

وقال عبد الواحد‏:‏ أما قول من قال‏:‏ كل عمل تكتبه الحفظة إلا الصيام فإنما هو نية فى القلب، وإمساك عن المطعم والمشرب فلا يكتب فغير صحيح، لأن الحفظة تعلم الإمساك عن الأكل، وهو حقيقة إذا اطعلت على الإمساك عن الأكل فى خلوته فقد علمت صيامه، لأنه ليس يرائى أحد الحفظة، ولا ينتفع بالرياء إلا إذا أكل فى الباطن، فإذا كف عن الأكل فى الباطن وتمادى على ذلك فقد علمت صيامه، وليس أيضًا قول من تأول فى قوله‏:‏ ‏(‏إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 26‏]‏، أن مريم كانت صائمة فى ذلك الوقت صواب، بدليل قوله تعالى فى الآية‏:‏ ‏(‏وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِى إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 25، 26‏]‏، فأخبر أن ذلك كان بعد أكلها وشربها، ويشهد لذلك أنها كانت نفساء، والنفساء لا تصوم، وإنما معنى قولها‏:‏ ‏(‏إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 26‏]‏، أى إمساكًا عن الكلام، والعرب تقول‏:‏ صام، إذا أمسك عن الكلام، فإن قيل‏:‏ فكيف نذرت أن تمسك عن الكلام وقد قيل لها‏:‏ ‏(‏فَقُولِى ‏(‏‏؟‏ قيل‏:‏ المراد هاهنا‏:‏ تقول بالإشارة بدليل قوله بعد هذا‏:‏ ‏(‏فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 29‏]‏ الآية، وقال زيد بن أسلم‏:‏ كانت بنو إسرائيل يصومون من الكلام كما يصومون من الطعام ولا يتكلمون إلا بذكر الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لخلوت فم الصائم‏)‏ بضم الخاء، هو مصدر خلف فمه يخلف يعنى تغير رائحته فى آخر النهار، لأن الفم يتغير بترك الطعام، قال أبو عبيد‏:‏ خلف اللبن وغيره‏:‏ تغير ريحه وطعمه، وقال صاحب العين الخالف‏:‏ اللحم المتغير الريح، قال الخطابى‏:‏ فأما الخلوف بفتح الخاء، فهو الذى يعد ثم يخلف، قال النمر بن تولب‏:‏ جزى الله عنى جمرة ابنة نوفل جزاء خلوف بالخلافة كاذب وقوله‏:‏ ‏(‏أطيب عند الله من ريح المسك‏)‏، يريد أزكى عند الله الواحد‏:‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏(‏عند الله‏)‏ يريد فى الآخرة، أى يجازيه يوم القيامة بتطييب نكهته الكريهة فى الدنيا حتنى تكون كريح المسك، والدليل على أنه أراد الآخرة بقوله‏:‏ ‏(‏عند الله‏)‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 47‏]‏ يريد أيام الآخرة، ومن هذا الباب قوله عليه السلام فى الشهيد‏:‏ ‏(‏أنه يأتى يوم القيامة وجرحه يثعب دمًا اللون لون الدم والريح ريح المكسك‏)‏، فأخبر أنه يجازى الشهيد فى الآخرة بأن يجعل رائحة دمه الكريهة فى الدنيا كريح المسك فى الآخرة‏.‏

باب الصَّوْمُ كَفَّارَةٌ

- فيه‏:‏ حُذَيْفَةَ‏:‏ قَالَ عُمَرُ مَنْ يَحْفَظُ حَدِيث النَّبِىِّ عليه السَّلام فِى الْفِتْنَةِ‏؟‏ قَالَ حُذَيْفَةُ‏:‏ أَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِى أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ‏)‏، قَالَ‏:‏ لَيْسَ أَسْأَلُ عَنْ ذِهِ، إِنَّمَا أَسْأَلُ عَنِ الَّتِى تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ الحديث‏.‏

الفتنة عند العرب‏:‏ الابتلاء والاختبار، وهى فى هذا الحديث شدة حب الرجل لأهله، وشغفه بهن، كما روى عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال‏:‏ ‏(‏رأيت رسول الله يخطب، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل رسول الله فرفعهما ووضعهما فى حجره، ثم قال‏:‏ صدق الله‏)‏ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 15‏]‏ رأيت هذين فلم أصبر، ثم أخذ فقال له‏:‏ أتدعو الله ألا يرزقك مالا وولدًا فاستعذ بالله من مضلات الفتن‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ لا يقل أحدكم‏:‏ اللهم إنى أعوذ بك من الفتنة، فليبس أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، لأن الله يقول‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 15‏]‏ فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن‏.‏

ومن فتنة الأهل أيضًا الإسراف والغلو فى النفقة عليهن، والشغل بأمورهن عن كثير من النوافل، وفتنته فى ماله أن يشتد سروره به حتى يغلب عليه، وهذا مذموم، ألا ترى أن النبى لما نظر إلى علم الخميصة فى الصلاة ردها إلى أبى جهم وقال‏:‏ ‏(‏كاد يفتننى‏)‏ فتبرأ ممال خشى منه الفتنة، وكذلك عرض لأبى طلحة حين كان يصلى فى حائطه فطار دبسى فأعجبه فأتبعه بصره ثم رجع إلى صلاته فلم يَدْرِ كَمْ صلى، لقد لحقنى فى مالى هذا فتنة، فجاء إلى النبى فذكر ذلك له فقال‏:‏ هو صدقة يا رسول الله فضعه حيث شئت، ومن فتنة المال أيضًا ألا يصل منه أقاربه، ويمنع معروفه أجانبه، وفتنته فى جاره أن يكون أكثر مالا منه وحالا، فيتمنى مثل حله، وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 20‏]‏ فهذه الأنواع وما شابهها مما يكون من الصغائر فدونها تكفرها أعمال البر، ومصداق ذلك فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏ قال أهل التفسير‏:‏ الحسنات هاهنا‏:‏ الصلوات الخمس، والسيئات‏:‏ الصغائر‏.‏

باب الرَّيَّانُ لِلصَّائِمِينَ

- فيه‏:‏ سَهْلٍ قال‏:‏ قال النَّبِىِّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏إِنَّ فِى الْجَنَّةِ بَابًا، يُقَالُ‏:‏ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لا يَدْخُلُ أَحَدٌ منه غَيْرُهُمْ، يُقَالُ‏:‏ أَيْنَ الصَّائِمُونَ‏؟‏ فَيَقُومُونَ، لا يَدْخُلُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا، أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبِو هُرَيْرَةَ قَالَ‏:‏ قَالَ النبى عليه السلام‏:‏ ‏(‏مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، نُودِىَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ‏)‏، قَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى مَنْ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأبْوَابِ كُلِّهَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما أفرد الصائمين بهذا الباب ليسارعوا إلى الرى من عطش الصيام فى الدنيا إكرامًا لهم واختصاصًا، وليكون دخولهم فى الجنة هينًا غير متزاحم عليهم عند أبوابها، كما خص النبى أبا بكر الصديق بباب فى المسجد يقرب منه خروجه إلى الصلاة ولا يزاحمه أحد، وأغلق سائرها إكراهًا له وتفضيلاً‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏(‏زوجين‏)‏ أى شيئين، كدينارين أو ثوبين، وشبه ذلك، والحجة لذلك ما رواه حماد بن سلمة، عن يونس بن عبيد، وحميد، عن الحسن، عن صعصعة بن معاوية، عن أبى ذر، أن النبى عليه السلام، قال‏:‏ ‏(‏من أنفق زوجين من ماله ابتدرته حجبة الجنة‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏بعيرين، شاتين، حمارين، درهمين‏)‏، قال حماد‏:‏ أحسبه قال‏:‏ ‏(‏خفين‏)‏‏.‏

‏,‏ وروى أسد بن موسى، نا مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن صعصعة، قال‏:‏ لقيت أبا ذر بالربذة، وهو يسوق بعيرا له عليه مزادتان، قال‏:‏ سمعت النبى عليه السلام يقول‏:‏ ‏(‏ما من مسلم ينفق من كل ماله زوجين فى سبيل الله إلا استقبلته حجبة الجنة كلهم يدعوه إلى ما عنده‏)‏، قلت‏:‏ زوجين من ماذا‏؟‏ قال‏:‏ إن كان صاحب خيل ففرسين، وإكان صاحب إبل فبعيرين، وإن كان صاحب بقر فبقرتين‏)‏، حتى عد أصناف المال‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ إن النفقة إنما تسوغ فى باب الجهاد وباب الصدقة، فكيف تكوت فى باب الصلاة والصيام‏؟‏‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ معنى زوجين أراد نفسه وماله، والله أعلم‏.‏

قال المؤلف‏:‏ والعرب تسمى ما يبذله الإنسان من نفسه واجتهاده نفقة فيقول أحدهم فيما تعلم من العلم أو صنعة من سائر الأعمال‏:‏ أنفقت فى هذا عمرى، وبذلت فيه نفسى، قال حبيب بن أوس، كم بين قوم إنما نفقاتهم مال وقوم ينفقون نفوسًا‏.‏

قال المهلب‏:‏ فتكون النفقة على هذا الوجه فى باب الصلاة والصيام من الجسم بإتعابه له، فإن قيل‏:‏ كيف تكون النفقة فى زوجين، وإنما نجحد الفعل فى هذا الباب نفقة الجسم لا غير‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن نفقة المال مقترنة بنفقة الجسم فى ذلك، لأنه لابد للمصلى والصائم من قوت يقيم رمقه، وثوب يستره، وذلك من فروض الصلاة، ويستعين بذلك على طاعة الله تعالى، فقد صار منفقًا لزوجين‏:‏ لنفسه وماله، وقد تكون النفقة فى باب الصلاة، أن يبنى لله مسجدًا للمصلين، لدلالة قوله‏:‏ ‏(‏من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا فى الجنة‏)‏، والنفقة فى الصيام إذا فطر صائمًا فكأنما صام يومًا ويعضده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏، فجعل الإطعام للمسكين عوضًا من صيام يوم، وأبواب الجنة ثمانية، وإنما ذكر منها فى الحديث أربعة‏.‏

وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من أبواب الجنة أبواب الواطئين‏)‏‏.‏

ذكر إسماعيل بن أبى خالد، عن يونس بن خباب، قال‏:‏ أخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن للجنة ثمانية أبواب منها‏:‏ باب للصائمين، وباب للمجاهدين، وباب للمتصدقين، وباب للواطئين، وليس أحد من هذه الأصناف يمر بخزنة الجنة إلا كلهم يدعوه‏:‏ هلم إلينا يا عبد الله‏)‏، ومن أبواب الجنة باب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس‏.‏

وذكر ابن البراء فى كتاب الروضة، عن أحمد بن حنبل، قال‏:‏ حدثنا روح، عن أشعث، عن الحسن، قال‏:‏ إن الله فى الجنة بابًا لا يدخله إلا من عفا عن مظلمة، فقال أحمد لابنه‏:‏ يا بنى ما خرجت من دار أبى إسحاق حتى أحللته ومن معه إلا رجلين‏:‏ ابن أبى دؤاد، وعبد الرحمن بن إسحاق فإنهما طلبا دمى، وأنا أهون على الله من أن يُعَذِّبَ فىّ أحدًا، أشهدك أنهم فى حل‏.‏

ومنها‏:‏ باب التوبة، روى عن ابن مسعود أنه سأله رجل عن ذنب ألم به، هل له من توبة‏؟‏ فأعرض عنه ابن مسعود، ثم التفت فرأى عينيه تذرقان، فقال‏:‏ إن للجنة ثمانية أبواب كلها تفتح وتغلق إلا باب التوبة فإن عليه ملكًا موكلاً به لا يغلق، فاعمل ولا تيأس‏.‏

ووجه الإنفاق فى ذلك ما يتقوى به على طاعة الله، ويتحلل من المحارم التى سلفت منه، ويؤدى المظالم إلى أهلها، ويمكن أن يكون الباب الباقى، باب المتوكلين الذين يدخلون الجنة فى سبعين ألفا من باب واحد، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وجوههم كالبدر‏:‏ الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، ووجه الإنفاق فى ذلك أنهم ينفقون على أنفسهم فى حال المرض المانع لهم من التصرف فى طلب المعاش، صابرين على ما أصابهم، وينفقون على من أصابه ذلك البلاء من غيرهم‏.‏

ومنها‏:‏ باب الصابرين لله على المصائب، المحتسبين الذين يقولون عند نزولها‏:‏ ‏(‏إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 156‏]‏ الآية، ومنها‏:‏ باب الحافظين فروجهم والحافظات المستعفين بالحلال عن الحرام، وغير المتبعين للشهوات، ووجه الإنفاق فى ذلك‏:‏ الصداق والوليمة والإطعام حتى اللقمة يضعها فى فىِّ امرأته والله أعلم بحقيقة الثلاثة الأبواب‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا جاز أن يسمى استعمال الجسم فى طاعة الله نفقة، فيجوز أن يدخل فى معنى الحديث ‏(‏من أنفق نفسه فى سبيل الله فاستشهد وأنفق كريم ماله‏)‏‏؟‏ قيل‏:‏ نعم وهو أعظم أجرًا من الأول‏.‏

ويدل على ذلك ما رواه سفيان، عن الأعمش، عن أبى سفيان، عن جابر، قال‏:‏ قال رجل‏:‏ يا رسول الله، أى الجهاد أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن يعقر جوادك ويهراق دمك‏)‏‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ فإن قيل‏:‏ هل يدخل فى ذلك صائم رمضان، والمزكى لماله، ومؤدى الفرائض‏؟‏ قيل‏:‏ المراد بالحديث النوافل وملازمتها والتكثير منها، فذلك الذى يستحق أن يدعى من أبوابها لقوله‏:‏ ‏(‏فمن كان من أهل كذا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قول أبى بكر‏:‏ ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، يريد أنه من لم يكن إلا من أهل خصلة واحدة من هذه الخصال، ودعى من باب تلك الخصلة، فإنه لا ضرورة عليه، لأن الغاية المطلوبة دخول الجنة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏هل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏)‏، يريد أن من كان من أهل الصلاة والجهاد والصيام والصدقة أنه يدعى منها كلها، فلا ضرورة عليه فى دخوله من أى باب شاء، لاستحالة دخوله منها كلها معا، ولا يصح دخوله إلا من باب واحد، ونداؤه منها كامل إنما هو على سبيل الإكرام والتخيير له فى الدخول من أيها شاء‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ وفيه أن أعمال البر كلها يجوز أن يقال فيها فى سبيل الله ولا يخص بذلك الجهاد وحده‏.‏

باب هَلْ يُقَالُ رَمَضَانُ، أَوْ شَهْرُ رَمَضَان

وَمَنْ رَأَى كُلَّهُ وَاسِعًا وَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ صَامَ رَمَضَانَ‏)‏، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏إِذَا جَاء رَمَضَانَ، فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنَ عُمَرَ قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ‏)‏‏.‏

يعنى هِلالِ رَمَضَانَ‏.‏

قال ابن النحاس‏:‏ قال ابن النحاس‏:‏ كان عطاء ومجاهد يكرهان أن يقال‏:‏ رمضان، قالا‏:‏ وإنما نقول ما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏، لأنا لا ندرى لعل رمضان اسم من أسماء الله‏.‏

قال‏:‏ وهذا قول ضعيف، لأنا وجدنا النبى، عليه السلام، قال‏:‏ ‏(‏رمضان‏)‏، بغير شهر، فقال‏:‏ ‏(‏من صام رمضان‏)‏، ولا تقدموا رمضان، والأحاديث كثيرة فى ذلك‏.‏

وأبواب السماء فى هذا الحديث يراد بها أبواب الجنة بدليل قوله فى الحديث‏:‏ ‏(‏وغلقت أبواب جهنم‏)‏، وقد تبين هذا المعنى فى رواية مالك عن عمه أبى سهيل بن مالك، عن أبيه، عن أبى هريرة أنه قال‏:‏ ‏(‏رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين‏)‏، وهذا حجة فى أن الجنة فى السماء، وتأول العلماء فى قوله‏:‏ ‏(‏فتحت أبواب الجنة وسلسلت الشياطين‏)‏، معنيين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم يسلسلون على الحقيقة، فيقل أذاهم ووسوستهم ولا يكون ذلك منهم كما هو فى غير رمضان، وفتح أبواب الجنة على ظاهر الحديث‏.‏

والثانى‏:‏ على المجاز، ويكون المعنى فى فتح أبواب الجنة ما فتح الله على العياد فيه من الأعمال المستوجب بها الجنة من الصلاة والصيام وتلاوة القر آن، وأن الطريق إلى الجنة فى رمضان أسهل والأعمال فيه أٍرع إلى القبول، وكذلك أبواب النار تغلق بما قطع عنهم من المعاصى، وترك الأعمال المستوجب بها النار، ولقلة ما يؤاخذ الله العباد بأعمالهم السيئة، يستنفذ منها ببركة الشهر أقوامًا ويهب المسئ للمحسن، ويتجاوز عن السيئات فهذا معنى الغلق، وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏سلسلت الشياطين‏)‏، يعنى‏:‏ أن الله يعصم فيه المسلمين أو أكثرهم فى الأغلب عن المعاصى والميل إلى وسوسة الشياطين وغرورهم، ذكره الداودى والمهلب‏.‏

واحتج المهلب لقول من جعل المعنى على الحقيقة فقال‏:‏ ويدل على ذلك ما يذكر من تغليل الشيباطين ومردتهم بدخول أهل المعاصى كلها فى رمضان فى طاعة الله، والتعفف عما كانوا عليه من الشهوات، وذلك دليل بين‏.‏

باب مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَنِيَّةً

وَقَالَتْ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِىِّ‏:‏ ‏(‏يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام‏:‏ ‏(‏مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إيمانًا‏)‏، يريد تصديقًا بفرضه وبالثواب من الله تعالى، على صيامه وقيامه، وقوله‏:‏ ‏(‏احتسابًا‏)‏، يريد بذلك يحتسب الثواب على الله، وينوى بصيامه وجه الله، وهذا الحديث دليل بين أن الأعمال الصالحة لا تزكو ولا تتقبل إلا مع الاحتساب وصدق النيات، كما قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى‏)‏، وهذا يرد قول زفر، فإنه زعم أنه يجزئ صوم رمضان بغير نية، وقوله مردود بهذه الآثار، وإذا صح أنه لا عمل إلا بنية، صح أنه لا يجزئ صوم رمضان إلا بنية من الليل، كما ذهب إليه الجمهور‏.‏

وخالف ذلك أبو حنيفة، والأوزاعى، وإسحاق، وقالوا‏:‏ يجزئه التبييت قبل الزوال، ولا سلف لهم فى ذلك، والنية إنما ينبغى أن تكون متقدمة قبل العمل، وحقيقة التبييت فى اللغة يقتضى زمن الليل، وروى هذا عن ابن عمر، وحفصة، وعائشة، ولا مخالف لهم، وقد تقدم ما للعلماء فى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الأعمال بالنيات‏)‏، فى آخر كتاب الإيمان، فى باب‏:‏ ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة‏.‏

باب أَجْوَدُ مَا كَانَ النَّبِىُّ عليه السلام يَكُونُ فِى رَمَضَان

- فيه‏:‏ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ ‏(‏كَانَ النَّبِىُّ، عليه السلام، أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِى رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِى رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ النَّبِىُّ، عليه السلام، عليه الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ وامتثل النبى، عليه السلام، فى هذا قول الله تعالى‏:‏ وأمره بتقديم الصدقة بين يدى نجوى الرسول الذى كان أمر به تعالى عباده، ثم عفا عنهم، لإشفاقهم من ذلك، فامتثل عليه السلام ذلك عند مناجاته جبريل صلى الله عليه وعلى جميع الملائكة، وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب بدء الوحى‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه بركة مجالسة الصالحين، وأن فيها تذكار لفعل الخير، وتنبيها على الازديار من العمل الصالح، ولذلك أمر عليه السلام بمجالسة العلماء، ولزوم حلق الذكر، وشبه الجليس الصالح بالعطار إن لم يصبك من متاعه لم تعدم طيب ريحه‏.‏

ألا ترى قول لقمان لابنه‏:‏ يا بنى جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيى القلوب بنور الحكمة، كما يحيى الأرض الميتة بوابل السماء، وقال مرة أخرى‏:‏ فلعل أن تصضيبهم رحمة فتنالك معهم، فهذه ثمرة مجالسة أهل الفضل ولقائهم‏.‏

وفيه‏:‏ بركة أعمال الخير، وأن بعضها يفتح بعضًا، ويعين على بعض، ألا ترى أن بركة الصيام، ولقاء جبريل وعرضه القرآن عليه زاد فى وجود النبى، عليه السلام، وصدقته حتى كان أجود من الريح المرسله‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ ونزول جبريل فى رمضان للتلاوة دليل عظيم لفضل تلاوة القرآن فيه، وهذا أصل تلاوة الناس للقرآن فى كل رمضان، تأسيًا به صلى الله عليه وسلم، ومعنى مدارسة جبريل للنبى، عليه السلام، فيه، لأنه الشهر الذى أنزل فيه القرآن، كما نص الله تعالى‏.‏

وفيه‏:‏ أن المؤمن كلما ازداد عملاً صالحًا وفتح له باب من الخير فإنه ينبغى له أن يطلب بابا آخر، وتكون عينه ممتدة فى الخير إلى فوق عمله، ويكون خائفا وجلاً، غير معجب بعمله، طالبًا للارتقاء فى درجات الزيادة‏.‏

باب مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فِى الصَّوْمِ

- فيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النِّبِىّ، عليه السلام‏:‏ ‏(‏مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِى أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه دليل أن حكم الصيام الإمساك عن الرفث وقول الزور، كما يمسك عن الطعام والشراب، وإن لم يمسك عن ذلك فقد تنقص صيامه وتعرض لسخط ربه وترك قبوله منه‏.‏

وقال غيره‏:‏ وليس معناه أن يؤمر بأن يدع صيامه إذا لم يدع قول الزور، وإنما معناه التحذير من قول الزور، وهذا كقوله، عليه السلام‏:‏ ‏(‏من باع الخمر فليشقص الخنازير‏)‏، يريد أى يذبحها، ولم يأمره بشقصها، ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم شارب الخمر، فكذلك حذر الصائم من قول الزور والعمل به ليتم أجر صيامه، فإن قيل‏:‏ فما معنى قوله‏:‏ ‏(‏فليس لله حاجة‏)‏، والله لا يحتاج إلى شئ‏؟‏ قيل معناه‏:‏ فليس لله إرادة فى صيامه فوضع الحاجة موضع الإرادة‏.‏

باب هَلْ يَقُولُ إِنِّى صَائِمٌ إِذَا شُتِمَ

- فيه‏:‏ أَبَو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النبى، عليه السلام‏:‏ ‏(‏كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِى، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلا يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ‏:‏ إِنِّى امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا‏:‏ إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِىَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ‏)‏‏.‏

قال الداودى‏:‏ تخصيصه فى هذا الحديث ألا يرفث ولا يجهل، وذلك لا يحل فى غير الصيام، وإنما هو تأكيد لحرمة الصوم عن الرفث والجهل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1، 2‏]‏، والخشوع فى الصلاة أوكد منه فى غيرها، وقال فى الأشهر الحرم‏:‏ ‏(‏فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏، فأكد حرمة الأشهر الحرم، وجعل الظلم فيها آكد من غيرها، فينبغى للصائم أن يعظم من شهر رمضان ما عظم الله ورسوله، ويعرف ما لزمه من حرمة الصيام‏.‏

قال غيره‏:‏ واتفق جمهور العلماء على أن الصائم لا يفطره السب والشتم والغيبة، وإن كان مأمورًا أن ينزه صيامه عن اللفظ القبيح، وقال الأوزاعى‏:‏ إنه يفطر بالسب والغيبة، واحتج بما روى أن الغيبة تفطر الصائم‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ معناه أنه يصير فى معنى المفطر فى سقوط الأجر لا أنه يفطر فى الحقيقة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 12‏]‏، ومن اغتاب فلم يكن آكلا لحم أخيه ميتًا فى الحقيقة، وإنما يصير فى معناه ويجوز أن يكون فى معنى التغليظ، كما قال‏:‏ الكذب مجانب للإيمان، فإن قيل‏:‏ فما معنى قوله‏:‏ ‏(‏فليقل إنى صائم‏)‏، والمندوب إليه أن يستتر بعمله ليكثر ثوابه‏؟‏ قيل‏:‏ إذا قال‏:‏ إنى صائم، ارتدع وعلم أنه إذا اجترأ عليه فى صوم كان أعظم فى الإثم، فليعلم أيضًا أن الصوم يمنع من الرد عليه، ومثل هذا لا يكره إذا كان لعذر، وقيل معناه‏:‏ أن يقول ذلك لنفسه، وقد تقدم هذا المعنى فى باب‏:‏ فضل الصوم‏.‏

باب الصَّوْمِ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعُزْوبَةَ

- فيه‏:‏ ابن مسعود قَالَ‏:‏ كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السلام، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ندب النبى، عليه السلام، لأمته النكاح، ليكونوا على كمال من أمر دينهم، وصيانة لأنفسهم فى غض أبصارهم وحفظ فروجهم لما يخشى على من زين الله فى قلبه حب أعظم الشهوات، ثم عليه السلام، أن الناس كلهم لا يجدون طولا إلى النساء، وربما خافوا العنت بفقد النكاح فعوضهم منه ما يدافعون به سورة شهواتهم، وهو الصيام‏.‏

فإنه وجاء، والوجاء‏:‏ القطع، يعنى‏:‏ أنه مقطعة للانتشار وحركة العروق التى تتحرك عند شهوة الجماع، وأصل الوجاء عند العرب أن ترض البيضتان، يقال‏:‏ وجأ فلان الكبش، وهو كبش موجوء، فإذا سلت البيضتان، فهو الخصى، وفى كتاب العين‏:‏ وجأت الرجل ضربته‏.‏

والباءة فى كلام العرب‏:‏ الجماع، وتجمع بآء، كما تجمع الراءة رآء‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلالَ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا‏)‏

وَقَالَ عَمَّارٍ‏:‏ مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ، فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ قَالَ عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلالَ، وَلا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ‏)‏‏.‏

- وقَالَ بْنِ عُمَرَ‏:‏ قَالَ النبى، عليه السلام‏:‏ ‏(‏الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ الْهلالَ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاثِينَ‏)‏‏.‏

- وقَالَ أَبَا هُرَيْرَةَ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ، عليه السلام‏:‏ ‏(‏صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمِّىَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ‏)‏‏.‏

ذهب كافة الفقهاء إلى أن معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فاقدروا له‏)‏، مجمل يفسره قوله‏:‏ ‏(‏فأكملوا العدة ثلاثين يومًا‏)‏، ولذلك جعل مالك فى الموطأ ‏(‏فأكملوا العدة ثلاثين يومًا‏)‏، بعد قوله‏:‏ ‏(‏فاقدروا له‏)‏، كما صنع البخارى، لأنه مفسر ومبين لمعنى قوله‏:‏ ‏(‏فاقدروا له‏)‏، وحكى محمد بن سيرين أن بعض التابعين كان يذهب فى معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فاقدروا له‏)‏، إلى اعتباره بالنجوم، ومنازل القمر، وطريق الحساب، ويقال‏:‏ إنه مطرف بن الشخير‏.‏

وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يومًا‏)‏، نص فى أنه عليه السلام لم يرد اعتبار ذلك بالنجوم والمنازل، لأنه لو كلف ذلك أمته لشق عليه، لأنه لا يعرف النجوم والمنازل إلا قليل من الناس، ولم يجعل الله تعالى فى الدين من حرج، وإنما أحال عليه السلام على إكمال ثلاثين يومًا، وهو شىء يستوى فى معرفته الكل، وقد انضاف إلى أمره باعتبار العدد ثلاثين عند عدم الرؤية فعله فى نفسه‏.‏

فروى عن عائشة أنها قالت‏:‏ ‏(‏كان رسول الله يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من سائر الشهور، فإذا رأى هلال رمضان صام، وإن غم عليه عد شعبان ثلاثين يومًا وصام‏)‏، ولو كن هاهنا علم آخر لكان يفعله أو يأمر به‏.‏

وجمهور الفقهاء على أنه لا يصام رمضان إلا بيقين من خروج شعبان، إما برؤية الهلال أو إكمال شعبان ثلاثين يومًا، وكذلك لا يقضى بخروج رمضان إلا بيقين مثله، لأنه ممكن فى الشهر أن يكون تسعة وعشرين يومًا، فالرؤية تصحح ذلك وتوجب اليقين كإكمال العدة ثلاثين يقينًا، هذا معنى قوله‏:‏ ‏(‏فاقدروا له‏)‏، عند العلماء، ولابن عمر فيه تأويل شاذ لم يتابع عليه وسنذكره فى باب نهى النبى عن صيام يوم الشك، إن شاء الله‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ أما حديث ابن عمر أن النبى، عليه السلام، قال‏:‏ ‏(‏الشهر تسع وعشرون ليلة‏)‏، فإن معناه‏:‏ الشهر الذى نحن فيه والذى قد علمتم إخبارى عنه، لأن الألف واللام إنما تدخلهما العرب فى الأسماء إما لمعهود قد عرفه المخبر والمخبر، وإما للجنس العام من المشهور ومعلوم أن النبى، عليه السلام، لم يقصد بذلك الخبر عن الجنس، لأنه لو كان كذلك لم يقل‏:‏ ‏(‏صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته‏)‏، فأحال على الرؤية، ونحن نرى الشهر يكون مرة ثلاثين ومرة تسعة وعشرين فعلم أن قوله‏:‏ ‏(‏الشهر تسع وعشرون‏)‏، أن ذلك قد يكون فى بعض الأحوال، وقد جاء هذا عن ابن عمر، عن النبى، عليه السلام، بينا فى قوله‏:‏ ‏(‏إنا أمة مية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا، وهكذا يعنى‏:‏ مرة تسعًا وعشرين، ومرة ثلاثين‏)‏‏.‏

وروى عن عروة، عن عائشة نها أنكرت قول من قال أن النبى، عليه السلام، قال‏:‏ ‏(‏الشهر تسع وعشرون‏)‏، وقالت لا والله ما قال كذلك، إنما قال حين هجرنا‏:‏ لأهجرنكم شهرًا، وأقسم على ذلك، فجاءنا حين ذهب تسع وعشرون ليلة، فقلت‏:‏ يا رسول الله إنك أقسمت شهرًا فقال‏:‏ ‏(‏إن الشهر كان تسعًا وعشرين ليلة‏)‏‏.‏

باب شَهْرَا عِيدٍ لا يَنْقُصَان

- فيه‏:‏ أَبو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السلام‏:‏ ‏(‏شَهْرَا عِيدٍ لا يَنْقُصَانِ‏:‏ رَمَضَانُ، وَذُو الْحَجَّةِ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث على وجهين، فذكر أحمد بن عمرو البزار أن معناه‏:‏ لا ينقصان جميعًا فى سنة واحدة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقد روى زيد بن عقبة، عن سمرة بن جندب، عن النبى، عليه السلام، أنه قال‏:‏ ‏(‏شهرا عيد لا يكونان ثمانية وخمسين يومًا‏)‏‏.‏

والوجه الثانى قال المهلب‏:‏ معناه‏:‏ أنه لا ينقص عند الله، تعالى أجر العاملين فيهما، وإن كانا ناقصيبن فى العدد‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد دفع قوم التأويل الأول بالعيان، قالوا‏:‏ لأنا قد وجدناهما ينقصان فى أعوام، ويجتمع ذلك فى كل واحد منهما، فدفعوا ذلك بهذا، وبحديث رسول الله أنه قال‏:‏ ‏(‏صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين‏)‏، وبقوله‏:‏ ‏(‏إن الشهر قد يكون تسعًا وعشرين ويكون ثلاثين‏)‏، فأخبر أن ذلك جائز فى كل شهر من الشهور، إذ لم يخص بذلك شهرًا من سائر الشهور، فدل على أن شهر رمضان وذى الحجة وما سواهما قد يكونان تسعًا وعشرين، وقد يكونان ثلاثين، فثبت بذلك أن معنى قوله‏:‏ ‏(‏شهرا عيد لا ينقصان‏)‏، ليس على نقصان العدد، ولكنه على نقصان الأحكام، والوجه عندنا أنهما لا ينقصان، وإن كانا تسعًا وعشرين فهما شهران كاملان، لأن فى أحدهما الصيام، وفى الآخر الحج، والأحكام فى ذلك متكاملة غير ناقصة، ويدل على ذلك قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏، فمن صامه ناقصًا أو تاما كان أجره واحدًا‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ إن كان أراد بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا ينقصان‏)‏‏:‏ من الأجر والحكم وإن كانا ناقصين فى العدد، فإنا نجد رمضان يصام كله، فيكون مرة تاما ومرة ناقصًا، ونقصانه فى آخره، وذو الحجة إنما يقع الحج فى العشر الأول منه، فلا حرج على أحد فى نقصانه ولا تمامه، لأن العبادة منه فى أوله خاصة‏.‏

قيل‏:‏ قد يكون فى أيام الحج من النقصان والإغماء مثل ما يكون فى آخر رمضان، وذلك أنه قد يغمى هلال ذى القعدة ويقع فيه غلط بزيادة يوم أو نقصان يوم، فإذا كان ذلك، وقع وقوف الناس بعرفة مرة اليوم الثامن من ذى الحجة، ومرة اليوم العاشر منه، وقد اختلف العلماء فى ذلك، فقالت طائفة‏:‏ من وقف بعرفة بخطأ شامل لجميع أهل الموقف فى يوم قبل يوم عرفة أو بعده أنه مجزئ عنه، لأنهما لا ينقصان عند الله من أجر المتعبدين بالاجتهاد، كما لا ينقص أجر رمضان الناقص، وهو قول عطاء، والحسن، وأبى حنيفة، والشافعى‏.‏

واحتج أصحاب الشافعى على جواز ذلك بصيام من التبست عليه الشهور أنه جائز أن يقع صيامه قبل رمضان أو بعده، قالوا‏:‏ كما يجزئ حج من وقف بعرفة قبل يوم عرفة أو بعده، وروى يحيى بن يحيى، عن ابن القاسم أنهم إن أخطئوا ووقفوا بعد يوم عرفة يوم النحر أنه يجزئهم، وإن قدموا الوقوف يوم التروية لم يجزئهم، وأعادوا الوقوف من الغد، وهذا يخرج على أصل مالك فيمن التبست عليه الشهور فصام رمضان ثم تبين له أنه أوقعه بعد رمضان أنه يجزئه، ولا يجزئه إذا أوقعه قبل رمضان، كمن اجتهد وصلى قبل الوقت أنه لا يجزئه‏.‏

وقد قال بعض العلماء‏:‏ إنه لا يقع وقوف الناس اليوم الثامن أصلا، لأنه لا يخلو من أن يكون الوقوف برؤية أو إعماء، فإن كان برؤية وقفوا اليوم التاسع، وإن كان بإغماء وقفوا اليوم العاشر‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا نَكْتُبُ وَلا نَحْسُبُ‏)‏

- فيه‏:‏ ابْنَ عُمَرَ قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىِّ، عليه السلام‏:‏ ‏(‏إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ وَلا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، يَعْنِى مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلاثِينَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فيه بيان، لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فاقدروا له‏)‏، أن معناه إكمال العدد ثلاثين يومًا، كما تأول الفقهاء، ولا اعتبار فى ذلك بالنجوم والحساب، وهذا الحديث ناسخ لراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المعول على الرؤية فى الأهلة التى جعلها الله مواقيت للناس فى الصيام والحج والعدد والديون، وإنما لنا أن ننظر من علم الحساب ما يكون عيانا أو كالعيان، وأما ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون وتكييف الهيئات الغائبة عن الأبصار فقد نهينا عنه، وعن تكلفه‏.‏

وعلة ذلك أن رسول الله إنما بعث إلى الأميين الذين لا يقرءون الكتاب، ولا يحسبون بالقوانين الغائبة، وإنما يحسبون الموجودات عيانا‏.‏

باب لا يَتَقَدَّمُ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أو يَوْمَيْنِ

- فيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ قَالَ‏:‏ النَّبِىِّ، عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إِلا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ، فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ذهبت طائفة إلى أنه لا يجوز أن يصام آخر يوم من شعبان تطوعًا إلا أن يوافق صومًا كان يصومه، وأخذوا بظاهر هذا الحديث، وروى ذلك عن عمر، وعلى، وعمار، وحذيفة، وابن مسعود، ومن التابعين سعيد بن المسيب، والشعبى، والنخعى، والحسن، وابن سيرين، وهو قول الشافعى، وكان ابن عباس، وأبو هريرة يأمران أن يفصل بين شعبان ورمضان بفطر يوم أو يومين، كما استحبوا أن يفصلوا بين صلاة الفريضة والنافلة بكلام أو قيام و تقدم أو تأخر، وقال عكرمة‏:‏ ‏(‏من صام يوم الشك فقد عصى الله ورسوله‏)‏‏.‏

وأجازت طائفة صومه تطوعا، روى عن عائشة، وأسماء أختها أنهما كانتا تصومان يوم الشك، وقالت عائشة‏:‏ ‏(‏لئن أصوم آخر يوم من شعبان أحب إلى من أن أفطر يوما من رمضان‏)‏، وهو قول مالك، والأوزاعى، وأبى حنيفة، وأحمد، وإصحاق‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وحجة هذا القول أنا إنما نكره صوم يوم الشك قطعًا أن يكون من رمضان أو على وجه المراعاة خوفا أن يكون من رمضان، فليحق بالفرض ما ليس من جنسه، فأما إذا أخلص النية للتطوع، فلم يحصل فيه معنى الشك، فإنما نيته أنه من شعبان، فهو كما يصومه عن نذر أو قضاء رمضان، وإنما النهى عن أن يصومه على أنه إن كان من رمضان فذاك وإلا فهو تطوع‏.‏

واختلفوا إذا صامه على أنه من رمضان، قال مالك‏:‏ سمعت أهل العلم ينهون عن أن يصام اليوم الذى يشك فيه من شعبان إذا نوى به رمضان، ويروى أنه من صامه على غير رؤية، ثم جاء الثبت أنه من رمضان أن عليه قضاءه، قال مالك‏:‏ وعلى هذا الأمر عندنا‏.‏

وفيه قول آخر، ذكر ابن المنذر، عن عطاء، وعمر بن عبد العزيز، والحسن أنه إذا نوى صومه من الليل على أنه من رمضان ثم علم بالهلال أول النهار أو آخره نه يجزئه، وهو قول الثورى، والأوزاعى، وأبى حنيفة، وأصحابه، وذهب ابن عمر إلى أنه يجوز صيامه إذا حال دون منظر الهلال ليلة ثلاثين من شعبان غيم وسحاب ويجزئهم من رمضان، وإن ثبت بعد ذلك أن شعبان من تسع وعشرين وبه قال أحمد بن حنبل‏:‏ وهو قول شاذ، وهذا صوم يوم الشك، وهو خلاف للحديث فلا معنى له، وقول أهل المدينة أولى لنهيه عليه السلام أن يتقدم صوم رمضان، ولقول عكرمة، وعمار‏:‏ من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ الآية

- فيه‏:‏ الْبَرَاءِ‏:‏ كَانَ أَصْحَابُ النبى، عليه السلام، إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا، فَحَضَرَ الإفْطَارُ، فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ، لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ كَانَ صَائِمًا، فأَتَى امْرَأَتَهُ، للإفطار، فَقَالَ لَهَا‏:‏ أَعِنْدَكِ طَعَامٌ، قَالَتْ‏:‏ لا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ‏:‏ خَيْبَةً لَكَ، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِىَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ، عليه السلام، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ‏:‏ ‏(‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ الآية فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا وَنَزَلَتْ‏:‏ ‏(‏وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ذكر إسماعيل بن إسحاق، عن زيد بن أسلم، وإبراهيم التينى، فالا‏:‏ كان المسلمون فى أول الإسلام يفعلون كما يفعل أهل الكتاب، إذا نام أحدهم لم يطعم حتى تكون القابلة، فنسخ الله ذلك، وقال مجاهد‏:‏ كان رجال من المسلمين يختانون أنفسهم فى ذلك، فعفا الله عنهم، وأحل لهم الأكل والشرب والجماع بعد الرقاد، وقبله فى الليل كله، وقال ابن عباس‏:‏ الرفث، الجماع، وقال‏:‏ ‏(‏وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ الولد، وهو قول مجاهد، والحسن، والضحاك وجماعة، وقال زيد بن أسلم‏)‏ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ الجماع، وقد روى أبو الجوزاء عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ابتغوا ليلة القدر، قال إسماعيل‏:‏ وقولهم أنه الجماع، فهو مذهب حسن، لأن الذى كتب لهم يدل على أنه شىء لهم فى خاصة أنفسهم، وأنه شىء قد وجب لهم، فكان المعنى، والله أعلم‏)‏ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ أى‏:‏ جامعوهن‏)‏ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ أى‏:‏ ما أحل الله لكم من ذلك بعد أن كان محضورًا عليكم، فهو شىء أوجب لهم، والولد ليس بشىء أوجب لهم ولا كتب لهم لأنه قد يولد لرجل ولا يولد لآخر‏.‏

وأما رواية أبى الجوزاء عن ابن عباس فى ليلة القدر فهو مما كتب للمسلمين، وهو شىء لا يدفع، غير أن الكلام قد سيق فى معنى الجماع، والله أعلم‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ الآية

- فِيهِ‏:‏ الْبَرَاءُ عَنِ النَّبِىِّ عليه السلام‏.‏

قَالَ عَدِىِّ‏:‏ لَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏(‏حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ من الفجر‏}‏ ‏[‏البقرة 187‏]‏ عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ أبيض، وإلى عقال أَسْوَدَ، فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِى، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِى اللَّيْلِ، فَلا يَسْتَبِينُ لِى، فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فَذَكَرْتُ ذلك لَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ سَهْلِ قَالَ‏:‏ أُنْزِلَتْ‏)‏ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ ‏(‏وَلَمْ يَنْزِلْ‏:‏ ‏(‏مِنَ الْفَجْرِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ وَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ، رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِى رِجْلِهِ الْخَيْطَ الأبْيَضَ وَالْخَيْطَ الأسْوَدَ، وَلا يَزَلْ يَأْكُلُ ويشرب حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ‏:‏ ‏(‏مِنَ الْفَجْرِ ‏(‏فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِى اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قال أبو عبيد‏:‏ الخيط الأبيض هو الصبح المصدق، والخيط الأسود هو الليل، والخيط هو النور، قال ابن المذر‏:‏ اختلف العلماء فى الوقت الذى يحرم فيه الطعام والشراب على من يريد الصوم، فذهب مالك، وأبو حنيفة، والشافعى، وأبو ثور إلى أنه يحرم الطعام والشراب عند اعتراض الفجر الآخر فى الأفق، وروى معنى هذا عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وهو قول عطاء، وعوام علماء الأمصار‏.‏

وفيه قول ثان رويناه، عن أبى بكر الصديق، وعلى، وحذيفة، وابن مسعود وغيرهم، فروينا عن سالم بن عبيد، أن أبا بكر الصديق نظر إلى الفجر مرتين ثم تسحر فى الثالثة، ثم قام فصلى ركعتين، ثم أقام بلال الصلاة، وعن على أنه قال حين صلى الفجر‏:‏ الآن حين يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وروينا عن حذيفة‏:‏ أنه لما طلع الفجر تسحر ثم صلى، وروينا عن ابن مسعود مثله‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وزاد الطحاوى‏:‏ فلما صلى حذيفة قال‏:‏ هكذا فعل رسول الله غير أن الشمس لم تطلع، وروى حماد، عن أبى هريرة أنه سمع النداء والإناء على يده فقال‏:‏ أحرزتها ورب الكعبة، وقال هشام بن عروة‏:‏ كان عروة يأمرنا بهذا، يعنى إذا سمع النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضى حاجته منه، ورواه الحسن عن النبى، عليه السلام، مرسلاً‏.‏

وقال مسروق‏:‏ لم يكونوا يعدون الفجر فجركم، إنما كانوا يعدون الفجر الذى يملأ الطرق والبيوت، قال ابن المنذر‏:‏ فتأول بعضهم قوله فى حديث عدى بن حاتم‏:‏ ‏(‏إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار‏)‏، قال‏:‏ فبياض النهار أن ينتشر فى الطرق والسكك، والبيوت، وقت صلاة المسفرين بصلاة الصبح، وذكر إسحاق بن راهويه عن وكيع أنه سمع الأعمش يقول‏:‏ لولا الشهرة لصليت الغداة ثم تسحرت‏.‏

قال إسحاق‏:‏ بعد أن ذكر ما ذكرناه عن أبى بكر وعلى وحذيفة‏:‏ هؤلاء لم يروا فرقًا بين الأكل وبين الصلاة المكتوبة، رأوا أن تصلى المكتوبة بعد طلوع الفجر المعترض ورأوا الأكل بعد طلوع الفجر المعترض صباحًا حتى يتبين بياض النهار من سواد الليل، ومال إسحاق إلى القول الأول، ثم قال‏:‏ من غير أن يطعن على هؤلاء الذين تأولوا الرخصة فى الوقت‏:‏ فمن أكل فى ذلك الوقت فلا قضاء عليه ولا كفارة إذا كان متأولا‏.‏

واحتج أصحاب مالك للقول الأول فقالوا‏:‏ الصائم يلزمه اغتراف طرفى النهار، وذلك لا يكون إلا بتقدم شىء وإن قل من السحر، وأخذ شىء من الليل، لأن عليه أن يدخل فى إمساك أول جزء من اليوم بيقين، كما أن عليه أن يدخل فى أول رمضان بيقين، والأكل مناف لأول جزء من الإمساك، فينبغى له أن يقدم الإمساك ليتحقق له أنه حصل فى طلوع الفجر ممسكا، ومن أكل حتى يتبين له الفجر ويعلمه فقد حصل أكلا فى أول اليوم‏.‏

وذكر الطحاوى حديث حذيفة، ولم يذكر حديث أبى بكر، ولا على، ولا فعل أبى هريرة، وابن مسعود، ثم قال‏:‏ فدل حديث حذيفة على أن أول وقت الصيام طلوع الشمس، وأن ما قيل طلوع الشمس ففى حكم الليل، وهذا يحتمل عندنا أن يكون بعد ما أنزل الله‏:‏ ‏(‏وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ قبل أن ينزل‏:‏ ‏(‏مِنَ الْفَجْرِ ‏(‏على مكا فى حديث سهل، ثم أنزل الله بعد ذلك‏:‏ ‏(‏مِنَ الْفَجْرِ ‏(‏وذهب علم ذلك على حذيفة، وعلمه غيره، فعمل حذيفة بما علم إذ لم يعلم الناسخ، وعلم غيره، الناسخ فصار إليه، ومن علم شيئا أولى ممن لم يعلمه فدل ما ذركناه على أن الدخول فى الصيام من طلوع الفجر، وعلى أن الخروج منه بدخول الليل، ثم كان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ ‏(‏غاية لم يدخلها فى الصيام‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فكما لم يدخل أول الليل فى الصيام، فكذلك لا يدخل أول النهار فى الإفطار‏.‏

واختلفوا فيمن أكل وهو شاك فى طلوع الفجر، فقالت طائفة‏:‏ الأكل والشرب مباح حتى يتيقن طلوع الفجر الآخر‏.‏

وروى سفيان، عن أبان، عن أنس بن مالك، عن أبى بكر الصديق قال‏:‏ ‏(‏إذا نظر الرجلان إلى الفجر فقال أحدهما‏:‏ طلع، وقال الآخر‏:‏ لم يطلع فليأكلا حتى يتبين لهما‏)‏، وعن ابن عباس قال‏:‏ أحل الله الأكل والشرب ما شككت‏.‏

وروى وكيع، عن عمارة بن زاذان، عن مكحول قال‏:‏ رأيت عمر أخذ دلوا من زمزم ثم قال لرجلين‏:‏ أطلع الفجر‏؟‏ فقال أحدهما‏:‏ لا، وقال الآخر‏:‏ نعم فشرب، ومكحول هذا ليس بالشامى، وهو قول عطاء، وأبى حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، كلهم قال‏:‏ لا قضاء عليه، وليس كمن يأكل، وهو يشك فى غروب الشمس‏.‏

وقال مالك‏:‏ من أكل وهو شاك فى الفجر فعليه القضاء‏.‏

وقال ابن حبيب‏:‏ والقضاء عنده استحباب، إلا أن يعلم أنه أكل بعد الفجر فيصير واجبًا كمن أفطر وظن أنه قد أمسى ثم ظهرت الشمس، واحتج ابن حبيب لقول من أباح الأكل بالشك قال‏:‏ هو القياس، لقول الله‏:‏ ‏(‏وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏، قال ابن الماجشون‏:‏ وهو العلم به، وليس الشك علمًا به، ولكن الاحتياط أن لا يأكل فى الشك‏.‏

ومن حجة العراقيين فى سقوط القضاء قالوا‏:‏ إذا شك فى طلوعه فالأصل بقاء الليل، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ‏(‏فلم يمنعهم من الأكل حتى يستبين لهم الفجر، قاله الثورى، وهذا قد أكل قبل أن يتبين له، فلا معنى للقضاء‏.‏

قالوا‏:‏ ومذهب العلماء البناء على اليقين، ولا يوجب الشىء بالشك، والليل عنده يقينى، فلا يزال إلا بيقين، وبهذا وردت السنة فى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من شك فى صلاته فلم يدر أثلاثًا صلى أم أربعًا، فليبن على اليقين‏)‏، ومن شك هل زالت الشمس لم تلزمه الصلاة‏.‏

قالوا‏:‏ وقد اتفقنا أنه إذا أكل يوم الشك أنه لا قضاء عليه إذا لم يتبين أنه من رمضان، ومسألتنا كذلك، وقد أكل فى زمن يجوز أن يكون من الليل، ويجوز أن يكون من النهار، فلم يلتفت إلى التجويز مع استصحاب حكم الليل، كما لم يوجب الإعادة فى يوم الشك مع استصحاب حكم شعبان‏.‏

قالوا‏:‏ وهذه المسألة مبنية على أصولنا فيمن تيقن بالطهارة ثم شك فى الحديث‏.‏

واحتج أصحاب مالك لإيجاب فقالوا‏:‏ الطعام والشراب يحرم عند اعتراض الفجر الآخر، وصوم رمضان عليه بيقين، ولا يسقط حكم الصوم إلا بيقين، ومن شك هل أكل بعد الفجر أو قبله فليس يتيقن دخوله فى الإمساك، وهو كمن شك فى غروب الشمس فأكل، وكمن شك فى زوال الشمس فلا تجزئه الصلاة، لأن الوقت عليه بيقين، وكذلك لو شك فى دخول رمضان فصام على الشك لم يجزئه عن رمضان، وكذلك لو شك هل كبر للإحترام لم يجزئه، لأن عليه الدخول فى الصلاة بيقين كما يدخل فى وقتها بيقين، كذلك عليه أن يدخل فى أول جزء من اليوم بيقين، كما عليه أن يدخل فى أول رمضان بيقين، أعنى باعتقاد صحيح، قاله ابن القصار‏.‏

وقد فرق ابن حبيب بين من أكل وهو شاك فى الفجر، وبين من أكل وهو شاك فى غروب الشمس، وسنذكر ذلك فى باب إذا أفطر فى رمضان ثم طلعت عليه الشمس، إن شاء الله‏.‏

واختلف أصحاب مالك فيمن طلع عليه الفجر، وهو يأكل أو يطأ، فقال ابن القاسم‏:‏ فليلق ما فى فمه، ولينزل عن امرأته، ولم يفرق بين الأكل والوطء، وقال ابن الماجشون‏:‏ ليس الأكل كالجماع، لأن إزالته لفرجه جماع بعد الفجر، ولكن لم يبتدئه ولم يتعمده، فعليه القضاء إذا تنحى مكانه، فإن عاد أو خضخض فعليه القضاء والكفار، وهو قول الشافعى‏.‏

وقال أبو حنيفة والمزنى‏:‏ لا كفارة عليه، واحتجوا بأنه إذا أولج ثم قال‏:‏ إن جامعتك فأنت طلق، فلبث فإنه لا حنث عليه ولا مهر، فلم يجعلوا اللبث كالإيلاج فى وجوب المهر والحد، وجعلتم اللبث هاهنا كاٌيلاج فى وجوب الكفار، وفى حديث عدى وسهل أن الحكم للمعانى لا للألفاظ، بخلاف قول أهل الظاهر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فعلموا‏:‏ إنما يعنى الليل والنهار‏)‏، حجة فى أن النهار من طلوع الفجر، وذكر البخارى فى التفسير زيادة فى حديث عدى بن حاتم، قال‏:‏ ‏(‏إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين‏)‏، قال الخطابى‏:‏ وعريض القفا يفسر على وجهين‏:‏ أحدهما أن يكون كناية عن العبارة أو سلامة الصدر، يقال للرجل الغبى‏:‏ إنك لعريض القفا‏.‏

والوجه الآخر‏:‏ أن يكون أراد إنك غليظ الرقبة وافر اللحم، لأن من أكل بعد الفجر لم ينهكه الصوم ولم يبن له أثر فيه‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِىِّ‏:‏ ‏(‏لا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلالٍ‏)‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ‏:‏ أَنَّ بِلالا كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ لا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ‏)‏، قَالَ الْقَاسِمُ‏:‏ ‏(‏وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَذَانِهِمَا إِلا أَنْ يَرْقَى ذَا وَيَنْزِلَ ذَا‏)‏‏.‏

معنى حديث عائشة، ومعنى لفظ الترجمة واحد وإن اختلف اللفظ، ولم يصح عند البخارى عن النبى، عليه السلام، حديث لفظ الترجمة، واستخرج معناه من حديث عائشة، ولفظ الترجمة رواه، وكيع عن أبى هلال، عن سوادة بن حنظلة، عن سمرة بن جندب، قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير فى الأفق‏)‏، وقال الترمذى‏:‏ وهو حديث حسن‏.‏

قال المهلب‏:‏ والذى يفهم من اختلاف ألفاظ هذا الحديث أن بلالا كانت رتبته وخطئه أن يؤذن بليل على ما أمره به النبى، عليه السلام، من الوقت، ليرجع القائم وينبه النائم، وليدرك السحور منهم من لم يتسحر، وقد روى هذا كله ابن مسعود عن النبى، عليه السلام، فكانوا يتسحرون بعد أذانه‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ فى هذا الحديث قرب أذان ابن أم مكنوم من ذانن بلال الذى كان يؤذنه بالليل‏.‏

قال الداودى‏:‏ قوله‏:‏ لم يكن بين أذانيهما إلا أن ينزل ذا ويرقى ذا، وقد قيل له‏:‏ أصبحت أصبحت، دليل أن ابن أم مكتوم كان يراعى قرب طلوع الفجر أو طلوعه، لأنه لم يكن يكتفى بأذان بلال فى عمل الوقت، لأن بلالا فيما يدل عليه الحديث كان تختلف أوقاته، وإنما حكى من قال‏:‏ ينزل ذا ويطلع ذا، ما شاهد فى بعض الأوقات، ولو كان فعله لا يختلف اكتفى به النبى، عليه السلام، ولم يقل‏:‏ ‏(‏كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم‏)‏، ولقال‏:‏ فإذا فرغ بلال فكفوا، ولكنه جعل أول أذا ابن أم مكتوم علامة للكف، ويحتمل أن يكون لابن أم مكتوم من يراعى له الوقت، ولولا ذلك لكان ربما خفى عنه الوقت، ويبين ذلك ما روى ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم قال‏:‏ كان ابن أم مكتوم ضرير البصر، ولم يكن يؤذن حتى يقول له الناس حين ينظرون إلى فروع الفجر‏:‏ أذن، وقد روى الطحاوى عن على بن معبد، عن روح، عن شعبة، قال‏:‏ سمعت خبيب بن عبد الرحمن يحدث عن عمته أنيسة، وكانت قد حجت مع النبى أنها قالت‏:‏ كان إذا نزل بلال وأراد أن يصعد ابن أم مكتوم تعلقوا به وقالوا‏:‏ كما أنت حتى نتسحر‏.‏

باب تعجيل السَّحُورِ

- فيه‏:‏ سَهْلِ قَالَ‏:‏ ‏(‏كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِى أَهْلِى، ثُمَّ تَكُونُ سُرْعَتِى أَنْ أُدْرِكَ السُّجُودَ مَعَ النبى، عليه السلام‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ تعجيل السحور، إنما يريد تعجيل الأكل فيه، لمراهقتهم بالأكل والشرب لآخر الليل ابتغاء القوة على الصوم، ولبيان علم الصبح بالفجر الأول ولم يحتج أن يجعل له حريم مع العلم عليه، وروى مالك عن عبد الله بن أبى بكر، قال‏:‏ سمعت أبى يقول‏:‏ ‏(‏كنا ننصرف فى رمضان فنستعجل الخدم بالطعام مخافة الفجر‏)‏، وكان رسول الله يغلس بالصبح ليتمكن من طول القراءة وترتيلها، ليدرك المتفهم التفهم والتدبر، وليمتثل قول الله فى الترتيل والتدبير، ولو ترجم له باب‏:‏ تأخير السحور لكان حسنًا‏.‏

باب قَدْرِ كَمْ بَيْنَ السَّحُورِ وَصَلاةِ الْفَجْرِ

- فيه‏:‏ زَيْدِ ابْنِ ثَابِتٍ، قَالَ‏:‏ ‏(‏تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السلام، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاةِ، قُلْتُ‏:‏ كَمْ كَانَ بَيْنَ الأذَانِ وَالسَّحُورِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا يدل على تأخير السحور ليتقوى به على الصوم، وإنما كان يؤخره إلى الفجر الأول الذى هو البياض المعترض فى الأفق، ولذلك جعل الله الفجر الأول حدا للأكل بقدر ما يتم أكله ويطلع الفجر الثانى، ولولا هذا الفجر الأول لصعب ضبط هذا الوقت على الناس، فقيل لهم‏:‏ إذا رأيتم الفجر الأول فهو نذير بالثانى، وهو بأثره بقدر ما يتعجل الأكل وينهض إلى الصلاة‏.‏

وفيه‏:‏ دليل على تقدير الأوقات بأعمال الأبدان، والاستدلال على المغيب بالعادة فى العمل، ألا ترى فى حديث طلوع الشمس من مغربها أنه لا يعرف تلك الليلة التى تطلع من صبيحتها إلا المتهجدون بتقدير الليل بمقدار صلاتهم وقراءتهم المعتادة، والعرب تقدر الأوقات بالأعمال، فيقولون‏:‏ قدر حلب شاة، وفواق ناقة‏.‏

باب بَرَكَةِ السَّحُورِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ

لأنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، وَأَصْحَابَهُ وَاصَلُوا وَلَمْ يُذْكَرِ السَّحُورُ - فيه‏:‏ ابن عمر‏:‏ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، وَاصَلَ فَوَاصَلَ النَّاسُ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَنَهَاهُمْ، قَالُوا‏:‏ إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ‏:‏ ‏(‏لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّى أَظَلُّ أُطْعَمُ وَأُسْقَى‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَسَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ، عليه السلام‏:‏ ‏(‏تَسَحَّرُوا، فَإِنَّ فِى السَّحُورِ بَرَكَةً‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ أجمع العلماء أن السحور مندوب إليه مستحب، ولا مأثم على من تركه، وحض أمته عليه السلام، عليه ليكون قوة لهم على صيامهم، وروى ابن عباس عن النبى، عليه السلام، أنه قال‏:‏ ‏(‏استعينوا بأكل السحر على صيام النهار، وبقائلة النهار على قيام الليل‏)‏، وقد سماه عليه السلام الغداء المبارك من حديث العرباض بن سارية، وروى عمرو بن العاص عن النبى، عليه السلام، أنه قال‏:‏ ‏(‏فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر‏)‏، ذكر هذه الآثار ابن المنذر‏.‏

وقول البخارى فى هذه الترجمة أن الرسول وأصحابه واصلوا، ولم يذكر سحوره غفلة منه، لأنه قد خرج فى باب الوصال حديث أبى سعيد أن الرسول قال لأصحابه‏:‏ ‏(‏أيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر‏)‏، وفهم من ذلك أنه، عليه السلام، أراد قطع الوصال بالأكل فى السحر فحديث أبى سعيد مفسر يقضى على المجمل الذى لم يذكر فيه سحور، وقد ترجم له البخارى باب‏:‏ الوصال إلى السحر‏.‏

باب إِذَا نَوَى بِالنَّهَارِ صَوْمًا

وَقَالَتْ أُمَّ الدَّرْدَاءِ‏:‏ كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ‏:‏ عِنْدَكُمْ طَعَامٌ‏؟‏ فَإِنْ قُلْنَا‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ إِنِّى صَائِمٌ يَوْمِى هَذَا، وَفَعَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَحُذَيْفَةُ‏.‏

- فيه‏:‏ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ‏:‏ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، بَعَثَ رَجُلا يُنَادِى فِى النَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ، أَوْ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلا يَأْكُلْ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ عرض البخارى فى هذا الباب إجازة صوم النافلة بغير تبييت، وذكر ذلك عن بعض الصحابة، وقد روى عن ابن مسعود، وأبى أيوب الأنصارى أيضًا إجازة ذلك، وذكره الطحاوى عن عثمان بن عفان، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، كلهم يجيز أن ينوى النافلة بالنهار، واحتجوا بحديث سلمة بن الأكوع هذا وبحديث عائشة بنت طلحة عن عائشة أن النبى، عليه السلام، كان يدخل على بعض أزواجه فيقول‏:‏ ‏(‏هل عنكم من غداء‏؟‏ فإذا قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ فإنى إذا صائم‏)‏، وقال الكوفيون، والشافعى‏:‏ يجزئه أن ينوى صوم النافلة بعد الزوال‏.‏

وذهب مالك، وابن أبى ذئب، والليث، والمزنى إلى أنه لا يصح صيام التطوع إلا بنية من الليل كالفرضسواء، وهو مذهب ابن عمر، وعائشة وحفصة، وحجتهم ما رواه الليث عن يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن أبى بكر، عن الزهرى، عن سالم، عن أبيه، عن حفصة، عن النبى، عليه السلام، أنه قال‏:‏ ‏(‏من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له‏)‏ قال النسائى‏:‏ الصواب فى هذا الحديث أنه موقوف، لأن يحيى بن أيوب ليس بالقوى‏.‏

واحتج ابن القصار بعموم هذا القول، ولم يفرق بين فريضة ولا نافلة، واحتج أيضًا بقوله‏:‏ ‏(‏الأعمال بالنيات‏)‏، وكل جزء من النهار الإمساك فيه عمل، فلا يصح بغير نية فى الشرع، ولنا أن نقيس الصيام على الصلاة، لأنه لم يختلف فرضها ونفلها فى باب النية‏.‏

قالوا فى حديث سلمة بن الأكوع‏:‏ إن صوم عاشوراء منسوخ فنسخت شرائطه، فلا يجوز رد غيره إليه، وحديث عائشة رواه طلحة بن يحيى، واضطرب فى إسناده، فرواه عنه طائفة عن مجاهد، عن عائشة، وروته طائفة عنه عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين ومنهم من لا يقول فيه‏:‏ ‏(‏إذًا‏)‏ ويقول‏:‏ ‏(‏إنى صائم‏)‏‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ يحتمل أن يكون معناه أن يسألهم عليه السلام عن الغداء ليعلم هل عندهم شىء، وهم يظنون أنه يتغدى، وهو ينوى الصوم ليقول لهم‏:‏ اجعلوه للإفطار، فتسكن نفسه إليه، فلا يتكلف ما يفطر عليه، فلما قالوا له‏:‏ ‏(‏لا‏)‏ قال‏:‏ ‏(‏إنى صائم إذا‏)‏، أى أنى كما كنت، أو إنى بمنزلة الصائم، ويحتمل أن يكون عزم على الفطر لعذر وجده، فلما قيل له‏:‏ ليس عندنا شىء، تمم الصوم، وقال‏:‏ إنى صائم كما كنت، وإذا احتمل هذا كله لم تخص الظواهر به، والأصول تشهد لما قلنا‏.‏

واحتج الكوفيون بحديث سلمة بن الأكوع، وقالوا‏:‏ هو حجة لنا فى أن كل صوم فرض فى وقت معين فإنه لا يحتاج إلى تبييت من الليل كالنذر المعين، ويجوز أن ينوى له بالنهار قبل الزوال، وكل صوم واجب فى الذمة ولا يتعلق بوقت معين فلابد فيه من النية فى الليل، قالوا‏:‏ ألا ترى أن النبى، عليه السلام، أمر الناس بيوم عاشوراء بعد ما أصبحوا أن يصوموا، وهو يومئذ عليهم فرض كما صار صوم رمضان بعد ذلك على الناس فرضا، وكان تصحيح هذه الأخبار أن يحمل حديث عاشوراء فى صوم الفرض فى اليوم المعين، لأن عاشوراء فرض فى يوم معين كرمضان فرض فى أيام معينة، فلما كان يجزئ صوم عاشوراء من نوى صومه بعد ما أصبح، كذلك شهر رمضان‏.‏

وقال الأوزاعى‏:‏ كقول أبى حنيفة، وذهب مالك، والليث، والشافعى، وأحمد إلى أنه لابد فى صوم الفرض من نية متقدمة فى الليل، واحتج ابن القاصر لهم فقال‏:‏ إنا لا نسلم استدلال من خالفنا بحديث سلمة بن الأكوع أن صوم عاشوراء كان واجبًا، بدليل قوله فيه‏:‏ ‏(‏من أكل فليصم‏)‏، فأمر من كان آكلاً بالإمساك، ولم يأمره بالقضاء، ولو كان واجبًا لأمره بقضائه، وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏نحن أحق بصيامه‏)‏، يدل أنه كان على وجه التطوع حين نسخ برمضان، فزال حكمه، ولو قلنا‏:‏ إن صومه كان واجبًا، لقلنا‏:‏ إن صومه إنما وجب فى الوقت الذى أمر به، وقد زال ذلك بزواله، فحصلت النية متقدمة عليه، ولا يقاس عليه وسأتقصى الكلام فى صوم عاشوراء فى بابه بعد هذا، إن شاء الله‏.‏

باب الصَّائِمِ يُصْبِحُ جُنُبًا

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ‏:‏ ‏(‏أَنْ النَّبىُّ، عليه السلام، كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ، وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ‏)‏، وَقَالَ مَرْوَانُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ‏:‏ أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتُقَرِّعَنَّ بِهَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَمَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ فَكَرِهَ ذَلِكَ عَبْدُالرَّحْمَنِ، ثُمَّ قُدِّرَ لَنَا أَنْ نَجْتَمِعَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، وَكَانَتْ لأبِى هُرَيْرَةَ هُنَاكَ أَرْضٌ، فَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ لأبِى هُرَيْرَةَ‏:‏ إِنِّى ذَاكِرٌ لَكَ أَمْرًا وَلَوْلا مَرْوَانُ أَقْسَمَ عَلَىَّ فِيهِ لَمْ أَذْكُرْهُ لَكَ، فَذَكَرَ قَوْلَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ‏:‏ كَذَلِكَ حَدَّثَنِى الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَهُنَّ أَعْلَمُ، وَقَالَ هَمَّامٌ، وَابْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ‏:‏ ‏(‏كَانَ النَّبِىُّ، عليه السلام، يَأْمُرُ بِالْفِطْرِ‏)‏ وَالأوَّلُ أَسْنَدُ‏.‏

وأجمع فقهاء الأمصار على الأخذ بحديث عائشة، وأم سلمة فى من أصبح جنبًا أنه يغتسل ويتم صومه، وقال ابن المنذر‏:‏ وروى عن الحسن البصرى فى أحد قوليه أنه يتم صومه ويقضيه، وعن سالم بن عبد الله مثله، واختلف فيه عن أبى هريرة، فأشهر قوليه عند أهل العلم‏:‏ أنه لا صوم له، وفيه قول ثالث عن أبى هريرة، قال‏:‏ إذا علم بجنابته ثم نام حتى يصبح فهو مفطر، وإن لم يعلم حتى يصبح فهو صائم‏.‏

وروى ذلك عن طاوس، وعروة بن الزبير، وعن النخعى قول رابع‏:‏ وهو أن ذلك يجزئه فى التطوع، ولا يجزئه فى الفرض، واحتجوا بحديث أبى هريرة أن النبى، عليه السلام، قال‏:‏ ‏(‏من أصبح جنبًا أفطر ذلك اليوم‏)‏، ولم يقل أحد به من فقهاء الأمصار غير الحسن بن صالح‏.‏

واحتج ربيعة بن أبى عبد الرحمن لجماعة الفقهاء بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ فأباح لنا الأكل والجماع إلى طلوع الفجر، فوجب أن يقع الغسل بعد طلوع الفجر، ولولا أن الغسل إذا وقع بعد طلوع الفجر أجزأ الصوم لما أباح الجماع إلى وقت طلوعه، ذكره ابن القصار‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ وحجة الجماعة حديث عائشة وأم سلمة، وأيضًا فإن أبا هريرة الذى روى حديث الفضل قد رجع عن فتياه إلى قول عائشة وأم سلمة، ورأى ذلك أولى مما حدثه به الفضل عن النبى، عليه السلام، وروى منصور عن مجاهد، عن أبى بكر بن عبد الرحمن، أن أنا هريرة رجع عن ذلك لحديث عائشة، وروى محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة أنه نزع عن ذلك أيضًا‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ والنظر فى ذلك أنا رأيناهم قد أجمعوا أن صائمًا لو نام نهارًا فأجنب أن ذلك لا يخرجه عن صومه، فأردنا أن ننظر هل يكون حكم الجنابة إذا طرأت على الصوم خلاف حكم الصوم إذا طرأ عليها‏؟‏ فرأينا الأشياء التى تمنع من الدخول فى الصوم من الحيض والنفاس إذا طرأ ذلك على الصوم، أو طرأ عليه الصوم فهو سواء، ألا ترى أنه ليس لحائض أن تدخل فى الصوم وهى حائض، وأنها لو دخلت فى الصوم طاهرًا ثم طرأ عليها الحيض فى ذلك اليوم أنها بذلك خارجة من الصوم، وكان حكم الجنابة إذا طرأت على الصوم لم تبطله بإجماعهم، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك إذا طرأ عليها الصوم لم تمنع من الدخول فيه‏.‏

وفى حديث الباب من الفقه أن الشىء إذا نوزع فيه وجب رده إلى من يظن علمه عنده، لأن أزواج النبى أعلم الناس بهذا المعنى، وفيه‏:‏ أن الحجة القاطعة عند الاختلاف فيما لا نص فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه اعتراف العالم بالحق وإنصافه إذا سمع الحجة، وقد ثبت أن أبا هريرة لم يسمع ذلك من النبى، عليه السلام، ففى رواية الزهرى، عن أبى بكر بن عبد الرحمن، عن أبى هريرة أنه قال‏:‏ حدثنيه الفضل بن عباس، وفى رواية المقبرى، عن أبى هريرة، قال‏:‏ حدثنيه ابن عباس، وفى رواية عمر بن أبى بكر بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده، عن أبى هريرة، قال‏:‏ هن أعلم برسول الله منا حدثنيه أسامة بن زيد‏.‏

ذكره النسائى‏.‏

باب الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ

وَقَالَتْ عَائِشَةُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ فَرْجُهَا‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ‏:‏ ‏(‏كَانَ النَّبِىُّ، عليه السلام، يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ، وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لإرْبِهِ‏)‏، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ مَآرِبُ‏:‏ حَاجَةٌ، قَالَ طَاوُسٌ‏:‏ أُولِى الإرْبَةِ‏:‏ الأحْمَقُ لا حَاجَةَ لَهُ فِى النِّسَاءِ‏.‏

وقال جابر بن زيد‏:‏ إن نظر فأمنى يتم صومه‏.‏

والمباشرة والقبلة للصائم حكمهما واحد، وقال أشهب‏:‏ القبلة أيسر من المباشرة، وقال ابن حبيب‏:‏ المباشرة والملاعبة، والقبلة، وإدامة النظر، والمحادثة تنقص أجر الصائم، وإن لم تفطره‏.‏

واختلفوا فى المباشرة، فكرهها قوم من السلف، وروى ابن وهب عن ابن أبى ذئب، أن شعبة مولى ابن عباس حدثه أن ابن عباس كان ينهى الصائم عن القبلة، والمباشرة، قال‏:‏ وأخبرنى رجال من أهل العلم عن ابن عمر مثله، وروى حماد بن سلمة، عن عائشة أنها كرهت ذلك، وروى مثله عن ابن المسيب، وعطاء، والزهرى، ورخص فيه آخرون، روى عن ابن مسعود أنه كان يباشر امرأته نصف النهار، وهو صائم، وعن سعد بن أبى وقاص مثله، وروى أبو قلابة عن مسروق أنه سأل عائشة‏:‏ ما يحل للرجل من امرأته وهو صائم‏؟‏ قالت‏:‏ كل شىء إلا الجماع، وكان عكرمة يقول‏:‏ لا بأس بالمباشرة للصائم، لأن الله أحل له أن يأخذ بيدها وأدنى جسدها ولا يأخذ بأقصاه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وكل من رخص فى المباشرة للصائم فإنما ذلك بشرط السلام مما يخاف عليه من دواعى اللذة والشهوة، ألا ترى قول عائشة عن النبى، عليه السلام‏:‏ ‏(‏وكان أملككم لإربه‏)‏‏.‏

ولهذا المعنى كرهها من كرهها، وروى حماد عن إبراهيم، عن الأسيود‏:‏ ‏(‏أنه سأل عائشة عن المباشرة للصائم، فكرهتها، فقلت‏:‏ بلغنى أن النبى، عليه السلام، كان يباشر وهو صائم، فقالت‏:‏ أجل، إن رسول الله كان أملك لإربه من الناس أجمعين‏)‏‏.‏

وحماد عن داود، عن سعيد، عن ابن عباس أن رجلا قال له‏:‏ إنى تزوجت ابنة عم لى جميلة فبنيت فى رمضان، فهل لى إن قبلتها من سبيل‏؟‏ قال‏:‏ هل تملك نفسك‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ قبل‏.‏

قال‏:‏ فهل لى إلى مباشرتها من سبيل‏؟‏ قال‏:‏ هل تملك نفسك‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فباشر‏.‏

قال‏:‏ فهل لى أن أضرب بيدى على فرجها من سبيل‏؟‏ قال‏:‏ هل تملك نفسك‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فاضرب‏.‏

وقال مالك فى المختصر‏:‏ لا أحب للصائم فى فرض أو تطوع أن يباشر أو يقبل، فإن فعل ولم يمذ فلا شىء عليه، فإن أمذى فعليه القضاء، وهو قول مطرف، وابن الماجشون، وأحمد بن حنبل، وقال بعض البغداديين من أصحاب مالك‏:‏ القضاء فى ذلك عندنا استحباب، وروى عيسى عن ابن القاسم أنه إن أنعظ وإن لم يمذ فإنه يقضى، وأنكره سحنون، وهو خلاف قول مالك، وقال أبو حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأبو ثور‏:‏ لا شىء عليه إذا أمذى، وهو قول الحسن والشعبى، وحجتهم أن اسم المباشرة ليس على ظاهره، وإنما هو كناية عن الجماع، ولم يختلف العلماء أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ ‏(‏يراد به الجماع، فكل مباشرة اختلفوا فيها فالواجب ردها إلى ما أجمعواعليه منها‏.‏

واختلفوا إذا باشر أو جامع دون الفرج فأمنى، فقال أبو حنيفة والثورى والشافعى‏:‏ عليه القضاء فقط، لأن الكفارة إنما تجب عندهم بالإيلاج فى الفرج والجماع التام، وقال عطاء‏:‏ عليه القضاء مع الكفارة، وهو قول الحسن البصرى، وابن شهاب، ومالك، وابن المبارك، وأبى ثور، وإسحاق، وحجة هذا القول أنه إذا باشر أو جامع دون الفرج فأنزل فقد حصل المعنى المقصود من الجماع، لأن الإنزال أقصى ما يطلب من الالتذاذ، وهو من جنس الجماع التام فى إفساد الصوم، فقد وجبت فيه الكفارة‏.‏