فصل: باب غَسْلِ الْخَلُوقِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنَ الثِّيَابِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب غَسْلِ الْخَلُوقِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنَ الثِّيَابِ

- فيه‏:‏ يَعْلَى أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ‏:‏ أَرِنِى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ يُوحَى إِلَيْهِ، قَالَ‏:‏ فَبَيْنَمَا النَّبِىُّ عليه السَّلام بِالْجِعْرَانَةِ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِى رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ، فَسَكَتَ عليه السَّلام سَاعَةً، فَجَاءَهُ الْوَحْىُ، فَأَشَارَ عُمَرُ إِلَى يَعْلَى، فَجَاءَ يَعْلَى، وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحْمَرُّ الْوَجْهِ وَهُوَ يَغِطُّ، ثُمَّ سُرِّىَ عَنْهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَيْنَ الَّذِى سَأَلَ عَنِ الْعُمْرَةِ‏)‏‏؟‏ فَأُتِىَ بِرَجُلٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اغْسِلِ الطِّيبَ الَّذِى بِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَانْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاصْنَعْ فِى عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِى حَجَّتِكَ‏)‏، قُلْتُ لِعَطَاءٍ‏:‏ أَرَادَ الإنْقَاءَ حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَغْسِلَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ‏.‏

كان هذا الحديث بالجعرانة فى منصراف النبى عليه السلام من غزوة حنين، وفى ذلك الموضع قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين، وقال الطحاوى‏:‏ ذهب قوم إلى هذا الحديث، فكرهوا التطيب عند الإحرام، وهو قول عمر، وعثمان، وابن عمر، وعثمان بن أبى العاص، وعطاء، والزهرى، ومالك، ومحمد بن الحسن، وخالفهم فى ذلك آخرون، فأجازوا الطيب عند الإحرام‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وسأذكرهم فى الباب بعد هذا إن شاء الله، وقالوا‏:‏ لا حجة فى حديث يعلى لمن خالفنا؛ لأن ذلك الطيب الذى كان على الرجل إنما كان صفرة خلوق، وذلك مكروه للرجال فى حال الإحلال والإحرام، وإنما نبيح من الطيب عند الإحرام ما هو حلال فى حال الإحلال، وقد بيَّن ذلك ما رواه همام عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه، عن النبى عليه السلام أنه قال له‏:‏ ‏(‏اغسل عنك أثر الخلوق أو الصفرة‏)‏ فأمره بغسله لما ثبت من نهيه عليه السلام أن يتزعفر الرجل فى حال الإحلال والإحرام؛ لأنه من طيب النساء، لا لأنه طيب تطيب به بعد الإحرام، وليس فى ذلك دليل على حكم من أراد الإحرام‏:‏ هل له أن يتطيب بطيب يبقى عليه بعد الإحرام أم لا‏؟‏ قالوا‏:‏ وقد ثبت عن عائشة أنها كانت تطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه بأطيب ما تجد‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وسيأتى الجواب عن حديث عائشة لمن لم يجز الطيب عند الإحرام فى الباب بعد هذا إن شاء الله‏.‏

واحتج الطحاوى لمحمد بن الحسن فى رد هذا التأويل المتقدم‏.‏

فقال‏:‏ الحجة لمنع الطيب عند الإحرام من طريق النظر أن الإحرام يمنع من لبس الثياب كلها، ويمنع من الطيب، ومن قتل الصيد وإمساكه، فلما أجمعوا أن الرجل إذا لبس قميصًا قبل أن يحرم ثم أحرم وهو عليه؛ أنه يؤمر بنزعه، وإن لم ينزعه وتركه بعد إحرامه كان كمن لبسه بعد إحرامه لبسًا مستقبلا، وتجب عليه الفدية، وكذلك لو اصطاد وهو حلال فأمسكه بيده ثم أحرم أمر بتخليته، وإلا كان كابتداء الصيد فى إحرامه، فلما صح ما ذكرناه وكان التطيب محرمًا على المحرم بعد إحرامه كحرمة هذه الأشياء، كان ثبوت الطيب عليه بعد إحرامه، وإن كان قد تطيب به قبل إحرامه كتطيبه به بعد إحرامه قياسًا ونظرًا، وبه يأخذ الطحاوى‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وأما قول من أباح الطيب قبل الإحرام أن الخلوق والصفوة نهى عن الرجال فى حال الإحلال والإحرام، فليس كذلك عند من منع الطيب للإحرام، وإن نهى النبى عليه السلام أن يتزعفر الرجل إنما هو محمول عند أهل المدينة على أن المراد به حال الإحرام فقط، وأنه مباح فى الإحلال، ولهم فى ذلك حجج سأذكرها فى كتاب اللباس والزينة عند نهيه عليه السلام أن يتزعفر الرجل إن شاء الله‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه من الفقه أن السنن قد تكون بوحى من الله كما كان غسل الطيب فى هذا الحديث بالوحى، ولم يقل أحد أنه فرض، وفيه وجوب التثبت للعالم فيما يسئل عنه، وإن لم يعرفه سأل من فوقه كما فعل النبى عليه السلام، وفيه أن غسل الطيب عند الإحرام ينبغى أن يبالغ فى إزالته؛ ألا ترى أنه أمره بغسله ثلاث مرات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏اصنع فى عمرتك ما تصنع فى حجتك‏)‏‏:‏ يعنى اجتنب فى عمرتك كل ما تجتنب فى حجتك؛ ألا ترى قول ابن عمر‏:‏ ما أمرُهما إلا واحد‏.‏

يعنى فى الإحرام والحرمة، وكذلك كل ما يستحسن من الدعاء والتلبية فى الحج فهو مستحسن فى العمرة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وقد احتج بعض من أسقط الفدية عمن جهل، فلبس فى إحرامه ما ليس له لبسه، وجعل الناسى فى معناه، بحديث الجبة؛ لأن النبى عليه السلام أمره بنزعها ولم يأمره بالفدية، وهو قول عطاء، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقال مالك‏:‏ من ابتاع خفين فجربهما فى رجليه، فإن كان شيئًا خفيفًا فلا شىء عليه، وإن تركهما حتى منعه ذلك من حر أو برد أو مطر افتدى، وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ إن غطى المحرم وجهه ورأسه متعمدًا أو ناسيًا يومًا إلى الليل فعليه دم، وإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة يتصدق بها‏.‏

باب الطِّيبِ عِنْدَ الإحْرَامِ وَمَا يَلْبَسُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَتَرَجَّلَ وَيَدَّهِنَ

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ يَشَمُّ الْمُحْرِمُ الرَّيْحَانَ، وَيَنْظُرُ فِى الْمِرْآةِ، وَيَتَدَاوَى بِمَا يَأْكُلُ الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ‏.‏

وقال عَطَاءٌ‏:‏ يَتَخَتَّمُ وَيَلْبَسُ الْهِمْيَانَ‏.‏

وَطَافَ ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَدْ حَزَمَ عَلَى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ، وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ بِالتُّبَّانِ بَأْسًا لِلَّذِينَ يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أنَّهُ كَانَ يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ، قَالَ سعيد بن جبير‏:‏ فَذَكَرْتُهُ لإبْرَاهِيمَ، فقَالَ‏:‏ مَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ‏:‏ حَدَّثَنِى الأسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِى مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لإحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ‏.‏

أجاز الطيب قبل الإحرام من الصحابة‏:‏ سعد بن أبى وقاص، وابن عباس، وأبو سعيد الخدرى، وابن الزبير، وعائشة، وأم حبيبة، ومن التابعين‏:‏ عروة، والقاسم بن محمد، والشعبى، والنخعى، وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واحتجوا بحديث عائشة أنها كانت تطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم‏.‏

واعتل الذين لم يجيزوا الطيب للإحرام، الذين ذكرتهم فى الباب قبل هذا، بأن قالوا‏:‏ يحتمل أن يكون عليه السلام مخصوصًا بالطيب؛ لأنه أملك لإربه من سائر أمته، وأن الطيب إنما مُنِعَ فى الإحرام؛ لأنه داعية إلى الجماع ويذكر النساء، فكان أملك لإربه، فلذلك تطيب، قاله ابن القصار والمهلب، وزاد المهلب معنى آخر أنه خص عليه السلام بالطيب عند الإحرام لمباشرته الملائكة بالوحى وغيره‏.‏

واعتل الطحاوى فى دفع حديث عائشة بما رواه شعبة وسفيان ومسعر، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه قال‏:‏ ‏(‏سألت ابن عمر عن الطيب عند الإحرام فقال‏:‏ لأن أطلى بقطران أحب إلى من أن أصبح محرمًا ينضح منى ريح الطيب، قال‏:‏ فدخلت على عائشة فأخبرتها بقول ابن عمر فقالت‏:‏ يرحم الله أبا عبد الرحمن، طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف على نسائه ثم أصبح محرمًا‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقد بان بهذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه بعد التطيب، وإذا طاف على نسائه اغتسل لا محالة، فكان بين إحرامه وتطييبه غسل، قال‏:‏ فكأن عائشة إنما أرادت بهذا الحديث الاحتجاج على من كره أن يوجد من المحرم بعد إحرامه ريح الطيب كما كره ذلك ابن عمر، وأما بقاء نفس الطيب على بدن المحرم بعدما أحرم فإن كان إنما تطيب به قبل الإحرام فلا، فَتَفَهَّمْ هذا الحديث فأن معناه معنى لطيف‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد قالت عائشة‏:‏ ‏(‏كنت أرى وبيص الطيب فى مفارق رسول الله بعدما أحرم‏)‏، والوبيص عند العرب‏:‏ البريق، قيل‏:‏ يجوز أن يكون ذلك وقد غسله، وهكذا الطيب ربما غسله الرجل عن وجهه فيذهب ويبقى وبيصه‏.‏

وأما الطيب للحل بعد رمى جمرة العقبة، فرخص فيه ابن عباس، وابن الزبير، وعائشة، والنخعى، وخارجة ابن زيد، وهو قول الكوفيين، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور على ظاهر حديث عائشة، وكرهه سالم، وهو قول مالك‏.‏

قيل لابن القاسم‏:‏ فإن فعل أَفَتَرَى عليه الفدية‏؟‏ قال‏:‏ لا أرى عليه شيئًا لما جاء فى ذلك، رواها أبو ثابت عنه‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ أجمع عوام العلماء أن للمحرم أن يأكل الزيت والسمن والشيرج، وأن له أن يستعمل ذلك فى جميع بدنه سوى رأسه ولحيته، فإن استعمله فى رأسه ولحيته افتدى‏.‏

وأجمعوا أن الطيب لا يجوز له استعماله فى بدنه، ففرقوا بين الطيب والزيت فى هذا الوجه، فقياس هذا أن يكون المحرم ممنوعًا من استعمال الطيب فى رأسه كما منع فى بدنه، وأن يجب له استعمال السمن والزيت فى رأسه كما أبيح له فى بدنه، وكلهم أوجب فى دهن البنفسج الفدية إلا الشافعى فإنه قال‏:‏ ليس بطيب، وإنما يستعمل للمنفعة‏.‏

وأجمع عوام العلماء على أن للمحرم أن يعقد الهيمان على وسطه، روى ذلك عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والقاسم، وعطاء، وطاوس، والنخعى، وهو قول مالك والكووفيين والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، غير إسحاق فقال‏:‏ لا يعقده، ولكن يدخل السيور بعضها فى بعض، وسئلت عائشة عن المنطقة، فقالت‏:‏ أوثق عليك نفقتك، وقال ابن علية‏:‏ قد أجمعوا أن للمحرم أن يعقد الهيمان والإزار على وسطه، والمنطقة كذلك‏.‏

وقول إسحاق لا يعد خلافًا ولا حَظَّ له فى النظر؛ لأن الأصل النهى عن لباس المخيط، وليس هذا مثله، فارتفع أن يكون له حكمه‏.‏

واختلفوا فى الرداء الذى يلتحف به على مئزره، فكان مالك لا يرى عقده، وتلزمه الفدية إن انتفع به، ونهى عنه ابن عمر، وعطاء، وعروة، ورخص فيه سعيد بن المسيب، وكرهه الكوفيون وأبو ثور وقالوا‏:‏ لا شىء عليه إن فعل، وحكى عن مالك أنه رخص للعامل أن يحزم الثوب على بطنه، وكرهه لغيره‏.‏

وأجاز شم الريحان للمحرم سوى ابن عباس‏:‏ الحسن، ومجاهد، وهو قول إسحاق، وكرهه مالك والكوفيون قالوا‏:‏ لا شىء عليه إن شمه، وكرهه الشافعى وأبو ثور، وأوجبوا عليه الفدية‏.‏

وأجاز جمهور العلماء النظر فى المرآة، وكان أبو هريرة يفعله، وقال مالك‏:‏ لا يفعل ذلك إلا من ضرورة‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وقول النخعى لسعيد بن جبير‏:‏ ‏(‏ما تصنع بقوله‏)‏ فيه حجة أن المَفْزَعَ فى النوازل إلى السنن، وإنها مستغنية عن آراء الرجال، وفيها المقنع والحجة البالغة، وأن ممن نزع بها عند الإختلاف فقد أفلح وغلب خصمه‏.‏

باب مَنْ أَهَلَّ مُلَبِّدًا

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الرسول صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ مُلَبِّدًا‏.‏

التلبيد عند الإحرام مستحب، فمن شاء فعله، ومن شاء تركه، ون لبد فعليه الحلاق؛ لأن النبى عليه السلام حلق، وستأتى أقوال العلماء فى هذه المسألة بعد هذا إن شاء الله‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ الملبد الذى لبد رأسه بلزوق يجعله فيه‏.‏

باب الإهْلالِ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِى الْحُلَيْفَةِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ، يَعْنِى مَسْجِدَ ذِى الْحُلَيْفَةِ‏.‏

اختلف العلماء فى المواضع الذى أحرم منه رسول الله، فقال قوم‏:‏ إنه أهل من مسجد ذى الحليفة، وقال آخرون‏:‏ لم يهل إلا من بعد أن استوت به راحلته بعد خروجه من المسجد، روى ذلك عن ابن عمر أيضًا، وعن أنس، وابن عباس، وجابر، وقال آخرون‏:‏ بل أحرم حين أطل على البيداء‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد قال من خالفهم‏:‏ قد يجوز أن يكون عليه السلام أحرم منها، لا لأنه قصد أن يكون إحرامه منها أفضل فى الإحرام منها على الإحرام مما سواها، وقد رأيناه فعل فى حجته أشياء فى مواضع لا لفضلها، كنزوله عليه السلام بالمحصب من منى، لم يكن ذلك لأنه سنة، ولكن لمعنى آخر، فلما حصب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ذلك لأنه سنة، فكذلك أحرم حين صار على البيداء، لا لأن ذلك سنة، وقد أنكر قوم أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من البيداء، روى مالك عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه أنه قال‏:‏ ‏(‏بيداؤكم هذه التى تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من مسجد ذى الحليفة، قالوا‏:‏ وإنما كان ذلك بعدما ركب راحلته‏)‏‏.‏

واحتجوا بما رواه أبى ذئب عن الزهرى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبى عليه السلام‏:‏ ‏(‏أنه كان يهل إذا استوت به راحلته قائمة‏)‏‏.‏

وكان ابن عمر يفعله، قالوا‏:‏ وينبغى أن يكون ذلك بعدما تنبعث به راحلته، واحتجوا بما رواه مالك عن سعيد المقبرى، عن عبيد بن جريج، عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته‏)‏‏.‏

فلما اختلفوا فى ذلك أردنا أن ننظر من أين جاء اختلافهم، فذكر ابن إسحاق قال‏:‏ حدثنى خصيف، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ عجبت لاختلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فى إهلاله فى حجته، فقال‏:‏ إنى لأعلم الناس بذلك، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجا، فلما صلى فى مسجد ذى الحليفة أهل بالحج، فسمع ذلك قوم فحفظوا عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أَهَلَّ، وأدرك ذلك منه أقوام لم يشهدوه فى المرة الأولى؛ لأن الناس قد كانوا يأتون أرسالاً، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وقف على شرف البيداء أَهَلَّ، وأدرك ذلك منه أقوام لم يشهدوه فى المرتين فنقل كل واحد منهم ما سمع، فإنما كان إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مصلاه حين فرغ من صلاته‏)‏‏.‏

فبين ابن عباس الوجه الذى منه جاء اختلافهم وأن إهلال النبى صلى الله عليه وسلم الذى ابتدأ الحج به كان فى مصلاه، فينبغى لمن أراد الإحرام أن يصلى ركعتين ثم يحرم فى دبرهما كما فعل النبى عليه السلام، وهو قول جمهور العلماء‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وإن أحرم من غير صلاة تتقدم إحرامه أجزأه لأمر النبى عليه السلام أسماء بنت عميس وهى نفساء بالاغتسال والإحرام، والنفساء غير طاهر، ومحال أن تصلى فى تلك الحال، وقد أخبر عليه السلام أنه لا تقبل صلاة بغير طهور، وسأذكر فى باب‏:‏ ‏(‏من أهل حين استوت به راحلته‏)‏ وجهًا آخر غير ما قاله ابن عباس فى معنى اختلاف الروايات فى ابتداء إهلال النبى عليه السلام عن سعد بن أبى وقاص إن شاء الله‏.‏

باب مَا لا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ رَجُلا قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ‏؟‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يَلْبَسُ الْقُمُصَ، وَلا الْعَمَائِمَ، وَلا السَّرَاوِيلاتِ، وَلا الْبَرَانِسَ، وَلا الْخِفَافَ، إِلا أَحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ‏)‏‏.‏

كل ما ذكر فى هذا الحديث فمجمع عليه أنه لا يلبسه المحرم، ويدخل فى عنى ما ذكر من القمص والسراويلات المخيط كله، فلا يجوز لباس شىء منه عند جميع الأمة‏.‏

وأجمعوا أن المراد بالخطاب المذكور فى اللباس فى هذا الحديث الرجال دون النساء، أنه لا بأس بلباس المخيط والخفاف للنساء، وأجمعوا أن إحرام الرجل فى رأسه، وأنه ليس له أن يغطيه لنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس البرانس والعمائم، وعند مالك إحرام الرجل فى رأسه ووجهه، واختلفوا فى تخمير وجهه، وسنذكره بعد هذا إن شاء الله، ونذكر اختلافهم فى من لبس خفين غير مقطوعين وهو غير واجد للنعلين، أو من لبسهما مقطوعين وهو واجد للنعلين فى آخر كتاب الحج إن شاء الله‏.‏

وأجمعت الأمة على أن المحرم لا يلبس ثوبًا مسه ورس أو زعفران، والورس‏:‏ نبات باليمن صبغه بين الحمرة والصفرة ورائحته طيبة، فإن غسل ذلك الثوب حتى يذهب منه ريح الروس أو الزعفران فلا بأس به عند جميعهم، وكرهه مالك للمحرم إلا أن لا يجد غيره‏.‏

وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏ولا تلبسوا شيئًا مسه زعفران أو روس‏)‏ دليل أن قول عائشة‏:‏ ‏(‏طيبت رسول الله لإحرامه‏)‏ خصوص له؛ لأنه تطيب ونهى عن الطيب فى هذا الحديث، وإنما اختص بذلك؛ لأن الطيب من دواعى الجماع، وهو أملك لإربه، كما نهى المحرم عن النكاح، وعقد هو نكاح ميمونة وهو محرم؛ لأنه أملك لإربه‏.‏

باب الرُّكُوبِ وَالارْتِدَافِ فِى الْحَجِّ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّ أُسَامَةَ كَانَ رِدْفَ الرسول صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنَ الْمزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، قَالَ‏:‏ فَكِلاهُمَا، قَالَ‏:‏ لَمْ يَزَلِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّى حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أن الحج راكبًا أفضل منه على الرجلة، وقد تقدم هذا القول، ومن خالفه فى باب الحج على الرَّحْل، وفيه ارتداف العالم من يخدمه، وفيه التواضع بالإرداف للرجل الكبير والسلطان الجليل، وقد تقدم هذا المعنى فى أول كتاب الحج، وسيأتى ذكر قطع التلبية فى موضعه إن شاء الله‏.‏

باب مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ وَالأرْدِيَةِ وَالأزُرِ

وَلَبِسَتْ عَائِشَةُ الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ، وَقَالَتْ‏:‏ لا تَلَثَّمْ، وَلا تَتَنقب، وَلا تَلْبَسْ ثَوْبًا بِوَرْسٍ، أوْ زَعْفَرَانٍ‏.‏

وقال جَابِرٌ‏:‏ لا أَرَى الْمُعَصْفَرَ طِيبًا، وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ بَأْسًا بِالْحُلِىِّ، وَالثَّوْبِ الأسْوَدِ، وَالْمُوَرَّدِ، وَالْخُفِّ لِلْمَرْأَةِ‏.‏

وقال إِبْرَاهِيمُ‏:‏ لا بَأْسَ أَنْ يُبْدِلَ ثِيَابَهُ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، انْطَلَقَ النَّبِىُّ عليه السَّلام مِنَ الْمَدِينَةِ بَعْدَ مَا تَرَجَّلَ، وَادَّهَنَ، وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الأرْدِيَةِ وَالأزُرِ تُلْبَسُ إِلا الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِى تَرْدَعُ عَلَى الْجِلْدِ، فَأَصْبَحَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَقَلَّدَ بَدَنَتَهُ، وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ فَقَدِمَ مَكَّةَ لأرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِى الْحَجَّةِ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ أَجْلِ بُدْنِهِ؛ لأنَّهُ قَلَّدَهَا، ثُمَّ نَزَلَ بِأَعْلَى مَكَّةَ عِنْدَ الْحَجُونِ، وَهُوَ مُهِلٌّ بِالْحَجِّ، وَلَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يُقَصِّرُوا مِنْ رُءُوسِهِمْ، ثُمَّ يَحِلُّوا، وَذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَدَنَةٌ قَلَّدَهَا، وَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ فَهِىَ لَهُ حَلالٌ وَالطِّيبُ وَالثِّيَابُ‏.‏

قال المهلب‏:‏ أجمع المسلمون أن المحرم لا يلبس إلا الأرز والأردية وما ليس بمخيط، لأن لبس المخيط من الترفه، فأراد الله عز وجل أن يأتوه شعثًا غبرًا آثار الذلة والخشوع، فلذلك نهى عليه السلام المحرم أن يلبس ثوبًا مصبوغًا بورس أو زعفران؛ لأن ذلك طيب، ولا خلاف بين العلماء أن لبس المحرم ذلك لا يجوز‏.‏

واختلفوا فى الثوب المعصفر للمحرم، فأجازه جابر، وابن عمر، وعائشة، وأسماء بنت أبى بكر، وهو قول القاسم وعطاء وربيعة‏.‏

وقال مالك‏:‏ العصفر ليس بطيب، وكرهه للمحرم؛ لأنه ينتفض على جلده، فإن فعل فقد أساء ولا فدية عليه، وهو قول الشافعى، وقال أبو ثور‏:‏ إنما كرهنا المعصفر؛ لأن النبى عليه السلام نهى عنه، لا أنه طيب، وكره عمر بن الخطاب لباس الثياب المصبغة‏.‏

وقال أبو حنيفة والثورى‏:‏ العصفر طيب وفيه الفدية، وقال ابن المنذر‏:‏ إنما نهى عن المصبغة فى الإحرام تأديبًا، ولئلا يلبسه من يقتدى به، فيغتر به الجاهل ولا يميز بينه وبين الثوب المزعفر، فيكون ذريعة للجهال إلى لبس ما نهى عنه المحرم من الورس والزعفران‏.‏

والدليل على ذلك‏:‏ أن عمر رأى على طلحة بن عبيد الله ثوبًا مصبوغًا فقال له‏:‏ ما هذا يا طلحة‏؟‏ قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنما هو مدر، فقال عمر‏:‏ ‏(‏إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم، لو أن رجلا جاهلا رأى هذا الثوب قال‏:‏ رأيت طلحة يلبس المصبغة فى الإحرام‏)‏‏.‏

وإن كان أراد به التحريم فقد خالفه غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والصواب عند اختلافهم أن ينظر إلى أَوْلاهم قولا فيقال به، وإطلاق ذلك أولى من تحريمه؛ لأن الأشياء كانت على الإباحة قبل الإحرام، فلا يجب التحريم إلا بيقين، وقد روينا أن عمر لما أنكر على عقيل لبسه الموردتين، وأنكر على عبد الله بن جعفر ثوبين مضرجين قال على لعمر‏:‏ دعنا منك، فإنه ليس أحد يعلمنا السنة، قال عمر‏:‏ صدقت‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ورخصت عائشة فى الحلى للمحرمة، وهو قول أبى حنيفة وأحمد، وكره ذلك عطاء، والثورى، وأبو ثور، وأجمع العلماء أن المرأة تلبس المخيط كله والخُمُر والخفاف، وأن إحرامها فى وجهها، وأن لها أن تغطى رأسها وتستر شعرها، وتسدل الثوب على وجهها سدلا خفيفًا تستتر به عن نظر الرجال، ولم يجيزوا لها تغطية وجهها إلا ما روى عن فاطمة بنت المنذر‏.‏

قالت‏:‏ كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبى بكر‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ على أن يكون كنحو ما روى عن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن محرمات، فإذا مر بنا ركب سدلنا الثوب من قبل رءوسنا، فإذا جاوزنا رفعناه‏)‏‏.‏

ولا يكون ذلك خلافًا، وثبت كراهية النقاب عن سعد، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة، ولا نعلم أحدًا من أصحاب النبى عليه السلام رخص فيه، وكان ابن عمر ينهى عن القفازين، وهو قول النخعى‏.‏

وقال مالك‏:‏ إن لبست البرقع والقفازين افتدت كفدية الرجل؛ لأن إحرام المرأة عنده فى وجهها ويديها، وكرهت عائشة اللثام والنقاب للمرأة، وأباحت لها القفازين، وهو قول عطاء‏.‏

واختلفوا فى تخمير وجه المحرم، فقال ابن عمر‏:‏ لا يخمر وجهه‏.‏

وكرهه مالك ومحمد ابن الحسن، قيل لابن القاسم‏:‏ أترى عليه الفدية‏؟‏ قال‏:‏ لا أرى عليه فدية لما جاء عن عثمان‏.‏

وقال فى المدونة فى موضع آخر‏:‏ إن غطى وجهه ونزعه مكانه فلا شىء عليه، وإن لم ينزعه حتى انتفع افتدى وكذلك المرأة إلا إذا أرادت سترًا‏.‏

وروى عن ابن عباس، وابن الزبير، وزيد بن ثابت، وسعد بن أبى وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وجابر أنهم أجازوا للمحرم تغطية وجهه خلاف ابن عمر، وبه قال الثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وهذا يخرج على أن يكون إحرام الرجل عندهم فى رأسه خاصة لا فى وجهه‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى حديث ابن عباس إفراد النبى عليه السلام للحج، وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدى، والبقاء على الإحرام الأول لمن كان معه هدى؛ لأن من قلد هديه فلابد من أن يوقعه موقعه بعرفة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، وسيأتى معنى ذلك فى بابه إن شاء الله‏.‏

قال المؤلف‏:‏ من روى فى هذا الحديث ‏(‏التى تردع على الجلد‏)‏ بالعين فهو معنى معروف‏.‏

تقول العرب‏:‏ ارتدع وتردع‏:‏ التطخ بالطيب، والردع أثر الطيب، وردع به الطيب‏:‏ إذا التزق بجلده ويده منه ‏(‏ردعة‏)‏، ومن رواه ‏(‏تردغ‏)‏ بالغين المنقوطة فهو من قولهم‏:‏ أردغت الأرض‏:‏ كثرت رداغها، وهى مناقع المياه، ومثله أرزغت الأرض بالزاى‏:‏ كثرت رزاغها، جمع رزغة كالردغة، ذكره صاحب كتاب الأفعال وذكر أردغ وأرزغ فى باب أفعل خاصة‏.‏

باب مَنْ بَاتَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ حَتَّى أَصْبَحَ

قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، صَلَّى النَّبِىُّ عليه السَّلام بِالْمَدِينَةِ الظَّهْرَ أَرْبَعًا، وَبِذِى الْحُلَيْفَةِ الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلَّ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ليسس مبيته عليه السلام بذى الحليفة عند خروجه من المدينة من سنن الحج، وإنما هو من جهة الرفق بأمته ليلحق به من تأخر عنه فى السير، ويدركه من لم يمكنه الخروج معه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه تقصير الصلاة بنية السفر، وإن لم يبلغ إلى موضع المشقة منه؛ لأنه قصر بذى الحليفة، وهو حجة لمالك ومن وافقه أن المسافر إذا خرج عن بيوت المصر لزمه تقصير الصلاة، وفيه أن سنة افهلال أن يكون بعد صلاة، وكان ابن عمر يحرم فى دبر صلاة مكتوبة، وهو قول ابن عباس، واستحب ذلك عطاء، والثورى، وطاوس، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واستحب مالك أن يكون بإثر صلاة نافلة، فإن كان فى وقت لا يتنفل فيه كوقت الصبح أو العصر أجزأه أن يكون بإثر الفريضة، قال ابن المنذر‏:‏ وإن أحرم ولم يكن صلى أجزأه، وقد تقدمت حجة هذه المقالة فى باب الإهلال عند مسجد ذى الحليفة‏.‏

باب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالإهْلالِ

- فيه‏:‏ أَنَس، صَلَّى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا‏.‏

قال الطبرى‏:‏ الإهلال رفع الصوت بالتلبية، ومنه استهلال المولود، وهو صياحه إذا سقط من بطن أمه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 173‏]‏ يعنى ما رفع به الصوت عند ذبحه للآلهة، وكل رافع صوته بشىء فهو يهل به، ومنه استهلال المطر والدمع، وهو صوت وقعه بالأرض، ويقال‏:‏ أهل القوم الهلال، إذا رأوه‏.‏

وأرى أن ذلك إنما هو من الإهلال الذى هو الصوت؛ لأنه كان يرفع عند رؤيته الأصوات إما بدعاء أو غيره، وأوجب أهل الظاهر رفع الصوت بالإهلال، وخالفهم فى ذلك، وهو عندهم مستحب‏.‏

فروى عن ابن عباس أنه كان يرفع صوته بالتلبية ويقول‏:‏ هى زينة الحج، وكان ابن عمر يرفع بها صوته، وقال أبو حازم‏:‏ كان أصحاب النبى عليه السلام لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم من التلبية‏.‏

وبه قال أبو حنيفة والثورى والشافعى‏.‏

واختلف الرواية عن مالك فروى ابن القاسم عنه أنه لا ترفع الأصوات بالتلبية إلا فى المسجد الحرام ومسجد منى، وزاد فى الموطأ‏:‏ ولا يرفع صوته فى مساجد الجماعات، وروى ابن نافع عنه أنه يرفع صوته فى المساجد التى بين مكة والمدينة‏.‏

واحتج إسماعيل للقولين فقال‏:‏ وجه القول الأول أن مساجد الجماعات إنما بنيت للصلاة خاصة، فكره رفع الصوت فيها، وليس كذلك المسجد الحرام ومسجد منى؛ لأن المسجد الحرام جعل للحاج وغيره، وكان المبلى إنما يقصد إليه فكان له فيه من الخصوص ما ليس فى غيره، ومسجد منى فهو للحاج خاصة، ووجه رواية ابن نافع أن المساجد التى بين مكة والمدينة إنما جعلت للمجتازين، وأكثرهم المحرمون فهم من النحو الذى وصفنا‏.‏

وأجمعوا أن المرأة لا ترفع صوتها بالتلبية، وإنما عليها أن تُسمع نفسها‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقول أنس‏:‏ ‏(‏وسمعتهم يصرخون بهما‏)‏ إنما سمع الذين قرنوا خاصة لثبوت الإفراد، وليس فى حديث أنس أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يصرخ بالحج والعمرة، وإنما أخبر ذلك عن قوم فعلوه، وقد يمكن أن يسمع قومًا يصرخون بحج وقومًا يصرخون بعمرة، وقد روى أنس عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يرد روايته هذه، وهو قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لولا أن معى الهدى لأحللت‏)‏‏.‏

وسيأتى بيان ذلك فى باب التمتع والقران والإفراد بالحج بعد هذا إن شاء الله‏.‏

وفيه‏:‏ رد قول أهل الظاهر فى إجازتهم تقصير الصلاة فى مقدار ما بين المدينة وذى الحليفة وفى أقل من ذلك؛ لأنه إنما قصر الصلاة بذى الحليفة؛ لأنه كان خارجًا إلى مكة فلذلك قصر العصر بذى الحليفة، بدليل قوله‏:‏ ‏(‏وسمعتهم يصرخون بهما جميعًا‏)‏ يعنى بالحج والعمرة، وبين المدينة وذى الحليفة ستة أميال‏.‏

باب التَّلْبِيَةِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ‏)‏‏.‏

وعن عائشة مثله‏.‏

قال المهلب‏:‏ معنى التلبية، إجابة دعوة إبراهيم بالحج إذ أمره الله بالأذان به، وهو من المواعيد المنتجزة؛ لأن تعالى وعده أن يأتوه رجالا وعلى كل ضامر، وروى عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏(‏لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له‏:‏ أذن فى الناس بالحج، قال‏:‏ يا رب، وما يبلغ صوتى‏؟‏ قال‏:‏ أذن وعلىَّ البلاغ، فنادى إبراهيم‏:‏ أيها الناس، كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فسمعه من بين السماء والأرض، ألا ترى الناس يجيئون من أقطار الأرض يلبون‏)‏‏.‏

وقال أهل اللغة‏:‏ معنى لبيك لبيك‏:‏ إجابة بعد إجابة، من قولهم‏:‏ ألب بالمكان، إذا أقام به، فكأنه قال‏:‏ أنا مقيم على طاعتك وإرادتك، وكذلك قولهم‏:‏ سعديك، أى إسعادًا لك بعد إسعاد، أى أنا مساعد لك ومتابع لإرادتك‏.‏

واختلف العلماء بتأويل القرآن فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ فقال ابن عباس وعكرمة وعطاء وطاوس‏:‏ الفرض الإهلال، وهو التلبية‏.‏

قال ابن مسعود وابن الزبير‏:‏ الفرض‏:‏ الإحرام‏.‏

وعند الثورى وأبى حنيفة أن التلبية ركن من أركان الحج، ولا تنوب النية عنها، كالدخول فى الصلاة لا يصح إلا بالنية والتكبير جميعًا، إلا أن أبا حنيفة ينوب عنده سائر الذكر عن التلبية كالتكبير والتسبيح والتهليل، كما يقول فى الإحرام بالصلاة‏.‏

وعند مالك والشافعى النية فى الإحرام تجزئه عن الكلام، وكان مالك يرى على من ترك التلبية الدم، ولا يراه الشافعى، والحجة لمالك أن التلبية نسك، ومن ترك من نسكه شيئًا أهراق دمًا، وقال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ ليس الإهلال للإحرام بمنزلة التكبير للصلاة؛ لأن الرجل لا يكون داخلا فى الصلاة إلا بالتكبير، ويكون داخلا فى الإحرام بالتلبية وغيرها من الأعمال التى يوجب بها الإحرام على نفسه، مثل أن يقول‏:‏ قد أحرمت بالعمرة أو الحج أو يشعر البدن، وهو يريد بذلك الإحرام، أو يتوجه نحو البيت وهو يريد بذلك الإحرام، فيكون بذلك كله محرمًا‏.‏

وأجمع العلماء على القول بهذه التلبية، واختلفوا فى الزيادة عليها، فذكر ابن القصار عن الشافعى قال‏:‏ الأفضل الاقتصار على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يزيد عليها شيئين‏:‏ ‏(‏لبيك إله الحق‏)‏ لأن أبا هريرة رواه عن النبى عليه السلام‏.‏

والثانى‏:‏ أن يقول إذا رأى شيئًا فأعجبه‏:‏ ‏(‏لبيك إن العيش عيش الآخرة‏)‏‏.‏

كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى الناس يزدحمون فى الطواف، وإذا زاد هذين كان كمن اقتصر على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتج بأن سعد بن أبى وقاص سمع رجلا يقول‏:‏ ‏(‏لبيك ذا المعارج‏)‏، فقال‏:‏ ما كنا نقول هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال مالك‏:‏ إن اقتصر على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسن، وإن زاد عليها فحسن، وهو قول أبى حنيفة والثورى وأحمد وأبى ثور، وقالوا‏:‏ يزيد عليها ما شاء، واحتجوا بما رواه مالك عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يزيد فيها‏:‏ ‏(‏لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل‏)‏‏.‏

وروى القطان عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال‏:‏ ‏(‏أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

فذكر مثل الحديث ابن عمر فى التلبية قال‏:‏ ‏(‏والناس يزيدون لبيك ذا المعارج ونحوه من الكلام، والنبى عليه السلام يسمع فلا يقول لهم شيئًا‏)‏، وأن عمر كان يقول بعد التلبية‏:‏ لبيك ذا النعماء والفضل والثناء الحسن، لبيك مرهوبًا منك ومرغوبًا إليك‏.‏

وكان أنس يقول فى تلبيته‏:‏ لبيك حقا حقًا ورقا‏.‏

باب التَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ قَبْلَ الإهْلالِ عِنْدَ الرُّكُوبِ عَلَى الدَّابَّةِ

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ‏:‏ صَلَّى النَّبِىّ عليه السَّلام وَنَحْنُ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ، حَمِدَ اللَّهَ وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ، ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهِمَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَ النَّاسَ فَحَلُّوا، حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ، قَالَ‏:‏ وَنَحَرَ النَّبِىُّ عليه السَّلام بَدَنَاتٍ بِيَدِهِ قِيَامًا، وَذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ غرض البخارى بهذه الترجمة والله أعلم الرد على أبى حنيفة فى قوله‏:‏ إن من سبح أو كبر أو هلل أجزأه من إهلاله، فأثبت البخارى أن التسبيح والتحميد من النبى عليه السلام إنما كان قبل الإهلال؛ لقوله فى الحديث بعد أن سبح وكبر‏:‏ ‏(‏ثم أهل بالحج‏)‏‏.‏

ويمكن أن يكون فعل تكبيره وتحميده عليه السلام عند ركوبه أخذًا بقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 13‏]‏ ويمكن أن يكون يعلمنا عليه السلام جواز الذكر والدعاء مع الإهلال، وأن الزيادة عليه مستحبة بخلاف قول الشافعى‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏ثم أهل بحج وعمرة‏)‏ فقد رد عليه ابن عمر هذا القول وقال‏:‏ كان أنس حينئذ يدخل على النساء وهن متكشفات، ينسب إليه الصغر وقلة الضبط حين نسب إلى النبى عليه السلام الإهلال بالقِران‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ومما يدل على قلة ضبط أنس للقصة قوله فى الحديث‏:‏ ‏(‏فلما قدمنا أمر الناس فحلوا حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج‏)‏‏.‏

وهذا لا معنى له، ولا يفهم إن كان النبى عليه السلام وأصحابه قارنين كما زعم أنس؛ لأن الأمة متفقة على أن القارن لا يجوز له الإحلال حتى يفرغ من عمل الحج كله كان معه هدى أو لم يكن، فلذلك أنكر عليه ابن عمر، وإنما حل من كان أفرد الحج وفسخه فى عمرة ثم تمتع‏.‏

والأملح‏:‏ الأبيض الذى يشوبه شىء من سواد، من كتاب العين‏.‏

باب مَنْ أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَهَلَّ النَّبِىُّ عليه السَّلام حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً‏.‏

قال الطبرى‏:‏ روى ابن إسحاق عن أبى الزناد، عن عائشة ابنة سعد بن أبى وقاص قالت‏:‏ قال سعد‏:‏ ‏(‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ طريق الفرع أهل حين استقلت به راحلته، وإذا أخذ طريق أحد أهل إذا علا على شرف البيداء‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ جعل الله ذا الحليفة ميقاتًا لهل المدينة، ومن مر بها من سائر الناس، فسوى فى جواز الإحرام من أى مكان أحرم منها‏:‏ من المسجد، أو من فنائه بعدما استقلت به راحلته، أو قبل أن تنهض به قائمة بعدما علا على شرف البيداء، أو قبل، ما لم يجاوز ذا الحليفة، إذ كل ذلك قد روى عن النبى أنه فعله، وليس شىء من ذلك بخلاف لغيره، وقد يمكن أن يكون فعل ذلك عليه السلام فى عمرته التى اعتمر، إذ ذلك كله ميقات، وممكن أن يكون ذلك على ما قاله ابن عباس، وقد ذكرناه فى باب الإهلال من عند مسجد ذى الحليفة‏.‏

باب الإهْلالِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ الْغَدَاةِ بذِى الْحُلَيْفَةِ

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا صَلَّى بِالْغَدَاةِ بِذِى الْحُلَيْفَةِ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَرُحِلَتْ، ثُمَّ رَكِبَ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا، ثُمَّ يُلَبِّى حَتَّى يَبْلُغَ الْحَرَمَ، ثُمَّ يُمْسِكُ حَتَّى إِذَا جَاءَ ذَا طُوًى بَاتَ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ اغْتَسَلَ، وَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ ادَّهَنَ بِدُهْنٍ، لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، ثُمَّ يَأْتِى مَسْجِدَ ذِى الْحُلَيْفَةِ، فَيُصَلِّى، ثُمَّ يَرْكَبُ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَحْرَمَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ‏.‏

قال المهلب‏:‏ أما تلبية ابن عمر إذا ركب راحلته فأراد به غجابة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وأما استقباله القبلة لتلبيته فلاستقبال دعوة إبراهيم لمكة، فلذلك يلبى الداعى أبدًا بعد أن يستقبل بالوجه؛ لأنه لا يصلح أن يولى المجيب ظهره من يدعوه ثم يلبيه؛ بل يستقبله بالتلبية فى موضعه الذى دعا منه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ثم يلبى حتى يبلغ الحرم‏)‏ فمعلوم من مذهبه أنه كأن لا يلبى فى طوافه، وكره مالك التلبية فى الطواف، وقال ابن عيينة‏:‏ ما رأيت أحدًا يُقتدى به يلبى حول البيت إلا عطاء بن السائب، وسيأتى من أجاز ذلك ومن كرهه فى باب الاغتسال عند دخول مكة إن شاء الله، وإنما كان يدهن بغير طيب ليمنع بذلك الدواب والقمل‏.‏

باب التَّلْبِيَةِ إِذَا انْحَدَرَ فِى الْوَادِى

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، ذَكَرُوا الدَّجَّالَ، أَنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ لَمْ أَسْمَعْهُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَمَّا مُوسَى كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذِ انْحَدَرَ فِى الْوَادِى يُلَبِّى‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ أما قوله فى هذا الحديث‏:‏ ‏(‏أما موسى‏)‏ فهو وهم من الرواة والله أعلم لأنه لم يأت خبر ولا أثر عن موسى أنه حى، وأنه سيحج، وإنما أتى ذلك عن عيسى، عليهما السلام، فاختلط على الراوى فجعل فعل عيسى لموسى، وذلك على رواية من روى ‏(‏إذا انحدر‏)‏ لأنه إخبار عما يكون، وأما من روى إذا انحدر يحكى عما مضى، فيصح عن موسى أن يراه النبى عليه السلام فى منام، أو يوحى إليه بذلك والله أعلم وفيه من الفقه أن التلبية فى بطن المسيل من سنن المرسلين‏.‏

باب كَيْفَ تُهِلُّ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ‏؟‏

أَهَلَّ‏:‏ تَكَلَّمَ بِهِ، وَاسْتَهْلَلْنَا وَأَهْلَلْنَا الْهِلالَ‏:‏ كُلُّهُ مِنَ الظُّهُورِ، وَاسْتَهَلَّ الْمَطَرُ‏:‏ خَرَجَ مِنَ السَّحَابِ،‏)‏ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ وَهُوَ مِنِ اسْتِهْلالِ الصَّبِىِّ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ لا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا‏)‏، فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَة، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى النَّبِىِّ عليه السَّلام فَقَالَ‏:‏ ‏(‏انْقُضِى رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِى، وَأَهِلِّى بِالْحَجِّ، وَدَعِى الْعُمْرَة‏)‏، فَفَعَلْتُ فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ، أَرْسَلَنِى رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم مَعَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، فَاعْتَمَرْتُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ قولها‏:‏ ‏(‏فأهللنا بعمرة‏)‏ يعارضه رواية عمرة عن عائشة أنها قالت‏:‏ ‏(‏خرجنا لخمس بقين من ذى القعدة، ولا نرى إلا أنه الحج‏)‏‏.‏

وقال أبو نعيم فى حديث ‏(‏مهلين بالحج، قالت عَمرة‏:‏ فلما دنونا من مكة قال النبى عليه السلام لأصحابه‏:‏ ‏(‏من لم يكن معه هدى فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدى فلا‏)‏ والتوفيق بين الحديثين أن يكون معنى قولها‏:‏ ‏(‏فاهللنا بعمرة‏)‏ تريد حين دنونا من مكة حين أمر النبى عليه السلام من لم يسق الهدى بفسخ الحج فى العمرة، فأهلوا بها، وبينت عمرة عن عائشة ابتداء القصة من اولها، وعروة إنما ذكر ما آل إليه أمرهم حين دنوا من مكة وفسخوا الحج فى العمرة، إلا من كان ساق الهدى من المفردين فإنه مضى على إحرامه من أجل هديه، ولم يفسخه فى عمرة لقول الله‏:‏ ‏(‏لاَ تُحِلُّوا شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْىَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وقولها‏:‏ ‏(‏فقدمت مكة وأنا حائض، ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة‏)‏‏.‏

فلا خلاف بين العلماء أن الحائض لا تطوف بالبيت، ولا تسعى بين الصفا والمروة؛ لأن السعى بينهما موصول بالطواف، والطواف موصول بالصلاة، ولا تجوز صلاة بغير طهارة‏.‏

وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏انقضى رأسك وامتشطى، وأَهلِّى بالحج ودعى العمرة‏)‏ احتج به الكوفيون فقالوا‏:‏ إن المعتمرة إذا حاضت قبل الطواف، وضاق عليها وقت الحج رفضت عمرتها وألقتها واستهلت بالحج، وعليها لرفض عمرتها دم، ثم تقضى عمرة بعد، قالوا‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏انقضى رأسك وامتشطى‏)‏ دليل على رفض العمرة؛ لأن القارنة لا تمتشط ولا تنفض رأسها، فجاوبهم مخالفوهم بأن ابن وهب روى عن مالك أنه قال‏:‏ حديث عروة عن عائشة ليس عليه العمل عندنا قديمًا ولا حديثًا وأظنه وهمًا‏.‏

يعنى ليس عليه العمل فى رفض الدعوة؛ لأن الله تعالى أمر بإتمام الحج والعمرة لمن دخل فيهما، وقال‏:‏ ‏(‏وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 33‏]‏ ورفضها قبل إتمامها هو إبطالها‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وكذلك لو احرمت بالحج ثم حاضت قبل الطواف لم ترفضه، فكذلك العمرة، بعلة أنه نسك يجب المضى فى فاسده فلا يجوز تركِه قبل إتمامه مع القدرة عليه‏.‏

والذى عليه العمل عند مالك، والأوزاعى، والشافعى، وأبى ثور فى المعتمرة تحيض قبل أن تطوف بالبيت وتخشى فوات عرفة وهى حائض، أنها تهل بالحج وتكون كمن قرن بين الحج والعمرة ابتداءَ، وعليها دم القران، ولا يعرفون رفض العمرة ولا رفض الحج لأحد دخل فيهما أو فى أحدهما، قالوا‏:‏ وكذلك المعتمر يخاف فوات عرفة قبل أن يطوف، لا يكون إهلاله رفضًا للعمرة؛ بل يكون قارنًا لإدخاله الحج على العمرة‏.‏

ودفعوا حديث عروة عن عائشة بضروب من الاعتلال منها‏:‏ أن القاسم والأسود وعمرة رووا عن عائشة ما دل أنها كانت محرمة بحج، فكيف يجوز أن يقال لها‏:‏ دعى العمرة، وقال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ رواية عروة غلط؛ لأن الثلاثة خالفوه، وقال غيره‏:‏ أقل الأحوال فى ذلك سقوط الاحتجاج بما صح فيه التعارض والرجوع إلى قوله‏:‏ ‏(‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏‏.‏

وأجمعوا فى غير الخائف لفوت عرفة أنه لا يحل له رفض العمرة، فكذلك من خاف فوات عرفة؛ لأنه يمكنه إدخال الحج على العمرة ويكون قارنًا، فلا وجه لرفض العمرة فى شىء من النظر‏.‏

قال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ ولو ثبت قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏دعى العمرة‏)‏ لكان له تأويل سائغ، فيكون معنى قوله‏:‏ ‏(‏أهلى بالحج‏)‏ أنه الذى أنت فيه، أى استديمى ما أنت عليه ودعى العمرة التى أردت أن يفسخ حجك فيها؛ لأنها إنما طهرت بمنى، وقد رهقها الوقوف بعرفة، وهذا أصل فى المراهق أن له تأخير طواف الورود، ومما يوهن رواية عروة ما رواه حماد بن زيد عن هشام بن عروة، عن أبيه قال‏:‏ حدثنى غير واحد أن النبى عليه السلام قال لها‏:‏ ‏(‏دعى عمرتك‏)‏ فدل أن عروة لم يسمعه من عائشة، ولو ثبت قوله‏:‏ ‏(‏انقضى رأسك وامتشطى‏)‏ لما نافى ذلك إحرامها ولجبرته بالفدية كما أمر عليه السلام كعب بن عجرة بالحلق والفدية لما بلغ به أذى القمل، فيكون أمره لها بنقضها رأسها وامتشاطها لضرورة كانت بها مع الفدية، هذا سائغ ومحتمل فلا تعارض به الأصول، وقد يمكن أن يكون أمرها بغسل رأسها وإن كانت حائضًا لا يجب عليها غسله ولا نقضه لغسل الإهلال بالحج؛ لأن من سنة الحائض والنفساء أن يغتسلا عند الميقات والإهلال بالحج، كما امر عليه السلام أسماء بنت عميس حين ولدت محمد بن أبى بكر بالبيداء بالاغتسال والإهلال، ولو أمر عليه السلام عائشة بنقض رأسها والاغتسال لوجوب الغسل عليها، لكانت قد طهرت فتطوف للعمرة التى قد تركت‏.‏

وقوله عليه السلام لها‏:‏ ‏(‏غير ألا تطوفى بالبيت‏)‏ يدل أنها لم تنقض رأسها إلا لمرض كان بها أو لإهلال كما ذكرنا‏.‏

باب مَنْ أَهَلَّ فِى زَمَنِ النَّبِىِّ عليه السَّلام كَإِهْلالِ النَّبِىِّ عليه السَّلام

قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام‏.‏

- فيه‏:‏ جَابِر، أَمَرَ النَّبِىُّ عليه السَّلام عَلِيًّا أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَذَكَرَ قَوْلَ سُرَاقَةَ‏.‏

وقال، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏بِمَا أَهْلَلْتَ يَا عَلِىُّ‏؟‏‏)‏ قَالَ‏:‏ بِمَا أَهَلَّ بِهِ نبِى اللَّه، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَأَهْدِ، وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ مَرْوَانَ الأصْفَرَ، عَنْ أَنَس، قَدِمَ عَلِىٌّ عَلَى النَّبِىِّ عليه السَّلام مِنَ الْيَمَنِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏بِمَا أَهْلَلْتَ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَوْلا أَنَّ مَعِى الْهَدْىَ لأحْلَلْتُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، بَعَثَنِى النَّبِىُّ عليه السَّلام إِلَى قَوْمٍ بِالْيَمَنِ فَجِئْتُ، وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏بِمَا أَهْلَلْتَ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ أَهْلَلْتُ كَإِهْلالِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْىٍ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ لا، فَأَمَرَنِى فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَمَرَنِى فَأَحْلَلْتُ فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِى فَمَشَطَتْنِى، أَوْ غَسَلَتْ رَأْسِى، فَقَدِمَ عُمَرُ، فَقَالَ‏:‏ إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ، قَالَ تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ الرسول صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْىَ‏.‏

قصة علىّ وحديث أبى موسى لم يقل بهما مالك ولا الكوفيون، وقال بهما الشافعى، فذهب إلى أن الحج ينعقد بإحرام من غير تعيين إفراد أو قران أو تمتع، وله عنده أن يمضى فى ذلك الإحرام ثم يجعله أى وجه شاء من الأوجه الثلاثة، وله عنده أيضًا أن ينقله من وجه إلى وجه، إلا أن يكون قارنًا فليس له أن ينقض إحرامه؛ لأنه يخرج مما أوجب على نفسه من الحج والعمرة، واحتج فى ذلك بقوله عليه السلام لعلى‏:‏ ‏(‏بم أهللت‏؟‏ قال‏:‏ بإهلال كإهلال النبى صلى الله عليه وسلم‏)‏ فأخبره عليه السلام بما أهلَّ به، وهو قوله‏:‏ ‏(‏إنى سقت الهدى‏)‏‏.‏

واحتج الطبرى فقال‏:‏ والدليل على صحة هذا أن أبا موسى لما أهل لم يعلم بما أهل به النبى عليه السلام فى وقت ابتدائه الإهلال؛ لأنه كان باليمن عام حج النبى عليه السلام بالناس، فلما بلغه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس للحج خرج من اليمن حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبى من ميقات أهل اليمن وقال‏:‏ لبيك بإهلال كإهلال النبى عليه السلام ولَّبى بمثل تلبيته على بن أبى طالب، وكان أقبل معه من اليمن، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى أن يجعل إحرامه عمرة إذ لم يكن ساق معه هديًا، وأخذ مالك وأبو حنيفة بظاهر قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الأعمال بالنيات‏)‏‏.‏

وقالوا‏:‏ لابد أن ينوى المحرم حجا أو عمرة عند دخوله فيه، وقالوا‏:‏ إذا نوى بحجته التطوع وعليه حجة الإسلام أنه لا يجزئه عنها، وبه قال الثورى، وإسحاق، وقال الشافعى‏:‏ بجزئه من حجة الإسلام وتعود النافلة فرضًا لمن لم يؤد فرضه فى الحج خاصة، كما يعود الإحرام بالحج قبل وقته، وإن نوى به الفريضة تطوعًا‏.‏

فيقال‏:‏ له‏:‏ قد أجمعوا أن من صلى قبل الزوال أربعًا إن نوى بها الظهر أنه لا يجزئه، وهى تطوع، فكذلك الحج‏.‏

قال المهلب‏:‏ وحديث مروان الأصفر عن أنس موافق لرأى الجماعة فى إفراد النبى عليه السلام ويرد وهم أنس أن النبى عليه السلام قرن، واتفاقه مع الجماعة أولى بالاتباع مما انفرد به وخالفهم فيه، وقال أبو عبد الله أخوه‏:‏ فتسويغ النبى عليه السلام الإحلال لنفسه لولا الهدى يدل أنه كان منفردًا الحج غير قارن؛ لأنه لا يجوز للقارن الإحلال كان معه هدى أو لم يكن حتى يفرغ من عمل الحج‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏لولا أنى سقت الهدى لأحللت‏)‏ وهو مفرد، والمفرد لا يجوز له اليوم الإحلال كان معه هدى أو لمن يكن‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏(‏لأحللت‏)‏‏:‏ أى لفسخت الحج فى العمرة؛ لأن الفسخ كان مباحًا حينئذ لمن لا هدى له، فجاز لهم الإحلال ووطء النساء قبل الشروع فى عمل العمرة فى وقت فسخهم الحج، فأما من كان معه هدى فلم يكن يفسخ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقول أبى موسى‏:‏ ‏(‏فقدم عمر‏)‏ يعنى إذ حج بالناس فى خلافته فقال‏:‏ ‏(‏إن نأخذ بكتاب الله فإنه أمر بالتمام‏)‏ يعنى أن من أهل بشىء فليتم ما بدأ فيه ولا يفسخه، وإن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يفسخ ما كان أَهَلَّ به أولا من الحج من أجل الهدى تعظيمًا لحرمات الله، وإنما أباح عليه السلام الفسخ ردا لقول الجاهلية‏:‏ إن العمرة فى الحج من أفجر الفجور‏.‏

باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِى الْحَجِّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ‏:‏ أَشْهُرُ الْحَجِّ‏:‏ شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِى الْحَجَّةِ‏.‏

وقال ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لا يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلا فِى أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَكَرِهَ عُثْمَانُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أَوْ كَرْمَانَ‏.‏

- فيه‏:‏ الْقَاسِمَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ عليه السَّلام فِى أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَيَالِىَ الْحَجِّ وَحُرُمِ الْحَجِّ، فَنَزَلْنَا بِسَرِفَ، قَالَتْ‏:‏ فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَعَهُ هَدْىٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْىُ فَلا‏)‏، قَالَتْ‏:‏ فَالآخِذُ بِهَا وَالتَّارِكُ لَهَا مِنْ أَصْحَابِهِ، قَالَتْ‏:‏ فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَكَانُوا أَهْلَ قُوَّةٍ، وَكَأن مَعَهُمُ الْهَدْىُ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْعُمْرَةِ، قَالَتْ‏:‏ فَدَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا أَبْكِى، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا يُبْكِيكِ يَا هَنْتَاهُ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ سَمِعْتُ قَوْلَكَ لأصْحَابِكَ فَمُنِعْتُ الْعُمْرَةَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏وَمَا شَأْنُكِ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ لا أُصَلِّى، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَلا يَضِيرُكِ إِنَّمَا أَنْتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ، كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكِ مَا كَتَبَ عَلَيْهِنَّ، فَكُونِى فِى حَجَّتِكِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَكِيهَا‏)‏، قَالَتْ‏:‏ فَخَرَجْنَا فِى حَجَّتِهِ حَتَّى قَدِمْنَا مِنًى، فَطَهَرْتُ، ثُمَّ خَرَجْتُ مِنْ مِنًى، فَأَفَضْتُ بِالْبَيْتِ، قَالَتْ‏:‏ ثُمَّ خَرَجَتْ مَعَهُ فِى النَّفْرِ الآخِرِ حَتَّى نَزَلَ الْمُحَصَّبَ، وَنَزَلْنَا مَعَهُ، فَدَعَا عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ أَبِى بَكْرٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنَ الْحَرَمِ، فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ افْرُغَا، ثُمَّ ائْتِيَا هَاهُنَا، فَإِنِّى أَنْظُرُكُمَا حَتَّى تَأْتِيَانِى‏)‏، قَالَتْ‏:‏ فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ، وَفَرَغْتُ مِنَ الطَّوَافِ، ثُمَّ جِئْتُهُ بِسَحَرَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ فَرَغْتُمْ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ، فَآذَنَ بِالرَّحِيلِ فِى أَصْحَابِهِ، فَارْتَحَلَ النَّاسُ فَمَرَّ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ اختلف العلماء فى معنى قوله‏:‏ ‏(‏الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ فقالت طائفة‏:‏ شوال، وذو القعدة، وعشر من ذى الحجة، وهو قول ابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير، وروى عن الشعبى، والنخعى، وعطاء، والثورى، وأبى حنيفة، والأوزاعى، الشافعى، وأبى ثور‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وقد روى مثله عن مالك، والمشهور عن مالك أنها ثلاثة‏:‏ شوال وذو القعدة وذو الحجة كله‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ واختلف عن ابن عباس وابن عمر فى ذلك، فروى عنهما كما قال ابن مسعود، وروى عنهما كقول مالك، وكان الفَرَّاء يقول‏:‏ ‏(‏الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ قال‏:‏ الأشهر رفع ومعناه‏:‏ وقت الحج أشهر معلومات، وقال غيره‏:‏ تاويله أن الحج فى أشهر معلومات‏.‏

واختلف العلماء فى من أحرم بالحج فى غير أشهر الحج‏.‏

فقال ابن عباس‏:‏ لا ينبغى لأحد أن يهل بالحج فى غير أشهر الحج لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 33‏]‏ وهو قول جابر بن عبد الله، وقال الشافعى وأبو ثور‏:‏ لا ينعقد إحرامه بالحج؛ لكنه ينعقد بعمرة، وهو مذهب عطاء وطاوس، وبه قال الأوزاعى وأحمد وإسحاق، واحتجوا بقوله‏:‏ ‏(‏الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ وقالوا‏:‏ لو انعقد الإحرام فى غيرها لم يكن لتخصيصها فائدة، واحتجوا أيضًا بقول عائشة‏:‏ ‏(‏خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أشهر الحج وليالى الحج وحرم الحج‏)‏‏.‏

وقال آخرون‏:‏ من أحرم فى غير أشهر الحج لزمه، روى هذا عن النخعى، وهو قول أهل المدينة والثورى والكوفيين، إلا أن المستحب عند مالك ألا يحرم فى غير أشهر الحج، فإن فعل لزمه، وهو حرام حتى يحج‏.‏

وقالوا‏:‏ إِنَّ ذِكْرَ اللهِ فى الحج‏:‏ الأشهر المعلومات، إنما معناه عندهم عل التوسعة والرفق بالناس، وافعلام بالوقت الذى فيه يتأدى الحج، فأخبرهم تعالى بما يقرب من ذلك الوقت، وبيَّن ذلك بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الحج عرفات‏)‏ وبنحره يوم النحر، ورميه الجمار فى ذلك اليوم وما بعده، فمن ضيق على نفسه وأحرم بالحج قبل أشهر الحج فهو فى معنى من أحرم بالحج من بلده قبل الميقات، ويعضد هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 33‏]‏ وقوله‏:‏ ‏(‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ولم يخص محرمًا من محرم‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ ولا يمتنع أن يجعل الله الأشهر كلها وقتًا لجواز الإحرام فيها، ويجعل شهور الحج وقت الاختيار، وهذا سائغ فى الشريعة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقول عائشة‏:‏ ‏(‏نزلنا بسرف‏)‏ فإنما ذكرت المآل؛ لأن سرف هو أول حدود مكة، ولم تذكر ما كانوا أحرموا به ميقات ذى الحليفة؛ ولأن فى الحديث دليل على ما كانوا أحرموا به أولا؛ لأنه قال‏:‏ ‏(‏من لم يكن معه هدى فليجعلها عمرة‏)‏‏.‏

وهذا يدل أنها كانت حجة مفردة، ولو كانت قرنًا لقال‏:‏ فليجعلهما عمرة، وإنما أمر بالفسخ من أفرد، لا من قرن ولا من أهل بعمرة، لأنهم أمرهم كلهم أن يجعلوها عمرة ليتمتعوا بالعمرة إلى الحج‏.‏

وقولها‏:‏ ‏(‏حتى قدمنا مِنىً فطهرت‏)‏ تريد ثانى يوم النحر؛ لأن أيام منى ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وسيأتى اختلاف الناس فى الرفث والفسوق فى الجزء الثانى من الحج إن شاء الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏يا هنتاه‏)‏ هى كلمة يكنى بها عن اسم الإنسان يقال للمرأة‏:‏ يا هنتاه، أى يا مرأة، وللرجل يا هناه، أى يا رجل، ولا يستعمل فى غير النداء، ذكره سيبويه وقال‏:‏ هو مثل قولهم‏:‏ يا غدار ويا لكاع ويا فساق، ولا يستعمل ذلك إلا فى النداء خاصة‏.‏

باب التَّمَتُّعِ وَالإقْرَانِ وَالإفْرَادِ بِالْحَجِّ وَفَسْخِ الْحَجِّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْىٌ

- فيه‏:‏ الأسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ الرسول صلى الله عليه وسلم وَلا نُرَى إِلا أَنَّهُ الْحَجُّ، فَلَمَّا قَدِمْنَا تَطَوَّفْنَا بِالْبَيْتِ، فَأَمَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْىَ أَنْ يَحِلَّ، فَحَلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَنِسَاؤُهُ لَمْ يَسُقْنَ فَأَحْلَلْنَ، قَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ فَحِضْتُ، فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ، قلت‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَرْجِعُ النَّاسُ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ، قَالَ‏:‏ ‏(‏وَمَا طُفْتِ لَيَالِىَ قَدِمْنَا مَكَّةَ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَاذْهَبِى مَعَ أَخِيكِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهِلِّى بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ مَوْعِدُكِ كَذَا وَكَذَا‏)‏، قَالَتْ صَفِيَّةُ‏:‏ مَا أُرَانِى إِلا حَابِسَتَهُمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏عَقْرَى حَلْقَى أَوَ مَا طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ‏)‏‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ بَلَى، قَالَ‏:‏ ‏(‏لا بَأْسَ، انْفِرِى‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ عليه السَّلام عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، ‏[‏وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ‏]‏، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، لَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ‏.‏

- وفيه‏:‏ مَرْوَانَ، قَالَ‏:‏ شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا، وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا رَأَى عَلِىٌّ أَهَلَّ بِهِمَا، لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، قَالَ‏:‏ مَا كُنْتُ لأدَعَ سُنَّةَ النَّبِىِّ عليه السَّلام لِقَوْلِ أَحَدٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ‏:‏ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِى أَشْهُرِ الْحَجِّ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِى الأرْضِ، وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا، وَيَقُولُونَ‏:‏ إِذَا بَرَا الدَّبَرْ، وَعَفَا الأثَرْ، وَانْسَلَخَ صَفَرْ، حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ، قَدِمَ النَّبِىُّ عليه السَّلام وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، فَقَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الْحِلِّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏حِلٌّ كُلُّهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، قَالَ‏:‏ قَدِمْتُ عَلَى النَّبِىِّ عليه السَّلام فَأَمَرَهُ بِالْحِلِّ‏.‏

- وفيه‏:‏ حَفْصَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنِّى لَبَّدْتُ رَأْسِى، وَقَلَّدْتُ هَدْيِى، فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو جَمْرَةَ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ الضُّبَعِىُّ، قَالَ‏:‏ تَمَتَّعْتُ، فَنَهَانِى نَاسٌ، فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَأَمَرَنِى، فَرَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ، كَأَنَّ رَجُلا يَقُولُ لِى‏:‏ حَجٌّ مَبْرُورٌ وَعُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ‏:‏ سُنَّةَ النَّبِىِّ عليه السَّلام فَقَالَ‏:‏ لِى أَقِمْ عِنْدِى، فَأَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِى، قَالَ شُعْبَةُ‏:‏ فَقُلْتُ‏:‏ لِمَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ لِلرُّؤْيَا الَّتِى رَأَيْتُ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو شِهَابٍ عبد ربه بْن نافع، قَدِمْتُ مُتَمَتِّعًا مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ، فَدَخَلْنَا قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ، فَقَالَ لِى أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ‏:‏ تَصِيرُ حَجَّتُكَ الآنَ مَكِّيَّةً، فَدَخَلْتُ عَلَى عَطَاءٍ أَسْتَفْتِيهِ، فَقَالَ‏:‏ حَدَّثَنِى جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ، أَنَّهُ حَجَّ مَعَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَوْمَ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ، وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ ‏(‏أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ الْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَصِّرُوا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَلالا حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ، وَاجْعَلُوا الَّتِى قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً‏)‏، فَقَالُوا‏:‏ كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏افْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ، فَلَوْلا أَنِّى سُقْتُ الْهَدْىَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِى أَمَرْتُكُمْ، وَلَكِنْ لا يَحِلُّ مِنِّى حَرَامٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ‏)‏، فَفَعَلُوا‏.‏

قال المهلب‏:‏ أشكلت أحاديث الحج على الأئمة صعب تخليصها ونفى التعارض عنها، وكل ركب فى توجيهها غير مذهب صاحبه، واختلفوا فى الإفراد والتمتع والقران أيها أفضل، وفى الذى كان به النبى عليه السلام محرمًا من ذلك‏.‏

فذهبت طائفة إلى أن إفراد الحج أفضل، هذا قول مالك وعبد العزيز ابن أبى سلمة والأوزاعى وعبيد الله بن الحسن، وهو أحد قولى الشافعى، وبه قال أبو ثور، وممن روى أن النبى عليه السلام أفرد الحج جابر وابن عباس وعائشة، وبهذا عمل أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعائشة، وابن مسعود بعد النبى عليه السلام‏.‏

وقال أبو حنيفة والثورى‏:‏ القران أفضل، وبه عمل النبى عليه السلام واحتجوا بحديث أنس أن النبى عليه السلام لما استوت به راحلته على البيداء أهل بحج وعمرة، وهو مذهب على بن أبى طالب، وطائفة من أهل الحديث، واختاره الطبى، وقال أحمد ابن حنبل‏:‏ لا شك أن الرسول كان قارنًا، قال‏:‏ والتمتع أحب إلى، لقول النبى عليه السلام‏:‏ ‏(‏لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما سقت الهدى، ولجعلتها عمرة‏)‏‏.‏

وقال آخرون‏:‏ التمتع أفضل، وهو قول ابن عمر وابن عباس وابن الزبير، وبه قال عطاء، وهو أحد قولى الشافعى، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، واحتجوا بحديث ابن عمر أن النبى عليه السلام تمتع فى حجة الوداع، وبقول حفصة‏:‏ ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وأما ما جاء من اختلاف ألفاظ حديث عائشة مما يوهم القران والتمتع فليس ذلك بموهن الإفراد؛ لأن رواة حديث الحج عنها‏:‏ الأسود، وعَمرة، والقاسم، وعروة، فأما الأسود وعَمرة فقالا عنها‏:‏ ‏(‏خرجنا لا نرى إلا الحج‏)‏، وقال أبو نعيم فى حديثه‏:‏ ‏(‏مهلين بالحج‏)‏‏.‏

وقال القاسم عنها‏:‏ ‏(‏خرجنا فى أشهر الحج وليالى الحج وحرم الحج‏)‏‏.‏

وفى رواية مالك فى الموطأ عن القاسم، عن عروة، عن عائشة‏:‏ ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج‏)‏، وكذلك صرح عروة عنها أنه عليه السلام أفرد الحج، ويشهد لصحة روايتها بالإفراد أن جابرًا وابن عباس رويا الإفراد عن النبى عليه السلام، فوجب رد ما خالف الإفراد من حديث عائشة إلى معنى الإفراد لتواتر الرواية به عن النبى عليه السلام‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد روى عبد العزيز بن عبد الله، وحماد بن سلمة، ومالك بن أنس، وعمرو بن الحارث، ومحمد بن مسلم الطائفى عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة فى إحرامها الذى كانت مع النبى عليه السلام فيه أنه كان حجة، وأنها قدمت مكة على النبى صلى الله عليه وسلم على ذلك، وزاد عمرو وابن أبى سلمة، وحماد بن سلمة، ومحمد بن مسلم على مالك ‏(‏أن النبى عليه السلام وأصحابه كانوا أيضًا فى حجة حتى قدموا مكة فأمرهم أن يجعلوها عمرة‏)‏‏.‏

وكذلك فى رواية عمرة والأسود موافقة القاسم عن عائشة بالإفراد‏.‏

وقولها‏:‏ ‏(‏لا نرى إلا الحج‏)‏ إنما هو على معنى لا نعرف إلا الحج؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون العمرة فى أشهر الحج، فخرجوا محرمين بالذى لا يعرفون غيره، قال‏:‏ والأشبه عندى أن يكون إحرام النبى عليه السلام كان بالحج خاصة لا بالحج والعمرة؛ لأنه قد أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة، ولا يجوز أن يكون أمرهم بذلك وهم فى حرمة عمرة أخرى؛ لأنهم يرجعون بذلك إلى أن يصيروا فى حرمة عمرتين، وقد أجمع المسلمون على المنع من ذلك، ومحال عندنا أن يجمعوا على خلاف ما كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لم يكن مخصوصًا به، وما لم ينسخ بعد فعله إياه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقد أشكل حديث عائشة على أئمة الفتوى، فمنهم من أوقف الاضطراب فيه عليها، ومنهم من جعل ذلك من قبيل ضبط الرواة عنها، ومعناه يصح إن شاء الله بترتيبه على موطنه ووقت إخبارها عنه فى المواقيت التى ابتدأ الإحرام منها، ثم أعقب حين دنا من مكة بما أمر من لم يسق الهدى بالفسخ‏.‏

فأما حديث الأسود عن عائشة فإنها ذكرت فيه البداءة وأنها أهلت بحجة مفردة بذى الحليفة، وأهل الناس كذلك، ثم لما دنوا من مكة أمر النبى صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدى أن يجعلها عمرة، إذ أوحى الله إليه بتجويز الاعتمار فى أشهر الحج فسخة منه تعالى لهذه الأمة ورحمة لهم بإسقاط أحد السفرين عنهم، وأمر من لم يكن معه هدى بالإحلال بعمرة؛ ليرى أمته جوازها، ويعرفهم بنعمة الله عليهم عيانًا وعملا بحضرة النبى عليه السلام‏.‏

وفى حديث عروة عن عائشة ذكرت أنهم كانوا فى إهلالهم على ضروبٍ‏:‏ مِنْ مُهلٍّ بحج، ومن مُهلٍّ بعمرة، وجامع بينهما، فأخبرت عمال آل أمر المحرمين، واختصرت ما أهلوا به فى ابتداء إحرامهم، ولم تأت بالحديث على تمامه كما جاء فى حديث عمرة عنها، فإنها ذكرت إحرامهم فى الموطنين، ولذلك قال القاسم‏:‏ أتتك بالحديث على وجهه‏.‏

يريد أنها ذكرت الابتداء بالإحرام والانتهاء إلى مكة، وأول حدودها ‏(‏سرف‏)‏، وما أمر به من الفسخ بعمرة‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ودل حديث عروة أنهم عرفوا العمرة فى أشهر الحج بما عرفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرهم به بعد قدومه مكة‏.‏

قال المؤلف‏:‏ واحتج من قال بالإفراد بقول مالك‏:‏ إذا جاء عن النبى عليه السلام حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر، فإن فى ذلك دلالة على أن الحق فى ما عملا به‏.‏

وقال الزهرى‏:‏ بلغنا أن عمر بن الخطاب قال فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، قال‏:‏ من تمامها أن تفرد كل واحدة من الأخرى‏.‏

وقال ابن حبيب‏:‏ أخبرنى ابن الماجشون قال‏:‏ حدثنى الثقات من علماء المدينة وغيرهم أن أول ما أقيم للناس الحج سنة ثمان مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين، فاستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة عتاب بن أسيد فأفرد الحج، ثم حج أبو بكر بالناس سنة تسع فأفرد الحج، ثم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخلف أبو بكر فأفرد الحج خلافته سنتين، ثم ولى عمر بن الخطاب فلم يشك أحد أن عمر أفرد الحج عشر سنين، وولى عثمان فأفرد الحج اثنتى عشرة سنة‏.‏

قال ابن الماجشون‏:‏ وحدثنى ابن أبى حازم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن عليا أفرد الحج، وأفرد ابن عمر ثلاثين سنة متوالية، ما تمتع ولا قرن إلا عامًا واحدًا، وأفردت عائشة كل عام حتى توفيت، قال ابن الماجشون‏:‏ فعلمنا أن الإفراد هو الذى فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كاليقين؛ لأنا نعلم بفعل أصحابه بعده، وهم بطانته، أنهم لا يتركون ما فعل، وهكذا قال لى المدنيون والمصريون من أصحاب مالك‏.‏

وأما نهى عثمان عن المتعة والقران وإهلال على بهما، فإن عثمان اختار ما أخذ به النبى عليه السلام فى خاصة نفسه وما أخذ به أبو بكر وعمر، ورأى أن الإفراد أفضل عنده من القران والتمتع‏.‏

والقران عند جماعة من العلماء من معنى التمتع لاتفاقهما فى المعنى، وذلك أن القارن يتمتع بسقوط سفره الثانى من بلده كما يصنع المتمتع الذى يحل من عمرته، وكذلك يتفقان فى الهدى والصوم لمن لم يجد هديًا عند أكثر العلماء‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما قول من اختار القران؛ لأنه الذى فعل النبى عليه السلام فإنه يفسد من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ توهين قول أنس بما رواه مروان الأصفر عن أنس نفسه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لِعَلىٍّ‏:‏ ‏(‏لولا أن معى الهدى لأحللت‏)‏ فبان بهذا أن النبى عليه السلام لم يكن قارنًا؛ لأن القارن لا يجوز له الإحلال، كان معه هدى أو لم يكن، وهذا إجماع‏.‏

والوجه الآخر‏:‏ أن التمتع والقران رخصتان، والإفراد أصل، ومحال أن تكون الرخصة أفضل من الأصل؛ لأن الدم الذى يدخل فى التمتع والقران جبران، وهو يجب لإسقاط أحد السفرين أو لترك شىء من الميقات؛ لأنه لو لم يقرن وأتى بكل واحدة منهما مفردة بعد ألا تكون العمرة فعلت فى شهور الحج، وأتى بكل واحدة من ميقاتها، لما وجب عليه دم‏.‏

وقد أَنْكَر القرانَ على أنسٍ‏:‏ عائشةُ وابنُ عمر وجعلاه من وهمه، وقالا‏:‏ كان أنس يدخل على النساء وهن منكشفات يصفانه بصغر السن وقلة الضبط لما خالف فيه الجماعة، هذا قول المهلب، قال‏:‏ وأما حجة من قال بالتمتع وأن النبى عليه السلام كان متمتعًا بحديث ابن عمر، فهى مردودة بما رواه البخارى فى حديث ابن عمر مما يرد به على نفسه، وهو حديث مسدد، قال‏:‏ حدثنا بشر ابن المفضل، حدثنا حميد الطويل، حدثنا بكر أنه ذكر لابن عمر أن أنسًا حدثهم ‏(‏أن النبى عليه السلام أهل بعمرة وحجة، فقال ابن عمر‏:‏ أهل الرسول صلى الله عليه وسلم بالحج وأهللنا به، فلما قدمنا مكة قال النبى عليه السلام‏:‏ من لم يكن معه الهدى فليجعلها عمرة، وكان معه النبى عليه السلام هدى‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

وذكر الحديث‏.‏

ذكره البخارى فى المغازى فى باب‏:‏ ‏(‏بعثه عليا وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع‏)‏، وأيضًا قوله فى حديث عائشة‏:‏ ‏(‏لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما سقت الهدى، ولجعلتها عمرة‏)‏ وهذا نص قاطع أنه عليه السلام لم يهل بعمرة، وليس فى قوله‏:‏ ‏(‏لو استقبلت من أمرى ما استدبرت، ما سقت الهدى، ولجعلتها عمرة‏)‏ دليل أن التمتع أفض من القران كما زعم أحمد بن حنبل، وإنما قال ذلك من أجل ما كَبُرَ عليهم مخالفة فعله لفعلهم حين بقى على إحرامه ولم يحل معهم حين أمرهم بفسخ الحج والإحلال وإصابة النساء، فشق ذلك عليهم وقالوا‏:‏ لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس، أمرنا أن نحل إلى نسائنا فنأتى عرفة تقطر مذاكرنا المنى، فآنستهم النبى عليه السلام وقال لهم‏:‏ ‏(‏قد علمتم أنى أصدقكم لله وأبركم، ولولا هدبى لتحللت كما تحلون‏)‏ فسكنوا إلى قوله وطابت نفوسهم، وسأذكر ما روى عن عروة، عن عائشة مما يوهم أن النبى عليه السلام تمتع، فى باب‏:‏ من ساق الهدى معه إن شاء الله وأبين الشبهة فيه‏.‏

وأما قول أهل مكة لأبى شهاب حين قدم مكة متمتعًا‏:‏ تصير حجتك الآن مكية، فمعنى ذلك أنه ينشئ حجة من مكة إذا فرغ من تمتعه كما ينشئ أهل مكة الحج من مكة؛ لأنها ميقاتهم للحج؛ لأن غير أهل مكة إن أحلوا من العمرة فى أشهر الحج، وأنشئوا الحج من عامهم دون أن يرجعوا إلى أُفُقِهم أو أُفُقٍ مثل أُفُقهِم فى البعد، فعليهم فى ترك ذلك الدم‏.‏

ولو خرج إلى الميقات بعد تمام العمرة ليهل بالحج منه لم يسقط ذلك عنه الدم عند مالك وأصحابه إلا أن يكون الميقات أُفُقه أو مثل أُفقه، وأما حديث حفصة وقولها‏:‏ ‏(‏ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك‏)‏ فإنه يوهم أنه عليه السلام أهل بعمرة وأنه تمتع؛ لأن الإحلال كان لمن تمتع، فهو توهم فاسد، وذكر ‏(‏عمرتك‏)‏ فى هذا الحديث وتركها سواء؛ لأن المأمورين بالحل هم المحرمون بالحج ليفسخوه فى عمرة، ويستحيل أن يأمر بذلك المحرمين بعمرة؛ لأن المعتمر يحل بالطواف والسعى والحلاق، لا شك فى ذلك عندهم، وقد اعتمروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عُمَرًا، وعرفوا حكم العمرة فى الشريعة، فلم يكن يعرفهم بشىء فى علمهم، بل عرفهم بما أحل الله لهم فى عامهم ذلك من فسخ الحج فى عمرة لما أنكروه من جواز العمرة فى زمن الحج‏.‏

وللعلماء فى قول حفصة‏:‏ ‏(‏ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك‏؟‏‏)‏ ضروب من التاويل، فقال بعضهم‏:‏ إنما قالت له ذلك لأنها ظنت أنه عليه السلام كان فسخ حجه فى عمرة كما أمر بذلك من لا هدى معه من أصحابه وهم الأكثر، فذكر لها عليه السلام العلة المانعة من الفسخ، وهى سوقه للهدى، فبان أن الأمر ليس كما ظننته‏.‏

وقيل‏:‏ معناه ما شأن الناس حلوا من إحرامهم، ولم تحل أنت من إحرامك الذى ابتدأته معهم بنية واحدة، بدليل قوله‏:‏ ‏(‏لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما سقت الهدى، ولجعلتها عمرة‏)‏‏.‏

فعلم بهذا أنه لم يحرم بعمرة، هذا قول ابن القصار‏.‏

وقيل‏:‏ معناه‏:‏ لِمَ لَمْ تحل من حجك بعمرة كما أمرت أصحابك‏؟‏ وقالوا‏:‏ قد تأتى ‏(‏من‏)‏ بمعنى ‏(‏الباء‏)‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏)‏ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏ أى بأمر الله، تريد لم تحل أنت بعمرة من إحرامك الذى جئت به مفردًا فى حجتك‏.‏

وأما قول ابن عباس لأبى جمرة فى المتعة‏:‏ هى السنة، فمعنى ذلك أن كل ما فى أمر النبى صلى الله عليه وسلم بفعله فهو سنة، وكذلك معنى قول على لعثمان فى القران‏:‏ ما كنت لأدع سنة النبى عليه السلام لقول أحد، يعنى‏:‏ سنته التى أمر بها؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم فعل فى خاصته غيرها وهو الإفراد‏.‏

وأما فسخ الحج فى عمرة فهو فى حديث عائشة وابن عباس وجابر وغيرهم، فالجمهور على تركه، وأنه لا يجوز فعله بعد النبى عليه السلام وليس لأحد دخل فى حجة أن يخرج منها إلا بتمامها، ولا يحله منها شىء قبل يوم النحر من طواف ولا غيره، وإنما أمر به أصحابه ليفسخ ما كان عليه أهل الجاهلية من تحريم العمرة فى أشهر الحج؛ لأنه خشى عليه السلام حلول أجله قبل حجة أخرى فيجعلها عمرة فى أشهر الحج‏.‏

فلما لم يتسع له العمر بما استدل عليه من كتاب الله ومن قرب أجله، أمرهم بالفسخ وأحل لهم ما كانت الجاهلية تحرمه من ذلك، وقد قال أبو ذر‏:‏ ما كان لأحد بعده أن يحرم بالحج ثم يفسخه فى عمرة‏.‏

رواه الأعمش عن إبراهيم التيمى، عن أبيه، عن أبى ذر، ورواه الليث عن المرقع بن صيفى الأسدى، عن أبى ذر، وروى ذلك عن عثمان بن عفان، رواه أبو عوانة عن معاوية بن إسحاق، عن إبراهيم التيمى، عن أبيه، عن عثمان، عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله تعالى كان يخص نبيه بما شاء، وإنه قد مات فأتموا الحج والعمرة لله تعالى‏)‏‏.‏

وقال جابر‏:‏ ‏(‏المتعتان فعلناهما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهى عمر عنهما فلن نعود إليهما‏)‏ يعنى‏:‏ فسخ الحج ومتعة النساء‏.‏

وروى ربيعة بن عبد الرحمن عن الحارث بن بلال بن الحارث المزنى، عن أبيه قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أفسخ الحج لنا خاصة أم لمن بعدنا‏؟‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بل لنا خاصة‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ولا يجوز للصحابة أن يقولوا هذا بآرائهم، وإنما قالوه من جهة ما وقفوا عليه؛ لأنهم لا يجوز لهم ترك ما فعلوه مع النبى عليه السلام من الفسخ إلا بتوقيف منه إياهم على الخصوصية بذلك، ومنع من سواهم منه، فثبت أن الناس جميعًا بعدهم ممنوعون من الخروج من الحج إلا بتمامه إلا أن يُصَدُّوا‏.‏

ووجه ذلك من طريق النظر أنه من أحرم بعمرة فطاف لها وسهى أنه قد فرغ منها، وله أن يحلق ويحل، هذا إذا لم يكن ساق هديًا، ورأيناه إذا ساق الهدى لمتعته، فطاف لعمرته وسعى لم يحل حتى جاء يوم النحر فيحل منها ومن حجته إحلالاً واحدًا، فكان الهدى الذى ساقه لمتعته التى لا يكون عليه فيها هدى إلا بأن يحج؛ يمنعه من أن يحل بالطواف إلا يوم النحر؛ لأن عقد إحرامه هكذا؛ كان أن يدخل فى عمرة فيتمها، فلا يحل منها حتى يحرم بحجة ثم يحل منها ومن العمرة التى قدمها قبلهما معًا‏.‏

وكانت العمرة لو أحرم بها منفردة حل منها بعد فراغه منها إذا حلق ولم ينتظر يوم النحر، وكان إذا ساق الهدى لحجه يحرم بها بعد فراغه من تلك العمرة بقى على إحرامه إلى يوم النحر، فلما كان الهدى الذى هو من سبب الحج يمنعه الإحلال بالطواف بالبيت قبل يوم النحر، كان دخوله فى الحج أحرى أن يمنعه من ذلك إلى يوم النحر‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ولم يُجِزْ فسخ الحج أحد من الصحابة إلا ابن عباس، وتابعه أحمد بن حنبل وأهل الظاهر، وهو شذوذ من القول، والجمهور الذين لا يجوز عليهم تحريف التاويل هم الحجة التى يلزم اتباعها‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى حديث عائشة الأول فى قولها‏:‏ ‏(‏فلما قدمنا تطوفنا بالبيت‏)‏ تفسير لقول من قال فى العمرة‏:‏ ‏(‏صنعناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ يعنى‏:‏ أنه عليه السلام صنعها أمرًا لا فعلاً؛ لأنه معلوم أن عائشة لم تطف لأنها كانت حائضًا، وإنما حكت عمن طاف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ما طفتِ ليالى قدمنا مكة‏)‏ يعنى لم تُحِلِّى من حجتك بعمرة كما حل الناس بالطواف بالبيت والسعى، قالت‏:‏ ‏(‏لا، فأمر أخاها فأعمرها إذ لم تعتمر قبل‏)‏‏.‏

وقول صفية‏:‏ ‏(‏ما أرانى إلا حابستهم‏)‏ أى حتى أطهر من حيضتى وأطوف طواف الوداع؛ لأنها قد كانت طافت طواف الإفاضة المفترض وهى طاهر، قال مالك‏:‏ والمرأة إذا حاضت بعد الإفاضة فلتنصرف إلى بلدها، فإنه قد بلغنا فى ذلك رخصة من النبى صلى الله عليه وسلم للحائض، يعنى حديث صفية، وستأتى مذاهب العلماء فى من ترك طواف الوداع فى باب‏:‏ إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت إن شاء الله‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما قوله فى حديث ابن عباس‏:‏ ‏(‏كانوا يجعلون المحرم صفر‏)‏ فهو النسئ الذى قال الله تعالى يحلون الشهر الحرام أعنى المحرم، ويحرمون الحلال‏:‏ صفر، أى يؤخرون حرمة الحرام إلى الحلال صفر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتعاظم ذلك‏)‏ أى تعاظم مخالفة العادة التى كانوا عليها من تأخيرالعمرة عن أشهر الحج، فسألوه عن الإحلال فقالوا‏:‏ ‏(‏أى الحل‏؟‏‏)‏ إحلال الطيب والمخيط كما يحل مَنْ رمى جمرة العقبة وطاف للإفاضة أم غيره، فأخبرهم أنه الحل كله بإصابة النساء‏.‏

وقول أبى موسى‏:‏ ‏(‏قدمت على النبى عليه السلام فأمره بالحل‏)‏ يريد أنه أمره بالفسخ لما لم يكن معه هدى، كما أمر أصحابه الذين لا هدى لهم، وأما أبو جمرة فإنه خشى من التمتع حبوط الأجر ونقصان الثواب للجمع بينهما فى سفر واحد وإحرام واحد، وكان الذين أمروه بالإفراد إنما أمروه بفعل النبى عليه السلام فى خاصة نفسه لينفرد الحج وحده، ويخلص عمله من الاشتراك فيه، فأراه الله الرؤيا ليعرفه أن حجه مبرور وعمرته متقلبة فى حال الاشتراك، ولذلك قال له ابن عباس‏:‏ ‏(‏أقم عندى‏)‏ ليقص على الناس هذه الرؤيا المثبتة لحل التمتع، وفى هذا دليل أن الرؤيا الصادقة شاهد على أمور اليقظة‏.‏

وفى قوله‏:‏ ‏(‏أجعل لك سهمًا من مالى‏)‏ أن العالم يجوز له أخذ الأجرة على العلم والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏عَقْرى حَلْقى‏)‏ دعاء عليها، وقد اختلف فى معناه، فقيل‏:‏ معناه‏:‏ عقرها الله وأصابها بوجع فى حلقها، وقيل‏:‏ هو من حلق الرأس، وسأذكر أقوال أهل اللغة فى هذه الكلمة وأتقصاه فى كتاب الدب فإنه بوب لها بابًا إن شاء الله‏.‏