فصل: باب مَنْ لَبَّى بِالْحَجِّ وَسَمَّاهُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب مَنْ لَبَّى بِالْحَجِّ وَسَمَّاهُ

- فيه‏:‏ جَابِر، قَدِمْنَا مَعَ النَّبِىّ عليه السَّلام وَنَحْنُ نَقُولُ‏:‏ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ، لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً‏.‏

- وفيه‏:‏ عِمْرَان، تَمَتَّعْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ السنة لمن أراد الحج أن ينويه ويسميه عند التلبية به، وكذلك فى التمتع والقران، وعلى هذا جمهور الفقهاء؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الأعمال بالنيات‏)‏ وهذا الباب خلاف على الشافعى، فإنه يجيز أن ينعقد الحج بإحرام من غير تعيين إفراد أو قران أو تمتع، وقد تقدم هذا مستقصى فى باب‏:‏ من أهل فى زمن النبى عليه السلام كإهلال النبى‏.‏

ومعنى حديث عمران فى هذا الباب كمعنى حديث جابر فى التلبية بالحج والتسمية له، ووجه ذلك أن عمران لم يكن ليقدم على القول عن نفسه وعن أصحابه أنهم تمتعوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وأنهم قد أسمع بعضهم بعضًا تلبيتهم للحج وتسميتهم له، ولولا ما تقدم لهم قبل تمتعهم من تسمية الحج والإهلال به لم يعلم عمران إن كانوا قصدوا مكة بحج أو عمرة، إذ عملهما واحد إلى موضع الفسخ، والفسخ لم يكن حينئذ إلا للمفردين بالحج، وهو الذين تمتعوا بالعمرة ثم حلوا ثم أحرموا بالحج، فدل هذا كله على أنه لابد من تعيين الحج أو العمرة عند الإهلال، وإن كان ذلك مفتقرًا إلى النية عند الدخول فيه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقول عمران‏:‏ ‏(‏تمتعنا على عهد النبى عليه السلام ونزل القرآن‏)‏ فإنه يريد أن التمتع والقران معمول به على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينسخه شئ، ونزل القرآن بإباحة العمرة فى أشهر الحج فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ وقوله‏:‏ ‏(‏قال رجل برأيه ما شاء‏)‏ يعنى‏:‏ من تركه والأخذ به، وأن الرأى بعد النبى عليه السلام باختيار الإفراد لا ينسخ ما سَنَّهُ من التمتع والقرانِ‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاسٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ، فَقَالَ‏:‏ أَهَلَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ وَأَزْوَاجُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَهْلَلْنَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اجْعَلُوا إِهْلالَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً إِلا مَنْ قَلَّدَ الْهَدْىَ‏)‏، فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ، وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ قَلَّدَ الْهَدْىَ، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لَهُ‏:‏ ‏(‏حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ ‏(‏‏)‏، ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَإِذَا فَرَغْنَا مِنَ الْمَنَاسِكِ جِئْنَا فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا وَعَلَيْنَا الْهَدْىُ كَمَا قَالَ تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ‏(‏إِلَى أَمْصَارِكُمُ، الشَّاةُ تَجْزِى، فَجَمَعُوا نُسُكَيْنِ فِى عَامٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ فِى كِتَابِهِ وَسَنَّهُ نَبِيُّهُ، وَأَبَاحَهُ لِلنَّاسِ غَيْرَ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ‏:‏ ‏)‏ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ‏(‏وَأَشْهُرُ الْحَجِّ الَّتِى ذَكَرَ اللَّهُ‏:‏ شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحَجَّةِ، فَمَنْ تَمَتَّعَ فِى هَذِهِ الأشْهُرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ أَوْ صَوْمٌ، وَالرَّفَثُ‏:‏ الْجِمَاعُ، وَالْفُسُوقُ‏:‏ الْمَعَاصِى، وَالْجِدَالُ‏:‏ الْمِرَاءُ‏.‏

اختلف العلماء‏:‏ فى حاضرى المسجد الحرام مَنْ هُمْ‏؟‏ فذهب طاوس ومجاهد إلى أنهم أهل الحرم، وقالت طائفة‏:‏ هم أهل مكة بعينها، روى هذا عن نافع مولى ابن عمر، وعن عبد الرحمن الأعرج، وهو قول مالك، قال‏:‏ هم أهل مكة، ذى طوى وشبهها، وأما أهل منى وعرفة والمناهل مثل قديد وعسفان ومَرُّ الظهران فعليهم الدم‏.‏

وذهب أبو حنيفة إلى أنهم أهل المواقيت فمن دونهم إلى مكة، وقال مكحول‏:‏ من كان منزله دون المواقيت إلى مكة فهو من حاضرى المسجد الحرام، وأما أهل المواقيت فهم كسائر أهل الآفاق، روى هذا عن عطاء، وبه قال الشافعى بالعراق، وقال الشافعى‏:‏ من كان من الحرم على مسافة لا يقصر فى مثلها الصلاة، فهو من حاضرى المسجد الحرام‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ولما اختلفوا فى ذلك نظرنا فوجدنا أصحابنا الكوفيين يقولون‏:‏ لكل من كان من حاضرى المسجد الحرام دخول مكة بغير إحرام، إذ كانوا قد جعلوا المكان الذى هم من أهله كمكة، واحتجوا فيه بما روى مالك عن نافع، عن ابن عمر‏:‏ ‏(‏أنه أقبل من مكة حتى إذا كان بقديد بلغه خبر من المدينة، فرجع فدخل مكة حلالا‏)‏؛ فدل هذا على أن أهل قديد كأهل مكة، وقد روى عن ابن عباس خلاف هذا، وروى عنه عطاء أنه كان يقول‏:‏ لا يدخل أحد مكة إلا محرمًا، وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏لا عمرة على المكى إلا أن يخرج من الحرم فلا يدخله إلا حرامًا وإن خرج قريبًا من مكة‏)‏، فهذا ابن عباس قد منع الناس جميعًا من دخول مكة بغير إحرام، فدل هذا أن من كان غير أهل مكة فهو عنده مخالف لحكم أهل مكة، ويدل على صحة هذا المعنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، ولم تحل لأحد قبلى، ولم تحل لى إلا ساعة من نهار‏)‏‏.‏

أو لا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصد بالحرمة إلى مكة دون ما سواها، فدل ذلك أن سائر الناس سوى أهلها فى حرمة دخولهم إياها سواء، فثبت بذلك قول ابن عباس، وفى ثبوت ذلك ما يجب به أن حاضرى المسجد الحرام هم أهل مكة خاصة، كما قال نافع والأعرج، لا كما قال أبو حنيفة وأصحابه‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ ومن الحجة لمالك أن حاضرى المسجد الحرام أهل القرية التى فيها المسجد الحرام خاصة، وليس أهل الحرم كذلك؛ لأنه لو كان كذلك لما جاز لأهل مكة إذا أرادوا سفرًا أن يقصروا الصلاة حتى يخرجوا عن الحرم كله، فلما جاز لهم قصر الصلاة إذا خرجوا عن بيوت مكة، دل ذلك على أن حاضرى المسجد الحرام هم اهل مكة دون الحرم، قاله الأبهرى‏.‏

قال إسماعيل‏:‏ وأما قول من قال‏:‏ من كان أهله دون المواقيت، فإن المواقيت ليس من هذا الباب فى شئ؛ لأنها لم تجعل للناس؛ لأنها حاضرة المسجد؛ ألا ترى أن بعض المواقيت بينها وبين مكة مسيرة ثمان ليال، وبين بعضها وبين مكة مسيرة ليلتين، فيكون من كان دون ذى الحليفة إلى مكة من حاضرى المسجد الحرام وبينه وبين مكة ثمان ليال، ومن كان منزله من وراء قرن مما يلى نجد ألا يكون من حاضرى المسجد الحرام، وإنما بينه وبين مكة مسيرة ليلتين وبعض أخرى، وإنما الحاضر للشىء من كان معه، فكيف يجعل من هو أبعد حاضرًا ومن هو أقرب ليس بحاضرٍ‏؟‏ ودليل آخر‏:‏ وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 25‏]‏ فهذا يدل أنه المسجد الحرام نفسه، وإنما صد المشركون النبى صلى الله عليه وسلم عن المسجد وعن البيت، فأما الحرم فقد كان غير ممنوع منه؛ لأن الحديبية تلى الحرم، وهذا قاطع لطاوس ومجاهد‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وأما قول ابن عباس فى التمتع‏:‏ ‏(‏فإن الله أنزله فى كتابه وسنة نبيه، وأباحه للناس غير أهل مكة‏)‏ فإن مذهبه أن أهل مكة لا متعة لهم، وذلك والله أعلم لأن العمرة لابد فى الإحرام بها من الخروج إلى الحل، ومن كان من أهل مكة فهى داره لا يمكنه الخروج منها، وهى ميقاته فى الإحرام بالحج، وقد صرح بذلك ابن عباس فقال‏:‏ ‏(‏يا أهل مكة، لا متعة لكم، إنما يجعل أحدكم بينه وبين مكة بطن واد، ويُهِلُّ‏)‏‏.‏

وهذا مذهب أبى حنيفة وأصحابه، قالوا‏:‏ ليس لأهل مكة تمتع ولا قران، فإن فعلوا فعليهم الدم، وأوجب ابن الماجشون الدم للقران ولم يوجبه للتمتع، واعتل ابن الماجشون بأن القارن قارن من حيثما حج، والمتمتع إنما هو المعتمر من بلده فى أشهر الحج المقيم بمكة حتى يحج، ومن كان أهلها فهى داره لا يمكنه الخروج منها إلى غير داره، وقد وضع الله ذلك عنه، ولم يذكر القارن‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وهذا خطأ؛ لأنه إذا جاز التمتع لأهل مكة فقد جاز لهم القران؛ لأنه لا فرق بينهما، واحتج أبو حنيفة بأن الاستثناء عنده فى الآية راجع إلى الجملة لا إلى الدم، قال‏:‏ ولو رجع إلى الدم لقال‏:‏ ‏(‏ذلك على من لم يكن أهله‏)‏، وقول القائل‏:‏ إن لفلان كذا يفيد نفى الإيجاب عليه، ولهذا لا يقال‏:‏ له الصلاة والصوم، وإنما يقال‏:‏ عليه الصلاة والصوم‏.‏

قال ابن القصار محتجا لمالك‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن تَمَتَّعَ ‏(‏لفظ يقتضى إباحة التمتع، ثم علق عليه حكمًا وهو الهدى، ثم استثنى فى آخرها أهل مكة، والاستثناء إذا وقع بعد فعل قد علق عليه حكم انصَرف إلى الحكم المعلق على الفعل لا إلى الفعل نفسه، فأهل مكة وغيرهم فى إباحة التمتع الذى هو الفعل سواء، والفرق بينهم فى الاستثناء يعود إلى الدم؛ لأنه الحكم المعلق على التمتع، وهذا بمنزلة قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن دخل منزله فهو آمن‏)‏ فلو وصله بقوله‏:‏ ذلك لمن لم يكن من أهل القينتين أو لغير ابن خطل لم يكن ذلك الاستثناء عائدًا إلا إلى الأمر، لا إلى الدخول، ولا يكون سائر الناس ممنوعين من دخول منازلهم ومنزل أبى سفيان، بل إن دخلوا فلهم الأمان كلهم إلا ابن خطل والقينتين ومن استثنى معهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ‏(‏لو تجرد من تمامه لم يعد كقوله‏:‏ زيد لا يفيد بانفراده حتى يخبر عنه بقائم أو قاعد أو غيره، فكذلك قوله‏:‏ ‏(‏فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ‏(‏لا يفيد شيئًا حتى يخبر عن حكمه، قوله‏:‏ ‏(‏فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ ‏(‏هو الحكم الذى به تتم الفائدة‏.‏

والفوائد إنما هى فى الأحكام المعلقة على أفعال العباد لا على أسمائهم، ومثله‏:‏ ‏(‏فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 30، 31‏]‏ معناه‏:‏ فإنه لم يسجد فلم تكن الفائدة فى الاستثناء راجعة إلا إلى نفى السجود الذى به يتم الكلام‏.‏

قال غيره‏:‏ فإنما أوجب الله الدم على المتمتع غير المكى؛ لأنه كان عليه أن يأتى مُحْرمًا بالحج من داره فى سفر، وبالعمرة فى سفر ثان، فلما تمتع بإسقاط أحد السفرين أوجب الله عليه الهدى، فكذلك القارن هو فى معنى المتمتع لإسقاط أحد السفرين، ودلت الآية على أن أهل مكة بخلاف هذا المعنى؛ لأن إهلالهم بالحج خاصة من مكة، ولا خروج لهم إلى الحل للإهلال إلا بالعمرة خاصة، فإذا فعلوا ذلك لم يُسْقِطُوا سفرًا لزمهم فلا دم عليهم، ففارقوا سائر أهل الآفاق فى هذا، وقد تقدم اختلافهم فيمن أحرم من مكة بالعمرة ولم يخرج إلى الحل للإحرام فى باب‏:‏ مهل أهل مكة للحج والعمرة‏.‏

باب الاغْتِسَالِ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ

- فيه‏:‏ ابْنُ عُمَرَ، أنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ ‏[‏أَدْنَى‏]‏ الْحَرَمِ أَمْسَكَ عَنِ التَّلْبِيَةِ، ثُمَّ يَبِيتُ بِذِى طِوًى، ثُمَّ يُصَلِّى بِهِ الصُّبْحَ، وَيَغْتَسِلُ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ الاغتسال لدخول مكة مستحب عند جميع العلماء، إلا أنه ليس فى تركه عامدًا عندهم فدية، وقال أكثرهم‏:‏ الوضوء يجزئ منه، وكان ابن عمر يتوضأ أحيانًا ويغتسل أحيانًا، وروى ابن نافع عن مالك أنه استحب الأخذ بقول ابن عمر فى الغسل للإهلال بذى الحليفة، وبذى طوى لدخول مكة، وعند الرواح إلى عرفة‏.‏

قال‏:‏ ولو تركه تارك من عذر لم أر عليه شيئًا، وقال ابن القاسم عن مالك‏:‏ إن اغتسل بالمدينة وهو يريد الإحرام ثم مضى من فوره إلى ذى الحليفة فأحرم، فإِنَّ غسله يجزئ عنه، قال‏:‏ وإن اغتسل بالمدينة غدوة وأقام إلى العشى ثم راح إلى ذى الحليفة فلا يجزئه، وأوجبه أهل الظاهر فرضًا على من أراد أن يحرم وإن كان طاهرًا، والأمة على خلافهم، وروى عن الحسن‏:‏ إذا نسى الغسل للإحرام يغتسل إذا ذكر، واختلف فيه عن عطاء، فقال مرة‏:‏ يكفى منه الوضوء، وقال مرة غير ذلك‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما أمسك ابن عمر عن التلبية فى أول الحرم؛ لأنه تأول أنه قد بلغ إلى الموضع الذى دعى إليه، ورأى أن يكبر الله ويعظمه ويسبحه؛ إذ قد سقط عنه معنى التلبية بالبلوغ، وكره مالك التلبية حول البيت، وقال ابن عيينة‏:‏ ما رأيت أحدًا يُقْتَدى به يلبى حول البيت إلا عطاء بن السائب‏.‏

وروى عن سالم أنه كان يلبى فى طوافه، وبه قال ربيعة والشافعى وأحمد وإسحاق، فَكُل وَاسِعٌ‏.‏

باب دُخُولِ مَكَّةَ نَهَارًا ولَيْلا

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ‏:‏ بَاتَ النَّبِىُّ عليه السَّلام بِذِى طُوًى حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ‏.‏

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ‏.‏

ذو طوى بضم الطاء‏:‏ موضع بمكة، مقصور، وذو طوى بفتح الطاء‏:‏ موضع باليمن، ممدود، قاله بعض أهل اللغة، وليس دخوله عليه السلام مكة إذا أصبح بأمر لازم لا يجوز تركه، ودخولها فى كل وقت واسع‏.‏

باب مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ مَكَّةَ

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، كَانَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا، وَيَخْرُجُ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى‏.‏

باب مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ‏؟‏

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِى بِالْبَطْحَاءِ، وَخَرَجَ مِنَ كَدَاءِ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام لَمَّا جَاءَ إِلَى دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ أَعْلاهَا، وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا‏.‏

وقالت مرة‏:‏ دَخَلَ عليه السَّلام مِنْ كَدَاءٍ، وَخَرَجَ مِنْ كُدًا مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ‏.‏

وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ عَلَى كِلْتَيْهِمَا، وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ، وَكَانَتْ أَقْرَبَهُمَا إِلَى مَنْزِلِهِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ أما دخوله عليه السلام مرة من أعلى مكة ومرة من أسفلها، فإنما فعله ليعلم الناس السعة فى ذلك، وأن ما يمكن لهم منه فمجزئ عنهم والله أعلم ألا ترى أن عروة كان يفعل ذلك، وإذا فتحت الكاف من كَدَاء مددت، وإذا ضممتها قصرت، وقد قيل‏:‏ كدى بالضم هو أعلى مكة، وقيل‏:‏ بل كداء بفتح الكاف أعلى مكة، وهو أصح‏.‏

باب فَضْلِ مَكَّةَ وَبُنْيَانِهَا

وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 125- 128‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ جَابِر، لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِىُّ عليه السَّلام وَعَبَّاسٌ يَنْقُلانِ الْحِجَارَةَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِىِّ، عليه السَّلام‏:‏ اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ، فَخَرَّ إِلَى الأرْضِ، وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَرِنِى إِزَارِى، فَشَدَّهُ عَلَيْهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىِّ عليه السَّلام قَالَ لَهَا‏:‏ ‏(‏أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَلى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ‏)‏‏؟‏ فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏لَوْلا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ‏)‏، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ‏:‏ لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ اسْتِلامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلا أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، سَأَلْتُ النَّبِىَّ عليه السَّلام عَنِ الْجَدْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ‏)‏، قُلْتُ‏:‏ فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِى الْبَيْتِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ‏)‏، قُلْتُ‏:‏ فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا، وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، وَلَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِى الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأرْضِ‏)‏‏.‏

- وقالت‏:‏ قال عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏لأمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالأرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ‏)‏‏.‏

فَذَلِكَ الَّذِى حَمَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى هَدْمِهِ‏.‏

قَالَ يَزِيدُ‏:‏ وَشَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ وَبَنَاهُ وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ حِجَارَةً كَأَسْنِمَةِ الإبِلِ‏.‏

قَالَ جَرِيرٌ‏:‏ فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ أَيْنَ مَوْضِعُهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أُرِيكَهُ الآنَ، فَدَخَلْتُ مَعَهُ الْحِجْرَ، فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ، فَقَالَ‏:‏ هَاهُنَا، قَالَ جَرِيرٌ‏:‏ فَحَزَرْتُ مِنَ الْحِجْرِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قد ذكر الله فضل مكة فى غير موضع من كتابه، ومن أعظم فضلها أنه تعالى فرض على عباده حجها، وألزمهم قصدها، ولم يقبل من أحد إلا باستقبالها، وهى قبلة أهل دينه أحياءً وأمواتًا‏.‏

وفى حديث عائشة معرفة بنيان قريش الكعبة، وقد بناها إبراهيم عليه السلام قبل ذلك، وقيل‏:‏ إن آدم خط البيت قبل إبراهيم، وقد نقل فيه النبى عليه السلام الحجارة مع عمه العباس وقريش فى الجاهلية‏.‏

وذكر أهل السير أن قريشًا لما بنت الكعبة وبلغت موضع الركن اختصمت فى الركن، أى القبائل يلى رفعه، فقالوا‏:‏ تعالوا نحكم أول رجل يطلع علينا، فطلع النبى عليه السلام فحكموه وسموه الأمين، وكان ذلك الوقت ابن خمس وثلاثين سنة فيما ذكر ابن إسحاق، فأمر بالركن فوضع فى ثوب، ثم أَمَر سَيِّدَ كُلِّ قبيلةٍ فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن فوضعه عليه السلام بيده، فعجبت قريش من سداد رأيه‏.‏

وكان الذى أشار بتحكيم أول رجل يطلع عليهم أبو أمية ابن المغيرة، والد أم سلمة زوج النبى عليه السلام، وكان عامئذٍ أسَنَّ قريش كلها، وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إنما امتنع من رده على قواعد إبراهيم خشية إنكار قريش لذلك‏.‏

وفى هذا من الفقه أنه يجب اجتناب ما يُسْرِعُ الناس إلى إنكاره وإن كان صوابًا، وقد روى أن هارون الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بناه الحجاج من الكعبة، وأن يرده إلى بنيان ابن الزبير، فقال له‏:‏ ناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس‏.‏

وفى الحديث دليل أن الحجر من البيت، وإذا كان ذلك فإدخاله واجب فى الطواف‏.‏

واختلف العلماء فيمن سلك الحجر فى طوافه، فكان عطاء، ومالك، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور يقولون‏:‏ يقضى ما طاف قبل أن يسلك فيه، ولا يعتد بما طاف فى الحجر، وقال أبو حنيفة‏:‏ إن كان بمكة قضى ما بقى عليه، وإن رجع إلى بلده فعليه دم، واحتج المهلب وأخوه لهذا القول فقالا‏:‏ إنما عليه أن يطوف بما بنى من البيت؛ لأن الحكم للبنيان لا للبقعة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 29‏]‏ أشار إلى البناء، والبقعة دون البناء لا تسمى بيتًا، والنبى عليه السلام إنما طاف بالبيت ولم يكن على الحجر علامة، وإنما علمها عمر إرادة استكمال البيت‏.‏

ذكر ذلك عبيد الله بن أبى يزيد وعمرو بن دينار فى باب بنيان الكعبة فى آخر مناقب الصحابة فى هذا الديوان، قالا‏:‏ ‏(‏لم يكن حول البيت حائط، إنما كانوا يصلون حول البيت، حتى كان عمر فبنى حوله حائطًا جَدْرُهُ قصير، فبناه ابن الزبير‏)‏ وكذلك كان الطواف قبل تحجير عمر حول البيت الذى قصرته قريش عن القواعد كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 26‏]‏، والطواف فرضه البيت المبنى ولو كان ذراعًا منه، وقد حج الناس من زمن النبى عليه السلام إلى زمن عمر فلم يؤمر أحد بالرجوع من بلده إلى استكمال‏.‏

وقد قال مالك‏:‏ من حلف لا يدخل دار فلان، فهدمت فدخلها أنه لا يحنث، فهذا يدل أن الدار والبيت إنما يخص بالبنيان لا بالبقعة‏.‏

قال المهلب‏:‏ ومعنى قول عبيد الله بن أبى يزيد وعمرو‏:‏ ‏(‏ولم يكن حول البيت حائط‏)‏ أى حائط يحجر الحجر من سائر المسجد حتى حجره عمر بالبنيان، ولم يبنه على الجَدْر الذى كان علامة أساس إبراهيم عليه السلام بل زاد ووسع قطعًا للشك أن الجَدْر هو آخر قواعد إبراهيم، فلما لم يكن عند عمر أن ذلك الجدر هو آخر قواعد البيت التى رفعها إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام، على يقين، ونقلِ كافة، مع معرفته أن قريشًا كانت قد هدمت البيت وبنته على غير القواعد، خشى أن يكون الجدر من بنيان قريش القديم، فزاد فى الفسحة استبراء للشك، ووسع الحجر حتى صار الجدر فى داخل التحجير، وقد بان هذا فى حديث جرير وهو قوله‏:‏ ‏(‏فحزرت من الحجر ستة أذرع أو نحوها‏)‏‏.‏

والحائط الذى بناه عمر حول الحجر ليس بحائط مرتفع، وهو من ناحية الحجر نحو ذراعين، ومن الجرف خارجه نحو أربعة أذرع إلى صدر الواقف من خارجه، ولم يكن الجدر الذى ظهر من أساس إبراهيم مرتفعًا، إنما كان علامة كالنجم والهدف لا بنيانًا‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والحجة لقول مالك إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أن البيت قصر به عن قواعد إبراهيم ولم يتم عليها، فمن طاف فى الحجر حصل طائفًا ببعضه؛ لأن البيت ما خطه آدم وبناه إبراهيم، وقد قال عمر وابنه عبد الله‏:‏ لولا أن الحجر من البيت ما طيف به‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ الحجر من البيت، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ‏(‏، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف من وراء الحجر، فدل أنه إجماع، ومن لم يستوف الطواف بالبيت وجب ألا يجزئه، كما لو فتح بابا فى البيت فطاف وخرج منه، والباء عند سيبويه فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ‏(‏للامتزاج والاختلاط لا للتبعيض، وسيأتى ذكر استلام الأركان فى موضعه إن شاء الله‏.‏

والجَدْر‏:‏ واحد الجدور، وهى الحواجز التى بين السواقى التى تمسك الماء، وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال‏:‏ سمعت الوليد بن عطاء يحدث عن الحارث ابن عبد الله بن أبى ربيعة، عن عائشة، أن النبى عليه السلام قال لها‏:‏ ‏(‏وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها‏؟‏ قالت‏:‏ لا، قال‏:‏ تعززًا لئلا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا كرهوا أن يدخلها يدعوه يرتقى حتى إذا كاد أن يدخلها دفعوه فسقط‏)‏‏.‏

باب فَضْلِ الْحَرَمِ

وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ‏}‏ الآية ‏[‏النمل‏:‏ 91‏]‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا‏}‏ الآية ‏[‏القصص‏:‏ 57‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلا مَنْ عَرَّفَهَا‏)‏‏.‏

فيه‏:‏ التصريح بتحريم الله تعالى مكة والحرم وتخصيصها بذلك من بين البلاد، قال القاضى أبو بكر بن الطيب‏:‏ وقد اعترض تحريمَ الله لمكة وأنه جعلها حرمًا آمنًا قوم من أهل البدع وقالوا‏:‏ قد قُتل خلق بالحرم والبيت من الأفاضل كعبد الله بن الزبير ومن جرى مجراه، وهو تكذيب للخبر، زعموا‏.‏

قال القاضى‏:‏ ولا تعلق لهم بذلك؛ لأن هذا القول خرج مخرج الخبر، والمراد به الأمر بأمان من دخل البيت وألا يقتل، ولم يرد الإخبار عن أن كل داخل إليه آمن، فعلى مثل هذا خرج قول الرسول عليه السلام‏:‏ ‏(‏من ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل الكعبة ودخل دار أبى سفيان فهو آمن‏)‏‏.‏

إنما قصد الأمر بأمان من ألقى سلاحه ودخل فى هذه المواضع، ولم يرد بذلك الخبر، ومثل هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏ يعنى بذلك الأمر لهن بالتربص دون الخبر عن تربص كل مطلقة؛ لأنها قد تعصى الله ولا تتربص، فكذلك قال‏:‏ ‏(‏وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏، أى أَمِّنُوا من دخله‏.‏

وهو على صفة من يجب أن يُؤَمَّنَ، فمن لم يفعل ذلك عصى الله تعالى وخالف، ومتى جعل هذا القول أمرًا بطل تمويههم، وقد يجوز أن يكون أراد تعالى‏:‏ ومن دخله كان آمنًا يوم الفتح وقت قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من ألقى سلاحه فهو آمن ومن دخل دار أبى سفيان كان آمنًا، ومن اعتصم بالكعبة كان آمنًا‏)‏ فلا يناقض عدم الأمن فى غير ذلك الوقت وجوده فيه، فيكون قوله أن من دخل البلد الحرام كان آمنًا فى بعض الأوقات دون بعضها، وسيأتى فى باب‏:‏ ‏(‏لا يحل القتال بمكة‏)‏ من كتاب الحج زيادة فى بيان هذا المعنى والله الموفق‏.‏

باب تَوريثِ دُورِ مكةَ وبَيِعها وشِرائها

وأنَّ الناسَ فِى المسجدِ الحَرامِ سواء خاصَّة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ أُسَامَةَ، أَنَّهُ قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ فِى دَارِكَ بِمَكَّةَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ‏)‏، وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ، هُوَ وَطَالِبٌ، وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلا عَلِىٌّ شَيْئًا لأنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ‏:‏ لا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ‏.‏

وقال ابْنُ شِهَابٍ‏:‏ وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ قَوْلَ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ‏}‏ الآية ‏[‏الأنفال‏:‏ 72‏]‏‏.‏

اختلف السلف فى تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏ فروى عن عطاء أنه قال‏:‏ الناس فى البيت سواء ليس أحد أحق به من أحد، وروى نحوه عن ابن عباس، وقال مجاهد‏:‏ أهل مكة وغيرهم فى المنازل سواء‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد اختلف العلماء فى بيعها وكرائها، فذكر عن عطاء ومجاهد أنه لا يحل بيع أرض مكة ولا كرائها، وهو قول أبى حنيفة والثورى ومحمد، وكره مالك بيعها وكراءها‏.‏

وخالفهم آخرون فقالوا‏:‏ لا بأس ببيع أرضها وإجازتها، وجعلوها كسائر البلدان، هذا قول أبى يوسف، وذكر ابن المنذر عن الشافعى وطاوس إباحة الكرى، وكان أحمد بن حنبل يتوقى الكراء فى الموسم، ولا يرى بأسًا بالشراء، واحتج بأن عمر اشترى دار السجن بأربعة آلاف‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ واحتج من أجاز بيعها وكراءها بحديث أسامة؛ لأنه ذكر فيه ميراث عقيل وطالب لما تركه أبو طالب فيها من رباع ودور، قال الشافعى‏:‏ فأضاف الملك إليه وإلى من ابتاعها منه‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ واعتبرنا ذلك فرأينا المسجد الحرام الذى كل الناس فيه سواء لا يجوز لأحد أن يبتنى فيه بناء، ولا يحتجز منه موضعًا، وكذلك حكم جميع المواضع التى لا يقع لأحد فيها ملك وجميع الناس فيها سواء؛ ألا ترى أن عرفة لو أراد رجل أن يبتنى فى المكان الذى يقف الناس فيه منها بناء لم يكن له ذلك، وكذلك نى لو أراد أن يبتنى فيها دارًا كان من ذلك ممنوعًا‏.‏

وكذلك جاء الأثر عن النبى عليه السلام روى إبراهيم بن مهاجر عن يوسف بن ماهك، عن أمه، عن عائشة أنها قالت‏:‏ ‏(‏يا رسول الله، ألا تتخذ لك بمنى شيئًا تستظل فيه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يا عائشة، إنها مُناخ لمن سبق‏)‏ وكانت أم يوسف بن ماهك تخدم عائشة فسألت مكان عائشة بعدما توفى النبى عليه السلام أن تعطيها إياه فقالت لها عائشة‏:‏ لا أحل لك ولا لأحد من أهل بيتى أن يستحل هذا المكان‏)‏، تعنى مِنىً، فهذا حكم المواضع التى الناس فيها سواء ولا ملك لأحد عليها‏.‏

ورأينا مكة على غير ذلك، قد أجيز البناء فيها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دخلها‏:‏ ‏(‏من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن‏)‏‏.‏

فأثبت لهم أملاكهم، فلما كانت مما يغلق عليه الأبواب ومما يبنى فيها المنازل كانت صفتها صفة المواضع التى تجرى عليها الأملاك وتقع فيها المواريث‏.‏

وقال غيره‏:‏ ألا ترى أن عمر اشترى دار السجن من صفوان، ومحال أن يشترى منه ما لا يجوز له ملكه، وقد ثبت عن الصحابة أنهم كانت لهم الدور بمكة، منهم أبو بكر الصديق، والزبير بن العوام، وحكيم بن حزام، وعمرو بن العاص، وصفوان بن أمية وغيرهم، وتبايع أهل مكة لدورهم قديمًا أشهر من أن يخفى‏.‏

واحتج الذين كرهوا بيع دور مكة وكراءها بحديث علقمة بن نضلة قال‏:‏ ‏(‏توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وما ترعى رباع مكة إلا السوائب‏)‏‏.‏

وبما رواه نافع، عن ابن عمر أن عمر كان ينهى أن تغلق دور مكة فى زمن الحاج‏.‏

وقال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ وما تأول مجاهد فى الآية فظاهر القرآن يدل على أنه المسجد الذى يكون فيه النسك والصلاة، لا سائر دور مكة، قال الله‏:‏ ‏(‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏ أى‏:‏ ويصدون عن المسجد الحرام، فدل ذلك كله على أن الذى كان المشركون يفعلونه هو التملك على المسجد الحرام وادعاؤهم أنهم أربابه وولائه، وأنهم منعوا منه ومن أرادوا ظلمًا، وأن الناس كلهم فيه سواء، فأما المنازل والدور فلم تزل لأهل مكة غير أن المواساة تجب إذ كانت الضرورة، ولعل عمر فعل ذلك على طريق المواساة عند الحاجة والله أعلم‏.‏

وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ وحديث أسامة حجة فى أن من خرج من بلده مسلمًا وبقى أهله وولده فى دار الكفر ثم غزا مع المسلمين بلده؛ أن أهله وماله وولده على حكم البلد كما كانت دار النبى عليه السلام على حكم البلد وملكه، ولم ير نفسه أحق بها، وهذا قول مالك فى ‏(‏المدونة‏)‏، وبه قال الليث، وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى كتاب الجهاد فى باب‏:‏ ‏(‏إذا غنم المشركون مال المسلم ثم وجده المسلم‏)‏ إن شاء الله، وبيان مذاهبهم فيها، وفى حديث أسامة أن المسلم لا يرث الكافر، وسيأتى بيان ذلك أيضًا فى كتاب الفرائض إن شاء الله‏.‏

باب نُزُولِ النَّبِىِّ عليه السَّلام مَكَّةَ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام حِينَ أَرَادَ قُدُومَ مَكَّةَ وَهُوَ بِمِنًى الغَدِ مِن يَوْمَ النَّحْرِ‏:‏ ‏(‏مَنْزِلُنَا غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِى كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ‏)‏‏.‏

يَعْنِى ذَلِكَ الْمُحَصَّبَ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَكِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِى هَاشِمٍ، وَبَنِى عَبْدِالْمُطَّلِبِ، أَوْ بَنِى الْمُطَّلِبِ، أَنْ لا يُنَاكِحُوهُمْ وَلا يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام‏.‏

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ‏:‏ بَنِى الْمُطَّلِبِ أَشْبَهُ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قد فسر ابن عباس أن نزول النبى عليه السلام بالمحصب لم يكن سنة، وقال‏:‏ المحصب ليس بشئ، فإنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون أسمح لخروجه، يعنى‏:‏ إلى المدينة‏.‏

وذكر أهل السير أنهم بقوا ثلاث سنين فى الشِّعب وكان المشركون كتبوا صحيفة لبنى هاشم وبنى المطلب بالتبرؤ منهم، وألا يقبلوا منهم صلحاَ أبدًا، ولا يدخلوا إليهم طعامًا، وعلقوا الصحيفة فى الكعبة، فاشتد عليهم البلاء فى الشِّعب‏.‏

وكان قوم من قصى ممن ولدتهم بنو هاشم قد أجمعوا على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة، فبعث الله عند ذلك الأرضة على الصحيفة، فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق لهم، ولم تترك فيها اسمًا من أسماء الله عز وجل إلا لحسته وبقى ما كان فيها من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم، فأطلع الله رسوله على ذلك، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى طالب فقال أبو طالب‏:‏ لا والثواقب ما كذبتنى، فانطلق فى عصابة من بنى عبد المطلب حتى أتوا المسجد وهم خائفون لقريش، فلما رأتهم قريش أنكروهم، وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم برمته إليهم‏.‏

فقال أبو طالب‏:‏ جرت بيننا وبينكم أمور لم نذكرها لكم، فائتوا بصحيفتكم التى فيها مواثيقكم فلعله أن يكون بيننا صلح، وإنما قال ذلك أبو طالب خشية أن ينظروا فى الصحيفة قبل أن يأتوا بها، فأتوا بها معجبين لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع إليهم‏.‏

فلما وضعوها قال أبو طالب‏:‏ إنما أتيناكم فى أمر هو نصف بيننا وبينكم، إن ابن أخى لم يكذبنى، إن هذه الصحيفة قد بعث الله عليها دابة لم تترك فيها اسمًا لله إلا لحسته، وتركت فيها غدركم وظلمكم لنا، فإن كان الحديث كما يقول فلا والله لا نسلمه حتى نموت، وإن كان باطلا دفعنا إليكم صاحبكم فقتلتم أو استحييتم، فقالوا‏:‏ رضينا، ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق عليه السلام قد أخبر بالحق، قالوا‏:‏ هذا سحر ابن أخيك، وزادهم ذلك بغيًا وعدوانًا‏.‏

قال ابن شهاب‏:‏ فلما أفسد الله صحيفة مكرهم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطه، فعاشوا وخالطوا الناس، ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، وكان الذى كتب الصحيفة منصور بن عكرمة بن هاشم بن عبد العزى، وذكر أنه شلت يده بعد ذلك، عن ابن إسحاق‏.‏

قال الخطابى‏:‏ الخيف‏:‏ ما انحدر عن الجبل، وارتفع عن المسيل، وبه سمى مسجد الخيف‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ‏}‏ الآيات ‏[‏إبراهيم‏:‏ 35- 37‏]‏

وقوله‏:‏ ‏(‏جَعلَ اللهُ الكعبةَ البيتَ الحَرامَ قِيامًا للناسِ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 97‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، كَانُوا يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ، وَكَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الْكَعْبَةُ، فَلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ رَمَضَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ شَاءَ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَتْرُكْهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، قَالَ‏:‏ قَالَ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَيُحَجَّنَّ الْبَيْتُ وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ‏)‏‏.‏

وروى شُعْبَةَ، عن قَتَادَة‏:‏ ‏(‏لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لا يُحَجَّ الْبَيْتُ‏)‏، وَالأوَّلُ أَكْثَرُ‏.‏

اختلف السلف فى تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قِيامًا للناسِ ‏(‏ فقال سعيد بن جبير‏:‏ قوامًا لدينهم وعصمة لهم، وقال عطاء‏:‏ ‏(‏قِيامًا للناسِ ‏(‏‏:‏ لو تركوه عامًا لم يُنظروا أن يهلكوا‏.‏

وأما حديث عائشة فهو مصدق للآية، ومعناه‏:‏ أن المشركين كانوا يعظمون الكعبة قديمًا بالستور والكسوة ويقومون إليها كما يفعل المسلمون، وأما حديث أبى هريرة أن ذا السويقتين يخرب الكعبة، فهو مبين لقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏(‏رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 53‏]‏ أن معناه الخصوص، وأن الله تعالى جعلها حرمًا آمنًا غير وقت تخريب ذى السويقتين لها؛ لأن ذلك لا يكون إلا باستباحته حرمتها وتغلبه عليها، ثم تعود حرمتها ويعود الحج إليها كما أخبر الله نبيه و خليله إبراهيم فقال له‏:‏ ‏(‏وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 27‏]‏ فهذا شرط الله لا ينخرم ولا يحول، وإن كان فى خلاله وقت يكون فيه خوف فلا يدوم ولابد من ارتفاعه ورجوع حرمتها وأمنها وحج العباد إليها، كما كان قبل إجابته لدعوة إبراهيم خليله، يدل على ذلك حديث أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ليحججن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج‏)‏‏.‏

وعلى هذا التأويل لا تتضاد الآثار ولا معنى الآية، ولو صح ما ذكره قتادة لكان ذلك وقتًا من الدهر، ويحتمل أن يكون ذلك وقت تخريب ذى السويقين لها بدليل حديث أبى سعيد‏.‏

باب كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ

- فيه‏:‏ عُمَرَ، أنَّهُ جَلَس عَلَى الْكُرْسِىِّ فِى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ‏:‏ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلا بَيْضَاءَ إِلا قَسَمْتُهُ، قُلْتُ‏:‏ إِنَّ صَاحِبَيْكَ لَمْ يَفْعَلا، قَالَ‏:‏ هُمَا الْمَرْءَانِ أَقْتَدِى بِهِمَا‏.‏

قال ابن جريج‏:‏ زعم بعض علمائنا أن أول من كسا الكعبة إسماعيل، عليه السلام‏.‏

قال ابن جريج‏:‏ وبلغنى أن تُبَّعًا أول من كساها، ولم تزل الملوك فى كل زمان يكسونها بالثياب الرفيعة، ويقومون بما تحتاج إليه من المؤنة تبركًا بذلك، فرأى عمر أن ما فيها من الذهب والفضة لا تحتاج إليه الكعبة لكثرته، فأراد أن يصرفه فى منافع المسلمين نظرًا لهم وحيطة عليهم، فلما أخبره شيبة بأن النبى صلى الله عليه وسلم وأبا بكر لم يتعرضا لذلك وتركاه أمسك وصوب فعلهما، وإنما ترك ذلك والله أعلم لأن ما جعل فى الكعبة وسبل لها يجرى مجرى الأوقاف، ولا يجوز تغيير الأوقاف عن وجوهها ولا صرفها عن طرقها، وفى ذلك أيضًا تعظيم للإسلام وحرمانه، وترهيب على العدو، وقد روى ابن عيينة عن عمرو، وعن الحسن قال‏:‏ قال عمر ابن الخطاب‏:‏ ‏(‏لو أخذنا ما فى هذا البيت، يعنى الكعبة، فقسماه، فقال له أبىّ بن كعب‏:‏ والله ما ذلك لك، قال‏:‏ ولم‏؟‏ قال‏:‏ لأن الله بين موضع كل مال، وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ صدقت‏)‏‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ ما وجه ترجمة هذا الباب بباب كسوة الكعبة ولا ذكر فيه لكسوة‏؟‏ قيل له‏:‏ معنى الترجمة صحيح، ووجهها أنه معلوم أن الملوك فى كل زمان كانوا يتفاخرون بكسوة الكعبة برفيع الثياب المنسوجة بالذهب وغيره، كما يتفاخرون بتسبيل الأموال إليها، فأراك البخارى أن عمر لما رأى قسمة الذهب والفضة الموقفين بهما على أهل الحاجة صوابًا، كان حكم الكسوة حكم المال، تجوز قسمتها، بل ما فضل من كسوتها أولى بالقسمة على أهل الحاجة من قسمة المال، إذ قد يكون نفقة المال فيما تحتاج إليه الكعبة فى إصلاح ما يهى منها، وفى ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ وأجرة قيم، والكسوة لا تدعو إليها ضرورة وبكفى منها بعضها‏.‏

وفى هذا حجة لمن قال‏:‏ إنه يجوز صرف ما فضل فى سبيل من سبل الله فى سبيل آخر من سبل الله إذا كان ذلك صوابًا، وفى فعل النبى صلى الله عليه وسلم وفعل أبى بكر حجة لمن رأى إبقاء الأموال على ما سبلت عليه، وترك تغييرها عما جعلت له، وفى قوله‏:‏ ‏(‏هما المرآن أقتدى بهما‏)‏ من الفقه ترك خلاف كبار الأئمة وفضل الاقتداء بهما، وأن ذلك فعل السلف‏.‏

باب هَدْمِ الْكَعْبَةِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةُ‏:‏ قَالَ عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏كَأَنِّى بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ، يَقْلَعُهَا حَجَرًا حَجَرًا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ‏)‏‏.‏

فى هذه الآثار إخبار عما يكون من الحدثان والأشراط، وذلك يكون فى أوقات مختلفة، فحديث عائشة أن الجيش الذى يغزو الكعبة يخسف بهم هو فى وقت غير وقت هدم ذى السويقتين لها، ويمكن أن يكون هدمه لها عند اقتراب الساعة والله أعلم، ولا يدل ذلك أن الحج ينقطع؛ فقد أخبر عليه السلام أن البيت يحج بعد خروج يأجوج ومأجوج، وأن عيسى ابن مريم يحج ويعتمر بعد ذلك، وقال صاحب العين‏:‏ الفحج‏:‏ تباعد ما بين أوساط الساقين، والنعت‏:‏ أفحج‏.‏

باب مَا ذُكِرَ فِى الْحَجَرِ الأسْوَدِ

- فيه‏:‏ عُمَرَ، أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الأسْوَدِ، فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ‏:‏ إِنِّى أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ، وَلَوْلا أَنِّى رَأَيْتُ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ‏.‏

قال الطبرى‏:‏ إنما قال ذلك عمر والله أعلم؛ لأن الناس كانوا حديث عهد بعبادة الأصنام، فخشى عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر هو مثل ما كانت العرب تفعله فى الجاهلية، فأراد عمر أن يعلم أن استلامه لا يقصد به إلا تعظيم الله تعالى والوقوف عند أمر نبيه عليه السلام إذ ذلك من شعائر الحج التى أمر الله بتعظيمها، وأن استلامه مخالف لفعل أهل الجاهلية فى عبادتهم الأصنام؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنها تقربهم إلى الله زلفى، فنبه عمر على مجانبة هذا الإعتقاد، وأنه لا ينبغى أن يعبد إلا من يملك الضر والنفع، وهو الله تعالى‏.‏

وقال المهلب‏:‏ حديث عمر هذا يرد قول من قال‏:‏ إن الحجر يمين الله فى الأرض، يصافح بها عباده، ومعاذ الله أن يكون لله جارحة مجسمة بائنة عن ذاته، وإنما شرع النبى عليه السلام تقبيله على ما كانت شريعة إبراهيم عليه مع أن معناه التذلل لله والخضوع، والائتمار لما امر به على لسان نبى من أنبيائه، وليعلم عيانًا ومشاهدة طاعة من أطاع أمره، وعصيان من أبى من امتثاله، وهى شبيهة بقصة إبليس فيما أمر به من السجود لآدم اختبارًا له‏.‏

وروى عن ابن عباس أن استلام الحجر مبايعة الله عز وجل‏.‏

وقال مالك فى المجموعة‏:‏ إذا استقبل الركن حمد الله وكبر‏.‏

وقيل‏:‏ أيرفع يديه عنده‏؟‏ قال‏:‏ ما سمعت، ولا عند رؤية البيت‏.‏

وقال مكحول‏:‏ كان عليه السلام إذا رأى البيت رفع يديه وقال‏:‏ اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا ومهابة، وزد من شَرَفِهِ وكَرَمِهِ مَنْ حج إليه واعتمر تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا، ويقال عند استلام الركن‏:‏ بسم الله، والله أكبر، اللهم إيمانًا بك وتصديقًا بما جاء به محمد نبيك‏.‏

باب إِغْلاقِ الْبَيْتِ وَيُصَلِّى فِى أَىِّ نَوَاحِى الْبَيْتِ شَاءَ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ‏:‏ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلالٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْبَيْتَ، فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا فَتَحُوا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ، فَلَقِيتُ بِلالا فَسَأَلْتُهُ هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قال الشافعى‏:‏ من صلى فى جوف الكعبة مستقبلا حائطًا من حيطانها فصلاته جائزة، فإن صلى نحو الباب والباب مفتوح فصلاته باطل؛ لأنه لم يستقبل شيئًا منها، فكأنه استدل على ذلك بغلق النبى عليه السلام الباب عل نفسه حين صلى، فيقال له‏:‏ لم يغلق النبى صلى الله عليه وسلم على نفسه الباب حين صلى فى الكعبة إلا لئلا يكثر الناس عليه فيه فيصلوا بصلاته، ويكون ذلك عندهم من مناسك الحج، كما فعل النبى عليه السلام فى صلاة الليل حين لم يخرج إليهم خشية أن يكتب عليهم، ولو كان غلق الباب من أجل أنه لا تجوز الصلاة فى البيت نحو الباب وهو مفتوح لبيَّنه عليه السلام لأمته؛ لأنه قد علم أنهم لابد لهم من دخول البيت والصلاة فيه، فلا معنى لقول الشافعى‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ ويقال‏:‏ إنه من صلى فى جوفها نحو الباب وهو مفتوح فقد استقبل بعض أرض الكعبة واستدبر الباقى منها، فكان يجب أن تجزئه عنده؛ لأنه لو انهدمت حيطان الكعبة صلى فى أرضها وأجزأه ذلك عنده‏.‏

باب الصَّلاةِ فِى الْكَعْبَةِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ مَشَى قِبَلَ الْوَجْهِ حِينَ يَدْخُلها، وَيَجْعَلُ الْبَابَ قِبَلَ الظَّهْرِ، يَمْشِى حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِى قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيبًا مِنْ ثَلاثِ أَذْرُعٍ، فَيُصَلِّى يَتَوَخَّى الْمَكَانَ الَّذِى أَخْبَرَهُ بِلالٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِيهِ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَأْسٌ أَنْ يُصَلِّىَ فِى أَىِّ نَوَاحِى الْبَيْتِ شَاءَ‏.‏

وقد تقدمت مذاهب العلماء فى الصلاة فى الكعبة فى أبواب القبلة فى كتاب الصلاة فى باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏ فأغنى عن إعادته‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ اختلف بلال وأسامة فى صلاة النبى صلى الله عليه وسلم فى الكعبة، فحكم أهل العلم لبلال على أسامة؛ لأنه شاهد، وأسامة نافٍ غيرُ شاهد، وكذلك الفضل أيضًا نافٍ، والشاهد أولى من النافى؛ لأن الشاهد يحكى فعلا حفظه، والنافى غير حافظ لشىء يؤديه، وقد روينا حديثًا هو كالدليل فى هذا الباب على أن أسامة كان يغيب عن النبى عليه السلام فيحتمل أن يكون صلى فى غيبته‏.‏

حدثنا على بن عبد العزيز، حدثنا عاصم بن على قال‏:‏ حدثنى ابن أبى ذئب، عن عبد الرحمن بن مهران، عن عمير مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد قال‏:‏ ‏(‏رأى النبى عليه السلام صورًا فى الكعبة، قال‏:‏ فكنت آتية بماء فى الدلو ويضرب به الصور، وقال‏:‏ قاتل الله قومًا يصورون ما لا يخلقون‏)‏‏.‏

وروى موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله أن عائشة كانت تقول‏:‏ ‏(‏عجبًا لمن يدخل فى الكعبة كيف يرفع رأسه إعظامًا لله وإجلالاً، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فما خلف بصره موضع سجوده‏)‏‏.‏

باب مَنْ لَمْ يَدْخُلِ الْكَعْبَةَ

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَحُجُّ كَثِيرًا وَلا يَدْخُلُ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ‏:‏ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَهُ مَنْ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ‏:‏ أَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْكَعْبَةَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا‏.‏

ليس دخول الكعبة من مناسك الحج؛ ألا ترى أن النبى عليه السلام لم يدخلها حين اعتمر، فمن دخلها فهو حسن، ومن لم يدخلها فلا شىء عليه، وروى عن ابن عباس أنه قال‏:‏ دخول الكعبة ليس من نسككم‏.‏

باب مَنْ كَبَّرَ فِى نَوَاحِى الْكَعْبَةِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الآلِهَةُ، فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ، فَأَخْرَجُوا صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِى أَيْدِيهِمَا الأزْلامُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ، فَدَخَلَ الْبَيْتَ فَكَبَّرَ فِى نَوَاحِيهِ، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ‏)‏‏.‏

قد تقدم فى باب الصلاة فى الكعبة، وفى كتاب الصلاة أن الناس تركوا رواية ابن عباس وأسامة، وأخذوا بقول بلال‏:‏ ‏(‏أنه عليه السلام صلى فى الكعبة‏)‏ وقد روى عن ابن عباس فى هذه المسألة أنه قال‏:‏ فترك الناس قولى، وأخذوا بقول بلال‏.‏

فهذا يدل على أن العمل على الحكم للمثبت وترك النافى، وعليه جمهور الفقهاء‏.‏

وفى هذا الحديث من الفقه‏:‏ أنه يجب على العالم والرجل الفاضل اجتناب مواضع الباطل، وأن لا يشهد مجالس الزور، وينزه نفسه عن ذلك‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وفيه من الفقه الإبانة عن كراهة دخول النبى صلى الله عليه وسلم بيتًا فيه صورة، وذلك لأن الآلهة التى كانت فى البيت يومئذ إنما كانت تماثيل وصورًا، وقد تظاهرت الأخبار عنه عليه السلام أنه كان يكره دخول بيت فيه صورة، فإن قال قائل‏:‏ الإحرام دخول البيت الذى فيه التماثيل والصور‏؟‏ قيل‏:‏ لا، ولكنه مكروه، وسأتقصى الكلام فى ذلك فى كتاب اللباس والزينة فى باب‏:‏ من كره القعود على الصور، وفى باب‏:‏ لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة إن شاء الله‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والأزلام جمع زلم، ويقال‏:‏ زلم، وهى قداح كانت الجاهلية يتخذونها يكتبون على بعضها‏:‏ نهانى ربى، وعلى بعضها‏:‏ أمرنى ربى، وعلى بعضها‏:‏ نعم، وعلى بعضها‏:‏ لا، فإذا أراد أحدهم سفرًا أو غير ذلك، دفعوها إلى بعضهم حتى يقبضها، فإن خرج القدح الذى عليه أمرنى ربى مضى، وإن خرج الذى مكتوب نهانى ربى كَفَّ عن الذى أراد من العمل‏.‏

والاستقسام‏:‏ الاستفعال من قسم الرزق والحاجات، وذلك طلب أحَدِهم بالأزلام على ما قسم له فى حاجته التى يلتمسها من نجاح أو حرمان، فأبطل الله ذلك من فعلهم وأخبر أنه فسق، وإنما جعله فسقًا؛ لأنهم كانوا يستقسمون عند آلهتهم التى يعبدونها ويقولون‏:‏ يا إلهنا، أخرج الحق فى ذلك، ثم يعلمون بما خرج فيه، فكان ذلك كفرًا بالله، لإضافتهم ما يكون من ذلك من صواب أو خطأ إلى أنه من قسم آلهتهم، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إبراهيم وإسماعيل أنهما لم يكونا يستقسمان بالأزلام، وإنما كانا يفوضان أمرهما إلى الله الذى لا يخفى عليه علم ما كان وما هو كائن؛ لأن الآلهة لا تضر ولا تنفع‏.‏

باب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الرَّمَلِ‏؟‏

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ‏:‏ إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ، وَقَدْ وَهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام أَنْ يَرْمُلُوا الأشْوَاطَ الثَّلاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأشْوَاطَ كُلَّهَا إِلا الإبْقَاءُ عَلَيْهِمْ‏.‏

ذكر ابن أبى شيبة قال‏:‏ حدثنا عبد الأعلى، عن الجريرى، عن أبى الطفيل قال‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ ‏(‏ألا تحدثنى عن الرمل، فإن قومك زعموا أنه سنة، قال‏:‏ صدقوا وكذبوا، قلت‏:‏ ما صدقوا وكذبوا‏؟‏ قال‏:‏ قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فقال أهل مكة‏:‏ إن محمدًا وأصحابه لا يستطعون أن يطوفوا من الهزل، وأهل مكة ناس حُسَّد، فبلغ ذلك النبى عليه السلام فاشتد عليه فقال‏:‏ أَرُوهُمُ اليومَ منكم ما يكرهون، قال‏:‏ فرمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الثلاثة الأشواط، ومشوا الأربعة‏)‏‏.‏

وروى فطر عن أبى الطفيل، عن ابن عباس ‏(‏فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمل من الحجر الأسود إلى الركن اليمانى، فإذا توارى عنهم مشى‏)‏‏.‏

ففى هذا الحديث أن الرمل كان من أَجْلِهم، لا لأنه سنة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه من الفقه أن إظهار القوة للعدو فى الجسام والعدة والسلاح، ومفارقة الهدوء والوقار فى ذلك من السنة، كما أمر النبى عليه السلام بالخب فى الثلاثة الأشواط، ومثله إباحته عليه السلام للحبشة اللعب فى المسجد بالحراب لهذا المعنى، والمسجد ليس بموضع لعب، بل هو موضع وقار وخشوع لله تعالى، لكن لما كان من باب القوة والعدة والرهبة على المنافقين وأهل الكتاب المجاورين لهم أباحه فى المسجد؛ لأنه أمر من امر جماعة المسلمين، والمسجد الجماعة المسلمين، وقال صاحب الأفعال‏:‏ رمل رملا‏:‏ أسرع فى المشى، وقال صاحب العين‏:‏ الرمل‏:‏ ضرب من المشى، والشوط‏:‏ جرى مرة إلى الغاية، والجمع أشواط، وقال الطبرى‏:‏ يقال‏:‏ شاط يشوط شوطًا، إذا عدا غَلْوَةً بعيدة‏.‏

باب اسْتِلامِ الْحَجَرِ الأسْوَدِ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ وَيَرْمُلُ ثَلاثًا

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، رَأَيْتُ النَّبِىّ عليه السَّلام حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأسْوَدَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلاثَةَ أشواط مِنَ السَّبْعِ‏.‏

سنة الطواف أن يبدأ الداخل مكة بالحجر الأسود فيقبله إن استطاع، أو يمسحه بيمينه ويقبلها بعد أن يضعها عليه، فإن لم يقدر قام بحذائه فكبر ثم أخذ فى طوافه، ثم مضى على يمينه على باب الكعبة إلى الركن الذى لا يستلم، ثم إلى الذى يليه مثله، ثم إلى الركن الثالث، وهو اليمانى الذى يستلم، ثم إلى الركن الأسود، وهذه طوفة واحدة، يفعل ذلك ثلاثة أطواف يرمل فيها، ثم أربعة لا يرمل فيها، وهذا إجماع من العلماء أنه من فعل هذا فقد فعل ما ينبغى، فإن لم يطف كما وصفنا، وجعل البيت عن يمينه ومضى من الركن الأسود على يساره فقد نكس طوافه، ولم يجزئه عند مالك والشافعى وأبى ثور، وعليه أن يرجع من بلاده ويطوف؛ لأنه كمن لم يطف، لخلافه سنة النبى عليه السلام فى طوافه، ومن خالفه فَفِعْلُه رد، والمردود غير مقبول‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ يعيد الطواف ما كان بمكة، فإذا بلغ الكوفة أو أبعد كان عليه دم ويجزئه، واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 29‏]‏‏.‏

قالوا‏:‏ ولم يفرق بين طواف منكوس أو غيره، فوجب أن يجزئه، والخب‏:‏ ضرب من العَدْو، يقال‏:‏ خبت الدابة تخب خبا، إذا أسرعت المشى وراوحت بين قدميها، وكذلك تقول العرب للخيل إذا وصفتها بسرعة السير‏:‏ مراوحة بين أيديها، فأما إذا رفعت أيديها معًا ووضعتها كذلك فذلك التقرين لا الخَبَب‏.‏

باب الرَّمَلِ فِى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، سَعَى النَّبِىُّ عليه السَّلام ثَلاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَمَشَى أَرْبَعَةً فِى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ‏.‏

- وفيه‏:‏ عُمَرَ، أنه قَالَ لِلرُّكْنِ‏:‏ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ، وَلَوْلا أَنِّى رَأَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ، فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ فَمَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ شَىْءٌ صَنَعَهُ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَلا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ‏:‏ مَا تَرَكْتُ اسْتِلامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ فِى شِدَّةٍ وَلا رَخَاءٍ مُنْذُ رَأَيْتُ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُمَا، قُلْتُ لِنَافِعٍ‏:‏ أَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمْشِى بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِنَّمَا كَانَ يَمْشِى، لِيَكُونَ أَيْسَرَ لاسْتِلامِهِ‏.‏

واختلف أهل العلم فى الرمل هل هو سنة لا يجب تركها فى الحج والعمرة أو لا‏؟‏ فروى عن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن عمر أن الرمل سنة لكل قادم مكة فى الثلاثة الأطواف الول، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ليس الرمل سنة، ومن شاء فعله، ومن شاء تركه، روى ذلك عن ابن عباس، وعطاء، وطاوس، والحسن، والقاسم، وسالم‏.‏

واختلفوا فيما يجب على من تركه، فروى عن ابن عباس وهو المشهور عنه أنه لا شىء عليه، وبه قال عطاء، ورواه ابن وهب عن مالك، وهو قول أبى حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور‏.‏

وقال الحسن البصرى‏:‏ عليه دم، وهو قول الثورى، ورواه معن عن مالك، وقال ابن القاسم‏:‏ رجع عن ذلك مالك، وذكر ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وابن القاسم أن عليه الدم فى قليل ذلك وكثيره، واحتج بقول ابن عباس‏:‏ من ترك من نسكه شيئًا فعليه دم‏.‏

وهذا الاستدلال خطأ؛ لأن الأَشْهَر عن ابن عباس أن من شاء رمل، ومن شاء لم يرمل، ومذهبه أن من ترك الرمل فلا شىء عليه‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ قد ثبت أن النبى عليه السلام رمل ولا مشرك يومئذ بمكة يرائى بالرمل، فكان معلومًا أنه من مناسك الحج، غير أنا لا نرى على من تركه عامدًا ولا ساهيًا قضاء ولا فدية؛ لأن من تركه فليس بتارك لعمل، وإنما هو تارك منه لهيئة وصفة، كالتلبية التى من سنة النبى عليه السلام فيها العج ورفع الصوت، فإن خفض الصوت بها كان غير مضيع للتلبية ولا تاركها، وإنما ضيع صفة من صفاتها، ولا يلزمه بترك العج ورفع الصوت قضاء ولا فدية‏.‏

وأجمعوا أنه لا رَمَل على النساء فى طوافهن بالبيت ولا هرولة فى سعيهن بين الصفا والمروة، وكذلك أجمعوا أنه لا رمل على من أحرم بالحج من مكة من غير أهلها؛ لأنهم رملوا فى حين دخولهم مكة حين طافوا للقدوم‏.‏

واختلفوا فى اهل مكة هل عليهم رمل‏؟‏ فكان ابن عمر لا يراه عليهم، واستحبه مالك والشافعى للمكى‏.‏

وعلة من لم ير الرمل للمكى أنه من سنة القادم، وليس المكى بقادم، وعلة من استحبه للمكى فى طواف الإفاضة؛ لأنه طواف ينوب عن طواف القدوم وطواف الإفاضة، فاستحب له الرمل ليأتى بِسُنَّة هى فى أحد الطوافين، فتتم له السُّنَّةُ فى ذلك، كما أنه يسعى بين الصفا والمروة فى طواف الإفاضة، وغير المكى لا يسعى بين الصفا والمروة إلا مع طواف الدخول‏.‏

باب اسْتِلامِ الرُّكْنِ بِالْمِحْجَنِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، طَافَ النَّبِىُّ عليه السَّلام فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ‏.‏

يحتمل أن يكون استلامه الركن بمحجنه لشكوى كان به، وقد روى ذلك أبو داود فى مصنفه، وروى فى ذلك وجه آخر، وروى الطبرى من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حول البيت على بعير يستلم الركن بمحجنه، كراهية أن يصرف الناس عنه‏)‏‏.‏

فترك الرسول صلى الله عليه وسلم استلامه بيده إما لشكواه، وإما كراهة أن يُضَيِّق على الطائفين ويزاحمهم ببعيره، فيؤذيهم بذلك، أو لهما جميعًا، فركب راحلته وأشار بالمحجن، وقد روى فى ذلك وجه ثالث سأذكره فى باب‏:‏ التكبير عند الركن إن شاء الله‏.‏

قال المهلب‏:‏ واستلام الرسول صلى الله عليه وسلم الركن بمحجنه يدل على أن استلام الركن ليس بفرض، وإنما هو سنة من النبى صلى الله عليه وسلم؛ ألا ترى قول عمر‏:‏ ‏(‏لولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك‏)‏، وسيأتى الطواف على الدابة بعد هذا فى موضعه إن شاء الله‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ قال الأصمعى‏:‏ المحجن‏:‏ العصا المعوجة الرأس‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ هى عصا يجتذب بها العامل ما نأى عنه من ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ معوجة الرأس‏.‏

قال الطبرى‏:‏ ومنه قولهم‏:‏ احتجن فلان كذا، إذا أخذه، وأصله إمالته إلى نفسه، كالمحجن الذى أُميل طرفه إلى معظَمِهِ وعُطِفَ عَلَيْهِ‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏يستلم‏)‏ يعنى‏:‏ يصيب السَّلام، والسلام هو الحجر، وإنما يستلم يستفعل منه، فمعنى الكلام‏:‏ طاف النبى صلى الله عليه وسلم على راحلته يومئ بالمحجن الذى معه إلى الحجر الأسود حتى يصيبه ويكبر، ثم يقبل من محجنه الموضع الذى أصاب الحجر منه‏.‏

باب مَنْ لَمْ يَسْتَلِمْ إِلا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ

- فيه‏:‏ جَابر بْن زيد، قَالَ‏:‏ وَمَنْ يَتَّقِى شَيْئًا مِنَ الْبَيْتِ‏؟‏ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الأرْكَانَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ إِنَّهُ لا يُسْتَلَمُ هَذَانِ الرُّكْنَانِ، فَقَالَ‏:‏ لَيْسَ شَىْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُورًا، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَسْتَلِمُهُنَّ كُلَّهُنَّ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، لَمْ أَرَ النَّبِىَّ عليه السَّلام يَسْتَلِمُ مِنَ الْبَيْتِ إِلا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ إنما لم يستلم النبى صلى الله عليه وسلم إلا الركنين اليمانيين، لأنهما مبنيان على منتهى البيت مما يليهما، والآخران ليسا كذلك؛ لأن الحجر وراءهما وهو من البيت، وذلك أن قريشًا قصرت بهم النفقة عن قواعد إبراهيم فتركت منه فى الحجر ستة أذرع، وقد أجمعوا أن ما بين الركنين اليمانيين لا يستلم؛ لأنه ليس من قواعد إبراهيم، فكان يجئ فى النظر أن يكون كذلك الركنان الآخران لا يستلمان؛ لأنهما ليسا من قواعد إبراهيم، فليسا بركنين لبيت‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد نزع ابن عمر بمثل ما نزعنا به فى ذلك، وذلك لأنه لما أخبرت عائشة بقول النبى صلى الله عليه وسلم لها‏:‏ ‏(‏ألم ترى أن قومك حين بَنَوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم قالت‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، ألا تردها على قواعد إبراهيم‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث، قال ابن عمر‏:‏ لو كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر، إلا أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم‏.‏

وجمهور العلماء على استلام الركنين اليمانين، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقد روى عن أنس وجابر ومعاوية وابن الزبير وعروة أنهم كانوا يستلمون الأركأن كلها، والحجة عند الاختلاف فى السنة، وكذلك قال ابن عباس لمعاوية حين قال له معاوية‏:‏ ليس شىء من البيت مهجورًا، فقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 21‏]‏‏.‏

باب تَقْبِيلِ الْحَجَرِ

- فيه‏:‏ عُمَرَ أَنَّهُ قَبَّلَ الْحَجَرَ، وَقَالَ‏:‏ لَوْلا أَنِّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أنَّهُ سَأل رجل عَنِ اسْتِلامِ الْحَجَرِ، فَقَالَ‏:‏ رَأَيْتُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ، قَالَ‏:‏ أَرَأَيْتَ إِنْ زُحِمْتُ، أَرَأَيْتَ إِنْ غُلِبْتُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ اجْعَلْ أَرَأَيْتَ بِالْيَمَنِ، رَأَيْتُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ‏.‏

لا يختلف العلماء أن تقبيل الحجر الأسود فى الطواف من سنن الحج لمن قدر عليه، فإن لم يقدر عليه وضع يده عليه مستلمًا ثم رفعها إلى فيه، فإن لم يقدر قام بحذائه وكبر، فإن لم يفعل فلا أعلم أحدا أوجب عليه فدية ولا دَمَا‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقول عمر‏:‏ ‏(‏لولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك‏)‏‏.‏

إنما قاله دفعًا لأمر الجاهلية وما كانوا يعبدونه من الأحجار، فأعلم الناس أن تقبيله للحجر ليست عبادة له، إنما هى عبادة لله باتباع سنة رسوله، والحجر لا يضر ولا ينفع، إنما ينفع الاستتان برسول الله صلى الله عليه وسلم فى تقبيله، وقد تقدم هذا المعنى للطبرى، وروى ابن المنذر عن إبراهيم بن مرزوق قال‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن نبى الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ليبعثن اللهُ الحجَر يوم القيامة له عينان ولسان، يشهد لمن استلمه بحق‏)‏‏.‏

باب التَّكْبِيرِ عِنْدَ الرُّكْنِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ‏:‏ طَافَ النَّبِىُّ عليه السَّلام بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَىْءٍ كَانَ عِنْدَهُ وَكَبَّرَ‏.‏

قد تقدم أن التكبير عند الركن دون استلام لا يفعل اختيارًا، وإنما يُفعل لعذر مرض أو زحام الناس عند الحجر‏.‏

واختلفوا فى الطواف راكبًا أو محمولاً، فقال الشافعى‏:‏ لا أحب لمن أطاق الطواف ماشيًا أن يركب، فإن طاف راكبًا أو محمولا من عذر أو غيره فلا دم عليه، واحتج بحديث ابن عباس هذا أن النبى عليه السلام طاف على راحلته، وبما رواه ابن جريج عن أبى الزبير، عن جابر ‏(‏أن النبى عليه السلام طاف فى حجة الوداع بالبيت وبين الصفا والمروة على راحلته ليراه الناس، وليشرف لهم وليسألوه؛ لأن الناس غَشَوْهُ‏)‏‏.‏

وذهب مالك والليث وأبو حنيفة إلى أن من طاف بالبيت راكبًا أو محمولا فإن كان من عذر أجزأه، وإن كان من غير عذر فعليه أن يعيد إن كان بمكة، وإن رجع إلى بلاده فعليه دم، وحجتهم ما رواه أبو داود قال‏:‏ حدثنا مسدد، حدثنا خالد بن عبد الله، حدثنا يزيد بن أبى زياد، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكى، فطاف على راحلته، كلما أتى الركن استلمه بمحجن، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ فدل أن طوافه راكبًا كان لشكوى كانت به‏.‏

باب مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا

- فيه‏:‏ عَائِشَة، أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام أَوَّلَ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مِثْلَهُ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِى الزُّبَيْرِ ابْن العوام، فَأَوَّلُ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارَ يَفْعَلُونَهُ، وَقَدْ أَخْبَرَتْنِى أُمِّى أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِىَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلانٌ وَفُلانٌ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، كَانَ عليه السَّلام إِذَا طَافَ فِى الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ سَعَى ثَلاثَةَ أَطْوَافٍ، وَمَشَى أَرْبَعَةً، ثُمَّ يسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ‏.‏

وَكَانَ يَسْعَى فِى بَطْنَ الْمَسِيلِ‏.‏

غرضه فى هذا الباب أن يبين سنة من قدم مكة حاجا أو معتمرًا أن يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، فإن كان معتمرًا حلق وحل، وإن كان حاجا ثبت على إحرامه حتى يخرج إلى منى يوم التروية لعمل حجه، ولذلك قال مالك‏:‏ إذا دخلت المسجد فلا تبدأ بالركوع، ولكن تستلم الركن وتطوف، وكذلك فعل النبى عليه السلام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ثم لم تكن عمرة‏)‏ يعنى أن النبى صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت ثم لم يحل من حجه بعمرة من أجل الهدى، وكذلك فعل أبو بكر وعمر أفردا الحج‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقادمين المحرمين بالحج تعجيل الطواف والسعى بين الصفا والمروة عند دخولهم، وفعل هو ذلك على ما روته عائشة عنه، وأمر من حَلَّ من أصحابه أن يحرموا إذا انطلقوا إلى منى، فإذا أحرم من هو منطلق إلى منى فغير جائز أن يكون طائفًا وهو منطلق إلى منى‏.‏

فدل هذا الحديث على أن من أحرم من مكة من أهلها أو غيرهم أن السنة أن يؤخروا طوافهم وسعيهم إلى يوم النحر، خلاف فعل القادمين؛ لتفريق السنة بين الفريقين، وأيضًا فإن أهل العلم سموا هذا الطواف‏:‏ طواف الورود، وليس من أنشأ الحج من مكة واردًا بحجه عليها، فسقط بذلك عنهم تعجيله‏.‏

وكان ابن عباس يقول‏:‏ يا أهل مكة، إنما طوافكم بالبيت وبين الصفا والمروة يوم النحر، وأما أهل الأمصار فإذا قدموا، وكان يقول‏:‏ لا أرى لأهل مكة أن يحرموا بالحج حتى يخرجوا، ولا أن يطوفوا بين الصفا والمروة حتى يرجعوا، هذا قول ابن عمر وجابر، وقالوا‏:‏ من أنشأ الحج من مكة فحكمه حكم أهل مكة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وهذا قول مالك وأهل المدينة وطاوس، وبه قال أحمد وإسحاق، واختلف قول مالك فيمن طاف وسعى قبل خروجه فكان يقول‏:‏ يعيد إذا رجع ولا يجزئه طوافه الأول ولا سعيه، وقال أيضًا‏:‏ إن رجع إلى بلاده قبل أن يعيد فعليه دم‏.‏

ورخصت طائفة فى ذلك، ورأت المكى ومن دخل مكة إن طفا وسعيا قبل خروجهما أن ذلك جائز، هذا قول عطاء والشافعى، غير أن عطاء كان يرى تأخيره أفضل، وقد فعل ذلك ابنُ الزبير، أَهَلَّ لما أَهَلَّ هلالُ ذى الحجة، ثم طاف وسعى وخرج، وأجازه القاسم بن محمد، وقال عطاء‏:‏ منزلة من جاور بمنزلة أهل مكة، إِنْ أَحْرَمَ أَوَّلَ العشر طاف حين يُحرم، وإن أحرم يوم التروية أخر الطواف إلى يوم النحر‏.‏

واختلفوا فيمن قدم مكة فلم يطف حتى أتى منى، فقالت طائفة‏:‏ عليه دم، هذا قول أبى ثور، واحتج بقول ابن عباس‏:‏ ‏(‏من ترك من نسكه شيئًا فليهرق لذلك دمًا‏)‏‏.‏

وحكى أبو ثور عن مالك‏:‏ يجزئه طواف الزيارة لطواف الدخول والزيارة والصدر، وحكى غيره عن مالك أنه إن كان مراهقًا فلا شىء عليه، فإن دخل غير مراهق فلم يطف حتى مضى إلى عرفات فإنه يهريق دما؛ لأنه فرط فى الطواف حين قدم حتى أتى إلى عرفات، وقال أبو حنيفة، والشافعى، وأشهب‏:‏ لا شىء عليه إن ترك طواف القدوم‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ أجمع أهل العلم على أن من ترك طواف القدوم وطاف للزيارة ثم رجع إلى بلده أن حجه تام، ولم يوجبوا عليه الرجوع كما أوجبوه عليه فى طواف الإفاضة، فدل إجماعهم على ذلك أن طواف القدوم ليس بفرض، وكان ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد والقاسم بن محمد لا يرون بأسًا إذا طاف الرجل أول النهار أنه يؤخر السعى حتى يبرد، وكذلك قال أحمد وإسحاق إذا كانت به علة، وقال الثورى‏:‏ لا بأس إذا طاف أن يدخل الكعبة، فإذا خرج سعى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فلما مسحوا الركن حَلُّوا‏)‏‏.‏

يريد بعد أن سعوا بين الصفا والمروة؛ لأن العمرة إنما هى الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة، ولا يحل من قدم مكة بأقل من هذا، فخشى البخارى أن يتوهم متوهم أن قوله‏:‏ ‏(‏فلما مسحوا الركن حلوا‏)‏ أن العمرة إنما هى الطواف بالبيت فقط، وأن المعتمر يحل من عمرته بالطواف بالبيت، ولا يحتاج إلى سعى بين الصفا والمروة، وهو مذهب ابن عباس، وروى عنه أنه قال‏:‏ إن العمرة الطواف‏.‏

وقال به إسحاق ابن راهويه، ويمكن أن يحتج من قال بهذا بقراءة ابن مسعود‏:‏ ‏(‏وأتموا الحج والعمرة إلى البيت‏)‏‏.‏

أى أن العمرة لا يجاوز بها البيت‏.‏

فأراد البخارى بيان فساد هذا التأويل بما أردف فى آخر الباب من حديث ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن النبى عليه السلام كان إذا قدم مكة للحج أو العمرة طاف بالبيت، ثم سعى بين الصفا والمروة‏)‏‏.‏

وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار‏.‏

باب طَوَافِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ

- فيه‏:‏ عَطَاء أنَّهُ قَالَ لابن هِشَام إِذْ مَنَعَ النِّسَاءَ الطَّوَافَ مَعَ الرِّجَالِ‏:‏ قَالَ‏:‏ كَيْفَ يَمْنَعُهُنَّ وَقَدْ طَافَ نِسَاءُ النَّبِىِّ عليه السَّلام مَعَ الرِّجَالِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَبَعْدَ الْحِجَابِ أَم قَبْلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَقَدْ أَدْرَكْتُهُ بَعْدَ الْحِجَابِ، قُلْتُ‏:‏ كَيْفَ يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَمْ يَكُنَّ يُخَالِطْنَ، كَانَتْ عَائِشَةُ تَطُوفُ حَجْرَةً مِنَ الرِّجَالِ لا تُخَالِطُهُمْ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ‏:‏ انْطَلِقِى نَسْتَلِمْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتِ‏:‏ انْطَلِقِى عَنْكِ وَأَبَتْ، يَخْرُجْنَ مُتَنَكِّرَاتٍ بِاللَّيْلِ فَيَطُفْنَ مَعَ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّهُنَّ كُنَّ إِذَا دَخَلْنَ الْبَيْتَ قُمْنَ حَتَّى يَدْخُلْنَ، وَأُخْرِجَ الرِّجَالُ وَكُنْتُ آتِى عَائِشَةَ أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَهِىَ مُجَاوِرَةٌ فِى جَوْفِ ثَبِيرٍ، قُلْتُ‏:‏ وَمَا حِجَابُهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ هِىَ فِى قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ لَهَا غِشَاءٌ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَرَأَيْتُ عَلَيْهَا دِرْعًا مُوَرَّدًا‏.‏

- فيه‏:‏ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ‏:‏ شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّى أَشْتَكِى، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏طُوفِى مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ‏)‏، فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ يُصَلِّى إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، وَهُوَ يَقْرَأُ‏:‏ ‏(‏وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ‏}‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قول عطاء‏:‏ قد طاف الرجال مع النساء، يريد أنهم طافوا فى وقت واحد غير مختلطات بالرجال؛ لأن سنتهن أن يطفن ويصلين وراء الرجال ويستترن عنهم؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏طوفى من وراء الناس وأنت راكبة‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أن السنة إذا أراد النساء دخول البيت أن يخرج الرجال عنه، بخلاف الطواف حول البيت، وفيه المجاورة بمكة وهو نوع من الاعتكاف، وهو على ضربين‏:‏ مجاورة بالليل والنهار، فهو الاعتكاف، ومجاورة بالنهار وانصراف بالليل على حسب نيته وشرطه فيها‏.‏

وفيه‏:‏ جواز المجاورة فى الحرم كله، وإن لم يكن فى المسجد الحرام؛ لأن ثبيرًا خارج عن مكة، وهو فى طريق منى، وقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطور كانت فى صلاة الفجر، كذلك بوب له البخارى فى كتاب الصلاة، وذكره بعد هذا فى باب‏:‏ من صلى ركعتى الطواف خارجًا من المسجد‏:‏ أن النبى عليه السلام قال لأم سلمة‏:‏ ‏(‏إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفى على بعيرك والناس يصلون‏)‏‏.‏

وابن جرير هو راوى الحديث عن عطاء، وهو السائل له عن هذه القصة، وبينهما جرى الخطاب، وعطاء هو القائل‏:‏ وكنت آتى عائشة أنا وعبيد بن عمير وهى مجاورة فى جوف ثبير، قال‏:‏ ورأيت عليها درعًا موردًا وأنا صبى، وروى عبد الرزاق هذا الحديث عن ابن جريج أتم من رواية البخارى، وقال فيه‏:‏ فأبت أن تستلم، قال‏:‏ وكن يخرجن متنكرات بالليل، وقال فيه أيضًا‏:‏ ‏(‏كن إذا دخلن البيت سترن حين يدخلن‏)‏، مكان‏:‏ ‏(‏قمن حتى يدخلن‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ حجرة، يعنى ناحية من الناس معتزلة، وقال عبد الرزاق‏:‏ يعنى محجوزًا بينها وبين الرجال بثوب، والتركية‏:‏ قبة صغيرة من لبود‏.‏