فصل: باب الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ

- فيه‏:‏ أُسَامَةَ، قَالَ‏:‏ دَفَعَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَةَ، فَنَزَلَ الشِّعْبَ فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ، فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ الصَّلاةُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏الصَّلاةُ أَمَامَكَ‏)‏‏؟‏ فَجَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ، فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِى مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَصَلَّى، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏(‏الصلاة أمامك‏)‏ أى‏:‏ المصلى الذى تصلى فيه المغرب والعشاء أمامك‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ فيه البيان أن السنة فى إمام الحاج ألا يصلى ليلة يوم النحر المغرب والعشاء إلا بالمزدلفة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وأجمع العلماء على ذلك، ثم اختلفوا فيمن صلاهما قبل أن يأتى المزدلفة، فروى عن جابر بن عبد الله أنه قال‏:‏ لا صلاة إلا بِجَمْع، وإليه ذهب أبو حنيفة ومحمد والثورى وقالوا‏:‏ إن صلاهما قبل المزدلفة فعليه عليه السلام‏:‏ ‏(‏الصلاة أمامك‏)‏ فمن صلاهما دون المزدلفة فقد صلاهما فى غير وقتهما، ومن صلى صلاة فى غير وقتها فعليه إعادتها بعد دخول وقتها‏.‏

وقال مالك‏:‏ لا يصليهما أحد قبل جَمْعٍ إلا من عُذْرٍ به أو بدابته، فإن صلاهما بعذر لم يجمع بينهما حتى يغيب الشفق‏.‏

وفيها قول ثالث‏:‏ إن صلاهما قبل جَمْعٍ أجزأه، إمام الحاج كان أو غيره، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن الزبير، وعن عطاء، وعروة، والقاسم، وبه قال الأوزاعى، وأبو يوسف، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وحجة من أجاز الصلاة أن النبى عليه السلام جعل وقت هاتين الصلاتين من حين تغيب الشمس إلى آخر وقت العشاء الآخرة، وجعل له إن شاء أن يصليهما فى أول وقتهما، وإن شاء فى آخره، فأوقات الصلوات إنما هى محدودة بالساعات والزمان، فمن صلاهما بعد غروب الشمس بعرفة أو دون المزدلفة فقد أصاب الوقت وإن ترك الاختيار لنفسه فى الموضع، والصلاة لا تبطل بالخطأ فى الموضع إذا لم يكن نجسًا؛ ألا ترى أن من صلاهما بعد خروج وقتهما بالمزدلفة ممن لم يَصِلْ إلى المزدلفة إلا بعد طلوع الفجر أنه قد فاته وقتهما، فلا اعتبار بالمكان، ويشبه هذا المعنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يصلين أحدكم العصر إلا فى بنى قريظة‏)‏‏.‏

وأدرك وقت العصر القوم فى بعض الطريق، فمنهم من صلى، ومنهم من أَخَّر إلى بنى قريظة، فلم يعنف النبى صلى الله عليه وسلم أحدًا منهم‏.‏

واحتج الطحاوى لابن يوسف فقال‏:‏ لا يختلفون فى الصلاتين اللتين تصليان بعرفة أنهما لو صليتا دونها كل واحدة منهما فى وقتها فى سائر الأيام كانتا مجزئتين، فالصلاتان بمزدلفة أحرى أن تكونا كذلك؛ لأن أمر عرفة لما كان أوكد من أمر مزدلفة، كان ما يفعل فى عرفة أوكد مما يفعل فى مزدلفة، فثبت ما قال أبو يوسف، وانتفى ما قاله الآخرون‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏وتوضأ ولم يسبغ الوضوء‏)‏ يريد أنه خفف الوضوء، وهو أدنى ما تجزئ الصلاة به دون تكرار إمداد إمرار اليد عليه ليخص كل صلاة بوضوء على حسب عادته، وقد جاء ذلك مبينًا فى الحديث، وقد تقدم بيان ذلك فى كتاب الوضوء، والحمد لله‏.‏

قال الخطابى‏:‏ وسميت المزدلفة لاقترابهم إلى منى بعد الإفاضة من عرفات، يقال‏:‏ ازدلف القوم، إذا اقتربوا، ويقال‏:‏ بل سميت مزدلفة؛ لأنها منزلة وقربة من الله، وهو قول ثعلب، قال‏:‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 27‏]‏، أى رأوا العذاب قرب، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 64‏]‏ أى‏:‏ قربناهم من الهلاك، وقال الطبرى‏:‏ إنما سميت مزدلفة لازدلاف آدم إلى حواء بها، وكان كل واحد منهما حين أهبط إلى الأرض أهبط إلى مكان غير مكان صاحبه، فازدلف كل واحد منهما إلى صاحبه، فتلاقيا بالمزدلفة، فسميت البقعة بذلك‏.‏

والشّعب‏:‏ الطريق فى الجبل بكسر الشين، والشعب بفتح الشين‏:‏ الجمع بين الشيئين، يقال‏:‏ شعب فلان الشئ، إذا جمعه ولامه، ومنه قول الطرماح‏.‏

شتّ شَعْبُ القوم بَعْدَ التئام وقال الطبرى‏:‏ واختلفوا فى السبب الذى من أجله سميت عرفة‏.‏

فقال على بن أبى طالب وغيره‏:‏ إنما قيل لها ذلك؛ لأن الله بعث جبريل إلى إبراهيم فحج به، فلما أتى عرفة قال‏:‏ قد عرفت، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك‏.‏

وقال جماعة أخرى‏:‏ إنما قيل لها‏:‏ عرفات؛ لأن جبريل كان يقول لإبراهيم‏:‏ هذا موضع كذا، وهذا موضع كذا، فيقول‏:‏ قد عرفت قد عرفت‏.‏

باب مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَتَطَوَّعْ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، جَمَعَ النَّبِىُّ عليه السَّلام بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا وَلا عَلَى إِثْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو أَيُّوبَ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام جَمَعَ بين الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وروى مالك عن ابن شهاب حديث ابن عمر هذا ولم يذكر فيه أنه أقام لكل صلاة، وزاد الإقامة فى هذا الحديث عن ابن شهاب‏:‏ ابنُ أبى ذئب والليثُ، وهما ثقتان حافظان، وزيادة الحافظ مقبولة، وإنما لم يتطوع بينهما والله أعلم لأنه لم يكن بينهما أذان، ففرغ من صلاة المغرب ثم قام إلى العشاء، ولم يكن بينهما مهملة فى الوقت يمكن فيها التنفل، وأما من رأى أن يؤذن لكل صلاة، فإنه لا يمنع التنفل لمن أراد، وقد فعل ذلك ابن مسعود، وإن كان قد روى ابن نافع عن مالك أنه لا يتنفل بين الصلاتين عند جمعهما‏.‏

وكل ذلك واسع لا حرج فيه، قال الطبرى‏:‏ لأنهما صلاتان تصليان لأوقاتهما، ولن يفوت وقتهما للحاج حتى يطلع الفجر، وفى هذا الحديث حجة للشافعى أن صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة بإقامة إقامة، وكذلك فى حديث أسامة حين نزل صلى بالشعب إقامة إقامة‏.‏

باب مَنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا

- فيه‏:‏ عَبْدُاللَّهِ بْن مسعود، أنه حج فَأَتى الْمُزْدَلِفَةَ حِينَ الأذَانِ بِالْعَتَمَةِ، أَوْ قَرِيبًا منه، فَأَمَرَ رَجُلا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ، وَصَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَمَرَ، أُرَى، فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، قَالَ عَمْرٌو‏:‏ لا أَعْلَمُ الشَّكَّ إِلا مِنْ زُهَيْرٍ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ، قَالَ‏:‏ إِنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام كَانَ لا يُصَلِّى هَذِهِ السَّاعَةَ إِلا هَذِهِ الصَّلاةَ فِى هَذَا الْمَكَانِ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ‏:‏ هُمَا صَلاتَانِ تُحَوَّلانِ عَنْ وَقْتِهِمَا‏:‏ صَلاةُ الْمَغْرِبِ بَعْدَ مَا يَأْتِى النَّاسُ الْمُزْدَلِفَةَ، وَالْفَجْرُ حِينَ يَبْزُغُ الْفَجْرُ، قَالَ‏:‏ رَأَيْتُ النَّبِىَّ عليه السَّلام يَفْعَلُهُ‏.‏

اختلف العلماء فى الأذان والإقامة لهاتين الصلاتين، فروى ابن القاسم عن مالك أنه يؤذن ويقيم لكل صلاة على ظاهر حديث ابن مسعود، وقد روى مثله عن عمر بن الخطاب وابن مسعود‏.‏

وذهب ابن الماجشون وأحمد بن حنبل وأبو ثور إلى أنه يجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين، واختاره الطحاوى، وذكر عن أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد بأَذَانٍ واحد وإقامة واحدة، خلاف قولهم فى الجمع بين الظهر والعصر بعرفة‏.‏

وذهبت طائفة إلى أنه يصليهما بإقامة إقامة، روى ذلك عن ابن عمر وعن القاسم وسالم، وإليه ذهب الشافعى وإسحاق وأحمد فى أحد قوليه، وذهب الثورى إلى أنه يصليهما بإقامة واحدة لا أذان معها، واحتج الطحاوى بحديث حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر‏:‏ ‏(‏أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع بينهما بأذان واحد وإقامتين‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وأجمعوا أن الأُولَى من الصلاتين اللتين يجمعان بعرفة يؤذن لها ويقام، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك حكم الأُولى من الصلاتين بجمع‏.‏

وأخذ الطحاوى بحديث أهل المدينة‏.‏

والحجة لأبى حنيفة ما رواه شعبة عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للمغرب بجمع فأقام، ثم صلى العشاء بالإقامة الأولى‏)‏‏.‏

وحجة الشافعى حديث ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه‏:‏ ‏(‏أن النبى عليه السلام جمع بينهما بإقامة إقامة‏)‏ رواه الليث وابن أبى ذئب عن الزهرى، ولم يذكره مالك فى حديثه، وذكره البخارى فى الباب قبل هذا، وهذه الرواية أصح عن ابن عمر مما خالفها، واحتج أيضًا بحديث ابن عباس عن أسامة بن زيد‏:‏ ‏(‏أن النبى عليه السلام عدل إلى الشعب فتوضأ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث، وفيه أنه أقام لكل واحدة منهما، واحتج الثورى بما رواه عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏جمع النبى عليه السلام بين المغرب والعشاء بالمزدلفة بإقامة واحدة‏)‏ وكان أحمد ابن حنبل يعجب من مالك إذا أخذ بحديث ابن مسعود ولم يروه، وهو من رواية أهل الكوفة، وترك ما روى أهل المدينة فى ذلك من غير ما طريق، وكذلك أخذ أهل الكوفة بما رواه أهل المدينة فى ذلك وتركوا روايتهم عن ابن مسعود‏.‏

وفى فعل ابن مسعود من الفقه جواز التنفل بين الصلاتين إذا جمعتا، وإنما تَعَشَّى بين الصلاتين على سبيل السعة فى ذلك، لا على أن يدخل بين المغرب والعشاء عملا أو شغلا‏.‏

وقد قال أصبغ‏:‏ إذا صلى أهل المسجد المغرب، فوقع مطر شديد وهم يتنفلون، فأرادوا أن يعجلوا العشاء قبل وقتها، فلا بأس بذلك‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏وهما صلاتان تحولان عن وقتهما‏)‏ إنما هو تحويل عن الوقت المستحب المعتاد إلى ما قبله من الوقت، لا أن تحويلهما قبل دخول أوقاتهما المحدودة فى كتاب الله عز وجل‏.‏

باب مَنْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِلَيْلٍ فَيَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَيَدْعُونَ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الإمَامُ، وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلاةِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوُا الْجَمْرَةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏أَرْخَصَ فِى أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، بَعَثَنِى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ فِى ضَعَفَةِ أَهْلِهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدُاللَّهِ، عَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ الْمُزْدَلِفَةِ، فَقَامَتْ تُصَلِّى، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ‏:‏ يَا بُنَىَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ لا، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ‏:‏ يَا بُنَىَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ‏؟‏ قُلْت‏:‏ نَعَمْ، قَالَتْ‏:‏ فَارْتَحِلُوا، فَارْتَحَلْنَا وَمَضَيْنَا، حَتَّى رَمَتِ الْجَمْرَةَ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتِ الصُّبْحَ فِى مَنْزِلِهَا، فَقُلْتُ لَهَا‏:‏ يَا هَنْتَاهُ، مَا أُرَانَا إِلا قَدْ غَلَّسْنَا، قَالَتْ‏:‏ يَا بُنَىَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِلظُّعُنِ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ النَّبِىَّ عليه السَّلام لَيْلَةَ جَمْعٍ، وَكَانَتْ ثَقِيلَةً ثَبْطَةً، فَأَذِنَ لَهَا‏.‏

- وفيه‏:‏ عنها نَزَلْنَا الْمُزْدَلِفَةَ، فَاسْتَأْذَنَتِ النَّبِىَّ عليه السَّلام سَوْدَةُ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً بَطِيئَةً، فَأَذِنَ لَهَا، فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَأَقَمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا نَحْنُ، ثُمَّ دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ، فَلأنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما قدم النبى عليه السلام ضعفة أهله خشية تزاحم الناس عليهم عند الدفع من المزدلفة إلى منى، فَأرْخَصَ لهم أن يدفعوا قبل الفجر، وأن يرموا الجمرة قبل طلوع الشمس لخوف الازدحام عليهم، والوقت المستحب لرمى جمرة العقبة يوم النحر طلوع الشمس؛ لرميه عليه السلام ذلك الوقت‏.‏

واختلفوا هل يجوز رميها قبل ذلك، فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق‏:‏ يجوز رميها بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس، وإن رماها قبل الفجر أعاد‏.‏

ورخصت طائفة فى الرمى قبل طلوع الفجر، روى ذلك عن عطاء وطاوس والشعبى، وبه قال الشافعى وشرط إذا كان الرمى بعد نصف الليل‏.‏

وقال النخعى ومجاهد‏:‏ لا يرميها حتى تطلع الشمس‏.‏

وبه قال الثورى وأبو ثور وإسحاق، والحجة لمالك والكوفيين حديث ابن عمر؛ لأنه قال فيه‏:‏ ‏(‏فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة‏)‏، واحتج الشافعى بحديث عبد الله مولى أسماء أنه قال‏:‏ ‏(‏رحلنا مع أسماء من جمع لما غاب القمر، وأتينا منى ورمينا، ورجعت فصلت الصبح فى دارها، فقلت لها‏:‏ رمينا قبل الفجرفقالت‏:‏ هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏

ولم يرو البخارى حديث أسماء على هذا النسق، ولا ذكر فيه‏:‏ ‏(‏رمينا قبل الفجر‏)‏ وإنما ذكر فيه أن مولاها قال لها‏:‏ ‏(‏يا هنتاه غلسنا‏)‏ وغلسنا لفظة محتملة للتأويل لا يقطع بها؛ لأنه يجوز أن يسمى ما بعد الفجر غلسًا‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ ولو صح قوله‏:‏ ‏(‏رمينا قبل الفجر‏)‏ لكان ظنا منه؛ لأنه لما رآها صلت الصبح فى دارها ظن أن الرمى كان قبل الفجر، والرمى كان بعد الفجر، فأخرت صلاة الصبح إلى دارها‏.‏

وقولها‏:‏ ‏(‏هكذا كنا نفعل‏)‏ إشارة إلى فعلها، وفعلها يجوز أن يكون بعد الفجر؛ لأنها لم تقل هى‏:‏ رمينا قبل الفجر ولا قالت‏:‏ كنا نرمى معه قبل الفجر؛ لأنه لم ينقل أحد عن النبى عليه السلام أنه رمى قبل الفجر، واحتج الشافعى أيضا بحديث أم سلمة أن النبى عليه السلام أمرها أن تصبح بمكة يوم النحر، وهذا لا يكون إلا وقد رميت الجمرة بمنى ليلا قبل الفجر، قال‏:‏ لأنه غير جائز أن يوافى أحد صلاة الصبح بمكة وقد رمى جمرة العقبة إلا وقد رماها ليلا؛ لأن من أصبح بمنى فكان بها بعد طلوع الفجر، فإنه لا يمكنه إدراك صلاة الصبح بمكة‏.‏

وقد ضَعَّفَ أحمد بن حنبل حديث أم سلمة ودفعه وقال‏:‏ لا يصح، رواه أبو معاوية عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبى سلمة، عن أم سلمة ‏(‏أن النبى عليه السلام أمرها أن توافى معه صلاة الصبح يوم النحر بمكة‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ولم يسنده غيره، وهو خطأ، وقال وكيع عن هشام، عن أبيه مرسل‏:‏ ‏(‏أن النبى عليه السلام أمرها أن توافى صلاة الصبح يوم النحر بمكة‏)‏‏.‏

قال أحمد‏:‏ وهذا أيضًا عجب، وما يصنع يوم النحر بمكة، ينكر ذلك، فجئت إلى يحيى بن سعيد فسألته فقال‏:‏ عن هشام، عن أبيه ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافى‏)‏ وليس أن توافيه، قال‏:‏ وبين هذين فرق، يوم النحر صلاة الصبح بالأبطح، وقال لى يحيى بن سعيد‏:‏ سل عبد الرحمن بن مهدى، فسألته فقال‏:‏ هكذا قال سفيان‏:‏ عن هشام، عن أبيه ‏(‏توافى‏)‏ وقال أحمد‏:‏ رحم الله يحيى ما كان أضبطه وأشد تفقده‏.‏

واحتج الثورى بحديث ابن عباس ‏(‏أن النبى عليه السلام قدم أغيلمة بنى عبد المطلب وضعفتهم وقال لهم‏:‏ يا بنى، لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس‏)‏‏.‏

رواه شعبة والأعمش عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، ورواه سفيان ومسعر عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العرنى، عن ابن عباس‏:‏ قدمنا من المزدلفة بليل فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏أى بنية عبد المطلب، لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس‏)‏‏.‏

وهذا إسناد وإن كان ظاهره حسنًا، فإن حديث ابن عمر وأسماء يعارضانه، فلذلك لم يخرجه البخارى والله أعلم، مع أنه قد روى مولى ابن عباس عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏بعثنى النبى عليه السلام مع أهله وأمرنى أن أرمى مع الفجر‏)‏‏.‏

فخالف حديث مقسم عن ابن عباس‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والصواب عندنا قول من قال‏:‏ إن وقت رمى جمرة العقبة طلوع الفجر من يوم النحر؛ لأن حينئذ يحل الحاج، وذلك أنَّ بطلوع الفجر من تلك الليلة انقضى وقت الحج، وفى انقضائه انقضاء وقت التلبية ودخول وقت رمى جمرة العقبة، غير أنه لا ينبغى لمن كان محرمًا أن يلبس أو يتطيب أو يعمل شيئًا مما كان حرامًا عليه قبل طلوع الفجر من يوم النحر حتى يرمى جمرة العقبة استحبابًا واتباعًا فى ذلك سنة النبى عليه السلام فإذا رمى الجمرة فقد حَلَّ من كل شىء حرم عليه إلا جماع النساء حتى يطوف طواف الإفاضة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ السنة أن لا يرمى إلا بعد طلوع الشمس كما فعل عليه السلام، ولا يجزئ الرمى قبل طلوع الفجر بحالٍ؛ إذ فاعله مخالف لسنة النبى عليه السلام ومن رماها بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس فلا إعادة عليه، إذ لا أعلم أحدًا قال لا يجزئه، وقال الطبرى‏:‏ وفيه الدليل الواضح أن لأهل الضعف فى أبدانهم أن يتقدموا إلى منى ليلة النحر من جمع، وأنه مرخص لهم فى ترك الوقوف بالمشعر غداة النحر‏.‏

وقد اختلف السلف فى ذلك فقالت طائفة‏:‏ جائز التقدم من جمعٍ بليل قبل الوقوف بها غداة النحر وصلاة الصبح بها لضعفة الناس خاصة والنساء والصبيان دون أهل القوة والجلد، وقالوا‏:‏ إنما أذن فى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لضعفة الناس خاصة، واحتجوا بحديث ابن عباس، قالوا‏:‏ فمن تقدم من جمعٍ بليل من أهل القوة فلم يقف بها مع الإمام، فقد ضيع نسكًا وعليه إراقة دم‏.‏

وهو قول مجاهد، وعطاء، وقتادة، والزهرى، وأبى حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور‏.‏

وكان مالك يقول‏:‏ إن مر بها فلم ينزل بها فعليه دم ومن نزل بها ثم دفع منها بعدما نزل بها وكان دفعه منها فى أول الليل أو وسطه أو آخره ولم يقف مع الإمام، فقد أجزأه ولا دم عليه‏.‏

وهو قول النخعى، وحجة هذا القول أن النبى عليه السلام بات بها حين حج بالناس وعلمهم مناسكهم، فمن ضيع من ذلك شيئًا فعليه دم، وإنما أجزنا له التقدم بالليل إلى منى إذا بات بها؛ لتقديم النبى صلى الله عليه وسلم أهله من جمع بليل، فكان ذلك رخصة لكل أحد بات بها‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شىء عليه، وإن خرج منها قبل نصف الليل فلم يعد إلى المزدلفة افتدى، والفدية شاة‏.‏

وقال آخرون‏:‏ جائز ذلك لكل أحد‏:‏ للضعيف والقوى، وكانوا يقولون‏:‏ إنما جَمْع منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم كبعض منازل السفر، فمن شاء طواه فلم ينزل به، ومن شاء نزله فله أن يرتحل منه متى شاء من ليل أو نهار، ولا شىء عليه، روى ذلك عن عطاء، وهو قول الأوزاعى، واحتجوا بما حدثنا أبو كريب قال‏:‏ حدثنا خالد بن مخلد، عن محمد بن عبد الله، عن عطاء، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنما جمع منزل لدلج المسلمين‏)‏‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ ذهب قوم إلى أن الوقوف بالمزدلفة فرض لا يجوز الحج إلا بإصابته، واحتجوا فى ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏ فذكر الله المشعر الحرام كما ذكر عرفات، وذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديث عروة بن مضرس، فحكهما واحد لا يجزئ الحج إلا بإصابته‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وهذا قول علقمة والشعبى والنخعى، قالوا‏:‏ فمن لم يقف بجمع فقد فاته الحج، ويجعل إحرامه عمرة‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ والحجة عليهم أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُوا اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ‏(‏ليس فيد دليل أن ذلك على الوجوب، ولأن الله إنما ذكر الذكر، ولم يذكر الوقوف، وكُل قد أجمع أنه لو وقف بمزدلفة ولم يذكر الله تعالى أن حجة تام، فإذا كان الذكر المذكور فى الكتاب ليس من صلب الحج، فالموطن الذى يكون ذلك الذكر فيه الذى لم يذكر فى الكتاب أحرى ألا يكون فرضًا، وقد ذكر الله أشياء فى كتابه فى الحج لم يُرد بذكرها إيجابها فى قول أحد من الأمة، من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏ وكل قد أجمع النظر أنه لو حج ولم يطف بين الصفا والمروة أن حجه قد تم، وعليه دم مكان ما ترك من ذلك، فكذلك ذكر الله فى المشعر الحرام فى كتابه لا يدل على إيجابه، وأما قوله عليه السلام فى حديث عروة بن مضرس‏:‏ ‏(‏من شهد معنا صلاة الفجر بالمزدلفة وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارًا فقد تم حجه‏)‏ فلا حجه فيه؛ لإجماعهم أنه لو بات بها ووقف ونام عن الصلاة فلم يصلها مع الإمام حتى فاتته أن حجة تام، فلما كان حضور الصلاة مع الإمام ليس من صلب الحج الذى لا يجزئ إلا به، كان الموطن الذى تكون فيه تلك الصلاة التى لم يذكر فى الحديث أحرى ألا يكون كذلك، فلم يتحقق بهذا الحديث ذكر الفرض إلا بعرفة‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وفى حديث سودة ترك الوقوف بالمزدلفة أصلا، وكذلك فى حديث ابن عباس وأسماء، وفى إباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ذلك للضعيف دليل أن الوقوف بها ليس من صلب الحج الذى لا يجزئ إلا به كالوقوف بعرفة؛ ألا ترى أن رجلا لو ضعف عن الوقوف بعرفة، فترك ذلك لضعفه حتى طلع الفجر من يوم النحر أن حجه قد فسد، ولو وقف بها بعد الزوال ثم نفر منها قبل غروب الشمس أن أهل العلم مجمعون أنه غير معذور بالضعف الذى به، وأن طائفة منهم تقول‏:‏ إن عليه دم لتركه بقية الوقوف بعرفة، وطائفة منهم تقول‏:‏ قد فسد حجه، ومزدلفة ليست كذلك؛ لأن الذين أوجبوا الوقوف بها يجيزون النفور عنها بعد وقوفه بها قبل فراغ وقتها، وهو قبل طلوع الشمس من يوم النحر لعذر الضعف، فلما ثبت أن عرفة لا يسقط فرض الوقوف بها للعذر، ولا يحل النفور منها قبل وقته بالعذر، وكانت مزدلفة مما يباح ذلك منها بالعذر ثبت أن حكم مزدلفة ليس فى حكم عرفة؛ لأن الذى يسقط للعذر ليس بواجب، والذى لا يسقط للعذر هو الواجب‏.‏

وقال الخطابى‏:‏ الثبطة‏:‏ البطيئة، وقد ثبطت الرجل عن أمره، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 46‏]‏، وقد تقدم تفسير قوله‏:‏ ‏(‏يا هنتاه‏)‏ فى باب قوله‏:‏ ‏(‏الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ‏(‏فأغنى عن إعادته‏.‏

باب مَتَى يُصَلِّى الْفَجْرَ بِجَمْعٍ

- فيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ، قَالَ‏:‏ مَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ عليه السَّلام صَلَّى صَلاةً بِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إِلا صَلاتَيْنِ، جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَصَلَّى الْفَجْرَ قَبْلَ مِيقَاتِهَا‏.‏

- وَقَالَ مرة‏:‏ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ‏:‏ طَلَعَ الْفَجْرُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ‏:‏ لَمْ يَطْلُعِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلاتَيْنِ حُوِّلَتَا عَنْ وَقْتِهِمَا فِى هَذَا الْمَكَانِ‏:‏ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، فَلا يَقْدَمُ النَّاسُ جَمْعًا حَتَّى يُعْتِمُوا، وَصَلاةَ الْفَجْرِ فِى هَذِهِ السَّاعَةَ، ثُمَّ وَقَفَ حَتَّى أَسْفَرَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَاضَ الآنَ أَصَابَ السُّنَّةَ، فَمَا أَدْرِى أَقَوْلُهُ كَانَ أَسْرَعَ أَمْ دَفْعُ عُثْمَانَ، فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّى حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الفجر بالمزدلفة حين تبين له الصبح بأذان وإقامة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقول ابن مسعود‏:‏ ‏(‏ما رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها‏)‏ فإنه لا يريد بذلك أنه صلاها فى الوقت الذى لا يحل، وإنما أراد غير ميقاتها المعهود المستحب للجماعات بعد دخول الوقت وتمكنُّه، بييّن ذلك قوله‏:‏ ‏(‏قائل يقول‏:‏ طلع الفجر، وقائل يقول‏:‏ لم يطلع‏)‏ يريد أنه بادر الفجر أول طلوعه فى الوقت الذى لا يتبينه كل أحد، ولم يَتَأَنَّ حتى يتبّين طلوعه لكل أحد، كما كانت عادته أن يصلى قبل ذلك، ولا يجوز أن يتأول عليه غير هذا التأويل‏.‏

باب مَتَى يُدْفَعُ مِنْ جَمْعٍ

- فيه‏:‏ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ يَقُولُ‏:‏ شَهِدْتُ عُمَرَ صَلَّى بِجَمْعٍ الصُّبْحَ، ثُمَّ وَقَفَ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لا يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيَقُولُونَ‏:‏ أَشْرِقْ ثَبِيرُ، وَأَنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم خَالَفَهُمْ، ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فيه من الفقه بيان وقت الوقوف الذى أوجبه الله تعالى على حجاج بيته بالمشعر الحرام، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏ فمن وقف بالمشعر الحرام ذاكرًا له فى الوقت الذى وقف به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فى بعضه، فقد ادركه وأدى ما ألزم الله من ذكره به، وذلك حين صلاة الفجر بعد طلوع الفجر الثانى إلى أن يدفع الإمام منه قبل طلوع الشمس يوم النحر، ومن لم يدرك ذلك حتى تطلع الشمس فقد فاته الوقوف فيه بإجماع‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ ثبت أن النبى عليه السلام أفاض من جمع قبل طلوع الشمس حين أسفر جدا، وأخذ بهذا ابن مسعود وابن عمر، وقال بذلك عامة العلماء أصحاب الرأى والشافعى، غير مالك فإنه كان يرى أن يدفع قبل طلوع الشمس وقبل الإسفار‏.‏

قال المهلب‏:‏ فإنما عجل النبى عليه السلام الصلاة، وزاحم بها أول وقتها ليدفع قبل إشراق الشمس على جبل ثبير ليخالف أمر المشركين، فكلما بَعُدَ دفعُه من طلوع الشمس كان أفضل، فلهذا والله أعلم اختار هذا مالك‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏لا يفيضون‏)‏ يعنى‏:‏ لا يرجعون من المشعر الحرام إلى حيث بدأ المصير إليه من منى حتى تطلع الشمس، وكذلك تقول العرب لكل راجع من موضع آخر إلى الموضع الذى بدا منه‏:‏ أفاض فلان من موضع كذا‏.‏

وكان الأصمعى يقول‏:‏ الإفاضة‏:‏ الدفعة، وكل دفعة إفاضة، ومنه قيل‏:‏ أفاض القوم فى الحديث، إذا دفعوا فيه‏.‏

وأفاض دمعه يفيضه، فأما إذا سالت دموع العين، فإنما يقال‏:‏ فاضت عينه بالدموع‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ وقولهم‏:‏ أَشْرق ثبير، هو من شروق الشمس، وشروقها‏:‏ طلوعها، يقال‏:‏ شرقت الشمس شروقًا، إذا هى طلعت، وأشرقت‏:‏ إذا أضاءت، وإنما يريدون‏:‏ أُدْخُلْ أيها الجبل فى الشروق كما يقال‏:‏ أشمل القوم‏:‏ إذا دخلوا فى ريح الشمال، وأجنبوا‏:‏ إذا دخلوا فى الجنوب، وأراحوا‏:‏ إذا دخلوا فى الريح، وأربعوا‏:‏ إذا دخلوا فى الربيع، فإذا أردت أن شيئًا من هذا أصابهم، قلت‏:‏ شمل القوم وجنبوا وريحوا وربعوا وشرقوا، وغيثوا إذا أصابهم الغيث‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏كيما نغير‏)‏ يريد كيما ندفع للنحر، قال الطبرى‏:‏ وهو من قولهم‏:‏ أغار الفرس إغارة الثعلب، وذلك إذا دفع وأسرع فى عدوه‏.‏

باب التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ غَدَاةَ النَّحْرِ حَتى يرمى جَمرة العَقبة وَالارتداف فِى السَّير

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام أَرْدَفَ الْفَضْلَ، فَأَخْبَرَ الْفَضْلُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّى حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ‏.‏

وقال أُسَامَةَ‏:‏ لَمْ يَزَلِ رِدْفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، قَالَ‏:‏ فَكِلاهُمَا، قَالا‏:‏ لَمْ يَزَلِ الرسول صلى الله عليه وسلم يُلَبِّى حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ‏.‏

اختلف السلف فى الوقت الذى يقطع الحاج فيه التلبية، فذهبت طائفة إلى حديث الفضل وأسامة وقالوا‏:‏ يلبى الحاج حتى يرمى جمرة العقبة‏.‏

روى هذا عن ابن مسعود وابن عباس، وبه قال عطاء، وطاوس، والنخعى، وابن أبى ليلى، والثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقالوا‏:‏ يقطعها مع أول حصاة يرميها من جمرة العقبة، إلا أحمد وإسحاق فإنه يقطعها عندهما إذا رمى الجمرة بأسرها، على ظاهر الحديث‏.‏

وروى عن على بن أبى طالب أنه كان يلبى فى الحج، فإذا زاغت الشمس من يوم عرفة قطع التلبية، قال مالك‏:‏ وذلك الأمر الذى لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا‏.‏

وقال ابن شهاب‏:‏ وفعل ذلك الأئمة أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعائشة، وابن المسيب، وذكر ابن المنذر عن سعيد مثله، وذكره الطحاوى عن مكحول، وكان ابن الزبير يقول‏:‏ أفضل الدعاء يوم عرفة التكبير‏.‏

وروى معناه عن جابر بن عبد الله‏.‏

واحتج ابن القصار لمالك وأهل المدينة فقال فى حديث ابن عباس وأسامة‏:‏ لو فعل ذلك النبى عليه السلام على أنه المستحب عنده لم تخالفه الصحابة بعده، فيحتمل أنه أراد ألا يقطع التلبية عند زوال الشمس؛ لأن الناس كانوا يتلاحقون به يوم عرفة حتى لا يبقى أحد إلا سمع تلبيته؛ لأنه صاحب الشرع، فأعلمهم أنها تجوز إلى هذا الوقت، ويكون المستحب لنا عند الزوال بعرفة لما قد تقرر من اختيار الصحابه له، وهم الذين أمرنا بالاقتداء بهم؛ لأنهم المبلغون للسنن، والمفسرون لها، فوجب اتباع سبيلهم واختيار ما اختاروه، والرغبة عما رغبوا عنه‏.‏

وتأول الطحاوي في قطع الصحابة للتلبية عند الرواح إلى عرفة أن ذلك لم يكن على أن وقت التلبية قد انقطع، ولكن لأنهم كانوا يأخذون فيما سواها من الذكر والتكبير والتهليل، كما لهم أن يفعلوا ذلك قبل يوم عرفة أيضًا، وقد تقدم فى باب‏:‏ التلبية ولا يكبر إذا غدا من منى إلى عرفة، أن التلبية هى الإجابة لما دعى إليه، فإذا بلغ عرفة فقد بلغ غاية ما يدرك الحاج بإدراكه، ويفوت بفوته، فلذلك يقطع التلبية عند بلوغ النهاية، وقد تقدم ذكر الارتداف فى السير فى أول كتاب الحج‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ ثبت أن النبى عليه السلام رمى الجمرة يوم النحر على راحلته، وقال به مالك فرأى أن يرمى جمرة العقبة يوم النحر راكبًا؛ اقتداءً بالنبى عليه السلام وفى غير يوم النحر ماشيًا، وكره مالك أن يركب إلى شىء من الجمار إلا من ضرورة، وكان ابن عمر وابن الزبير وسالم يرمون الجمار إلا من ضرورة، وكان ابن عمر وابن الزبير وسالم يرمون الجمار وهم مشاة، واستحب ذلك أحمد وإسحاق، قال الطبرى‏:‏ وإنما قيل لها‏:‏ جمرة؛ لأنها حجارة مجتمعة، وكل شىء مجتمع فهو عند العرب جمرة وجمار، ومنه قولهم‏:‏ أَجْمَرَ السلطانُ جيشهَ فى الثغر، بمعنى‏:‏ جَمَعَهُم فيه، ومنه قيل لأحياء من العرب تجمعت‏:‏ جمار وجمرات‏.‏

باب قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏

- فيه‏:‏ أَبُو جَمْرَةَ، سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْمُتْعَةِ، فَأَمَرَنِى بِهَا، وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْهَدْىِ، فَقَالَ‏:‏ فِيهَا جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ أَوْ شِرْكٌ فِى دَمٍ، وَكَأَنَّ نَاسًا كَرِهُوهَا، فَنِمْتُ، فَرَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ كَأَنَّ إِنْسَانًا يُنَادِى حَجٌّ مَبْرُورٌ وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ‏:‏ اللَّهُ أَكْبَرُ سُنَّةُ أَبِى الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم‏.‏

قَالَ آدَمُ، وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، وَغُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ‏:‏ عُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، وَحَجٌّ مَبْرُورٌ‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ إن قال قائل‏:‏ إنما أطلق الله فى كتابه المتعة للمحُحْصَرين بالحج، ولم يذكر معهم من لم يُحْصَر، فكيف أبحتم العمرة فيمن لم يحصر‏؟‏ فالجواب‏:‏ إن فى الآية ما يدل على أن غير المحصرين قد دخلوا فيها بما أجمعوا عليه، وهو قوله‏:‏ ‏(‏وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏‏.‏

فلم يختلف أهل العلم فى المحرم بالحج والعمرة مِمَّنْ لم يحصر أنه إذا أصابه أذى فى رأسه، أو أصابهُ مرض أنه يحلقَ وأن عليه الفدية المذكورة فى الآية التى تليها، وأن القصد بها إلى المحصرين لا يمنع أن يدخل فيها من سواهم من المحرمين غير المحصرين، فكذلك قوله‏:‏ ‏(‏فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ‏(‏لا يمنع أن يكون غير المحصرين فى ذلك كالمحصرين، بل هذا أَوْلى بما ذكرنا من المعنى الأول الذى فى الآية؛ لأنه قال فى المعنى الأول‏:‏ ‏(‏فَمَن كَانَ مِنكُم‏}‏‏.‏

ولم يقل ذلك فى المعنى الثانى منها‏.‏

واختلف العلماء فيما استيسر من الهدى، فقالت طائفة‏:‏ شاة، روى ذلك عن على وابن عباس، وهو قول مالك وجمهور العلماء، وروى عن ابن عمر وعائشة أن ما استيسر من الهدى من الإبل والبقر خاصة‏.‏

قال إسماعيل‏:‏ وأحسب هؤلاء ذهبوا إلى ذلك من أجل قوله‏:‏ ‏(‏وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 36‏]‏ فذهبوا إلى أن الهدى ما وقع عليه اسم بدن‏.‏

ويرد هذا التأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ وقد حكم المسلمون فى الظبى بشاة، فوقع عليها اسم هدى‏.‏

وروى عن ابن عمر وأنس أنه يجزئ فى المتعة والقران شرك فى دم‏.‏

وروى عن عطاء وطاوس والحسن مثله، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، ولا تجزئ عندهم البدنة أو البقرة عن أكثر من سبعة على حديث جابر، ولا تجزئ عندهم الشاة عن أكثر من واحد‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ولا تعلق لهم فى حديث أبى جمرة عن ابن عباس، قال إسماعيل‏:‏ وأبو جمرة وإن كان من صالحى الشيوخ فإنه شيخ، وقد روى ثقات أصحاب ابن عباس عنه أن‏)‏ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ شاة، وأن المعتمد فى العلم على الثقات المعروفين بالعلم، وقد روى ليث بن أبى سشليم عن طاوس، عن ابن عباس مثل رواية أبى جمرة، وليث ضعيف، فلا يتعنى بالكلام فيه، وقد روى حماد ابن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن ابن عباس قال‏:‏ ما كنت أدرى أن دمًا واحدًا يقتضى عن أكثر من واحد‏.‏

وأما ما روى عن جابر أنه قال‏:‏ ‏(‏نحرنا يوم الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة‏)‏ فلا حجة فيه؛ لأن الحديبية لم يكن فيها تمتع، وإنما كان عليه السلام أحرم بالعمرة من ذى الحليفة وساق الهدى، فلما صده المشركون نحروا الهدى، وهو تطوع ليس فيه تمتع ولا غيره مما يوجب هديًا، وهذا كما روى عنه عليه السلام أنه ضحى عن أمته، وكما روى عن أبى أيوب أن الرجل يضحى بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه قال‏:‏ تفسير حديث جابر فى التطوع، والعمرة تطوع لا بأس بذلك‏.‏

وروى عنه ابن القاسم أنه لا يشترك فى هدى واجب ولا تطوع‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن الهدى كان عليهم لأنهم حُصِرُوا، قيل‏:‏ الهدى قد كان أشعر وأوجب هديًا بعد الحصر‏.‏

وما روى عن أنس أنهم كانوا يشتركون السبعة فى البدنة والبقرة، فإنما يعنى به الأضاحى، وليس المراد به أنهم يشتركون فى الأضحية، على أن لكل واحدٍ منهم سهمًا من ملكها، وإنما يعنى به أن أهل البيت يضحون بالجزور أو البقرة عن جماعة منهم، وهذا جائز عندنا ولو كان أكثر من سبعة إذا كان ملكها لرجل واحد، وضحى بها عن نفسه وأهله، وقد تقدم فى كتاب الصيام الاختلاف فى صوم التمتع الثلاثة الأيام فى الحج، فأغْنى عن إعادته‏.‏

باب رُكُوبِ الْبُدْنِ

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 36‏]‏‏.‏

قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ سُمِّيَتِ الْبُدْنَ لِبُدْنِهَا‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام رَأَى رَجُلا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏ارْكَبْهَا‏)‏، فَقَالَ‏:‏ إِنَّهَا بَدَنَةٌ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏ارْكَبْهَا، وَيْلَكَ، فِى الثَّانِيَةِ أَوْ فِى الثَّالِثَةِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه من الفقه استعمال بعض ما وجه لله تعالى إذا احتيج إليه، على خلاف ما كانت الجاهلية عليه من أمر البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فأعلم الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أهل به لله إنما هو دماؤها، وأما لحومها والانتفاع بها قبل نحرها وبعده فغير ممنوع، بل هو مباح بخلاف سُنن الجاهلية‏.‏

واختلف العلماء فى ركوب الهدى الواجب والتطوع، فذهب أهل الظاهر إلى أن ذلك جائز من غير ضرورة، وبه قال أحمد وإسحاق، وبعضهم أوجب ذلك، واحتجوا بحديث أبى هريرة وأنس، وكره مالك وأبو حنيفة والشافعى ركوبها من غير ضرورة، وكرهوا شرب لبن الناقة بَعْدَ رىِّ فصيلها، وقال أبو حنيفة والشافعى‏:‏ إن نقصها الركوبُ والشربُ فعليه قيمة ذلك، واحتجوا أن ما خرج لله فغير جائز الرجوع فى شىء منه والانتفاع به إلا عند الضرورة‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ احتمل أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم أمر بركوب البدنة لغير ضرورة، واحتمل أن يكون أمر بذلك لضرورة، فنظرنا فى ذلك فإذا نصر بن مرزوق، حدثنا عن ابن معبد، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس ‏(‏أن النبى عليه السلام رأى رجلا يسوق بدنة، وقد جهد، فقال‏:‏ اركبها، فقال‏:‏ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها بدنة، قال اركبها‏)‏‏.‏

وروى ابن أبى شيبة حدثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن جريج، عن أبى الزبير، عن جابر فى ركوب البدن قال‏:‏ سمعت النبى عليه السلام يقول‏:‏ ‏(‏اركبها بالمعروف إذا لم تجد ظهرًا‏)‏‏.‏

فأباح عليه السلام ركوبها فى حال الضرورة، فثبت أن حكم الهدى أن يركب للضرورة‏.‏

وقد روى عن ابن عمر ما يدل على هذا المعنى، روى هشيم عن الحجاج، عن نافع، عن ابن عمر ‏(‏أنه كان يقال للرجل إذا ساق بدنة وأعيا‏:‏ اركبها، وما أنتم بمستنين سنة هى أهدى من سنة محمد‏)‏‏.‏

ثم اعتبرنا ذلك من طريق النظر، فرأينا ما الملك فيه متكامل كالعبد الذى لم يُدبره مولاه، والأَمَة التى لم تلد، والبدنة التى لم يوجبها صاحبها، كل ذلك جائز بيعه، والانتفاع به وجائز تمليك منافعه ببدل وبغير بدل، ورأينا البدنة إذا أوجبها ربها، فكل قد أجمع أنه لا يجوز أن يؤاجرها، ولا يجوز أن يبيع منافعها، كان كذلك ليس له أن ينتفع بها، ولا يجوز له الانتفاع إلا بشىء له التعوض بمنافعه وأخد البدل فيها، وروى عن مجاهد فى قوله‏:‏ ‏(‏لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 33‏]‏ قال‏:‏ فى طهورها وألبانها وأصوافها وأوبارها حتى تصير بدنًا، وبه قال النخعى وعروة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه من الفقه تكرير العالم الفتوى، وفيه توبيخ الذى لا يأتمر بالفتوى والدعاء عليه بالويل وشبهه، مما عادة العرب أن تدعوا به، وقيل‏:‏ هذا مما لا يراد به الوقوع، وإنما هو على سبيل التحضيض، وقد قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏إنما أنا بشر أغضب كما تغضبون، فمن سَبَبَتْتُه فاجعل ذلك له كفارة وأجرًا‏)‏‏.‏

فهذا دليل أنه عليه السلام لم يُرد بشىء من دُعائه على من وَبَّخَهُ الوقوع‏.‏

باب مَنْ سَاقَ الهدىِ مَعَهُ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ‏:‏ تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْىَ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبِىِّ عليه السَّلام بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى، فَسَاقَ الْهَدْيَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِىُّ عليه السَّلام مَكَّةَ، قَالَ لِلنَّاسِ‏:‏ ‏(‏مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لِشَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِىَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ، وَلْيَحْلِل، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ‏)‏، فَطَافَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَىْءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثَلاثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشَى أَرْبَعًا، فَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَانْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا، فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَهْدَى، وَسَاقَ الْهَدْىَ مِنَ النَّاسِ‏.‏

وقال ابْن شهاب‏:‏ عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، عَنِ النَّبِىِّ عليه السَّلام فِى تَمَتُّعِهِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَهُ، مثل حديث ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال المهلب‏:‏ قول ابن عمر‏:‏ ‏(‏تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ يعنى أنه أمر بذلك كما يقال‏:‏ رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرجم، وكتب ولم يكتب، بل أمر بذلك وقوله‏:‏ ‏(‏فى حجة الوداع‏)‏ دليل أن النبى عليه السلام لم يتمتع فى خاصة نفسه، بل كانت حجة مُفردَة، وسميت حجة الوداع، وقوله‏:‏ ‏(‏فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهَلَّ بالعمرة‏)‏ إنما يريد أنه بدأ حين أمرهم بالتمتع أن يهلوا بالعمرة أولا، ويقدموها قبل الحج، أو ينشئوا الحج بعد العمرة إذا حَلُّوا منها، وقوله‏:‏ ‏(‏فتمتع الناس مع النبى عليه السلام‏)‏ معناه‏:‏ تمتعوا بحضرته، ومثل هذا فى الكلام مشهور كما جاء فى الحديث‏:‏ ‏(‏أن فلانًا قتل مع النبى صلى الله عليه وسلم فى بعض غزواته‏)‏ معناه‏:‏ قتل بحضرة النبى عليه السلام‏.‏

وقوله للناس‏:‏ ‏(‏من كان منكم أهدى فلا يحل من شئ‏)‏ دليل على أنه عليه السلام لم يتمتع؛ لأنه ساق الهدى، ولم يُحل كما حلَّ من لم يسق الهدى، وما فى آخر الحديث من تعليم الناس يفسر ما فى أوله من إشكال قوله‏:‏ ‏(‏أنه تمتع‏)‏ لأن المفسّر يقضى على المجمل، وقد صح عن ابن عمر أنه رَدَّ قول أنس‏:‏ ‏(‏أن النبى عليه السلام تمتع‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏أهلَّ النبى عليه السلام بالحج وأهللنا به، فلما قدمنا مكة، قال‏:‏ من لم يكن معه هدى فليجعلها عمرة، وكان مع النبى عليه السلام هدى‏)‏ ذكره البخارى عن مسدد فى كتاب المغازى، وقد ذكرناه فى باب‏:‏ التمتع والقران والإفراد وفسخ الحج، فكيف ينكر ابن عمر على أنس أن النبى عليه السلام أهل بعمرة وحجة‏؟‏ هذا ما لا يتوهمه عاقل، فصح أن تأويل قول ابن عمر فى هذا الباب‏:‏ ‏(‏تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ أنه أمر بذلك، لا أنه فعله عليه السلام فى خاصّة نفسه، وهذا التأويل ينفى التناقض عن الخبرين، ويجمع بين المتضادين‏.‏

وأما قوله فى حديث عروة‏:‏ أن عائشة أخبرته عن النبى عليه السلام فى تمتعه بالعمرة إلى الحج بمثل حديث سالم عن أبيه، فنعم هو مثله فى الوهم؛ لأن أحاديث عائشة كلها من رواية عروة والأسود والقاسم وعمرة مسقطة لهذا الوهم؛ لأنهم يروون عنها أنها قالت‏:‏ ‏(‏خرجنا مع النبى عليه السلام ولا نرى إلا أنه الحج‏)‏ مُخالفة لرواية ابن شهاب عن عروة، عن عائشة فى تمتعه بالعمرة التى فى آخر هذا الباب، وموافقة لرواية الجماعة عن عائشة، وأما قوله فى الترجمة‏:‏ باب من ساق البدن فإنما أراد أن يعرف أن السنة فى الهدى أن يساق من الحل إلى الحرم‏.‏

واختلف العلماء فى ذلك‏.‏

فقال مالك‏:‏ من اشترى هَدْيَهُ بمكة أو بمنى، ونحره ولم يقف به بعرفة فى الحل فعليه بَدَلُه، وهو مذهب ابن عمر وسعيد بن جبير، وبه قال الليث، وروى عن القاسم أنه أجازه إن لم يوقف به عرفة، وقاله أبو حنيفة والثورى والشافعى وأبو ثور، قال الشافعى‏:‏ وَقْفُ الهدى بعرفة سنة لمن شاء إذا لم يسقه من الحل‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ ليس بسنة؛ لأن النبى عليه السلام إنما ساق الهدى من الحل؛ لأن مسكنه كان خارج الحرم، والحجة لمالك أن النبى عليه السلام ساق الهدى من الحل إلى الحرم، وقال‏:‏ ‏(‏خذوا عنى مناسككم‏)‏‏.‏

وأفعاله على الوجوب‏.‏

باب مَنِ اشْتَرَى الْهَدْىَ مِنَ الطَّرِيقِ

- فيه‏:‏ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أنَّهُ قَالَ لأبِيهِ‏:‏ أَقِمْ فَإِنِّى لا آمَنُهَا أَنْ تصَدُّ عَنِ الْبَيْتِ، قَالَ‏:‏ إِذًا أَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 21‏]‏ فَأَنَا أُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ عَلَى نَفْسِى الْعُمْرَةَ، فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الدَّارِ، قَالَ‏:‏ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَقَالَ‏:‏ مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلا وَاحِدٌ، ثُمَّ اشْتَرَى الْهَدْىَ مِنْ قُدَيْدٍ، ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا، فَلَمْ يَحِلَّ حَتَّى حَلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إذًا أفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ يعنى‏:‏ من الإحلال حين صُدَّ بالحديبية على ما يأتى ذكره فى باب‏:‏ الحصر بَعْدُ إن شاء الله، ولم يُصد ابن عمر وأَهَلَّ بعمرة من المدينة، فلما خرج إلى الميقات أردف الحج على العمرة وقال‏:‏ ‏(‏ما شأنهما إلا واحد‏)‏ يعنى فى العمل، لأن القارن لا يطوف عنده إلا طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا‏.‏

وأجمع العلماء أن من أَهَلَّ بعمرة فى أشهر الحج أن له أن يدخل عليها الحج ما لم يفسخ الطواف بالبيت، والحجةُ لهم أن أصحاب النبى عليه السلام أهلوا بعمرة فى حجة الوداع، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من كان معه هدى فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منها جميعًا‏)‏‏.‏

وبهذا احتج مالك فى الموطأ‏.‏

واختلفوا فى إدخال الحج على العمرة إذا افتتح الطواف، فقال مالك‏:‏ يلزمه ذلك ويصير قارنًا، وحكى أبو ثور أنه قول الكوفيين، وقال الشافعى‏:‏ لا يكون قارنًا، وذكر أنه قول عطاء، وبه قال أبو ثور‏.‏

وأما إدخال العمرة على الحج، فمنع منه مالك، وهو قول إسحاق وأبى ثور، وأجازه الكوفيون وقالوا‏:‏ يصير قارنًا، وقد أساء فيما فعل، واختلف قول الشافعى على القولين، وإنما أجاز مالك إرداف الحج على العمرة، ولم يُجز إرداف العمرة على الحج؛ لأن عمل الحج يستغرق عمل العمرة ويزيد عليها، فإذا أدخل العمرة على الحج فلم يأت بزيادة فى العمل، ولا أفاد فائدة، فلم يكن لإدخالهما على الحج معنى، والقياس عند أبى حنيفة لا يمنع إدخال عمرة على حجة، ومن أصله أن على القارن طوافين وسعيين‏.‏

وأما قول البخارى‏:‏ باب من اشترى الهدى من الطريق، فإنما أراد أن يبيّن مذهب ابن عمر أن الهدى ما أدخل من الحل إلى الحرم؛ لأن قُديَدًا حيث اشتراه ابن عمر من الحل فى نصف طريق مكة، وقد روى مالك عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول‏:‏ الهدى ما قلد وأشعر، ووقف به بعرفة، وكذلك فعل النبى عليه السلام فلا معنى لقول من خالف هذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا أيمنها‏)‏ قال سيبويه‏:‏ من العرب من يكسر زوائد كل فعل مضارع، ماضيه فعل، ومستقبله يفعل، إلى الياء، فيقولون‏:‏ أنا أعلم، وأنت تعلم، ونحن نعلم، وهو يعلم بفتح الياء؛ كراهية الكسرة فيها لثقلها، على هذا جاء‏:‏ ‏(‏لا أيمنها‏)‏ لأنهم يقولون‏:‏ أيمن‏.‏

باب مَنْ أَشْعَرَ وَقَلَّدَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَهْدَى مِنَ الْمَدِينَةِ قَلَّدَهُ وَأَشْعَرَهُ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، يَطْعُنُ فِى شِقِّ سَنَامِهِ الأيْمَنِ بِالشَّفْرَةِ، وَوَجْهُهَا إلى الْقِبْلَةِ بَارِكَةً‏.‏

- فيه‏:‏ مَرْوَانَ، وَالْمِسْوَر، قَالا‏:‏ خَرَجَ النَّبِىُّ عليه السَّلام زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ فِى بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِى الْحُلَيْفَةِ، قَلَّدَ النَّبِىُّ عليه السَّلام الْهَدْىَ، وَأَشْعَرَ، وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ فَتَلْتُ قَلائِدَ بُدْنِ رسُول اللَّه عليه السَّلام بِيَدَىَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا وَأَهْدَاهَا، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَىْءٌ كَانَ أُحِلَّ لَهُ‏.‏

عرض البخارى فى هذا الباب أن يبيّن أن من أراد أن يحرم بالحج أو العمرة، وساق معه هديًا، فإن المستحب له أن لا يشعر هديه، ولا يقلده إلا من ميقات بلده، وكذلك يستحب له أيضًا أن لا يحرم إلا بذلك الميقات على ما عمل النبى عليه السلام بالحديبية وفى حجته أيضًا، وكذلك من أراد أن يبعث بهدى إلى البيت ولم يُرد الحج والعمرة، وأقام فى بلده فإنه يجوز له أن يقلده وأن يشعره فى بلده، ثم يبعث به كما فعل النبى عليه السلام إذ بعث بهديه مع أبى بكر سنة تسع، ولم يوجب ذلك على النبى صلى الله عليه وسلم إحرامًا ولا تجردًا من ثيابه ولا غير ذلك، وعلى هذا جماعة أئمة الفتوى، منهم مالك، والليث، والأوزاعى، والثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، كلهم احتج بحديث عائشة أن تقليد الهدى لا يوجب الإحرام على من لم يَنْوِهِ، وَرَدُّوا قول ابن عباس، فإنه كان يرى أن من بعث بهدى إلى الكعبة، لزمه إذا قلده‏:‏ الإحرام، وتجنُّب كل ما يتجنب الحاج حتى ينحر هديه، وتابع ابن عباس على ذلك ابن عمر، وبه قال عطاء، وهم محجوجون بالسنة الثابتة فى حديث عائشة، وليس أحد بحجة على السنة‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد رأى ربيعة بن الهدير رجلا متجردًا بالعراق، فسأل الناس عنه، فقالوا‏:‏ أمر بهديه أن يقلد، فلذلك تجرد، فذكر ذلك لابن الزبير، فقال‏:‏ بدعة ورب الكعبة‏.‏

فلا يجوز أن يكون ابن الزبير حلف على ذلك أنه بدعة إلا وقد علم أن السنة خلاف ذلك‏.‏

باب فَتْلِ الْقَلائِدِ لِلْبُدْنِ وَالْبَقَرِ

- فيه‏:‏ حَفْصَةَ، قَالَتْ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنِّى لَبَّدْتُ رَأْسِى، وَقَلَّدْتُ هَدْيِى، فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنَ الْحَجِّ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ عليه السَّلام يُهْدِى مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَفْتِلُ قَلائِدَ هَدْيِهِ، ثُمَّ لا يَجْتَنِبُ شَيْئًا مِمَّا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ‏.‏

فيه من الفقه‏:‏ أيما عمل لله من الأعمال فإنه يجب إتقانها وتحسينها؛ ألا ترى عائشة لم تقنع فى القلائد إلا بفتلها وإحكامها‏.‏

وأجمع العلماء على تقليد الهدى، والتقليد إنما هو علامة للهدى، كأنه إشهاد أنه أخرجه من ملكه لله تعالى وليعلم الناس الذين يبتغون أكله فيشهدون نَحْره، وفيه عمل أزواج النبى عليه السلام بأيديهن، وخدمتهن فى بيوتهن، وقد كان النبى عليه السلام يخدم فى بيته‏.‏

باب إِشْعَارِ الْبُدْنِ

قَالَ الْمِسْوَرِ‏:‏ قَلَّدَ النَّبِىُّ عليه السَّلام الْهَدْىَ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ فَتَلْتُ قَلائِدَ هَدْىِ النَّبِىِّ عليه السَّلام ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا، أَوْ قَلَّدْتُهَا، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى الْبَيْتِ، وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَىْءٌ كَانَ لَهُ حِلٌّ‏.‏

جمهور العلماء يَرَوْنَ إشعار البدن؛ لأنه سنة ثابتة، وممن رأى ذلك عمر بن الخطاب، وابن عمر، والحسن البصرى، والقاسم، وسالم، وعطاء، وبه قال مالك، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور‏.‏

وأنكر الإشعار أبو حنيفة وقال‏:‏ إنما كان ذلك قبل النهى عن المثلة، وهذا تحكم لا دليل عليه وسوء ظن، ولا تترك السنن بالظنون، وقد روى الإشعار عن النبى عليه السلام جماعة‏.‏

قال ابن قصار‏:‏ فإن قيل‏:‏ فقد روى عن عائشة‏:‏ ‏(‏إن شئت فأشعر، وإن شئت فلا، فإنما أشعر ليعلم أنها بدنة إذا ضلت‏)‏ فدل أنه علامة ليس بنسك، وقد روى مثل ذلك عن ابن عباس، قيل‏:‏ إن ابن عباس وعائشة إنما أعلما أن الإشعار ليس بواجب، وبذلك نقول، غير أن فعله أفضل من تركه؛ لأن ابن عمر قال‏:‏ لا هَدْى إلا ما قُلد أو أُشعر‏.‏

أى لا هدى كامل، ولا نقول إن الإشعار نسك يجب فى تركه دم، واستحب مالك الإشعار فى الشق الأيسر على ما رواه نافع عن ابن عمر أنه ربما فعل هذا، وربما فعل هذا‏.‏

واستحب أبو يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق الإشعار فى الشق الأيمن، رواه معمر عن الزهرى، عن سالم، عن أبيه أنه كان يفعله‏.‏

واختلفوا فى إشعار البقر، فكان ابن عمر يقول‏:‏ نشعر البقر فى أسنمتها، وقال عطاء والشعبى‏:‏ يقلد ويشعر‏.‏

وهو قول أبى ثور‏.‏

وقال مالك‏:‏ تُشعر التى لها سنام وتُقلد، ولا تُشعر التى لا سنام لها وتقلد‏.‏

وقال سعيد ابن جبير‏:‏ تُقلدُ ولا تُشعر‏.‏

باب مَنْ قَلَّدَ الْقَلائِدَ بِيَدِهِ

- فيه‏:‏ زِيَادَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ، كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ حَتَّى يُنْحَرَ هَدْيُهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَا فَتَلْتُ قَلائِدَ هَدْىِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَىَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيْهِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِى، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَىْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى نُحِرَ الْهَدْىُ‏.‏

فيه من الفقه‏:‏ جواز امتهان الخليفة فى الخدمة، وتناول بعض الأمور بنفسه، وإن كان له من يكفيه، ولا سيما فيما يكون من إقامة الشرائع وأمور الديانة، وفيه إنكار عائشة على ابن عباس أن من بعث بهدى فقد وجب عليه الإحرام، واحتجاجها عليه بفعل النبى عليه السلام أنه بعث مع أبى بكر سنة تسع بهدى، وقعد عن الحج، ولم يحرم عليه شئ، وهذه حجة قاطعة، وقد تقدمت هذه المسألة فى باب‏:‏ من أشعر وقلد الهدى بذى الحليفة ثم أحرم‏.‏

باب تَقْلِيدِ الْغَنَمِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ أَهْدَى الرسول صلى الله عليه وسلم مَرَّةً غَنَمًا‏.‏

- وَقَالَتْ مرة‏:‏ كُنْتُ أَفْتِلُ الْقَلائِدَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَيُقَلِّدُ الْغَنَمَ، وَيُقِيمُ فِى أَهْلِهِ حَلالا‏.‏

اختلف العلماء فى تقليد الغنم، فممن رأى تقليدها أخذًا بهذا الحديث‏:‏ عائشة أم المؤمنين، وهو قول عطاء، وبه قال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور‏.‏

وقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ لا يقلد الغنم، وأظنه لم يبلغهم الحديث‏.‏

باب الْقَلائِدِ مِنَ الْعِهْنِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ فَتَلْتُ قَلائِدَهَا مِنْ عِهْنٍ كَانَ عِنْدِى‏.‏

العهن‏:‏ الصوف، وأكثر ما يكون مصبوغًا ليكون أبلغ فى العلامة‏.‏

باب تَقْلِيدِ النَّعْلِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، رَأَى النَّبِىّ عليه السَّلام رَأَى رَجُلا يَسُوقُ بَدَنَةً، قَالَ‏:‏ ‏(‏ارْكَبْهَا‏)‏، قَالَ‏:‏ إِنَّهَا بَدَنَةٌ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ رَاكِبَهَا يُسَايِرُ النَّبِىَّ عليه السَّلام وَالنَّعْلُ فِى عُنُقِهَا‏.‏

قال ابن عمر‏:‏ يقلد الهدى نعلين، وبه قال الثورى والشافعى، وقال مالك‏:‏ تجزئ النعل الواحدة، وهو قول الزهرى، وقال الثورى‏:‏ فم القربة تجزئ ونعلان أفضل لمن وجدهما‏.‏

باب الْجِلالِ لِلْبُدْنِ

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَشُقُّ مِنَ الْجِلالِ إِلا مَوْضِعَ السَّنَامِ، وَإِذَا نَحَرَهَا نَزَعَ جِلالَهَا مَخَافَةَ أَنْ يُفْسِدَهَا الدَّمُ، ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا‏.‏

- فيه‏:‏ عَلِيّ، رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ‏:‏ أَمَرَنِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَتَصَدَّقَ بِجِلالِ الْبُدْنِ الَّتِى نَحَرْتُ وَبِجُلُودِهَا‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فيه الإبانة أن من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى البدن إذا ساقها سائق إلى الكعبة أن يجللها، فإذا بلغت محلها أن ينحرها، ويتصدق بلحومها وجلودها وجلالها، وفيه أن لصاحبها أن يولى نحرها غيره، وأنه لا بأس عليه إن لم يلى ذلك بنفسه، وفيه أن له أن يولى قسم لحومها من شاء‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ كان ابن عمر يجلِّل بُدنه الأنماط والبرود الحبر حتى يخرج من المدينة، ثم ينزعها ويطويها حتى يكون يوم عرفة فيلبسها إياها حتى ينحرها، ثم يتصدق بها‏.‏

قال المهلب‏:‏ وهذا إنما فعله على وجع التطوع والتبرع بما كان أَهَلَّ به الله أَلا يرجع فى شىء منه، ولا فى المال المضاف إليه، وليس بفرض عليه، وكان مالك وأبو حنيفة والشافعى يرون تجليل البدن‏.‏

باب ذَبْحِ الرَّجُلِ الْبَقَرَ عَنْ نِسَائِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِنَّ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ عليه السَّلام لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ، وَلا نُرَى إِلا الْحَجَّ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْىٌ إِذَا طَافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ، قَالَتْ‏:‏ فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ‏:‏ مَا هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ‏.‏

قَالَ يَحْيَى‏:‏ فَذَكَرْتُهُ لِلْقَاسِمِ، فَقَالَ‏:‏ أَتَتْكَ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ‏.‏

وهذا الذبح إنما كان هدى التمتع، نحره رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن تمتع من أزواجه، وأخذ جماعة من العلماء بظاهر هذا الحديث، وأجازوا الاشتراك فى هدى التمتع والقران على ما تقدم فى حديث أبى جمرة عن ابن عباس، ومنع مالك ذلك، ولا حجة لمن خالف مالكًا فى هذا الحديث؛ لأن قوله‏:‏ ‏(‏نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه البقر‏)‏ يحتمل أن يكون نحر عن كل واحدة منهن بقرة، وهذا غير مدفوع من التأويل‏.‏

فإن قيل‏:‏ إنما نحر البقر عنهن على حسب ما أتى عنه فى الحديبية‏:‏ ‏(‏أنه نحر البقرة عن سبعة والبدنة عن سبعة‏)‏ قيل‏:‏ هذه دعوى لا دليل عليها؛ لأن نحره فى الحديبية كان عندنا تطوعًا، والاشتراك فى هدى التطوع جائز على رواية ابن عبد الحكم عن مالك، والهدى فى حديث عائشة واجب، ولا يجوز الاشتراك فى الهدى الواجب، فالحديثان مستعملان عندنا على هذا التأويل‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ وأما رواية يونس عن الزهرى، عن عمرة، عن عائشة‏:‏ ‏(‏أن النبى عليه السلام نحر عن أزواجه بقرة واحدة‏)‏ فإنّ يونس انفرد بذلك وحده، وخالفه مالك فأرسله، ورواه القاسم وعمرة عن عائشة ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عن أزواجه البقر‏)‏ حدثنا بذلك أبو مصعب، عن مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة‏.‏

وحدثنا به القعنبى عن سليمان بن بلال، عن يحيى، عن عمرة، عن عائشة‏.‏

وهذه أسانيد الفقهاء الذين يفهمون ما يحتاج إلى فهمه‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى حديث عائشة من الفقه أنه من كَفَّر عن غيره كفارة يمين أو ظهار، أو قتل نفس، أو أهدى عنه، أو أَدَّى عنه دينا بغير أمره، أن ذلك كله مجزئًا عنه؛ لأنه لم يعرف نساء النبى عليه السلام بما أدى عنهن من نحر البقر لما وجب عليهن من نُسك التمتع، وهذا حجة لابن القاسم فى قوله‏:‏ إذا أعتق الرجل عبده عن غيره فى كفارة الظهار أنه يجزئه، ولم يُجز ذلك أشهب وابن المواز، وقالا‏:‏ لا يعتق عنه بغير علمه؛ لأنه فرض وجَبَ عليه، ودليل هذا الحديث لازم لهما، ولمن قال بقولهما من الفقهاء‏.‏

وقد تقدمت هذه المسألة واختلاف أهل العلم فيما يجوز عمله بنية وبغير نية فى آخر كتاب الإيمان فى باب‏:‏ ما جاء من الأعمال بالنية والحسنة، وقد تقدم معنى قوله‏:‏ أتتك بالحديث على وجهه، وهو أنها ذكرت ابتداء الإحرام وذكرت انتهاءه حين وصلوا إلى مكة، وفسخ من لم يسق الهدى‏.‏

باب النَّحْرِ فِى مَنْحَرِ النَّبِىِّ عليه السَّلام بِمِنًى

- فيه‏:‏ ابْنُ عُمَرَ، أنَّهُ كَانَ يَنْحَرُ فِىمَنْحَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ مِنْ جَمْعٍ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ حَتَّى يُدْخَلَ بِهِ مَنْحَرُ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ حُجَّاجٍ فِيهِمُ الْحُرُّ وَالْمَمْلُوكُ‏.‏

المنحر فى الحج بمنى إجماع من العلماء، فأما العمرة فلا طريق لنا فيها، فمن أراد أن ينحر فى عمرته، أو ساق هديا تطوع به، نحره بمكة حيث شاء، وهذا إجماع أيضًا، فمن فعل هذا فقد أصاب السنة، وبهذا قال مالك‏.‏

وقال أبو حنيفة والشافعى‏:‏ إن نحر فى غير منى ومكة من الحرم أجزأه، قالوا‏:‏ وإنما أريد بذلك مساكين الحرم ومكة‏.‏

وقد أجمعوا أنه إن نحر فى غير الحرم ولم يكن محصرًا بعدو أنه لا يجزئه، قال ابن القصار‏:‏ والحجة لمالك ما ذكره فى موطئه‏:‏ أنه بلغه أن النبى عليه السلام قال فى حجه بمنى‏:‏ ‏(‏هذا المنحر، ومنى كلها منحر‏)‏‏.‏

فدل دليل الخطاب أن غيرهما ليس بمنحر؛ لأنه كان يكفى أن يذكر أحدهما لينبه به على سائر الحرم، فلما خصها جميعًا علم أن منى خصت للحجاج؛ لأنهم يقيمون بها، فجعل نحرهم بها، وجعل مكة منحرًا للمعتمرين إذا فرغوا من سعيهم عند المروة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد نحر النبى عليه السلام هديه بالحديبية وليست بمكة ولا منى ولكنها من الحرم، قيل‏:‏ هذا الهدى لم يكن بلغ محله كما قال الله، وإنما جاز له أن يذبحه فى غير محله، كما جاز له أن يخرج من إحرامه فى غير محله، ولما قال الله فى الهدى‏:‏ ‏(‏مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 25‏]‏ علمنا أن محله مكة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏‏.‏

وصَدُّ النبى عليه السلام لم يكن عن الحرم، وإنما كان عن البيت؛ لأن الحديبية بعضها حرم، وبعضها حل، وترجح قياسًا أن مكة مخصوصة بالبيت، والطواف بالبيت دون سائر الحرم، ومنى مخصوصة بالتحلل فيها بالرمى والمقام بها لبقية أعمال الحج، وليس كذلك سائر الحرم، فخص هذان الموضعان بالنحر فيهما لهذا التخصيص فيهما، وكذلك فعل الرسول وأصحابه بعده‏.‏

باب مَنْ نَحَرَ هَدْيَهُ بِيَدِهِ وَبَاب نَحْرِ الإبِلِ الْمُقَيَّدَةً

- فيه‏:‏ ابْنَ عُمَرَ، أنَّهُ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا، قَالَ‏:‏ ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال المهلب‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏(‏قيامًا مقيدة‏)‏ يعنى‏:‏ معقولة اليد الواحدة قائمة على ما بقى من قوائمها، وعلى هذا المعنى قراءة من قرأ ‏(‏صوافن‏)‏ لأنه قال‏:‏ صفن الفرس، إذا رفع إحدى يديه، وأما من قرأ‏:‏ ‏(‏صَوَافَّ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 36‏]‏ فإنه أراد قائمة، وقال مالك‏:‏ تعقل إن خيف أن تنفر، ولا تنحر باركة إلا أن يصعب، وبقية الكلام فى هذا المعنى فى الباب الذى بعد هذا إن شاء الله‏.‏

باب نَحْرِ الْبُدْنِ قَائِمَةً

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ‏:‏ سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏صَوَافَّ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 36‏]‏ قِيَامًا‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَسٍ، أنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام لَمَّا أهَل عَلَى الْبَيْدَاءِ وَأَهل لنا بِهِمَا جَمِيعًا، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ، أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا، وَنَحَرَ النَّبِىُّ عليه السَّلام بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا، وَضَحَّى بِالْمَدِينَةِ بكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ‏.‏

قول ابن عمر‏:‏ ‏(‏سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ يعنى أن تُنحر قيامًا، ويشهد لهذا دليل القرآن، قوله‏:‏ ‏(‏فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 36‏]‏ يعنى سقطت إلى الأرض، وممن استحب أن تنحر قيامًا‏:‏ مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وقال أبو حنيفة والثورى‏:‏ تنحر باركة وقائمة، واستحب عطاء أن ينحرها باركة معقولة‏.‏

قال المهلب‏:‏ ‏(‏أهل لنا بهما جميعًا‏)‏ معناه‏:‏ أمر من أَهَلَّ بالقران ممن لم يفسخ حجَّه؛ لأنه قد صح أنه عليه السلام كان مفردًا بالحج‏.‏

ولم يكن قارنًا، فمعنى ‏(‏أهل لنا‏)‏ أى أباح لنا الإهلال بهما قولا، فكان إهلاله لهم بالإباحة أمرًا، وتعليمًا منه لهم كيف يهلون من قرن منهم، وإلا فما معنى ‏(‏لنا‏)‏ فى هذا الموضع‏؟‏ وقد تقدم قولُ عائشة وابن عمر قولَ أنس، ووصفهما له بالصغر وقلة الضبط لهذه القصة‏.‏

باب لا يُعْطَى الْجَزَّارُ مِنَ الْهَدىِ شَيْئًا

- فيه‏:‏ عَلِيٍّ، قَالَ‏:‏ بَعَثَنِى النَّبِىُّ عليه السَّلام فَقُمْتُ عَلَى الْبُدْنِ، فَأَمَرَنِى بقَسَمْتُ لُحُومَهَا، ثُمَّ أَمَرَنِى بقسمة جِلالَهَا وَجُلُودَهَا، وَأَمَرَنِى أَنْلا أُعْطِىَ عَلَيْهَا شَيْئًا فِى جِزَارَتِهَا‏.‏

وترجم له باب‏:‏ ‏(‏يتصدق بجلود الهدى‏)‏، وترجم له باب‏:‏ ‏(‏يتصدق بجلال البدن‏)‏‏.‏

وزاد فيه‏:‏ قال على‏:‏ ‏(‏أهدى النبى عليه السلام مائة بدنة، فأمرنى بلحومها فقسمتها، ثم أمرنى بجلالها وجلودها فقسمتها‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى هذا الباب، فذهبت طائفة إلى الأخذ بهذا الحديث، وقالوا‏:‏ لا يعطى الجزار منها شيئًا، هذا قول مالك وأبى حنيفة وأحمد، وأجاز الحسن البصرى أن يعطى الجزار الجلد‏.‏

واختلفوا فى بيع الجلد، فروى عن ابن عمر أنه لا بأس بأن يبيعه، ويتصدق بثمنه، وقاله أحمد وإسحاق‏.‏

وقال أبو هريرة‏:‏ من باع إهاب أضحيته فلا أضحية له، وقال ابن عباس‏:‏ يتصدق به أو ينتفع به، ولا يبيعه، وعن القاسم وسالم‏:‏ لا يصلح بيع جلودها، وهو قول مالك، وقال النخعى والحكم‏:‏ لا بأس أن يشترى به الغربان والمنخل، ورخص أبو هريرة فى بيعه، وقال عطاء‏:‏ إن كان الهدى واجبًا تصدق بإهابه، وإن كان تطوعًا باعه إن شاء فى الدَّيْن‏.‏

وأما من أجاز بيع جلودها، فإنما قال ذلك والله أعلم قياسًا على إباحة الله الأكل منها، فكان بيع الجلد والانتفاع به تبعًا للأكل، وهذا ليس بشئ؛ لأنه يجوز أكل لحمها، ولا يجوز بيعه بإجماع، والأصل فى كل ما اخرج لله تعالى أنه لا يجوز الرجوع فى شىء منه، ولولا إباحة الله الأكل منها ما جاز أن يستباح، فوجب ألا يتعدى الأكل إلى البيع إلا بدليل لا مُعارِض له‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإعطاء الجازر منها فى جزارته عوضًا من فعله وذبحه فهو بيع، ولا يجوز بيع شىء من لحمها، وكذلك الجلد، وقال‏:‏ ولا يخلو الإهاب من أن يكون مع سائر الشاة بإيجابها وذبحها فقد صار مسبلا فيما سلبت به الأضحية، أو لم يَصِرْ مسبلاَ إذا كان عليه دين، فإن كان قد صار لِمَا جعله له فغير جائز صرفه أو صرف شىء منه إلا فيما سَبَلَهُ، أو لم يصر ذلك فيما جعله له إذ كان عليه دين، فيكون إيجابه الشاة أضحية، وجِلْدها غير جلد أضحية، وذلك فيما لا يفعل فى نظر ولا خبر‏.‏

والصواب إن كان الدَّيْن على صاحب الأضحية والبدنة قبل إيجابها، ولم يكن عنده ما يقضى غريمه سوى الشاة أو البدنة، فإيجابه لها عندنا باطل، وملكه عليها ثابت، وله بيعها فى دينه، إذ ليس عليه إتلاف ماله، ولا صرفه فى غير قضاء دينه‏.‏

بَاب ‏{‏وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 26- 30‏]‏

معنى الآية‏:‏ أن الله تعالى أعلم نَبيَّه بعظيم ما ركب قومه، قريش خاصة دون غيرهم، من سائر عبادتهم فى حرمه والبيت الذى أمر خليله عليه السلام ببنائه وتطهيره من الآفات والشرك إلهًا غيره، وتقدير الكلام‏:‏ ‏(‏واذكر إذ بوأنا لإبراهيم هذا البيت الذى يعبد قومك فيه غيرى‏)‏‏.‏

روى معمر عن قتادة قال‏:‏ وضع الله تعالى البيت مع آدم حين أهبط إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند، ففقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فشكا ذلك إلى الله تعالى فقال له‏:‏ يا آدم، أهبطت لك شيئًا يطاف به كما يطاف حول عرشى، ويصلى عنده كما يصلى حول عرشى، فانطلق إليه، فخرج وَمَدَّ له فى خطوه، فكان بين كل خطوتين مفازة، فلم تزل تلك المفازة على ذلك، وأتى آدم البيت، فطاف به ومن بعده من الأنبياء، ثم بوأ الله مكانه لإبراهيم بعد الغرق، وقال ابن عباس فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَذِّن فِى النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 27‏]‏ عنى بالناس هاهنا أهل القبلة، ألم تسمعه قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا‏}‏ إلى‏:‏ ‏{‏وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 96، 97‏]‏ يقول‏:‏ من دخله من الناس الذين أمر أن يُوَذَّنَ فيهم، وكتب عليهم الحج‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 28‏]‏، قال‏:‏ التجارة‏.‏

واختلف الناس فى الأيام المعلومات، فقال على بن أبى طالب‏:‏ هى يوم النحر ويومان بعده، اذبح فى أيها شئت، وأفضلها أولها، وهو قول ابن عمر وأهل المدينة، وقال ابن عباس‏:‏ هى العشر ويوم النحر منها، وهو قول الكوفيين، وأجمعوا أن المعدودات أيام التشريق الثلاثة، وقد ذكرنا لم سميت معلومات ومعدودات فى كتاب صلاة العيدين، فى باب‏:‏ فضل العمل فى أيام التشريق‏.‏

والبائس فى اللغة‏:‏ الذى به البؤس، وهو شدة الفقر، وقال ابن عباس‏:‏ التفث‏:‏ الحلق والتقصير والذبح والأخذ من الشارب واللحية، ونتف الإبط، وقص الأظفار، وكذلك هو عند أهل التفسير، أنه الخروج من الإحرام إلى الحل، ولا يعرفهُ أهل اللغة إلا من التفسير، وقال ابن عمر‏:‏ التفث‏:‏ ما عليهم من الحج، وقال مرة‏:‏ المناسك كلها، وقال مجاهد‏:‏ ‏(‏وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 29‏]‏ نذر الحج والمشى، وما نذره من شىء يكون فى الحج‏.‏

والبيت العتيق سمى بذلك؛ لأن الله أعتقه من الجبارة أن يصلوا إلى تخريبه، عن قتادة ومجاهد‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ سمى عتيقًا لقدمه؛ لأنه أول بيت وضع للناس، بناه آدم عليه السلام، وهو أول من بناه، ثم بَوَّا الله موضعه لإبراهيم بعد الغَرق، فبناه إبراهيم وإسماعيل، وقوله‏:‏ ‏(‏وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 29‏]‏ هو طواف الإفاضة المفترض، وسيأتى حكمه فى موضعه بعد هذا إن شاء الله‏.‏

باب مَا يَأْكُلُ مِنَ الْبُدْنِ وَمَا يَتَصَدَّقُ

وَقَالَ ابْن عُمَرَ‏:‏ لا يُؤْكَلُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَالنَّذْرِ، وَيُؤْكَلُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ‏.‏

وقال عَطَاءٌ‏:‏ يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ مِنَ الْمُتْعَةِ‏.‏

- فيه‏:‏ جَابِر، كُنَّا لا نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلاثِ، فَرَخَّصَ لَنَا النَّبِىُّ عليه السَّلام فَقَالَ‏:‏ ‏(‏كُلُوا وَتَزَوَّدُوا‏)‏، فَأَكَلْنَا وَتَزَوَّدْنَا‏.‏

قُلْتُ لِعَطَاءٍ‏:‏ أَقَالَ حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَةَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ‏:‏ مَا هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ذَبَحَ النَّبِىُّ عليه السَّلام عَنْ أَزْوَاجِهِ‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ اختلف العلماء فيما يؤكل من الهدى، وما لا يؤكل، فكان ابن عمر يقول‏:‏ لا يؤكل من جزاء الصيد، ولا من النذر، ويكل مما سوى ذلك، وروى مثله عن طاوس والحسن، وبه قال أحمد وإسحاق، وروينا عن الحسن قولا ثانيا‏:‏ أنه لا بأس أن يأكل من جزاء الصيد، ونذر المساكين، وهو قول الحكم فى جزاء الصيد‏.‏

وقال مالك‏:‏ يؤكل من الهدى كله إلا جزاء الصيد، وفدية الأذى، ونذر المساكين، وهو قول طاوس وسعيد بن جبير، وذكر ابن المواز عن مالك أنه يأكل من الهدى النذر، إلا أن يكون نذره للمساكين، وكذلك ما أخرجه بمعنى الصدقة لا يأكل منه، وهدى التطوع إذا قصر عن بلوغ محله وعطب فلا يؤكل منه، وكان الأوزاعى يكره أن يؤكل من جزاء الصيد وفدية الكفارة، ويؤكل النذر وهدى التمتع والتطوع‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ يؤكل هدى القران والمتعة والتطوع، ولا يأكل سوى ذلك، وقال الشافعى‏:‏ لا يأكل إلا هدى التطوع خاصة، ولا يأكل من المتعة والقران، لأنه عنده واجب، وهو قول أبى ثور، واحتج ابن القصار لقول مالك بقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 28‏]‏ ولم يخص واجبًا من تطوع، فهو عام فى جواز الأكل إلا بدلالة، وأيضًا فإن الإجماع حاصل على جواز الأكل من دم المتعة ولا نعلم أحدًا منعه قبل الشافعى‏.‏

وقول عائشة‏:‏ ‏(‏فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر‏)‏ يردّ قوله؛ لأنه لا خلاف أن لحم البقر التى نحر النبى عليه السلام عن أزواجه كانت هدى المتعة التى متعن، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحمل إليهن منه ليأكلنه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما لم يجز الكل من جزاء الصيد لأنه غرم جناية، فإذا أكل منه لم يغَرم المثل الذى أوجب الله عليه، وفدية الأذى من هذا الباب، وأما نذر المساكين فإذا نذره فقد أوجبه لهم، فإذا اكل منه فلم ينفذ إليهم حقوقهم‏.‏

واحتج الطحاوى لأبى حنيفة فقال‏:‏ ظاهر قوله‏:‏ ‏(‏فكلوا منها وأطعموا‏)‏ إباحة الأكل من جميع الهدايا إذ لم يُذكر فى ذلك خاص منها، واحتمل أن باطن الآية كظاهرها، واحتمل أن تكون على خلاف ظاهرها، فنظرنا فى ذلك، فوجدنا أهل العلم لا يختلفون فى هذى التطوه إذا بلغ محله؛ أنه مباح لمهديه الأكل منه وأنه ما دخل فى هذه الآية، وشهد بذلك السُنَن المأثورة، لأن النبى عليه السلام قد أكل من هديه فى حجته، وكانت تطوعًا، ووجدناهم لا يختلفون فى جزاء الصيد والنذر للمساكين أن مُهدِى ذلك لا يأكل منه وأنه غير ذا حل فى هذه الآية‏.‏

واختلفوا فى هدى القران والمتعة وهدى الجماع، فنظرنا فى ذلك فكان هدى المتعة والقران بهدى التطوع أشبه منهما بما سوى ذلك من الهدايا إذا كان هاذان الهديان إنما يجبان بأفعال غير منهى عنها كالهدى التطوع الذى يجب بفعل غير منهى عنه ولم يكن ذلك كهدى النذر؛ لأن هدى النذر إنما يكون شكر الشىء يراد به أن يكون جزاء له‏.‏

كقول الرجل‏:‏ إن بلغنى الله تعالى الحج فله على أن أهدى بدنة، فأشبهت العوض عن الأشياء التى تتعوض بهدى وكأن هدى الجماع بهدى جزاء الصيد أشبه منه بهدى التطوع؛ إذ كانت إصابة الصيد منهى عنها فى الإحرام، وإصابة الجماع كذلك فلم تجز أن يؤكل منها كما لا يجوز أن يؤكل من نظيرها من الهدايا، وأما هدى التطوع إذا عطب قبل محله، فقد اختلف أهل العلم فيه، فقالت طائفة‏:‏ صاحبه ممنوع من الأكل منه‏.‏

رُوى ذلك عن ابن عباس وهو قول مالك وأبى حنيفة والشافعى، ورخصت طائفة فى الكل منه، روى ذلك عن عائشة وعبد الله بن عمر‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وأما حديث جابر فهو مجمل كالآية‏.‏

وفيه‏:‏ جواز الأكل من الهدى دون تخصيص نوع منه بالمنع‏.‏

وقد ذكرت أقوال العلماء فى الآية، واقتضى ذلك معنى الحديث‏.‏

وقول جابر‏:‏ كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث‏.‏

فقال النخعى‏:‏ وكان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم، فأبيح للمسلمين الكل منها، وإنما منعوا من ذلك فى أول الإسلام من أجل الدافة فلما زالت العلة الموجبة لذلك أمرهم أن يأكلوا ويدخروا‏.‏

واختلف فى مقدار ما يأكل منها ويتصدق، فذكر علقمة أن ابن مسعود أمره أن يتصدق بثلثه، ويأكل ثلثه، ويهدى ثلثه‏.‏

وروى عن عطاء، وهو قول الشافعى وأحمد وإسحاق، وقال الثورى‏:‏ يتصدق بأكثره‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ ما أحب أن يتصدق بأقل من الثلث‏.‏

باب الذَّبْحِ قَبْلَ الْحَلْقِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏مَّنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ لا حَرَجَ، لا حَرَجَ‏)‏، فَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِىَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏لا حَرَجَ‏)‏، قَالَ‏:‏ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِىَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏لا حَرَجَ‏)‏‏.‏

قَالَ‏:‏ رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏لا حَرَجَ‏)‏، قَالَ‏:‏ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏لا حَرَجَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، قَالَ‏:‏ قَدِمْتُ عَلَى النَّبِىّ عليه السَّلام وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَحَجَجْتَ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث إلى قول عُمر‏:‏ وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ النَّبِىّ عليه السَّلام فَإِنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ‏.‏

سنّة الحاج أن يرمى جمرة العقبة يوم النحر ثم ينحر، ثم يحلق رأسه، ثم يطوف طواف الإفاضة، وهو الذى يسميه أهل العراق‏:‏ طواف الزيارة، وكذلك فعل النبى عليه السلام وهذا المعنى مقتضى حديث عمر فى حديث أبى موسى أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى بلغ، يريد أنه لم يحلق حتى نحر الهدى، وهذا معنى الترجمة، فمن قدم شيئًا عن رتبته فللعلماء فى ذلك أقوال‏:‏ فذهب عطاء وطاوس ومجاهد إلى أنه إن قدم نسكًا قبل نسكٍ أنه لا حرج عليه، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال ابن عباس‏:‏ من قدَّم من حجه شيئًا أو أخَّره فعليه دم‏.‏

وهو قول الشعبى والحسن وقتادة‏.‏

واختلفوا إذا حَلق قبل أن يذبح، فقال مالك والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور‏:‏ لا شىء عليه‏.‏

وهو نص الحديث‏.‏

وقال النخعى‏:‏ عليه دم‏.‏

وهو قول أبى حنيفة، قال‏:‏ وكذلك إن كان قارنًا، والمراد بالمحل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ المكان الذى يقع فيه النحر؛ فإذا بلغ محله جاز أن يحلق قبل الذبح‏.‏

وقال زفر‏:‏ إن كان قارنًا فعليه دمان لتقدم الحلاق‏.‏

وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ لا شىء عليه‏.‏

واحتجا بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا حرج‏)‏ وقول أبى حنيفة وزفر مخالف للحديث، فلا وجه له‏.‏

واختلفوا فيمن طاف للزيارة قبل أن يرمى، فقال الشافعى‏:‏ إن ذلك يجزئه ويرمى، على نص الحديث‏.‏

وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه يرمى ثم يحلق رأسه، ثم يعيد الطواف؛ فإن رجع إلى بلده فعليه دم، ويجزئه طوافه، وهذا خلاف نص ابن عباس، وأظن مالكًا لم يبلغه الحديث، وفيه رَد لما كرهه مالك أن يسمى طواف الإفاضة‏:‏ طواف الزيارة؛ لأن الرجل قال للنبى عليه السلام‏:‏ ‏(‏زرت قبل أن أرمى‏)‏ فلم ينكر الرسولُ صلى الله عليه وسلم عليه‏.‏

واختلفوا فيمن أفاض قبل أن يحلق بعد الرمى، فقال ابن عمر‏:‏ يرجع فيحلق أو يُقَصِّر، ثم يرجع إلى البيت فيفيض‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ تجزئه الإفاضة ويحلق أو يقصر، ولا شىء عليه‏.‏

هذا قول عطاء ومالك والشافعى، وقال مالك فى الموطأ‏:‏ أحب إلىّ أن يهريق دمًا؛ لحديث ابن عباس‏.‏

وأما إذا ذبح قبل أن يرمى، فقال مالك وجمماعة من العلماء‏:‏ لا شىء عليه؛ لأن ذلك نص فى الحديث، والهدى قد بلغ محله، وذلك يوم النحر، كما لو لم يَنْحَر المعتمر بمكة هديًا ساقه قبل أن يطوف لعمرته‏.‏

واختلفوا إذا قَدَّم الحلق على الرمى، فقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ عليه الفدية، والحجة فيها أنه حرام عليه أن يمس من شعره شيئًا، أو يلبس، أو يمس طيبًا حتى يرمى جمرة العقبة، وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على من حلق رأسه قبل محله من ضرورةٍ بالفدية، فكيف من غير ضرورة‏؟‏ وجوزه الشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، واحتجوا بقول النبى عليه السلام فى التقديم والتأخير‏:‏ ‏(‏لا حرج‏)‏ وسيأتى الكلام فيمن رمى جمرة العقبة بعد ما أمسى فى بابه إن شاء الله‏.‏

وتأول الكوفيون فى وجوب الدم فيمن قَدَّم شيئًا من نسكه أن معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا حرج‏)‏‏:‏ لا إثم؛ لأنه عليه السلام كان يعلمهم مناسكهم، فأخبرهم أن الحرج الذى رفع عنهم هو لجهلهم لا لغير ذلك؛ لأنهم كانوا أعرابًا، لا على أنه أباح لهم عليه السلام التقديم والتأخير فى العمد‏.‏

وهذا ابن عباس يوجب على من قَدَّم من نسكه شيئًا أو أَخَرَّه الدم، وهو أحد من روى الحديث عن النبى عليه السلام فلم يكن معنى ذلك عنده على الإباحة، وذهب عطاء إلى أن معنى قوله‏:‏ ‏(‏لا حرج‏)‏ على العموم‏:‏ لا شىء على فاعل ذلك من إثم ولا فدية‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والدليل على صحة هذا أن النبى عليه السلام لم يسقط عنه الحرج فى ذلك إلا وقد أجزأه فعله، ولو لم يكن عنده مجزئا لأمره إما بالإعادة، وإما ببدل منه من فدية وجزاء، ولم يقل له‏:‏ لا حرج؛ لأن الفدية إنما تلزم الحاج للحرج الذى يأتيه، فعلم بذلك أن من قَدَّم شيئًا من نسكه، فدخل وقته قبل شىء منه وأجزأه أنه لا يلزمه شئ‏.‏

فإن ظن ظان أن فى قول الرجل للنبى عليه السلام‏:‏ نحرتُ قبل أن أرمى ولم أشعر، دلالة على أنه لا يجوز ذلك للعامد، وأن عليه القضاء إن كان مما يُقضى، أو الفدية إن كان مما لا يُقضى، فقد ظن غير الصواب، وذلك أن الجاهل والناسى لا يضع الجهل والنسيان الحكم الذى يلزمه المعتمد فى وضع مناسك الحج غير مواضعها، وإنما يضع الجهل والنسيان فى ذلك‏:‏ الإثم، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أن جاهلا من الحاج لو جهل ما عليه، فلم يرم الجمرات حتى انقضت أيام الرمى، أو أن ناسيًا نسى ذلك حتى مضت أيام الرمى، أن حكمهم فيما يلزمهما من الفدية حكم المعتمد، وكذلك تارك الوقوف بعرفة جاهلا أو ناسيًا حتى انقضى وقته، وكذلك سائر أعمال الحج سواءٌ فى اللازم من الفدية، والجاهل والعامد والناسى، وإن اختلفت أحوالهم فى الإثم، فكذلك مقدِّم شىء من ذلك ومؤخِّره، الجاهل والعامد فيه سواء؛ لأنه عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏لا حرج‏)‏ ولم يفصل بجوابه بين العالم والجاهل والناسى‏.‏

باب مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ عِنْدَ الإحْرَامِ وَحَلَقَ

- فيه‏:‏ حَفْصَةَ، قَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ، وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنِّى لَبَّدْتُ رَأْسِى وَقَلَّدْتُ هَدْيِى، فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ‏)‏‏.‏

- وَقَالَ ابْن عُمَرَ‏:‏ حَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى حَجَّتِهِ‏.‏

التلبيد‏:‏ أن يجعل الصمغ فى الغسول، ثم يلطخ به رأسه عند الإحرام، ليمنعه ذلك من الشعث، وجمهور العلماء على أن من لبد رأسه فقد وجب عليه الحلاق، كما فعل النبى عليه السلام وبذلك أمر الناس عمر بن الخطاب وابن عمر، وهو قول مالك والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وكذلك لو ضفر شعره أو عقصه كان حكمه حكم التلبيد؛ لأن الذى فعل‏:‏ سنة التلبيد الذى أوجب النبى عليه السلام فيه الحلاق، وقال أبو حنيفة‏:‏ من لبَّد رأسه أو ضفره؛ فإن قصر ولم يحلق أجزأه‏.‏

وروى عن ابن عباس أنه كان يقول‏:‏ ‏(‏من لبد أو عقص أو ضفر؛ فإن كان نوى الحلق فليحلق، وإن لم ينوه فإن شاء حلق، وإن شاء قصر‏)‏ وفعل النبى عليه السلام أولى، وسيأتى فى كتاب اللباس قول عمر‏:‏ ‏(‏من ضفر فليحلق، ولا تشبهوا بالتلبيد‏)‏ ومعناه إن شاء الله‏.‏

باب الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ عِنْدَ الإحْلالِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام قَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ‏)‏، قَالُوا‏:‏ وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ‏)‏، قَالُوا‏:‏ وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏وَالْمُقَصِّرِينَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ‏[‏ابن عمر‏]‏ حَلَقَ النَّبِىُّ عليه السَّلام وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ‏.‏

- وفيه‏:‏ مُعَاوِيَةَ، قَالَ‏:‏ قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ‏.‏

هذا الموضع الذى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول كان بالحديبية، ذكره ابن إسحاق عن الزهرى، عن عروة، عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة قالا‏:‏ ‏(‏لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب، أمر الناس أن ينحروا ويحلقوا، فوالله ما قام رجل؛ لما دخل فى قلوب الناس من الشَّرِّ، فقالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فما قام أحد، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على أم سلمة، فقال لها‏:‏ ‏(‏أما ترى الناس آمرهم بالأمر لا يفعلونه‏)‏، فقالت‏:‏ يا رسول الله، لا تَلُمهم؛ فإن الناس دخلهم أمر عظيم مما رأوك حملت على نفسك فى الصلح، فاخرج يا رسول الله لا تكلم أحدًا حتى تأتى هديك فتنحر وتحل؛ فإن الناس إذا رأوك فعلت ذلك فعلواه‏.‏

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل ذلك، فقام الناس فنحروا، فحلق بعض وقصر بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم اغفر للمحلفين، ثلاثًا، وقال فى الثالثة‏:‏ وللمقصرين‏)‏‏.‏

وذكر ابن إسحاق عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال‏:‏ حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم ارحم المحلقين، ثلاثًا، قيل‏:‏ يا رسول الله، ما بال المحلقين ظاهرات لهم فى الترحم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لأنهم لم يشكوا‏)‏‏.‏

واختلف أهل العلم هل الحلاق نسك يجب على الحاج والمعتمر أم لا فقال مالك‏:‏ هو نسك يجب على الحاج والمعتمر، وهو أفضل من التقصير، ويجب على من فاته الحج أو الحصر بِعَدوِّ أو بمرض‏.‏

وهو قول جماعة من الفقهاء، إلا فى الحصر؛ فإنهم اختلفوا هل هو من النسك‏؟‏ فقال أبو حنيفة‏:‏ ليس على المحصر تقصير ولا حلاق‏.‏

وهذا أمر النبى عليه السلام أصحابه بالحديبية حين صُدّ عن البيت بالحلاق وهم محصورون، فلا وجه لقوله‏.‏

وقال الشافعى مرة‏:‏ الحلاق من النسك‏.‏

وقال مرة‏:‏ الحلاق من الإحلال؛ لأنه ممنوع منه للإحرام‏.‏

وقال غيره‏:‏ من جعل الحلاق نسكًا أوجب على من تركه الدم، ومن جعله من باب الإحلال لم يوجب على من تركه شيئًا، ودعاء الرسول صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثًا دليل على أن الحلاق نسك، فلا وجه لإسقاط أبى حنيفة له عن المحصر‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والدليل على أنه نسك يجب عليه عند التحلل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 27‏]‏ فخص الحلق والتقصير من بين المباحات، ولم يقل‏:‏ لابسين متطيبين، فُعلِم أن الحلاق نسك، وليس حكمه حكم اللباس وغيره، وأيضًا فإنه دَعَا للمحلقين ثلاثًا، ولم يَدْعُ لهم على شىء من فعل المباحات مثل اللباس والطيب، ودعاؤه عليه السلام معه الثواب، فثبت أن الحلاق نسك؛ لأن الثواب يقع عليه، ولو كان أباحه من حَظْرٍ لم يستحق الدعاء والثواب عليه‏.‏

واجمعوا أن النساء لا يحلقن، وأن سنتهن التقصير‏.‏

قال المهلب‏:‏ ووجه دعاء النبى صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثًا والله أعلم أن التحليق أبلغ فى العبادة، وأدل على صدق النية فى التذلل لله؛ لأن المفصر لشعره مبق لنفسه من الزينة التى أراد الله أن يأتيه المستجيبون لدعوته بالحج مبرئين منها، مظهرين للذلة والخشوع، مجانبين للطيب والتزين كله، شعثًا غبرًا، ومن ترك من شعره البعض فقد أبقى لنفسه من الزينة ما دل على أنه لم يتزين بالشعث والغبرة لله وحده، فأكد النبى عليه السلام الحض على الشعث والغبرة بالدعوة لمن آثرها على إبقاء الزينة لدنياه، ثم جعل له من الدعوة نصيبًا، وهو الربع، لئلا يخيب أحدًا من أمته من صالحٍ دعوتِهِ‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ المِشْقَص‏:‏ النصل الطويل، وليس بالعريض‏.‏

قال أبو حنيفة الدينورى‏:‏ المشقص‏:‏ كل نصل فيه عين وكل ناتئ فى وسطه حديدة فهو عين ومنه عين الكتف والورقة‏.‏

باب تَقْصِيرِ الْمُتَمَتِّعِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ‏:‏ لَمَّا قَدِمَ الرسول صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يَحِلُّوا وَيَحْلِقُوا، أَوْ يُقَصِّرُوا‏.‏

وليس فيه أكثر من أن الحلاق أو التقصير لازم للمعتمر كما يلزم الحاج؛ لأمر النبى صلى الله عليه وسلم المتمتعين عند الإحلال به‏.‏