فصل: باب الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ

قَالَتْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ أَخَّرَ الرسول صلى الله عليه وسلم الزِّيَارَةَ إِلَى اللَّيْلِ، وذكَر ابْنِ عَبَّاسٍ، عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّهُ كَانَ يَزُورُ الْبَيْتَ أَيَّامَ مِنًى‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ طَافَ طَوَافًا وَاحِدًا، ثُمَّ يَقِيلُ، ثُمَّ يَأْتِى مِنًى، يَعْنِى يَوْمَ النَّحْرِ‏.‏

وَرَفَعَهُ عَبْدُالرَّزَّاقِ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، حَجَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ عليه السَّلام فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ، فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ، فَأَرَادَ الرسول صلى الله عليه وسلم مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏حَابِسَتُنَا هِيَ‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏اخْرُجُوا‏)‏، قَالَ اللَّه تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وأجمع العلماء أن هذا الطواف هو الواجب‏:‏ طواف الإفاضة؛ ألا ترى أن النبى عليه السلام لما توهم أن صفية لم تطف يوم النحر، قال‏:‏ ‏(‏أحابستنا هى‏؟‏‏)‏ فلما أخبر أنها قد طافت للإفاضة، قال‏:‏ فلا إذًا‏.‏

فأخبر أنه يجزئها عن غيره، فاستحب جميع العلماء طواف يوم النحر ثم يرجع إلى منى للمبيت والرمى، وذكر عبد الرزاق عن سعيد بن جبير‏:‏ أنه كان إذا طاف يوم النحر لم يزد على سبع، وأخر، وعن طاوس مثله، وعن الحكم قال‏:‏ أصحاب عبد الله لا يزيدون يوم النحر على سبع، وأخر‏.‏

قال الحجاج‏:‏ فسألت عطاء، فقال‏:‏ طف كم شئت، ولا خلاف بين الفقهاء أن من أخر طوافه من يوم النحر، وطافه فى أيام التشريق أنه مؤد لفرضه، ولا شىء عليه‏.‏

واختلفوا إن أخره حتى مضت أيام التشريق، فقال عطاء‏:‏ لا شىء عليه‏.‏

وهو قول أبى يوسف ومحمد والشافعى وأبى ثور، وقال مالك‏:‏ إن عجله فهو أفضل، وإن أخره حتى مضت أيام التشريق، وانصرف من منى إلى مكة فلا بأس، وإن أخره بعد ما أنصرف من منى أيامًا، وتطاول ذلك فعليه دم‏.‏

واختلفوا إذا آخره حتى رجع إلى بلده، فقال عطاء، ومالك، والثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور‏:‏ يرجع فيطوف، لا يجزئه غيره‏.‏

وروى عن عطاء قول ثان‏:‏ وهو أن يأتى عامًا قابلاً بحجٍ أو عمرة‏.‏

وقال ابن القاسم فى المدونة‏:‏ ورواه ابن عبد الحكم عن مالك أن طواف الدخول يجزئه عن طواف الإفاضة لمن نسيهُ إذا رجع إلى بلده، وعليه دم‏.‏

وروى ابن الماجشون ومطرف عن مالك أن طواف الدخول لا يجزئ عن طواف الإفاضة البتة، وإنما يجزئ عندهم عن طواف الإفاضة كل عمل يعمله الحاج يوم النحر وبعده فى حجته‏.‏

وهو قول أبى حنيفة والشافعى، قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ والحجة لذلك‏:‏ ‏)‏ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 29‏]‏ ففرض الطواف بالبيت العتيق بعد قضاء التفث، وذلك طواف الإفاضة يوم النحر بعد الوقوف بعرفة، فإذا طاف تطوعًا أجزأه عن فرضه؛ لأنه جاء بطواف فى وقته‏.‏

وقال ابن القصار‏:‏ لما كان الإحرام بالحج إذا انعقد ناب تطوعه عن فرضه، كطواف الوداع ينوب عن طواف الفرض، ولو أوقع طواف تطوع ولم يعتقده طواف الإفاضة لناب عنه بلا خلاف‏.‏

وقال ابن شعبة‏:‏ إنما قالوا‏:‏ يجزئه؛ لأن كل عمل يكون فى الحج ينوى به التطوع، ولم يكمل فرض الحج، فالفرض أولى به من النية التى نويت به، كالداخل فى صلاة بإحرام نواه بها، ثم صلى منها صدرًا، ثم ظن أنه قد فرغ منها، فصلى ما بقى على أنه تطوع عنده، فهو للفرض الذى ابتدأه ولا تضره نيته إذ لم يقطع الصلاة عمدًا‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقد خص الله الحج بما لم يخص غيره من الفرائض وذلك قوله‏:‏ ‏(‏الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ الآية، فمن فرض الحج فى حرمه وشهوره فليس له أن ينتقل عما فرضه بنية إلى غيره حتى يتمه؛ لأن العمل على النية الأولى حتى يكملها، وهو فرضه؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ألا ترى أن من وطئ بعد جمرة العقبة قبل طواف الإفاضة، أن منهم من قال‏:‏ يحج قابلا‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ إن أحرم بعمرة وأهدى أجزأه ذلك‏.‏

وهُم‏:‏ ابن عباس وعكرمة وطاوس وربيعة، وفسره ابن عباس فقال‏:‏ إنما ‏(‏يفي من أمره‏)‏ أربعة أميال، فيحرم من التنعيم أربعة أميال، فيكون طواف مكان طواف، وهذا طواف عمرة يجزئه عن طواف فريضة، وكذلك القارن يجزئه طواف واحد وسعى واحد لعمرته وحجته، للسُنَّة الثابتة عن عائشة وابن عمر عن النبى عليه السلام والعمرة تطوع‏.‏

باب إِذَا رَمَى بَعْدَ مَا أَمْسَى أَوْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلا

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام قِيلَ لَهُ فِى الذَّبْحِ وَالْحَلْقِ وَالرَّمْىِ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لا حَرَجَ‏)‏‏.‏

أجمع العلماء أن الاختيار فى رمى جمرة العقبة يوم النحر من طلوع الشمس إلى زوالها، وأنه إن رمى قبل غروب الشمس من يوم النحر أجزأ عنه، إلا مالكًا فإنه يستحب له أن يهريق دمًا يجئ به من الحل‏.‏

واختلفوا فيمن رمى من الليل أو من الغد، فقال مالك‏:‏ عليه دم‏.‏

وهو قول عطاء والثورى وإسحاق، وقال مالك فى الموطأ‏:‏ من نسى جمرة من الجمار أيام منى حتى يمسى، يرميها أى ساعة ذكرها من ليل أو نهار ما دام بمنى، كما يصلى الصلاة أى ساعة ذكرها من ليل أو نهار‏.‏

ولم يذكر دمًا، ومرة لا يرى عليه ذلك، وقال أبو حنيفة‏:‏ إن رماها من الليل فلا شىء عليه، وإن أخرها إلى الغد فعليه دم‏.‏

وقال أبو يوسف ومحمد والشافعى‏:‏ لا شىء عليه وإن أخرها إلى الغد‏.‏

واحتجوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا حرج‏)‏ للذى قال له‏:‏ رميت بَعْد ما أمسيت‏.‏

وأيضًا فإن النبى عليه السلام أرخص لرعاء الإبل فى مثل ذلك، يرعون بالنهار ويرمون بالليل، وما كان ليرخص لهم فيما لا يجوز، وحجة مالك أن النبى عليه السلام وقت لرمى جمرة العقبة وقتًا، وهو يوم النحر، فمن رمى بعد غروب الشمس فقد رمى بعد وقتها، ومن فعل فى الحج شيئًا بعد وقته فعليه دم، وقد تقدم اختلافهم فى رمى جمرة العقبة قبل طلوع الفجر، أو قبل طلوع الشمس من يوم النحر لأهل العذر وغيرهم فى باب ‏(‏من قدم ضعفة أهله بالليل‏)‏ فأغنى عن إعادته‏.‏

وأما قوله‏:‏ ناسيًا أو جاهلا، فإن العلماء لم يفرقوا بين الجاهل والعامد فى أمور الحج، وقد تقدم الاختلاف فيمن حلق قبل أن يذبح فى باب ‏(‏الذبح قبل الحلق‏)‏ فأغنى عن إعادته‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ ما معنى قول القائل للنبى عليه السلام‏:‏ ‏(‏رميت بعد ما أمسيت‏)‏ وهذا يوهم أنه كان السؤال له عليه السلام بعد انقضاء المساء، وهذا حديث عبد الله بن عمرو فى الباب بعد هذا أنه وقف النبى عليه السلام على ناقته يوم النحر للناس يسألونه، وذكر الحديث‏.‏

فالجواب‏:‏ أن العرب تسمى ما بعد الزوال‏:‏ مساءً وعشاءً ورواحًا، وهو مشهور فى لغتهم، روى مالك عن ربيعة، عن القاسم بن محمد أنه قال‏:‏ ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشى‏.‏

وإنما يريد تأخيرها إلى ربع القامة، وتمكن الوقت فى شدة الحر، وهو وقت الإبراد الذى أمر به عليه السلام‏.‏

باب الْفُتْيَا عَلَى الدَّابَّةِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ

- فيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَفَ النَّبِىّ عليه السَّلام فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏اذْبَحْ وَلا حَرَجَ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، الحديث‏.‏

وقد تقدم هذا التبويب فى كتاب العلم، وأن معناه أنه يجوز أن تسأل العالم وإن كان مشتغلا بطاعة الله تعالى وقد أجاب السائل وقال له‏:‏ ‏(‏لا حرج‏)‏ وكل ذلك طاعة لله تعالى‏.‏

باب الْخُطْبَةِ أَيَّامَ مِنًى

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَىُّ يَوْمٍ هَذَا‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ يَوْمٌ حَرَامٌ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَأَىُّ بَلَدٍ هَذَا‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَأَىُّ شَهْرٍ هَذَا‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا‏)‏، فَأَعَادَهَا مِرَارًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ‏)‏ مرتين‏.‏

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ، ‏(‏فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ لا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ‏)‏‏.‏

وقال جَابِر بْنَ زَيْدٍ‏:‏ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ النَّبِىَّ عليه السَّلام يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو بَكْرَةَ، خَطَبَنَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ‏.‏‏.‏‏.‏

فذكر مثله سواء‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام بِمِنًى‏:‏ ‏(‏أَتَدْرُونَ أَىُّ يَوْمٍ هَذَا‏)‏‏؟‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْغَازِ‏:‏ أَخْبَرَنا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَقَفَ النَّبِىُّ عليه السَّلام يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِى الْحَجَّةِ الَّتِى حَجَّ، بِهَذَا، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأكْبَرِ‏)‏، فَطَفِقَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ اشْهَدْ‏)‏، فَوَدَّعَ النَّاسَ، فَقَالُوا‏:‏ هَذِهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ‏.‏

اختلف الناس فى خُطب الحج، فكان مالك يقول‏:‏ يخطب الإمام فى اليوم السابع قبل يوم التروية بيوم، ويخطب ثانى يوم النحر، وهو يوم القر، سمى بذلك؛ لأن الناس يستقرون فيه بمنى‏.‏

وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، ووافقهم الشافعى فى خطبة اليوم السابع يأمرهم بالغدو إلى منى، وخطبة يوم عرفة بعد الزوال، وخالفهم فقال‏:‏ يخطب يوم النحر بعد الظهر، يعلم الناس فيها النحر والرمى والتعجيل لمن أراد، وخطبة رابعة‏:‏ ثالث يوم النحر بعد الظهر، وهو يوم النفر الأول، يودع الناس ويعلمهم أن من أراد التعجيل فذلك له، ويأمرهم أن يختموا حجهم بتقوى الله وطاعته‏.‏

واحتج الشافعى بخطبة يوم النحر بحديث ابن عباس وابن عمر وأبى بكرة ‏(‏أن النبى عليه السلام خطب يوم النحر‏)‏ قال الشافعى‏:‏ وبالناس حاجة إلى هذه الخطبة ليعلمهم المناسك، وإن علمهم النحر والإفاضة إلى مكة للطواف والعود إلى منى للمبيت بها، فوجب أن يكون ذلك سُنة‏.‏

وقال ابن القصار‏:‏ أما خطبة يوم النحر فإنه عليه السلام إنما وقف للناس فقال‏:‏ أى يوم هذا‏؟‏ وأى شهر هذا‏؟‏ وأى بلد هذا‏؟‏ فعرفهم أن دماءهم وأموالهم وأعراضهم حرام، وأمرهم بتبليغ ذلك لكثرة اجتماعهم من أقاصى الأرض، فظن أنه خطب‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ لم تكن هذه الخطبة من أسباب الحج؛ لأنه عليه السلام ذكر فيها أمورًا لا يصلح لأحد بعده ذكرها، والخطبة إنما هى لتعليم الحج، ولم ينقل أحد عنهم أنه علمهم يوم النحر شيئًا من سنن الحج، فعلمنا أن خطبة يوم النحر لم تكن للحج، وإنما كانت لما سواه‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وقوله‏:‏ يحتاج أن يعلمهم النحر، فقد تقدم تعليمهم فى خطبته يوم عرفة، وأعلمهم ما عليهم فيه وبعده، وخطب ثانى النحر فأعلمهم ما بقى عليهم فى يومه وغده، وأن التعجيل يجوز فيه، وكذلك خطب قبل يوم التروية بيوم وهو بمكة، فكانت خطبه ثلاثًا، كل خطبة ليومين، وأما قول الشافعى أنه يخطب ثالث يوم النحر، مع اجتماعهم بأنها خطبة يأمر الإمام الناس فيها بالتعجيل إن شاءوا، ولما كان لم يختلفوا فيه أن الخطبة التى يأمر الإمام الناس فيها بالخروج إلى منى قبل الخروج إليها، كان كذلك الخطبة التى يأمرهم فيها بالتعجيل فى يومين قبل ذلك أيضًا‏.‏

قال ابن الموّاز‏:‏ الخطبة الأولى قبل التروية بيوم فى المسجد الحرام بعد الظهر لا يجلس فيها، والثانية بعرفة يجلس فى وسطها، والثالثة بمنى أول يومٍ من أيام التشريق، وهى بعد الظهر لا يجلس فيها، وهى كلها تعليم المناسك، ولا يجهر بالقراءة فى شىء من صلاتها‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام‏)‏ يريد أن دماء بعضكم وأمواله وأعراضه حرام على البعض الآخر، فأخرج الخبر عن تحريم ذلك على وجه الخطاب لهم؛ إذ كانوا أهل ملة واحدة، وكان جميعهم فيما لبعضهم على بعض من الحق فى معنى الواحد فيما لنفسه وعليه، وذلك نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏ والمعنى‏:‏ لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، ولا يقتل بعضكم بعضًا، وذلك أن المؤمنين بعضهم إخوة بعض، فما أصاب أخاه من مكروه فكأنه المصاب به، ومثله قوله تعالى موبخًا لبنى إسرائيل الذين كانوا بين ظهرانى المسلمين فى قتل بعضهم بعضًا من ديارهم‏:‏ ‏(‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 84‏]‏ فأخرج الخبر عن قتل بعضهم لبعض على وجه الخبر عن أنفسهم، وفيه البيان عن أن الله حرم من مال المسلم وعرضه نظير الذى حرم من دمه، وسوَّى بين جميعه فلا يستحل ماله، وكذلك قال ابن مسعود فى خطبته‏:‏ حُرمة مال المسلم كحرمة دمه‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فإنك تستحل سفك دماء أقوام من المسلمين وأنت لأموالهم محرم، وذلك كقطاع الطريق والخوارج ومن يجب قتله بحدٍّ لزمه‏.‏

قيل‏:‏ أما هؤلاء فإنما لزم الإمام سفك دمائهم إقامة لِحدِّ الله الذى وجب عليهم، وليس ذلك استحلالا لزمه من الوجه الذى سوَّى الله بينه وبين ماله وعرضِه فى الحرمة، وإنما ذلك عقوبة لجرمه دون ماله، كما أمر بعقوبة آخر فى ماله دون بدنه، وليس إلزامه الدية استحلالا لماله من الوجه الذى سوَّى بينه وبين دمه وماله، وإنما الوجه الذى سَوّى بين حُرمة جميع ذلك فى ألا يتناول شيئًا منه بغير حق، فحرام أن يُغتابَ أحدٌ بسوءٍ بغير حق، وكذلك مَالُهُ؛ أخذُ شىء منه حرام بغير حق كتحريم دمه‏.‏

وأما قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا ترجعوا بعدى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض‏)‏ فإنه قد تقدم منه عليه السلام إلى أمته بالثبوت على الإسلام، وتحريم بعضهم من بعض على نفسه سفك دمه، ما أقاموا على الإسلام، فإن ظن ظان أن ذلك حكم من النبى صلى الله عليه وسلم لضارب رقبة أخيه المسلم بالكفر، فقد أعظم الغفلة وأفحش الخطأ، وذلك أنه لا ذنب يوجب لصاحبه الكفر مع الإقرار بالتوحيد والنبوة إلا بذنب يركبه صاحبه على وجه الاستحلال مع العلم بتحريمه، فأما إذا ركبه معتقدًا تحريمه، فإن ذلك معصية لله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فهو بذلك الذنب آثم، ومن ملة المسلمين غير خارج؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏ فإن قال قائل‏:‏ فما معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا ترجعوا بعدى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض‏)‏ إذ كان لهم الرجوع وهو حى بينهم كفارًا، فيشترط فى نهيه النهى عن ذلك بعده‏؟‏ قيل‏:‏ لذلك وجوه مفهومة‏:‏ أحدها‏:‏ أن يكون قال لهم‏:‏ ‏(‏لا ترجعوا بعدى كفارًا‏)‏ لأنه قد علم أنهم لا يفعلون ذلك وهو فيهم حى، فقال لهم‏:‏ لا تفعلوه بعد وفاتى، فأما قبل وفاتى فقد علمت أنكم لا تفعلونه بإعلام الله ذلك‏.‏

والثانى‏:‏ أن يكون عنى بقوله‏:‏ ‏(‏بعدى‏)‏ بعد فراقى من موقفى هذا‏.‏

والثالث‏:‏ أن يكون عنى بقوله‏:‏ ‏(‏بعدى‏)‏ خلافى، فيكون معنى الكلام‏:‏ لا ترجعوا خلافى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، فتخلفونى فى أنفسكم بغير الذى أمرتكم به‏.‏

باب هَلْ يَبِيتُ أَصْحَابُ السِّقَايَةِ وَغَيْرُهُمْ بِمَكَّةَ لَيَالِىَ مِنًى

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، رخص النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم للعباس لِيَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِىَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ السنة أن يبيت الناس بمنى ليالى أيام التشريق إلا من أرخص له رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك؛ فإنه أرخص للعباس أن يبيت بمكة من أجل سقايته، وأرخص لرعاء الإبل، وأرخص لمن أراد التعجيل أن ينفر فى النفر الأول‏.‏

واختلف الفقهاء فيمن بات ليلةً بمكة من غير من رُخِّصَ له، فقال مالك‏:‏ عليه دم‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ إن بات ليلة أطعم عنها مسكينًا، وإن بات ليالى منى كلها أحببتُ له أن يُهريق دمًا‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ لا شىء عليه إن كان يأتى منى ويرمى الجمار‏.‏

وهو قول الحسن البصرى، قالوا‏:‏ ولو كانت سُنَّة ما سقطت عن العباس وآله، وإنما هو استحباب، وحسبه إذا رمى الجمار فى وقتها، وقد روى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ لا بأس أن يبيت الرجل بمكة ليالى منى، ويظل إذا رمى الجمار‏.‏

وحجة من أوجب الدم أن الرخصة فى ذلك إنما هى تخصيص من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل السقاية، ولمن أذن له دون غيرهم‏.‏

باب رَمْىِ الْجِمَارِ

وَقَالَ جَابِرٌ‏:‏ رَمَى النَّبِىُّ عليه السَّلام يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَرَمَى بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ‏.‏

- فيه‏:‏ وَبَرَةَ، سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ مَتَى أَرْمِى الْجِمَارَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِذَا رَمَى إِمَامُكَ فَارْمِهْ، فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ، قَالَ‏:‏ كُنَّا نَتَحَيَّنُ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا‏.‏

قول جابر‏:‏ ‏(‏رمى النبى يوم النحر ضُحى‏)‏ فإنما يريد جمرة العقبة، لا يرمى يوم النحر غيرها، وقوله‏:‏ ‏(‏ثم رمى بعد ذلك بعد الزوال‏)‏ فإنه يعنى رمى الجمار أيام التشريق، وممن رماها بعد الزوال‏:‏ عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن الزبير، ولذلك قال ابن عمر‏:‏ كنا نتحين؛ فإذا زالت الشمس رمينا‏.‏

وهذه سنة الرمى أيام التشريق الثلاثة، لا تجوز إلا بعد الزوال عند الجمهور، منهم‏:‏ مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى، ولكنا استحسنا أن يكون فى اليوم الثالث قبل الزوال‏.‏

وقال إسحاق‏:‏ إن رمى فى اليوم الأول والثانى قبل الزوال أعاد، وفى اليوم الثالث يجزئه‏.‏

وقال عطاء وطاوس‏:‏ يجوز فى الأيام الثلاثة قبل الزوال‏.‏

وحديث جابر وابن عمر يرد هذا القول، والحجة فى السنة، فلا معنى لقول من خالفها، ولا لمن استحب غيرها، واتفق مالك وأبو حنيفة والثورى والشافعى وأبو ثور إذا مضت أيام التشريق وغابت الشمس من آخرها، فقد فات الرمى، ويجبر ذلك بالدم‏.‏

باب رَمْىِ الْجِمَارِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِى

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِى، فَقُلْتُ‏:‏ يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، إِنَّ نَاسًا يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا، فَقَالَ‏:‏ وَالَّذِى لا إِلَهَ غَيْرُهُ، هَذَا مَقَامُ الَّذِى أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏.‏

رمى الجمرة من حيث تيسر من العقبة، من أسفلها أو أعلاها أو أوسطها، كل ذلك واسع، والموضع الذى يختار منها بطن الوادى؛ من أجل حديث ابن مسعود، وكان جابر بن عبد الله يرميها من بطن الوادى، وبه قال عطاء وسالم، وهو قول الثورى والشافعى وأحمد وإسحاق، وقال مالك‏:‏ يرميها من أسفلها أحب إلى‏.‏

وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه خاف الزحام عند الجمرة، فصعد فرماها من فوقها‏.‏

باب رَمْىِ الْجِمَارِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ

- فيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ، أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى جَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَرَمَى بِسَبْعٍ، وَقَالَ‏:‏ هَكَذَا رَمَى الَّذِى أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏.‏

وترجم له باب‏:‏ ‏(‏من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره‏)‏‏.‏

اتفقت الأمة على أن رمى كل جمرة بسبع حصيات فقد أحسن، واختلفوا إذا رماها بأقل من سبع، فذكر الطبرى عن عطاء أنه إن رمى بخمس أجزأه، وعن مجاهد‏:‏ إن رمى بست فلا شىء عليه، وذكر ابن المنذر أن مجاهدًا احتج بحديث سعد بن أبى وقاص قال‏:‏ ‏(‏رجعنا مع النبى عليه السلام وبعضنا يقول‏:‏ رميت بست، وبعضنا يقول‏:‏ رميت بسبع، فلم يَعِبْ بعضهم على بعض‏)‏ وبه قال أحمد وإسحاق، وعن طاوس إن رمى ستًا يطعم تمرة أو لقمة‏.‏

وذكر الطبرى قال‏:‏ قال بعضهم‏:‏ لو ترك رمى جميعهن بعد أن يكبر عند كل جمرة بسبع تكبيرات أجزأه ذلك‏.‏

وقال‏:‏ إنما جعل الرمى فى ذلك بالحصى سببًا لحفظ التكبيرات السبع، كما جعل عقد الأصابع بالتسبيح سبًا لحفظ العدد‏.‏

وذكر عن يحيى بن سعيد أنه سئل عن الخرز والنوى يسبح به، فقال‏:‏ حسن، قد كانت عائشة زوج النبى عليه السلام تقول‏:‏ إنما الحصى للجمار ليحفظ به التكبير‏.‏

وقال الشافعى وأبو ثور‏:‏ إن بقيت عليه حصاة فعليه مُد من طعام، وفى حصاتين مُدَّان، وإن بقيت ثلاث فأكثر فعليه دم‏.‏

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد‏:‏ إن ترك أقل من نصف جميع الجمرات الثلاث، فعليه فى كل حصاة نصف صاع من طعام إلا أن يبلغ ذلك دمًا، فيطعم ما شاء ويجزئه، وإن كان ترك أكثر من نصف جميع الجمرات الثلاث فعليه دم، وعلتهم إجماع الجميع أنَّ على كل تارك رمى الجمرات الثلاث فى أيام الرمى حتى تنقضى‏:‏ دمًا، فلما كان ذلك إجماعًا، كان الواجب أن يكون لترك رمى ما دون جميع الجمرات الثلاث من الدم بقسطه، وأن يكون ذلك مردودًا إلى القيمة؛ إذ كان غير ممكن نسك بعض الدم، فجعلوا ذلك طعامًا، وجعلوا ما يعطى كل مسكين من ذلك قوت يومه، وجعلوا تارك ما زاد على نصف جميع الجمرات الثلاث بمنزلة تارك الجمرات كلها؛ إذ كان الحُكم عندهم للغلب، مع أن ذلك إجماع من الجميع‏.‏

وقال الحكم وحماد‏:‏ من نسى جمرة أو جمرتين أو حصاة أو حصاتين يهريق دمًا‏.‏

وقال عطاء‏:‏ من نسى شيئًا من رمى الجمار فذكر ليلا أو نهارًا فليرمى ما نسى، ولا شىء عليه، وإن مضت أيام التشريق فعليه دم‏.‏

وهو قول الأوزاعى، وقال مالك‏:‏ إن نسى حصاة من الجمرة حتى ذهبت أيام الرمى ذبح شاة، وإن نسى جمرة تامة ذبح بقرة‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والصواب عندنا أن رمى جمرة العقبة يوم النحر بسبع حصيات، ورمى الجمرات الثلاث أيام التشريق الثلاثة كل جمرة منها بسبع حصيات من مناسك الحج التى لا يجوز تضييعها؛ لنقل الأمة جميعًا وراثة عن النبى عليه السلام أن رميهن كذلك مما عَلَّمَ أمته، وقد جعل الله بيان مناسكه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم بذلك أنه من الفروض التى لا يجوز تضييعها، وعُلم أن من ترك شيئًا مما علمهم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى فات وقته فعليه الكفارة؛ إذ كان قد نص فى محكم كتابه على وجوب ذلك فى تضييع بعض المناسك، فكان فى حكمه حكم ما لم ينص الحكم فيه، فمما نص الحكم فيه فى كتابه ‏(‏الشعر‏)‏ الذى تَقَدَّم إلى عباده فى ترك حلقه أيام إحرامهم بقوله‏:‏ ‏(‏وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ثم جعل فى حلقه قبل وقته المباح لمرض أو أذى فديةً من طعام أو صدقة أو نسك، وكذلك أوجب فى قاتل الصيد فى الإحرام الكفارة، فمثل ذلك حكم كل مضيع شيئًا من مناسك الحج عليه الكفارة والبدل، وإن اختلفت الكفارات فى ذلك إلا أن ينص الله على وضع شىء من ذلك عن فاعله، ولما ثبت أن كل جمرة منها فرض، بينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان منقولا عنه وِرَاثة أن من ضيع رميهن حتى تنقضى أيام التشريق الثلاثة عليه فدية شاة يذبحها ويتصدق بها، كان على تارك بعضها ما على تارك جميعها، كما حكم تارك شوط واحد من السبعة الأشواط فى طواف الإفاضة يوم النحر حكم تارك الأشواط السبعة فيما يلزمه‏.‏

واختلفوا فيمن رمى سبع حصيات فى مرة واحدة، فقال مالك والشافعى‏:‏ لا يجزئه إلا عن حصاةٍ واحدة، ويرمى بعدها سِتا‏.‏

وقال عطاء‏:‏ يجزئه عن السبع رميات‏.‏

وهو قول أبى حنيفة؛ لأنه لو وجب عليه الحد فلا فرق أن يقام عليه الحد سوطًا أو سياطًا مجموعة فإنه يسقط عنه الفرض إذا علم وصول الكل إلى بدنه، كذلك الرمى‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والحجة لمالك أن النبى صلى الله عليه وسلم رمى بحصاةٍ بعد حصاة وقال‏:‏ ‏(‏خذوا عنى مناسككم‏)‏ فوجب امتثال فعله، ونحن لا نجيز ضربه إلا بسوط بعد سوط؛ لأنه لا يكون ألم الكل فى ضربةٍ كألمه سوطًا بعد سوط، فالعدد فى الحد معتبر، وفى الرمى معتبر‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ إذا جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، فهو مستقبل للجمرة بوجهه وهى السنة، ولذلك ترجم باب ‏(‏من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره‏)‏‏.‏

باب يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ

قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام‏.‏

- فيه‏:‏ الأعْمَشُ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ‏:‏ السُّورَةُ الَّتِى يُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ، وَالسُّورَةُ الَّتِى يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ، وَالسُّورَةُ الَّتِى يُذْكَرُ فِيهَا النِّسَاءُ، قَالَ‏:‏ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لإبْرَاهِيمَ، فَقَالَ‏:‏ حَدَّثَنِى عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ حِينَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَاسْتَبْطَنَ الْوَادِيَ، حَتَّى إِذَا حَاذَى بِالشَّجَرَةِ اعْتَرَضَهَا، فَرَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ مِنْ هَاهُنَا وَالَّذِى لا إِلَهَ غَيْرُهُ، قَامَ الَّذِى أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏.‏

والسنة أن يكبر مع كل حصاة كما فعل عليه السلام، وعمل بذلك الأئمة بعده، وروى ذلك عن ابن مسعود وابن عمر، وهو قول مالك والشافعى، وكان على يقول كلما رمى حصاة‏:‏ اللهم اهدنى بالهدى، وقنى بالتقوى، واجعل الآخرة خيرًا لى من الأولى‏.‏

وكان ابن عمر وابن مسعود يقولان عند ذلك‏:‏ اللهم اجعله حجًا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكورًا‏.‏

وأجمعوا أنه إن لم يكبر فلا شىء عليه، وفى هذا الحديث رد على من يقول‏:‏ إنه لا يجوز أن يقال‏:‏ سورة البقرة، ولا سورة آل عمران كما قال الحجاج، وقد سبقه إلى ذلك من السلف وقالوا‏:‏ إذ قال‏:‏ سورة البقرة، وسورة آل عمران، فقد أضاف السورة إلى البقرة، والبقرة لا سورة لها، وإنما الصواب أن يقال‏:‏ السورة التى يذكر فيها البقرة، واحتج النخعى عن الأعمش بقول ابن مسعود، عن النبى عليه السلام‏:‏ ‏(‏الذى أنزلت عليه سورة البقرة‏)‏ وقال أهل العلم بكتاب الله‏:‏ ليست هذه إضافة ملك، ولا إضافة نوع إلى جنسه، وإنما هى إضافة لفظ بمنزلة قولك‏:‏ باب الدار، وسرج الدابة، ومثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 19‏]‏ فأضاف القول إلى جبريل الذى نزل به من عند الله تعالى وهذا من اتساع لغة العرب تضيف الشىء إلى من له فيه أقل سبب، وقد ترجم البخارى لهذا المعنى فى كتاب فضائل القرآن فقال‏:‏ باب من لم ير بأسًا أن يقول‏:‏ سورة البقرة، وسورة كذا، خلافًا للحجاج ولمن أنكر ذلك قبله‏.‏

باب مَنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَلَمْ يَقِفْ

قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَرْمِى الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ الْوُسْطَى، ثُمَّ يَرْمِى جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِى، وَلا يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُولُ‏:‏ هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ عليه السَّلام يَفْعَلُهُ‏.‏

جمرة العقبة فى هذا الحديث هى الجمرة الثالثة من الجمار التى تُرمى كل يوم من أيام التشريق، تُرمى فى المكان الذى رميت فيه جمرة العقبة يوم النحر، ولا يقف عند هذه الجمرة الثالثة إذا رماها كما يقف عند الأولى والثانية، وكذلك وردت السنة، وروى عن عمر ابن الخطاب أنه كان يفعله، وذكر البخارى عن ابن عمر أنه كان يفعله‏.‏

باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الدُّنْيَا وَالْوُسْطَى

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أنَّهُ كَانَ يَرْمِى الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيُسْهِلُ، فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قِيَامًا طَوِيلا، فَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِى الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى كَذَلِكَ، فَيَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيُسْهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قِيَامًا طَوِيلا، فَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِى الْجَمْرَةَ ذَاتَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِى، وَلا يَقِفُ عِنْدَهَا، وَيَقُولُ‏:‏ هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ‏.‏

وترجم له باب‏:‏ ‏(‏الدعاء عند الجمرتين‏)‏‏.‏

الجمرة الدنيا‏:‏ هر الجمرة الأولى من أول أيام التشريق، وهن ثلاث جمرات فى كل يوم من الثلاثة الأيام جمرة، فالجمرة الأولى مسجد منى، والوسطى عند العقبة الأولى بقرب مسجد منى أيضًا، يرميها ويقف طويلا ويدعو، ويرمى الثالثة عند العقبة حيث رمى يوم النحر، يرميها ولا يقف على ما ثبت فى الحديث، وروى الثورى، عن عاصم الأحول، عن أبى مجلز قال‏:‏ كان ابن عمر يشبر ظله ثلاثة أشبار، ثم يرمى، وقام عند الجمرتين قدر سورة يوسف‏.‏

وقال عطاء‏:‏ كان ابن عمر يقف عندها بمقدار ما يقرأ سورة البقرة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ولعله قد وقف مرتين كما قال أبو مجلز، وكما قال عطاء، ولا يكون اختلافًا وكان ابن عباس يقف بقدر قراءة سورة من المائتين، ولا توقيف فى ذلك عند العلماء، وإنما هو ذكر ودعاء، فإن لم يقف ولم يدع فلا حرج عليه عند أكثر العلماء إلا الثورى؛ فإنه استحب أن يطعم شيئًا أو يهريق دمًا، والسنة أن يرفع يديه فى الدعاء عند الجمرتين، قال ابن المنذر‏:‏ ولا أعلم أحدًا أنكر غير مالك؛ فإن ابن القاسم حكى عنه أنه لم يكن يعرف رفع اليدين هنالك، قال ابن المنذر‏:‏ واتباع السنة أفضل‏.‏

باب الطِّيبِ بَعْدَ رَمْىِ الْجِمَارِ وَالْحَلْقِ قَبْلَ الإفَاضَةِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَىَّ هَاتَيْنِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ، وَبَسَطَتْ يَدَيْهَا‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ واختلف العلماء فيما أبيح للحاج بعد رمى جمرة العقبة قبل الطواف بالبيت، فروى عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة أنه يحل له كل شىء إلا النساء، وهو قول سالم وطاوس والنخعى، وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، واحتجوا بحديث عائشة فى إباحة الطيب لمن رمى جمرة العقبة قبل طواف الإفاضة، وقالوا‏:‏ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة على من خالفها‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ قولها‏:‏ ‏(‏ولحلِّه‏)‏ يدل أنه حلال من كل شىء إلا النساء، الذى دل على المنع منه الخبر والإجماع، وروى عن عمر بن الخطاب وابنه أنه يحل له كل شىء إلا النساء والطيب‏.‏

قال مالك‏:‏ يحل له كل شىء إلا النساء والصيد‏.‏

ذكره ابن المواز، وقال فى المدونة‏:‏ أكره لمن رمى جمرة العقبة أن يتطيب حتى يفيض؛ فإن فعل فلا شىء عليه لما جاء فيه‏.‏

فعلى هذا القول الصحيح من مذهب مالك أنه يحل له كل شىء إلا النساء والصيد‏.‏

واحتج ابن القصار لمالك فى تحريم الصيد على من لم يفض بقوله‏:‏ ‏(‏لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ وليس إذا أحل له الحلق يخرج عن كونه محرمًا؛ لأن الحلق والطيب واللباس قد أبيح على وجه، ولم يخرج بذلك عن كونه محرمًا، فلذلك يحل له بعد الرمى أشياء، ويبقى عليه تحريم أشياء وهو محرم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏ فاقتضى الإحلال التمام، وألا يبقى شىء من الإحرام بعد افحلال المطلق، ومن بقيت عليه الإفاضة فلم يحلل الإحلال التام، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏ فلو وضعت واحدًا وبقى فى بطنها آخر لم تكن قد وضعت الوضع التام؛ لأن الرجعة قبل وضعها الثانى تصح‏.‏

واحتج الطحاوى لأصحابه بما رواه عن على بن معبد، حدثنا يزيد ابن هارون، حدثنا الحجاج بن أرطاة، عن أبى بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شىء إلا النساء‏)‏ وبما روى سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العُرَنى، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شىء إلا النساء، فقال له رجل‏:‏ والطيب‏؟‏ فقال‏:‏ أما أنا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ رأسه بالمسك، أفطيب هو‏؟‏‏)‏‏.‏

وروى أفلح بن حميد، عن أبى بكر بن حزم قال‏:‏ دعانا سليمان بن عبد الملك يوم النحر، أرسل إلى عمر بن عبد العزيز والقاسم وسالم وخارجة بن زيد وعبد الله بن عبد الله ابن عمر وابن شهاب فسألهم عن الطيب فى هذا اليوم قبل الإفاضة، فقالوا‏:‏ تطيب يا أمير المؤمنين‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ واختلفوا فيمن جامع بعد رمى الجمرة يوم النحر قبل الإفاضة، فروى عن ابن عمر أن عليه حجة قابل، وعن الحسن والنخعى والزهرى مثله‏.‏

وقال النخعى والزهرى‏:‏ وعليه الهدى مع حج قابل‏.‏

وقال ربيعة ومالك‏:‏ يعتمر من التنعيم ويهدى‏.‏

وقال أحمد وإسحاق‏:‏ يعتمر من التنعيم‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ عليه بدنة، وحَجُّهُ تام‏.‏

وعن عطاء والشعبى مثله، وهو قول الكوفيين والشافعى وأبى ثور‏.‏

باب طَوَافِ الْوَدَاعِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ‏:‏ أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إِلا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ، فَطَافَ بِهِ‏.‏

طواف الوداع لكل حاج ومعتمر، لا يكون مكيًا، من سنن الحج وشعائره، قال مالك‏:‏ وإنما أمر الناس أن يكون آخر نسكهم الطواف بالبيت؛ لقول الله‏:‏ ‏(‏وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 32‏]‏ وقال‏:‏ ‏(‏ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 33‏]‏‏.‏

قال مالك‏:‏ ومن أخر طواف الإفاضة إلى أيام منى فإن له سعة أن يصدر إلى بلده وإن لم يطف بالبيت إذا أفاض‏.‏

واختلفوا فيمن خرج ولم يطف للوداع، فقال مالك‏:‏ إن كان قريبًا رجع فطاف، وإن لم يرجع فلا شىء عليه‏.‏

وقال عطاء والثورى وأبو حنيفة والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور‏:‏ إن كان قريبًا رجع فطاف، وإن تباعد مضى وأهراق دمًا‏.‏

وحجتهم فى إيجاب الدم قول ابن عباس‏:‏ من نسى من نسكه شيئًا فليهريق دمًا‏.‏

والطواف نسك، وحجة مالك أنه طواف أسقط عن المكى والحائض، فليس من السنن اللازمة، والذمة بريئة إلا بيقين، وسيأتى شىء من هذا المعنى فى هذا الباب الذى بعد هذا إن شاء الله‏.‏

واختلفوا فى حد القُرْب، فروى أن ابن عمر رَدَّ رجلا من مَرّ الظهران لم يكن ودع، وبين مَرّ الظهران ومكة ثمانية عشر ميلا، وهذا بعيد عند مالك، ولا يُرد أحد من مثل هذا الموضع، وعند أبى حنيفة‏:‏ يرجع ما لم يبلغ المواقيت، عند الشافعى‏:‏ يرجع من مسافة لا تقصر فيها الصلاة، وعند الثورى‏:‏ يرجع ما لم يخرج من الحرم‏.‏

واختلفوا فيمن وَدَّع ثم بدا له فى شراء حوائجه، فقال عطاء‏:‏ يعيد حتى يكون آخر عمله الطواف بالبيت‏.‏

وبنحوه قال الثورى والشافعى وأحمد وأبو ثور‏.‏

قال مالك‏:‏ لا بأس أن يشترى بعض حوائجه وطعامه فى السوق، ولا شىء عليه، وإن أقام يومًا أو بعضه أعاد‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لو ودع وأقام شهرًا أو أكثر أجزأه، ولم يكن عليه إعادة‏.‏

وهذا خلاف حديث ابن عباس‏:‏ ‏(‏أمر الناس أن يكون آخر عهدهم الطواف بالبيت‏)‏‏.‏

باب إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا أَفَاضَتْ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ صَفِيَّةَ حَاضَتْ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَحَابِسَتُنَا هِىَ‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَلا إِذًا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنَ عَبَّاسٍ رُخِّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ إِذَا أَفَاضَتْ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ الرسول عليه السَّلام وَلا نَرَى إِلا الْحَجَّ‏.‏‏.‏‏.‏

فذكر الحديث فَحَاضَتْ هِىَ، فَنَسَكْنَا مَنَاسِكَنَا، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ لَيْلَةُ النَّفْرِ، قَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّ أَصْحَابِكَ يَرْجِعُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ غَيْرِى‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏مَا كُنْتِ تَطُوفِينَ بِالْبَيْتِ لَيَالِىَ قَدِمْنَا‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ بلى، وَقَالَ مُسَدَّدٌ‏:‏ لا‏.‏

وَتَابَعَهُ جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ فِى قَوْلِهِ‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَاخْرُجِى مَعَ أَخِيكِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهِلِّى بِعُمْرَةٍ‏)‏، وَحَاضَتْ صَفِيَّةُ، فَقَالَ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏عَقْرَى حَلْقَى، أَمَا كُنْتِ طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ‏)‏‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ بَلَى، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَلا بَأْسَ انْفِرِى‏)‏‏.‏

معنى هذا الباب أن طواف الوداع ساقط عن الحائض؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أُخبر عن صفية أنها حاضت، قال‏:‏ ‏(‏أحابستنا هى‏؟‏‏)‏ فلما أُخبر أنها قد أفاضت قبل أن تحيض، قال‏:‏ ‏(‏فلا إذًا‏)‏ وهو قول عوام أهل العلم، وخالف ذلك طائفة فقالوا‏:‏ لا يحل لأحد أن ينفر حتى يطوف طواف الوداع، ولم يعذروا فى ذلك حائضًا بحيضها‏.‏

ذكره الطحاوى‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ روى ذلك عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وابن عمر، فقد روينا عنهم الرجوع، وقول عمر بن الخطاب يَرُدُّه الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر الحائض أن تنفر بعد الإفاضة، ومن هذا الحديث‏.‏

قال مالك‏:‏ لا شىء على من ترك طواف الوداع حتى يرجع إلى بلاده لسقوطه عن الحائض‏.‏

وفيه رد لقول عطاء والكوفيين والشافعى ومن وافقهم، أن من لم يودع البيت فعليه دم، وقولهم خلاف حديث صفية، وفى قوله‏:‏ ‏(‏أحابستنا هى‏؟‏‏)‏ دليل أن طواف الإفاضة يحبس الحائض بمكة، لا تبرح حتى تطوف للإفاضة؛ لأنه الطواف المفترض على كل من حج، وعلى هذا أئمة أهل العلم‏.‏

قال مالك‏:‏ إذا حاضت المرأة بمنى قبل أن تفيض حُبس عليها كَرِيُّهَا أكثر ما يحبس النساء الدم‏.‏

قال ابن عبد الحكم‏:‏ ويحبس على النساء أكثر ما يحبس النساء الدم فى النفاس، ولا حجة للكَرِىِّ أن يقول لم أعلم أنها حامل‏.‏

قال مالك‏:‏ وليس عليها أن تعينه فى العلف‏.‏

وقال ابن المواز‏:‏ لست أعرف حبس الكَرِىِّ، كيف يحبس وحده يعرض لقطع الطريق‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ ليس على جَمَّالها أن يحبس عليها، ويقال لها‏:‏ احملى مكانك مثلك‏.‏

قال المؤلف‏:‏ والصواب فى حديث عائشة رواية مسدد وجرير عن منصور فى قولها‏:‏ ‏(‏لا‏)‏ وقد بان ذلك فى حديث أبى معاوية أنها قالت‏:‏ ‏(‏فحضت قبل أن أدخل مكة‏)‏ وقال فليح‏:‏ ‏(‏فما كنا بسرف حضت، فقال عليه السلام‏:‏ افعلى كما يفعل الحاج غير ألا تطوفى بالبيت حتى تطهرى‏.‏

قالت‏:‏ فقدمت مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فلما قدمنا طهرتُ، فخرجت من منى فأفضت بالبيت‏)‏‏.‏

فدل هذا الحديث أن عائشة لم تكن متمتعة؛ لأنها لم تطف بالبيت حين قدمت مكة، كما طاف من فسخ حجه فى عمرة من أجل حيضتها، ولذلك قالت‏:‏ ‏(‏كل أصحابك يرجع بحجة وعمرة غيرى‏؟‏‏)‏ فأمر أخاها أن يخرجها إلى التنعيم فتهل منه بعمرة لترجع بحجة وعمرة كما أرادت، ودل هذا أيضًا أنها لم تكن قارنة، ولو كانت قارنة لم تأسف على فوات العمرة، ولا قالت‏:‏ ‏(‏كل أصحابك يرجع بحجة وعمرة غيرى‏)‏ فثبت أنها كانت مفردة بالحج‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏عَقْرَى حَلْقى‏)‏ فيه‏:‏ جواز توبيخ الرجل أهله على ما يدخل على الناس بسببها، كما وبخ أبو بكر أيضًا عائشة فى قصة العِقْد‏.‏

باب مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ بِالأبْطَحِ

- فيه‏:‏ أَنَس، صَلَّى النَّبِىّ عليه السَّلام الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمِنًى، قُلْتُ‏:‏ وَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بِالأبْطَحِ‏.‏

افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ‏.‏

- قَالَ أَنَسًا أيضًا‏:‏ صَلَّى النَّبِىّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَرَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ‏.‏

قال ابن القاسم فى المدونة‏:‏ إذا رمى آخر أيام منى فليخرج إلى مكة ولا يصلى الظهر بمنى، واستحب النزول بأبطح مكة وهو حيث المقبرة يصلى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم يدخل مكة أول الليل، كذلك فعل النبى عليه السلام وأُحب أن يفعل ذلك الأئمة ومن يُقتدى به‏.‏

وربما قال مالك‏:‏ ذلك واسع لغيرهم‏.‏

وكان أبو بكر وعمر وعثمان ينزلون بالأبطح، وهو مستحب عند العلماء، إلا أنه عند الحجازيين أوكد منه عند الكوفيين، وكلهم مجمعون أنه ليس من مناسك الحج، وهذه البطحاء هى المعرس، والأبطح والبطحاء‏:‏ ما انبطح واتسع من بطن الوادى‏.‏

باب الْمُحَصَّبِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ إِنَّمَا كَانَ مَنْزِلٌ يَنْزِلُهُ النَّبِىُّ عليه السَّلام لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ‏.‏

يَعْنِى بِالأبْطَحِ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ‏:‏ لَيْسَ التَّحْصِيبُ بِشَىْءٍ، إِنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏.‏

المُحَصَّب‏:‏ هو الأبطح، وهو المعرس، وهو خيف منى المذكور فى حديث أبى هريرة ‏(‏أن النبى عليه السلام قال حين أراد أن ينفر من منى‏:‏ نحن نازلون غدًا إن شاء الله بخيف بنى كنانة‏)‏ يعنى‏:‏ المحصب‏.‏

وقد ذكرنا فى الباب قبل هذا عن أبى بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا ينزلون به، وقال عمر بن الخطاب‏:‏ حصبوا، يعنى‏:‏ انزلوا بالمحصب، وكان ابن عمر ينزل به، وعن النخعى وطاوس مثله، واستحب النخعى وطاوس أن ينام فيه نومة، وقول عائشة وابن عباس‏:‏ ‏(‏إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ يدل أنه ليس من مناسك الحج، وأنه لا شىء على من تركه، وهذا معنى قوله‏:‏ ليس التحصيب بشىء‏.‏

أى‏:‏ ليس من المناسك التى تلزم الناس، وكانت عائشة لا تحصب ولا أسماء، وهو مذهب عروة‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ لم يكن نزوله عليه السلام بالمحصب لأنه سنة، وقد اختلف فى معناه، فقالت عائشة‏:‏ ليكون أسمح لخروجه‏.‏

قال المؤلف‏:‏ يريد للمدينة ليستوى فى ذلك البطئ والمعتدل ويكون مبيتهم وقيامهم فى السحر، ورحيلهم بأجمعهم إلى المدينة‏.‏

وروى عن أبى رافع أنه قال‏:‏ ‏(‏أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب له الخيمة، ولم يأمرنى بمكان بعينه، فضربتها بالمحصب‏)‏ رواه سفيان، عن صالح ابن كيسان، عن سليمان بن يسار، عن أبى رافع‏.‏

وروى ابن أبى ذئب عن شعبة، أن ابن عباس قال‏:‏ إنما كانت الحصبة؛ لأن العرب كانت يخاف بعضها بعضًا، فيرتادون فيخرجون جميعًا، فجرى الناس عليها‏.‏

باب النُّزُولِ بِذِى طُوًى قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ

وَالنُّزُولِ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِى بِذِى الْحُلَيْفَةِ إِذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ - فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، كَانَ يَبِيتُ بِذِى طُوًى بَيْنَ الثَّنِيَّتَيْنِ، ثُمَّ يَدْخُلُ مِنَ الثَّنِيَّةِ الَّتِى بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا لَمْ يُنِخْ نَاقَتَهُ إِلا عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ يَدْخُلُ، فَيَأْتِى الرُّكْنَ الأسْوَدَ فَيَبْدَأُ بِهِ، ثُمَّ يَطُوفُ سَبْعًا ثَلاثًا سَعْيًا وَأَرْبَعًا مَشْيًا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَنْطَلِقُ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَيَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَكَانَ إِذَا صَدَرَ عَنِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِى بِذِى الْحُلَيْفَةِ الَّتِى كَانَ النَّبِىُّ عليه السَّلام يُنِيخُ بِهَا‏.‏

- وسُئِلَ عُبَيْدُاللَّهِ عَنِ الْمُحَصَّبِ، فَحَدَّثَنَا عَنْ نَافِعٍ، قَالَ‏:‏ نَزَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ‏.‏

وكَانَ ابْن عُمَرَ يُصَلِّى بِهَا، يَعْنِى بالْمُحَصَّبَ، الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، أَحْسِبُهُ قَالَ‏:‏ وَالْمَغْرِبَ‏.‏

قَالَ خَالِدٌ‏:‏ لا أَشُكُّ فِى الْعِشَاءِ، وَيَهْجَعُ هَجْعَةً، وَيَذْكُرُ ذَلِكَ عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام‏.‏

النزول بذى طوى قبل أن يدخل مكة، والنزول بالبطحاء التى بذى الحليفة عند رجوعه، ليس شيئًا من سنن الحج ومناسكه، فمن شاء فعلها، ومن شاء تركها‏.‏

باب مَنْ نَزَلَ بِذِى طُوًى إِذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، كَانَ إِذَا أَقْبَلَ بَاتَ بِذِى طُوًى حَتَّى إِذَا أَصْبَحَ دَخَلَ، وَإِذَا نَفَرَ، مَرَّ بِذِى طُوًى وَبَاتَ بِهَا حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ‏.‏

وهذا أيضًا ليس من مناسك الحج، وإنما فيه استحباب دخول مكة نهارًا، وهو مذهب ابن عمر، واستحبه النخعى ومالك وإسحاق، وكانت عائشة تدخل مكة ليلا، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير، وقال عطاء والثورى‏:‏ إن شئت دخلتها نهارًا، وإن شئت دخلتها ليلا‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وقد دخلها الرسول صلى الله عليه وسلم ليلا حين اعتمر من الجعرانة‏.‏

باب التِّجَارَةِ فِى أَيَّامَ الْمَوْسِمِ وَالْبَيْعِ والشِراء فِى أَسْوَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، كَانَ ذُو الْمَجَازِ وَعُكَاظٌ مَتْجَرَ النَّاسِ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الإسْلامُ كَأَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَتْ‏:‏ ‏(‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏ فِى مَوَاسِمِ الْحَجِّ‏.‏

ذكر إسماعيل بن إسحاق قال‏:‏ حدثنا مسدد، حدثنا عبد الواحد ابن زياد، حدثنا العلاء بن المسيب، عن أبى أمامة التيمى قال‏:‏ ‏(‏كنت أكرى فى هذا الوجه وكان ناس يقولون‏:‏ إنه ليس لك حج، فلقيت ابن عمر فسألته، فقال‏:‏ أليس تحرم وتلبى، وتطوف بالبيت، وتفيض من عرفات، وترمى الجمار‏؟‏ قلت‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ فإن لك حجًا، وإن رجلا سأل النبى عليه السلام عن مثل ما سألتنى عنه، فسكت عنه عليه السلام حتى نزلت هذه الآية‏:‏ ‏(‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏‏.‏

وقال مجاهد فى هذه الآية‏:‏ أحلت لهم التجارة فى المواسم، وكانوا لا يبيعون ولا يبتاعون بعرفة ولا بمنى فى الجاهلية‏.‏

وقال قتادة‏:‏ كانوا إذا أفاضوا من عرفات لم يتجروا ولم يتعرجوا على كسير ولا ضالة، فأحل الله لهم ذلك فأنزل الآية‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ أخبر ابن عباس أن هذه الآية نسخت ما كانوا عليه فى الجاهلية من ترك التبايع فى الحج، وأنهم كانوا لا يخلطونه بغيره، فأباحهم تعالى التجارة فى الحج وابتغاء فضله، ولم يكن ما دخلوا فيه من حرمة الحج قاطعًا لهم عن ذلك‏.‏

ودل ذلك على أن الداخل فى حرمة الاعتكاف لا بأس عليه أن يتجر فى مواطن الاعتكاف منه، كما لم تمنعه حرمة الحج منه‏.‏

وممن أجاز للمعتكف البيع والشراء الكوفيون والشافعى، وقال الثورى‏:‏ يشترى الخبز إذا لم يكن له من يشتريه له‏.‏

وبه قال أحمد، واختلف فيه عن مالك، فروى عنه ابن القاسم إجازة ذلك إذا كان يسيرًا، وروى عنه مثل قول الثورى، وكره ذلك عطاء ومجاهد والزهرى‏.‏

باب الادِّلاجِ مِنَ الْمُحَصَّبِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ حَاضَتْ صَفِيَّةُ لَيْلَةَ النَّفْرِ، فَقَالَتْ‏:‏ مَا أُرَانِى إِلا حَابِسَتَكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث، قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى لَمْ أَكُنْ حَلَلْتُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏فَاعْتَمِرِى مِنَ التَّنْعِيمِ‏)‏، فَخَرَجَ مَعَهَا أَخُوهَا، فَلَقِينَاهُ مُدَّلِجًا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَوْعِدُكِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا‏)‏‏.‏

وهذا ليس من مناسك الحج، ذكر عبد الرزاق قال‏:‏ أخبرنا عمر ابن ذر، أنه سمع مجاهدًا يقول‏:‏ ‏(‏أناخ النبى عليه السلام ليلة النفر بالبطحاء ينتظر عائشة، وكره أن يقتدى الناس بإناخته، فبعث حتى أناخ على ظهر العقبة أو من ورائها ينتظرها‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ الادلاج بتشديد الدال‏:‏ الرحيل من المنزل بسحر‏.‏

قال الأعشى‏:‏ وادّلاج بعد المنام وتهجير والإِدْلاج بتخفيف الدال‏:‏ الرحيل من المنزل فى أول الليل والسير فيه‏.‏

قال الأعشى‏:‏ وإِدْلاج ليل على غرة وهاجرة حرّها محتدم‏.‏

باب وُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَفَضْلِهَا

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ‏:‏ لَيْسَ أَحَدٌ إِلا وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ‏.‏

وقال ابْنُ عَبَّاسٍ، إِنَّهَا لَقَرِينَتُهَا فِى كِتَابِ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 196‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ‏)‏‏.‏

اختلف الناس فى وجوب العمرة، فكان ابن عباس وابن عمر يقولان‏:‏ هى واجبة فرضًا‏.‏

وهو قول عطاء وطاوس والحسن وابن سيرين والشعبى، وإليه ذهب الثورى والشافعى وأحمد وإسحاق‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ العمرة تطوع‏.‏

وهو قول أبى حنيفة وأبى ثور، وقال النخعى‏:‏ هى سنة‏.‏

وهو قول مالك، قال‏:‏ ولا يعلم لأحد الرخصة فى تركها‏.‏

واحتج الذين أوجبوها فرضًا بقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ومعنى أتموا عندهم‏:‏ أقيموا، قالوا‏:‏ فإذا كان الإتمام واجبًا، فالابتداء واجب‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ فيقال لهم‏:‏ هذا غلط؛ لأن من أراد أن يفعل السنة فواجب أن يفعلها تامة، كمن أراد أن يصلى تطوعًا فيجب أن يكون على طهارة، وكذلك إذا أراد أن يصوم، فيلزمه التبييت، وكذلك من نذر صلاة وصومًا فقد أوجب على نفسه وإن لم تجب فى الأصل، فإذا دخل فى ذلك انحتم عليه تمامه حتى يصير بمنزلة ما ابتدأه لله، وما قالوه يبطل بالدخول فى عمرة ثانية وثالثة لأنه يجب المضى فيها، فلما أجمعنا أنه يجب عليه تمامها وإن لم يكن ابتداء الدخول فيها واجبًا سقط قولهم، واحتجوا بحديث ابن عمر أن النبى عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏ليس أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان‏)‏ فالجواب‏:‏ أن البخارى أوقفه على ابن عمر من قوله، فلا حجة فيه، ولو صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم لكان ذكره للعمرة مقارنة الحج لا يدل على وجوبها، وإنما معناه الحض على هذا الجنس من العبادات، كما قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏قال تعالى‏:‏ الصوم لى، وأنا أجزى به‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏تابعوا بين الحج والعمرة‏)‏ لما لم يدل على وجوب المتابعة، لم يدل على وجوب العمرة، وإنما أراد عليه السلام أن لهذا الجنس من العبادات فضلا على غيره‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ ليس فى قول ابن عمر أنها واجبة ما يدل أنها فريضة؛ لأنه قد يجوز أن يقول أنها واجبة على المسلمين وجوبًا عامًا يقوم به البعض، كوجوب الجهاد، أنه واجب على المسلمين وجوبًا، من قام به أجزأ عنهم، وكوجوب الجنائز وغسل الموتى، ويدل على هذا قول ابن عمر‏:‏ إذا حللتم فشدوا الرحال للحج والعمرة؛ فإنهما أحد الجهادين؛ ألا ترى أنه شبههما بالجهاد الذى يقوم بفرضه بعضهم‏.‏

وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏بنى الإسلام على خمس‏)‏ فذكر الحج ولم يذكر العمرة، فدل أنها ليست بفريضة؛ لأنها لو كانت فريضة ما وسعه عليه السلام السكوت عن ذكرها مع جملة الفرائض، وقوله‏:‏ ‏(‏العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما‏)‏ يريد ما اجتنبت الكبائر ‏(‏والحج المبرور‏)‏ هو الذى لا رياء فيه ولا رفث ولا فسوق، ويكون بمال حلال والله أعلم‏.‏

باب مَنِ اعْتَمَرَ قَبْلَ الْحَجِّ

- فيه‏:‏ ابْنَ عُمَرَ لا بَأْسَ بالْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ، اعْتَمَرَ الرسول صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قول ابن عمر هذا يدل أن مذهبه أن فرض الحج قد كان نزل على النبى عليه السلام قبل اعتماره، ولو اعتمر عليه السلام قبل نزول فرض الحج ما صح استدلال ابن عمر بهذا الكلام على جواز الاعتمار قبل الحج، والذى يتفرغ من هذا المعنى‏:‏ هل فرض الحج على الفور ولا يجوز تأخيره، أو هل فيه فسحة وسعة‏؟‏ والذى نزع فيه ابن عمر هو الصحيح فى النظر، وهو الذى تعضده الأصول، أن فى فرض الحج سعة وفسحة؛ لأن العمرة لم يَجْرِ لها ذكر فى القرآن إلا والحج مذكور معها، ولذلك قال ابن عباس‏:‏ إنها لقرينتها فى كتاب الله‏)‏ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ولو كان فرض الحج على الفور لم يجز فسخه فى عمرة، ولا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك، ولو كان وقته مضيقًا لوجب إذا أخره إلى سنة أخرى أن يكون قضاء لا اداء، فلما ثبت أنه أداء فى أى وقت به، علم أنه ليس على الفور‏.‏

وقد تقدم الكلام فى هذا المعنى فى باب ‏(‏لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج مشرك‏)‏، فى الجزء الأول من الحج، وسيأتى شىء منه فى قصة كعب بن عجرة حين آذاه هوامه وحلق رأسه بالحديبية إن شاء الله‏.‏

باب كَمِ اعْتَمَرَ النَّبِىُّ عليه السَّلام

- فيه‏:‏ عُرْوَة، أنه سأل ابْن عُمَرَ كَمِ اعْتَمَرَ الرسول صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ أَرْبَعًا، إِحْدَاهُنَّ فِى رَجَبٍ‏.‏

وقالتْ عَائِشَةَ‏:‏ يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً إِلا وَهُوَ شَاهِدُهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِى رَجَبٍ قَطُّ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، اعْتَمَرَ النَّبِىُّ عليه السَّلام أَرْبَعٌ‏:‏ عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ فِى ذِى الْقَعْدَةِ، حَيْثُ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ، وَعُمْرَةٌ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِى ذِى الْقَعْدَةِ، حَيْثُ صَالَحَهُمْ، وَعُمْرَةُ الْجِعِرَّانَةِ إِذْ قَسَمَ غَنِيمَةَ حُنَيْنٍ، قُلْتُ‏:‏ كَمْ حَجَّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ وَاحِدَةً، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ‏.‏

وقال هَمَّام‏:‏ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ فِى ذِى الْقَعْدَةِ إِلا الَّتِى اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ الْبَرَاء، اعْتَمَرَ النَّبِىّ عليه السَّلام ثلاث عمرة‏.‏

والرابعة إنما تجوز نسبتها إليه؛ لأنه أمر الناس بها، وعُملت بحضرته، لا أنه عليه السلام اعتمرها بنفسه، ويدل على صحة هذا القول أن عائشة ردت على ابن عمر قوله‏:‏ وقالت‏:‏ ‏(‏ما اعتمر فى رجب قط‏)‏‏.‏

وأما أنس فإنه لم يضبط المسألة ضبطًا جيدًا، وقد أنكر ذلك عليه ابن عمر حين ذكر له أن أنسًا حدث ‏(‏أن النبى عليه السلام أهل بعمرة وحج، فقال ابن عمر‏:‏ أهل النبى عليه السلام وأهللنا به‏)‏ ذكره البخارى فى المغازى، ففى رد ابن عمر على أنس أن النبى عليه السلام اعتمر مع حجته، رد من ابن عمر على نفسه أيضًا، وقد جاء عن أنس نفسه خلاف قوله، وهو حديث مروان الأصفر عنه أن النبى عليه السلام قال لعلى‏:‏ ‏(‏لولا أن معى الهدى لأحللت‏)‏ ذكره فى باب‏:‏ من أهل فى زمن النبى عليه السلام كإهلال النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

فامتناعه عليه السلام من الإحلال لأجل الهدى يدل أنه كان مفردًا للحج؛ لأنه اعتذر عن الفسخ فيه بالهدى، ولو كان قارنًا ما جاز أن يعتذر لاستحالة الفسخ على القارن، فكيف يجوز أن ينسب إليه عليه السلام أنه اعتمر مع حجته إلا على معنى أنه أمر بذلك من لم يكن معه هدى‏؟‏ هذا ما لا ريب فيه ولا شك، وروى عبد الرزاق، عن عمر ابن ذر، عن مجاهد، أنه قال‏:‏ ‏(‏اعتمر النبى عليه السلام ثلاثًا، كلهن فى ذى القعدة‏)‏ وعن معمر، عن هشام بن عروة قال‏:‏ ‏(‏اعتمر النبى صلى الله عليه وسلم ثلاثًا‏)‏‏.‏

باب عُمْرَةٍ فِى رَمَضَان

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّينَ مَعَنَا‏)‏‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ كَانَ لَنَا نَاضِحٌ فَرَكِبَهُ أَبُو فُلانٍ وَابْنُهُ، لِزَوْجِهَا وَابْنِهَا، وَتَرَكَ نَاضِحًا نَنْضَحُ عَلَيْهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَإِذَا كَانَ رَمَضَانُ اعْتَمِرِى فِيهِ، فَإِنَّ عُمْرَةً فِى رَمَضَانَ حَجَّةٌ‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن عمرة فيه كحجة‏)‏ يدل أن الحج الذى ندبها إليه كان تطوعًا؛ لإجماع الأمة أن العمرة لا تجزئ من حجة الفريضة، فأمرها بذلك على الندب لا على الإيجاب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏كحجة‏)‏ يريد فى الثواب، والفضائلُ لا تدرك بقياس، والله يؤتى فضله من يشاء‏.‏

والناضح‏:‏ البعير أو الثور أو الحمار يربط به الرشاء يجره فيخرج الغرب، ويقال لها أيضًا‏:‏ السانية‏.‏

باب عُمْرَةِ التَّنْعِيمِ

- فيه‏:‏ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ أَبِى بَكْرٍ، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام أَمَرَهُ أَنْ يُرْدِفَ عَائِشَةَ، وَيُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِر، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام أَمَرَ عَبْدَالرَّحْمَنِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ فِى ذِى الْحَجَّةِ، وَأَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ لَقِىَ النَّبِىَّ عليه السَّلام وَهُوَ بِالْعَقَبَةِ، فَقَالَ‏:‏ أَلَكُمْ هَذِهِ خَاصَّةً يَا رَسُولَ اللَّه‏؟‏ ِ قَالَ‏:‏ ‏(‏لا، بَلْ لِلأبَدِ‏)‏‏.‏

فقه هذا الباب‏:‏ أن المعتمر المكى لابد له من الخروج إلى الحِلِّ ثم يحرم منه؛ لأن التنعيم أقرب الحِلِّ، وشأن العمرة عند الجميع أن يجمع فيها بين حل وحرم، المكى وغيره، والعمرة زيارة، وإنما يزار الحرم من خارجه كما يزار المزور فى بيته من غير ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ وتلك سنة الله فى عباده المعتمرين، وما بعد من الحل كان أفضل، ويجزئ أقل الحل وهو التنعيم‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ ذهب قوم إلى أن العمرة لمن كان بمكة لا وقت لها غير التنعيم، وجعلوا التنعيم خاصة وقتًا لعمرة أهل مكة، وقالوا‏:‏ لاينبغى لهم أن يجاوزوه، كما لا ينبغى لغيرهم أن يجاوز ميقاتًا وقته لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وخالفهم فى ذلك آخرون، وقالوا‏:‏ وقت أهل مكة الذى يحرمون منه بالعمرة‏:‏ الحِلُّ، فمن أَىِّ الحِلِّ أحرموا أجزأهم ذلك، والتنعيم وغيره عندهم فى ذلك سواء، واحتجوا بأنه قد يجوز أن يكون النبى عليه السلام قصد إلى التنعيم فى ذلك؛ لأنه كان أقرب الحِلِّ منها، لا لأن غيره من الحل ليس هو فى ذلك كهو، فطلبنا الدليل على أحد القولين، فإذا يزيد بن سنان حدثنا قال‏:‏ حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا أبو عامر صالح بن رستم، عن ابن أبى مليكة، عن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏دخل علىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف وأنا أبكى، فقال‏:‏ ‏(‏ما ذلك‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ حضت‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فلا تبكى، اصنعى ما يصنع الحاج‏)‏‏.‏

فقدما مكة ثم أتينا منى، ثم غدونا إلى عرفة، ثم رمينا الجمرة تلك الأيام، فلما كان يوم النفر ارتحل فنزل الحصبة، قالت‏:‏ والله ما نزلها إلا من أجلى، فأمر عبد الرحمن فقال‏:‏ ‏(‏احمل أختك، فأخرجها من الحرم‏)‏ قالت‏:‏ والله ما ذكر الجعرانة ولا التنعيم فلتهل بعمرة، فكان أدنانا من الحرم التنعيم، فأهللت بعمرة، فطفنا بالبيت وسعينا بين الصفا والمروة، ثم أتينا فارتحل‏)‏‏.‏

فأخبرت عائشة أن النبى عليه السلام لم يقصد لِما أراد أن يعمرها إلا إلى الحل، لا إلى موضع بعينه خاص، وأنه إنما قصد التنعيم؛ لأنه كان أقرب الحل إليهم، لا لمعنى آخر؛ فثبت أن وقت أهل مكة لِعُمَرِهم هو الحل، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ سؤال سراقة للنبى عليه السلام يحتمل أن يكون أراد عمرتنا هذه فى أشهر الحج لعامنا هذا، ولا يفعل ذلك فيما بعد؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون العمرة فيما مضى فى أشهر الحج، ويعدُّون ذلك من أفجر الفجور، أو للأبد، فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏هى للأبد‏)‏ أى‏:‏ لكم أن تفعلوا ذلك أبدًا، وليس على أن لهم أن يحلوا من الحج قبل عرفة بطوافهم بالبيت وسعيهم بين الصفا والمروة، لِما تقدم منه أن الفسخ كان لهم خاصة، هكذا رواه جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر‏:‏ ‏(‏عمرتنا لعامنا هذا أو للأبد‏؟‏‏)‏ وتابعه خصيف والأوزاعى جميعًا عن عطاء، عن جابر ‏(‏أن سراقة قال للنبى عليه السلام‏:‏ لكم هذه خاصة يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ لا، بل للأبد‏)‏‏.‏

والمعنى فيهما واحد على ما فَسَّره الطحاوى‏.‏

باب العمرة ليلة الحصبة وغيرها

- فيه‏:‏ عَائِشَةُ، خَرَجْنَا مَعَ الرسول صلى الله عليه وسلم مُوَافِينَ لِهِلالِ ذِى الْحَجَّةِ، فَقَالَ لنا‏:‏ ‏(‏مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيُهِلَّ‏)‏، وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ‏.‏‏.‏‏.‏

إلى قولها‏:‏ فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ، أَرْسَلَ مَعِى عَبْدَالرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَرْدَفَهَا، فأهللت بِعُمرَة مَكَانَ عُمْرَتى‏.‏

فقه هذا الباب‏:‏ أن الحاج يجوز له أن يعتمر إذا تم حجه بعد انقضاء أيام التشريق، وليلة الحصبة‏:‏ هى ليلة النفر الأخير؛ لأنها آخر أيام الرمى‏.‏

وقد اختلف السلف فى العمرة بعد أيام الحج، فذكر عبد الرزاق بإسناده عن مجاهد قال‏:‏ سئل عمر وعلى وعائشة عن العمرة ليلة الحصبة، فقال عمر‏:‏ هى خير من لا شئ‏.‏

وقال على‏:‏ هى خير من مثقال ذرة‏.‏

وقالت عائشة‏:‏ العمرة على قدر النفقة‏.‏

وعن عائشة أيضًا قالت‏:‏ لأن أصوم ثلاثة أيام أو أتصدق على عشرة مساكين أحب إلى من أن أعتمر العمرة التى اعتمرت من التنعيم‏.‏

وقال طاوس فيمن اعتمر بعد الحج‏:‏ لا أدرى أتعذبون عليها أم تؤجرون‏.‏

وقال عطاء بن السائب‏:‏ اعتمرنا بعد الحج، فعاب ذلك علينا سعيد بن جبير‏.‏

وأجاز ذلك آخرون‏.‏

روى ابن عيينة، عن الوليد بن هشام قال‏:‏ سألت أم الدرداء عن العمرة بعد الحج، فأمرتنى بها‏.‏

وسُئل عطاء عن عُمرة التنعيم، قال‏:‏ هى تامة وتجزئه‏.‏

وقال القاسم بن محمد‏:‏ عمرة المحرم تامة‏.‏

وقد روى عن عائشة مثل هذا المعنى، قالت‏:‏ تمت العمرة السنة كلها إلا يوم عرفة، ويوم النحر، ويومين من أيام التشريق‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ العمرة جائزة السنة كلها إلا يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق للحاج وغيره‏.‏

ومن حديث عائشة فى هذا الباب استحب مالك ألا يعتمر حتى تغيب الشمس من آخر أيام التشريق؛ لأن النبى عليه السلام قد كان وَعَد عائشة بالعمرة وقال لها‏:‏ ‏(‏كونى فى حجك عسى الله أن يرزقكيهما‏)‏ ولو استحب لها العمرة فى أيام التشريق لأمرها بالعمرة فيها، وبه قال الشافعى، وإنما كرهت العمرة فيها للحاج خاصة؛ لئلا يُدخل عملا على عمل؛ لأنه لم يكمل عمل الحج بعد، ومن أحرم بالحج فلا يحرم بالعمرة؛ لأنه لا تضاف العمرة إلى الحج عند مالك وطائفة من العلماء، وأما من ليس بحاج فلا يمنع من ذلك، فإن قيل‏:‏ فقد روى أبو معاوية، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة فى هذا الباب‏:‏ ‏(‏وكنت ممن أهل بعمرة‏)‏ وروى مثله يحيى القطان عن هشام فى الباب بعد هذا، وهذا خلاف ما تقدم عن عائشة أنها أهلت بالحج‏.‏

فالجواب‏:‏ أنا قد قدمنا أن أحاديث عائشة فى الحج أشكلت على الأئمة قديمًا، فمنهم من جعل الاضطراب فيها جاء من قبلها، ومنهم من جعله جاء من قبل الرواة عنها، وقد روى عروة والقاسم والأسود وعمرة عن عائشة، أنها كانت مفردة للحج على ما بيناه فى باب‏:‏ التمتع والقران والإفراد فى أول كتاب الحج، فالحكم لأربعة من ثقات أصحاب عائشة، فالصواب أن حمل ذلك على التضاد أولى من الحكم لرجلين من متأخرى رواة حديثها‏.‏

وقد يحتمل قولها‏:‏ ‏(‏وكنت ممن أهل بعمرة‏)‏ تأويلا ينتفى به التضاد عن الآثار، وذلك أن عَمْرَة روت عن عائشة أنها قالت‏:‏ ‏(‏خرجنا لخمس بقين من ذى القعدة مهلين بالحج، فلما دنونا من مكة‏.‏‏.‏‏)‏ وقالت مرة‏:‏ فنزلنا بسرف، قال النبى عليه السلام لأصحابه‏:‏ ‏(‏من لم يكن معه هدى فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل‏)‏‏.‏

فأهلت عائشة حينئذ بعمرة، فحاضت قبل أن تطوف بالبيت طواف العمرة، فقالت للنبى عليه السلام‏:‏ منعت العمرة، فأمرها عليه السلام برفض ذكر العمرة بأن تبقى على إحرامها بالحج الذى كانت أهلت به أولا، فمن روى عنها‏:‏ ‏(‏وكنت ممن أهل بعمرة حين دنوا من مكة‏)‏ ممن رتب الحاديث على موطنها ومواضع ابتداء الإحرام؛ بان له أن ما اختلف من ظاهر الآثار غير مخالف فى المعنى، وزال الإشكال عنها، والحمد لله‏.‏

هذا معنى قول المهلب‏.‏

وقولها‏:‏ ‏(‏مكان عمرتى‏)‏ تريد عمرتى التى أحرمت بها من سرف، ثم مُنعتها من أجل الحيض‏.‏

باب الاعْتِمَارِ بَعْدَ الْحَجِّ بِغَيْرِ هَدْيٍ

- فيه‏:‏ عَائِشَةُ، قَالَتْ‏:‏ خَرَجْنَا مَعَ الرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُوَافِينَ لِهِلالِ ذِى الْحَجَّةِ، فَقَالَ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيُهِلَّ، وَلَوْلا أَنِّى أَهْدَيْتُ لأهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ‏)‏، فَمِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ، وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، فَحِضْتُ قَبْلَ أَنْ أَدْخُلَ مَكَّةَ، فَأَدْرَكَنِى يَوْمُ عَرَفَةَ، وَأَنَا حَائِضٌ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏دَعِى عُمْرَتَكِ، وَانْقُضِى رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِى، وَأَهِلِّى بِالْحَجِّ‏)‏، فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ، أَرْسَلَ مَعِى عَبْدَالرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَرْدَفَهَا، فَأَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِهَا فَقَضَى اللَّهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتَهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْىٌ وَلا صَدَقَةٌ وَلا صَوْمٌ‏.‏

قال المهلب‏:‏ قولها‏:‏ ‏(‏خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موافين لهلال ذى الحجة‏)‏ إنما هو بمعنى المقاربة؛ لأنه قد صح عنها أنها قالت‏:‏ ‏(‏خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذى القعدة‏)‏ والخمس قريب من آخر الشهر، فوافاهم الهلال فى الطريق، وقولها‏:‏ ‏(‏فأدركنى يوم عرفة وأنا حائض‏)‏ وقالت فى رواية القاسم‏:‏ ‏(‏وطهرت حين قدمنا منى، صبيحة ليلة عرفة يوم النحر بمنى‏)‏ وقولها‏:‏ ‏(‏لم يكن فى شىء من ذلك هدى‏)‏ لأن عمرتها بعد انقضاء عمل الحج‏.‏

ولا خلاف بين العلماء أن من اعتمر بعد انقضاء عمل الحج وخروج أيام التشريق أنه لا هدى عليه فى عمرته؛ لأنه ليس بمتمتع، وإنما المتمتع من اعتمر فى أشهر الحج وطاف لعمرته قبل الوقوف بعرفة، وأما من اعتمر بعد يوم النحر فقد وقعت عمرته فى غير أشهر الحج، فلذلك ارتفع حكم الهدى عنها، والصحيح من قول مالك أن أشهر الحج‏:‏ شوال وذو القعدة وعشر من ذى الحجة‏.‏

ولم يكن عليها أيضًا فى حجتها هدى؛ لأنها كانت مفردة على ما روى عنها القاسم والأسود وعمرة، ولم يأخذ مالك بقولها فى آخر الحديث‏:‏ ‏(‏ولم يكن فى شىء من ذلك هدى‏)‏ لأنها كانت عنده فى حكم القارنة، ولزمها لذلك هدى القران، ولا أخذ بذلك أبو حنيفة أيضًا؛ لأنها كانت عنده رافضة لعمرتها، والرافضة عنده عليها دم للرفض، وعليها عمرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فقضى الله حجها وعمرتها، ولم يكن فى ذلك هدى ولا صوم ولا صدقة‏)‏ ليس من لفظ عائشة، وإنما هو لفظ هشام بن عروة، لم يذكر ذلك أحد غيره، ولا تقول به الفقهاء، وقد تقدم مذاهب الفقهاء فى قوله‏:‏ ‏(‏انقُضى رأسك وامتشطى‏)‏ فى باب كيف تهل الحائض والنفساء‏.‏

فأغنى عن إعادته‏.‏

باب الْمُعْتَمِرِ إِذَا طَافَ طَوَافَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ خَرَجَ هَلْ يُجْزِئُهُ مِنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ خَرَجْنَا مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ فِى أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَحُرُمِ‏.‏‏.‏‏.‏

إلى قوله‏:‏ حَتَّى نَفَرْنَا مِنْ مِنًى وَنَزَلْنَا الْمُحَصَّبَ، فَدَعَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اخْرُجْ بِأُخْتِكَ الْحَرَمَ، فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ افْرُغَا مِنْ طَوَافِكُمَا، أَنْتَظِرْكُمَا هَاهُنَا‏)‏، فَأَتَيْنَا فِى جَوْفِ اللَّيْلِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏فَرَغْتُمَا‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ، فَنَادَى بِالرَّحِيلِ فِى أَصْحَابِهِ، فَارْتَحَلَ النَّاسُ‏.‏

لا خلاف بين العلماء أن المعتمر إذا طاف وخرج إلى بلده أنه يجزئه من طواف الوداع، كما فعلت عائشة، وأما إن أقام بمكة بعد عمرته ثم بدا له أن يخرج منها، فيستحبون له طواف الوداع‏.‏

باب أَجْرِ الْعُمْرَةِ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَصْدُرُ النَّاسُ بِنُسُكَيْنِ، وَأَصْدُرُ بِنُسُكٍ، فَقِيلَ لَهَا‏:‏ ‏(‏انْتَظِرِى، فَإِذَا طَهُرْتِ، فَاخْرُجِى إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهِلِّى، ثُمَّ ائْتى مَكَانِ كَذَا، وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ، أَوْ نَصَبِكِ‏)‏‏.‏

أفعال البر كلها الأجر فيها على قدر المشقة والنفقة، ولهذا استحب مالك وغيره الحج راكبًا، ومصداق هذا فى كتاب الله قوله‏:‏ ‏(‏الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 20‏]‏ وفى هذا فَضْل الغنى وإنفاق المال فى الطاعات، ولما فى قمع النفس عن شهواتها من المشقة على النفس، وَعَدَ الله تعالى الصابرين على ذلك‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏‏.‏

باب يَفْعَلُ فِى الْعُمْرَةِ مَا يَفْعَلُ فِى الْحَجِّ

- فيه‏:‏ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىَّ عليه السَّلام وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الْخَلُوقِ، أَوْ قَالَ‏:‏ صُفْرَةٌ، فَقَالَ‏:‏ كَيْفَ تَأْمُرُنِى أَنْ أَصْنَعَ فِى عُمْرَتِى‏؟‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى الرسول صلى الله عليه وسلم فَسُتِرَ بِثَوْبٍ، فَلَمَّا سُرِّىَ عَنْهُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْعُمْرَةِ‏؟‏ اخْلَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاغْسِلْ أَثَرَ الْخَلُوقِ عَنْكَ، وَأَنْقِ الصُّفْرَةَ، وَاصْنَعْ فِى عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِى حَجِّكَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ هِشَامِ، قُلْتُ لِعَائِشَةَ‏:‏ أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏ الحديث، وقَالَ هِشَامٍ‏:‏ مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ امْرِئٍ وَلا عُمْرَتَهُ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ‏.‏

قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏اصنع فى عمرتك كما تصنع فى حجك‏)‏‏.‏

هذا مما لفظه العموم والمراد به الخصوص، يدل على ذلك أن المعتمر لا يقف بعرفة، ولا يرمى جمرة العقبة، ولا يعمل شيئًا من عمل الحج غير الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة، وإنما أمره عليه السلام أن يصنع فى عمرته مثل ما يصنع فى حجه ن اجتناب لباس المخيط واستعمال الطيب، وأعلمه أن جميع ما يحرم على الحاج بالإحرام يحرم مثله على المعتمر بالإحرام، كالصيد والنساء وغير ذلك‏.‏

باب مَتَى يَحِلُّ الْمُعْتَمِرُ‏؟‏

وَقَالَ عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرٍ‏:‏ أَمَرَ النَّبِىُّ عليه السَّلام أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، وَيَطُوفُوا، ثُمَّ يُقَصِّرُوا، وَيَحِلُّوا‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن أَبِى أَوْفَى، اعْتَمَرَ النَّبِىّ عليه السَّلام وَاعْتَمَرْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ، طَافَ وَطُفْنَا مَعَهُ، وَأَتَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ وَأَتَيْنَاهَا مَعَهُ، وَكُنَّا نَسْتُرُهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَرْمِيَهُ أَحَدٌ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبٌ لِى‏:‏ أَكَانَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏بَشِّرُوا خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ مِنَ الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لا صَخَبَ فِيهِ وَلا نَصَبَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، سُئل عن رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ فِى عُمْرته، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَيَأْتِى امْرَأَتَهُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ قَدِمَ الرسول صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا، وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وقَالَ جَابِر‏:‏ لا يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، قَالَ‏:‏ قَدِمْتُ عَلَى النَّبِىِّ عليه السَّلام وَهُوَ مُنِيخٌ، بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَحَجَجْتَ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏بِمَا أَهْلَلْتَ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ لَبَّيْكَ بِإِهْلالٍ كَإِهْلالِ النَّبِىِّ عليه السَّلام قَالَ‏:‏ ‏(‏أَحْسَنْتَ، طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَحِلَّ‏)‏، فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَيْسٍ، فَفَلَتْ رَأْسِى، ثُمَّ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ، فَكُنْتُ أُفْتِى بِهِ حَتَّى كَانَ فِى خِلافَةِ عُمَرَ، فَقَالَ‏:‏ إِنْ أَخَذْنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ، وَإِنْ أَخَذْنَا بِقَوْلِ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ‏.‏

- فيه‏:‏ أَسْمَاءَ قَالَتْ كُلَّمَا مَرَّتْ بِالحَجُونِ‏:‏ صلى الله عليه وسلم لَقَدْ نَزَلْنَا مَعَهُ هَاهُنَا، وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ خِفَافٌ، قَلِيلٌ ظَهْرُنَا، قَلِيلَةٌ أَزْوَادُنَا، فَاعْتَمَرْتُ أَنَا وَأُخْتِى عَائِشَةُ وَالزُّبَيْرُ وَفُلانٌ وَفُلانٌ، فَلَمَّا مَسَحْنَا الْبَيْتَ أَحْلَلْنَا، ثُمَّ أَهْلَلْنَا مِنَ الْعَشِىِّ بِالْحَجِّ‏.‏

اتفق أئمة الفتوى على أن المعتمر يحل من عمرته إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وإن لم يكن حلق ولا قصر، على ما جاء فى هذا الحديث، ولا أعلم فى ذلك خلافًا، إلا شذوذًا روى عن ابن عباس أنه قال‏:‏ العمرة الطواف‏.‏

وتبعه عليه إسحاق بن راهويه، والحجة فى السنة لا فى خلافها‏.‏

واحتج الطبرى بحديث أبى موسى على من زعم أن المعتمر إذا كمل عمرته ثم جامع قبل أن يحلق أنه مفسد لعمرته، قال‏:‏ ألا ترى قوله عليه السلام لأبى موسى‏:‏ ‏(‏طف بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصر من شعرك واحلق ثم أحل‏)‏ فبين بذلك أن التقصير والحلق ليسا من النسك، وإنما هما من معانى الإحلال، كما لبس الثياب والطيب بعد طواف المعتمر بالبيت وسعيه بين الصفا والمروة من معانى إحلاله، وكذلك إحلال الحاج من إحرامه بعد رميه جمرة العقبة، لا من نسكه، فبيّن فساد قول من زعم أن من جامع من المعتمرين قبل التقصير من شعره أو الحلق، ومن بعد طوافه بالبيت وبين الصفا والمروة أنه مفسد عمرته، وهو قول الشافعى، قال ابن المنذر‏:‏ ولا أحفظ ذلك عن غيره‏.‏

وقال مالك والثورى والكوفيون‏:‏ عليه الهدى‏.‏

وقال عطاء‏:‏ يستغفر الله ولا شىء عليه‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وفى حديث أبى موسى بيان فساد قول من قال‏:‏ إن المعتمر إن خرج من الحرم قبل أن يقصر من شعره أو يحلق أن عليه دمًا، وإن كان قد طاف بالبيت وبين الصفا والمروة قبل خروجه منه، وفيه أيضًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أذن لأبى موسى بالإحلال من عمرته بعد الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة، فبان بذلك أن من حل منهما قبل ذلك فقد أخطأ وخالف سنته عليه السلام، واتضح به فساد قول من زعم أن المعتمر إذا دخل الحرم فقد حل من إحرامه، وله أن يلبس ويتطيب ويعمل ما يعمل الحلال، وهو قول ابن عمر وابن المسيب وعروة والحسن، وصح أنه مَنْ حل مِنْ شىء كان عليه حرامًا قبل ذلك فعليه الجزاء والفدية‏.‏

واختلف العلماء إذا وطئ المعتمر قبل طوافه بالبيت وقبل أن يسعى بين الصفا والمروة، فقال مالك والشافعى وأحمد وأبو ثور‏:‏ عليه الهدى وعمرة أخرى مكانها، ويتم التى أفسد‏.‏

ووافقهم أبو حنيفة إذا جامع بعد طواف ثلاثة أشواط، وقال‏:‏ إذا جامع بعد أربعة أشواط بالبيت أنه يقضى ما بقى من عمرته، وعليه دم، ولا شىء عليه‏.‏

وهذا تحكم لا دليل عليه إلا الدعوى، وحجة مالك ومن وافقه حديث ابن أبى أوفى أن النبى عليه السلام اعتمر مع أصحابه ولم يحلوا حتى طافوا وسعوا بين الصفا والمروة، ولذلك أمر النبى عليه السلام أيضًا أبا موسى الشعرى قال له‏:‏ ‏(‏طف بالبيت وبين الصفا والمروة وأحل‏)‏ فوجب الاقتداء بسنته واتباع أمره، وقال‏:‏ ‏(‏خذوا عنى مناسككم‏)‏‏.‏

وقد فهم الصحابة الذين تلقوا عنه السنة قولا وعملا هذا المعنى، فقال جابر وابن عمر‏:‏ لا يقرب امرأته حتى يطوف بين الصفا والمروة‏.‏

واحتج ابن عمر فى ذلك بفعل النبى عليه السلام وإن كان عليه السلام غير معتمر، فمعنى ذلك أنه لم يُدخل بين الصواف والسعى عملا، ولا أباحه للمعتمرين الذين أمرهم بالإحلال حتى وصلوا سعيهم بطوافهم، وكذلك حلوا بمسيس الناسء والطيب وغير ذلك والله الموفق‏.‏

قال المهلب‏:‏ قولها‏:‏ ‏(‏فاعتمرت أنا واختى عائشة‏)‏‏.‏

بالإحرام بعمرة حين أمرهم عليه السلام أن يجعلوا إحرامهم بالحج عمرة، فثبتت أسماء على عمرتها، وحاضت عائشة فلم تطف بالبيت، وأمرها النبى عليه السلام أن ترفض ذكر العمرة، وأن تكون على ما كانت أبدأت الإحرام به من ذى الحليفة من الحج، وتركت العمرة التى كانت أحلت بها من سرف، فأخبرت أسماء عن نفسها وعن الزبير وفلان وفلان الذين أحلوا بمسح البيت بعمرة، ولم يدل ذلك أن عائشة مسحت البيت معهم؛ لثبوت أنها حاضت فمنعت العمرة، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم لها‏:‏ ‏(‏كونى على حجك عسى الله أن يرزقكيها غير ألا تطوفى بالبيت‏)‏ ومثله قول ابن عباس فى حرمة الفسخ‏:‏ طفنا بالبيت وأتينا النساء‏.‏

لأنه كان فى حجة الوداع صغيرًا قد ناهز الحلم، وقد قال‏:‏ توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين‏.‏

فكان فى حجة الوداع ابن ثمان أو نحوها ممن لا يأتى النساء، وكذلك قالت عائشة فى حديث الأسود‏:‏ فلما قدمنا تطوفنا بالبيت‏.‏

وهى لم تطف بالبيت حتى طهرت ورجعت من عرفة؛ لأنها قالت فيه‏:‏ ونساؤه لم يسقن الهدى فأحللن، فحضت فلم أطف بالبيت‏.‏

بعد أن قالت‏:‏ تطوفنا‏.‏

وعلى هذا التأويل يخرج قول من قال‏:‏ ‏(‏تمتع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه‏)‏ يعنى‏:‏ تمتع بأن أمر بذلك والله أعلم وقد تقدم معنى قولها‏:‏ ‏(‏فما مسحنا البيت أحللنا‏)‏ يريد بعد السعى بين الصفا والمروة، وعلى ذلك تأوله الفقهاء‏.‏