فصل: باب بَيْعِ النَّخْلِ بِأَصْلِهِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب بَيْعِ النَّخْلِ بِأَصْلِهِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏أَيُّمَا امْرِئٍ أَبَّرَ نَخْلاً، ثُمَّ بَاعَ أَصْلَهَا، فَلِلَّذِى أَبَّرَ ثَمَرُ النَّخْلِ، إِلاَ أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ‏)‏‏.‏

وقد تقدم الكلام فى الحديث قبل هذا، ونذكر هاهنا ما لم يمر فيه، اختلف قول مالك فيمن اشترى أصول النخل وفيها ثمر قد أبرها لم يشترطها فأجاز لمشترى النخل وحده أن يشتر الثمر قبل بدو صلاحها فى صفقة أخرى، كما كان له أن يشترطها فى صفقته، هذه رواية ابن القاسم، وكذلك مال العبد، وروى ابن وهب عن مالك أن ذلك لا يجوز فى الثمرة، ولا فى مال العبد له ولا لغيره، وهذا قول المغيرة وابن دينار وابن عبد الحكم، وهو قول الثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وهذا القول أولى؛ لعموم نهيه عليه السلام عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكذلك مالُ العبد هو شراء مجهول، فهو من بيع الغرر‏.‏

باب بَيْعِ الْجُمَّارِ وَأَكْلِهِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، كُنْتُ عِنْدَ النَّبِىِّ عليه السَّلام وَهُوَ يَأْكُلُ جُمَّارًا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ كَالرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ‏)‏، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ‏:‏ النَّخْلَةُ، فَإِذَا أَنَا أَحْدَثُهُمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هِىَ النَّخْلَةُ‏)‏‏.‏

بيع الجمار وأكله من المباحات التى لا اختلاف فيها بين العلماء، وكل ما انتفع به للأكل وغيره فجائز بيعه‏.‏

باب بَيْعِ الْمُخَاضَرَةِ

- فيه‏:‏ أَنَس، أنّ النَّبِىّ عليه السَّلام نَهَى عَنِ بيع الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُخَاضَرَةِ، وَالْمُلاَمَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس أَيْضًا، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ التَّمْرِ حَتَّى يَزْهُوَ، فَقُلْت لأَنَسٍ‏:‏ مَا يزَهْو‏؟‏ قَالَ‏:‏ تَحْمَرُّ وَتَصْفَرُّ- أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيكَ‏؟‏‏.‏

فى تفسير المحاقلة ثلاث أقوال‏:‏ فقال بعضهم‏:‏ هى بيع الزرع فى سنبله بالحنطة‏.‏

وقيل‏:‏ هى اكتراء الأرض بالحنطة‏.‏

وقيل‏:‏ هى المزارعة بالثلث والربع ونحوه، وهذا الوجه أشبه بها على طريق اللغة؛ لأن المحاقلة مأخوذة من الحقل والمفاعلة من اثنين فى أمر واحد كالمزراعة، ويقال للأرض التى تزرع‏:‏ المحاقل، كما يقال لها‏:‏ المزارع، عن الزجاجى‏.‏

والمخاضرة هى بيع الثمار وهى خضر لم يبد صلاحها، سميت بذلك من المفاعلة أيضًا؛ لأن المتبايعين تبايعا شيئًا أخضر‏.‏

وأجمع العلماء أنه لا يجوز بيع الثمار والزرع والبقول قبل بدو صلاحها على شرط التبقية إلى وقت طيها، ولا يجوز بيع الزرع أخضر إلا للقصيل وأكل الدواب، وكذلك أجمعوا أنه يجوز بيع البقول إذا قلعت من الأرض وانتفع بها وأحاط علمًا بها المشترى، ومن بيع المخاضرة‏:‏ شراؤها مغيبة فى الأرض كالفجل والكراث والبصل واللفت وشبهه، فأجاز شراءها مالك والأوزاعى، قال مالك‏:‏ ذلك إذا استقل ورقه وأمن، والأمان عنده أن يكون ما يقطع منه ليس بفساد‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ بيع المغيب فى الأرض جائز، وهو بالخيار إذا رآه‏.‏

قال الشافعى‏:‏ لا يجوز بيع مالا يرى، وهو عنده من بيوع الغرر‏.‏

وحجة من أجاز ذلك أنه لو قلعها ثم باعها لأضر ذلك به وبالناس؛ لأنهم إنما يأكلون ذلك أولاً أولاً، كما يأكلون الرطب والثمر ولا يقصدون بذلك الغرر، فإذا باعها على شىء يراه أو صفة توصف له جاز، فمتى جاء بخلاف الصفة أو الرؤية كان له رد ذلك بحصته، وإنما يجوز بيع ذلك كله على التبقية إذا كان قد طاب للأكل، كما يجوز بيع الثمرة على التبقية إذا طابت للأكل‏.‏

واختلفوا فى بيع القثاء والبطيخ وما يأتى بطنا بعد بطن، فقال مالك‏:‏ يجوز بيعه إذا بدا صلاحه، ويكون للمشترى ما ينبت حتى ينقطع ثمره؛ لأن وقته معروف عند الناس‏.‏

وقال أبو حنيفة والشافعى‏:‏ لا يجوز بيع بطن منه إلا بعد طيبه كالبطن الأولى، وهو عندهم من بيع ما لم يخلق‏.‏

وجعله مالك كالثمرة إذا بدا صلاح أولها، جاز بيع ما بدا صلاحه وما لم يبد؛ لحاجتهم إلى ذلك، ولو منعوا منه لأضر بهم؛ لأن ما تدعو إليه الضرورة يجوز فيه بعض الغرر، ألا ترى أن الظئر تكرى لأجل لبنها الذى لم يخلق ولم يوجد إلا أوله، ولا يدرى كم يشرب الصبى منه أولاً، كذلك لو اكترى عبدًا يخدمه لكانت المنفعة التى وقع عليها العقد لم تخلق، وإنما تحدث أولاً أولاً، ولو مات العبد لوقعت المحاسبة على ما حصل من المنفعة، فَجُوَز ذلك لحاجة الناس إليه، فيبع ما لم يخلق، وقد جرت العادة فى الأغلب إذا كان الأصل سليمًا من الآفات أن تتبايع بطونه وتتلاحق، وعدم مشاهدته لا يدل على بطلان بيعه، بدليل بيع الجوز واللوز فى قشرهما، وفساده لا يبين من خارج، ولو كان مقشورًا مغطى بشىء غير قشره لم يصح بيعه‏.‏

باب مَنْ أَجْرَى أَمْرَ الأَمْصَارِ عَلَى مَا يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ فِى الْبُيُوعِ وَالإِجَارَةِ وَالْمِكْيَالِ وَالْوَزْنِ وَسُنَتِهِمْ عَلَى نِيَّاتِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمُ الْمَشْهُورَةِ

وَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْغَزَّالِينَ‏:‏ سُنَّتُكُمْ بَيْنَكُمْ ‏[‏رِبْحًا‏]‏‏.‏

وقال عَبْدُالْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ‏:‏ لاَ بَأْسَ الْعَشَرَةُ بِأَحَدَ عَشَرَ، وَيَأْخُذُ لِلنَّفَقَةِ رِبْحًا‏.‏

وقال النَّبِىُّ عليه السَّلام لِهِنْدٍ‏:‏ ‏(‏خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ‏)‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ‏(‏وَاكْتَرَى الْحَسَنُ مِنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مِرْدَاسٍ حِمَارًا، فَقَالَ‏:‏ بِكَمْ‏؟‏ قَالَ بِدَانَقَيْنِ، فَرَكِبَهُ، ثُمَّ جَاءَه مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ‏:‏ الْحِمَارَ الْحِمَارَ، فَرَكِبَهُ، وَلَمْ يُشَارِطْهُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، حَجَمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبُو طَيْبَةَ، فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام لهِنْدٍ حين قَالَتْ له‏:‏ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَهَلْ عَلَىَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ سِرًّا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏خُذِى أَنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بِالْمَعْرُوفِ‏)‏‏.‏

- وَقَالَتْ عَائِشَةَ‏:‏ ‏(‏وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ‏(‏أُنْزِلَتْ فِى وَالِى الْيَتِيمِ الَّذِى يُقِيمُ عَلَيْهِ، وَيُصْلِحُ فِى مَالِهِ، إِنْ كَانَ فَقِيرًا أَكَلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ‏.‏

العرف عند الفقهاء أمر معمول به، وهو كالشرط اللازم فى البيوع وغيرها، ولو أن رجلا وكل رجلا على بيع سلعة، فباعها بغير النقد الذى هو عرف الناس لم يجز ذلك، ولزمه النقد الجارى، وكذلك لو باع طعامًا موزونًا أو مكيلاً بغير الوزن أو الكيل المعهود لم يجز، و لزمه الكيل المعهود المتعارف من ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ يأخذ للعشرة أحد عشر، يعنى‏:‏ لكل عشرة دينار من رأس المال ربح دينار‏.‏

واختلف العلماء فى ذلك، فأجازه قوم وكرهه آخرون، وممن كرهه‏:‏ ابن عباس، وابن عمر، ومسروق، والحسن، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال أحمد‏:‏ البيع مردود‏.‏

وأجازه سعيد ابن المسيب والنخعى، وهو قول مالك والثورى والكوفيين والأوزاعى‏.‏

وحجة من كرهه‏:‏ لأنه عنده بيع مجهول إلا أن يعلم عدد العشرات، فيعلم عدد ربحها، ويكون الثمن كله معلومًا‏.‏

وحجة من أجازه‏:‏ بأن الثمن معلوم، فالربح معلوم‏.‏

وأصل هذا الباب بيع الصبرة كل قفيز بدرهم، ولا يعلم مقدار ما فى الصبرة من الطعام، فأجازه قوم وأباه آخرون، ومنهم من قال‏:‏ لا يلزمه منه إلا القفيز الواحد، ومن البيع العشرة الواحدة‏.‏

واختلفوا فى النفقة هل يأخذ لها ربحًا فى بيع المرابحة‏؟‏ فقال مالك‏:‏ لا يؤخذ فى النفقة ربح إلا فيما له تأثير فى السلعة وعين قائمة كالصبغ والخياطة والكمد فهذا كله يحسب فى أصل المال ويحسب له ربح، لأن تلك المنافع كأنها سلعة ضمت إلى سلعة، قال مالك‏:‏ ولا يحسب فى المرابحة أجر السماسرة، ولا أجر الشد والطى ولا النفقة على الرقيق، ولا كراء البيت، وإنما يحسب هذا فى أصل المال، ولا يحسب له ربح، وأما كراء البز فيحسب له الربح، لأنه لابد منه، ولا يمكنه حمله ببدنه من بلد إلى بلد، فإن أربحه المشترى على ما لا تأثير له جاز إذا رضى بذلك، فإن لم يبين البائع للمشترى ذلك، وأجمل البيع، كان للمشترى رد ذلك كله إن شاء، لأن البائع قد غره‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ يحسب فى المرابحة أجر القصارة، وكراء البيت، وأجر السمسرة، ونفقة الرقيق وكسوتهم، ويقول‏:‏ قام على بكذا وكذا‏.‏

وأما أجرة الحجام فأكثر العلماء يجيزونها، هذا إذا كان الذى يعطاه مما يرضى به، فإن أعطى ما لا يرضى به فلا يلزم، ورد إلى عرف الناس، ومما يدل على أن العرف سنة جارية قوله- عليه السلام- لهند‏:‏ ‏(‏خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف‏)‏‏.‏

فأطلق لها أن تأخذ من متاع زوجها ما تعلم أن نفسه تطيب لها بمثله، وكذلك أطلق الله لولى اليتيم أن يأكل من ماله بالمعروف‏.‏

باب بَيْعِ الشَّرِيكِ مِنْ شَرِيكِهِ

- فيه‏:‏ جَابِر، جَعَلَ الرسول صلى الله عليه وسلم الشُّفْعَةَ فِى كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فَلاَ شُفْعَةَ‏.‏

وترجم له ‏(‏باب بيع الأرض والعروض مشاعًا غير مقسوم‏)‏‏.‏

بيع الشريك من الشريك فى كل شىء مشاع جائز، وهو كبيعه من الأجنبى، فإن باعه من الأجنبى فللشريك الشفعة لعلة الإشاعة، وخوف دخول ضرر الدخيل عليه، وإن باعه من شريكه ارتفعت الشفعة، وإذا كان للشريك الأخذ بالشفعة بالسنة الثابتة عن النبى- عليه السلام- فعلى البائع إذا أحب البيع ألا يبيع من أجنبى حتى يستأذن شريكه، وقد روى هذا عن النبى- عليه السلام- من حديث سفيان عن أبى الزبير، عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏من كانت له شركة فى أرض أو ربعة فليس له أن يبيع حتى يستأذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك‏)‏‏.‏

وأما بيع العروض مشاعًا فأكثر العلماء أنه لا شفعة فيها، وإنما الشفعة فى الدور والأرض خاصة، هذا قول عطاء والحسن وربيعة والحكم وحماد، وبه قال مالك والثورى والكوفيون والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق‏.‏

وروى عن عطاء أنه قال‏:‏ الشفعة فى كل شىء حتى فى الثوب وإذا اختلف فيها قول عطاء فكأنه لم يأت عنه فيها شىء، فهو كالإجماع أنه لا شفعة فى العروض والحيوان، قاله ابن المنذر‏.‏

باب إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَرَضِىَ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، ‏[‏عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ‏]‏‏:‏ ‏(‏خَرَجَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ، فَأَصَابَهُمُ الْمَطَرُ، فَدَخَلُوا فِى غَارٍ فِى جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

‏(‏فَقَالَ الثالث‏:‏ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقٍ مِنْ ذُرَةٍ، فَأَعْطَيْتُهُ فَأَبَى فَعَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ حَتَّى اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ‏:‏ يَا عَبْدَاللَّهِ، أَعْطِنِى حَقِّى‏؟‏ فَقُلْتُ‏:‏ انْطَلِقْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرَاعِيهَا، ‏[‏فَإِنَّهَا لَكَ‏]‏، فَقَالَ‏:‏ أَتَسْتَهْزِئُ بِى‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَقُلْتُ‏:‏ مَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، وَلَكِنَّهَا لَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا، فَكُشِفَ عَنْهُمْ‏)‏‏.‏

أجمع الفقهاء أنه لا يلزم شراء الرجل لغيره بغير إذنه إلا حتى يعلمه ويرضى به فيلزمه بعد الرضا به إذا أحاط علمًا به، واختلف ابن القاسم وأشهب فى مسألة من هذا الباب، إذا أودع رجل رجلاً طعامًا فباعه المودع بثمن، فرضى المودع، فقال ابن القاسم‏:‏ له الخيار، إن شاء أخذ مثل طعامه من المودع، وإن شاء أخذ الثمن الذى باعه به‏.‏

وقال أشهب‏:‏ إن رضى بذلك فلا يجوز؛ لأنه طعام بطعام فيه خيار‏.‏

وهذا الحديث دليل على صحة قول ابن القاسم؛ لأن فيه أن الذى كان ترك الأجير‏:‏ فرق ذرة، وأنه زرعه له الذى بقى عنده حتى صار منه بقر وراعيها فلو كان خيار صاحب الطعام يحرم عليه الطعام، ما جاز له أخذ البقر وراعيها لأن أصلها كان من ذلك الفرق المزروع له بغير علمه، وقد رضى النبى- عليه السلام- بذلك وأقره، وأخبر أن الذى انطبق عليه الغار توسل بذلك إلى ربه، ونجاه به، فدل هذا الحديث أنه لم يكن أخذ الأجير للبقر وراعيها لازمًا إلا بعد رضاه بذلك لقوله‏:‏ ‏(‏أتستهزئ بى‏؟‏‏)‏ وإنكاره ما بذل له عوضا من الفرق، ولذلك عظمت المثوبة فى هذه القصة، وظهرت هذه الآية الشنيعة من أجل تطوع الزارع للفرق بما بذل له، وأنه فعل أكثر مما كان يلزمه فى تأدية ما عليه، فشكر الله له ذلك‏.‏

وقد اختلف العلماء فى الطعام المغصوب يزرعه الغاصب، فذكر ابن المنذر أن قول مالك والكوفيين‏:‏ أن الزرع للغاصب، وعليه مثل الطعام الذى غصب؛ لأن كل من تعدى على كل ماله مثل فليس عليه غير مثل الشىء المتعدى عليه، غير أن الكوفيين قالوا‏:‏ إن زيادة الطعام حرام على الغاصب لا تحل له، وعليه أن يتصدق به، وقال أبو ثور‏:‏ كل ما أخرجت الأرض من الحنطة فهو لصاحب الحنطة، وسيأتى اختلافهم فيمن تعدى على ذهب أو ورق، فتجر فيه بغير إذن صاحبه فى كتاب الإجارة فى باب من استأجر أجيرًا فترك الأجير أجره، فعمل فيه المستأجر فزاد فى حديث ابن عمر بعد هذا- إن شاء الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يتضاغون عند رجلى‏)‏‏.‏

قال صاحب العين‏:‏ يقال‏:‏ ضغا يضغوا ضغوًا، أضغيته‏:‏ وهو صوت الذليل‏.‏

باب الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ

- فيه‏:‏ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، قَالَ‏:‏ كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ عليه السَّلام ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ له النَّبىُّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً- أَوْ قَالَ‏:‏ أَمْ هِبَةً‏)‏ فَقَالَ‏:‏ لاَ، بَلْ بَيْعٌ، فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً‏.‏

الشراء والبيع من الكفار كلهم جائز، إلا أن أهل الحرب لا يباع منهم ما يستعينون به على إهلاك المسلمين من العدة والسلاح، ولا ما يقوون به عليهم‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ واختلف العلماء فى مبايعة من الغالب على ماله الحرام وقبول هداياه وجوائزه، فرخصت طائفة فى ذلك، كان الحسن البصرى لا يرى بأسا أن يأكل الرجل من طعام العشار والصراف والعامل، ويقول‏:‏ قد أحل الله طعام اليهود والنصار، وأكله أصحاب رسول الله، وقد قال تعالى فى اليهود‏:‏ ‏(‏أكالون للسحت‏}‏‏.‏

وقال مكحول والزهرى‏:‏ إذا اختلط المال وكان فيه الحلال والحرام، فلا بأس أن يؤكل منه، وإنما كره من ذلك الشىء الذى يعرفه بعينه‏.‏

وقال الحسن‏:‏ لا بأس ما لم يعرفوا شيئًا بعينه‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ لا يجب مبايعة من أكثر ماله ربا أو كسبه من حرام، وإن بايعه لم أفسخ البيع لأن هؤلاء قد يملكون حلالاً، ولا يحرم إلا حرامًا بينا، إلا أن يشترى الرجل حراما بينًا يعرفه، والمسلم والذمى والحربى فى هذا سواء‏.‏

وحجة من رخص فى ذلك قوله- عليه السلام- للمشرك المشعان فى الغنم‏:‏ ‏(‏أبيعًا أم عطية أم هبة‏)‏‏؟‏ قال ابن المنذر‏:‏ وأيضًا فإن النبى- عليه السلام- رهن درعه عند يهودى قال‏:‏ وكان ابن عمر وابن عباس يأخذان هدايا المجتار، وبعث عمر بن عبد الله بن معمر إلى ابن عمر بألف دينار، والى القاسم بن محمد بألف دينار، فأخذها ابن عمر وقال‏:‏ وصلته رحم، لقد جاءتنا على حاجة، وأبى أن يقبلها القاسم، فقالت امرأته‏:‏ إن لم تقبلها فأنا ابنة عمه كما هو ابن عمه، فأخذتها، وقال عطاء‏:‏ بعث معاوية إلى عائشة بطوق من ذهب فيه جوهر، فقوم بمائة ألف فقسمته بين أزواج النبى- عليه السلام‏.‏

وكرهت طائفة الأخذ منهم، روى ذلك عن مسروق وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد و بشير بن سعيد وطاوس وابن سيرين وسفيان الثورى وابن المبارك وابن المبارك ومحمد بن واسع وأحمد بن حنبل، وأخذ ابن المبارك قذاة من الأرض فقال‏:‏ من أخذ منهم مثل هذه فهو منهم‏.‏

وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الزكاة فى باب من أعطاه الله شيئا من غير مسألة ولا إشراف نفس‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله عليه السلام للمشرك‏:‏ ‏(‏أبيعا أم عطية أم هبة‏؟‏‏)‏ فإنما قال ذلك على معنى أن يثيبه لو كانت هدية، لا أنه كان يقبلها منه دون إثابة عليها، كما فعل عليه السلام بكل من هاداه من المشركين، وسيأتى حكم هدية المشركين فى كتاب الهبة فى باب ‏(‏قبول الهدية من المشركين إن شاء الله‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ قصد الرؤساء وكبراء الناس بالسلع لاستجزال الثمن‏.‏

وفيه‏:‏ أن ابتياع الأشياء من مجهول الناس ومن لا يعلم حاله بعفاف أو غيره جائز حتى يطلع على ما يلزم الورع عنه، أو يوجب ترك مبايعته لغصب أو سرقة أو غير ذلك، قال ابن المنذر‏:‏ لأن من بيده الشىء فهو مالكه على الظاهر، ولا يلزم المشترى أن يعلم حقيقة ملكه له بحكم اليد‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ يقال‏:‏ شعر مشعان، إذا كان منتفشًا، ورجل مشعان الرأس‏.‏

باب شِرَاءِ الْمَمْلُوكِ مِنَ الْحَرْبِىِّ وَهِبَتِهِ وَعِتْقِهِ

وَقَالَ عليه السَّلام لِسَلْمَانَ‏:‏ ‏(‏كَاتِبْ‏)‏، وَكَانَ حُرًّا فَظَلَمُوهُ وَبَاعُوهُ، وَسُبِىَ عَمَّارٌ وَصُهَيْبٌ وَبِلاَلٌ، وَقَالَ اللَّهُ تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الرِّزْقِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ‏}‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبىُّ عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَم بِسَارَةَ، فَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ- أَوْ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ- فَقِيلَ‏:‏ دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ بِامْرَأَةٍ هِىَ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ مَنْ هَذِهِ الَّتِى مَعَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أُخْتِى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا، فَقَالَ‏:‏ لاَ تُكَذِّبِى حَدِيثِى، فَإِنِّى أَخْبَرْتُهُمْ أَنَّكِ أُخْتِى، وَاللَّهِ إِنْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ مُؤْمِنٌ غَيْرِى وَغَيْرُكِ، فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ فَقَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّى، فَقَالَتِ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، وَأَحْصَنْتُ فَرْجِى إِلاَ عَلَى زَوْجِى، فَلاَ تُسَلِّطْ عَلَىَّ الْكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ- قَالَ الأَعْرَجُ‏:‏ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ‏:‏ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ‏:‏ قَالَتِ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ يُقَالُ هِىَ قَتَلَتْهُ- فَأُرْسِلَ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ تُصَلِّى، وَتَقُولُ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، وَأَحْصَنْتُ فَرْجِى إِلاَ عَلَى زَوْجِى، فَلاَ تُسَلِّطْ عَلَىَّ هَذَا الْكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ- قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ‏:‏ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ‏:‏ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ فَقَالَتِ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ، فَيُقَالُ‏:‏ هِىَ قَتَلَتْهُ- فَأُرْسِلَ فِى الثَّانِيَةِ، أَوْ فِى الثَّالِثَةِ، فَقَالَ‏:‏ وَاللَّهِ مَا أَرْسَلْتُمْ إِلَىَّ إِلاَ شَيْطَانًا، ارْجِعُوهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَعْطُوهَا آجَرَ، فَرَجَعَتْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَم، فَقَالَتْ‏:‏ أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ كَبَتَ الْكَافِرَ، وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتِ‏:‏ اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِى غُلاَمٍ، فَقَالَ سَعْدٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هذا ابْنُ أَخِى عُتْبَةُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ أَنَّهُ ابْنُهُ انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ‏:‏ هَذَا أَخِى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِى مِنْ وَلِيدَتِهِ، فَنَظَرَ النَّبِىّ عليه السَّلام إِلَى شَبَهِهِ فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِى مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ، فَلَمْ تَرَهُ سَوْدَةُ قَطُّ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، أنه قَالَ لِصُهَيْبٍ‏:‏ اتَّقِ اللَّهَ، وَلاَ تَدَّعِ إِلَى غَيْرِ أَبِيكَ، فَقَالَ صُهَيْبٌ‏:‏ مَا يَسُرُّنِى أَنَّ لِى كَذَا وَكَذَا، وَأَنِّى قُلْتُ ذَلِكَ، وَلَكِنِّى سُرِقْتُ وَأَنَا صَبِىٌّ‏.‏

- وفيه‏:‏ حَكِيم، قلت‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صِلَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصَدَقَةٍ، هَلْ لِى فِيهَا أَجْرٌ‏؟‏ قَالَ حَكِيمٌ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ‏)‏‏.‏

غرض البخارى فى هذا الباب- والله أعلم- إثبات ملك الحربى والمشرك، وجواز تصرفه فى ملكه بالبيع والهبة والعتق، وجميع ضروب التصرف؛ إذ قد أقر النبى- عليه السلام- سلمان عند مالكه من الكفار، فلم يُزِل ملكه عنه، وأمره أن يكاتب، و قد كان حرا وأنهم ظلموه وباعوه، ولم ينقض ذلك ملك مالكه، وكذلك كان أمر عمار وصهيب وبلال، باعهم مالكوهم الكفار من المسلمين، واستحقوا أثمانهم وصارت ملكًا لهم، ألا ترى أن إبراهيم- عليه السلام- قبل هبة الملك الكافر، وأن عبد بن زمعة قال للنبى‏:‏ هذا ابن أمة أبى ولد على فراشه؛ فأثبت لأبيه أمة وملكًا عليه فى الجاهلية، فلم ينكر ذلك النبى- عليه السلام- وسماعه الخصام فى ذلك دليل على تنفيذ عهد المشرك، والحكم له إن تحوكم فيه إلى المسلمين، وكذلك جوز عليه السلام عتق حكيم بن حزام وصدقته فى الجاهلية، ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله فضل بعضكم‏}‏ الآية، فالآية تضمنت التقريع للمشركين والتوبيخ لهم على تسويتهم عبادة الأصنام بعبادة الله، فنبههم الله أن مماليكهم غير مساوين لهم فى أموالهم، فالله تعالى أولى بإفراد العبادة وألا يشرك معه أحد من عبيده، إذ لا ملك على الحقيقة، ولا مستحق للإلهية غيره عز وجل‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ كيف جاز لليهودى ملك سلمان وهو مسلم، ولا يجوز للكافر ملك مسلم‏؟‏ فالجواب‏:‏ إن حكم النبى- عليه السلام- وشريعته أن من غلب من أهل الحرب على نفسه غيره أو ماله، ولم يكن المغلوب على ذلك ممن دخل فى صبغة الإسلام، فهو لغالبه ملكًا، وكان سلمان حين غلب على نفسه لم يكن مؤمنا، وإنما كان إيمانه تصديق بالنبى- عليه السلام- إذا بعث، مع إقامته على شريعة عيسى- عليه السلام- فأقره عليه السلام مملوكا لمن كان فى يده، إذ كان فى حكمه عليه السلام أن من أسلم من رقيق المشركين فى دار الحرب، ولم يخرج مراغمًا لسيده فهو لسيده، أو كان سيده من أهل صلح المسلمين، فهو مملوك لمالكه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى حديث إبراهيم عليه السلام من الفقه‏:‏ إباحة المعاريض، وأنها لمندوحة عن الكذب‏.‏

وفيه‏:‏ أن أخوة الإسلام أخوة يجب أن يسمى بها‏.‏

وفيه‏:‏ الرخصة فى الانقياد للظالم والغاصب‏.‏

وفيه‏:‏ قبول صلة السلطات الظالم‏.‏

وفيه‏:‏ إجابة الدعوة بإخلاص النية، وكفاية الله- جل ثناؤه وتقدست أسماؤه- لمن أخلصها بما يكون نوعًا من الآيات، وزيادة فى الإيمان، وتقوية عل التصديق والتسليم والتوكل‏.‏

وقوله‏:‏ فغط، يقال‏:‏ غط غطيطًا‏:‏ صوت فى نومه، من كتاب الأفعال‏.‏

وقوله‏:‏ كبت الله الكافر- يعنى‏:‏ صرعه لوجهه- وكبت الله العدو‏:‏ أهلكه من الأفعال‏.‏

باب جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْبَغَ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَلاَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا‏؟‏‏)‏ قَالُوا‏:‏ إِنَّهَا مَيِّتَةٌ، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا‏)‏‏.‏

قد تقدم اختلاف العلماء فى جلود الميتة، وأن جمهور العلماء على جواز بيعها والانتفاع بها بعد دباغها فى كتاب الذبائح، فأغنى عن إعادته- والحمد لله‏.‏

باب قَتْلِ الْخِنْزِيرِ

وَقَالَ جَابِرٌ‏:‏ حَرَّمَ النَّبِىُّ عليه السَّلام بَيْعَ الْخِنْزِيرِ - فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ‏)‏‏.‏

أجمع العلماء على أن بيع الخنزير وشراءه حرام، واجمعوا على قتل كل ما يستضر به ويؤذى مما لا يبلغ أذى الخنزير، كالفواسق التى أمر النبى المحرم بقتلها، فالخنزير أولى بذلك، لشدة أذاه، ألا ترى أن عيسى ابن مريم يقتله عند نزوله، فقتله واجب‏.‏

وفيه دليل أن الخنزير حرام فى شريعة عيسى، وقتله له تكذيب للنصارى أنه حلال فى شريعتهم‏.‏

واختلف العلماء فى الانتفاع بشعره، فكرهه ابن سيرين والحكم، وهو قول الشافعى وأحمد وإسحاق‏.‏

وقال الطحاوى عن أصحابه‏:‏ لا ينتفع من الخنزير بشىء، ولا يجوز بيع شىء منه، ويجوز للخرازين أن ينتفعوا بشعره أو شعرتين للخرازة، ورخص فيه الحسن وطائفة‏.‏

وذكر ابن خواز بنداد عن مالك أنه قال‏:‏ لا بأس بالخرازة بشعر الخنزير، قال‏:‏ فيجئ على هذا أنه لا بأس ببيعه وشرائه‏.‏

وقال الأوزاعى‏:‏ يجوز للخراز أن يشتريه، ولا يجوز له بيعه‏.‏

وقال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية‏)‏ يدل أن الناس كلهم يدخلون فى الإسلام، ولا يبقى من يخالفه- والله أعلم‏.‏

باب لاَ يُذَابُ شَحْمُ الْمَيْتَةِ وَلاَ يُبَاعُ وَدَكُهُا

رَوَاهُ جَابِرٌ عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ فُلاَنًا بَاعَ خَمْرًا، فَقَالَ‏:‏ قَاتَلَ اللَّهُ فُلاَنًا، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا‏؟‏‏)‏‏.‏

أجمع العلماء على تحريم بيع الميتة، لتحريم الله تعالى لها بقوله‏:‏ ‏(‏حرمت عليكم الميتة والدم ‏(‏قال الطبرى‏:‏ فإن قيل‏:‏ ما وجه قوله فى بيع الخمر‏:‏ ‏(‏لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها‏)‏ وأنت تعلم أن أشياء كثيرة حرم الله أكلها ولم تحرم أثمانها، كالحمر الأهلية وسباع الطير كالعقبان والبزاة وشبهها‏؟‏ قلت‏:‏ المعنى الذى خالف بينهما مع اشتباههما فى الوجه الذى وصفت بين، وهو أن الله تعالى جعل الخمر والخنزير نجسين، فحكمهما فى أنه لا يحل بيعهما ولا شراؤهما، ولا أكل أثمانهما حكم سائر النجاسات من الميتة والدم والعذرة والبول، وذلك هو المعنى الذى مثل به بائع الخمر وآكل ثمنها بالبائع من اليهود الشحوم وآكل أثمانها، إذ كانت الشحوم حرام أكلها على اليهود، نجسة عندهم نجاسة الخمر والميتة فى ديننا، فكان بائعها منهم وآكل ثمنها نظير بائع الخمر والخنزير منا وآكل ثمنها، فالواجب أن يكون كل ما كان نجساُ حرام بيعه وشراؤه، وأكل ثمنه، وكل ما حرم أكله وهو طاهر، فحلال بيعه وشراؤه، والانتفاع به فيما لم يحظر الله تعالى الانتفاع به، فبان الفرق بينهما‏.‏

قال المؤلف‏:‏ واختلف العلماء فى جواز بيع العذرة والسرقين، فكره مالك والكوفيون بيع العذرة، وقالوا‏:‏ لا خير فى الانتفاع بها وأجاز الكوفيون بيع السرقين‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وزبل الدواب عند مالك نجس، فينبغى أن يكون كالعذرة، وأما بعر الإبل وخثى البقر فلا بأس ببيعه عند مالك، وقال الشافعى‏:‏ لا يجوز بيع العذرة ولا الروث، ولا شىء من الأنجاس‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد جرت عادت الناس بالانتفاع بالسرقين وإن كان نجسا وتمريغ دوابهم فيه، وخلطه بالطين والبناء للفخار، ولوقود النيران غير منكر ذلك عندهم، فهون من النجاسات التى أبيح الانتفاع بها، فدل أنها مملوكة، وأن على مستهلكها ضمانها، فكان دلادلة على أنه يجوز بيعه؛ لأنه مال، وإذا كان كذلك فالحاجة إلى العذرة قائمة فى الانتفاع بها للأرضين‏.‏

فوجب أن تكون كذلك، وفى سماع ابن القاسم أنه سئل عن قوم لهم خربة فرمى الناس فيها زبلاً، فأرادوا ضربه طوبًا وبيعه، ليعمروا به تلك الأرض، قال‏:‏ ذلك لهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فجملوها‏)‏، يعنى أذابوها، يقال‏:‏ جملت الشحم أجمله جملاً واجتملته، وإذا أذبته، والجميل‏:‏ الودك‏.‏

باب بَيْعِ التَّصَاوِيرِ الَّتِى لَيْسَ فِيهَا أَرْوَاحٌ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ‏:‏ إن مَعِيشَتِى مِنْ صَنْعَةِ يَدِى، وَإِنِّا أَصْنَعُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ لاَ أُحَدِّثُكَ إِلاَ مَا سَمِعْتُ من رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏مَنْ صَوَّرَ صُورَةً، فَإِنَّ اللَّهَ مُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا‏)‏، فَرَبَا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً، وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ‏:‏ وَيْحَكَ، إِنْ أَبَيْتَ إِلاَ أَنْ تَصْنَعَ فَعَلَيْكَ بِهَذَهِ الشَّجَرِةِ كُلِّ شَىْءٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما كره هذا من أجل أن الصور التى فيها الأرواح كانت معبودة فى الجاهلية، فكرهت كل صورة وإن كانت لا فىء لها ولا جسم؛ قطعًا للذريعة، حتى إذا استوطن أمر الإسلام وعرف الناس من أمر الله وعبادته ما لا يخاف عليهم فيه من الأصنام والصور، أرخص فيما كان رقمًا أو صبغًا إذا وضع موضع المهنة، وإذا نصب نصب العبادة، وسأتقصى ما للعلماء فى الصور فى كتاب الزينة- إن شاء الله‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ يقال ربا الرجل أصابه نفس فى جوفه، وهو الربو والرَّبوة والرِّبوة‏.‏

باب تَحْرِيمِ التِّجَارَةِ فِى الْخَمْرِ

وقال جابر‏:‏ حرم النبى عليه السلام بيع الخمر‏.‏

- وفيه عائشة‏:‏ لَمَّا نَزَلَتْ آيَاتُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَنْ آخِرِهَا، خَرَجَ النَّبِىُّ عليه السَّلام فَقَالَ‏:‏ ‏(‏حُرِّمَتِ التِّجَارَةُ فِى الْخَمْرِ‏)‏‏.‏

الأمة مجمعة على تحريم بيع الخمر، كما أجمعوا على تحريم شربها والانتفاع بها، واختلفوا فى تخليلها، واختلف قول مالك فى ذلك أيضًا، فروى عنه ابن وهب وابن القاسم‏:‏ أنه لا يحل لمسلم أن يخلل الخمر، ولكن يهريقها، فإن صارت خلا بغير علاج فهى حلال، وهو قياس قول الشافعى، وروى ابن القاسم عن مالك أنه إن خللها جاز أكلها وبيعها، وبئس ما صنع‏.‏

وروى عن أشهب‏:‏ إن خللها النصارى فلا بأس بأكلها، وكذلك إن خللها مسلم واستغفر الله، وهو قول الليث‏.‏

وأجاز الثورى والأوزاعى وأبو حنيفة وأصحابه تخليل الخمر، ولا بأس أن يطرح فيها السمك والملح فيصير مريا إذا تحولت عن حال الخمر‏.‏

واحتج الشافعى بما روى الثورى عن السدى، عن أبى هريرة قال‏:‏ ‏(‏جاء رجل إلى النبى وفى حجره يتيم، وكان عنده خمر له حين حرمت الخمر، فقال‏:‏ يا رسول الله، نصنعها خلا‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏.‏

فصبها حتى سال الوادى‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ واحتمل نهى النبى- عليه السلام- أن تجعل خلا وأمره بالإراقة معان‏:‏ أحدها‏:‏ أن يكون نهيًا عن التخليل، ولا دلالة فيه بعد ذلك على حظر ذلك الخل الكائن منها، واحتمل أن يكون مراده تحريم ذلك الخل، ويحتمل أن يكون أراد التغليظ وقطع العادة؛ لقرب عهدهم بشرب الخمر‏.‏

واحتج الكوفيون بما روى أبو إدريس الخولانى أن أبا الدرداء كان يأكل المرى الذى جعل فيه الخمر، ويقول‏:‏ دبغته الشمس والملح‏.‏

قالوا‏:‏ وكما لا يختلف حكم جلد الميتة فى دبغه بعلاج آدمى وغيره، كذلك استحالة الخمر خلا‏.‏

باب إِثْمِ مَنْ بَاعَ حُرًّا

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏قَالَ اللَّهُ‏:‏ ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏:‏ رَجُلٌ أَعْطَى بِى، ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا، ثُمَّ أَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏أعطى بى ثم غدر‏)‏ يريد نقض عهدًا عاهده عليه، وقوله‏:‏ ‏(‏استأجر أجيرا فلم يعطه أجره‏)‏، هو داخل فى معنى من باع حرًا؛ لأنه استخدمه بغير عوض، وهذا عين الظلم، وإنما عظم الإثم فيمن باع حرا؛ لأن المسلمين أكفاء فى الحرمة والذمة، وللمسلم على المسلم أن ينصره ولا يظلمه، وأن ينصحه ولا يسلمه، وليس فى الظلم أعظم من أن يستعبده أو يعرضه لذلك، ومن باع حرا فقد منعه التصرف فيما أباح الله له، وألزمه حال الذلة والصغار، فهو ذنب عظيم، ينازع الله به فى عبادة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وكل من لقيت من أهل العلم على أنه من باع حرا أنه لا قطع عليه ويعاقب، ويروى عن ابن عباس قال‏:‏ يرد البيع ويعاقبان‏.‏

وروى جلاس عن على أنه قال‏:‏ تقطع يده‏.‏

والصواب قول الجماعة؛ لأنه ليس بسارق، ولا يجوز قطع غير السارق‏.‏

باب أَمْرِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم الْيَهُودَ بِبَيْعِ أَرضهم حتى أَجْلاَهُمْ

- فيه‏:‏ الْمَقْبُرىُّ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ‏.‏

باب بَيْعِ الْعَبِيدِ وَالْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً

وَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ رَاحِلَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ، يُوفِيهَا صَاحِبَهَا بِالرَّبَذَةِ‏.‏

وقال ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ قَدْ يَكُونُ الْبَعِيرُ خَيْرًا مِنَ الْبَعِيرَيْنِ‏.‏

وَاشْتَرَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ، فَأَعْطَاهُ أَحَدَهُمَا، وَقَالَ‏:‏ آتِيكَ بِالآخَرِ غَدًا رَهْوًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وقال ابْنُ الْمُسَيَّبِ‏:‏ لاَ رِبَا فِى الْحَيَوَانِ الْبَعِيرُ بِالْبَعِيرَيْنِ، وَالشَّاةُ بِالشَّاتَيْنِ إِلَى أَجَلٍ‏.‏

وقال ابْنُ سِيرِينَ‏:‏ لاَ بَأْسَ بِبَعِيرٍ بِبَعِيرَيْنِ نَسِيئَةً، وَدرهم بِدرهم نَسِيئَةً‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ‏:‏ كَانَ فِى السَّبْىِ صَفِيَّةُ، فَصَارَتْ إِلَى دَحْيَةَ الْكَلْبِىِّ، ثُمَّ صَارَتْ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام‏.‏

قال المؤلف‏:‏ حديث المقبرى عن أبى هريرة الذى أشار إليه البخارى فى هذا الباب، قد ذكره فى آخر كتاب الجهاد، فى باب‏:‏ إخراج اليهود من جزيرة العرب، قال أبو هريرة‏:‏ ‏(‏بينا نحن فى المسجد خرج النبى- عليه السلام- فقال‏:‏ انطلقوا إلى يهود، فخرجنا حتى جئنا بيت المدراس، فقال‏:‏ أسلموا، واعلموا أن الأرض لله ولرسوله، وإنى أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله ثمنًا فليبعه، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ولرسوله‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وهؤلاء اليهود الذين أجلاهم النبى- عليه السلام- هم بنو النضير، وذلك أنهم أرادوا الغدر برسول الله، وأن يلقوا عليه حجرًا، فأوحى الله إليه بذلك، فأمر بإجلائهم، وأن يسيروا حيث شاءوا، فلما سمع المنافقون بذلك بعثوا إلى بنى النضير‏:‏ اثبتوا وتمنعوا؛ فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا بذلك لنصرهم فلم يفعلوا، وقذف الله فى قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله أن يجليهم، ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلفة، ففعل، فاحتملوا ذلك وخرجوا إلى خيبر، وخرج أكثرهم إلى الشام، وخلوا الأموال لرسول الله، فكانت له خاصة يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول الله على المهاجرين دون الأنصار فى حديث طويل ذكره ابن إسحاق ‏,‏ قال المؤلف‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ هذا معارض لحديث المقبرى عن أبى هريرة؛ لأن فيه أن النبى- عليه السلام- أمرهم ببيع أرضهم، وفى حديث ابن إسحاق أنهم تركوا أرضهم دون عوض، وحلت لرسول الله فما وجه ذلك‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن النبى إنما أمرهم ببيع أرضهم- والله أعلم- قبل أن يكونوا له حربا، فكانوا مالكين لأرضهم، وكانت بينهم وبين النبى مسالمة وموافقة للجيرة، فكان النبى- عليه السلام- يمسك عنهم لإمساكهم عنه، ولم يكن بينهم عهد، ثم أطلعه الله على ما يؤملون من الغدر به، وقد كان أمره لهم ببيع أرضهم وإجلائهم قبل ذلك فلم يفعلوا؛ لأجل قول المنافقين لهم‏:‏ اثبتوا فإنا لن نسلمكم إن قوتلتم فوثقوا بقولهم، وثبتوا ولم يخرجوا، وعزموا على مقاتلة النبى- عليه السلام- فصاروا له حربًا؛ فحلت بذلك دماؤهم وأموالهم، فخرج إليه رسول الله وأصحابه فى السلاح وحاصرهم، فلما يئسوا من عون المنافقين ألقى الله فى قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله الذى كان عرضه عليهم قبل ذلك، فلم يبح لهم بيع الأرض، وقاضاهم على أن يجليهم ويتحملوا بما استقلت به الإبل، وعلى أن يكف عن دمائهم وأموالهم، فحلوا عن ديارهم، وكفى الله المؤمنين القتال، وكانت أراضيهم وأموالهم مما لم يوجف عليها بقتال مما انجلى عنها أهلها بالرعب، وصارت خالصة لرسول الله يضعها حيث شاء، قال ابن إسحاق‏:‏ ولم يسلم من بنى النضير إلا رجلان أسلما على أموالهما فأحرزاها، قال‏:‏ ونزلت فى بنى النضير سورة الحشر إلى قوله‏:‏ ‏(‏ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم فى الدنيا ‏(‏أى‏:‏ بالقتل والسبى، ولهم فى الآخرة مع ذلك عذاب النار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لأول الحشر ‏(‏، يعنى‏:‏ الشام الذى جلا أكثرهم إليه؛ لأنه روى فى الحديث أنه تجىء نار تحشر الناس إلى الشام، ولذلك قيل فى الشام أنها أرض المحشر‏.‏

وأما بيع الحيوان بالحيوان نسيئة فإن العلماء اختلفوا فى ذلك، فقالت طائفة‏:‏ لا ربا فى الحيوان، وجائز بيع بعضه ببعض نقدًا ونسيئة اختلف أو لم يختلف، هذا مذهب على ابن أبى طالب وابن عمر وابن المسيب، وهو قول الشافعى وأبى ثور، وقال مالك‏:‏ لا بأس بالبعير النجيب بالبعيرين من حاشية الإبل نسيئة، وإن كانت من نعم واحدة إذا اختلف فبان اختلافها، وإن أشبه بعضها بعضا و اتفقت أجناسها، فلا يؤخذ منها اثنان بواحد إلى أجل، ويؤخذ يد بيد، وهو قول سليمان بن يسار وربيعة ويحيى بن سعيد، وقال الثورى والكوفيون وأحمد‏:‏ لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، اختلفت أجناسه أو لم تختلف، واحتجوا بحديث الحسن عن سمرة ابن جندب ‏(‏أن النبى- عليه السلام- نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة‏)‏‏.‏

وبحديث يحيى بن أبى كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏نهى رسول الله عن بيه الحيوان بالحيوان نسيئة‏)‏ ومعنى النهى عن ذلك عندهم لعدم وجود مثله؛ ولأنه غير موقوف عليه، قالوا‏:‏ وهذا مذهب ابن عباس وعمار بن ياسر، وأجازوا التفاضل فيه يدًا بيد، وحجة القول الأول‏:‏ ما رواه ابن إسحاق، عن أبى سفيان، عن مسلم بن كثير، عن عمرو بن حريش قال‏:‏ قلت لعبد الله عمرو‏:‏ ‏(‏إنه ليس بأرضنا ذهب ولا فضة، وإنما نبيع البعير بالبعيرين، والبقرة بالبقرتين، والشاة بالشاتين‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏إن رسول الله أمر أن يجهز جيش، فنفدت الإبل، فأمر أن نأخذ على قلائص الصدقة بالبعيرين إلى إبل الصدقة‏)‏‏.‏

وقد سأل عثمان السجستانى يحيى بن معين عن سند هذا الحديث، فقال‏:‏ سند صحيح مشهور، وهذا المذهب أراد البخارى، ووجه إدخاله حديث صفية فى هذا الباب، أن صفية صارت إلى دحية الكلبى بأمر النبى- عليه السلام- فأخبر النبى أنها سيدة قريظة ولا تصلح إلا له، وذكر من جمالها، فأمر النبى فأتى بها، فلما رآها عليه السلام قال لدحية‏:‏ دعها وخذ غيرها، فكان تركه لها عند النبى وأخذه جارية السبى غير معينة، بيعًا لها بجارية نسيئة حتى يأخذها ويستحسنها، فحينئذ تتعين له، وليس ذلك يدًا بيد، وحجة مالك أن الحيوان إذا اختلفت منافعه صار كجنسين من سائر الأشياء، ويجوز فيه التفاضل والأجل؛ لاختلاف أغراض الناس فيه لأن غرض الناس من العبيد والحيوان والمنافع، ولا ربا عندهم فى الحيوان والعروض إذا حدث فيها النسيئة إلا من باب الزيادة فى السلف، وإذا كان التفاضل فى الجهة الواحدة خرج من أن تتوهم فيه الزيادة فى السلف، وليس العبد الكاتب والصائغ عندهم مثل العبد الذى هو مثله فى الصورة، إذا لم يكن كاتبًا ولا صائغًا، وأما إذا اتفقت منافعها فلا يجوز عندهم صنف منه بصنف مثله أكثر منه إلى أجل؛ لأن ذلك يدخل فى معنى قرض جر منفعة؛ لأنه أعطى شيئًا له منفعة بشىء أكثر منه له مثل تلك المنفعة؛ لأنه إنما طلب زيادة الشىء لاختلاف منافعه، فلم يجز ذلك، وتأول مالك فيما روى عن على بن أبى طالب أنه باع جملا له يدعى عصيفير بعشرين بعيرًا إلى أجل، وما روى عن ابن عمر أنه اشترى راحلة بأربعة أبعرة، أن منافعها كانت مختلفة، وليس فى الحديث عنهم أن منافعها كانت متفقة، فلا حجة للمخالف فى ذلك‏.‏

وأما قول ابن سيرين‏:‏ لا بأس ببعير ببعيرين، ودرهم بدرهم نسيئة، وفى بعض النسخ بدرهمين نسيئة، فإن ذلك خطأ فى النقل عن البخارى، والصحيح عن ابن سيرين ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال‏:‏ ‏(‏لا بأس ببعير ببعيرين وردهم، والدرهم نسيئة فإن كان أحد البعيرين نسيئة فهو مكروه‏)‏ وهذا مذهب مالك، وقد ذكره فى الموطأ فى مسألة الجمل بالجمل وزيادة دراهم، قال‏:‏ والذى يجوز من ذلك أن يكون الجملان نقدًا، ولا يبالى تأخرت الدراهم أم تعجلت؛ لأن الجمل بالجمل قد حصل يدًا بيد، فبطل أن يتوهم فيه السلف، وأعلم أنه بيع؛ لأن الدراهم هاهنا تبع للجمل، وليس هى المقصد، وأما إذا كان أحد الجملين نسيئة فلا يجوز؛ لأنه عنده من باب الزيادة فى السلف، كأنه أسلفه جملا فى مثله واستزاد عليه الدراهم، ولو كانت الدراهم والجمل جميعًا إلى أجل لم يجز؛ لأنه أقرضه الجمل على أنه يرده إليه بصفته ويرد معه دراهم، فهو سلف جر منفعة، وزيادة على ما أخذ المستسلف فلا يجوز‏.‏

وقول رافع بن خديج‏:‏ ‏(‏آتيك غدًا رهوًا‏)‏ قال صاحب العين‏:‏ الرهو‏:‏ مشى فى سكون‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ يقول‏:‏ آتيك عفوًا لا احتباس فيه‏.‏

باب بَيْعِ الرَّقِيقِ

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، أَنَّهُ قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نُصِيبُ سَبْيًا فَنُحِبُّ الأَثْمَانَ فَكَيْفَ تَرَى فِى الْعَزْلِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ ذَلِكَ، لاَ عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَفْعَلُوا ذَلِكُ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلاَ هِىَ خَارِجَةٌ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِر، قَالَ‏:‏ بَاعَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم الْمُدَبَّرَ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدَ بْنَ خَالِدٍ، أنّ النَّبِىّ عليه السَّلام سُئل، عَنِ الأَمَةِ تَزْنِى وَلَمْ تُحْصَنْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏اجْلِدُوهَا، فَإِنْ زَنَتْ، فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا بَعْدَ الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ‏)‏‏.‏

بيع الرقيق كبيع سائر المباحات الداخلة فى عموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأحل الله البيع‏}‏‏.‏

وقوله فى حديث أبى سعيد‏:‏ فنحب الأثمان‏.‏

يدل أنه لا يجوز بيع أم الولد؛ لأن الحمل منهن يمنع الفداء والثمن، وسيأتى تمام القول فى أم الولد فى موضعه- إن شاء الله‏.‏

وأما بيع المدبر فإن العلماء اختلفوا فيه، فذهب مالك والكوفيون إلى أنه لا يجوز بيعه، ولا يجوز تحويله عن موضعه الذى وضع فيه، وقال الشافعى‏:‏ بيع المدبر جائز، واحتج بحديث جابر أن النبى- عليه السلام- باع مدبرًا، وسيأتى بيان مذاهبهم فيه فى موضعه، وقد تقدم فى باب بيع العبد الزانى، الكلام فى حديث أبى هريرة، فأغنى عن إعادته- والحمد لله‏.‏

باب هَلْ يُسَافِرُ بِالْجَارِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا

وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بَأْسًا أَنْ يُقَبِّلَهَا أَوْ يُبَاشِرَهَا‏.‏

وقال ابْنُ عُمَرَ‏:‏ إِذَا وُهِبَتِ الْوَلِيدَةُ الَّتِى تُوطَأُ، أَوْ بِيعَتْ أَوْ عَتَقَتْ، فَلْيُسْتَبْرَأْ رَحِمُهَا بِحَيْضَةٍ، وَلاَ تُسْتَبْرَأُ الْعَذْرَاءُ‏.‏

وقال عَطَاءٌ‏:‏ لاَ بَأْسَ أَنْ يُصِيبَ مِنْ جَارِيَتِهِ الْحَامِلِ مَا دُونَ الْفَرْجِ، قَالَ اللَّهُ تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ‏}‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، قَدِمَ النَّبِىُّ عليه السَّلام خَيْبَرَ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحِصْنَ ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَىِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا وَكَانَتْ عَرُوسًا، فَاصْطَفَاهَا النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ، فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الرَّوْحَاءِ حَلَّتْ فَبَنَى بِهَا، ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِى نِطَعٍ صَغِيرٍ، ثُمَّ قَالَ عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏آذِنْ مَنْ حَوْلَكَ‏)‏، فَكَانَتْ تِلْكَ وَلِيمَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى صَفِيَّةَ، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ‏:‏ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَوِّى لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ، ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ، فَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ‏.‏

فى حديث صفية دليل على أن الاستبراء أمانة، يؤتمن المبتاع عليها بألا يطأها حتى تحيض حيضة إن لم تكن حاملاً؛ لأن النبى- عليه السلام- ألقى رداءه على صفية، وأمرها أن تحتجب بالجعرانة حين صارت فى سهمه، ومعلوم أن من سنته أن الحائل لا توطأ حتى تحيض حيضة؛ خشية أن تكون حاملاً، وأن الحامل لا توطأ حتى تضع؛ لئلا يسقى ماءه زرع غيره، فلما كان الاستبراء أمانة ارتفعت فيه الحكومة، وفى هذا حجة لمن لم يوجب المواضعة على البائع، وهو قول جماعة فقهاء الأمصار غير ربيعة ومالك بن أنس، فإنهما أوجبا المواضعة فى الجوارى المرتفعات المتخذات للوطء خاصة، قال مالك فى المدونة‏:‏ أكره ترك المواضعة وائتمان المبتاع على الاستبراء، فإن فعلا أجزأهما، وهى من البائع حتى تدخل فى أول دمها‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما قال مالك بالمواضعة خشية أن يتذرع المشترى إلى الوطء، فجعل الاستبراء حياطة على الفروج وحفظا للأنساب، ولقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا توطأ حائل حتى تحيض‏)‏‏.‏

وأحتج من لم ير المواضعة بأن عطاء بن أبى رباح قال‏:‏ ما سمعنا بالمواضعة قط‏.‏

وقال محمد بن عبد الحكم‏:‏ أول من قال بالمواضعة ربيعة‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ والدليل على أن المواضعة غير واجبة أن العقد إنما يوجب تسليم البدلين، وقد وافقنا مالك على أن غير المرتفعات من الجوارى لا يجب فيهن استبراء، فوجب أن يكون كذلك حكم المرتفعات، وأجمع الفقهاء على أن حيضة واحدة براءة فى الرحم، إلا أن مالكًا والليث قالا‏:‏ إن اشتراها فى أول حيضتها اعتد بها، وإن كان فى آخرها لم يعتد بها‏.‏

واختلفوا فى تقبيل الجارية ومباشرتها قبل الاستبراء، فأجاز ذلك الحسن البصرى وعكرمة، وبه قال أبو ثور، وثبت عن ابن عمر أنه قبل جارية وقعت فى سهمه يوم جلولاء ساعة قبضها‏.‏

وكره ذلك ابن سيرين، وهو قول الليث ومالك و أبى حنيفة والشافعى، ووجه كراهتهم لذلك قطعا للذريعة، وحفظاُ للانساب‏.‏

وحجة الذين أجازوا ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ‏(‏وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض‏)‏‏.‏

فدل هذا أن ما دون الوطء من المباشرة والقبلة فى حيز المباح وسفر النبى عليه السلام بصفية قبل أن يستبرئها حجة فى ذلك لأنه لو لم يحل له من مباشرتها ما دون الجماع لم يسافر بها معه، لأنه لا بد أن يرفعها أو ينزلها، وكان عليه السلام لا يمس بيده امرأة لا تحل له، ومن هذا الباب اختلافهم فى مباشرة المظاهر وقبلته لامرأته التى ظاهر منها، فذهب الزهرى والنخعى ومالك وأبو حنيفة والشافعى إلى أنه لا يقبل امرأته ولا يتلذذ منها بشىء‏.‏

وقال الحسن البصرى‏:‏ لا بأس أن ينال منها ما دون الجماع‏.‏

وهو قول الثورى والأوزاعى وأحمد وإسحاق و أبى ثور، وكذلك فسر عطاء وقتادة والزهرى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من قبل أن يتماسا ‏(‏أنه عنى بالمسيس الجماع فى هذه الآية، واختلفوا فى استبراء العذراء فقال ابن عمر‏:‏ لا تستبرأ‏.‏

وبه قال أبو ثور، وقال سائر الفقهاء‏:‏ تستبرأ بحيضة إذا كانت ممن تحيض ويوطأ مثلها‏.‏

باب بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالأَصْنَامِ

- فيه‏:‏ جَابِر، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالأَصْنَامِ‏)‏، فَقِيلَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لاَ هُوَ حَرَامٌ‏)‏، ثُمَّ قَالَ عليه السَّلام عِنْدَ ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا أجَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ‏)‏‏.‏

أجمعت الأمة على أنه لا يجوز بيع الميتة والأصنام، لأنه لا يحل الانتفاع بهما، فوضع الثمن فيهما إضاعة المال، وقد نهى النبى عن إضاعة المال، قال ابن المنذر‏:‏ فإذا أجمعوا على تحريم بيع الميتة، فبيع جيفة الكافر من أهل الحرب كذلك، وقد روى ذلك عن النبى- عليه السلام- وهو مذكور فى آخر كتاب الجهاد‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ ما وجه قوله عليه السلام إذ سأله السائل عن شحوم الميتة وقال‏:‏ إنها تدهن بها الجلود والسفن ونستصبح بها، فقال مجيبًا له‏:‏ ‏(‏قاتل الله اليهود؛ حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها‏)‏‏.‏

قيل‏:‏ إن جوابه عليه السلام كان عن مسألة بيع الشحوم، لا عن دهن الجلود والسفن، وإنما سأله عن بيع ذلك إذ ظنه جائزًا من أجل ما فيه من المنافع، كما جاز بيع الحمر الأهلية لما فيها من المنافع و إن حرم أكلها، فظن أن شحوم الميتة كذلك، يحل بيعها وشراؤها وإن حرم أكلها، فأخبره عليه السلام أن ذلك ليس كالذى ظن، وأن بيعها حرام وثمنها حرام إذ كانت نجسة، ونظيره الدم والخمر فيما يحرم من بيعها وأكل ثمنها، فأما الاستصباح ودهن السفن والجلود بها، فهو مخالف بيعها وأكل ثمنها، إذ كان ما يدهن بها من ذلك ينغسل بالماء غسل الشىء الذى أصابته نجاسة فيطهره الماء‏.‏

هذا قول عطاء بن أبى رباح وجماعة من العلماء، وممن أجاز الاستصباح بالزيت تقع فيه الفأرة‏:‏ على بن أبى طالب، وابن عباس، وابن عمر، وقد تقصينا هذا فى كتاب الذبائح فى باب ‏(‏إذا وقعت الفأرة فى سمن جامد أو دهن‏)‏‏.‏

باب ثَمَنِ الْكَلْبِ

- فيه‏:‏ أَبُو مَسْعُود الأَنْصَارِىِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِىِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو جُحَيْفَةَ، نَهَى النَّبِىّ عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ، وَكَسْبِ الأَمَةِ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

اختلفت الرواية عن مالك فى بيع الكلب، فقال فى الموطأ‏:‏ أكره بيع الكلب الضارى وغيره؛ لنهى رسول الله عن ثمن الكلب‏.‏

وروى ابن نافع عن مالك أنه كان يأمر ببيع الكلب الضارى فى الميراث والدين والمغانم، وكان يكره بيعه للرجل ابتداءً، قال ابن نافع‏:‏ وإنما نهى رسول الله عن ثمن الكلب العقور، وروى أبو زيد عن ابن القاسم أنه لا بأس باشتراء كلب الصيد، ولا يعجبنى بيعها، وكان ابن كنانة وسحنون يجيزان بيع كلاب الصيد والحرث والماشية، قال سحنون‏:‏ ويحج بثمنها، وهو قول الكوفيين‏.‏

وقال مالك‏:‏ إن قتل كلب الدار فلا شىء عليه إلا أن يسرح مع الماشية‏.‏

وروى عن أبى حنيفة أنه من قتل كلبًا لرجل ليس بكلب صيد ولا ماشية فعليه قيمته، وكذلك السباع كلها، وقال الأوزاعى الكلب لا يباع فى مقاسم المسلمين، هو لمن أخذه، وقال الشافعى‏:‏ لا يجوز بيع كلاب الصيد والحرث والماشية، ولا قيمة فيها‏.‏

وهو قول أحمد بن حنبل، احتجا بعموم نهيه عليه السلام عن ثمن الكلب‏.‏

وحجة مالك والكوفيين قوله تعال‏:‏ ‏(‏يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين ‏(‏فإذا أحل لنا الذى علمناه، أفادنا ذلك إباحة التصرف فيها بالإمساك والبيع وغير ذلك، فوجب أن يجوز بيعها وشراؤها بظاهر الآية‏.‏

فإن قيل‏:‏ المذكور فى هذه الآية هو تحليل تعليم الكلاب، وأكل ما أمسكن علينا‏.‏

فالجواب‏:‏ أن ‏(‏ما‏)‏ بمعنى الذى، وتقديره أحل لكم الطيبات والذى علمتم من الجوارح، ثم أباح تعليمهن بقوله‏:‏ ‏(‏تعلمونهن مما علمكم الله ‏(‏وهذا قول جماعة السلف‏.‏

روى عن جابر بن عبد الله أنه جعل القيمة فى كلب الصيد، وعن عطاء مثله، وقال‏:‏ لا بأس بثمن الكلب السلوقى‏.‏

وعن النخعى مثله، وقال أشهب‏:‏ إذا قتل الكلب المعلم ففيه القيمة‏.‏

وأوجب فيه ابن عمر أربعين درهمًا، وفى كلب ماشية، شاة، وفى كلب الزرع فرقًا من طعام، وأجاز عثمان الكلب الضارى فى المهر، وجعل فيه عشرين من الإبل على من قتله‏.‏

وقد روى عن ابن عمر عن النبى- عليه السلام- أنه قال‏:‏ ‏(‏من اقتنى كلبًا إلا كلبًا ضاريًا أو كلب صيد؛ نقص من عمله كل يوم قيراطان‏)‏ فهذا الحديث زائد، فكأنه عليه السلام نهى عن ثمن الكلب إلا الكلب الذى أذن فى اتخاذه للانتفاع به، ويحتمل أن يكون الحديث الذى فيه النهى عن ثمن الكلب وكسب الحجام كان فى بدء الإسلام، ثم نسخ ذلك، وأبيح الاصطياد به، وكان كسائر الجوارح فى جواز بيعه، وكذلك لما أعطى الحجام أجره كان ناسخًا لما تقدمه، وذكر الطحاوى من حديث أبى رافع أن النبى- عليه السلام- لما أمر بقتل الكلاب أتاه ناس فقالوا‏:‏ يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة التى أمرت بقتلها‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏(‏يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين ‏(‏فلما حل لنا الانتفاع بها، حل لنا بيعها وأكل ثمنها‏.‏

وقال المهلب‏:‏ ما فى حديث أبى جحيفة غير كسب الإماء وأكل الربا، فهو مكروه تنزهًا عن رذائل المكاسب، وكسب الإماء والزنا محرمان بالكتاب والسنة، وهو كله مذكور تحت قول واحد، فلا حجة لأحدٍ فى جمع أمور مختلفة الأحكام تحت كلام واحد‏.‏

وحلوان الكاهن يعنى‏:‏ أجره على الكهانة‏.‏

وسيأتى تفسير البغى فى كتاب الإجارة، إن شاء الله‏.‏

باب السَّلَمِ فِى كَيْلٍ مَعْلُومٍ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَدِمَ النَّبِىّ عليه السَّلام الْمَدِينَةَ، وَالنَّاسُ يُسْلِفُونَ فِى الثَّمَرِ الْعَامَ وَالْعَامَيْنِ- أَوْ قَالَ‏:‏ عَامَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً شَكَّ إِسْمَاعِيلُ- فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ سَلَّفَ فِى تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِى كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ‏)‏‏.‏

وترجم له‏:‏ ‏(‏باب السلم فى وزن معلوم‏)‏ وزاد فيه‏:‏ ‏(‏إلى أجل معلوم‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ، أنَّهُ اختلف هو وَأَبُو بُرْدَةَ فِى السَّلَفِ، فَبَعَثُونِى إِلَى ابْنِ أَبِى أَوْفَى، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ‏:‏ إِنَّا كُنَّا نُسْلِفُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَم وَأَبِى بَكْرٍ، وَعُمَرَ فِى الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ، وَسَأَلْتُ ابْنَ أَبْزَى، فَقَالَ‏:‏ مِثْلَ ذَلِكَ‏.‏

أجمع العلماء أنه لا يجوز السلم إلا فى كيل معلوم أو وزن معلوم فيما يكال أو يوزن، وأجمعوا أنه إن كان السلم فيما لا يكال ولا يوزن فلا بد فيه من عدد معلوم، وأجمعوا أنه لا بد من معرفة صفة الشىء المسلم فيه، واختلفوا فى الأجل على ما يأتى ذكره فى بابه بعد هذا- إن شاء الله‏.‏

واختلفوا فى ترك ذكر مكان القبض، فقال أحمد وإسحاق وأبو ثور‏:‏ إن لم يسم مكانًا فالسلم جائز، استدلالاً بحديث ابن عباس؛ لأنه ليس فيه ذكر المكان، ولو كان ترك ذلك يفسد السلم لأعلمهم بذلك عليه السلام، وقال مالك‏:‏ إن لم يذكر الموضع جاز السلم، ويقبضه فى المكان الذى كان فيه السلم، فإن اختلفا فى الموضع فالقول قول البائع‏.‏

وقال الثورى وأبو حنيفة‏:‏ لا يجوز السلم فيما له حمل مؤنة إلا أن يشترط فى تسليمه مكانًا معلومًا‏.‏

وهو قول الشافعى‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏يسلفون فى التمر العام والعامين‏)‏ فيه إجازة السلم فى التمر وإن لم يكن ذلك الوقت موجودًا إذا وجد وقت يحل فيه السلم، ويفسد السلم عند الثورى والكوفيين والشافعى بالافتراق دون القبض لرأس المال، وهو عندهم من باب الدين بالدين، وعند مالك إن تأخر قبض رأس المال يومين وثلاثة بغير شرط فى العقد جاز، كما لو كان لرجل على رجل دين جاز أن يؤخر اليوم واليومين على وجه الرفق‏.‏

باب السَّلَم إِلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ أَصْلٌ

- فيه‏:‏ عَبْد اللَّه بِن أَبِى أَوْفَى، كُنَّا نُسْلِفُ نَبِيطَ أَهْلِ الشَّأْمِ فِى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّيْتِ فِى كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، قُلْتُ‏:‏ إِلَى مَنْ كَانَ أَصْلُهُ عِنْدَهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَا كُنَّا نَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ بَعَثَانِى إِلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ‏:‏ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِىِّ عليه السَّلام يُسْلِفُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ عليه السَّلام وَلَمْ نَسْأَلْهُمْ أَلَهُمْ حَرْثٌ أَمْ لاَ‏؟‏‏.‏

وقال‏:‏ جَرِيرٌ، عَنِ الشَّيْبَانِىِّ‏:‏ فِى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، سُئل عَنِ السَّلَمِ فِى النَّخْلِ، قَالَ‏:‏ نَهَى النَّبِىُّ عليه السَّلام عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ، حَتَّى يُؤكَلَ مِنْهُ، وَحَتَّى يُوزَنَ، فَقَالَ الرَّجُلُ‏:‏ وَأَىُّ شَىْءٍ يُوزَنُ‏؟‏ قَالَ رَجُلٌ إِلَى جَانِبِهِ‏:‏ حَتَّى يُحْرَزَ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ روى وكيع، عن شعبة، عن محمد بن أبى المجالد قال‏:‏ ‏(‏اختلف أبو بردة وعبد الله بن شداد فى السلم فقال‏:‏ فأرسلونى إلى ابن أبى أوفى، فقال‏:‏ كنا نسلم على عهد رسول الله فى الحنطة والشعير والزبيب، ولا ندرى عند أصحابه من شىء أم لا‏)‏ فهذا اختلاف من أبى بردة وعبد الله بن شداد فى هذه المسألة وإنما كره السلم إلى من ليس عنده أصل من كرهه؛ لأنه جعله من باب الغرر، وأصل السلم أن يكون إلى من عنده مما يسلم فيه أصل، إلا أنه لما وردت السنة فى السلم بالصفة المعلومة و الكيل أو الوزن والأجل المعلوم كان ذلك عاما فيمن عنده أصل وفيمن ليس عنده، وجماعة الفقهاء يجيزون السلم إلى من ليس عنده أصل، وحجتهم حديث عبد الله بن أبى أوفى، وهو نص فى ذلك‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه من الفقه جواز السلم فى العروض إلى من ليس عنه ما باع بالسلم، ولو كان عنده ما باع ما حل البيع؛ لأنه بيع شىء بعينه لا يقبض إلى مدة طويلة، وهذا لا يجوز بإجماع‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ فى حديث ابن أبى أوفى مبايعة أهل الذمة والسلم إليهم‏.‏

وفيه دليل على إباحة السلم فى السمن والشبرق وما أشبه ذلك كيلاً معلومًا أو وزنًا معلومًا، إذ هو فى معنى الزيت، وأما حديث ابن عباس الذى هو فى آخر الباب، فليس هو من هذا الباب، وإنما هو من الباب الذى بعده، وغلط فيه الناسخ- والله أعلم‏.‏

باب السَّلَمِ فِى النَّخْلِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أنه سُئل عَنِ السَّلَمِ فِى النَّخْلِ، فَقَالَ‏:‏ نُهِىَ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَصْلُحَ، وَعَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ نَسِيئًا بِنَاجِزٍ‏.‏

وَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ السَّلَمِ فِى النَّخْلِ، فَقَالَ‏:‏ نَهَى النَّبِىُّ عليه السَّلام عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُؤْكَلَ أَوْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَحَتَّى يُوزَنَ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَمَا يُوزَنُ‏؟‏ قَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ‏:‏ حَتَّى يُحْرَزَ‏.‏

اختلف العلماء فى هذا الباب، فقال الكوفيون والثورى والأوزاعى‏:‏ لا يجوز السلم إلا أن يكون المسلم فيه موجودًا فى أيدى الناس من وقت العقد إلى حين حلول الأجل، فإن انقطع فى شىء من ذلك لم يجز‏.‏

وهو مذهب ابن عمر وابن عباس- على ما ذكره البخارى فى هذا الباب- وقال مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور‏:‏ يجوز السلم فيما هو معدود من أيدى الناس إذا كان مأمون الوجود عند حلول الأجل فى الغالب، فإن كان ينقطع حينئذ لم يجز‏.‏

واحتج الكوفيون بأن النبى نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، وعن بيع ما لم يخلق، وقالوا‏:‏ من مات فقد حل دينه وإن لم يوجد كان غررًا‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وهذا فاسد؛ فإنه قد يحل الأجل ويتعذر السلم؛ بأن يموت المسلم إليه أو يفلس، ولو وجب أن يمنع السلم لجواز ما ذكروه، لوجب ألا يجوز بيع شىء نسيئةً؛ لأنه قد يطرأ على المشترى الموت والفلس قبل محل الأجل، فلا يصل صاحب الحق إلى ماله فيكون هذا غررًا، ولكنه جائز؛ لأن الناس يدخلون فى وقت العقد على رجاء السلامة، ولم يكلفوا مراعاة ما يجوز أن يحدث ويجوز ألا يحدث، ولو سلم فى شىء إلى شهر فإن وقت المطالبة بالتسليم فيه هو رأس الشهر بدليل أن الشىء لو كان موجودًا قبل الشهر لم تكن له المطالبة به، ولا للمسلم إليه أن يجبره على مراعاة وجوده قبل المحل وحين العقد؛ لأن جوده كعدمه، ولو كان المسلم فيه موجودًا طول السنة إلا يوم القبض فسلم فيه إلى سنة، كان هذا السلم باطلاً بإجماع، وإن كان موجودًا وقت العقد وطول السنة؛ لأنه حين المحل والقبض معدوم، فعلم بهذا أن الاعتبار بوجوده حين القبض لا حين العقد، والدليل على صحة هذا أنهم كانوا يسلفون فى زمن النبى- عليه السلام- فى الثمر السنة والسنتين، ومعلوم أنه إذا أسلف فى الثمر سنة فإنه يتخلل الأجل زمان ينقطع فيه الثمر، وهو زمان الشتاء، ثم إن النبى- عليه السلام- أقرهم على ذلك، ولم ينكر عليهم السلف فى سنة وأكثر، فثبت ما قلناه‏.‏

وأما نهيه عليه السلام عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها فهو محمول عندنا على أن بيع الثمرة عينًا لا يجوز إلا بعد بدو صلاحها، وفى السلم ليس عند العقد ثمرة موجودة عند البائع تستحق اسم البيع حقيقة، وحديث النهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها مرتب على السلم، تقديره‏:‏ أنه نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها إلا أن يكون سلمًا، بدليل حديث ابن عباس أنهم كانوا يسلفون فى الثمر السنتين والثلاث، وذلك بيع له قبل أن يبدو صلاحه وقبل أن يخلق، وإذا جاز السلم فى الثمر فقد جاز فى الرطب، والرطب لا يوجد فى سائر السنة كما يوجد التمر، فلا معنى لقولهم‏.‏

وقال الخطابى‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏حتى يوزن‏)‏ معناه حتى يخرص، وسماه وزنًا، لأن الخارص يحرزها ويقدرها، فيحل ذلك محل الوزن لها، والمعنى فى النهى عن بيعها قبل الخرص شيئان‏:‏ أحدهما‏:‏ تحصين الأموال؛ وذلك أنها فى الغالب لا تأمن العاهة إلا بعد الإدراك، وهو أوان الخرص‏.‏

والمعنى الآخر‏:‏ أنه إذا باعها قبل بدو الصلاح على القطع سقط حقوق الفقراء؛ لأن الله أوجب إخراجها فى وقت الحصاد‏.‏

باب الْكَفِيلِ فِى السَّلَمِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا مِنْ يَهُودِىٍّ بِنَسِيئَةٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ‏.‏

باب الرَّهْنِ فِى السَّلَمِ

- فيه‏:‏ الأَعْمَشُ، تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِى السَّلَمِ، فَقَالَ‏:‏ حَدَّثَنِى الأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام اشْتَرَى مِنْ يَهُودِىٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ، وَارْتَهَنَ مِنْهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ‏.‏

اختلف العلماء فى هذا الباب، فقال مالك‏:‏ لا بأس بالرهن والكفيل فى السلم، ولم يبلغنى أن أحدًا كرهه غير الحسن البصرى، ورخص فيه عطاء والشعبى، وبه قال أبو حنيفة والثورى وأبو يوسف ومحمد والشافعى‏.‏

وكره الرهن والكفيل فى السلم على بن أبى طالب وسعيد بن جبير، وقال‏:‏ ذلك الربح المضمون‏.‏

وقال زفر‏:‏ لا يجوز ذلك فى السلم، ولا سبيل له على الكفيل‏.‏

وهو قول الأوزاعى وأحمد حنبل وأبى ثور‏.‏

قال المهلب‏:‏ وحجة من كرهه أنه إن أخذ الرهن فى رأس المال، فرأس المال غير الدين، إنما دينه ما سلم فيه، ورأس المال مستهلك فى الذمة غير مطلوب به، وإن أخذه بالمسلم فيه، فكأنه اقتضاه قبل أجله، وهو من باب سلف جر منفعة؛ لأنه ينتفع بما يستوثق به من الرهن والضامن، وحجة من أجازه إجماعهم على إجازة الرهن والكفيل والحوالة فى الدين المضمون من ثمن سلعة قبضت، فكذلك السلم، ووجه احتجاج النخعى بحديث عائشة‏:‏ أنه استدل بأن الرهن لما جاز فى الثمن بالنسيئة المجمع عليها، جار فى المثمون وهو المسلم فيه وبيان ذلك أنه لما جاز أن يشترى الرجل طعامًا أو عرضًا بثمن إلى أجل، ويرهن فى الثمن رهنًا، كذلك يجوز إذا دفع عينًا سلمًا فى غوص طعام أو غيره إلى أجل أن يأخذ فى الشىء المسلم فيه رهنًا، ولا فرق بينهما‏.‏

باب السَّلَمِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ

وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَالأَسْوَدُ، وَالْحَسَنُ‏.‏

وقال ابْنُ عُمَرَ‏:‏ لاَ بَأْسَ بالسلم فِى الطَّعَامِ الْمَوْصُوفِ بِسِعْرٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، مَا لَمْ يَكُ ذَلِكَ فِى زَرْعٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ‏:‏ قَدِمَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يُسْلِفُونَ فى الثِّمَارِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَسْلِفُوا فِى الثِّمَارِ فِى كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى أجل السلم، فقال مالك والكوفيون وجمهور الفقهاء إنه لا يجوز السلم الحال، ولا بد فيه من أجل معلوم، وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه لابد فيه من أجل وإن كانت أيامًا يسيرة، وقال ابن القاسم‏:‏ معناه إذا كانت أيامًا تتغير فيها الأسواق‏.‏

وقال الشافعى وأبو ثور‏:‏ يجوز السلم بغير ذكر أجل أصلاً، وهذا خلاف الحديث؛ لأنه عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏من أسلم‏)‏، فأتى بلفظ العموم، وأيضًا فإنه عليه السلام أحل الأجل محل الكيل والوزن وقرنه بهما، فلما لم يجز العقد إذا عدمت صفة الكيل والوزن، فكذلك الأجل يجب اعتباره، كما لو قال‏:‏ صل على صفة كذا‏.‏

لم يجز العدول عن الصفة‏.‏

واحتج الشافعى أن السلم بيع من البيوع، والبيوع تجوز بثمن معجل ومؤجل، فكذلك السلم، قيل‏:‏ هذا ينتقض بجواز السلم فى المعدوم، وهو يجوز مؤجلاً ولا يجوز معجلاً، و إنما لم يجز ابن عمر السلم فى زرع لم يبد صلاحه؛ لأنه سلم فى عين، وحكم السلم ألا يكون فى عين معلومة، وإنما يكون فى صفة معلومة ثابتة فى الذمة، لا ينفسخ بموت أحد المتعاقدين فى السلم، ولا بجائحة تنزل، وهذا مذهب أهل الحجاز، إلا أن مالكًا أجاز السلم فى طعام بلد بعينه إذا كان الأغلب فيه أنه لا يخلف‏.‏

ولم يختلف العلماء أنه لا يجوز أن يكون السلم فى قمح فدان بعينه؛ لأنه غرر لا يدرى هل يتم زرعه أم لا، ويجوز عند جميعهم أن يكون السلم فى زمن يكون فيه الزرع قد بدا صلاحه إذا لم يكن يعين زرعًا ما‏.‏

فإن أسلم الرجل فى تمر حائط بعد طيبه أو زرع بعد ما أدرك، فذكر ابن حبيب عن ابن القاسم أنه كرهه، وإن فات لم يفسخ، وليس بالحرام البين، ولا يجوز عند سائر الفقهاء؛ لأنه كبيع عين اشترط فيه تأخير القبض، وهذا لا يجوز؛ لأن من شرط البيع تسليم البيع‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أسلموا فى الثمار‏)‏ إجازة السلم فى الثمار كلها لعموم لفظه، وهو قول ابن عمر‏:‏ لا بأس بالسلم فى الطعام بسعر معلوم‏.‏

فإن العلماء اختلفوا فى رأس مال السلم، فقال مالك‏:‏ ولو أسلم إليه عروضًا أو تبرًا أو فضة مكسرة جزافًا صح السلم، ولا يجوز أن يسلم إليه دنانير أو دراهم جزافًا، فرق بين التبر والدنانير والدراهم؛ لأن التبر بمنزلة الثوب والسلعة عنده‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يسلم إليه تبرًا جزافًا، ولا شيئًا مما يكال أو يوزن جزافًا‏.‏

هو أحد قولى الشافعى، وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ يجوز أن يسلم إليه الدنانير والدراهم وكل ما يكال أو يوزن جزافًا‏.‏

وهو قول الشافعى الآخر‏.‏

وحجة أبى حنيفة أنه لابد من معرفة رأس المال لأنه قد يعدم المسلم فيه حين المطالبة، فينفسخ العقد فيرجع بالثمن، وإذا لم يكن معلومًا لم يمكن المطالبة به، وهو كالقراض لا بد فيه معرفة رأس المال، والحجة لمالك أن مقتضى العقد أن تقع المطالبة بالمسلم فيه لا بالسلم، فلم يفتقر إلى الصفة، وهذا المعنى موجود فى بيع الأعيان؛ لأنه قد يستحق المبيع فتقع المطالبة برأس المال، ثم يجوز جزافًا كما يجوز معلومًا، وقد تجوز الإجازة بالجزاف، وقد تنهدم الدار فتقع المطالبة بالأجرة التى سلمها إليه المستأجر، ولم تفتقر الأجرة فيها إلى أن تكون موصوفة بل يكون جزافًا، كذلك رأس مال السلم، وإنما افتقر القراض أن تكون الدراهم موصوفة؛ لأن المطالبة تقع ببدل ما تسلمه، فهو بمنزلة المسلم فيه‏.‏