فصل: باب هَلْ يَأْخُذُ اللُّقَطَةَ وَلاَ يَدَعُهَا حَتَّى تَضِيعُ وَيَأْخُذَهَا مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب هَلْ يَأْخُذُ اللُّقَطَةَ وَلاَ يَدَعُهَا حَتَّى تَضِيعُ وَيَأْخُذَهَا مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّ

- فيه‏:‏ سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ، كُنْتُ مَعَ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ فِى غَزَاةٍ، فَوَجَدْتُ سَوْطًا، فَقَالاَ لِى‏:‏ أَلْقِهِ، فَقُلْتُ‏:‏ لاَ، وَلَكِنْ إِنْ وَجَدْتُ صَاحِبَهُ، وَإِلاَ اسْتَمْتَعْتُ بِهِ، فَلَمَّا رَجَعْنَا حَجَجْنَا، فَمَرَرْتُ بِالْمَدِينَةِ، فَسَأَلْتُ أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقَالَ‏:‏ وَجَدْتُ صُرَّةً عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ بِهَا النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏عَرِّفْهَا حَوْلاً‏)‏، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلاً، ثُمَّ أَتَيْتُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏عَرِّفْهَا حَوْلاً‏)‏، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلاً، ثُمَّ أَتَيْتُهُ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اعْرِفْ عِدَّتَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلاَ اسْتَمْتِعْ بِهَا‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى اللقطة هل أخذها أفضل أم تركها‏؟‏ فكرهت طائفة أخذها، ورأوا تركها أفضل، روى ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وهو قول عطاء، وروى ابن القاسم عن مالك أنه كره أخذ اللقطة والآبق، فإن أخذ ذلك وضاعت اللقطة وأبق الآبق من غير تضييعه لم يضمن، وكره أحمد بن حنبل أخذ اللقطة أيضًا‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ أخذها وتعريفها أفضل من تركها‏.‏

هذا قول سعيد بن المسيب، وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ تركها سبب لضياعها‏.‏

وبه قال الشافعى، وروى عن مالك‏:‏ إن كان شىء له بال فأخذه وتعريفه أحب إلى‏.‏

وحجة القول الأول حديث جرير أن النبى- عليه السلام- قال‏:‏ ‏(‏لا يأوى الضالة إلا ضال‏)‏ وحديث الجارود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ضالة المؤمن حرق النار‏)‏‏.‏

وحجة من رأى أن تعريفها أفضل قول النبى، عليه السلام، للذى سأله عن اللقطة‏:‏ ‏(‏أعرف عفاصها ووكاءها‏)‏، فأمره بتعريفها ولم يقل له‏:‏ لم أخذتها‏؟‏ وذلك دليل على أن الفضل فى أخذها وتعريفها لأن تركها عون على ضياعها ومن الحق النصيحة للمسلم، وأن يحوطه فى ماله بما أمكنه، وتأويل قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يأوى الضالة إلا ضال‏)‏ و ‏(‏ضالة المؤمن حرق النار‏)‏ أن المراد بذلك من لم يعرفها وأراد الانتفاع بها حتى لا تتضاد الأخبار‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ويدل على ذلك ما روى يحيى بن أيوب قال‏:‏ حدثنى عمرو بن الحارث، أن بكر بن سوادة، حدثه عن أبى سالم الجيشانى، عن زيد بن خالد الجهنى قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏من أوى الضالة فهو ضال ما لم يعرفها‏)‏‏.‏

وروى شعبة عن خالد الحذاء، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن أبى مسلم، عن الجارود قال‏:‏ ‏(‏أتينا على رسول الله ونحن على إبل عجاف فقلنا‏:‏ يا رسول الله، إنا نمر بالجدف فنجد إبلا فنركبها‏؟‏ فقال‏:‏ ضالة المسلم حرق النار‏)‏ فكان سؤالهم عن أخذها إنما هو لأن يركبوها، فأجابهم عليه السلام بأن قال‏:‏ ‏(‏ضالة المسلم حرق النار‏)‏، أى‏:‏ ضالة المسلم حكمها أن تحفظ على صاحبها حتى تؤدى إليه، لا لأن ينتفع بها لركوب ولا غيره‏.‏

باب مَنْ عَرَّفَ اللُّقَطَةَ وَلَمْ يَدْفَعْهَا إِلَى السُّلْطَان

- فيه‏:‏ زَيْد، أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللُّقَطَةِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِعِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا، وَإِلاَ فَاسْتَنْفِقْ بِهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، الحديث‏.‏

ولا يجب عند جماعة العلماء على ملتقط اللقطة إن لم تكن ضالة من الحيوان أن يدفعها إلى السلطان، وإنما معنى هذه الترجمة أن السنة وردت بأن واجد اللقطة هو الذى يعرفها دون غيره؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها‏)‏ لأنهم اختلفوا فى الملتقط إن كان غير مأمون على اللقطة على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه يعرفها سنة، وليس للسلطان أخذها منه‏.‏

و الثانى‏:‏ أن للسلطان أخذها منه ويدفعها إلى ثقة يعرفها‏.‏

واختلف قول الشافعى على هذين القولين، وأما حكم الضوال فإنها تحتاج إلى حرز ومؤنة، وهذا لا يكون إلا بحكم حاكم، ولهذا كانت تدفع ضوال الإبل على عمر وعثمان وسائر الخلفاء بعدهما‏.‏

واختلفوا إذا التقط لقطة فضاعت عنده، فقال أبو حنيفة وزفر‏:‏ إن أشهد أنه أخذها ليعرفها لم يضمنها إن هلكت، وإن لم يشهد ضمنها‏.‏

واحتج بحديث عياض بن حمار أن النبى- عليه السلام- قال‏:‏ ‏(‏من التقط لقطة فليشهد ذوى عدل، ولا يكتم، ولا يغيب، فإن جاء صاحبها، وإلا فهو مال من مال الله يؤته من يشاء‏)‏، رواه خالد الحذاء عن يزيد ابن الشخير، عن مطرف بن الشخير، عن، عياض، عن النبى- عليه السلام‏.‏

وقال مالك وأبو يوسف ومحمد والشافعى‏:‏ لا ضمان عليه إن هلكت من غير تضييع منه وإن لم يشهد‏.‏

وحجتهم إجماع العلماء أن المغصوبات لو أشهد الغاصب على نفسه أنه غصبها لم يدخلها إشهاده ذلك فى حكم الأمانات، فكذلك ترك الإشهاد على الأمانات لا يدخلها فى حكم المغصوبات ولا خلاف أن الملتقط أمين لا يضمن إلا بما تضمن به الأمانات من التعدى والتضييع‏.‏

وأما حديث عياض بن حمار فمعناه‏:‏ أن الملتقط إذا لم يعرف اللقطة ولم يشهدها وكتمها، ثم قامت عليه بينة أنه وجد لقطة وضمها إلى ماله ثم ادعى تلفها، أنه لا يصدق ويضمنها؛ لأنه بفعله ذلك خارج عن الأمانة، إلا أن تقوم البينة على تلفها، وأما إذا عرفها فى المحافل ولم يشهد فلا ضمان عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء‏)‏، فإنه يريد انطلاق يد الملتقط عليها بعد الحول ثم يضمنها لصاحبها إن جاء بإجماع‏.‏

باب

- فيه‏:‏ أَبُو بَكْر، انْطَلَقْتُ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعِى غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ، فَقُلْتُ‏:‏ لِمَنْ أَنْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ، فَقُلْتُ‏:‏ هَلْ فِى غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ نَعَمْ، فَقُلْتُ‏:‏ هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لِى‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، فَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ ضَرْعَهَا مِنَ الْغُبَارِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ، فَقَالَ‏:‏ هَكَذَا ضَرَبَ إِحْدَى كَفَّيْهِ بِالأُخْرَى، فَحَلَبَ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِدَاوَةً عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ، فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ‏:‏ اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ سألت بعض شيوخى عن وجه استجازة أبى بكر الصديق لشرب اللبن من ذلك الراعى، فقال لى‏:‏ يحتمل أن يكون النبى- عليه السلام- قد كان أذن له فى الحرب، وكانت أموال المشركين له حلالا فعرضته على المهلب بن أبى صفرة فقال لى‏:‏ ليس هذا بشىء، لأن الحرب والجهاد إنما فرض بالمدينة، وكذلك المغانم إنما نزل تحليلها يوم بدر بنص القرآن‏.‏

قال‏:‏ وإنما شرب رسول الله وأبو بكر ذلك اللبن بالمعنى المتعارف عندهم فى ذلك الزمن من المكارمات، وبما استفهم به أبو بكر الراعى من أنه حالب أو غير حالب، ولو كان بمعنى الغنيمة ما استفهمه، ولحلب ما أراد الراعى أو كره، ولساق الغنم غنيمة، ولقتل الراعى إن شاء أو أخذه أسيرًا‏.‏

والدليل على صحة هذا التأويل وأن شرب اللبن كان على وجه العادة عندهم ما ذكره أبو على البغدادى، قال‏:‏ حدثنا أبو بكر بن دريد قال أبو عثمان السامدانى‏:‏ عن الثورى، عن أبى عبيدة قال‏:‏ مر رجل من أهل الشام بامرأة من كلب فقال لها‏:‏ هل من لبن يباع‏؟‏ فقالت‏:‏ إنك للئيم أو حديث عهد بقوم لئام، هل يبيع الرسل كريم أو يمنعه إلا لئيم‏؟‏ إنا لندع الكوم لأضيافنا تكوس إذا عكف الزمن الضروس ونغلى اللحم غريضًا ونهبته نضيجًا‏.‏

قال أبوعلى‏:‏ الرسل‏:‏ اللبن، وتكوس‏:‏ تمشى على ثلاث، وتغلى‏:‏ من الغلا‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقد قال أخى أبو عبد الله‏:‏ إن هذا الحديث لا يعارض قوله- عليه السلام-‏:‏ ‏(‏لا يحلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه‏)‏، لأن هذا قاله عليه السلام لما علم أنه سيكون من التشاح وقله المواساة‏.‏

قال المهلب‏:‏ والحديث معناه‏:‏ لا يهجمن أحدكم على ماشية غيره فيحلبها بغير إذنه أو غير إذن راعيها الذى له حكم العادات فيما استرعى فيه من المعروف، فكان بين الحديثين فرق يمنع من التعارض، فى حديث أبى بكر من الأدب و التنظف ما صنعه أبو بكر من أمره بنفض يدى الراعى، ونفض الضرع، وخدمته للنبى- عليه السلام- وإلطافه به ما يجب أن يتمثل به فى كل عالم وإمام عادل- والله الموفق- وقد ذكرت تفسير الكثبة فى هذا الحديث وفى كتاب الأشربة فى باب شرب اللبن‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

كِتَاب الْمَظَالِمِ وَالْغَصْبِ

وَقَوْل اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ‏}‏ إلى‏:‏ ‏{‏عزيز ذو انتقام‏}‏

باب قِصَاصِ الْمَظَالِمِ

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِى الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِى الْجَنَّةِ أَدَلُّ بِمَسْكنه كَانَ فِى الدُّنْيَا‏)‏‏.‏

وهذه المقاصة التى فى هذا الحديث هى لقوم دون قوم وهم من لا تستغرق مظالمهم جميع حسناتهم؛ لأنه لو استغرقت جميعها لكانوا ممن وجب لهم العذاب، ولما جاز أن يقال فيهم‏:‏ خلصوا من النار، فمعنى الحديث- والله أعلم- على الخصوص لمن يكون عليه تبعات يسيرة‏.‏

فالمقاصة أصلها فى كلام العرب مقاصصة، وهى مفاعلة، ولا تكون المفاعلة أبدًا إلا من اثنين، كالمقاتلة والمشاتمة، فكأن كل واحد منهم له على أخيه مظلمة وعليه له مظلمة، ولم يكن فى شىء منها ما يستحق عليه النار فيتقاصون بالحسنات والسيئات، فمن كانت مظلمته أكثر من مظلمة أخيه أخذ من حسناته فيدخلون الجنة، ويقتطعون فيها المنازل على قدر ما بقى لكل واحد منهم من الحسنات، فلهذا يتقاصون بالحسنات بعد خلاصهم من النار- والله أعلم- لأن أحدًا لا يدخل الجنة ولأحد عليه تبعة، فإن قلت‏:‏ إذا نقوا وهذبوا دخلوا الجنة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فوالذى نفس محمد بيده لأحدهم بمسكنه فى الجنة أدل بمنزله كان فى الدنيا‏)‏ وإنما عرفوا منازلهم فى الجنة بتكرير عرضها عليهم بالغداة والعشى، فقد أخبرنا عليه السلام أن المؤمن إذا كان من أهل الجنة عرض عليه مقعده منها بالغداه والعشى، فيقال له‏:‏ هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة‏.‏

وقال المهلب‏:‏ هذه المقاصة إنما تكون فى المظالم فى الأبدان من اللطمة وشبهها مما المظالم فيه ممكن لأداء القصاص فيه بحضور بدنه، فيقال للمظلوم‏:‏ إن شئت أن تنتصف، وإن شئت أن تعفو للأجر‏.‏

وقال غيره‏:‏ الآثار تدل على أنه لا قصاص فى الآخرة فى العرض والمال وغيره إلا بالحسنات والسيئات، فمن ظلم غيره وكانت له حسنات أخذ منها وزيدت فى حسنات المظلوم، وإن لم يكن للظالم حسنات أخذ من سيئات المظلوم وردت على الظالم‏.‏

باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، سَمِعْتَ النَّبِىّ عليه السَّلام فِى النَّجْوَى‏؟‏ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ يُدْنِى الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ‏:‏ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا‏؟‏ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ نَعَمْ، أَىْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِى نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ‏:‏ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِى الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِق، فَيَقُولُ الأَشْهَادُ‏:‏ ‏(‏هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى هذا الحديث عظيم تفضل الله على عباده المؤمنين وستره لذنوبهم يوم القيامة، وأنه يغفر ذنوب من شاء منهم بخلاف قول من أنفذ الوعيد على أهل الإيمان؛ لأنه لم يستثن فى هذا الحديث عليه السلام ممن يضع عليه كنفه وستره أحدًا إلا الكفار والمنافقين، فإنهم الذين ينادى عليهم على رءوس الأشهاد باللعنة لهم‏.‏

وسيأتى فى كتاب الأدب فى باب ستر المؤمن على نفسه حديث النجوى، وانقضاء الكلام فى معناه- إن شاء الله- وهذا الحديث حجة لأهل السنة فى قولهم‏:‏ إن أهل الذنوب من المؤمنين لا يكفرون بالمعاصى كما زعمت الخوارج‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا لعنة الله على الظالمين ‏(‏أن المراد بالظلم هاهنا الكفر والنفاق كما ذكر فى الحديث، وليس كل ظالم يدخل فى معنى الآية ويستحق اللعنة؛ لأنه لا تكون عقوبة الكفر عند الله كعقوبة صغائر الذنوب، واللعن فى كلام العرب‏:‏ الإبعاد من الله تعالى فدلت الآية أن الكلام ليس على العموم، وأنه يفتقر إلى ما يبين معناه، وهذا الحديث يبين أن قول الله‏:‏ ‏(‏ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ‏(‏أن السؤال عن النعيم الحلال إنما هو سؤال تقرير و توقيف له على نعمه التى أنعم بها عليه، ألا ترى أنه تعالى يوقفه على ذنوبه التى عصاه فيها، ثم يغفرها له، فإذا كان ذلك فسؤاله عباده عن النعيم الحلال أولى أن يكون سؤال تقرير لا سؤال حساب وانتقام‏.‏

باب لاَ يَظْلِمُ الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ وَلاَ يُسْلِمُهُ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِى حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ اللَّهُ فِى حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏)‏‏.‏

قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏المسلم أخو المسلم‏)‏ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون إخوة ‏(‏وقوله‏:‏ ‏(‏لا يظلمه ولا يسلمه‏)‏ فإن الله حرم قليل الظلم وكثيره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا يسلمه‏)‏ مثل قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏انصر أخالك ظالمًا أو مظلومًا‏)‏ وباقى الحديث حض على التعاون، وحسن التعاشر، والألفة، والستر على المؤمن، وترك التسمع به، والإشهار لذنوبه، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتعانوا على البر والتقوى ‏(‏وهذا حديث شريف يحتوى على كثير من آداب الإسلام، وفيه أن المجازاة قد تكون فى الآخرة من جنس الطاعة فى الدنيا‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ ويستحب لمن اطلع من أخيه المسلم على عورة أو زلة توجب حدا، أو تعزيرًا، أو يلحقه فى ذلك عيب أو عار أن يستره عليه؛ رجاء ثواب الله، ويجب لمن بلى بذلك أن يستتر بستر الله، فإن لم يفعل ذلك الذى أصاب الحد، وأبدى ذلك للإمام وأقر بالحد لم يكن آثمًا؛ لأنا لم نجد فى شىء من الأخبار الثابتة عن النبى- عليه السلام- أنه نهى عن ذلك، بل الأخبار الثابتة دالة على أن من أصاب حدا وأقيم عليه فهو كفارته‏.‏

باب أَعِنْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا

- فيه‏:‏ أَنَسَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا‏)‏، قَيل‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا نصرُته مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَهِ‏)‏‏.‏

والنصرة عند العرب‏:‏ الإعانة والتأييد، وقد فسره رسول الله أن نصر الظالم منعه من الظلم؛ لأنه إذا تركته على ظلمه ولم تكفه عنه أداه ذلك إلى أن يقتص منه؛ فمنعك له مما يوجب عليه القصاص نصره، وهذا يدل من باب الحكم للشىء و تسميته بما يئول إليه، وهو من عجيب الفصاحة، ووجيز البلاغة، وفى الباب بعد هذا شىء من معنى هذا الباب‏.‏

باب نَصْرِ الْمَظْلُومِ

- فيه‏:‏ الْبَرَاء، أَمَرَنَا النَّبِىُّ عليه السَّلام بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، فَذَكَرَ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتَ الْعَاطِسِ، وَرَدَّ السَّلاَمِ، وَنَصْرَ الْمَظْلُومِ، وَإِجَابَةَ الدَّاعِى، وَإِبْرَارَ الْمُقْسِمِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ‏)‏‏.‏

نصر المظلوم فرض واجب على المؤمنين على الكفاية، فمن قام به سقط عن الباقين، ويتعين فرض ذلك على السلطان، ثم على كل من له قدرة على نصرته إذا لم يكن هناك من ينصره غيره من سلطان وشبهه‏.‏

وأما عيادة المريض فهى سنة مرغب فيها، مندوب إليها، واتباع الجنائز من فروض الكفايات لمن قام بها، وتشميت العاطس قيل‏:‏ إنه من فروض الكفايات، وقيل‏:‏ إنه سنة، وإجابة الداعى سنة أيضًا، إلا أنه فى الوليمة آكد، وسيأتى ذلك فى بابه- إن شاء الله- وإبرار المقسم مندوب إليه إذا أقسم عليه فى مباح يستطيع فعله، فإن أقسم على ما لا يجوز و يشق على صاحبه لم يندب إلى الوفاء به‏.‏

وسأذكر كلام الطبرى فى حديث البراء فى كتاب الاستئذان، فى باب إفشاء السلام، فقد تقصى القول فى معانية أن شاء الله، وفى كتاب النكاح فى إجابة دعوة الوليمة، وقد تقدم جملة منه فى كتاب الجنائز‏.‏

باب الانْتِصَارِ مِنَ الظَّالِمِ

لِقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ‏}‏ الآية‏)‏ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ‏(‏، قَالَ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا‏.‏

قال‏:‏ الانتصار من الظالم مباح بهذه الآية، روى ابن أبى نجيح عن مجاهد قال‏:‏ نزلت هذه الآية‏:‏ ‏(‏لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ‏(‏فى الرجل يمر بالرجل فلا يضيفه فرخص له أن يقول فيه أنه لم يحسن ضيافته ويؤذيه بما فعل به‏.‏

وقال عز وجل‏:‏ ‏{‏والذين إذا أصابهم البغى هم ينتصرون ‏(‏وقال‏:‏ ‏(‏ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ‏(‏فأباح الانتصار بهذه الآيات‏.‏

وأما قول إبراهيم أنهم كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإن النبى- عليه السلام- قد روى عنه هذا المعنى، روى أنه استعاذ بالله من غلبة الرجال، واستعاذ من شماتة الأعداء، وقوله‏:‏ ‏(‏فإذا قدروا عفوا‏)‏، فإن العفو أجل وأفضل؛ لما جاء فى ثوابه وعظيم أجره صلى الله عليه وسلم وقد أثنى الله تعالى على من فعل ذلك فقال‏:‏ ‏(‏ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ‏(‏وهذه السبيل امتثل النبى فى خاصة نفسه، فكان لا ينتقم لنفسه، ولا يتقص من جفا عليه ولم يوقره، وقد جفا عليه كثير من الأعراب، وقال له قائل‏:‏ إنك ما عدلت منذ اليوم، فآثر عليه السلام الأخذ بالعفو ليسن لأمته‏.‏

باب عَفْوِ الْمَظْلُومِ

لِقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ‏(‏،‏)‏ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ‏}‏‏.‏

قد تقدم فى الباب قبل هذا أن العفو أفضل لما جاء فيه من الترغيب، وقد روى عن أحمد بن حنبل- رحمه الله- أنه قال‏:‏ قد جعلت المعتصم بالله فى حل من ضربى وسجنى؛ لأنه حدثنى هاشم بن القاسم عن ابن المبارك قال‏:‏ حدثنى من سمع الحسن البصرى يقول‏:‏ إذا جثت الأمم بين يدى رب العالمين يوم القيامة نودى‏:‏ ليقم من أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا فى الدنيا‏.‏

يصدق هذا الحديث قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ‏(‏وكان أحمد بن حنبل يقول‏:‏ ما أحب أن يعذب الله بسببى أحدًا‏.‏

وقال ابن الأنبارى‏:‏ كان الحسن البصرى يدعو ذات ليلة‏:‏ اللهم اعف عمن ظلمنى، فأكثر فى ذلك، فقال له رجل‏:‏ يا أبا سعيد، لقد سمعتك الليلة تدعو لمن ظلمك حتى تمنيت أن أكون فيمن ظلمك، فما دعاك إلى ذلك‏؟‏ قال‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن عفا وأصلح فأجره على الله‏}‏‏.‏

باب الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذه الظلمات لا نعرف كيف هى، إن كانت من عمى القلب أو هى ظلمات على البصر، والذى يدل عليه القرآن أنها ظلمات على البصر حتى لا يهتدى سبيلا، قال الله تعالى ‏:‏ ‏(‏يوم يقوم المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا ‏(‏إلى‏)‏ بسور‏}‏‏.‏

فدلت الآية أنهم حين منعوا النور بقوا فى ظلمة غشيت أبصارهم كما كانت أبصارهم فى الدنيا عليها غشاوة من الكفر، وقال تعالى فى المؤمنين‏:‏ ‏(‏يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ‏(‏فأثاب الله المؤمنين بلزوم نور الأيمان لهم، ولذذهم بالنظر إليه، وقوى به أبصارهم، وعاقب الكفار والمنافقين بأن أظلم عليهم، ومنعهم لذة النظر، هذا حديث مجمل بينه دليل القرآن‏.‏

باب مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ عِنْدَ أحد فَحَلَّلَهَا لَهُ هَلْ يُبَيِّنُ مَظْلَمَتَهُ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، أَوْ شَىْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ إن بين فهو أطيب وأصح فى التحلل؛ لأنه يعرف مقدار ما يحلله منه معرفة صحيحة، وقد اختلف العلماء فيمن كانت بينه وبين أحد معاملة وملابسة ثم حلل بعضهم بعضًا من كل ما جرى بينهما من ذلك، فقال قوم‏:‏ إن ذلك براءة له فى الدنيا والآخرة وإن لم يبين مقداره‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إنما تصح البراءة إذا بين له وعرف مال عنده أو قارب ذلك بما لا مشاحة فى مثله‏.‏

قال المهلب‏:‏ وهذا الحديث حجة لهذا القول؛ لأن قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أخذ منه بقدر مظلمته‏)‏ يدل أنه يجب أن يكون معلوم القدر مشارًا إليه‏.‏

باب الاتِّقَاءِ وَالْحَذَرِ مِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، بَعَثَ النَّبِىّ عليه السَّلام مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ‏)‏‏.‏

قد فسر ذلك عمر فى حديث الحمى فقال‏:‏ ‏(‏اتق دعوة المظلوم فإنها مجابة‏)‏، وقد روى ذلك عن النبى، روى ابن أبى شيبة قال‏:‏ حدثنا الفضل بن دكين قال‏:‏ حدثنا أبو معشر، عن سعيد بن أبى سعيد، عن أبى هريرة قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏دعوة المظلوم مجابة، وإن كان فاجرًا، فجوره على نفسه‏)‏‏.‏

وقال عون بن عبدا لله‏:‏ أربع دعوات لا ترد، ولا يحجبن عن الله‏:‏ دعوة والد راض، وإمام مقسط، ودعوة مظلوم، ودعوة رجل دعا لأخيه بظهر الغيب‏.‏

باب إِذَا حَلَّلَهُ مِنْ ظُلْمِهِ فَلاَ رُجُوعَ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ،‏)‏ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا ‏(‏قَالَتِ‏:‏ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَتَقُولُ‏:‏ أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِى فِى حِلٍّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِى ذَلِكَ‏.‏

العلماء متفقون أنه إذا حلله مما قد علم مبلغه، فإنه قد أبرأه، ولا رجوع له فيه، وروى عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏خشيت سودة بنت زمعة أن يطلقها النبى- عليه السلام- فقالت‏:‏ يا رسول الله لا تطلقنى وأمسكنى واجعل يومى لعائشة، ففعل؛ فأنزل الله‏:‏ ‏(‏أن يصلحا بينهما صلحًا والصلح خير ‏(‏فما اصطلحا عليه من شىء فهو جائز، فلم يكن لسودة الرجوع فى يومها الذى وهبت لعائشة‏.‏

باب إِذَا أَذِنَ لَهُ أَوْ أَحَلَّهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ هُوَ

- فيه‏:‏ سَهْل، أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام أُتِىَ بِشَرَابٍ، فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلاَمِ‏:‏ ‏(‏أَتَأْذَنُ لِى أَنْ أُعْطِىَ هَؤُلاَءِ‏؟‏‏)‏ فَقَالَ الْغُلاَمُ‏:‏ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِى مِنْكَ أَحَدًا، قَالَ‏:‏ فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى يَدِهِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ لو حلل الغلام فى نصيبه الأشياخ وأذن فى إعطائه لهم، لكان ما حلل منه غير معلوم لأنه لا يعرف مقدار ما كانوا يشربون ولا مقدار ما كان يشرب هو‏.‏

وقد تقدم فى كتاب المياه فى باب من رأى صدقة الماء وهبته جائزة مقسومًا كان أو غير مقسوم، أن سبيل ما يوضع للناس للأكل والشرب سبيله المكارمة وقلة التشاح، وقد طابت نفوس أصحاب النبى فى سبى هوازن جملة، وقبل النبى- عليه السلام- ذلك التطييب، ولم يعرف مقدار ما كان بيد كل واحد منهم‏.‏

وسيأتى فى كتاب الهبات فى آخر هذا الجزء فى باب الهبة المقسومة‏:‏ الخلاف فى المسألة- إن شاء الله- والمعروف من مذهب مالك أن هبة المجهول جائزة، مثل أن يهب رجل نصيبه فى ميراث رجل أو نصيبه فى دار لا يدرى مقداره، وكذلك كل ما لا يؤخذ عليه عوض فهبته عنده جائزة‏.‏

باب إِثْمِ مَنْ ظَلَمَ شَيْئًا مِنَ الأَرْضِ

- فيه‏:‏ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏مَنْ ظَلَمَ مِنَ الأَرْضِ شَيْئًا، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو سَلَمَة، أَنَّهُ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُنَاسٍ خُصُومَةٌ،، فَقَالَتْ عَائِشَة‏:‏ يَا أَبَا سَلَمَةَ، اجْتَنِبِ الأَرْضَ فَإِنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏مَنْ أَخَذَ مِنَ الأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ، خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قد جاء عن النبى كيف صورة هذا التطويق، ذكره الطبرى قال‏:‏ حدثنا سيفان بن وكيع قال‏:‏ حدثنا حسين ابن على، عن زائدة، عن الربيع، عن أيمن أبى ثابت- أو ابن أبى ثابت- قال‏:‏ حدثنى يعلى بن مرة الثقفى قال‏:‏ سمعت النبى- عليه السلام- يقول‏:‏ ‏(‏أيما رجل ظلم شبرًا من الأرض كلفه الله أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أرضين، ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضى بين الناس‏)‏‏.‏

ورواه الشعبى عن أيمن، عن يعلى بن مرة، عن النبى وقال فيه‏:‏ ‏(‏من سرق شبلاً من أرض أو غله جاء يحمله يوم القيامة على عنقه إلى سبع أرضين‏)‏‏.‏

ورواه مروان بن معاوية الفزارى، حدثنا أبو يعقوب، حدثنا أيمن ثنا يعلى بن مرة قال‏:‏ سمعت النبى- عليه السلام- يقول‏:‏ ‏(‏من أخذ أرضًا بغير حقها كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏(‏خسف به‏)‏ أنه يلج فى سبع أرضين فتكون كلها فى عنقه، فهو تطويق له‏.‏

باب إِذَا أَذِنَ إِنْسَانٌ لآخَرَ شَيْئًا جَازَ له

- فيه‏:‏ جَبَلَةَ، كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فِى بَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَصَابَتنَا سَنَةٌ، فَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَرْزُقُنَا التَّمْرَ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِنَا فَيَقُولُ‏:‏ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الإِقْرَانِ، إِلاَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَخَاهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مَسْعُود، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ لَهُ غُلاَمٌ لَحَّامٌ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ اصْنَعْ لِى طَعَامَ خَمْسَةٍ، لَعَلِّى أَدْعُو النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَأَبْصَرَ فِى وَجْهِ النَّبِىِّ عليه السَّلام الْجُوعَ فَدَعَاهُم، فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يُدْعَ، فَقَالَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ هَذَا قَدِ اتَّبَعَنَا، أَتَأْذَنُ لَهُ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ‏.‏

لا يكون الإذن إلا فيما يملكه الذى أذن فيه، كما أذن صاحب اللحم للرجل الذى جاء مع النبى- عليه السلام- فجاز له الأكل من ذلك الطعام، وكما أجاز النبى- عليه السلام- القران فى التمر إذا أذن فيه أصحابه الذين وضع بين أيديهم؛ لأنهم متساون فى الاشتراك فى أكله، فإذا استأثر أحدهم بأكثر من صاحبه لم يجز له؛ لما فى ذلك من الاستئثار بما لا تطيب عليه نفس صاحب الطعام، ولا أنفس الذين وضع بين أيديهم، إلا أن ما وضع للناس فسبيله سبيل المكارم لا سبيل التشاح، وإن تفاضلوا فى الأكل‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام‏}‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِىِّ عليه السَّلام قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ‏)‏‏.‏

قال‏:‏ هذا الحديث أدخله العلماء فى تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو ألد الخصام ‏(‏قال أهل اللغة‏:‏ الألد هو العسير الخصومة الشديد الحرب‏.‏

وقد ذمه الله تعالى لمدافعته من الحق ما يعلمه وتشهد به نفسه، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يعجبك قوله فى الحياة الدنيا ويشهد الله على ما فى قلبه وهو ألد الخصام ‏(‏وقد ترجم بهذه الترجمة فى كتاب الأحكام‏.‏

باب إِثْمِ مَنْ خَاصَمَ فِى بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ

- فيه‏:‏ أُمَّ سَلَمَةَ، أن النَّبِىّ عليه السَّلام سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِى الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَدَقَ فَأَقْضِىَ لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ، فَإِنَّمَا هِىَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ يَتْرُكْهَا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا يدل أن القوى على البيان البليغ فى تأدية الحجة قد يغلب بالباطل من أجل بيان، فيقضى له على خصمه، وليس ذلك بمحل ما حرم عليه؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فإنما هى قطعة من الناس‏)‏ وهذا هو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقًا من أموال الناس بالإثم‏}‏‏.‏

ذلك، وسيأتى هذا الحديث وما فيه من انتزاع العلماء فى كتاب الأحكام‏.‏

باب إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ

- فيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِىِّ عليه السَّلام قَالَ‏:‏ ‏(‏أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، كَانَ مُنَافِقًا- أَوْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ- كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا‏:‏ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ‏)‏‏.‏

الفجور‏:‏ الكذب والريبة، وذلك حرام، ألا ترى أن النبى- عليه السلام- قد جعل ذلك خصلة من النفاق، وليس هو بنفاق يخرج من الإيمان، وإنما أراد عليه السلام أن من كانت فيه هذه الخلال أو واحدة منها، فإنه منافق فيها خاصة، وليس بمنافق فى غيرها من دينه مما صح فيه اعتقاده ويقينه‏.‏

وإنما أطلق اسم النفاق على صاحب هذه الخلال؛ لأنها تغلب على أحوال المرء، وتستولى على أكثر الأفعال، فاستحق هذه التسمية بما غلب عليه من قبيح أفعاله، ومشابهته فيها المنافقين والكفار، فوصف بصفتهم تقبيحًا لحاله، ومجانبته أفعال المؤمنين- أعاذنا الله من ذلك- وقد تقدم بيان هذا المعنى فى كتاب الإيمان‏.‏

باب قِصَاصِ الْمَظْلُومِ إِذَا وَجَدَ مَالَ ظَالِمِهِ

قَالَ ابْنُ سِيرِينَ يُقَاصُّهُ، وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ‏}‏ الآية‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، جَاءَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، إِلىَ النَّبىِّ عَلَيهِ السَّلاَم فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَىَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنِ الَّذِى لَهُ عِيَالَنَا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لاَ حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ بِالْمَعْرُوفِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ‏:‏ قُلْنَا لِلنَّبِىِّ عليه السَّلام‏:‏ إِنَّكَ تَبْعَثُنَا، فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لاَ يَقْرُونَا فَمَا تَرَى فِيهِ‏؟‏ فَقَالَ لَنَا‏:‏ ‏(‏إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ، فَأُمِرَ لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِى لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا، فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى الذى يجحد وديعة غيره، ثم يجد المودع له مالا، هل يأخذه عوضًا من حقه أم لا‏؟‏‏.‏

اختلف قول مالك فى ذلك، فروى ابن القاسم عن مالك أنه لا يفعل، واحتج بما روى عن النبى أنه قال‏:‏ ‏(‏أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك‏)‏‏.‏

وروى زياد عن مالك أن له أن يأخذ حقه إذا وجده من ماله إذا لم يكن فيه شىء من الزيادة، وهو قول الشافعى واحتج بحديث هند‏.‏

وروى ابن وهب عن مالك أنه إذا لم يكن على الجاحد للمال دين فله أن يأخذ مما يظفر له به من المال حقه، فإن كان عليه دين فليس له أن يأخذ إلا بمقدار ما يكون فيه أسوة الغرماء‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ يأخذ من الذهب الذهب، ومن الفضة الفضة، ومن المكيل المكيل ومن الموزون الموزون، ولا يأخذ غير ذلك‏.‏

وقال زفر‏:‏ له أن يأخذ العرض بالقيمة‏.‏

وأولى الأقوال بالصواب فى ذلك قول من أجاز الانتصاف من حقه إذا وجد مال من ظلمه بدلالة الآية، ودلالة حديث هند، ألا ترى أن النبى- عليه السلام- أجاز لها أن تطعم عيلة زوجها من ماله المعروف، عوض ما قصر فيه من إطعامهم، فدخل فى معنى ذلك كل من وجب عليه حق و لم يوفه أو جحده أنه يجوز له الاقتصاص منه، وليس قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك‏)‏ بمخالف لهذا المعنى؛ لأن من أخذ حقه فلا يسمى خائنًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أد الأمانة إلى من ائتمنك‏)‏ معناه الخصوص، فكأنه قال‏:‏ أد الأمانة إلى من ائتمنك إذا لم يكن غاصبًا لمالك ولا جاحدًا له، وأما من غصبك حقك و جحدك فليس يدخل فيمن أمر بأداء الأمانة إليه؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ‏(‏ولدلالة حديث هند، وهذا التأويل ينفى التضاد عن الآثار ودليل القرآن‏.‏

وأما حديث عقبة بن عامر فقال أكثر العلماء أنه كان فى أول الإسلام، حين كانت المواساة واجبة، وهو منسوخ بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏جائزته يوم وليلة‏)‏ قالوا‏:‏ والجائزة تفضل وليست بواجبة، وستأتى مذاهب العلماء فى الضيافة فى كتاب الأدب فى باب إكرام الضيف- إن شاء الله‏.‏

باب مَا جَاءَ فِى السَّقَائِفِ

وَجَلَسَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ - فيه‏:‏ عُمَرَ، قَالَ حِينَ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِنَّ الأَنْصَارَ اجْتَمَعُوا فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ، فَقُلْتُ لأَبِى بَكْرٍ‏:‏ انْطَلِقْ بِنَا فَجِئْنَاهُمْ فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ‏.‏

قال‏:‏ السقائف والحوانيت قد علم الناس ما وضعت له، ومن اتخذ فيها مجلسًا فذلك مباح له إذا التزم ما جاء فى ذلك من غض البصر، ورد السلام، وهداية الضال، وجميع شروطه‏.‏

باب لاَ يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِى جِدَارِهِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏لاَ يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِى جِدَارِهِ‏)‏، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ مَا لِى أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ، وَاللَّهِ لاَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ‏.‏

قال أبو جعفر الطحاوى‏:‏ حدثنى روح بن الفرج قال‏:‏ سألت أبا زيد والحارث بن هشام ويونس بن عبد الأعلى كيف لفظ‏:‏ ‏(‏أن يغرز خشبة فى جداره‏؟‏‏)‏، فقالوا جميعًا‏:‏ خشبة بالنصب والتنوين على خشبة واحدة‏.‏

واختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة‏:‏ هو على الوجوب إذا لم يكن فى ذلك مضرة على صاحب الجدار، وهو قول الشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور‏.‏

وذهب مالك والكوفيون إلى أنه لايغرز خشبة فى حائط أحد إلا بإذن صاحب الحائط، ومجمل الحديث عندهم على الندب، والحجة لهم قول الرسول‏:‏ ‏(‏إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام‏)‏‏.‏

وأنه لا يجوز لأحد أن يجبر أحدًا على أن يفعل فى ملكه ما يضر به، وقد قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه‏)‏ قالوا‏:‏ فعلمنا أن قوله‏:‏ ‏(‏لا يمنع جاره أن يغرز خشبة فى جداره‏)‏ محمول على الندب وحسن المجاورة لا على الوجوب، وهو كقوله‏:‏ ‏(‏ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه‏)‏ وكقوله‏:‏ ‏(‏ما آمن من بات شبعان وجاره طاو‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ولو كان الحديث معناه الوجوب ما جهل الصحابة تأويله، ولا كانوا معرضين عن أبى هريرة حين كان يحدثهم بهذا الحديث، وإنما جاز لهم ذلك لتقرر الأعمال والأحكام عندهم بخلافه، ولا يجوز عليهم جهل الفرائض، فدل ذلك أن معناه على الندب، وفى هذا دليل أن تأويل الأحاديث على ما تلقاها عليه الصحابة، لا على ظواهرها‏.‏

قال المهلب‏:‏ ولو بلغ من اجتهاد حاكم أن يحكم به لنفذ حكمه بما حض النبى عليه أمته من ذلك، كما حكم عمر على ابن مسلمة فى تحويل الساقية إلى جنبه، وسئل ابن القاسم عن رجل كانت له خشبة فى حائط أدخلها بإذنه، ثم إن الذى له الحائط وقع بينه وبين الذى له الخشبة شحناء، فقال له‏:‏ أخرج خشبتك من حائطى‏.‏

قال مالك‏:‏ ليس له أن يخرجها على وجه الضرر، ولكن ينظر فى ذلك فإن احتاج الرجل إلى حائطه لهدمه فهو أولى به، وروى ابن عبد الحكم عنه أنه قال‏:‏ وأن أراد بيع داره فقال‏:‏ انزع خشبك‏.‏

فليس له ذلك‏.‏

وقال مطرف وابن الماجشون‏:‏ لا يقلع الخشب أبدًا وإن احتاج صاحب الجدار إلى جداره‏.‏

باب صَبِّ الْخَمْرِ فِى الطَّرِيقِ

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ‏:‏ كُنْتُ سَاقِىَ الْقَوْمِ فِى مَنْزِلِ أَبِى طَلْحَةَ، وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنَادِيًا يُنَادِى‏:‏ أَلاَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، قَالَ‏:‏ فَقَالَ لِى أَبُو طَلْحَةَ‏:‏ اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا، فَخَرَجْتُ فَأَهْرَقْتُهَا، فَجَرَتْ فِى سِكَكِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ‏:‏ قَدْ قُتِلَ قَوْمٌ، وَهِىَ فِى بُطُونِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏(‏لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا‏}‏ الآية‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما جاز هرق الخمر فى الطرق للسمعة، بهرقها والتشنيع، و الائتمار لله فى رفضها والإعلان بنبذها، ولولا ذلك ما حسن هرقها فى الطريق، من أجل أذى الناس فى ممشاهم، ونحن نمنع من إراقة الماء الطاهر فى الطريق من أجل أذى الناس فى ممشاهم فكيف بالخمر‏.‏

باب أَفْنِيَةِ الدُّورِ وَالْجُلُوسِ فِيهَا وَالْجُلُوسِ عَلَى الصُّعُدَاتِ

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ‏)‏، فَقَالُوا‏:‏ مَا لَنَا بُدٌّ إِنَّمَا هِىَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَ الْمَجَالِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا‏)‏، قَالُوا‏:‏ وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْىٌ عَنِ الْمُنْكَرِ‏)‏‏.‏

قال الطبرى وغيره‏:‏ فيه من الفقه وجوب غض البصر عن النظر إلى عورة مؤمن ومؤمنة، وعن جميع المحرمات، وكل ما تخشى الفتنة منه، وقد قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ وجوب رد السلام على من سلم عليه، ولزوم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وكف الأذى، وقد روى عمر بن الخطاب هذا الحديث عن النبى- عليه السلام- وزاد فيه‏:‏ ‏(‏إغاثة الملهوف‏)‏ قال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ وفيه قطع الذرائع؛ لأن الجلوس ذريعة إلى تسليط البصر، وقلة القيام بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فلذلك نهى عنه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما يلزم المؤمن تغيير المنكر، وإغاثة الملهوف، وعون الضعيف ما دفعت الحضرة إليه، وليس عليه طلب ذلك، إنما عليه ما حضر منها‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وفيه الدلالة على الندب إلى لزوم المنازل التى يسلم لازمها من رؤية ما يكره رؤيته، وسماع ما لا يحل له سماعه، مما يجب عليه إنكاره ومن معاونة مستغيث يلزمه إعانته، وذلك أن الرسول إنما أذن فى الجلوس بالأفنية والطرق بعد نهيه عنه إذا كان من يقوم بالمعانى التى ذكرها عليه السلام‏.‏

وإذا كان ذلك كذلك بالأسواق التى تجمع المعانى التى أمر النبى- عليه السلام- الجالس بالطريق باجتنابها مع الأمور التى هى أوجب منها وألزم من ترك الكذب والحلف بالباطل وتحسين السلع بما ليس فيها، وغش المسلمين، وغير ذلك من المعانى التى لا يطيق القيام بما يلزمه فيها إلا من عصمه الله أحق وأولى بترك الجلوس فيها من الأفنية والطرق، وقد روى نحو قولنا عن جماعة من أهل العلم، روى هشام بن عروة، عن عبد الله بن الزبير قال‏:‏ المجالس حلق الشيطان، إن يروا حقا لا يقوموا به، وإن يروا باطلا فلا يدفعوه‏.‏

وقال عامر‏:‏ كان الناس يجلسون فى مساجدهم، فلما قتل عثمان خرجوا إلى الطريق يسألون عن الأخبار‏.‏

وقال سلمان‏:‏ لا تكونن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فإنها معركة الشيطان، وبها ينصب رايته‏.‏

وقال‏:‏ السوق مبيض الشيطان ومفرخه‏.‏

وقد يرخص فى الجلوس بالأفنية والطرق والأسواق قوم من أهل الفضل والعلم، ولعلهم إنما فعلوا ذلك؛ لأنهم قاموا بما عليهم فيه‏.‏

قال أبو طلحة بن عبيد الله‏:‏ مجلس الرجل بيان مروءة‏.‏

وقال ابن عوف‏:‏ مررت بعامر وهو جالس بفنائه‏.‏

وقال ابن أبى خالد‏:‏ رأيت الشعبى جالسًا فى الطريق‏.‏

والصعدات‏:‏ الطرق، عن صاحب العين‏.‏

باب الآبَارِ عَلَى الطُّرُقِ إِذَا لَمْ يُتَأَذَّ بِهَا

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ عَلَيْهِ السَّلاَم قَالَ‏:‏ ‏(‏بَيْنَا رَجُلٌ بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا يدل أن حفر الآبار بحيث يجوز للحافر حفرها من أرض مباحة أو مملوكة له جائز، ولم يمنع ذلك لما فيه من البركة وتلافى العطشان، ولذلك لم يكن ضمانًا؛ لأنه قد يجوز مع الانتفاع بها أن يستضر بها ساقط بليل فيها أو تقع فيها ماشية، لكنه لما كان ذلك نادرًا وكانت المنفعة بها أكثر غلب حال الانتفاع على حال الاستضرار؛ فكانت جبارًا لا دية لمن هلك فيها‏.‏

باب إِمَاطَةِ الأَذَى

وَقَالَ هَمَّامٌ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، ‏(‏تُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قول أبى هريرة‏:‏ ‏(‏تميط الأذى عن الطريق صدقة‏)‏ ليس هو من رأيه؛ لأن الفضائل لا تدرك بقياس، وإنما تؤخذ توقيفًا عن النبى- عليه السلام- وقد أسند مالك معناه من حديث أبى هريرة عن النبى- عليه السلام- أنه قال‏:‏ ‏(‏بينما رجل يمشى بطريق إذا وجد غصن شوك على الطريق فأخره؛ فشكر الله له فغفر له‏)‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف تكون إماطة الأذى عن الطريق صدقة‏؟‏ قيل‏:‏ معنى الصدقة إيصال النفع إلى المتصدق عليه‏.‏

فأما إماطة الأذى عن الطريق فقد تسبب إلى سلامة أخيه المسلم من ذلك الأذى، فكأنه قد تصدق عليه بالسلامة منه، فكان له على ذلك أجر الصدقة، وهذا كما جعل عليه السلام الإمساك عن الشر صدقة على نفسه‏.‏

وإماطة الأذى وكل ما أشبهه حض على الاستكثار من الخير وأن لا يستقل منه شىء، وقد قال عليه السلام لأبى تميمة الهجيمى‏:‏ ‏(‏لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تضع من دلوك فى إناء المستقى‏)‏‏.‏

باب الْغُرْفَةِ وَالْعُلِّيَّةِ الْمُشْرِفَةِ فِى السُّطُوحِ وَغَيْرِهَا

- فيه‏:‏ أُسَامَةَ، أَشْرَفَ النَّبِىُّ عليه السَّلام عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى‏؟‏ إِنِّى أَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ‏)‏‏.‏

- وفيه ابْن عَبَّاسٍ، لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ عليه السَّلام اللَّتَيْنِ، قَالَ اللَّهُ لَهُمَا‏:‏ ‏(‏إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ‏(‏فَحَجَجْتُ مَعَه، فَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالإِدَاوَةِ، فَتَبَرَّزَ حَتَّى جَاءَ، فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الإِدَاوَةِ، فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنِ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَانِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمَا‏:‏ ‏(‏إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ‏(‏‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ وَا عَجَبِى لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الْحَدِيثَ يَسُوقُهُ، فَقَالَ‏:‏ إِنِّى كُنْتُ وَجَارٌ لِى مِنَ الأَنْصَارِ فِى بَنِى أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَهِىَ مِنْ عَوَالِى الْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَيَنْزِلُ يَوْمًا، وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الأَمْرِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَهُ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا هُمْ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ، فَصِحْتُ عَلَى امْرَأَتِى، فَرَاجَعَتْنِى، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِى، فَقَالَتْ‏:‏ وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ، فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم ليُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ، فَأَفْزَعَنِى، فَقُلْتُ‏:‏ خَابَتْ مَنْ فَعَلَ مِنْهُنَّ بِعَظِيمٍ، ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَىَّ ثِيَابِى، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ‏:‏ أَىْ حَفْصَةُ، أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ‏؟‏ فَقَالَتْ‏:‏ نَعَمْ، فَقُلْتُ‏:‏ خَابَتْ وَخَسِرَتْ، أَفَتَأْمَنُ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَتَهْلِكِينَ، لاَ تَسْتَكْثِرِى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِى شَىْءٍ، وَلاَ تَهْجُرِيهِ، وَاسْأَلِينِى مَا بَدَا لَكِ، وَلاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكَ هِىَ أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُرِيدُ عَائِشَةَ، وَكُنَّا تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ النِّعَالَ لِغَزْوِنَا، فَنَزَلَ صَاحِبِى يَوْمَ نَوْبَتِهِ، فَرَجَعَ عِشَاءً، فَضَرَبَ بَابِى ضَرْبًا شَدِيدًا، وَقَالَ‏:‏ أَنَائِمٌ هُوَ‏؟‏ فَفَزِعْتُ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، وَقَالَ‏:‏ حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ‏:‏ مَا هُوَ أَجَاءَتْ غَسَّانُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لاَ، بَلْ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَطْوَلُ، طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، قَالَ‏:‏ قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ، كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ، فَجَمَعْتُ عَلَىَّ ثِيَابِى، فَصَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ مَشْرُبَةً لَهُ، فَاعْتَزَلَ فِيهَا، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَإِذَا هِىَ تَبْكِى، قُلْتُ‏:‏ مَا يُبْكِيكِ، أَوَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ، أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ‏:‏ لاَ أَدْرِى هُوَ ذَا فِى الْمَشْرُبَةِ، فَخَرَجْتُ، فَجِئْتُ الْمِنْبَرَ، فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِى بَعْضُهُمْ، فَجَلَسْتُ مَعَهُمْ قَلِيلاً، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ الْمَشْرُبَةَ الَّتِى هُوَ فِيهَا، فَقُلْتُ لِغُلاَمٍ لَهُ أَسْوَدَ‏:‏ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ فَكَلَّمَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ‏:‏ ذَكَرْتُكَ لَهُ، فَصَمَتَ فَانْصَرَفْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْغُلاَمَ، فَقُلْتُ‏:‏ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا، فَإِذَا الْغُلاَمُ يَدْعُونِى، قَالَ‏:‏ أَذِنَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ، قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ، مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ‏:‏ طَلَّقْتَ نِسَاءَكَ، فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَىَّ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لاَ‏)‏، ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ‏:‏ أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَنِى وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى قَوْمٍ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَذَكَرَهُ فَتَبَسَّمَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قُلْتُ‏:‏ لَوْ رَأَيْتَنِى وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ‏:‏ لاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِىَ أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، يُرِيدُ عَائِشَةَ، فَتَبَسَّمَ أُخْرَى، فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ، ثُمَّ رَفَعْتُ بَصَرِى فِى بَيْتِهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلاَثَةٍ، فَقُلْتُ‏:‏ ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ، فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا، وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَوَفِى شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏)‏، فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَغْفِرْ لِى، فَاعْتَزَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ، وَكَانَ قَدْ قَالَ‏:‏ مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ، فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَبَدَأَ بِهَا، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ‏:‏ إِنَّكَ أَقْسَمْتَ أَنْ لاَ تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، وَإِنَّا أَصْبَحْنَا لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا، فَقَالَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ‏)‏، وَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، قَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ فَأُنْزِلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ، فَبَدَأَ بِى أَوَّلَ امْرَأَةٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنِّى ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا وَلاَ عَلَيْكِ أَنْ لاَ تَعْجَلِى حَتَّى تَسْتَأْمِرِى أَبَوَيْكِ‏)‏، قَالَتْ‏:‏ قَدْ أَعْلَمُ أَنَّ أَبَوَىَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِى بِفِرَاقِكَ، ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ قَالَ‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ ‏(‏، إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏عَظِيمًا ‏(‏قُلْتُ‏:‏ أَفِى هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَىَّ، فَإِنِّى أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ، فَقُلْنَ‏:‏ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ‏.‏

الغرف والسطوح وغيرها مباحة ما لم يطلع منها على حرمة أحد أو عورة له، قال المهلب‏:‏ وفى حديث ابن عباس الحرص على العلم وخدمة الرجل الشريف للسلطان والعالم، وأنه لا ضعة عليه فى خدمته، وفيه الكلام فى العلم على كل حال، فى المشى والطرق والخلوات، فأما قوله‏:‏ ‏(‏واعجبًا لك‏)‏ عجب من حرصه على سؤاله عما لا ينتبه إليه إلا الحريص على العلم من تفسير ما لا محكم فيه من القرآن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏استقبل عمر الحديث‏)‏ فيه أن المحدث قد يأتى بالحديث على وجهه ولا يختصره؛ لأنه قد كان يكتفى حين سأله ابن عباس عن المرأتين بما أخبره به من قوله‏:‏ ‏(‏عائشة وحفصة‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏كنا نغلب النساء‏)‏ يريد أن شدة المواطأة على النساء مذموم؛ لأن النبى سار بسيرة الأنصار فيهن وترك سيرة قومه قريش، وفيه موعظة الرجل ابنته وإصلاح خلقها لزوجها، وفيه الحزن والبكاء لأمور رسول الله وما يكرهه، والاهتمام بما يهمه، وفيه الاستئذان والحجابة للناس كلهم كان مع المستأذن عليه عيال أو لم يكن، وفيه الانصراف بغير صرف من المستأذن عليه‏.‏

ومن هذا الحديث قال بعض العلماء‏:‏ إن السكوت يحكم به كما حكم عمر بسكوت النبى عن صرفه له، وفيه التكرير بالاستئذان، وفيه أن للسلطان أن يأذن أو يسكت أو يصرف، وفيه تقلل النبى من الدنيا، وصبره على مضض ذلك، وكانت له عنه مندوحة، وفيه أنه يسئل السلطان عن فعله إذا كان ذلك مما يهم أهل طاعته، وفى قول النبى لعمر‏:‏ ‏(‏لا‏)‏ رد لما أخبر به الأنصارى من طلاق نسائه، ولم يخبر عمر بما أخبر به الأنصارى ولا شكاه، لعلمه أنه لم يقصد للأخبار بخلاف القصة، وإنما هو وهم جرى عليه‏.‏

وفى قوله‏:‏ ‏(‏أستأنس‏)‏ استنزال السلطان والاستئناس بين يديه بالحديث، وأخذ إذنه فى الكلام، وفى تبسم النبى لعمر حين ذكر غلبة قريش لنسائها وتحكم نساء الأنصار عليهم‏:‏ دليل أن المعنيين ليسا بمحرمين، وفيه الجلوس بين يدى السلطان وإن لم يأمر بذلك إذا استؤنس منه إلى انبساط خلق‏.‏

وفيه‏:‏ أنه لا يجب أن يتسخط أحد حاله ولا ما قسم الله له، ولا يستحقر نعمة الله عنده، ولا سابق فضله؛ لأنه يخاف عليه ضعف يقينه، وفيه أن المتقلل من الدنيا ليرفع طيباته إلى دار البقاء خير حالا ممن تعجلها فى الدنيا الفانية، والمتعجل لها أقرب إلى السفه، وفيه الاستغفار من السخط وقله الرضا، وفيه سؤال النبى صلى الله عليه وسلم الاستغفار، وكذلك يجبب أن يسأل أهل الفضل والخير الدعاء و الاستغفار‏.‏

وفيه‏:‏ أن المرأة تعاقب على إفشاء سر زوجها، وعلى التحيل عليه بالأذى، والمنع من موافقته وشهواته بالتوبيخ لها بالقول، كما وبخ الله أزواج النبى على تظاهرهما عليه وإفشاء سره، وعاقبهن النبى بالإيلاء والاعتزال والهجران كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏واهجروهن فى المضاجع ‏(‏وفيه أن الشهر يكون تسعة وعشرين يومًا، فإنما يجرى فيه على الأهلة التى جعلها الله مواقيت للناس فى آجالهم‏.‏

وفيه‏:‏ الرجل إذا قدم من سفر أو طرأ على أزواجه أن يبدأ بمن شاء منهن، وأنه ليس عليه أن يبدأ من حيث بلغ قبل الخروج وفى نقض رتبة الدوران وابتدائه من حيث بدأ دليل أن القسمة بين النساء فيها توسعة، ويدل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل ‏(‏ومن أبيح له بعض الميل فقد رخص له فى التقصير عن العدل فى القسمة، وفيه أن المرأة الرشيدة لا بأس أن تشاور أبويها و ذا الرأى من أهلها فى أمر نفسها ومالها؛ لأن أمر نفسها أخف من أمر مالها، و إذا كان النبى أمرها بالمشاورة فى أمر نفسها التى هى أحق بها من وليها فهى فى المال أولى بالمشاورة لا على أن المشاورة لازمة لها إذا كانت رشيدة كما كانت عائشة، وليس على من يتبين له رشد رأيه أن يشاور، ويسقط عنه الندب فيه‏.‏

والمشربة‏:‏ الغرفة، والأطم‏:‏ حصن مبنى بالحجارة، وقال أبو عبيدة‏:‏ رملت الحصير رملاً وأرملته إذا نسجته‏.‏

باب مَنْ عَقَلَ بَعِيرَهُ عَلَى الْبَلاَطِ أَوْ فِى بَابِ الْمَسْجِدِ

- فيه‏:‏ جَابِر، دَخَلَت على النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ، وَعَقَلْتُ الْجَمَلَ فِى نَاحِيَةِ الْبَلاَطِ، فَقُلْتُ‏:‏ هَذَا جَمَلُكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أن للداخل فى المسجد رحابه وما حواليه مناخًا لبعيره ومحبسًا له، وفيه جواز إدخال الأمتعة والأثاث فى المساجد قياسًا على دخول البعير فيه، وفيه حجة لمالك والكوفيين فى طهارة أبوال الإبل وأرواثها، ورد على الشافعى فى قوله بنجاستها، وهذا خلاف لدليل الحديث، ولو كانت نجسة كما زعم ما جاز لجابر إدخال البعير فى المسجد، و حين أدخله فيه ورآه النبى- عليه السلام- لم يسوغه ذلك ولأنكره عليه، وأمره بإخراجه من المسجد خشية لما يكون منه الروث والبول إذا لا يؤمن حدوث ذلك منه، وعلى قول الشافعى لا يجوز إدخال البعير فى المسجد لنجاسة بوله وروثه، وعلى مذهب الآخرين يجوز إدخالها فيه لطهارة أبوالها وأرواثها، وقد تقصيت الحجة فى ذلك فى كتاب الطهارة فأغنى عن إعادته‏.‏

باب الْوُقُوفِ وَالْبَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْمٍ

- فيه‏:‏ حُذَيْفَةَ، أَتَى النَّبِىُّ عليه السَّلام سُبَاطَةَ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا‏.‏

قال المهلب‏:‏ السباطة‏:‏ المزبلة، ولا حرج على أحد فى البول فيها وإن كانت لقوم بأعيانهم؛ لأنها أعدت لطرح الكناسات والنجاسات فيها‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ السباطة نحو من الكناسة، وقد تقدم حكم البول قائمًا فى كتاب الطهارة‏.‏

باب مَنْ أَخَذَ الْغُصْنَ أَوْ مَا يُؤْذِى النَّاسَ فِى الطَّرِيقِ فَرَمَى بِهِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِى بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ فَأَخَذَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ إماطة الأذى وكل ما يؤذى الناس فى الطرق مأجور عليه، وفيه‏:‏ أن قليل الأجر قد يغفر الله به كثير الذنوب، وقد قال النبى‏:‏ ‏(‏الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ دليل أن طرح الشوك فى الطريق والحجارة والكناسة والمياه المفسدة للطرق وكل ما يؤذى الناس تخشى العقوبة عليه فى الدنيا والآخرة‏.‏

باب إِذَا اخْتَلَفُوا فِى الطَّرِيقِ الْمِيتَاءِ وَهِىَ الرَّحْبَةُ تَكُونُ بَيْنَ الطَّرِيقِ ثُمَّ يُرِيدُ أَهْلُهَا الْبُنْيَانَ فَتُرِكَ مِنْهَا لِلطَّرِيق سَبْعَةَ أَذْرُعٍ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَضَى النَّبِىُّ عليه السَّلام إِذَا تَشَاجَرُوا فِى الطَّرِيقِ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا حكم من النبى فى الأفنية، إذا أراد أهل الأرض البنيان أن يجعل الطريق سبعة أذرع حتى لا يضر بالمارة عليها، وإنما جعلها سبعة أذرع لمدخل الأحمال والأثقال ومخرجها وتلاقها، ومدخل الركبان والرحال، ومطرح مما لا بد لهم من مطرحه عند الحاجة إليه، وما لا يجد الناس بدا من الارتفاق من أجله بطرقهم‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والحديث على الوجوب عند العلماء للقضاء به، ومخرجه على الخصوص عندهم، ومعناه أن كل طريق يجعل سبعة أذرع، وما يبقى بعد ذلك لكل واحد من الشركاء فى الأرض قدر ما ينتفع به، ولا مضرة عليه فيه، فهى المراد بالحديث، وكل طريق يؤخذ لها سبعة أذرع ويبقى لبعض الشركاء من نصيبه بعد ذلك ما لا ينتفع به فغير داخل فى معنى الحديث‏.‏

وقال غيره‏:‏ هذا الحديث هو فى أمهات الطرق وما يكثر الاختلاف فيه والمشى عليه، وأما بنات الطرق فيجوز فى أفنيتها ما اتفقوا عليه، وإن كان أقل من سبعة أذرع‏.‏

وروى ابن وهب عن ابن سمعان أن من أدرك من العلماء قالوا فى الطريق يريد أهلها تبيان عرضها‏:‏ إن أهلها الذين هم أقرب الناس منها يقتطعونها بالجصص على قدر ما شرع فيها من ربعهم فيعطى صاحب الربع الواسع بقدره، وصاحب الصغيرة بقدره، ويتركون لطريق المسلمين ثمانية أذرع أو سبعة أذرع على ما روى عن النبى‏.‏

واختلف أصحاب مالك فيمن أراد أن يبنى فى الفناء الواسع ولا يضر فيه بأحد بعد أن يترك للطريق سبعة أذرع أو ثمانية، فروى ابن وهب عن مالك أنه ليس له ذلك، وقال أصبغ‏:‏ أكرهه، فإن ترك لم يعرض له، قد تركت فأفتى فيها أشهب قال‏:‏ إذا كانت الطريق واسعة وأخذ منها يسيرًا لا ضرر فيه فلا بأس بذلك‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ وقول مالك أعجب إلى، لأن الطريق المنفعة فيه للناس عامة، وربما ضاق الطريق بأهله وبالدواب فيميل الراكب وصاحب الحمل عن الطريق إلى تلك الأفنية والرحاب فيتسع فيها، فليس لأهلها تغييرها عن حالها‏.‏

وقول أصبغ وأشهب يعضده حديث أبى هريرة، وما وافق الحديث أولى مما خالفه، ففيه الحجة البالغة، ومن معنى هذا الباب ما ذكره ابن حبيب أن عمر بن الخطاب قضى بالأفنية لأرباب الدور، وتفسير هذا يعنى أنه قضى بالانتفاع بالمجالس والمرابط والمصاطب وجلوس الباعة فيها، وليس بأن تحاز بالبنيان والتحضير، وقد مر عمر بكير حداد فى السوق فأمر به فهدم، وقال‏:‏ يضيقون على الناس‏.‏

وقال أبو عمرو الشيبانى‏:‏ الميتاء‏:‏ أعظم الطريق، وهى التى يكثر إتيان الناس عليها‏.‏

قال حميد بن ثور‏:‏ إذا انضم ميتاء الطريق عليهما مضت قدمًا موج الجذام زهوق‏.‏

باب النُّهْبَى بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ

وَقَالَ عُبَادَةُ‏:‏ بَايَعْنَا النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لاَ نَنْتَهِبَ - وفيه‏:‏ عَبْدَاللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، نَهَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النُّهْبَى، وَالْمُثْلَةِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَقَالَ عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏)‏‏.‏

الانتهاب الذى أجمع العلماء على تحريمه هو ما كانت العرب عليه من الغارات وانطلاق الأيدى على أموال الناس بالباطل، فهذه النهبة لا ينتهبها مؤمن، كما لا يسرق ولا يزنى مؤمن، يعنى مستكمل الإيمان، على هذا وقعت البيعة فى حديث عبادة فى قوله‏:‏ ‏(‏بايعنا رسول الله ألا ننتهب‏)‏ يعنى‏:‏ ألا نغير على المسلمين فى أموالهم‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وفسر الحسن والنخعى هذا الحديث، فقالا‏:‏ النهبة المحرمة أن ينتهب مال الرجل بغير إذنه وهو له كاره‏.‏

و هو قول قتادة‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ وهذا وجه الحديث على ما فسره النخعى والحسن، وأما النهبة المكروهة فهو ما أذن فيه صاحبه للجماعة وأباحة لهم وغرضه تساويهم فيه أو مقاربة التساوى، فإذا كان القوى منهم يغلب الضعيف على ذلك ويحرمه، فلم تطب نفس صاحبه بذلك الفعل‏.‏

وقد اختلف العلماء فيما ينثر على رءوس الصبيان فى الأعراس فتكون فيه النهبة فكرهه مالك والشافعى، وأجازة الكوفيون، قال الأبهرى‏:‏ وإنما كرهه، لأنه قد يأخذ منه من لا يحب صاحب الشىء أخذه ويحب أخذ غيره له‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ إلا أنه لا تجرح بذلك شهادة أحد، وأنما أكرهه، لأن من أخذه إنما أخذه بفضل قوة وقلة حياء، ولم يقصد به هو وحده، إنما قصد به الجماعة، ولا يعرف حظه من حظ غيره، فهو خلسة و سحت‏.‏

واحتج الكوفيون بأن النبى- عليه السلام- لما نحر الهدى قال‏:‏ ‏(‏دونكم فانتهبوا‏)‏، قال ابن المنذر‏:‏ هذا الحديث حجة فى إجازة أخذ ما نثر فى الملاك وغيره، وأبيح أخذه، لأن المبيح لهم ذلك قد علم اختلاف فعلهم فى الأخذ وليس فى البدن التى أباحها النبى- عليه السلام- لأصحابه معنى إلا وهو موجود فى النثار- والله أعلم‏.‏

باب كَسْرِ الصَّلِيبِ وَقَتْلِ الْخِنْزِيرِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ‏)‏‏؟‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا وعد من النبى- عليه السلام- بنزول عيسى ابن مريم إلى الأرض، وفيه من الفقه كسر نصب المشركين وجميع الأوثان، وإنما قصد إلى كسر الصليب وقتل الخنزير من أجل أنهما فى دين النصارى المغترين المعتدين فى شريعتهم إليه، فأخبر النبى أن عيسى سيغير ما نسبوه إليه كما غيره محمد وأعلمهم أنهم على الباطل فى ذلك، فدل هذا أن عيسى يأتى بتصحيح شريعة محمد حاكمًا بالعدل بين أهلها‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏ويضع الجزية‏)‏، فمعناه يتركها فلا يقبلها، لأنه إنما قبلناها نحن لحاجتنا إلى المال، وليس يحتاج عيسى عند خروجه إلى مال، لأنه يفيض فى أيامه حتى لا يقبله أحد، ولا يقبل إلا الإيمان بالله وحده، وأما الساعة فلو كسر صليب لأهل الكتاب المعاهدين بين أظهرنا لكان ذلك تعديا، لأن على ذلك يؤدون الجزية، وإن كسره لأهل الحرب كان مشكوراُ، وكذلك قتل الخنزير‏.‏

باب هَلْ تُكْسَرُ الدِّنَانُ الَّتِى فِيهَا الْخَمْرُ أَوْ تُخَرَّقُ الزِّقَاقُ

، فَإِنْ كَسَرَ صَنَمًا أَوْ صَلِيبًا أَوْ طُنْبُورًا، أَوْ مَا لاَ يُنْتَفَعُ بِخَشَبِهِ وَأُتِىَ شُرَيْحٌ فِى طُنْبُورٍ كُسِرَ فَلَمْ يَقْضِ فِيهِ بِشَىْءٍ‏.‏

- فيه‏:‏ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَع، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام رَأَى نِيرَانًا تُوقَدُ يَوْمَ خَيْبَرَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏عَلَى مَا تُوقَدُ هَذِهِ النِّيرَانُ‏؟‏‏)‏ قَالُوا‏:‏ عَلَى الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏اكْسِرُوهَا وَأَهْرِقُوهَا‏)‏، قَالُوا‏:‏ أَلاَ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏اغْسِلُوا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن مَسْعُود، دَخَلَ النَّبِىُّ عليه السَّلام مَكَّةَ، وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاَثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِى يَدِهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ‏}‏ الآية‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّهَا كَانَتِ اتَّخَذَتْ عَلَى سَهْوَةٍ لَهَا سِتْرًا فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَهَتَكَهُ النَّبِىُّ عليه السَّلام فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ فَكَانَتَا فِى الْبَيْتِ يَجْلِسُ عَلَيْهِمَا‏.‏

قال‏:‏ أما كسر الدنان التى فيها الخمر فلا معنى له، لأنه إضاعة المال، وما طهره الماء جاز الانتفاع به، ألا ترى أن النبى قال فى القدور‏:‏ ‏(‏اغسلوها‏)‏ وأما الدنان فرأى مالك أن الماء لا يطهرها لما تداخلها وغاص فيها من الخمر، ورأى غيره تطهيرها وغسلها بالماء، لأن الماء أيضًا يغوص فيها، ويطهر ما غاص فيها من الخمر‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ فى حديث ابن مسعود من الفقه كسر آلات الباطل وما لا يصلح إلا لمعصية الله كالطنابير والعيدان والمزامير والبرابط التى لا معنى لها إلا التلهى بها عن ذكر الله عز وجل، والشغل بها عما يحبه إلى ما يسخطه أن يغيره عن هيئته المكروهة إلى ما خالفها من الهيئات التى يزول عنها المعنى المكروه، وذلك أنه عليه السلام كسر الأصنام، والجوهر الذى فيه لا شك أنه يصلح إذا غير عن الهيئة المكروهة لكثير من منافع بنى آدم الحلال وقد روى عن جماعة من السلف كسر آلات الملاهى، وروى سفيان عن منصور، عن إبراهيم قال‏:‏ كان أصحاب عبد الله يستقبلون الجوارى معهن الدفوف فى الطريق فيخرقونها‏.‏

وروى نافع عن ابن عمر أنه كان إذا وجد أحدًا يلعب بالنرد ضربه وأمر بها فكسرت‏.‏

قال المهلب‏:‏ وما كسر من آلات الباطل وكان فى خشبها بعد كسرها منفعة فصاحبها أولى بها مكسورة، إلا أن يرى الإمام حرقها بالنار على معنى التشريد والعقوبة على وجه الاجتهاد، كما فعل عمر حين أحرق دار رويشد على بيع الخمر، وقد هم النبى بتحريق دور من يتخلف عن صلاة الجماعة، وهذا أصل فى العقوبة فى المال إذا رأى ذلك‏.‏

وهتك النبى الستر الذى فيه الصور دليل على إفساد الصور وآلات الملاهى‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ فى معنى الأصنام الصور المتخذة من المدد والخشب وشبهها، وكل ما يتخذ الناس مما لا منفعة فيه إلا للهو المنهى عنه فلا يجوز بيع شىء منه إلا الأصنام التى تكون من الذهب والفضة والحديد والرصاص إذا غيرت عما هى عليه وصارت نقراُ، أو قطعا، فيجوز بيعها والشراء بها‏.‏

باب مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ فقتل

- فيه‏:‏ ابْن عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ‏)‏‏.‏

إنما أدخل هذا الحديث فى هذه الأبواب ليريك أن للإنسان أن يدفع عن نفسه وماله، فإذا كان شهيداُ إذا قتل فى ذلك، كان إذا قتل من أراده فى مدافعته له عن نفسه لا دية عليه فيه، ولا قود‏.‏

قال المهلب‏:‏ وكذلك كل من قاتل على ما يحل له القتال عليه من أهل أو دين فهو كمن قاتل دون نفسه وماله فلا دية عليه ولا تبعة، ومن أخذ فى ذلك بالرخصة وأسلم المال أو الأهل أو النفس فأمره إلى الله، والله يعذره ويأجره، ومن أخذ فى ذلك بالشدة وقتل كانت له الشهادة بهذا الحديث‏.‏

وأما قول أهل العلم فى هذا الباب فذكر ابن المنذر قال‏:‏ روينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص ودفعهم عن أنفسهم وأموالهم، وقد أخذ ابن عمر لصا فى داره فأصلت عليه السيف، قال سالم‏:‏ فلولا أنا نهيناه لضربه به‏.‏

وقال النخعى‏:‏ إذا خفت أن يبدأك اللص فابدأه‏.‏

وقال الحسن البصرى‏:‏ إذا طرق اللص بالسلاح فاقتله، وروينا هذا المعنى عن غير واحد من المتقدمين، وسئل مالك عن القوم يكونون فى السفر فتلقاهم اللصوص، قال‏:‏ يناشدونهم الله، فإن أبوا وإلا قوتلوا‏.‏

وعن الثورى وابن المبارك قال‏:‏ يقاتلونهم ولوعلى دانق‏.‏

وقال أحمد بن حنبل‏:‏ إذا كان اللص مقبلا، وأما موليًا فلا‏.‏

وعن إسحاق مثله‏.‏

وقال أبو حنيفة فى رجل دخل على رجل ليلا فسرقه ثم خرج بالسرقة من الدار، فاتبعه الرجل فقتله، قال‏:‏ لا شىء عليه‏.‏

وكان الشافعى يقول‏:‏ من أريد ماله فى مصر أو صحراء، أو أريد حريمه فالاختيار له أن يكلمه ويستغيث، فإن منع أو امتنع لم يكن له قتاله، فإن أبى أن يمتنع من قتله من أراده، فله أن يدفعه عن نفسه وعن ماله، وليس له عمد قتله، فإن أبى ذلك على نفسه فلا عقل عليه ولا قود ولا كفارة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ والذى عليه عوام أهل العلم أن للرجل أن يقاتل عن نفسه وماله وأهله إذا أريد ظلمًا، لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من قتل دون ماله فهو شهيد‏)‏، ولم يخص وقتًا دون وقت، ولا حالا دون حال إلا السلطان، فإن كل من نحفظ عنهم من علماء الحديث كالمجمعين على أن كل من لم يمكنه أن يدفع عن نفسه وماله إلا بالخروج على السلطان ومحاربته ألا يفعل للآثار التى جاءت عن النبى- عليه السلام- بالأمر بالصبر على ما يكون منه من الجور والظلم، وترك القيام عليهم ما أقاموا الصلاة‏.‏

وما قلناه من إباحة أن يدفع الرجل عن نفسه وماله قول عوام أهل العلم إلا الأوزاعى، فإنه كان يفرق بين الحال الذى للناس فيها جماعة وإمام وبين حال الفتنة التى لا جماعة فيها ولا إمام، فقال فى تفسير قوله‏:‏ ‏(‏من قتل دون ماله فهو شهيد‏)‏ إذا أقلعت الفتنة عن الجماعة، وأمنت السبل، وحج البيت، وجوهد العدو، وقعد اللص لرجل يريد دمه أو ماله قاتله، وإن كان الناس فى معمعة فتنة وقتال، فدخل عليه يريد دمه وماله اقتدى بمحمد بن مسلمة‏.‏

باب إِذَا كَسَرَ قَصْعَةً أَوْ شَيْئًا لِغَيْرِهِ

- فيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا، فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ، فَضَمَّهَا وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏كُلُوا‏)‏، وَحَبَسَ الرَّسُولَ وَالْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا، فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ، وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ‏.‏

قال المهلب‏:‏ روى أن صفية هى التى صنعت الطعام لرسول الله، وروى أنها أم سلمة وأن الكاسرة عائشة‏.‏

واختلف العلماء فيمن استهلك عروضاُ أو حيوانًا، فذهب الكوفيون والشافعى وجماعة إلى أن عليه مثل ما استهلك، قالوا‏:‏ ولا يقضى بالقيمة إلا عند عدم المثل- واحتجوا بحديث القصعة، قالوا‏:‏ ألا ترى أن الرسول ضمن القصعة بقصعة‏.‏

وذهب مالك إلى أنه من استهلك شيئًا من العروض أو الحيوان فعليه قيمته يوم استهلكه، وقال‏:‏ القيمة أعدل فى ذلك‏.‏

واحتج بأن النبى- عليه السلام- قضى فيمن أعتق شركاُ له فى عبد بقيمة حصة شريكه دون حصة من عبد مثله، لأن ضبط المثل بالقيمة أخص منه فى الحلقة والمثل لا يوصل إليه إلا بالاجتهاد، وكما أن القيمة تدرك بالاجتهاد، وقيمة العدل فى الحقيقة مثل، وقد تناقض العراقيون فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فجزاء مثل ما قتل من النعم ‏(‏وقالوا‏:‏ القيمة مثل فى هذا الموضع‏.‏

واتفق مالك والكوفيون والشافعى وأبو ثور فيمن استهلك ذهبًا أو ورقًا أو طعامًا مكيلا، أو موزونًا، أن عليه مثل ما استهلك فى صفته ووزنه وكيله، وقال مالك، وفرق بين الذهب والفضة والطعام، وبين الحيوان والعروض العمل المعمول به‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ولا أعلم فى هذه المسألة خلافًا‏.‏

باب إِذَا هَدَمَ حَائِطًا يَبْنىِّ مِثْلَهُ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كَانَ رَجُلٌ فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ‏:‏ جُرَيْجٌ الْرَّاهِب يُصَلِّى، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ، فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهَا، فَقَالَ‏:‏ أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّى، ثُمَّ أَتَتْهُ، فَقَالَتِ‏:‏ اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ فِى صَوْمَعَتِهِ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ‏:‏ لاَفْتِنَنَّ جُرَيْجًا، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَلَدَتْ غُلاَمًا، فَقَالَتْ‏:‏ هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ، فَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى الْغُلاَمَ، فَقَالَ‏:‏ مَنْ أَبُوكَ يَا غُلاَمُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الرَّاعِى، قَالُوا‏:‏ نَبْنِى صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ‏:‏ لاَ إِلاَ مِنْ طِينٍ‏)‏‏.‏

وذهب الكوفيون والشافعى وأبو ثور إلى أن من هدم حائطا لرجل فإنه يبنى مثله على ظاهر هذا الحديث، واختلف قول مالك فى ذلك، فروى ابن القاسم عنه فى العتبية‏:‏ فى رجل له خليج يجرى تحت جدار رجل آخر، فجرى السيل فيه فهدمه، قال مالك‏:‏ أرى أن يقضى يبنيانه على صاحب الخليج الذى أفسد حائط الرجل‏.‏

وقال فى المدونة‏:‏ ما انهدم من الربع بيد الغاصب، وإن لم يكن بسببه فعليه قيمته يوم الغصب‏.‏

وقوله فى مسألة الخليج أشبه بالحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى هذا الحديث من الفقه المطالبة بالدعوى، كما طالبت بنو إسرائيل جريجًا بما ادعته المرأة عليه، وفيه استنقاذ عباد الله تعالى لصالح عباده وأوليائه عند جور العامة وأهل الجهل عليهم بآية يريهم الله إياها، فإن كانت عرض فى الإسلام فبكرامة يكرمه الله بها، وسبب يسببه له، لا بخرق عادة، ولا قلب عين، وإنما كانت الآيات فى بنى إسرائيل؛ لأن النبوة كانت ممكنة فيهم غير ممتنعة عليهم‏.‏

ولا نبى بعد محمد، فليس يجرى من الآيات بعده ما يكون خرقًا للعادة ولا قلب العين، إنما تكون كرامة لأوليائه مثل‏:‏ دعوة مجابة، ورؤيا صالحة، وبركة ظاهرة، وفضل بين توفيق من الله إلى الإبرار مما اتهم به الصالحون، وامتحن به المتقون‏.‏

وفى دعاء أمه عليه وهو فى الصلاة دليل أن دعاء الوالدين إذا كان بنية خالصة أنه قد يجاب، وإن كان فى حال ضجر وحرج ولم يكونا على صواب؛ لأنه قد أجيب دعاء أمه بأن امتحن مع المرأة التى كذبت عليه، إلا أنه تعالى استنقذه بمراعاته لأمر ربه، فابتلاه وعافاه، وكذلك يجب للإنسان أن يراعى أمر ربه ودينه، ويقدمه على أمور دنياه فتحمد عاقبته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فتوضأ وصلى‏)‏ فيه رد على من قال أن هذه الأمة مخصوصة بالوضوء من بين سائر الأمم، وأنهم يأتون لذلك غرًا محجلين يوم القيامة، فبان بهذا الحديث أن الوضوء كان فى غير هذه الأمة، ووضح أن الذى خصت به هذه الأمة من بين سائر الأمم إنما هو الغرر والتحجيل ليمتازوا بذلك من بين سائر الأمم، وقد جاء فى حديث سارة حين أخذها الكافر من إبراهيم أنها قامت فتوضأت وصلت حتى غط الكافر برجله، ذكره البخارى فى كتاب الإكراه، وقد روى عن الرسول أنه توضأ ثلاثًا وقال‏:‏ ‏(‏هذا وضوئى ووضوء الأنبياء قبلى‏)‏ فثبت بهذا كله أن الوضوء مشروع قبل أمه محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

تم بحمد الله الجزء السادس، ويليه بإذن الله الجزء السابع، وأوله‏:‏ ‏(‏كتاب الشركة‏)‏‏.‏