فصل: كِتَاب الْوَصَايَا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


كِتَاب الْوَصَايَا

باب الْوَصَايَا وَقَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ وَصِيَّةُ الرَّجُلِ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ

وَقَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 180‏]‏ الآية‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النبى صلى الله عليه وسلم، قَالَ‏:‏ مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِى فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ خَتَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخِى جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، قَالَ‏:‏ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا وَلا دِينَارًا، وَلا عَبْدًا وَلا أَمَةً، وَلا شَيْئًا إِلا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ، وَسِلاحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِى أَوْفَى قيل له‏:‏ هَلْ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَوْصَى‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، فَقُلْتُ‏:‏ كَيْفَ كُتِبَ عَلَى النَّاسِ الْوَصِيَّةُ أَوْ أُمِرُوا بِالْوَصِيَّةِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ ذكر عندها أَنَّ عَلِيًّا كَانَ وَصِيًّا، قَالَتْ‏:‏ مَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ‏؟‏ وَقَدْ كُنْتُ مُسْنِدَتَهُ إِلَى صَدْرِى، فَدَعَا بِالطَّسْتِ، وَلَقَدِ انْخَنَثَ فِى حَجْرِى، فَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَمَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى حديث ابن عمر الحض على الوصية خشية فجأة الموت للإنسان على غير عدة‏.‏

قال المهلب‏:‏ واختلف العلماء فى وجوب الوصية على من خلّف مالا فقالت طائفة‏:‏ الوصية واجبة على ظاهر الآية‏.‏

قال الزهرى‏:‏ جعل الله الوصية حقا مما قل أو كثر‏.‏

قيل لأبى مجلز‏:‏ على كل مثر وصية‏؟‏ قال‏:‏ كل من ترك خيرًا‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ ليست الوصية واجبة كان الموصى موسرًا أو فقيرًا‏.‏

هذا قول النخعى والشعبى، وهو قول مالك والثورى والشافعى‏.‏

قال الشافعى‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏ما حق امرئ مسلم‏)‏ يحتمل ما الجزم، ويحتمل ما المعروف فى الأخلاق إلا هذا من جهة الفرض‏.‏

وقال أبو ثور‏:‏ ليست الوصية واجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال قوم؛ فواجب عليه أن يكتب وصيته ويخبر بما عليه؛ لأن الله فرض أداء الأمانات إلى أهلها، فمن لا حق عليه ولا أمانة قبله؛ فليس عليه أن يوصى، والدليل على صحة هذا قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما حق امرئ مسلم‏)‏ فأضاف الحق إليه كقوله‏:‏ هذا حق زيد‏.‏

فلا ينبغى أن يتركه، فإذا تركه لم يلزمه‏.‏

وقد روى أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما حق امرئ يريد الوصية‏)‏ فعلق ذلك بإرادة الموصى، ولو كانت واجبة لم يعلقها بإرادته، ومما يدل على ذلك أيضًا أن ابن عمر روى الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم ولم يوص، ومحال أن يخالف ما رواه لو كان واجبًا، ولكنه عقل منه الاستحباب، وروى عن ابن عباس وابن عمر أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 180‏]‏ نسختها آية المواريث وهو قول مالك والشافعى وجماعة‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يبيت ليلتين إلا ووصيته كتوبة عنده‏)‏ فيه من الفقه أن الوصية نافذة، وإن كانت عند صاحبها ولم يجعلها عند غيره وكذلك إن جعلها غيره وارتجعها‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن حديث ابن أبى أوفى وعائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يوص‏.‏

قال المهلب‏:‏ فالجواب‏:‏ أن قول ابن أبى أوفى لم يوص إنما يريد الوصية التى زعم بعض الشيعة أنه أوصى بالأمر إلى على، وقد تبرأ على من ذلك حين قيل له‏:‏ أعهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشىء لم يعهده إلى الناس‏؟‏ فقال‏:‏ لا والذى فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا كتاب الله وما فى هذه الصحيفة‏.‏

وأما أرضه وسلاحه وبغلته فلم يوص فيها على جهة ما يوصى الناس فى أموالهم؛ لأنه قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا نورث ما تركنا صدقة‏)‏ فرفع الميراث عن أزواجه وأقاربه وإنما تجوز الوصية لمن يجوز لأهله وراثته‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ووصيته بكتاب الله غير معنى قول عائشة‏:‏ ‏(‏ولا أوصى بشىء‏)‏ قال المهلب‏:‏ ‏(‏أوصى بكتاب الله‏)‏ قد فسره على بقوله‏:‏ ‏(‏ما عندنا إلا كتاب الله‏)‏ وكذلك قال عمر‏:‏ حسبنا كتاب الله‏.‏

حين أراد أن يعهد عند موته، وذكر النخعى أن طلحة والزبير كانا يشددان فى الوصية فقال‏:‏ ما كان عليهما ألا يفعلا، توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أوصى، وأوصى أبو بكر، فإن أوصى فحسن وإن لم يوص فلا بأس‏.‏

قال صاحب العين‏:‏ انخنث السقاء وخنث‏:‏ إذا مال، وخنثته أنا‏.‏

باب الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ وَأَنْ يَتْرُكَ وَرَثَتَهُ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتْرُكَهُمْ يَتَكَفَّفُون النَّاسَ

- فيه‏:‏ سَعْدِ‏:‏ جَاءَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِى، وَأَنَا بِمَكَّةَ، وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالأرْضِ الَّتِى هَاجَرَ مِنْهَا، قَالَ‏:‏ يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عَفْرَاءَ، قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوصِى بِمَالِى كُلِّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، قُلْتُ‏:‏ فَالشَّطْرُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، قُلْتُ‏:‏ الثُّلُثُ، قَالَ‏:‏ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً، يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِى أَيْدِيهِمْ، وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ حَتَّى اللُّقْمَةُ تَرْفَعُهَا إِلَى فِى امْرَأَتِكَ، وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَكَ، فَيَنْتَفِعَ بِكَ نَاسٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَئِذٍ إِلا ابْنَةٌ‏)‏‏.‏

ذكر الله الوصية فى كتابه ذكرًا مجملا، ثم بين النبى صلى الله عليه وسلم أن الوصايا مقصورة على ثلث مال الميت؛ لإطلاقه صلى الله عليه وسلم لسعد الوصية بالثلث فى هذا الحديث، وأجمع العلماء على القول به واختلفوا فى القدر الذى يستحب أن يوصى به الميت، وسيأتى بعد هذا، إلا أن الأفضل لمن له ورثة أن يقصر فى وصيته عن الثلث غنيا كان أو فقيرًا؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لسعد‏:‏ ‏(‏الثلث كثير‏)‏ أتبع ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس‏)‏ ولم يكن لسعد إلا ابنة واحدة كما ذكر فى هذا الحديث، فدل هذا أن ترك المال للورثة خير من الصدقة به وأن النفقة على الأهل من الأعمال الصالحة، وروى ابن أبى شيبة من حديث ابن أبى مليكة، عن عائشة قال لها رجل‏:‏ إنى أريد أن أوصى‏.‏

قالت‏:‏ كم مالك‏؟‏ قال‏:‏ ثلاثة آلاف‏.‏

قالت‏:‏ فكم عيالك‏؟‏ قال‏:‏ أربعة‏.‏

قالت‏:‏ أن الله يقول‏:‏ ‏(‏إن ترك خيرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 180‏]‏ وإن هذا شىء يسير فدعه لعيالك فإنه أفضل‏.‏

وروى حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه ذكر له الوصية فى مرضه فقال‏:‏ أما مالى فالله أعلم ما كنت أعمل فيه، وأما رباعى فلا أحب أن يشارك فيها ولدى أحد‏.‏

وعن على بن أبى طالب أنه دخل على رجل من بنى هاشم يعوده، وله ثمانمائة درهم وهو يريد أن يوصى، فقال له‏:‏ يقول الله‏:‏ ‏(‏إن ترك خيرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 180‏]‏، ولم تدع خيرًا توصى به‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ من ترك سبعمائة درهم فلا يوص، فإنه لم يترك خيرًا‏.‏

وقال قتادة فى قوله‏:‏ ‏(‏إن ترك خيرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 180‏]‏‏:‏ ألف درهم فما فوقها‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ فدلت هذه الآثار على أن من ترك مالا قليلا، فالاختيار له ترك الوصية وإبقاؤه للورثة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏عسى الله أن يرفعك فينتفع بك ناس، ويضر بك آخرون‏)‏ فهذا قد خرج كما قال صلى الله عليه وسلم، ثبت أن سعدًا أمر على العراق فأتى بقوم ارتدوا عن الإسلام، فاستتابهم فأبى بعضهم فقتلهم، فضر أولئك، وتاب بعضهم فانتفعوا به، وعاش سعد بعد حجة الوداع خمسًا وأربعين سنة‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ فى حديث سعد جواز الوصية بالثلث، ولو كان جورًا لأنكر ذلك صلى الله عليه وسلم وأمره بالتقصير عنه، ثم تكلم الناس بعد هذا فى هبات المريض وصدقاته إذا مات من مرضه، فقال قوم، وهم أكثر العلماء‏:‏ هى من الثلث كسائر الوصايا‏.‏

واتفق على ذلك فقهاء الحجاز والعراق‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ هى من جميع المال كأفعاله وهو صحيح‏.‏

وهذا القول لم نعلم أحدًا من المتقدمين قاله، وأظنه قول أهل الظاهر إذا قبضت هبة المريض وعطاياه فهى فى رأس ماله؛ لأن ما قبض قبل الموت ليس بوصية، وإنما الوصية ما يستحق بموت الموصى، وسواء قبضت عند جماعة الفقهاء أو لم تقبض؛ هى من الثلث‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وحديث عائشة أن أباها نحلها جداد عشرين وسقًا بالغابة فلما مرض قال‏:‏ لو كنت حزتيه لكان لك، وإنما هو اليوم مال وإرث‏.‏

فأخبر الصديق أنها لو كانت قبضته فى الصحة تم لها ملكه، وأنها لا تستطيع قبضه فى المرض قبضًا يتم لها ملكه، وفعل ذلك غير جائز كما لا تجوز الوصية لها به، ولم تنكر ذلك عائشة على أبى بكر ولا سائر الصحابة، فدل أن مذهبهم جميعًا كان فيه مثل مذهبه، وفى هذا أعظم الحجة على من خالف قول جماعة العلماء‏.‏

وكذلك فعل النبى صلى الله عليه وسلم فى الذى أعتق ستة أعبد له عند الموت لا مال له غيرهم، فأقرع النبى صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة، فجعل العتاق فى المرض من الثلث، فكذلك الهبات والصدقات؛ لأنها كلها سواء فى تفويت المال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس‏)‏ والعالة‏:‏ جمع عائل‏:‏ وهو الفقير الذى لا شىء له، ومنه قوله‏:‏ ‏(‏ووجدك عائلا فأغنى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 8‏]‏ ويتكففون الناس‏:‏ يبسطون أكفهم لمسألتهم‏.‏

قال صاحب العين‏:‏ استكف السائل‏:‏ بسط كفه‏.‏

باب الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ

وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ لا يَجُوزُ لِلذِّمِّىِّ وَصِيَّةٌ إِلا بِالثُّلُثَ، وَقَالَ تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 49‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏لَوْ غَضَّ النَّاسُ إِلَى الرُّبْعِ؛ لأنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، أَوْ كَبِيرٌ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ سَعْدٍ‏:‏ مَرِضْتُ، فَعَادَنِى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ لا يَرُدَّنِى عَلَى عَقِبِى، قَالَ‏:‏ لَعَلَّ اللَّهَ يَرْفَعُكَ، وَيَنْفَعُ بِكَ نَاسًا، قُلْتُ‏:‏ أُرِيدُ أَنْ أُوصِىَ، وَإِنَّمَا لِى ابْنَةٌ، قُلْتُ‏:‏ أُوصِى بِالنِّصْفِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ النِّصْفُ كَثِيرٌ، قُلْتُ‏:‏ فَالثُّلُثِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، أَوْ كَبِيرٌ، قَالَ‏:‏ فَأَوْصَى النَّاسُ بِالثُّلُثِ، وَجَازَ ذَلِكَ لَهُمْ‏.‏

أجمع العلماء على أن الوصية بالثلث جائزة، وأوصى الزبير بالثلث، واختلف العلماء فى القدر الذى تستحب الوصية به، فروى عن أبى بكر أنه أوصى بالخمس، وقال‏:‏ إن الله تعالى رضى من غنائم المسلمين بالخمس‏.‏

وقال معمر، عن قتادة‏:‏ أوصى عمر بالربع‏.‏

وذكره البخارى عن ابن عباس‏.‏

وروى عن على بن أبى طالب أنه قال‏:‏ لأن أوصى بالخمس أحب إلىّ من الربع، ولأن أوصى بالربع أحب إلىّ من الثلث‏.‏

واختار آخرون السدس قال إبراهيم‏:‏ كانوا يكرهون أن يوصوا بمثل نصيب أحد الورثة حتى يكون أقل، وكان السدس أحب إليهم من الثلث‏.‏

واختار آخرون العشر، روى آدم بن أبى إياس قال‏:‏ حدثنا رقاء، عن عطاء بن السائب، عن أبى عبد الرحمن السلمى، قال‏:‏ حدثنا سعد بن أبى وقاص ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه فى مرضه يعوده فقال له‏:‏ أوص‏.‏

قال‏:‏ قد أوصيت يا رسول الله بمالى كله فى سبيل الله وفى الرقاب والمساكين‏.‏

قال‏:‏ فما تركت لولدك‏؟‏ قال‏:‏ هم أغنياء بخير‏.‏

قال‏:‏ أوص بعشر مالك قال‏:‏ فلم يزل يناقصنى وأناقصه حتى قال‏:‏ أوص بالثلث، والثلث كثير‏)‏ فجرت سنة يأخذ بها الناس إلى اليوم، وقال أبو عبد الرحمن‏:‏ فمن نقص من الثلث لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ والثلث كثير‏.‏

واختار آخرون ولمن كان ماله قليلا وله وارث ترك الوصية‏.‏

روى ذلك عن على بن أبى طالب وابن عباس وعائشة على ما تقدم فى الحديث قبل هذا‏.‏

وقال رجل للربيع بن خثيم‏:‏ أوص لى بمصحفك‏.‏

فنظر إليه ابنه وقرأ‏:‏ ‏(‏وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 75‏]‏‏.‏

وأجمع الفقهاء أنه لا يجوز لأحد أن يوصى بأكثر من الثلث إلا أبا حنيفة وأصحابه فقالوا‏:‏ إن لم يترك الموصى ورثة جاز له أن يوصى بماله كله، وقالوا‏:‏ إن الاقتصار على الثلث فى الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء، ومن لا وارث له فليس ممن عنى بالحديث‏.‏

وروى هذا القول عن ابن مسعود، وبه قال عبيدة ومسروق وإليه ذهب إسحاق بن راهويه‏.‏

وقال زيد بن ثابت‏:‏ لا يجوز لأحد أن يوصى بأكثر من ثلثه وإن لم يكن له وارث‏.‏

وهو قول مالك والأوزاعى والحسن بن حى والشافعى، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الثلث كثير‏)‏ وبما رواه آدم ابن أبى إياس حدثنا عقبة بن الأصم، حدثنا عطاء بن أبى رباح، عن أبى هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله جعل لكم ثلث أموالكم عند الموت زيادة فى أعمالكم‏)‏ وروى أبو اليمان حدثنا أبو بكر بن أبى مريم، عن ضمرة بن حبيب، عن أبى الدرداء، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم‏)‏ ولم يخص من كان له وارث أو غيره‏.‏

وفى المسألة قول شاذ آخر، وهو جواز الوصية بالمال كله، وإن كان له وارث‏.‏

روى الوليد بن مسلم، عن الأوزاعى، قال‏:‏ أخبرنى هارون بن رئاب، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال‏:‏ قال عمرو بن العاص حين حضرته الوفاة‏:‏ إنى قد أردت الوصية فقلت له‏:‏ أوص فى مالك ومالى‏.‏

فدعا كاتبًا فأملى عليه قال عبد الله‏:‏ حتى قلت‏:‏ ما أراك إلا قد أتيت على مالك ومالى فلو دعوت إخوتى فاستحللتهم‏.‏

وعلى هذا القول وقول أبى حنيفة رد البخارى فى هذا الباب، ولذلك صدر بقول الحسن‏:‏ لا تجوز وصية إلا بالثلث‏.‏

واحتج بقوله‏:‏ ‏(‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 49‏]‏ وحكم النبى صلى الله عليه وسلم أن الثلث كثير هو الحكم بما أنزل الله، فمن تجاوز ما حد رسول الله صلى الله عليه وسلم وزاد على الثلث فى وصيته فقد أتى ما نهى النبى صلى الله عليه وسلم عنه، وكان بفعله ذلك عاصيًا إذا كان بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عالمًا‏.‏

قال الشافعى‏:‏ وقول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الثلث كثير‏)‏ يريد أنه غير قليل وهذا أولى معانيه، ولو كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقال له‏:‏ غض منه‏.‏

وقاله الطحاوى‏.‏

وفى قول سعد‏:‏ ‏(‏ولا يرثنى إلا ابنة لى‏)‏ إبطال قول من يقول بالرد على الابنة؛ لأن الابنة لا تحيط بالميراث وقد كان لسعد عصبة يرثونه‏.‏

باب قَوْلِ الْمَرِيض لِوَصِيِّهِ‏:‏ تَعَاهَدْ وَلَدِى وَمَا يَجُوزُ لِلْوَصِىِّ إِلَيْهِ مِنَ الدَّعْوَى

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ‏:‏ ‏(‏كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّى، فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ، فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ، فَقَالَ‏:‏ ابْنُ أَخِى، قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ، فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ‏:‏ أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ سَعْدٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ أَخِى، كَانَ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ‏:‏ أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ‏.‏‏.‏

الحديث لا يجوز عند أحد من أهل العلم دعوى أحد لغيره؛ لحى أو ميت إلا بوصية تثبت أو وكالة، فإذا ثبت ذلك كلف حينئذ ما تكلف المدعى لنفسه إذا ادعى ولا بينة له‏.‏

وفيه‏:‏ ادعاء أخى الميت، وفى ذلك ثبوت حق للأب ولا يستحلق عند جمهور العلماء إلا الأب، وقد تقدم فى باب أم الولد‏.‏

باب إِذَا أَوْمَأَ الْمَرِيضُ بِرَأْسِهِ إِشَارَةً بَيِّنَةً جَازَتْ

- فيه‏:‏ أَنَسٍ أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا‏:‏ مَنْ فَعَلَ بِكِ أَفُلانٌ، أَوْ فُلانٌ حَتَّى سُمِّىَ الْيَهُودِىُّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَجِىءَ بِهِ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى اعْتَرَفَ، فَأَمَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ‏.‏

اختلف العلماء‏:‏ فى إشارة المريض فذهب مالك والليث والشافعى إلى أنه إذا ثبتت إشارة المريض على ما يعرف من حضره جازت وصيته‏.‏

وقال أبو حنيفة والثورى والأوزاعى أنه إذا سئل المريض عن الشىء فأومأ برأسه أو بيده فليس بشىء حتى يتكلم‏.‏

قال أبو حنيفة‏:‏ وإنما تجوز إشارة الأخرس أو من مرت عليه سنة لا يتكلم، وأما من اعتقل لسانه ولم يدم به ذلك‏.‏

فلا تجوز إشارته‏.‏

واحتج الطحاوى عليه بحديث أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم رض رأس اليهودى بين حجرين بإشارة المرضوضة‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارته بمنزلة دعواها ذلك بلسانها من غير اعتبار دوام ذلك عليها مدة من الزمان، فدل على أن من اعتقل لسانه فهو بمنزلة الأخرس فى جواز إقراره بالإيماء والإشارة، وقد ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى وهو قاعد فأشار إليهم فقعدوا‏.‏

واحتج الشافعى بأنه قد أصمت أمامة بنت أبى العاص فقيل لها‏:‏ لفلان كذا ولفلان كذا‏؟‏ فأشارت أى نعم‏.‏

فنفذت وصيتها‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأصل الإشارة فى كتاب الله فى قصة مريم‏:‏ ‏(‏فأشارت إليه‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 29‏]‏ يعنى سلوه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 41‏]‏‏.‏

باب لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلأبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ‏.‏

أجمع العلماء على أن الوصية للوارث لا تجوز‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم مثل ما اتفق عليه من ذلك، حدثنا محمد بن على، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا شرحبيل ابن مسلم الخولانى قال‏:‏ سمعت أبا أمامة الباهلى يقول‏:‏ ‏(‏خطبنا النبى صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع فقال‏:‏ إن الله قد أعطى كل ذى حق حقه، فلا وصية لوارث‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث‏.‏

وروى قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم عن عمرو بن خارجة ‏(‏سمعت النبى صلى الله عليه وسلم فى خطبته‏.‏‏.‏‏)‏ بمثله‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ واختلفوا إذا أوصى لبعض ورثته فأجازه بعضهم فى حياته ثم بدا لهم بعد وفاته‏.‏

فقالت طائفة‏:‏ ذلك جائز عليهم، وليس لهم الرجوع فيه‏.‏

هذا قول عطاء والحسن وابن أبى ليلى والزهرى وربيعة والأوزاعى‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لهم الرجوع فى ذلك إن أحبوا، هذا قول ابن مسعود وشريح والحكم وطاوس، وهو قول الثورى وأبى حنيفة والشافعى وأحمد وأبى ثور‏.‏

وقال مالك‏:‏ إذا أذنوا له فى صحته فلهم أن يرجعوا، وإن أذنوا له فى مرضه وحين يحجب عن ماله، فذلك جائز عليهم‏.‏

وهو قول إسحاق‏.‏

وحجة القول الأول أن المنع إنما وقع من أجل الورثة، فإذا أجازوا جاز وصار بمنزلة أن يجب لهم على إنسان مال فيبرئوه منه‏.‏

وقد اتفقوا أنه إذا أوصى بأكثر من الثلث لأجنبى جاز بإجازتهم، فكذلك هذا‏.‏

وحجة الذين رأوا فيه الرجوع أنهم أجازوا شيئًا لم يملكوه فى ذلك الوقت، وإنما يملك المال بعد وفاته، وقد يموت الوارث المستأذن قبله، ولا يكون وارثًا وقد يرثه غيره، وقد أجاز من لا حق له فيه فلا يلزمه شىء منه‏.‏

وحجة مالك أن الرجل إذا كان صحيحًا فهو أحق بماله كله يصنع فيه ما شاء، فإذا أذنوا له فى صحته فقد تركوا شيئًا لم يجب لهم، وذلك بمنزلة الشفيع يترك شفعته قبل البيع، أو الولى إذا عفا عمن سيقتل وليه، فتركه لما لم يجب له غير لازم، فإذا أذنوا له فى مرضه فقد تركوا ما وجب لهم من الحق، فليس لهم أن يرجعوا فيه إذا كان قد أنفذه؛ لأنه قد فات، فإن لم ينفذ المريض ذلك كان للوارث الرجوع فيه؛ لأنه لم يفت بالتنفيذ قاله الأبهرى‏.‏

وذكر ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه أن قول مالك فى هذه المسألة أشبه بالسنن من غيره، قال ابن المنذر‏:‏ واتفق مالك والثورى والكوفيون والشافعى وأبو ثور أنهم؛ إذا أجازوا ذلك بعد وفاته لزمهم‏.‏

باب الصدقَةِ عندَ الموت

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قيل لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَنْ تَصَدَّقَ، وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ‏:‏ لِفُلانٍ كَذَا وَلِفُلانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه دليل على أن أفضل الصدقات ما جاهد الإنسان فيه نفسه وغلب طاعة الله على شهواته، وقد جاهدها أيضًا على حب الغنى وجمع المال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إذا بلغت الحلقوم‏)‏ فيه ذم من أذهب طيباته فى حياته ولم يقدم لنفسه من ماله فى وقت شحه وحب غناه، حتى إذا رأى المال لغيره جعل يسرع بالوصية لفلان كذا ولفلان كذا، ويتورع عن التبعات والمظالم، وروى عن ابن مسعود فى قوله‏:‏ ‏(‏وآتى المال على حبه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏ قال‏:‏ أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر‏.‏

وقال قتادة‏:‏ يا ابن آدم، اتق الله ولا تجمع إساءتين فى مالك إساءة فى الحياة الدنيا وإساءة عند الموت، انظر قرابتك الذين يحتاجون ولا يرثونك، أوص لهم من مالك بالمعروف‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ الضرار فى الوصية من الكبائر، ثم قرأ‏:‏ ‏(‏تلك حدود الله ومن يتعد حدود الله‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وقال عطاء فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن خاف من موص جنفًا أو إثمًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 182‏]‏ قال‏:‏ ميلا‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ جورًا عن الحق وعدولا‏.‏

وقال طاوس‏:‏ هو الرجل يوصى لولد ابنته‏.‏

ويحتمل قول طاوس قد أوصيت لولد ابنتى بكذا، ومعناه أن يريد بذلك ابنته، فذلك مردود بإجماع، فإن لم يرد فوصيته له من الثلث‏.‏

ويستحب له أن يوصى لقرابته الذين لا يرثون؛ لقول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الصدقة على المساكين صدقة، وهى على ذى الرحم ثنتان‏:‏ صدقة، وصلة‏)‏‏.‏

والذى يجب أن يرد من الوصية من باب الجور والميل الوصية بأكثر من الثلث، والوصية للوارث، والوصية فى أبواب المعاصى‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏

وَيُذْكَرُ أَنَّ شُرَيْحًا وَعُمَرَ بْنَ عَبْدِالْعَزِيزِ وَطَاوُسًا وَعَطَاءً وَابْنَ أُذَيْنَةَ أَجَازُوا إِقْرَارَ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ أَحَقُّ مَا تَصَدَّقَ بِهِ الرَّجُلُ آخِرَ يَوْمٍ مِنَ الدُّنْيَا وَأَوَّلَ يَوْمٍ مِنَ الآخِرَةِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَالْحَكَمُ‏:‏ إِذَا أَبْرَأَ الْوَارِثَ مِنَ الدَّيْنِ بَرِئَ‏.‏

وَأَوْصَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنْ لا تُكْشَفَ امْرَأَتُهُ الْفَزَارِيَّةُ عَمَّا أُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابُهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ إِذَا قَالَ لِمَمْلُوكِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ‏:‏ كُنْتُ أَعْتَقْتُكَ جَازَ‏.‏

وقال الشَّعْبِىُّ‏:‏ إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ عِنْدَ مَوْتِهَا‏:‏ إِنَّ زَوْجِى قَضَانِى وَقَبَضْتُ مِنْهُ جَازَ‏.‏

وقال بَعْضُ النَّاسِ‏:‏ لا يَجُوزُ إِقْرَارُهُ لِسُوءِ الظَّنِّ بِهِ لِلْوَرَثَةِ ثُمَّ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ‏:‏ يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالْوَدِيعَةِ وَالْبِضَاعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ‏.‏

وَقَدْ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلا يَحِلُّ مَالُ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ آيَةُ الْمُنَافِقِ إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَقَالَ تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏ فَلَمْ يَخُصَّ وَارِثًا وَلا غَيْرَهُ‏.‏

فِيهِ ابْنُ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ‏:‏ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ أجمع العلماء أن إقرار المريض بالدين لغير الوارث جائز إذا لم يكن عليه دين فى الصحة‏.‏

واختلفوا إذا أقر لأجنبى وعليه دين فى الصحة ببينة‏.‏

فقالت طائفة‏:‏ يبدأ بدين الصحة‏.‏

هذا قول النخعى والكوفيين، قالوا‏:‏ فإذا استوفاه صاحبه فأصحاب الإقرار فى المرض يتحاصون‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ هما سواء دين الصحة والدين الذى يقر به فى المرض إذا كان لغير وارث‏.‏

هذا قول الشافعى وأبى ثور وأبى عبيد، وذكر أبو عبيد أنه قول أهل المدينة، ورواه عن الحسن‏.‏

وممن أجاز إقرار المريض بالدين للأجنبى الثورى وأحمد وإسحاق‏.‏

قال‏:‏ واختلفوا فى إقرار المريض للوارث بالدين فأجازه طائفة، هذا قول الحسن وعطاء، وبه قال إسحاق وأبو ثور‏.‏

قال‏:‏ وروينا عن شريح والحسن أنهما أجازا إقرار المريض لزوجته بالصداق‏.‏

وبه قال الأوزاعى، وقال الحسن بن صالح‏:‏ لا يجوز إقراره لوارث فى مرضه إلا لامرأته بصداق‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا يجوز إقرار المريض للوارث‏.‏

روى ذلك عن القاسم وسالم ويحيى الأنصارى والثورى وأبى حنيفة وأحمد بن حنبل، وهو الذى رجع إليه الشافعى وفيها قول ثالث قاله مالك قال‏:‏ إذا أقر المريض لوارثه بدين نظر، فإن كان لا يتهم فيه قبل إقراره، مثل أن يكون له بنت وابن عم فيقر لابن عمه بدين فإنه يقبل إقراره، ولو كان إقراره لبنته لم يقبل؛ لأنه يهتم فى أنه يزيد ابنته على حقها من الميراث وينقص ابن عمه، ولا يتهم فى أن يفضل ابن عمه على ابنته‏.‏

قال‏:‏ ويجوز إقراره لزوجته فى مرضه إذا كان له ولد منها أو من غيرها، فإن كان يعرف منه انقطاع إليها ومودة، وقد كان الذى بينه وبين ولده متفاقمًا ولعل لها الولد الصغير منه فلا يجوز إقراره لها‏.‏

واحتج من أبطل إقرار المريض للوارث بأن الوصية للوارث لما لم تجز فكذلك الإقرار فى المرض، ويتهم المريض فى إقراره بالدين للوارث؛ لأنه أراد بذلك الوصية‏.‏

واحتج من أجاز ذلك بقول الحسن‏:‏ إن أحق ما تصدق به الرجل آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة؛ لأنه فى حال يرد على الله، فهو فى حالة يتجنب المعصية والظلم ما لا يتجنبه فى حال الصحة، والتهمة منتفية عنه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الظن وقال‏:‏ ‏(‏إنه أكذب الحديث‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏آية المنافق إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان‏)‏ وقد أجمع العلماء على أنه إذا أوصى رجل لوارثه بوصية وأقر له بدين فى صحته ثم رجع عنه؛ أن رجوعه عن الوصية جائز، ولا يقبل رجوعه عن الإقرار‏.‏

ولا خلاف أن المريض لو أقر بوارث لصح إقراره، وذلك يتضمن الإقرار بالمال وشىء آخر وهو النسب والولاية، فإذا أقر بمال فهو أولى أن يصح، وهذا معنى صحيح‏.‏

وقد تناقض أبو حنيفة فى استحسانه جواز الإقرار بالوديعة والمضاربة والبضاعة ولا فرق بين ذلك وبين الإقرار بالدين؛ لأن ذلك كله أمانة ولازم للذمة‏.‏

واحتج أصحاب مالك بأنه يجوز إقراره فى الموضع الذى تنتفى عنه التهمة؛ وذلك أن المرض يوجب حجرًا فى حق الورثة، يدل على ذلك أن الثلث الذى يملك التصرف فيه من جميع الجهات لا يملك وضعه فى وارثه على وجه الهبة والمنحة، فلما لم تصح هبته فى المرض لم يصح إقراره له، ويجوز أن يهب ماله كله فى الصحة للوارث، وفى المرض لا يصح، فاختلف حكم الصحة والمرض‏.‏

وأما قول إبراهيم والحكم‏:‏ إذا أبرأ الوارث من الدين، فلا يبرأ عند مالك؛ لأنه تلحقه تهمة أنه أراد الوصية لوارثه‏.‏

وأما قول رافع بن خديج‏:‏ ألا تكشف امرأته‏.‏

فلا خلاف عن مالك، أن كل زوجة فإن جميع ما فى بيتهما لها وإن لم يشهد لها زوجها بذلك، وإنما يحتاج إلى الإشهاد والإقرار إذا علم أنه تزوجها فقيرة وأن ما فى بيتها من متاع الرجل، أو فى أم الولد‏.‏

وأما قول الحسن‏:‏ إذا قال لمملوكه عند الموت كنت أعتقتك جاز‏.‏

فلا يجوز عند مالك؛ لأنه يتهم أن يكون أراد عتقه من رأس ماله وهو ليس له من ماله إلا الثلث، فكأنه أراد الهروب بثلثى المملوك عن الورثة، ولو أعتقه عند موته كان من ثلثه‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏

وَيُذْكَرُ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ، وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏ فَأَدَاءُ الأمَانَةِ أَحَقُّ مِنْ تَطَوُّعِ الْوَصِيَّةِ، وَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا صَدَقَةَ إِلا عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ لا يُوصِى الْعَبْدُ إِلا بِإِذْنِ أَهْلِهِ، وَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ الْعَبْدُ رَاعٍ فِى مَالِ سَيِّدِهِ‏.‏

- فيه‏:‏ حَكِيمَ‏:‏ سَأَلْتُ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِى، ثُمَّ قَالَ لِى‏:‏ يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا‏.‏

فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ، فَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ، فَقَالَ، يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، إِنِّى أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِى قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ هَذَا الْفَىْءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تُوُفِّىَ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ قَالَ النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِى أَهْلِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِى بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِى مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ‏)‏، قَالَ‏:‏ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ‏:‏ ‏(‏وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِى مَالِ أَبِيهِ‏)‏‏.‏

ذكر إسماعيل بن إسحاق بإسناده عن على بن أبى طالب قال‏:‏ ‏(‏تعدون الوصية قبل الدين، وقد قضى محمد أن الدين قبل الوصية‏)‏ والأمة مجمعة على هذا‏.‏

قال إسماعيل‏:‏ وليس يوجب تبدية اللفظ بالوصية قبل الدين أن تكون مبداة على الدين، وإنما يوجب الكلام أن يكون الدين والوصية تخرجان قبل قسم الميراث؛ لأنه لما قيل من بعد كذا وكذا علم أنه من بعد هذين الصنفين قال الله‏:‏ ‏(‏ولا تطع منهم آثمًا أو كفورًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 24‏]‏، أى لا تطع أحدًا من هذين الصنفين، وقد يقول الرجل‏:‏ مررت بفلان وفلان فيجوز أن يكون الذى بدأ بتسميته مر به أخيرًا ويجوز أن يكون مر به أولا؛ لأنه ليس فى اللفظ ما يوجب تبدئة الذى سمى أولا‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا مريم اقنتى لربك واسجدى واركعى مع الراكعين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 43‏]‏، ففهم إنما أمرت بذلك كله، ولم يجب أن يكون السجود قبل الركوع، ولو قال‏:‏ مررت بفلان ففلان أو مررت بفلان ثم فلان لوجب أن يكون الذى بدأ بتسميته هو الذى مر به أولا، فلما قال تعالى‏:‏ ‏{‏من بعد وصية يوصى بها أو دين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏ وجب أن تكون قسمة المواريث التى فرض الله بعد الدين والوصية ولم يكن فى القرآن تبدئة أحدهما على الآخر باللفظ المنصوص، ولكن فهم بالسنُّة التى مضت، والمعنى أن الدين قبل الوصية؛ لأن الوصية إنما هى تطوع يتطوع بها الموصى وأداء الدين فرض عليه، فعلم أن الفرض أولى من التطوع‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما أدخل حديث حكيم فى هذا الباب؛ لأنه جعله من باب الديون وإن لم يعرفوها لأنه لما رآه قد سماه له ورأى الاستحقاق من حكيم متوجهًا إلى المال إن رضيه وقبله أجرى مجرى مستحقات الديون‏.‏

وأما حديث أبى هريرة فوجهه فى هذا الباب والله أعلم أنه لما كان العبد مسترعى فى مال سيده؛ صح أن المال للسيد، وأن العبد لا ملك له فيه، فلم تجز وصية العبد بغير إذن سيده، كما قال ابن عباس وأشبه فى المعنى الموصى الذى عليه الدين، فلم تنفذ وصيته إلا بعد قضاء دينه؛ لأن المال الذى بيده إنما هو لصاحب الدين ومسترعى فيه ومسئول عن رعيته، فلم يجز له تفويته على ربه بوصية أو غيرها إلا أن يبقى منه بعد أداء ذلك بقية، كما أن العبد مسترعى فى مال سيده، ولا يجوز له تفويته على سيده إلا بإذنه، فاتفقا فى الحكم لاتفاقهما فى المعنى‏.‏

باب إِذَا وَقَفَ أَوْ أَوْصَى لأقَارِبِهِ وَمَنِ الأقَارِبُ

وَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لأبِى طَلْحَةَ‏:‏ ‏(‏اجْعَلْهَا لِفُقَرَاءِ أَقَارِبِكَ‏)‏، فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ، وَأُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ، وَقَالَ الأنْصَارِىُّ‏:‏ حَدَّثَنِى أَبِى، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ مِثْلَ حَدِيثِ ثَابِتٍ، قَالَ‏:‏ ‏(‏اجْعَلْهَا لِفُقَرَاءِ قَرَابَتِكَ‏)‏، قَالَ أَنَسٌ‏:‏ فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ، وَأُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ، وَكَانَا أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنِّى، وَكَانَ قَرَابَةُ حَسَّانٍ وَأُبَىٍّ، مِنْ أَبِى طَلْحَةَ، وَاسْمُهُ‏:‏ زَيْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ الأسْوَدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِىِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ المُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ، فَيَجْتَمِعَانِ إِلَى حَرَامٍ، وَهُوَ الأبُ الثَّالِثُ، وَحَرَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِىِّ بْنِ عَمْرِو ابْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، فَهُوَ يُجَامِعُ حَسَّانَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيًّا إِلَى سِتَّةِ آبَاءٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ، وَهُوَ أُبَىُّ بْنُ كَعْبِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، فَعَمْرُو بْنُ مَالِكٍ يَجْمَعُ حَسَّانَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيًّا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إِذَا أَوْصَى لِقَرَابَتِهِ فَهُوَ إِلَى آبَائِهِ فِى الإسْلامِ‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لأبِى طَلْحَةَ‏:‏ ‏(‏أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِى الأقْرَبِينَ‏)‏، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ‏:‏ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِى أَقَارِبِهِ وَبَنِى عَمِّهِ‏.‏

وقال ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ لَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏(‏وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 214‏]‏ جَعَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يُنَادِى‏:‏ ‏(‏يَا بَنِى فِهْرٍ، يَا بَنِى عَدِىٍّ‏)‏، لِبُطُونِ قُرَيْشٍ‏.‏

وقال أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ لَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏(‏وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ‏(‏قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء إذا أوصى بثلثه لأقاربه أو لأقارب فلان من الأقارب الذين يستحقون الوصية فقال الكوفيون والشافعى‏:‏ يدخل فى ذلك من كان من قبل الأب والأم‏.‏

غير أنهم رتبوا أقوالهم على ترتيب مختلف فقال أبو حنيفة‏:‏ القرابة هم كل ذى رحم محرم من قبل الأب والأم ممن لا يرث غير أنه يبدأ بقرابة الأب على قرابة الأم، وتفسير ذلك أن يكون له خال وعم فيبدأ بعمه على خاله، فيجعل له الوصية‏.‏

وقال أبو يوسف، ومحمد، والشافعى‏:‏ سواء فى ذلك قرابة الأب والأم ومن بعد منهم أو قرب، ومن كان ذا رحم محرم أو لم يكن‏.‏

وهو قول أبى ثور‏.‏

وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ من جمعه أب واحد منذ كانت الهجرة‏.‏

وقال آخرون‏:‏ القرابة كل من جمعه والموصى أبوه الرابع إلى ما هو أسفل منه‏.‏

وهو قول أحمد بن حنبل‏.‏

وقال آخرون‏:‏ القرابة كل من جمعه والموصى أب واحد فى الإسلام أو الجاهلية ممن يرجع بآبائه وأمهاته إليه أبًا عن أب أو أم عن أم إلى أن يلقاه‏.‏

وقال مالك‏:‏ لا يدخل فى الأقارب إلا من كان من قبل الأب خاصة‏:‏ العم وابنة الأخ وشبههم، ويبدأ بالفقراء حتى يغنوا ثم يعطى الأغنياء‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وإنما جوز أهل هذه المقالات الوصية للقرابة إذا كانت تلك القرابة تحصى وتعرف، فإن كانت لا تحصى ولا تعرف فإن الوصية لها باطل فى قولهم جميعًا إلا أن يوصى لفقرائهم، فتكون الوصية جائزة لمن رأى الموصى دفعها إليه منهم، وأقل ما يجوز أن يجعلها فيهم اثنان فصاعدًا‏.‏

فى قول محمد‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ إن دفعها إلى واحد أجزأه‏.‏

واحتج لأبى يوسف ومحمد بأن النبى صلى الله عليه وسلم لما قسم سهم ذى القربى أعطى بنى هاشم جميعًا، وفيهم من رحمه منهم محرمة وغير محرمة، وأعطى بنى المطلب وأرحامهم منه جميعًا غير محرمة؛ لأن بنى هاشم أقرب إليه من بنى المطلب، فلما لم يقدم فى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قربت رحمه على من بعدت، وجعلهم كلهم قرابة يستحقون ما جعل الله لقرابته، سقط قول أبى حنيفة فى اعتباره ذا الرحم المحرم واعتباره الأقرب فالأقرب، وسقط قول من جعل أهل الحاجة منهم أولى؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم عم بعطيته بنى هاشم وفيهم أغنياء‏.‏

وحجة أخرى على أبى حنيفة وذلك أن أبا طلحة لما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل أرضه فى فقراء قرابته جعلها لحسان وأبىّ، وأبى إنما يلقى أبا طلحة عند أبيه السابع ويلتقى مع حسان عند أبيه الثالث، فلم يقدم أبو طلحة حسان لقرب رحمه على أبىّ لبعد رحمه منه ولم ير واحدًا منهما مستحقا لقرابته منه فى ذلك إلا كما يستحق منه الآخر، فثبت فساد قول أبى حنيفة‏.‏

واحتج بعض أصحاب الشافعى فقال‏:‏ إنما استحقوا باسم القرابة فيستوى فى ذلك القريب والبعيد والغنى والفقير، كما أعطى من شهد القتال باسم الحضور‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ثم نظرنا لقول من قال‏:‏ هو إلى آبائه فى الإسلام‏.‏

فرأينا النبى صلى الله عليه وسلم أعطى سهم ذوى القربى بنى هاشم وبنى المطلب، ولا يجتمع هو مع واحد منهم إلى أب مذ كانت الهجرة، وإنما يجتمع معهم فى آباء كانت فى الجاهلية، وكذلك أبو طلحة وأبىّ وحسان لا يجتمعون عند أب إسلامى، ولم يمنعهم ذلك أن يكونوا قرابة يستحقون ما جعل للقرابة؛ فبطل قول أبى يوسف ومحمد، وثبت أن الوصية لكل من يوقف على نسبه أب عن أب أو أم عن أم، حتى يلتقى هو والموصى لقرابته إلى جد واحد فى الجاهلية أو فى الإسلام‏.‏

وأما الذين قالوا‏:‏ إن القرابة هم الذين يلتقون عند الأب الرابع، فإنهم ذهبوا إلى أن النبى صلى الله عليه وسلم لما قسم سهم ذى القربى أعطى بنى هاشم وبنى المطلب، وإنما يلتقى هو وبنو المطلب عند أبيه الرابع؛ لأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، والآخرون هم بنو المطلب بن عبد مناف‏.‏

فإنما يلتقى معهم عند عبد مناف وهو أبوه الرابع، فمن الحجة عليهم فى ذلك للآخرين أن النبى صلى الله عليه وسلم لما أعطى بنى هاشم وبنى المطلب حرم بنى أمية وبنى نوفل، وقرابتهم منه كقرابة بنى المطلب فلم يحرمهم؛ لأنهم ليسوا قرابة، ولكن لمعنى غير القرابة فكذلك من فوقهم لم يحرمهم؛ لأنهم ليسوا قرابة، ولكن لمعنى غير القرابة وكذلك أعطى أبو طلحة لحسان وأبىّ وإنما يلتقى مع أبىّ لأبيه السابع، فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبى طلحة ما فعل، وقد أمر الله نبيه أن ينذر عشيرته الأقربين، فدعا عشائر قريش كلها، وفيهم من يلقاه عند أبيه الثانى، وعند أبيه الثالث وعند أبيه الرابع وعند الخامس وعند السابع، وفيهم من يلقاه عند آبائه الذين فوق ذلك إلا أنه ممن جمعته وإياهم قريش، فبطل قول من جعله إلى الأب الرابع، وثبت قول من جعله إلى أب واحد فى الجاهلية أو الإسلام‏.‏

واحتج أصحاب مالك لقوله‏:‏ إن القرابة قرابة الأب خاصة؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم لما أعطى ذوى القربى لم يعط قرابته من قبل أمه شيئًا، وسيأتى فى الباب بعد هذا وقد تقدم كثير من معنى حديث أبى طلحة فى كتاب الزكاة فى باب فضل الزكاة على الأقارب‏.‏

باب هَلْ يَدْخُلُ الْوَلَدُ وَالنِّسَاءُ فِى الأقَارِبِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ لما نزلت‏:‏ ‏{‏وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ‏}‏، قَامَ النبى صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لا أُغْنِى عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِى عَبْدِمَنَافٍ، لا أُغْنِى عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، لا أُغْنِى عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، لا أُغْنِى عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِى مَا شَئْتِ مِنْ مَالِى، لا أُغْنِى عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا‏)‏‏.‏

أجمع العلماء على أن اسم الولد يقع على البنين والبنات وأن النساء التى من صلبه وعصبته كالعمة والابنة والأخت يدخلون فى الأقارب إذا أوقف على أقاربه، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم خص عمته بالنذارة كما خص ابنته، وكذلك من كان فى معناهما ممن يجمعه معه أب واحد‏.‏

وروى أشهب عن مالك أن الأم لا تدخل فى مرجع الحبس‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ تدخل الأم فى ذلك ولا تدخل الأخوات للأم‏.‏

واختلفوا فى ولد البنات أو ولد العمات ممن لا يجتمع فى أب واحد مع الوصى والمحبس هل يدخلون فى القرابة أم لا‏؟‏ فقال أبو حنيفة والشافعى‏:‏ إذا أوقف وقفًا على ولده أنه يدخل فيه ولد ولده، وولد بناته ما تناسلوا، وكذلك إذا أوصى لقرابته يدخل فيه ولد البنات‏.‏

والقرابة عند أبى حنيفة كل ذى رحم محرم، فيسقط عنده ابن العم وابن العمة، وابن الخال والخالة؛ لأنهم ليسوا بمحرمين‏.‏

والقرابة عند الشافعى‏:‏ كل ذى رحم محرم وغيره، فلم يسقط عنده ابن العم ولا غيره‏.‏

وقال مالك‏:‏ لا يدخل فى ذلك ولد البنات‏.‏

وقوله‏:‏ لقرابتى وعقبى، كقوله‏:‏ لولدى وولد ولدى‏.‏

يدخل فيه ولد البنين، ومن يرجع إلى عصبة الأب وصلبه ولا يدخل ولد البنات‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وحجة من أدخل ولد البنات فى الأقارب قوله فى الحسن بن على‏:‏ ‏(‏إن ابنى هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين‏)‏ قالوا‏:‏ ولا تظن أحدًا يمتنع أن يقول فى ولد البنات أنهم ولد لأبى أمهم فالمعنى يقتضى ذلك؛ لأن الولد فى اللغة مشتق من التولد وهم متولدون عن أبى أمهم لا محالة؛ لأنه أحد أصليهم الذى يرجعون إليه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا خلقناكم من ذكر وأنثى‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏ فللذكر حظه وللأنثى حظها، والتولد عن جهة الأب كالتولد عن جهة الأم، وقد دل القرآن على ذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزى المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 84، 85‏]‏ فجعل عيسى من ذريته وهو ابن بنته، ولم يفرق فى الاسم بين بنى بنيه وبنى ابنته‏.‏

واحتج عليهم أهل المقالة الثانية فقالوا‏:‏ إنما سمى النبى صلى الله عليه وسلم الحسن ابنًا على وجه التحنن والفضيلة دون الحقيقة، وإنما أبوه فى الحقيقة علىّ وإليه نسبه، ولا يمتنع أن تقع التسمية تارة على الحقيقة وتارة على المجاز، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى العباس‏:‏ ‏(‏اتركوا لى أبى‏)‏ فلا يمتنع أن يسمى ولد البنات ابنًا كما يسمى الجد والدًا، والعم والدًا، والخال والدًا، إلا أن اسم الأب فى هذا متميز يرجع فى حقيقته إلى ولد الصلب خاصة، كما يرجع فى اسم الأب حقيقة إلى الأب دينًا‏.‏

ولما ذكر عيسى صلى الله عليه وسلم مع ولد البنين الذين هم ذرية على الحقيقة جرى عليه الاسم على طريق الاتساع والتغليب للأكثر المذكورين، وهذا شائع فى كلام العرب، ودليل آخر وهو قوله‏:‏ ‏(‏يوصيكم الله فى أولادكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏ فلم يعقل المسلمون من ظاهر الآية إلا ولد الصلب وولد الابن خاصة، ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وللرسول ولذى القربى‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏ اختص ذلك ببنى أعمامه ومن يرجع بنسبه إليه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أعطى سهم القرابة بنى أعمامه دون بنى أخواله فكذلك ولد البنات؛ لأنهم لا ينتمون إليه بالنسب، ولا يلتقون معه فى أب، قال الشاعر‏:‏

بنونا بنو آبائنا وبناتنا *** بنوهن أبناء الرجال الأباعد

وفى إعطائه صلى الله عليه وسلم بنى المطلب، وهم بنو أعمامه، حجة على أبى حنيفة، أن ابن العم داخل فى القرابة، ولما أعطى النبى صلى الله عليه وسلم لبنى المطلب وبنى هاشم، جاء عثمان، وجبير بن مطعم إليه صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏قد عرفنا بنى هاشم لمكانك الذى وضعك الله فيهم، فما بالنا وبنى المطلب أعطيتهم ومنعتنا وقرابتنا واحدة‏؟‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنهم لم يفارقونا فى جاهلية ولا إسلام‏)‏ وعثمان من بنى عبد شمس، وجبير ابن مطعم من بنى نوفل، وهم إخوة عبد شمس بن عبد مناف، والمطلب بن عبد مناف، وهاشم بن عبد مناف‏.‏

فأعطى بنى المطلب وهم بنو أعمامه وأعطى بنى هشام وهم بنو جده، وليس فيهم من يرجع إلى أجداد الأمهات مثل ولد البنات والأخوال وغيرهم من ذوى الأرحام، فدل ذلك على فساد قول أبى حنيفة والشافعى فى أن القرابة تقع على قرابة الأب والأم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعط إلا من رجع إلى عصبته‏.‏

ويرد قول الشافعى فى التسوية بين الأقرب والأبعد، لأنه صلى الله عليه وسلم لما أعطى بنى هشام وبنى المطلب ومنع الآخرين علم أنه لا يستحق بالقرابة إلا على وجه الاجتهاد وقد يدخل فى القرابة جميع قريش؛ لقوله‏:‏ ‏(‏يا معشر قريش‏)‏ وخص بعضهم بالعطاء فصح قول مالك أن يبدأ بالفقراء قبل الأغنياء‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله صلى الله عليه وسلم لابنته‏:‏ ‏(‏سلينى من مالى ما شئت‏)‏ فيه من الفقه أن الاستئلاف للمسلمين وغيرهم بالمال جائز؛ لأنه إذا جاز أن يستألف المسلم بالمال حتى يزداد بصيرة فى الإسلام جاز أن يستألف الكافر حتى يدخل فى الإيمان؛ بل هو أوكد‏.‏

باب هَلْ يَنْتَفِعُ الْوَاقِفُ بِوَقْفِهِ

وَقَدِ اشْتَرَطَ عُمَرُ‏:‏ لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، وَقَدْ يَلِى الْوَاقِفُ وَغَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ جَعَلَ بَدَنَةً أَوْ شَيْئًا لِلَّهِ، فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا كَمَا يَنْتَفِعُ غَيْرُهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ لَهُ‏:‏ ارْكَبْهَا، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ فِى الثَّالِثَةِ أَوْ فِى الرَّابِعَةِ‏:‏ ارْكَبْهَا، وَيْلَكَ، أَوْ وَيْحَكَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ لا يجوز للواقف أن ينتفع بوقفه؛ لأنه أخرجه لله وقطعه عن ملكه، فانتفاعه بشىء منه رجوع فى صدقته، وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وإنما يجوز له الانتفاع به إن شرط ذلك فى الوقف أو أن يفتقر المحبس أو ورثته فيجوز لهم الأكل منه‏.‏

وقال ابن القصار‏:‏ من حبس دارًا أو سلاحًا أو عبدًا فى سبيل الله فأنفذ ذلك فى وجوهه زمانًا، ثم أراد أن ينتفع به مع الناس، فإن كان من حاجة فلا بأس به‏.‏

وذكر ابن حبيب عن مالك قال‏:‏ من حبس أصلا تجرى غلته على المساكين، فإن ولده يعطون منه إذا افتقروا، كانوا يوم مات أو حبس فقراء أو أغنياء، غير أنهم لا يعطون جميع الغلة مخافة أن يندرس الحبس، ولكن يبقى منه سهمًا للمساكين؛ ليبقى اسم الحبس، ويكتب على الولد كتاب أنهم إنما يعطون منه ما أعطوا على المسكنة وليس على حق لهم فيه دون المساكين‏.‏

واختلفوا إذا أوصى بشىء للمساكين فغفل عن قسمته حتى افتقر بعض ورثته، وكانوا يوم أوصى أغنياء أو مساكين، فقال مطرف‏:‏ أرى أن يعطوا من ذلك على المسكنة وهم أولى من الأباعد‏.‏

وقال ابن الماجشون‏:‏ إن كانوا يوم أوصى أغنياء ثم افتقروا أعطوا منه، وإن كانوا مساكين لم يعطوا منه؛ لأنه أوصى وهو يعرف حاجتهم فكأنه أزاحهم عنه‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ لا يعطوا منه شيئًا مساكين كانوا أو أغنياء يوم أوصى‏.‏

وقول مطرف أشبه بدلائل السنة‏.‏

قوله‏:‏ وكذلك كل من جعل بدنة أو شيئًا لله فله أن ينتفع بها كما ينتفع غيره وإن لم يشترط، فإنما ينتفع من ذلك إذا لم يشترط بما لا مضرة على من سبل له الشىء، وإنما جاز ركوب البدنة التى أخرجها لله؛ لأنه ركبها إلى موضع النحر ولم يكن له غنى عن سوقها إليه، ولم يركبها فى منفعة له، ألا ترى أنه لو كان ركوبها مهلكًا لها لم يجز له ذلك، كما لا يجوز له أكل شىء من لحمها‏.‏

وقوله‏:‏ يلى الواقف وغيره‏.‏

فاختلف العلماء فى ذلك فذكر ابن المواز عن مالك أنه إن شرط فى حبسه أن يليه لم يجز‏.‏

وقاله ابن القاسم وأشهب‏.‏

وقال ابن عبد الحكم عن مالك‏:‏ إن جعل الوقف بيد غيره يحوزه ويجمع غلته، ويدفعها إلى الذى حبسه يلى تفرقته وعلى ذلك حبس؛ أن ذلك جائز‏.‏

وقال ابن كنانة‏:‏ من حبس ناقته فى سبيل الله فلا ينتفع بشىء منها، وله أن ينتفع بلبنها لقيامه عليها‏.‏

فمن أجاز للواقف أن يليه فإنما يجيز له الأكل منه بسبب ولايته وعمله، كما يأكل الوصى من مال يتيمه بالمعروف من أجل ولايته وعمله، وإلى هذا المعنى أشار البخارى فى هذا الباب‏.‏

ومن لم يجز للواقف أن يلى وقفه فإنما منع ذلك قطعًا للذريعة إلى الانفراد بغلته، فيكون ذلك رجوعًا فيه، وسأذكرها فى الباب بعد هذا‏.‏

باب إِذَا وَقَفَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ

لأنَّ عُمَرَ أَوْقَفَ، وَقَالَ‏:‏ لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ، وَلَمْ يَخُصَّ إِنْ وَلِيَهُ عُمَرُ أَوْ غَيْرُهُ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لأبِى طَلْحَةَ‏:‏ ‏(‏أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِى الأقْرَبِينَ‏)‏، فَقَالَ‏:‏ أَفْعَلُ، فَقَسَمَهَا فِى أَقَارِبِهِ وَبَنِى عَمِّهِ‏.‏

إِذَا قَالَ‏:‏ دَارِى صَدَقَةٌ لِلَّهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلْفُقَرَاء، أَوْ غَيْرِهِمْ، فَهُوَ جَائِزٌ وَيَضَعُهَا فِى الأَقْرَبِينَ، أَوْ حَيْثُ أَرَادَ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ لأَبِى طَلْحَةَ حِينَ قَالَ‏:‏ أَحَبُّ أَمْوَالِى إِلَىَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ فَأَجَازَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ لا يَجُوزُ حَتَّى يُبَيِّنَ لِمَنْ وَالأَوَّلُ أَصَحُّ‏.‏

وَإِذَا قَالَ أَرْضِى أَوْ بُسْتَانِى صَدَقَةٌ عَنْ أُمِّى فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ، وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّى تُوُفِّيَتْ، وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ فَإِنِّى أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِىَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى الوقف إذا لم يخرجه الواقف من يده إلى أن مات‏.‏

فقالت طائفة‏:‏ يصح الوقف ولا يفتقر إلى قبض‏.‏

وهو قول أبى يوسف والشافعى‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا يصح الوقف حتى يخرجه عن يده ويقبضه غيره‏.‏

هذا قول ابن أبى ليلى ومالك ومحمد ابن الحسن‏.‏

وحجة القول الأول أن عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وفاطمة، رضى الله عنهم، أوقفوا أوقافًا وأمسكوها بأيديهم وكانوا يصرفون الانتفاع بها فى وجوه الصدقة فلم يبطل‏.‏

واحتج الطحاوى لأبى يوسف فقال‏:‏ رأينا أفعال العبادات على ضروب فمنها العتاق وينفذ بالقول؛ لأن العبد إنما يزول ملك مولاه عنه بقوله‏:‏ أنت لله ومنها الهبات والصدقات لا تنفذ بالقول حتى يكون معه القبض من الذى ملكها، فأردنا أن ننظر حكم الأوقاف بأيها هى أشبه فنعطفه عليه، فرأينا الرجل إذا أوقف أرضه أو داره فإنما ملك الذى أوقفها عليه منافعها ولم يملكه من رقبتها شيئًا، إنما أخرجها من ملك نفسه إلى الله، فثبت أن نظير ذلك ما أخرجه من ملكه إلى الله، فكما كان ذلك لا يحتاج فيه إلى قبض مع القول؛ كذلك الوقف لا يحتاج فيه إلى قبض مع القول‏.‏

وأيضًا فإن القبض لو أوجبناه لكان القابض يقبض ما لم يملك بالوقف، فقبضه إياه وغير قبضه سواء‏.‏

فثبت قول أبى يوسف وإليه ذهب البخارى، واستدل من قوله‏:‏ فقسمها أبو طلحة فى أقاربه وبنى عمه؛ أن الوقف لم يخرج من يدى أبى طلحة‏.‏

وحجة الذين جعلوا القبض شرطًا فى صحة الوقف إجماع أئمة الفتوى على أنه لا تنفذ الهبات والصدقات بالقول حتى يقبضها الذى ملكها، ألا ترى أن أبا بكر قال فى مرضه لابنته، وقد كان نحلها أحدًا وعشرين وسقًا‏:‏ لو كنت حزتيه لكان لك، فإنما هو اليوم مال وارث‏.‏

فكان حكم الوقف حكم الهبات‏.‏

وقول النبى صلى الله عليه وسلم لأبى طلحة‏:‏ ‏(‏أرى أن تجعلها فى الأقربين‏)‏ لا حجة فيه لمن أجاز الوقف، وإن لم يخرج عن يد الذى أوقفه؛ لأنه ليس فى الحديث أن أبا طلحة لم يخرج الوقف عن يده، ولو استدل مستدل بقوله‏:‏ ‏(‏فقسمها أبو طلحة فى أقاربه وبنى عمه‏)‏ أنه أخرجها عن يده لساغ ذلك، ولم يكن من استدل أنه لم يخرجها عن يده أولى منه بالتأويل‏.‏

واختلفوا إذا قال‏:‏ هذه الدار وهذه الضيعة وقف ولم يذكر وجوهًا تصرف فيها‏.‏

فعند مالك أنه يصح الوقف، وكذلك لو قال‏:‏ على أولادى وأولادهم‏.‏

ولم يذكر بعدهم الفقراء أو بنى تميم ممن لم ينقطع نسلهم فإنه يصح الوقف، ويرجع ذلك إلى فقراء عصبته، وإن لم يكونوا فقراء فإلى فقراء المسلمين‏.‏

وبه قال أبو يوسف ومحمد، وهو أحد قولى الشافعى، والقول الثانى‏:‏ أنه لا يصح الوقف‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وحجة القول الأول أنه إذا قال‏:‏ وقفت‏.‏

فإنما أراد البر والقربة، وأن لا ينتفع هو بشىء من ذلك، فالانتفاع يكون محبوسًا على ولده وولد ولده، فإذا انقرضوا صرف ذلك إلى أقرب الناس به من فقراء عصبته، وهذا المعنى يحصل به البر والقربة، وكذلك إذا قال‏:‏ هذا وقف محرم؛ لأنه معلوم أنه قصد به البر والقربة فحمل على ما علم من قصده، كرجل أوصى بثلث ماله فإن ذلك يفرق فى الفقراء والمساكين وإن لم يسمهم؛ لأنه قد علم ذلك من قصده، ألا ترى قول سعد بن عبادة للنبى‏:‏ ‏(‏فإنى أشهدك أن حائطى المخراف صدقة عنها‏)‏ ولم يسم على من يتصدق بالحائط، ولم ينكر ذلك النبى صلى الله عليه وسلم ولو لم تجز الصدقة والوقف على غير مسمين لم يترك النبى صلى الله عليه وسلم بيان ذلك لأن عليه فرض التبليغ والبيان‏.‏

قال المهلب‏:‏ ولا حاجة بنا إلى أن نذكر على من يكون الوقف؛ لأن الله قد بين أصناف الذين تجب لهم الصدقات فى كتابه، وقد مضى من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قصة أبى طلحة ما فيه شفاء، فرأى صلى الله عليه وسلم فى قصة أبى طلحة أن تصرف الصدقة إلى صنف واحد وهم أقارب أبى طلحة‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ فإن قيل‏:‏ قد قلتم إنه إذا أوقف على من لا يولد له ولم يكن له ولد فى الحال لم يجز الوقف، وقلتم هاهنا إذا قال‏:‏ وقف‏.‏

صح الوقف فما الفرق‏؟‏ قيل‏:‏ الفرق بينهما أنه إذا أوقفه على من لم يولد له فقد وقفه على غير موجودين؛ لأنه قد يجوز أن لا يولد له، وإذا وقفه ولم يذكر وجهًا يصرف فيه، ففقراء المسلمين الذين تجوز لهم الصدقة، وقد ذكرهم الله فى كتابه، موجودون غير معدومين ففى أيها يجعله الإمام صح الوقف‏.‏