فصل: باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الثَنَاءِ عَلَى السُّلْطَانِ وَإِذَا خَرَجَ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الثَنَاءِ عَلَى السُّلْطَانِ وَإِذَا خَرَجَ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ‏:‏ إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى سَلاَطِينَنَا، فَنَقُولُ لَهُمْ خِلافَ مَا نَتَكَلَّمُ إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمْ، قَالَ‏:‏ كُنَّا نَعُدُّهَا ذَلِكَ نِفَاقًا‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ قَالَ النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ، الَّذِى يَأْتِى هَؤُلاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ لا ينبغى لمؤمن أن يثنى على سلطان أو غيره فى وجهه وهو عنده مستحق للذم، ولا يقول بحضرته بخلاف ما يقوله إذا خرج من عنده؛ لأن ذلك نفاق كما قال ابن عمر، وقال فيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏شر الناس ذو الوجهين‏)‏ وقال‏:‏ إنه لا يكون عند الله وجيهًا؛ لأنه يظهر لأهل الباطل الرضا عنهم، ويظهر لأهل الحق مثل ذلك ليرضى كل فريق منهم ويريه أنه منهم وهذه المداهنة المحرمة على المؤمنين‏.‏

قال المهلب‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ إن حديث ابن عمر وحديث أبى هريرة يعارضان قوله صلى الله عليه وسلم للذى استأذن عليه‏:‏ ‏(‏بئس ابن العشيرة‏)‏ ثم تلقاه بوجه طلق وترحيب‏.‏

قيل‏:‏ ليس بينهما تعارض بحمد الله؛ لأنه لم يقل صلى الله عليه وسلم خلاف ما قاله عنه؛ بل أبقاه على التجريح عند السامع، ثم تفضل عليه بحسن اللقاء والترحيب لما كان يلزمه صلى الله عليه وسلم من الاستئلاف، وكان يلزمه التعريف لخاصته بأهل التخليط والتهمة بالنفاق، وقد قيل‏:‏ إن تلقيه له بالبشر إنما كان لاتقاء شره، وليكف بذلك أذاه عن المسلمين، فإنما قصد بالوجهين جميعًا إلى نفع المسلمين بأن عرفهم سوء حاله وبأن كفاهم ببشره له أذاه وشره‏.‏

وذو الوجهين بخلاف هذا؛ لأنه يقول الشىء بالحضرة، ويقول ضده فى غير الحضرة، وهذا تناقض، والذى فعله صلى الله عليه وسلم محكم مبين لا تناقض فيه؛ لأنه لم يقل لابن العشيرة عند لقائه إنه فاضل ولا صالح بخلاف ما قال فيه فى غير وجهه‏.‏

ومن هذا الحديث استجاز الفقهاء التجريح والإعلام بما يظن من سوء حال الرجل إذا خشى منه على المسلمين، وسأتقصى ذلك فى كتاب الأدب من باب المداراة مع الناس‏.‏

باب الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ‏:‏ أَنَّ هِنْدًا قَالَتْ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَأَحْتَاجُ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ، قَالَ خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى القضاء على الغائب فأجاز ذلك سوار القاضى ومالك والليث والشافعى وأبو ثور وأبو عبيد‏.‏

قال الشافعى‏:‏ يقضى بذلك فى كل شىء‏.‏

وروى ابن القاسم عن مالك‏:‏ أنه يقضى بذلك فى الدين ولا يقضى به فى أرض ولا عقار، وفى كل شىء كانت له فيه حجج إلا أن تكون غيبة المدعى عليه طويلة‏.‏

قال أصبغ‏:‏ مثل الغدوة من الأندلس ومكة ومن إفريقية وشبه ذلك، وأرى أن يحكم عليه إذا كانت غيبة انقطاع‏.‏

قال مالك‏:‏ وكذلك إن غاب بعد ما توجه عليه القضاء قضى عليه‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ عرضت قول ابن القاسم، عن مالك على ابن الماجشون، فأنكر أن يكون مالك قاله، وقال‏:‏ أما علماؤنا وحكامنا بالمدينة؛ فالعمل عندهم على الحكم على الغائب فى جميع الأشياء‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا يقضى على الغائب‏.‏

روى ذلك عن شريح، والنخعى، والقاسم، وعمر ابن عبد العزيز، وابن أبى ليلى‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يقضى على الغائب ولا من هرب عن الحكم بعد إقامة البينة، ولا على من استتر فى البلد، ولكنه يأتى من عند القاضى من ينادى على بابه ثلاثة أيام فإن لم يحضر أنفذ عليه القضاء‏.‏

واحتج الكوفيون بالإجماع أنه لو كان حاضرًا لم يسمع بينة المدعى حتى يسأل المدعى إليه، فإذا غاب فأحرى أن لا يسمع‏.‏

قالوا‏:‏ ولو جاز الحكم مع غيبته لم يكن الحضور عند الحاكم مستحقا عليه، وقد ثبت أن الحضور مستحق عليه؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 48‏]‏ فذمهم على الإعراض عن الحكم وترك الحضور، فلولا أن ذلك واجب عليهم لم يلحقهم الذم‏.‏

قالوا‏:‏ وروى عن على حين بعثه النبى صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال له‏:‏ ‏(‏لا تقض لأحد الخصمين حتى تسمع من الآخر‏)‏ وقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم بالمساواة بين الخصمين فى المجلس، واللحظ واللفظ‏.‏

والحكم على الغائب يمنع من هذا كله‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ واحتج الذين أجازوا القضاء على الغائب بحديث هند وأن النبى صلى الله عليه وسلم قضى لها على زوجها بالأخذ من ماله وهو غائب‏.‏

فإن قيل‏:‏ حكم من غير أن قامت البينة بالزوجية وثبوت الحق عليه‏.‏

قيل‏:‏ ليس يكون الحكم بعد إقامة البينة، وهذا معلوم لم يحتج إلى نقله‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ لم يسألها النبى صلى الله عليه وسلم البينة لعلمه بصحة دعواها‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وإنما حكم عليه وهو غائب لما علم ما يجب لها عليه، فحكم بذلك عليه ولم ينتظر حضوره، ولعله لو حضر أدلى بحجة فلم يؤخر صلى الله عليه وسلم الحكم بذلك وأمضاه عليه وهو غائب‏.‏

وقد تناقض الكوفيون فى ذلك فقالوا‏:‏ لو ادعى رجل عند حاكم أن له على غائب حقًا وجاء برجل فقال‏:‏ إنه كفيله واعترف له الرجل أنه كفيله إلا أنه قال‏:‏ لا شىء له عليه‏.‏

فقال أبو حنيفة‏:‏ يحكم على الغائب ويأخذ الحق من الكفيل، وكذلك إذا قامت امرأة الغائب وطلبت النفقة من مال زوجها، فإنه يحكم لها عليه بالنفقة عندهم‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ومن تناقضهم أنهم يقضون للمرأة والوالدين والولد على الذى عنده المال الغائب إذا أقر به، ولا يقضون للأخ والأخت ولا لذى رحم محرم، ووجوب نفقات هؤلاء عندهم كوجوب نفقات الآباء والأبناء والزوجة، ولو ادعى على جماعة غُيّب دعوى مثل أن يقول‏:‏ قتلوا عبدى‏.‏

وحضر منهم واحد حكم عليه وعلى الغُيّب، فقد أجازوا الحكم على الغائب‏.‏

باب مَنْ قُضِىَ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَلا يَأْخُذْهُ فَإِنَّ قَضَاءَ الْحَاكِمِ لا يُحِلُّ حَرَامًا وَلا يُحَرِّمُ حَلالا

- فيه‏:‏ أُمَّ سَلَمَةَ أَنَّ النبى صلى الله عليه وسلم سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِى الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَأَقْضِى لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ، فَإِنَّمَا هِىَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا‏؟‏‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ قَالَتْ‏:‏ كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ ابْنِ أَبِى وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّى فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ، فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ، فَقَالَ‏:‏ ابْنُ أَخِى، قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ‏:‏ أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ سَعْدٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ أَخِى، كَانَ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ‏:‏ أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ‏:‏ احْتَجِبِى مِنْهُ، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِىَ اللَّهَ‏)‏‏.‏

أجمع الفقهاء على أن حكم الحاكم لا يخرج الأمر عما هو عليه فى الباطن، وإنما ينفذ حكمه فى الظاهر الذى تعبد به، ولا يحل للمقضى له مال المقضى عليه إذا ادعى عليه ما ليس عنده ووقع الحكم بشاهدى زور، فالعلماء مجمعون أن ذلك فى الفروج والأموال سواء؛ لأنها كلها حقوق لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقًا من أموال الناس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 188‏]‏ وهو قول أبى يوسف‏.‏

وشذ أبو حنيفة ومحمد فقالا‏:‏ ما كان من تمليك مال فهو على حكم الباطن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فمن قضيت له بشىء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار‏)‏ وما كان من حل عصمة النكاح أو عقدها غير داخل فى النهى، فلو تعمد شاهدا زور الشهادة على امرأة أنها قد رضيت بنكاح رجل، وقضى الحاكم عليها بذلك لزمها النكاح ولم يكن لها الامتناع‏.‏

ولو تعمد رجلان الشهادة بالزور على رجل أنه طلق امرأته، فقبل الحاكم شهادتهما لعدالتهما عنده، وفرق بين الرجل والمرأة واعتدت المرأة جاز لأحد الشاهدين أن يتزوجها وهو عالم أنه كان كاذبًا فى شهادته، لأنه لما حلت للأزواج فى الظاهر كان الشاهد وغيره سواء؛ لأن قضاء القاضى قطع عصمتها وأحدث فى ذلك التحليل والتحريم فى الظاهر والباطن جميعًا، ولولا ذلك ما حلت للأزواج‏.‏

واحتجا بحكم اللعان وقالا‏:‏ معلوم أن الزوجة إنما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب الذى لو علم الحاكم كذبها فيه لحدها وما فرق بينهما، فلم يدخل هذا فى عموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وقضيت له بشىء من حق أخيه فلا يأخذه‏)‏‏.‏

واحتج أصحاب مالك والشافعى وغيرهم بحديث أم سلمة وعائشة فقالوا‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هى قطعة من النار‏)‏ بيان واضح أن حكمه بما ليس للمحكوم له لا يجوز له أخذه، وأنه حرام عليه فى الباطن‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فمن قضيت له بحق مسلم‏)‏ يشتمل على كل حق، فمن فرق بين بعض الحقوق فعليه الدليل، ومثل هذا حكمه صلى الله عليه وسلم فى ابن وليدة زمعة أنه لزمعة من أجل الفراش الظاهر ولم يلحقه بعتبة، ثم لما رأى شبهًا بعتبة قال لسودة زوجته‏:‏ ‏(‏احتجبى منه‏)‏؛ لجواز أن يكون من زنا‏.‏

فلو كان حكمه يقع ظاهرًا وباطنًا لم يأمر صلى الله عليه وسلم زوجته سودة بالاحتجاب منه مع حكمه بأنه أخوها‏.‏

ومن طريق الاعتبار أنا قد اتفقا على أنه لو ادعى إنسان على حرة أنها أمته وأقام شاهدى زور لم تكن أمته فى الباطن من أجل حكم الحاكم، فكذلك فى الفروج كلها، وكذلك لو ادعى على ابنته أو أخته أنها زوجته وأقام شاهدى زور، وحكم الحاكم بالزوجية، فإن أبا حنيفة يقول‏:‏ لا تكون زوجته‏.‏

وفرق بين الحرمة بالنسب وبين زوجة غيره ولا فرق بينهما؛ لأنه لما كان حكم الحاكم لا يبيح المحرمة بالنسب، فكذلك لا يبيح المحرمة بنكاح غيره‏.‏

باب الْحُكْمِ فِى الْبِئْرِ وَنَحْوِهَا

- فيه‏:‏ عَبْدُاللَّهِ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يَحْلِفُ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ مَالا، وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، إِلا لَقِىَ اللَّهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 77‏]‏ الآيَةَ، فَجَاءَ الأشْعَثُ وَعَبْدُاللَّهِ يُحَدِّثُهُمْ، فَقَالَ‏:‏ فِىَّ نَزَلَتْ، وَفِى رَجُلٍ خَاصَمْتُهُ فِى بِئْر‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وذكر فى كتاب الأيمان والنذور أن البئر كانت للأشعث فى أرض ابن عمه فادعى له فى البئر‏.‏

وهذا الحديث حجة فى أن حكم الحاكم فى الظاهر لا يحل الحرام ولا يبيح المحظور، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم حذر أمته عقوبة من اقتطع حق أخيه بيمين فاجرة، أن جزاءه غضب الله عليه، وقد توعد الله على ذلك بضروب من العقوبة فقال‏:‏ ‏(‏إن الذين يشترون بعهد الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 77‏]‏ وهذا من أشد وعيد جاء فى القرآن، فدل ذلك على أن من تحيل على أخيه وتوصل إلى شىء من حقه بباطل، فإنه لا يحل له لشدة الإثم فيه‏.‏

باب الْقَضَاءُ فِى قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ سَوَاءٌ

وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ‏:‏ الْقَضَاءُ فِى قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ سَوَاءٌ‏.‏

- فيه‏:‏ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ‏)‏، إلى قوله‏:‏ ‏(‏فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

القضاء فى قليل المال وكثيره واجب؛ لعموم قوله‏:‏ ‏(‏فمن قضيت له بحق مسلم‏)‏ والحق يقع على كل شىء من القليل والكثير‏.‏

واختلف العلماء فى كم تجب اليمين فى مقاطع الحقوق‏؟‏ وقد تقدم ذلك فى كتاب الشهادات والأيمان فى باب يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين‏.‏

باب بَيْعِ الإمَامِ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَضِيَاعَهُمْ

وَقَدْ بَاعَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مُدَبَّرًا مِنْ نُعَيْمِ بْنِ النَّحَّامِ‏.‏

- فيه‏:‏ جَابِرِ‏:‏ بَلَغَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِهِ أَعْتَقَ غُلامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُ، فَبَاعَهُ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ بِثَمَنِهِ إِلَيْهِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما يبيع الإمام على الناس أموالهم إذا رأى منهم سفهًا فى أحوالهم؛ فأما من ليس بسفيه، فلا يباع عليه شىء من ماله إلا فى حق يكون عليه، وهذا البيع الذى وقع فى المدبر إنما نقضه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن له مال غيره، فخشى عليه الموت فى الحجاز دون قوت لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنفقوا فى سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 195‏]‏، فلما رآه النبى صلى الله عليه وسلم قد أنفق جميع ذات يده فى المدبر وأنه تعرض للهلكة نقض عليه فعله، كما قال تعالى ونهى عنه، ولم ينقض على الذى قال له‏:‏ ‏(‏قل‏:‏ لا خلابة‏)‏ لأنه لم يفوت على نفسه جميع ماله‏.‏

باب مَنْ لَمْ يَكْتَرِثْ بِطَعْنِ مَنْ لا يَعْلَمُ فِى الإِمَامِ

- فيه‏:‏ ابْنَ عُمَرَ قَالَ‏:‏ ‏(‏بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطُعِنَ فِى إِمَارَتِهِ، وَقَالَ‏:‏ إِنْ تَطْعَنُوا فِى إِمَارَتِهِ، فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِى إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَايْمُ اللَّهِ، إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلإمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ بَعْدَهُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ معنى الترجمة أن الطاعن إذا لم يعلم حال المطعون عليه، وكذب فى طعنه لا ينبغى أن يكترث له كبير اكتراث، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم قد خلى هذا الطعن حين أقسم أنه كان خليقًا للإمارة‏.‏

وفيه‏:‏ أنه يتأسى بما قيل فى المرء من الكذب إذا قيل مثل ذلك فيمن كان قبله من الفضلاء‏.‏

وفيه‏:‏ التبكيت للطاعنين؛ لأنهم لما طعنوا فى إمارة أبيه، ثم ظهر من غنائه وفضله ما ظهر؛ كان ذلك ردًا لقولهم‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد طعن على أسامة وأبيه بما ليس فيهما، ولم يعزل النبى صلى الله عليه وسلم واحدًا منهما، بل بين فضلهما ولم يتهمهما، ولم يعتبر عمر بهذا القول فى سعد، وعزله حين قرفه أهل الكوفة بما هو منه برئ‏.‏

فالجواب‏:‏ أن عمر لم يعلم من مغيب أمر سعد ما علمه النبى صلى الله عليه وسلم من مغيب أمر زيد وأسامة، وإنما قال عمر لسعد حين ذكر أن صلاته تشبه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ذلك الظن بك‏.‏

ولم يقطع على ذلك كما قطع النبى صلى الله عليه وسلم فى أمر زيد أنه خليق للإمارة، وقال فى أسامة‏:‏ إنه من أحب الناس إليه‏.‏

ولا يجوز أن يحب النبى صلى الله عليه وسلم إلا من أحبه الله، ومن لا يسوغ فيه العيب والنقص‏.‏

ويحتمل أن يكون الطاعنون فى أسامة وأبيه من استصغر سنه على من قدم عليه من مشيخة الصحابة، وذلك جهل ممن ظنه، ويحتمل أن يكون الظن من المنافقين الذين كانوا يطعنون على النبى صلى الله عليه وسلم ويقبحون آثاره وآراءه، وقد وصف الله من اتهم الرسول فى قضاياه أنه غير مؤمن بقوله‏:‏ ‏(‏فلا وربك لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏ الآية‏.‏

باب الألَدِّ الْخَصِمِ وَهُوَ الدَّائِمُ فِى الْخُصُومَةِ

لُدًّا‏:‏ عُوجًا

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الألَدُّ الْخَصِمُ‏)‏‏.‏

قد تقدم فى كتاب المظالم والغصب هذا‏.‏

قال المهلب‏:‏ لما كان اللدد حاملاً على المطل بالحقوق والتعريج بها عن وجوهها، واللىّ بها عن مستحقيها وظلم أهلها؛ استحق فاعل ذلك بغضة الله وأليم عقابه‏.‏

باب إِذَا قَضَى الْحَاكِمُ بِجَوْرٍ أَوْ خِلافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهُوَ رَدٌّ

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ بَعَثَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِى جَذِيمَةَ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا‏:‏ أَسْلَمْنَا، فَقَالُوا‏:‏ صَبَأْنَا، صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، فَأَمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَهُ، فَقُلْتُ‏:‏ وَاللَّهِ لا أَقْتُلُ أَسِيرِى، وَلا يَقْتُلُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِى أَسِيرَهُ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنِّى أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ مَرَّتَيْنِ‏)‏‏.‏

لم يختلف العلماء أن القاضى إذا قضى بجور أو بخلاف أهل العلم فهو مردود، فإن كان على وجه الاجتهاد والتأويل كما صنع خالد فإن الإثم ساقط عنه، والضمان لازم فى ذلك عند عامة أهل العلم، إلا أنهم اختلفوا فى ضمان ذلك على ما يأتى بيانه‏.‏

ووجه موافقة الحديث للترجمة هو قوله‏:‏ ‏(‏اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد‏)‏ يدل تبرؤه صلى الله عليه وسلم من قتل خالد للذين قالوا‏:‏ صبأنا‏.‏

أن قتله لهم حكم منه بغير الحق؛ لأن الله يعلم الألسنة كلها ويقبل الإيمان من جميع أهل الملل بألسنتهم، لكن عذره النبى صلى الله عليه وسلم بالتأويل؛ إذ كل متأول فلا عقوبة عليه ولا إثم‏.‏

واختلفوا فى ضمان خطأ الحاكم، فقالت طائفة‏:‏ إذا أخطأ الحاكم فى حكمه فى قتل أو جراح فدية ذلك فى بيت المال‏.‏

هذا قول الثورى وأبى حنيفة وأحمد وإسحاق‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ هو على عاقلة الإمام والحاكم‏.‏

وهذا قول الأوزاعى وأبى يوسف ومحمد والشافعى، وليس فيها جواب لمالك‏.‏

واختلف أصحابه فيها فقال ابن القاسم كقول الأوزاعى‏:‏ الدية على عاقلة الحاكم‏.‏

وقال فى الشاهدين إذا شهد فى دين أو عتق أو طلاق أو حد من الحدود‏:‏ أرى أن يضمنا الدين، ويكون عليهما قيمة العبد فى العتق وقصاص العقل فى أموالهم‏.‏

وهو قول أشهب فى الشاهدين‏.‏

وقال‏:‏ الأموال مضمونة بالخطأ كما هى بالعمد، وليست كالدماء‏.‏

وهو قول أصبغ‏.‏

وقال ابن الماجشون‏:‏ ليس على الحاكم شىء من الدية فى ماله ولا على عاقلته ولا فى بيت مال المسلمين، وكذلك قال فى الشاهدين إذا رجعا عن شهادتهما وادعيا الغلط أنه لا غرم عليهما‏.‏

وهو قول محمد بن مسلمة‏.‏

وذكر ابن حبيب أن قول ابن الماجشون هو قول المغيرة وابن دينار وابن أبى حازم وغيرهم‏.‏

وحجة من لم يوجب الدية أنه لم يرو فى الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم أغرمه الدية ولا غرمها عنه، وقوله‏:‏ ‏(‏إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر‏)‏‏.‏

ولا يجوز أن يؤجر إلا على ما هو بفعله مطيع، فإذا كان مطيعًا فما صدر عنه من تلف نفس أو مال فلا ضمان عليه، وهذا اختيار إسماعيل بن إسحاق‏.‏

وحجة الذين أوجبوا الضمان والدية الإجماع على أن الأموال مضمونة بالخطأ كما هو بالعمد، ولا تسقط الدية فى ذلك من أجل أنها لم يذكر فى الحديث وجوبها، كما لم تسقط فى دية الناقتين عن حمزة حين جب أسنمتهما وبقر خواصرهما، وإن كان لم يذكر ذلك فى الحديث‏.‏

وروى عن عثمان أنه جعل عقل المرأة التى أمر برجمها على عاقلته، وروى أن امرأة ذكرت عند عمر بالزنا فبعث إليها ففزعت فألقت ما فى بطنها فاستشار الصحابة فى ذلك، فقال له عبد الرحمن بن عوف وغيره‏:‏ إنما أنت مؤدب ولا شىء عليك‏.‏

فقال لعلى‏:‏ ما تقول‏؟‏ فقال‏:‏ إن كان اجتهدوا فقد أخطئوا، عليك الدية‏.‏

قال عمر‏:‏ عزمت عليك لتقسمنها على قومك‏.‏

فأوجب على بحضرة الصحابة الدية وألزمها عمر، وضربها على عاقلته، والمرأة وإن كانت أسقطت من الفزع فهو من جهته‏.‏

وليس فى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا اجتهد الإمام فأخطأ‏)‏ دليل على إسقاط الضمان فى ذلك، وإنما فيه سقوط الإثم عن المجتهد وأنه مأجور إن لم يتعمد الخطأ، ولا يفهم من الحديث زوال الضمان‏.‏

باب الإمَامِ يَأْتِى قَوْمًا فَيُصْلِحُ بَيْنَهُمْ

- فيه‏:‏ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ‏(‏كَانَ قِتَالٌ بَيْنَ بَنِى عَمْرٍو، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَتَاهُمْ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا حَضَرَتْ صَلاةُ الْعَصْرِ، فَأَذَّنَ بِلالٌ وَأَقَامَ وَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ، فَتَقَدَّمَ وَجَاءَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ فِى الصَّلاةِ، فَشَقَّ النَّاسَ حَتَّى قَامَ خَلْفَ أَبِى بَكْرٍ، فَتَقَدَّمَ فِى الصَّفِّ الَّذِى يَلِيهِ، قَالَ‏:‏ وَصَفَّحَ الْقَوْمُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا دَخَلَ فِى الصَّلاةِ‏.‏

وذكر الحديث، إلى قوله‏:‏ إِذَا رَابَكُمْ أَمْرٌ فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَالُ وَلْيُصَفِّق النِّسَاءُ‏)‏‏.‏

وقد تقدم فى الصلح‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ قد جاء فى هذا الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم شق الناس وهم فى الصلاة، وجاء عنه أنه نهى عن التخطى، وأن يفرق بين اثنين يوم الجمعة، فكيف وجه الجمع بين هذه الأحاديث‏؟‏ قال المهلب‏:‏ لا اختلاف بين معانيها، ولكل واحد منها وجه، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم ليس كغيره فى أمر الصلاة ولا غيرها؛ لأنه ليس لأحد أن يتقدم علة فيها، وله أن يتقدم لما ينزل عليه من أحكام الصلاة، أو ينزل عليه قرآن بإثبات حكم أو نسخه، وليس لغيره شىء من ذلك وليس حركة من حركاته صلى الله عليه وسلم إلا ولنا فيها منفعة وسنة نقتدى بها، والمكروه من التخطى هو ما يختص بالأذى والجفاء على الجلوس، فى التخطى على رقابهم وقلة توقيرهم، وليس كذلك الوقوف فى الصلاة؛ لأنهم ليسوا فى حديث يفاوضون فيه فيقطعه عليهم المار بينهم كما يقطعه من جلس بين اثنين متحادثين فى علم أو مشاورة، ويستدل على ذلك بقول مالك‏:‏ من رعف فى الصلاة أن له أن يشق الصفوف عرضًا إلى الباب، فإن لم يمكنه خرج كيف تيسر له، وليس لأحد أن يشق الصفوف فى الدخول والناس جلوس قبل الصلاة لما فى ذلك من الجفاء على الناس والأذى لهم، ولهم ذلك بعد تمام الصلاة، لأنهم ممن أباح الله لهم الانتشار بعد الصلاة؛ فلذلك سقط أذى التخطى عن الخارج؛ لأنهم مختارون للجلوس بعد الصلاة ومأمورون بالجلوس قبلها، وقد خرج صلى الله عليه وسلم بعد تقضى الصلاة يتخطى رقاب الناس فقال‏:‏ ‏(‏تذكرت ذهيبة كانت عندى فخشيت أن تحبسنى‏)‏‏.‏

وفى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فليسبح الرجال وليصفق النساء‏)‏ حجة للشافعى فى قوله‏:‏ إن المرأة لا تسبح فى الصلاة؛ لأن صوتها فتنة يخشى منه على الناس، فالتصفيق سنتها بخلاف الرجال على ما جاء فى هذا الحديث، وهو نص لا مدفع فيه‏.‏

باب يُسْتَحَبُّ لِلْكَاتِبِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَاقِلا

- فيه‏:‏ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ‏:‏ بَعَثَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ لِمَقْتَلِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ إِنَّ عُمَرَ أَتَانِى، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَإِنِّى أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ فِى الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا، فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وَإِنِّى أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ‏:‏ كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِى فِى ذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِى لِلَّذِى شَرَحَ لَهُ صَدْرَ عُمَرَ وَرَأَيْتُ فِى ذَلِكَ الَّذِى رَأَى عُمَرُ، قَالَ زَيْدٌ‏:‏ قَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ وَإِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ، قَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْىَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، قَالَ زَيْدٌ‏:‏ فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِى نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ بِأَثْقَلَ عَلَىَّ مِمَّا كَلَّفَنِى مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ‏:‏ كَيْفَ تَفْعَلانِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ يَحُثُّ مُرَاجَعَتِى حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِى لِلَّذِى شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَرَأَيْتُ فِى ذَلِكَ الَّذِى رَأَيَا، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ، أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ وَالرِّقَاعِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، فَوَجَدْتُ فِى آخِرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ‏:‏ ‏(‏لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏ إِلَى آخِرِهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، أَوْ أَبِى خُزَيْمَةَ، فَأَلْحَقْتُهَا فِى سُورَتِهَا، وَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِى بَكْرٍ حَيَاتَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ‏.‏

قَالَ عُبَيْدِاللَّهِ البخارى‏:‏ اللِّخَافُ يَعْنِى الْخَزَفَ‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا يدل أن العقل أصل الخلال المحمودة كالأمانة والكفاية فى عظيم الأمور؛ لأنه لم يصف زيدًا بأكثر من العقل، وجعله سببًا لائتمانه ورفع التهمة عنه؛ لقوله‏:‏ إنك شاب عاقل ولا نتهمك‏.‏

وفيه‏:‏ دليل على اتخاذ الكاتب للسلاطين والحكام، وأنه ينبغى أن يكون الكاتب عاقلاً فطنًا مقبول الشهادة، وهذا قول كافة الفقهاء‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ ينبغى لكاتب القاضى أن يكون عاقلا لئلا يخدع ويحرص على أن يكون فقيهًا لئلا يؤتى من جهالة، ويكون بعيدًا من الطمع نزهًا‏.‏

وفيه‏:‏ أن من سبقت له معرفة بالأمر فإنه أولى بالولاية، أحق بها ممن لا سابقة له فى ذلك ولا معرفة‏.‏

وفيه‏:‏ جواز مراجعة الكتاب للسلطان فى الرأى ومشاركته له فيه‏.‏

قال أبو بكر بن الطيب‏:‏ إن قال قائل من الرافضة‏:‏ كيف جاز لأبى بكر جمع القرآن ولم يجمعه النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

قيل‏:‏ يجوز أن يفعل الفاعل ما لم يفعله النبى صلى الله عليه وسلم إذا كان فى ذلك مصلحة فى وقته واحتياط للدين، وليس فى أدلة الكتاب والسنة ما يدل على فساد جمع القرآن بين لوحين وتحصينه، وجمع هممهم على تأمله، وتسهيل الانتساخ منه والرجوع إليه، والغنى به عن تطلب القرآن من الرقاع والعسب وغير ذلك مما لا يؤمن عليه الضياع، فوجب أن يكون أبو بكر مصيبًا، وأن ذلك من أعظم فضائله وأشرف مناقبه حين سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد من الأمة، وبأن اجتهاده فى النصح لله ولرسوله ولكتابه ودينه وجميع المؤمنين، وأنه فى ذلك متبع لله ولرسوله لإخباره تعالى فى كتابه أن القرآن كأن مكتوبًا فى الصحف الأولى، وأخبر عن تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحف بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رسول من الله يتلو صحفًا مطهرة فيها كتب قيمة‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 2، 3‏]‏ فلم يكن جمع أبى بكر الصديق بين اللوحين مخالفًا لله ولرسوله؛ لأنه لم يجمع ما لم يكن مجموعًا ولا كتب ما لم يكن مكتوبًا، وقد أمرهم النبى صلى الله عليه وسلم بكتابته فقال‏:‏ ‏(‏لا تكتبوا عنى شيئًا غير القرآن‏)‏‏.‏

فألف المكتوب وصانه، وأحرزه وجمعه بين لوحين، ولم يغير منه شيئًا، ولا قدم منه مؤخرًا ولا أخر مقدمًا، ولا وضع حرفًا ولا آية فى غير موضعها‏.‏

ودليل آخر، وذلك أن الله ضمن لرسوله ولسائر الخلق جمع القرآن وحفظه فقال‏:‏ ‏(‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن علينا جمعه وقرآنه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 16‏]‏، وقال‏:‏ ‏(‏لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 42‏]‏‏.‏

فنفى عنه إبطال الزائغين وإلباس الملحدين، ثم أمر الرسول والأمة بحفظه والعمل به، فوجب أن يكون كل أمر عاد لتحصينه وأدى إلى حفظه واجبًا على كافة الأمة فعله، فإذا قام به البعض فقد أحسن وناب عن باقى الأمة‏.‏

وقد روى عبد خير، عن على أنه قال‏:‏ يرحم الله أبا بكر هو أول من جمع القرآن بين لوحين‏.‏

وهذا تعظيم منه لشأنه ومدح له، وعلى أعلم من الرافضة بصواب هذا الفعل، فيجب ترك قولهم لقوله‏.‏

ومما يدل على صحة هذه الرواية عن علىّ ابتغاؤه لأجره وإطلاقه للناس كتب المصاحف وحضهم عليها وإظهار تحكيم ما ضم الصديق بين لوحين، ولو كان ذلك عنده منكرًا لما أخرج إلى الدعاء إلى من يخالفه مصحفًا تنشره الريح، وإنما كان يخرجه من المصحف والعسب واللخاف على وجه ما كان مكتوبًا فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم فدل أنه مصوب لفعل الصديق والجماعة، وأن ذلك رأيه ودينه، وسياتى فى كتاب فضائل القرآن فى باب جمع القرآن بقيته‏.‏

باب كِتَابِ الْحَاكِمِ إِلَى عُمَّالِهِ وَالْقَاضِى إِلَى أُمَنَائِهِ

- فيه‏:‏ حديث حويصة ومحيصة‏:‏ ‏(‏وأن النبى صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل خيبر‏:‏ إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب، فكتبوا، ما قتلنا‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث‏.‏

قد تقدم هذا الحديث فى باب الشهادة على الخط‏.‏

باب هَلْ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْعَثَ رَجُلا وَحْدَهُ لِلنَّظَرِ فِى الأمُورِ

- فيه أَبِى هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ‏:‏ حديث العَسِيف، إلى قوله‏:‏ وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ، لِرَجُلٍ، فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَارْجُمْهَا فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا الحديث نص فى بعثة الحاكم رجلا واحدًا ينفذ حكمه‏.‏

وفيه حجة لمالك فى قوله‏:‏ إنه يجوز أن ينفذ الرجل الواحد إلى إعذار من شهد عليه بحق، وأنه يجوز أن يتخذ رجلا ثقة يكشف له عن حال الشهود فى السر، وكذلك يجوز عندهم قبول الواحد فيما طريقه الأخبار ولم يكن طريقه الشهادة، وقد استدل قوم بهذا الحديث فى أن الإمام إذا بعث رجلا ينفذ أحكامه أنه ينفذه من غير إعذار إلى المحكوم عليه؛ لأنه لم ينقل فى الأخبار أن أنيسًا أعذر إلى المرأة المدعى عليها الزنا، وهذا ليس بشىء؛ لأن الإعذار إنما يصح فيما كان فى الحكم بالبينات، ولابد فى ذلك من الإعذار إلى المحكوم عليه، وما كان الحكم فيه من جهة الإقرار فللرسول أن ينفذه بإقرار المقر، ولا إعذار فيه، وإنما اختلف العلماء هل يحتاج وكيل الحاكم إلى أن يحضر من يسمع ذلك من المقر أم لا‏؟‏ على حسب اختلافهم فى الحاكم هل يحتاج إلى مثل ذلك أم لا‏؟‏ وأصل الإعذار فى كتاب الله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تمتعوا فى دراكم ثلاثة أيام‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 65‏]‏ وفى قوله‏:‏ ‏(‏إن موعدهم الصبح‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 81‏]‏‏.‏

وفى هذا الحديث حجة لمن قال‏:‏ إن القاضى يجوز أن يحكم على الرجل بإقراره دون بينة تشهد عنده بذلك الإقرار، وهو قول ابن أبى ليلى وأبى حنيفة وأبى يوسف، وقال مالك‏:‏ لا يقضى على الرجل بإقراره حتى تشهد عنده بينة بذلك‏.‏

وهو قول محمد بن الحسن، واحتج الطحاوى بقوله‏:‏ ‏(‏واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها‏)‏ ولم يقل له‏:‏ فإن اعترفت فأشهد عليها حتى يكون حجة لك بعد موتها‏.‏

قال‏:‏ وقد قتل معاذ وأبو موسى مرتدا وهما واليان لرسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن ولم يشهدا عليه‏.‏

واختلفوا إذا قال القاضى‏:‏ قد حكمت على هذا الرجل بالرجم فارجم‏.‏

فقال أبو حنيفة وأبو يوسف‏:‏ إذا قال ذلك، وسعك أن ترجمه وكذلك سائر الحدود والحقوق‏.‏

وقال ابن القاسم على مذهب مالك‏:‏ إن كان القاضى عدلا وسع المأمور أن يفعل ما قال القاضى، وهو قول الشافعى‏.‏

قال ابن القاسم‏:‏ إن لم يكن عدلا لم يقبل قوله‏.‏

وقال محمد بن الحسن‏:‏ لا يجوز للقاضى أن يقول‏:‏ أقر عندى فلان بكذا، لشىء يقضى به عليه من قتل أو مال، أو عتاق أو طلاق حتى يشهد معه على ذلك رجلان أو رجل عدل ليس يكون هذا لأحد بعد النبى صلى الله عليه وسلم، وينبغى أن يكون فى مجلس القاضى أبدًا رجلان عدلان يسمعان من يقر ويشهدان على ذلك، فينفذ الحكم بشهادتهما أو شهادة من حضر‏.‏

باب تَرْجَمَةِ الْحُكَّامِ وَهَلْ يَجُوزُ تَرْجُمَانٌ وَاحِدٌ‏؟‏

وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ‏:‏ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ حَتَّى كَتَبْتُ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم كُتُبَهُ وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ‏.‏

وقال عُمَرُ، وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ وَعُثْمَانُ‏:‏ مَاذَا تَقُولُ هَذِهِ‏؟‏ قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ ابْنُ حَاطِبٍ‏:‏ فَقُلْتُ‏:‏ تُخْبِرُكَ بِصَاحِبِهَا الَّذِى صَنَعَ بِهَا، وَقَالَ أَبُو جَمْرَةَ‏:‏ كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ‏:‏ لا بُدَّ لِلْحَاكِمِ مِنْ مُتَرْجِمَيْنِ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنَ عَبَّاسٍ، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِى رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ‏:‏ قُلْ لَهُمْ إِنِّى سَائِلٌ هَذَا، فَإِنْ كَذَبَنِى فَكَذِّبُوهُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ لِلتُّرْجُمَانِ، قُلْ لَهُ إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا، فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَىَّ هَاتَيْنِ‏.‏

اختلف العلماء فيمن تجوز ترجمته على لسان الأعجمين إذا تحاكموا إلى حكام المسلمين، فروى أشهب عن مالك أنه يجوز ترجمة رجل واحد ثقة قال‏:‏ واثنان أحب إلىّ فى ذلك من الواحد وتقبل ترجمة امرأة واحدة واثنان أحب إليه ولا تقبل ترجمة عبد ولا مسخوط‏.‏

وأجاز أبو حنيفة وأبو يوسف ترجمة رجل واحد وامرأة واحدة، ولا تقبل من عبد كقول مالك‏.‏

وقال محمد بن الحسن‏:‏ لا تقبل إلا من رجلين أو رجل وامرأتين‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ لابد من اثنين‏.‏

وحجة من أجاز ترجمة الواحد فى ذلك ترجمة زيد بن ثابت وحده للنبى صلى الله عليه وسلم وترجمة أبى جمرة بين يدى ابن عباس، وأن عبد الله بن سلام ترجم عن التوراة فى آية الرجم للنبى صلى الله عليه وسلم فجاز ذلك، وأيضًا فإن ترجمان هرقل ترجم عن قريش فجازت ترجمته، ولم يدخل حديث هرقل حجة على جواز الترجمان المشرك؛ لأن ترجمان هرقل كان على دين قومه، وإنما أدخله ليدل على أن الترجمان كان يجرى عند الأمم مجرى المخبر لا مجرى الشهادة، واحتج الكوفيون بأن الترجمة ليس طريقها الشهادة؛ بدليل أنه لا يحتاج أن تقول أشهد أنه يقول كذا، بل يكفيه أن يقول‏:‏ هو يقول كذا وكذا وهو تفسير لما يقوله، والتفسير لا يحتاج فيه إلى العدد كالمستفتى إذا لم يفهم الفتيا بلسانه‏.‏

ومن شرط رجلين فى ذلك جعله كالشهادة لا ينقلها إلا شاهدان وكالإقرار عند الحاكم لا يجوز له أن يحكم به وإن فهمه حتى يشهد به عنده شاهدان، ففيما لا يفهمه ولا يعلمه أولى‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ لو كان الأمر إلى النظر كان الواجب أن لا يقبل فى الترجمة أقل من شاهدين قياسًا على أن ما غاب عن القاضى لا نقبل فيه إلا شاهدين، غير أن الخبر إذا جاء سقط النظر‏.‏

وفى ترجمة زيد بن ثابت وحده للنبى صلى الله عليه وسلم حجة لا يجوز خلافها‏.‏

باب مُحَاسَبَةِ الإمَامِ عُمَّالَهُ

- فيه‏:‏ أَبُو حُمَيْدٍ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ ابْنَ اللَّتْبِيَّةِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِى سُلَيْمٍ، فَلَمَّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَاسَبَهُ، قَالَ‏:‏ هَذَا الَّذِى لَكُمْ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِى‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث قد تقدم الكلام فى هذا الباب فى كتاب الزكاة، وسيأتى فى كتاب ترك الحيل فى باب‏:‏ احتيال العامل ليهدى إليه زيادة فى هذا المعنى إن شاء الله تعالى‏.‏

باب بِطَانَةِ الإمَامِ وَأَهْلِ مَشُورَتِهِ الْبِطَانَةُ الدُّخَلاءُ

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِىٍّ وَلا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ، إِلا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ‏:‏ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ينبغى لمن سمع هذا الحديث أن يتأدب به، ويسأل الله العصمة من بطانة الشر وأهله، ويحرض على بطانة الخير وأهله‏.‏

قال سفيان الثورى‏:‏ ليكن أهل مشورتك أهل التقوى وأهل الأمانة ومن يخشى الله‏.‏

قال سفيان‏:‏ وبلغنى أن المشورة نصف العقل‏.‏

وقال الحسن فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وشاورهم فى الأمر‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏ قال‏:‏ وقد علم أنه ليس به إليهم حاجة ولكن أراد أن يستن به بعده، وسيأتى فى كتاب الاعتصام عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وشاورهم فى الأمر‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏‏.‏

باب كَيْفَ يُبَايِعُ الإمَامُ النَّاسَ

- فيه‏:‏ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ‏:‏ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِى الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ، أَوْ نَقُولَ، بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لا نَخَافُ فِى اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَسٍ‏:‏ ‏(‏خَرَجَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فِى غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، وَالْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ، فَقَالَ‏:‏

اللَّهُمَّ إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الآخِرَهْ *** فَاغْفِرْ لِلأنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ

فَأَجَابُوا‏:‏

نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا *** عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا

- وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ ‏(‏كُنَّا إِذَا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ يَقُولُ لَنَا‏:‏ فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنُ دِينَارٍ شَهِدْتُ ابْنَ عُمَرَ حَيْثُ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِالْمَلِكِ، قَالَ‏:‏ كَتَبَ إِنِّى أُقِرُّ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِعَبْدِاللَّهِ عَبْدِالْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مَا اسْتَطَعْتُ، وَإِنَّ بَنِىَّ قَدْ أَقَرُّوا بِمِثْلِ ذَلِكَ‏.‏

- وفيه‏:‏ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ، قَالَ‏:‏ بَايَعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَلَقَّنَنِى فِيمَا اسْتَطَعْتُ، وَالنُّصْحِ لِكُّلِ مُسْلِّم‏.‏

- وفيه‏:‏ سَلَمَةَ بن الأكوع‏:‏ قُلْتُ عَلَى أَىِّ شَيْءٍ بَايَعْتُمُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ عَلَى الْمَوْتِ‏.‏

- وفيه‏:‏ الْمِسْوَرَ أَنَّ الرَّهْطَ الَّذِينَ وَلاهُمْ عُمَرُ اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا، فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُالرَّحْمَنِ‏:‏ لَسْتُ بِالَّذِى أُنَافِسُكُمْ عَلَى هَذَا الأمْرِ، وَلَكِنَّكُمْ إِنْ شِئْتُمُ اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْكُمْ، فَجَعَلُوا ذَلِكَ إِلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ، فَلَمَّا وَلَّوْا عَبْدَالرَّحْمَنِ أَمْرَهُمْ، فَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ حَتَّى مَا أَرَى أَحَدًا مِنَ النَّاسِ يَتْبَعُ أُولَئِكَ الرَّهْطَ وَلا يَطَأُ عَقِبَهُ، وَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ يُشَاوِرُونَهُ تِلْكَ اللَّيَالِى حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِى أَصْبَحْنَا مِنْهَا، فَبَايَعْنَا عُثْمَانَ‏.‏

قَالَ الْمِسْوَرُ‏:‏ طَرَقَنِى عَبْدُالرَّحْمَنِ بَعْدَ هَجْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَضَرَبَ الْبَابَ حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ، فَقَالَ‏:‏ أَرَاكَ نَائِمًا، فَوَاللَّهِ مَا اكْتَحَلْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِكَبِيرِ نَوْمٍ، انْطَلِقْ، فَادْعُ الزُّبَيْرَ وَسَعْدًا، فَدَعَوْتُهُمَا لَهُ فَشَاوَرَهُمَا، ثُمَّ دَعَانِى، فَقَالَ‏:‏ ادْعُ لِى عَلِيًّا، فَدَعَوْتُهُ، فَنَاجَاهُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ، ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ عَلَى طَمَعٍ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُالرَّحْمَنِ يَخْشَى مِنْ عَلِىٍّ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ادْعُ لِى عُثْمَانَ، فَدَعَوْتُهُ فَنَاجَاهُ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْمُؤَذِّنُ بِالصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى لِلنَّاسِ الصُّبْحَ، وَاجْتَمَعَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ، وَأَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ الأجْنَادِ، وَكَانُوا وَافَوْا تِلْكَ الْحَجَّةَ مَعَ عُمَرَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُالرَّحْمَنِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَمَّا بَعْدُ، يَا عَلِىُّ إِنِّى قَدْ نَظَرْتُ فِى أَمْرِ النَّاسِ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ، فَلا تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلا، فَقَالَ‏:‏ أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ، فَبَايَعَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ وَبَايَعَهُ النَّاسُ الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ وَأُمَرَاءُ الأجْنَادِ وَالْمُسْلِمُونَ‏.‏

قال المهلب‏:‏ اختلفت ألفاظ بيعة النبى صلى الله عليه وسلم فروى‏:‏ ‏(‏بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة‏)‏ وروى ‏(‏على الجهاد‏)‏ وروى ‏(‏على الموت‏)‏ وقد بين ابن عمر وعبد الرحمن بن عوف فى بيعتهما ما يجمع معانى البيعة كلها، وهو قولهم‏:‏ ‏(‏على السمع والطاعة وعلى سنة الله وسنة رسوله‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فيما استطعتم‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏فى المنشط والمكره‏)‏ فهذه بيعة العقبة الثانية، بايعوه على أن يقاتلوا دونه، ويهلكوا أنفسهم وأموالهم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكانت بيعة الحرب حين أذن الله لرسوله فى القتال شروطًا سوى شرطه، حدثنى عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جده عبادة بن الصامت قال‏:‏ ‏(‏بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الحرب على السمع والطاعة فى يسرنا وعسرنا، ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف فى الله لومة لائم‏)‏ وكان عبادة من الاثنى عشر الذين بايعوه فى العقبة الأولى بيعة النساء‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكانوا فى العقبة الثانية ثلاثة وسبعين رجلا من الأوس والخزرج وامرأتين‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏ولا ننازع الأمر أهله‏)‏ فيه دليل قاطع على أن الأنصار ليس لهم فى الخلافة شىء كما ادعاه الحباب وسعد بن عبادة، ولذلك ما اشترط عليهم النبى صلى الله عليه وسلم هذا أيضًا‏.‏

وأما الرهط الذين ولاهم عمر فمنهم‏:‏ عثمان وعلى والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبى وقاص‏.‏

وقال عمر‏:‏ إن عجل بى أمر فالشورى فى هؤلاء الستة الذين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فلم يكن من أهل الإسلام أحد يومئذ له منزلتهم فى الدين والهجرة والسابقة والفضل والعلم وسياسة الأمة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد كان من هؤلاء الستة من هو أفضل من صاحبه، والمعروف من مذهب عمر أن أحق الناس بالإمارة أفضلهم دينًا، وأنه لا حق للمفضول فيها مع الفاضل، فكيف جعلها فى قوم بعضهم أفضل من بعض‏؟‏ قيل‏:‏ إنما أدخل الذين ذكرت فى الشورى للمشاورة والاجتهاد للنظر للأمة؛ إذا كان واثقًا منهم بأنهم لا يألون للمسلمين نصحًا فيما اجتمعوا عليه، وأن المفضول منهم لا ينزل، والتقدم على الفاضل، ولا يتكلم فى منزلة غيره أحق بها منه، وكان مع ذلك عالمًا برضا الأمة بمن رضى به النفر الستة؛ إذ كان الناس لهم تبعًا وكانوا للناس أئمة وقادة، لا أنه كان يرى للمفضول منهم حقا مع الفاضل فى الإمامة‏.‏

وفيه أيضًا‏:‏ الدلالة على بطلان ما قاله أهل الإمامة من أنها فى الخيار وأشخاص قد وقف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته فلا حاجة بهم إلى التشاور فيمن يقلدوه أمرها، وذلك أن عمر جعلها شورى فى النفر الستة ليجتهدوا فى أولاهم بها، فلم ينكر ذلك أحد من النفر الستة، ولا من غيرهم من المهاجرين والأنصار، ولو كان فيهم ما قد كان وقف عليه رسول الله بعينه ونصب لأمته كان حريًا أن يقول منهم قائل‏:‏ ما وجه التشاور فى أمر قد كفيناه ببيان الله لنا على لسان رسوله‏؟‏ وفى تسليم جميعهم له ما فعله ورضاهم به أبين البيان، وأوضح البرهان على أن القوم لم يكن عندهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شخص بعينه عهد، وأن الذى كان عندهم فى ذلك من عهده إليهم كان وقفًا على موصوف بصفات، يحتاج إلى إدراكها بالاجتهاد والاستنباط، فرضوا وسلموا له ما فعل من رده الأمر فى ذلك إلى النفر، وكانوا يومئذ أهل الأمانة على الدين وأهله‏.‏

وفيه الدلالة الواضحة على أن الجماعة الموثوق بأديانهم ونصحتهم للإسلام وأهله، إذا عقدوا عقد الخلافة لبعض من هو من أهلها على تشاور منهم واجتهاد؛ فليس لغيرهم من المسلمين حل ذلك العقد ممن لم يحضر عقدهم وتشاورهم إذ كانوا العاقدين قد أصابوا الحق فيه، وذلك أن عمر أفرد فى النظر للأمر النفر الستة ولم يجعل لغيرهم فيما فعلوا اعتراضًا، وسلم ذلك من فعله جميعهم، ولم ينكره منهم منكر، ولو كان العقد فى ذلك لا يصح إلا باجتماع الأمة، لكأن خليقًا أن يقول له منهم قائل‏:‏ إن الحق الواجب بالعقد الذى خصصت بالقيام به هؤلاء الستة لم يخصهم به دون سائر الأمة، بل الجميع منهم فى ذلك شركاء، ولكن القوم لما كان الأمر عندهم على ما وصفت سلموا وانقادوا، ولم يعترض منهم فيه معترض، ولا أنكره منهم منكر‏.‏

وقوله‏:‏ بعد هجع من الليل‏.‏

قال صاحب العين‏:‏ الهجوع‏:‏ النوم بالليل خاصة‏.‏

يقال‏:‏ هجع يهجع‏.‏

وقوم هجع وهجوع‏.‏

وقد تقدم تفسير‏:‏ ابهار فى كتاب الصلاة‏.‏

باب مَنْ بَايَعَ مَرَّتَيْنِ

- فيه‏:‏ سَلَمَةَ بن الأكوع‏:‏ ‏(‏بَايَعْنَا النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَقَالَ لِى‏:‏ يَا سَلَمَةُ، أَلا تُبَايِعُ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ بَايَعْتُ فِى الأوَّلِ، قَالَ‏:‏ وَفِى الثَّانِي‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد بيعته لشجاعته وغنائه فى الإسلام وشهرته بالثبات، فأراد أن يجعل له مزية فى تكرير المبايعة من أجل شجاعته وقد تقدم هذا فى كتاب الجهاد‏.‏

باب بَيْعَةِ الأعْرَابِ

- فيه‏:‏ جَابِرِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الإسْلامِ، فَأَصَابَهُ‏.‏‏.‏

الحديث‏.‏

قال المؤلف‏:‏ البيعة على الإسلام كانت فرضًا على جميع الناس أعرابًا كانوا أو غيرهم‏.‏

باب بَيْعَةِ الصَّغِيرِ

- فيه‏:‏ أَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ هِشَامٍ، وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، وَذَهَبَتْ بِهِ أُمُّهُ زَيْنَبُ بِنْتُ حُمَيْدٍ إِلَى النَّبى صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ‏:‏ ‏(‏يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ هُوَ صَغِيرٌ، فَمَسَحَ رَأْسَهُ، وَدَعَا لَهُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ البيعة لا تلزم إلا من تلزمه عقود الإسلام كلها من البالغين‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ إنها تلزم الأصاغر بمبايعة آبائهم عليهم‏.‏

باب مَنْ بَايَعَ واسْتَقَالَ الْبَيْعَةَ

- فيه‏:‏ جَابِرِ‏:‏ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الإسْلامِ، فَأَصَابَ الأعْرَابِىَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَى النَّبى صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِلْنِى بَيْعَتِى فَأَبَى، رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَهَا ثَلاَثًا، فَخَرَجَ الأعْرَابِىُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ، تَنْفِى خَبَثَهَا، وَتَنْصَعُ طِيبُهَا‏)‏‏.‏

وترجم له باب من نكث بيعته وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏ الآية‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إنما لم يقله النبى صلى الله عليه وسلم لأن الهجرة كانت فرضًا، وكان ارتدادهم عنها من أكبر الكبائر، ولذلك دعا لهم النبى صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏اللهم أمض لأصحابى هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم‏)‏‏.‏

وفى هذا من الفقه أنه من عقد على نفسه أو على غيره عقدًا لله فلا يجوز له حله؛ لأن فى حله خروجًا إلى معصية الله، وقد أمر الله بوفاء العقود، وقد تقدم فى آخر كتاب الحج‏.‏

باب مَنْ بَايَعَ رَجُلا لا يُبَايِعُهُ إِلا لِلدُّنْيَا

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏:‏ رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لا يُبَايِعُهُ إِلا لِدُنْيَاهُ، فَإِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ، وَإِلا لَمْ يَفِ لَهُ وَرَجُلٌ يُبَايِعُ رَجُلا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أُعْطِىَ بِهَا كَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ فَأَخَذَهَا وَلَمْ يُعْطَ بِهَا‏)‏‏.‏

فى هذا الحديث وعيد شديد فى الخروج على الأئمة ونكث بيعتهم لأمر الله بالوفاء بالعقود؛ إذ فى ترك الخروج عليهم تحصين الفروج والأموال وحقن الدماء، وفى القيام عليهم تفرق الكلمة وتشتيت الألفة‏.‏

وفيه‏:‏ فساد الأعمال إذا لم يرد بها وجه الله وأريد بها عرض الدنيا، وهذا فى معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الأعمال بالنيات‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ عقوبة من منع ابن السبيل فضل ماء عنده، ويدخل فى معنى الحديث منع غير الماء وكل ما بالناس الحاجة إليه‏.‏

وفيه‏:‏ تحريم مال المسلمين إلا بالحق‏.‏

وفيه‏:‏ عقوبة الحلف بالله كذبًا، وإنما خص به العصر؛ لأنه الوقت الذى ترتفع فيه ملائكة النهار بأعمال العباد‏.‏

باب بَيْعَةِ النِّسَاءِ

- وفيه‏:‏ عُبَادَةَ، قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِى مَجْلِسٍ‏:‏ تُبَايِعُونِى عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ، وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلا تَعْصُوا فِى مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ، فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَعُوقِبَ فِى الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَسَتَرَهُ اللَّهُ، فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِالْكَلامِ بِهَذِهِ الآيَة‏:‏ ‏(‏أن لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 12‏]‏ قَالَتْ‏:‏ وَمَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَ امْرَأَةٍ، إِلا امْرَأَةً يَمْلِكُهَا‏.‏

- وفيه‏:‏ أُمِّ عَطِيَّةَ، بَايَعْنَا النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ عَلَيْنَا‏:‏ ‏(‏أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقنَ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 12‏]‏، وَنَهَانَا عَنِ النِّيَاحَةِ، فَقَبَضَتِ امْرَأَةٌ مِنَّا يَدَهَا، فَقَالَتْ‏:‏ فُلانَةُ أَسْعَدَتْنِى، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَذَهَبَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ فَمَا وَفَتِ امْرَأَةٌ إِلا أُمُّ سُلَيْمٍ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قال المؤلف‏:‏ كل ما خاطب الله بن الرجال من شرائع الإسلام فقد دخل فيه النساء، ولزمهن من ذلك ما لزم الرجال إلا ما خص به الرجال مما لا قدرة للنساء عليه؛ من القيام بفرض الحرب وشبهه مما قد بين سقوطه عن النساء‏.‏

وهذه البيعة فى هذه الأحاديث كانت بيعة العقبة الأولى بمكة قبل أن يفرض عليهم الحرب، ذكر ذلك ابن إسحاق وأهل السير قالوا‏:‏ كانوا اثنى عشر رجلا‏.‏

باب الاسْتِخْلافِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةُ قَالَتَ وَارَأْسَاهْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَىٌّ، فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ، وَأَدْعُو لَكِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ وَا ثُكْلاَهْ، وَاللَّهِ إِنِّى لأظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِى، وَلَوْ كَانَ ذَاكَ لَظَلَلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّسًا بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ بَلْ أَنَا، وَارَأْسَاهْ، لَقَدْ هَمَمْتُ، أَوْ أَرَدْتُ، أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِى بَكْرٍ وَابْنِهِ فَأَعْهَدَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ، أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ، ثُمَّ قُلْتُ‏:‏ يَأْبَى اللَّهُ، وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُون‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ قلت لِعُمَرَ‏:‏ أَلا تَسْتَخْلِفُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدِ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّى أَبُو بَكْرٍ، وَإِنْ أَتْرُكْ فَقَدْ تَرَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ رَاغِبٌ رَاهِبٌ، وَدِدْتُ أَنِّى نَجَوْتُ مِنْهَا كَفَافًا لا لِى وَلا عَلَىَّ لا أَتَحَمَّلُهَا حَيًّا وَلا مَيِّتًا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَسُ، أَنَّهُ سَمِعَ خُطْبَةَ عُمَرَ الآخِرَةَ حِينَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَذَلِكَ الْغَدَ مِنْ يَوْمٍ تُوُفِّىَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، فَتَشَهَّدَ، وَأَبُو بَكْرٍ صَامِتٌ لا يَتَكَلَّمُ، قَالَ‏:‏ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَعِيشَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى يَدْبُرَنَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ آخِرَهُمْ، فَإِنْ يَكُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نُورًا تَهْتَدُونَ بِهِ هَدَى اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَانِىَ اثْنَيْنِ، فَإِنَّهُ أَوْلَى الْمُسْلِمِينَ بِأُمُورِكُمْ، فَقُومُوا، فَبَايِعُوهُ، وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ قَدْ بَايَعُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ الْعَامَّةِ عَلَى الْمِنْبَرِ‏.‏

قَالَ الزُّهْرِىُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ لأبِى بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ‏:‏ اصْعَدِ الْمِنْبَرَ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَبَايَعَهُ النَّاسُ عَامَّةً‏.‏

- فيه‏:‏ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، أَتَتِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ فَكَلَّمَتْهُ فِى شَيْءٍ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ كَأَنَّهَا تُرِيدُ الْمَوْتَ، قَالَ‏:‏ إِنْ لَمْ تَجِدِينِى، فَأْتِى أَبَا بَكْرٍ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَبِا بَكْرٍ، قَالَ‏:‏ لِوَفْدِ بُزَاخَةَ‏:‏ تَتْبَعُونَ أَذْنَابَ الإبِلِ حَتَّى يُرِىَ اللَّهُ خَلِيفَةَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُهَاجِرِينَ أَمْرًا يَعْذِرُونَكُمْ بِهِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه دليل قاطع فى خلافة أبى بكر وهو قوله‏:‏ ‏(‏لقد هممت أن أرسل إلى أبا بكر وابنه‏)‏ يعنى‏:‏ فأعهد إلى أبى بكر ‏(‏ثم قلت‏:‏ يأبى الله‏)‏ أى‏:‏ يأبى الله غير أبى بكر، ويدفع المؤمنون غير أبى بكر بحضرته‏.‏

وشك المحدث بأى اللفظين بدأ النبى صلى الله عليه وسلم ولم يشك فى صحة المعنى، وهذا مما وعد النبى صلى الله عليه وسلم به، فكان كما وعد، وذلك من أعلام نبوته وقد روى مسلم هذا الحديث فى كتابه فقال فيه‏:‏ ‏(‏يأبى الله ويدفع المؤمنون إلا أبا بكر‏)‏‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فإذا ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحدًا، فما معنى ما رواه إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس بن أبى حازم قال‏:‏ رأيت عمر وبيده عسيب وهو يجلس الناس ويقول‏:‏ اسمعوا لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهذا خلاف لحديث ابن عمر‏.‏

فالجواب‏:‏ أنه ليس فى أحد الحديثين خلاف للآخر، ومعنى قول عمر‏:‏ ‏(‏إن أترك فقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ يعنى ترك التصريح والإعلان بتعيين شخص ما وعقد الأمر له، وأما قول عمر‏:‏ ‏(‏اسمعوا لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ فمعناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف عليهم أبا بكر بالأدلة التى نصبها لأمته أنه الخليفة من بعده، فكان أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقيام الدليل على استخلافه، ولما كان قد أعلمه الله أنه لا يكون غيره ولذلك قال‏:‏ ‏(‏يأبى الله ويدفع المؤمنون‏)‏ ومن أبين الدليل فى استخلاف أبى بكر قول المرأة للنبى‏:‏ إن لم أجدك حيا إلى من الملجأ بالحكم‏؟‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ائت أبا بكر‏)‏ ولم يكن لبشر من علم الغيب ما كان للنبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك، فرأى أن الاستخلاف أضبط لأمر المسلمين، وإن لم يوقف الأمر على رجل بعينه؛ لكن جعله لمعينين لا يخرج عنهم إلى سواهم فكان نوعًا من أنواع الاستخلاف والعقد، وإنما فعل هذا عمر وتوسط حالة بين حالتين خشية الفتنة بعده، كما خشيت بعد النبى صلى الله عليه وسلم وقت قول الأنصار ما قالوا، فلذلك جعل عمر الأمر معقودًا موقوفًا على الستة؛ لئلا يترك الاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم فى ترك الأمر إلى الشورى مع ما قام من الدليل على فضل أبى بكر وأخذ من فعل أبى بكر طرفًا آخر وهو العقد لأحد الستة ليجمع لنفسه فضل السنتين‏.‏

وأما قول عمر حين أثنوا عليه‏:‏ ‏(‏راغب وراهب، وودت أنى نجوت منها كفافًا‏)‏ فيحتمل معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ راغب فى ثنائه فى حسن رأيى وتقريبى له، وراهب من إظهار ما بنفسه من كراهية‏.‏

والثانى قوله‏:‏ راغب يعنى‏:‏ أن الناس فى هذا الأمر راغب فيه، يعنى فى الخلافة، وراهب منها، فإن وليت الراغب فيها خشيت ألا يعان عليها للحديث، وإن وليت الراهب منها خشيت أن لا يقوم بها‏.‏

وفى هذا كله دليل على جواز عقد الخلافة من الإمام لغيره بعده، وأن أمره فى ذلك على عامة المسلمين جائز‏.‏

قال بعض الشافعية‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ لم جاز للإمام تولية العهد، وإنما يملك النظر فى المسلمين حياته وتزول عنه بوفاته، وتولية العهد استخلاف بعد وفاته فى وقت زوال أمره وارتفاع نظره، وهو لا يملك فى ذلك الوقت ما يجوز عليه توليه أو تنفذ فيه وصيته‏.‏

قيل‏:‏ إنما جاز ذلك لأمور منها إجماع الأمة من الصحابة ومن بعدهم على استخلاف أبى بكر عمر على الأمة بعده، وأمضت الصحابة ذلك منه على أنفسها، وجعل عمر الأمر بعده فى ستة، فألزم ذلك من حكمه، وعمل فيه على رأيه وعقده، ألا ترى رضا علىّ بالدخول فى الشورى مع الخمسة وجوابه للعباس بن عبد المطلب حين عاتبه على ذلك بأن قال‏:‏ الشورى كان أمرًا عظيمًا من أمور المسلمين، فلم أر أن أخرج نفسى منه‏.‏

ولو كان باطلاً عنده لوجب عليه أن يخرج نفسه منه ولما جاز له الدخول معهم فيه‏.‏

ومنها أن المسلمين إنما يقيمون الإمام إذا لم يكن بهم لحاجتهم إليه وضرورتهم إلى إقامته ليكفيهم مئونة النظر فى مصالحهم، فلما لم يكن بد لهم من رأيه وأمره فيما يتعلق بمصالحهم رأى ولا نظر، فكذلك فى إقامة الإمام بعده؛ لأنه من الأمور المتعلقة بكافتهم وصلاح عامتهم، وقطع التنازع والاختلاف بينهم، ولمثل هذا المعنى أرادوا، فكان رأيه فى ذلك ماضيًا عليهم، وجرى مجرى الأب فى توليته على ابنه الصغير بعد وفاته عند عدم الأب‏.‏

وأما قول عمر فى خطبته‏:‏ ‏(‏كنت أرجو أن يعيش النبى صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا‏)‏ يعنى‏:‏ حتى يكون آخرنا‏.‏

فإنما قال ذلك اعتذارًا مما كان خطبه قبل ذلك يوم وفاته صلى الله عليه وسلم حين قال‏:‏ إن محمدًا لم يمت وإنه سيرجع ويقطع أيدى رجال وأرجلهم حتى قام أبو بكر فقال‏:‏ من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لم يمت، وتلا‏:‏ ‏(‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏ الآية‏.‏

وقد ذكر ابن إسحاق، عن ابن عباس، عن عمر أنه قال‏:‏ إنما حملنى على مقالتى حين مات النبى صلى الله عليه وسلم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ فوالله إن كنت لأظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيبقى فى أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها‏.‏

وبان بهذه الرزية الشنيعة والمصيبة الجليلة النازلة بالأمة من موت نبيها من ثبات نفس الصديق، ووفور عقله ومكانته من الإسلام ما لا مطمع فيه لأحد غيره‏.‏

وقال سعيد بن زيد‏:‏ بايعوا الصديق يوم مات النبى صلى الله عليه وسلم كرهوا بقاء بعض يوم وليسوا فى جماعة‏.‏

ذكر ابن إسحاق، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير أن الناس بكوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفاه وقالوا‏:‏ لوددنا أنا متنا قبله، إنا نخشى أن نفتن بعده‏.‏

فقال معن بن عدى العجلانى‏:‏ والله ما أحب أنى مت قبله حتى أصدقه ميتًا كما صدقته حيا‏.‏

فقتل يوم اليمامة فى خلافة أبى بكر‏.‏

وقوله‏:‏ يدبرنا‏.‏

قال الخليل‏:‏ دبرت الشىء دبرًا‏:‏ أتبعته، وعلى هذا قرأ من قرأ‏:‏ ‏(‏والليل إذا دبر‏)‏ يعنى إذا تبع النهار‏.‏

ودبرنى فلان‏:‏ خلفنى‏.‏

وأما وفد بزاخة فإنهم ارتدوا ثم تابوا‏.‏

فأوفدوا رسلهم إلى أبى بكر يعتذرون إليه فأحب أبو بكر أن لا يقضى فيهم إلا بعد المشاورة فى أمرهم فقال لهم‏:‏ ارجعوا واتبعوا أذناب الإبل فى الصحارى حتى يرى المهاجرون وخليفة النبى صلى الله عليه وسلم ما يريهم الله فى مشاورتهم أمرًا يعذرونكم فيه، وذكر يعقوب بن محمد الزهرى قال‏:‏ حدثنى إبراهيم بن سعد، عن سفيان الثورى، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال‏:‏ قدم وفد أهل بزاخة وهم من طئ على أبى بكر يسألونه الصلح فقال لهم أبو بكر‏:‏ اختاروا إما الحرب المجلية وإما السلم المخزية‏.‏

فقالوا‏:‏ قد عرفنا الحرب المجلية فما السلم المخزية‏؟‏ قال‏:‏ تنزع منكم الكراع والحلقة وتودون قتلانا، وقتلاكم فى النار ونغنم ما أصبنا منكم، وتؤدون إلينا ما أصبتم منا، وتتركون أقوامًا تتبعون أذناب الإبل حتى يرى الله خليفة نبيه والمهاجرين أمرًا يعذرونكم به، فخطب أبو بكر الناس فذكر أنه قال وقالوا‏.‏

فقال عمر‏:‏ قد رأيت رأيًا وسنشير عليك، أما ما ذكرت من أن تنزع منهم الكراع والحلقة فنعم ما رأيت، وأما ما رأيت من أن يودوا قتلانا وقتلاهم فى النار؛ فإن قتلانا قتلت على أمر الله فليس لها ديات‏.‏

فتتابع الناس على قول عمر‏.‏

باب

- فيه‏:‏ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏يَكُونُ اثْنَا عَشَرَ أَمِيرًا، فَقَالَ كَلِمَةً لَمْ أَسْمَعْهَا، فَقَالَ أَبِى‏:‏ إِنَّهُ قَالَ‏:‏ كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ لم ألق أحدًا يقطع فى هذا الحديث بمعنى فقوم يقولون‏:‏ يكونون اثنى عشر أميرًا بعد الخلافة العلوية مرضيين‏.‏

وقوم يقولون‏:‏ يكونون متوالين إمارتهم‏.‏

وقوم يقولون‏:‏ يكونون فى زمن واحد كلهم من قريش يدعى الإمارة، فالذى يغلب عليه الظن أنه إنما أراد صلى الله عليه وسلم يخبر بأعاجيب تكون بعده من الفتن حتى يفترق الناس فى وقت واحد على اثنى عشر أميرًا، وما زاد على الاثنى عشر فهو زيادة فى العجب، كأنه أنذر بشرط من الشروط وبعضه يقع، ولو أراد غير هذا لقال‏:‏ يكون اثنا عشر أميرًا يفعلون كذا ويصنعون كذا، فلما أعراهم من الخبر علمنا أنه أراد يكونون فى زمن واحد، والله أعلم‏.‏

باب إِخْرَاجِ الْخُصُومِ وَأَهْلِ الرِّيَبِ مِنَ الْبُيُوتِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ

وَقَدْ أَخْرَجَ عُمَرُ أُخْتَ أَبِى بَكْرٍ حِينَ نَاحَتْ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ‏:‏ قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ يُحْتَطَبُ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاةِ، فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلا، فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالذى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ‏)‏‏.‏

قال أبو عبد الله‏:‏ مرماة‏:‏ ما بين ظلف الشاة من اللحم مثل مِنساة ومِيضاة الميم مخفوضة‏.‏

قال المهلب‏:‏ إخراج أهل الريب والمعاصى من دورهم بعد المعرفة بهم واجب على الإمام من أجل تأذى من جاورهم، ومن أجل مجاهرتهم بالعصيان، وإذا لم يعرفوا بأعيانهم فلا يلزم البحث عن أمرهم؛ لأنه من التجسس الذى نهى الله عنه، وليس للسلطان أن يرفع ستر اختفائهم حتى يعلنوا إعلانًا يعرفون به لقوله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى‏:‏ ‏{‏كل عبادى معافون إلا المجاهرين‏)‏ فحينئذ يجب على السلطان تعييره والنكال به، كما صنع عمر بأخت أبى بكر حين ناحت‏.‏

وقال غيره‏:‏ وليس إخراج أهل المعاصى بواجب، فمن ثبت عليه ما يوجب الحد أقيم عليه، وإنما أخرج عمر أخت أبى بكر من أجل أنه نهاها عن النياحة ولم تنته، فأبعدها عن نفسه لا أنه أبعدها عن البيت أبدًا؛ لأنها رجعت بعد ذلك إلى بيتها‏.‏

وقد روى أبو زيد، عن ابن القاسم فى رجل فاسد يأوى إليه أهل الفسوق والشر ما يصنع به‏؟‏ قال‏:‏ يخرج من منزله، وتحارج عليه الدار‏.‏

قلت‏:‏ ألا تباع عليه‏؟‏ قال‏:‏ لا، لعله يتوب، فيرجع إلى منزله‏.‏

قال ابن القاسم‏:‏ ويتقدم إليه مرة أو مرتين أو ثلاثًا فإن لم ينته أخرج وأكريت عليه‏.‏

وقد مر هذا فى آخر كتاب الجهاد فى باب أمر النبى صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود من جزيرة العرب‏.‏

باب هَلْ لِلإمَامِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُجْرِمِينَ وَأَهْلَ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْكَلامِ مَعَهُ وَالزِّيَارَةِ وَنَحْوِهِ

- فيه‏:‏ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، لَمَّا تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَذَكَرَ حَدِيثَهُ وَنَهَى النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلامِنَا، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا‏.‏

قال المهلب‏:‏ أصل الهجران فى كتاب الله وهو أمر الله عباده بهجران نسائهم فى المضاجع، فإذا كان الهجران من المعاقبة بنص كتاب الله، فلذلك استعمله النبى صلى الله عليه وسلم فى عقوبة كعب بن مالك حين تخلف عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك ما افترض الله عليه من الجهاد مع نبيه ونصرته وبذل نفسه دونهم‏.‏

وقد قال سحنون‏:‏ إذا سجن الرجل فى دين امرأته أو غيره فليس له أن يدخل امرأته فى السجن؛ لأنه إنما أدخل فيه تأديبًا له وتضييقًا عليه، فإذا لم يمنع من إربه فلم يضيق عليه‏.‏