فصل: كِتَاب الإكْرَاهِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


كِتَاب الإكْرَاهِ

وَقَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏ الآية وَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً‏}‏ ‏[‏آ ل عمران‏:‏ 28‏]‏ وَهِىَ تَقِيَّةٌ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِى أَنْفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 97‏]‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏عَفُوًّا غَفُورًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 99‏]‏، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَالْمُسْتَضْعَفِينَ ‏(‏إِلَى‏)‏ الظَّالِمِ أَهْلُهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 75‏]‏‏.‏

فَعَذَرَ اللَّهُ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ لا يَمْتَنِعُونَ مِنْ تَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَالْمُكْرَهُ لا يَكُونُ إِلا مُسْتَضْعَفًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ مِنْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ‏.‏

وقال الْحَسَنُ‏:‏ التَّقِيَّةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَنْ يُكْرِهُهُ اللُّصُوصُ فَيُطَلِّقُ لَيْسَ بِشَىْءٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالشَّعْبِىُّ، وَالْحَسَنُ‏:‏ وَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الأعْمَالُ بِالنِّيَّةِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ ‏(‏أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فِى صَلاَتِهِ‏:‏ اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِى رَبِيعَةَ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَالْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِى يُوسُفَ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ ذكر أهل التفسير بأن هذه الآية نزلت فى ناس من أهل مكة آمنوا فكتب إليهم بعض أصحابهم بالمدينة‏:‏ لستم منا حتى تهاجروا إلينا‏.‏

وكان فيهم عمار بن ياسر، فخرجوا يريدون المدينة، فأدركتهم قريش فى الطريق ففتنوهم على الكفر فكفروا مكرهين فنزلت‏:‏ ‏(‏إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏‏.‏

أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر حتى خشى على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر، هذا قول مالك والكوفيين والشافعى، غير محمد بن الحسن فإنه قال‏:‏ إذا أظهر الشرك كان مرتدا فى الظاهر، وهو فيما بينه وبين الله على الإسلام وتبين منه امرأته، ولا يصلى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلمًا‏.‏

وهذا قول تغنى حكايته عن الرد عليه لمخالفته للآيات المذكورة فى أول هذا الباب‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ إنما جازت الرخصة فى القول، وأما فى الفعل فلا رخصة فيه مثل أن يكرهوه على السجود لغير الله، أو الصلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم أو ضربه، أو أكل ماله، أو الزنا، أو شرب الخمر، وأكل الخنزير‏:‏ روى هذا عن الحسن البصرى، وهو قول الأوزاعى وسحنون، قال الأوزاعى‏:‏ إذا كره الأسير على شرب الخمر لا يفعل وإن قتله‏.‏

وقال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ حدثنا نصر بن على‏:‏ حدثنا عبد الأعلى، عن عوف، عن الحسن أنه كان لا يجعل فى النفس التى حرم الله التقية‏.‏

وقال محمد بن الحسن‏:‏ إذا قيل للأسير اسجد لذلك الصنم وإلا قتلناك فقال‏:‏ إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد وتكون نيته لله تعالى وإن كان لغير القبلة فلا يسجد وإن قتلوه‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ الإكراه فى الفعل والقول سواء إذا أسر الإيمان‏.‏

روى ذلك عن عمر بن عبد العزيز ومكحول، وهو قول مالك وطائفة من أهل العراق، وروى ابن القاسم عن مالك أنه إن أكره على شرب الخمر أو ترك الصلاة والإفطار فى رمضان فلا إثم عليه إلا أنه لا يجوز عند مالك وعامة العلماء أن يقتل غيره ولا ينتهك حرمته ولا يظلمه ولا يفعل الزنا وإن كره على ذلك‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ وقول من جعل التقية فى القول ما يشبه ما نزل فى القرآن من ذلك؛ لأن الذين أكرهوا عليه إنما هو كلام تكلموا به ولم يظلموا فيه أحدًا من الناس، وإنما هو أمر فيما بينهم وبين ربهم، فلما أكرهوا عليه ولم يكونوا له معتقدين جعل كأنه لم يكن؛ لأن الكلام ليس يؤثر بأحد أثرًا فى نفس ولا مال، وأفعال الأبدان ليست كذلك؛ لأنها تؤثر فى الأبدان والأموال ولا يجوز لأحد أن ينجى نفسه من القتل بأن يقتل غيره ظالمًا وإن أكره على ذلك‏.‏

وقال الأبهرى‏:‏ لا يجوز لأحد أن يكره على هتك حرمة آدمى؛ لأن حرمته ليست بأوكد من حرمة الآخر‏.‏

واختلفوا فى طلاق المكره، فذكر ابن وهب عن عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وابن عباس أنهم كانوا لا يرون طلاقه شيئًا، وذكره ابن المنذر عن ابن الزبير وابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس والحسن وشريح والقاسم وسالم ومالك والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور‏.‏

وأجازت طائفة طلاق المكره، روى ذلك عن الشافعى والنخعى وأبى قلابة والزهرى وقتادة، وهو قول الكوفيين‏.‏

وفيها قول ثالث قاله الشعبى‏:‏ إن أكرهه اللصوص فليس بطلاق، وإن أكرهه السلطان فهو طلاق‏.‏

وفسره ابن عيينة فقال‏:‏ إن اللص يقدم على قتله، والسلطان لا يقتله‏.‏

واحتج الكوفيون بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد‏:‏ الطلاق، والعتاق، والنكاح‏)‏ والهازل لم يقصد إيقاع الطلاق ولزمه، فالمكره كذلك‏.‏

واحتج عليهم أهل المقالة الأولى فقالوا‏:‏ إن الفرق بين طلاق الهازل وطلاق المكره أن الهازل قاصد للفظ، مؤثر له فلزمه حكمه، والمكره وإن قصد اللفظ فإنه لم يؤثره ولا اختاره فلم يتعلق به حكمه‏.‏

ووجدنا الطلاق لا يلزم إلا بلفظ ونية، والمكره لا نية له إنما طلق بلسانه لا بقلبه، فلما رفع الله عنه الكفر الذى تكلم به مكرهًا ولم يعتقده وجب رفع الطلاق لرفع النية فيه‏.‏

وقول مالك هو إجماع الصحابة ولا مخالف منهم‏.‏

وأجمع المسلمون على أن المشركين لو أكرهوا رجلا على الكفر بالله بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان وله زوجة حرة مسلمة أنها لا تحرم عليه، ولا يكون مرتدا بذلك، والردة فرقة بائنة فهذا يقضى على اختلافهم فى طلاق المكره‏.‏

واختلفوا فى حد الإكراه، فروى عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ ليس الرجل أمينًا على نفسه إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ ما كلام يدرأ عنى سوطين إلا كنت متكلمًا به‏.‏

وقال شريح والنخعى‏:‏ القيد كره، والوعيد كره، والسجن كره‏.‏

قال ابن سحنون‏:‏ وهذا كله عند مالك وأصحابه كره والضرب عندهم كره، وليس عندهم فى الضرب والسجن توقيت، إنما هو ما كان يؤلم من الضرب، وما كان من سجن يدخل منه الضيق على المكره قل أو كثر، فالضيق يدخل فى قليل السجن، وإكراه السلطان وغيره إكراه عند مالك‏.‏

وتناقض أهل العراق فلم يجدوا القيد والسجن إكراهًا على شرب الخمر وأكل الميتة؛ لأنه لا يخاف منه التلف، وجعلوه إكراهًا فى إقراره لفلان عندى ألف درهم‏.‏

قال ابن سحنون‏:‏ وفى إجماعهم على أن الألم والوجع الشديد إكراه ما يدل على أن الإكراه يكون من غير تلف نفس‏.‏

باب مَنِ اخْتَارَ الضَّرْبَ وَالْقَتْلَ وَالْهَوَانَ عَلَى الْكُفْرِ

- فيه‏:‏ أَنَسٍ‏:‏ قَالَ النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمَانِ‏:‏ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِى الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِى النَّارِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ، لَقَدْ رَأَيْتُنِى، وَإِنَّ عُمَرَ مُوثِقِى عَلَى الإسْلامِ، وَلَوِ انْقَضَّ أُحُدٌ مِمَّا فَعَلْتُمْ بِعُثْمَانَ كَانَ مَحْقُوقًا أَنْ يَنْقَضَّ‏.‏

- وفيه‏:‏ خَبَّابِ شَكَوْنَا إِلَى النبى صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا‏:‏ أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا‏؟‏ أَلا تَدْعُو لَنَا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِى الأرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ‏)‏‏.‏

أجمع العلماء أن من أكره على الكفر فاختار القتل أنه أعظم أجرًا عند الله ممن اختار الرخصة‏.‏

واختلفوا فيمن أكره على غير الكفر من فعل ما لا يحل له فقال أصحاب مالك‏:‏ الأخذ بالشدة فى ذلك، واختيار القتل والضرب أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة‏.‏

ذكره ابن حبيب وسحنون‏.‏

وذكر ابن سحنون عن أهل العراق، أنه إذا تهدد بقتل أو بقطع أو ضرب يخاف منه التلف حتى يشرب الخمر أو يأكل الخنزير فذلك له، فإن لم يفعل حتى قتل أن يكون آثمًا، وهو كالمضطر إلى أكل الميتة وشرب الخمر غير باغ ولا عاد، فإن خاف على نفسه الموت فلم يأكل ولم يشرب أثم‏.‏

وقال مسروق‏:‏ من اضطر إلى شىء مما حرم الله عليه فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار‏.‏

قالوا‏:‏ ولا يشبه هذا الكفر وقتل المسلم؛ لأن فى هذا رخصة وتركه أفضل، ولم يجعل فى الضرورة حلالا‏.‏

قال سحنون‏:‏ إذا لم يشرب الخمر ولا يأكل الخنزير حتى قتل كان أعظم لأجره كالكفر؛ لأن الله تعالى أباح له الكفر ضرورة الإكراه، وأباح له الميتة والدم بضرورة الحاجة إليهما، وأجمعا أن له ترك الرخصة فى قول الكفر، فكذلك يلزم مخالفنا أن يقول فى ترك الرخصة فى الميتة ولحم الخنزير، ولا يكون معينًا على نفسه‏.‏

وقد تناقض الكوفيون فى هذا فقالوا كقولنا فى المكره توعد بقطع عضو أو قتل على أن يأخذ مالا لفلان فيدفعه إلى فلان أنه فى سعة من ذلك؛ لأنه كالمضطر ويضمن الآمر، ولا ضمان على المأمور، فإن أبى أن يأخذ حتى قتله كان عندنا فى سعة‏.‏

فيقال لهم‏:‏ هذا مال مسلم قد أحللتموه بالإكراه؛ فلم لا يسعه ترك أكل الميتة حتى يقتل كما وسعه أخذ مال المسلم فى الإكراه حتى يقتل‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وحديث خباب حجة لأصحاب مالك؛ لوصفه صلى الله عليه وسلم عن الأمم السالفة من كان يمشط لحمه بأمشاط الحديد، ويشق بالمناشر بالشدة فى دينه والصبر على المكروه فى ذات الله، ولم يكفروا فى الظاهر ويبطنوا الإيمان، ليدفعوا العذاب عن أنفسهم؛ فمدحهم، وكذلك حديث أنس سوى فيه النبى صلى الله عليه وسلم بين كراهية المؤمن الكفر وكراهيته لدخول النار، وإذا كان هذا حقيقة الإيمان، فلا مخالفة أن الضرب والهوان والقتل عند المؤمن أسهل من دخول النار، فينبغى أن يكون ذلك أسهل من الكفر إن اختار الأخذ بالشدة على نفسه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقد اعترض هذا قوم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏ ولا حجة لهم فى الآية؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏ والعدوان والظلم محرمان، وليس من أهلك نفسه فى طاعة الله بعاد ولا ظالم، ولو كان كما قالوا لما جاز لأحد أن يقتحم المهالك فى الجهاد، وقد افترض على كل مسلم مقارعة رجلين من الكفار ومبارزتهما، وهذا من أبين المهلكات والغرر‏.‏

ومن فر من اثنين فقد أكبر المعصية وتعرض لغضب الله‏.‏

وقول خباب للنبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألا تدعو الله أن يكفينا‏)‏ يعنى عدوان الكفار عليهم بمكة قبل هجرتهم وضربهم لهم وإيثاقهم بالحديد‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يترك الدعاء فى ذلك على أن الله أمرهم بالدعاء أمرًا عامًا بقوله‏:‏ ‏(‏ادعونى أستجب لكم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ وبقوله‏:‏ ‏(‏فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 43‏]‏ إلا لأنه صلى الله عليه وسلم علم من الله أنه قد سبق من قدره وعلمه أنه يجرى عليهم ما جرى من البلوى والمحن ليؤجروا عليها على ما جرت عادته فى سائر أتباع الأنبياء من الصبر على الشدة فى ذات الله، ثم يعقبهم بالنصر والتأييد، والظفر وجزيل الأجر، وأما غير الأنبياء فواجب عليهم الدعاء عند كل نازلة تنزل بهم؛ لأنهم لا يعلمون الغيب فيها، والدعاء من أفضل العبادة ولا يخلو الداعى من إحدى الثلاث التى وعد النبى صلى الله عليه وسلم بها‏.‏

وفيه‏:‏ علامات النبوة وذلك خروج ما قال صلى الله عليه وسلم من تمام الدين وانتشار الأمر وإنجاز الله ما وعد نبيه صلى الله عليه وسلم من ذلك‏.‏

باب فِى بَيْعِ الْمُكْرَهِ وَنَحْوِهِ فِى الْحَقِّ وَغَيْرِهِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ ‏(‏بَيْنَمَا نَحْنُ فِى الْمَسْجِدِ؛ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَنَادَاهُمْ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، فَقَالُوا‏:‏ قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ‏:‏ ذَلِكَ أُرِيدُ، قَالَهَا ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ‏:‏ اعْلَمُوا أَنَّ الأرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلا فَاعْلَمُوا أَنَّمَا الأرْضُ لِلَّهِ وَلرَسُولِهِ قال المهلب‏:‏ أما ما باعه المضغوط فى حق وجب عليه؛ فذلك ماض سائغ لا رجوع فيه عند الفقهاء؛ لأنه يلزمه أداء الحق إلى صاحبه من غير المبيع، فلما لم يفعل كان بيعه اختيارًا منه فلزمه‏.‏

ووجه الاستدلال على هذه المسألة من هذا الحديث هو أن إخراج النبى صلى الله عليه وسلم اليهود حق؛ لأنه إنما فعل ذلك بوحى من الله، فأباح لهم بيع أموالهم فكان بيعهم جائزًا؛ لأنه لم يقع الإكراه على البيع من أجل أعيان الشىء المبيع، وإنما وقع من أجل الذى لزمهم فى الخروج، فكذلك كان بيع من وجب عليه حق جائزًا، وأما بيع المكره ظلمًا وقهرًا فقال محمد بن سحنون‏:‏ أجمع أصحابنا وأهل العراق على أن بيع المكره عل الظلم والجور لا يلزمه‏.‏

وقال الأبهرى‏:‏ إنه إجماع‏.‏

وقال مطرف وابن عبد الحكم وأصبغ‏:‏ وسواء وصل الثمن إلى المضغوط، ثم دفعه إلى الذى ألجأه إلى بيع ما باعه، أو كان الظالم هو تولى قبض الثمن من المبتاع؛ لأنه إنما يقبضه لغيره لا لنفسه، فإذا ظفر بمتاعه بيد من ابتاعه أو بيد من اشتراه من الذى ابتاعه فهو أحق به، ولا شىء عليه من الثمن، وليتراجع به الباعة بعضهم على بعض حتى يرجع المبتاع الأول على الظالم الذى وصل إليه الثمن، فإن فات المبتاع رجع بقيمته على الذى فات عنده، أو بالثمن الذى بيع به، أى ذلك كان أكثر‏.‏

باب لا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُكْرَهِ

وَقَوله‏:‏ ‏(‏وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ‏(‏إِلَى‏)‏ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ الأنْصَارِيَّةِ، أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِىَ ثَيِّبٌ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَتَتِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَرَدَّ نِكَاحَهَا‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ ‏(‏قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، يُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِى أَبْضَاعِهِنَّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قُلْتُ‏:‏ فَإِنَّ الْبِكْرَ تُسْتَأْمَرُ فَتَسْتَحْيِى، فَتَسْكُتُ، قَالَ‏:‏ سُكَاتُهَا إِذْنُهَا‏)‏‏.‏

قال محمد بن سحنون‏:‏ أجمع أصحابنا على إبطال نكاح المكره والمكرهة، وقالوا‏:‏ لا يجوز المقام عليه؛ لأنه لم ينعقد‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ لا يلزم المكره ما أكره عليه من نكاح أو طلاق أو عتق أو غيره‏.‏

قال محمد بن سحنون‏:‏ أجاز أهل العراق نكاح المكره، وقالوا‏:‏ لو أكره على أن ينكح امرأة بعشرة ألاف درهم وصداق مثلها ألف درهم أن النكاح جائز وتلزمه الألف ويبطل الفضل‏.‏

قال محمد‏:‏ فكلما أبطلوا الزائد على الألف بالإكراه كذلك يلزمهم إبطالهم النكاح بالإكراه، وقولهم خلاف السنة الثابتة فى قصة خنساء، وفى أمره صلى الله عليه وسلم باستئمار النساء فى أبضاعهن، فلا معنى لقولهم، وأما من جهة النظر فإنه نكاح على خيار، ولا يجوز النكاح بالخيار، قاله سحنون‏.‏

وإنما شبهه بنكاح الخيار؛ لأنه إذا أجاز ورضى به فإنما أجاز ما كان له رده، فأشبه ما عقد على الخيار، لو مات أحدهما قبل مضى مدة الخيار لم يتوارثا عند جميع أصحاب مالك‏.‏

قال سحنون‏:‏ فإن وطئها المكره على النكاح غير مكره على الوطء والرضا بالنكاح لزمه النكاح على المسمى من الصداق، ودرئ عنه الحد، وإن قال‏:‏ وطئتها على غير رضا منى بالنكاح فعليه الحد والصداق المسمى؛ لأنه مدع لإبطال الصداق المسمى بهذا، وتحد المرأة إن تقدمت وهى عالمة أنه مكره على النكاح، وأما المكرهة على النكاح وعلى الوطء فلا حد عليها ولها الصداق ويحد الواطئ، فاعلمه‏.‏

باب إِذَا أُكْرِهَ حَتَّى وَهَبَ عَبْدًا أَوْ بَاعَهُ لَمْ يَجُزْ

وَبِهِ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ‏:‏ فَإِنْ نَذَرَ الْمُشْتَرِى فِيهِ نَذْرًا فَهُوَ جَائِزٌ بِزَعْمِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ دَبَّرَهُ‏.‏

- فيه‏:‏ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلا مِنَ الأنْصَارِ دَبَّرَ مَمْلُوكًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّى‏؟‏‏)‏ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، قَالَ‏:‏ فَسَمِعْتُ جَابِرًا، يَقُولُ‏:‏ عَبْدًا قِبْطِيًّا مَاتَ عَامَ أَوَّلَ‏.‏

قال المهلب‏:‏ أجمع العلماء أن الإكراه على البيع والهبة لا يجوز وما ذكر فيه عن أبى حنيفة أنه إن أعتقه أو دبره الموهوب أو المشترى فهو جائز فإنما قاس ذلك على البيع الفاسد، فإنه إذا فات بتدبير أو عتق مضى، وكان على المفوت له القيمة يوم فوته، والفرق بين بيع المكره والبيع الفاسد بين، وذلك أن بائع البيع الفاسد راض بالبيع وطيبة نفسه، لكنه لما أوقعه على خلاف السنة فسد وكانت فيه القيمة، والمشترى إنما اشتراه بوجه من وجوه الحل والتراضى الذى شرطه الله فى البيع، والمكره على الهبة والبيع لم تطب نفسه على ذلك، فلا يجوز إمضاء ما لم تطب نفسه بتفويته‏.‏

وقال محمد بن سحنون‏:‏ أجمع أهل العراق معنا أن بيع المكره باطل، وهذا يدل أن البيع عندهم غير ناقل للملك، ثم نقضوا هذا بقولهم‏:‏ إذا أعتق المشترى أو دبر فليس للبائع رد ذلك‏.‏

فيقال لهم‏:‏ هل بيع الإكراه ناقل للملك‏؟‏ فإن قالوا‏:‏ لا بطل عتق المشترى وتدبيره كما بطلت هبته، وإن كان ناقلا للملك فأجيزوا كل شىء صنع المشترى من هبة وغيرها، وإذا قصد المشترى للشراء بعد علمه بالإكراه صار كالغاصب‏.‏

وقد أجمع العلماء فى عتق الغاصب أن للسيد أن يزيله ويأخذ عبده، وقال أهل العراق‏:‏ إن له أن يضمن إن شاء الذى ولى الإكراه، وإن شاء المشترى المعتق‏.‏

فجعلوه فى معنى الغاصب، وقال‏:‏ إن بيع المشترى شراءً فاسدًا ماض ويوجب القيمة، ففرقوا بينه وبين البيع الفاسد وجعلوه كالغاصب‏.‏

ووجه استدلال البخارى بحديث جابر فى هذه المسألة أن الذى دبره لما لم يكن له مال غيره كان تدبيره سفهًا من فعله، فرد النبى صلى الله عليه وسلم ذلك من فعله، وإن كان ملكه للعبد صحيحًا كان من اشتراه شراءً فاسدًا، ولم يصح له ملكه إذا دبره أو أعتقه أولى أن يرد فعله، من أجل أنه لم يصح له ملكه‏.‏

باب مِنَ الإكْرَاهِ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 19‏]‏

قَالَ كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ، إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجْهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَأَنْزَلَ الله هَذِهِ الآيَةُ فِى ذَلِكَ‏.‏

وقال الزهرى ومالك‏:‏ فيمسكها حتى تموت فيرثها‏.‏

قال المهلب‏:‏ فائدة هذا الباب والله أعلم؛ ليعرفك أن كل من أمسك امرأته لا أرب له فيها طمعًا أن تموت فلا يحل له ذلك بنص القرآن‏.‏

باب إِذَا اسْتُكْرِهَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الزِّنَا فَلا حَدَّ عَلَيْهَا

لقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏‏.‏

قَالَ اللَّيْثُ‏:‏ حَدَّثَنِى نَافِعٌ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِى عُبَيْدٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الإمَارَةِ وَقَعَ عَلَى وَلِيدَةٍ مِنَ الْخُمُسِ، فَاسْتَكْرَهَهَا حَتَّى اقْتَضَّهَا، فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ، وَنَفَاهُ وَلَمْ يَجْلِدِ الْوَلِيدَةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا‏.‏

وقال الزُّهْرِىُّ فِى الأمَةِ الْبِكْرِ يَفْتَرِعُهَا الْحُرُّ‏:‏ يُقِيمُ ذَلِكَ الْحَكَمُ مِنَ الأمَةِ الْعَذْرَاءِ بِقَدْرِ ثَمَنَها وَقِيمَتِهَا، وَيُجْلَدُ وَلَيْسَ فِى الأمَةِ الثَّيِّبِ فِى قَضَاءِ الأئِمَّةِ غُرْمٌ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ، فَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ، أَوْ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ أَرْسِلْ إِلَىَّ بِهَا، فَقَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّى، فَقَالَتِ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، فَلا تُسَلِّطْ عَلَىَّ الْكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏ يعنى الفتيات المكرهات، بهذا المعنى حكم عمر فى الوليدة استكرهها العبد فلم يحدها‏.‏

والعلماء متفقون على أنه لاحد على امرأة مستكرهة‏.‏

واختلفوا هل لها صداق‏؟‏ فقال عطاء والزهرى‏:‏ لها الصداق‏.‏

وهو قول مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وقال الشعبى‏:‏ إذا أقيم الحد على الذى زنا بها بطل الصداق وهو قول الكوفيين‏.‏

واختلف العلماء فيمن أكره من الرجال على النساء فقال مالك‏:‏ عليه الحد؛ لأنه لم ينتشر إلا بلذة‏.‏

وهو قول أبى ثور، قال مالك‏:‏ وسواء أكرهه سلطان أوغيره‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ إن أكرهه غير سلطان حد، وإن أكرهه سلطان فالقياس أن يحد، ولكنى أستحسن أن لا يحد‏.‏

وقال أبو يوسف ومحمد والشافعى‏:‏ لا يحد فى الوجهين جميعًا‏.‏

ولم يراعوا الانتشار‏.‏

وقال ابن القصار‏:‏ احتج أصحاب مالك فى وجوب الحد فقالوا‏:‏ انتشار قضيبه فى الوطء ينافى الخوف، ألا ترى أن ذلك لا يحصل إلا بوجود الشهوة والطمأنينة وسكون النفس؛ لأن من قدم ليضرب عنقه لا تحصل منه شهوة ولا انتشار حتى ربما ذهب حسه وذهل عقله‏.‏

واحتج الذين لم يوجبوا الحد فقالوا‏:‏ متى علم أنه يتخلص من القتل بفعل الزنا جاز أن ينتشر وإن كان مكرهًا، وقالوا لأصحاب مالك‏:‏ هذا يلزمكم فى طلاق المكره، وأنتم لا توقعونه وفيمن أكره على الفطر‏.‏

فقال المالكيون‏:‏ طلاق المكره لا علامة لنا فى اختياره، والإكراه ظاهر، والمكره على الفطر عليه القضاء وليس كالمتعمد، إذ لا أمارة تدل على اختياره للفطر والصورة واحدة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقول الزهرى فى البكر يفترعها الحر أن عليه قيمة العذرة ويجلد، وهو قول مالك‏.‏

واختلف قول مالك فى وطء الأمة الثيب فى الإكراه، فقال فى المدونة‏:‏ إنه لا شىء عليه فى وطء الثيب غير الحد خاصة‏.‏

وروى أشهب وابن نافع، عن مالك فى الجارية الزائغة تتعلق برجل تدعى أنه غصبها نفسها، أتصدق عليه بما بلغت من فضيحة نفسها بغير يمين عليها‏؟‏ قال‏:‏ ما سمعت أن عليها فى ذلك يمينًا وتصدق عليه ويكون عليه غرم ما نقصها الوطء‏.‏

وهذه خلاف رواية ابن القاسم‏.‏

وأما حديث إبراهيم وسارة فإنما شابه الترجمة من وجه خلو الكافر بسارة وإن كان لم يصل إلى شىء منها، ولما لم يكن عليها ملامة فى الخلوة، فكذلك لا يكون على المستكرهة ملامة، ولا حد فيما هو أكثر من الخلوة، والله الموفق‏.‏

باب يَمِينِ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ إِنَّهُ أَخُوهُ إِذَا خَافَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ أَوْ نَحْوَهُ

وَكَذَلِكَ كُلُّ مُكْرَهٍ يَخَافُ فَإِنَّهُ يَذُبُّ عَنْهُ الْمَظَالِمَ وَيُقَاتِلُ دُونَهُ وَلا يَخْذُلُهُ، فَإِنْ قَاتَلَ دُونَ الْمَظْلُومِ فَلا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلا قِصَاصَ، وَإِنْ قِيلَ لَهُ لَتَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ، أَوْ لَتَأْكُلَنَّ الْمَيْتَةَ، أَوْ لَتَبِيعَنَّ عَبْدَكَ، أَوْ تُقِرُّ بِدَيْنٍ، أَوْ تَهَبُ هِبَةً، أَوَ تَحُلُّ عُقْدَةً، أَوْ لَنَقْتُلَنَّ أَبَاكَ أَوْ أَخَاكَ فِى الإسْلامِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

وَسِعَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ‏.‏

وقال بَعْضُ النَّاسِ‏:‏ لَوْ قِيلَ لَهُ‏:‏ لَتَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ، أَوْ لَتَأْكُلَنَّ الْمَيْتَةَ، أَوْ لَنَقْتُلَنَّ ابْنَكَ، أَوْ أَبَاكَ، أَوْ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ لَمْ يَسَعْهُ، لأنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُضْطَرٍّ، ثُمَّ نَاقَضَ، فَقَالَ‏:‏ إِنْ قِيلَ لَهُ‏:‏ لَنَقْتُلَنَّ أَبَاكَ، أَوِ ابْنَكَ، أَوْ لَتَبِيعَنَّ هَذَا الْعَبْدَ، أَوْ تُقِرُّ بِدَيْنٍ، أَوْ تَهَبُ هِبَةً، يَلْزَمُهُ فِى الْقِيَاسِ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ، وَنَقُولُ‏:‏ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَكُلُّ عُقْدَةٍ فِى ذَلِكَ بَاطِلٌ، فَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِى رَحِمٍ مُحَرَّمٍ وَغَيْرِهِ بِغَيْرِ كِتَابٍ وَلا سُنَّةٍ‏.‏

وقال النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِبْرَاهِيمُ لامْرَأَتِهِ‏:‏ هَذِهِ أُخْتِى وَذَلِكَ فِى اللَّهِ، وَقَالَ النَّخَعِىُّ‏:‏ إِذَا كَانَ الْمُسْتَحْلِفُ ظَالِمًا فَنِيَّةُ الْحَالِفِ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَنِيَّةُ الْمُسْتَحْلِفِ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنَ عُمَرَ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِى حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِى حَاجَتِهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَسٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا، كَيْفَ أَنْصُرُهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فيمن خشى على رجل القتل فقاتل دونه، فقالت طائفة‏:‏ إن قتل دونه فلا قود عليه ولا قصاص، والحجة لهم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا‏)‏ قالوا‏:‏ فدل عموم هذا الحديث أنه لا قود عليه إذا قاتل عن أخيه كما لا قود عليه إذا قاتل عن نفسه، وروى نحوه عن عمر بن الخطاب‏.‏

وذكر ابن الماجشون‏:‏ أن رجلا هربت منه امرأته إلى أبيها فى زمن عمر بن الخطاب، فذهب فى طلبها مع رجلين فقام أبوها إليهم بيده عمود فأخذه منه أحدهما فضربه فكسر يده، وأخذ الزوج منه امرأته فلم يقده منه عمر، وقضى له بدية اليد‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ لم ير فيه قصاصًا؛ لأنه كفه عن عدائه بضربه له، وليس على جهة العمد الذى فيه القصاص، وقياس قول أشهب يدل أنه لا قصاص فى ذلك؛ لأنه قال فى الرجل يختفى عنده مظلوم فيحلفه السلطان الجائر الذى يريد دمه وماله أو عقوبته إن كان عنده قال‏:‏ يحلف ولا حنث عليه، كما لا حنث عليه إذا حلف عن نفسه‏.‏

ذكره ابن المواز، عن أشهب‏.‏

وروى مثله عن أنس بن مالك قال‏:‏ لأن أحلف تسعين يمينًا أحب إلى من أن أدل على مسلم‏.‏

قاله ميمون بن مهران‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ من قاتل دون غيره فقتل فعليه القود‏.‏

هذا قول الكوفيين، ويشبه مذهب ابن القاسم؛ لأنه قال فى الرجل يختفى عنده الرجل من السلطان الجائر يخافه على نفسه، أنه متى حلف أنه ليس عنده فهو حانث، وإن كان مأجورًا فى إحياء نفسه، فلما كان حانثًا فى حلفه عليه، والحنث أيسر شأنًا من القتل دل أنه ليس له أن يقاتل دونه، وهذا قول أصبغ قال‏:‏ لا يعذر أحد إلا فى الدراءة عن نفسه، ولا يدرأ عن ولده باليمين وهو حانث‏.‏

وقاله أكثر أصحاب مالك‏.‏

قالوا‏:‏ وليس قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا‏)‏ بمبيح له قتل المتعدى على أخيه الظالم له؛ لأن كلا الرجلين المتقاتلين أخ للذى أمره النبى صلى الله عليه وسلم بالنصرة، ونصره كل واحد منهما لازم له، وقد فسر النبى صلى الله عليه وسلم نصرة الظالم كيف، فقال‏:‏ تكفه عن الظلم، ولم يأمره بقتل الظالم ولا استباحة دمه، وإنما أراد نصره دون إراقة دمه، هذا المفهوم من الحديث، والله أعلم‏.‏

وقال لى بعض الناس‏:‏ معنى قول البخارى‏:‏ إن قاتل دون المظلوم فلا قود عليه ولا قصاص، هو أن يرى رجل رجلا يريد قتل آخر بغير حق، فإن أمكنه الدفع عنه فقد توجه عليه الفرض فى نصرته ودفع الظلم عنه بكل ما يمكنه، ولا ينوى بقتاله له إلا الدفع عن أخيه خاصة دون أن يقصد إلى قتل الظالم للمنتصر فى تلك المدافعة فهو شهيد، كما لو دافعه عن نفسه سواء، فإن قدر المدافع على دفع الظالم بغير قتال أو بمقاتلة لا يكون فيها تلف نفس وقتله قاصدًا لقتله فعليه القود‏.‏

وموضع التناقض الذى ألزمه البخارى لأبى حنيفة فى هذا الباب هو أن ظالمًا لو أراد قتل رجل وقال لابن الذى أريد قتله‏:‏ لتشربن الخمر أو لتأكلن الميتة أو لأقتلن أباك أو ابنك أو ذا رحم لم يسعه شرب الخمر ولا أكل الميتة؛ لأنه ليس بمضطر عند أبى حنيفة، وإنما لم يكن مضطرًا عنده؛ لأن الإكراه إنما يكون فيما يتوجه إلى الإنسان فى خاصة نفسه لا فى غيره؛ لأنها معاصى لله؛ لأنه ليس له أن يدفع بها معاصى غيره، وليصبر على قتل أبيه والله سائل قاتله، ولا إثم على الابن؛ لأنه لم يقدر على دفع القتل عن أبيه أو ابنه إلا بمعصية يركبها، ولا يحل له ذلك‏.‏

ألا ترى قوله‏:‏ إن قيل له‏:‏ لأقتلن أباك أو ابنك أو ذا رحم، أو لتبيعن هذا العبد أو تقرن بدين أو تهب هبة أن البيع والإقرار والهبة تلزمه فى القياس؛ لأنه قد تقدم أنه يصبر على قتل ابنه أو أبيه أو ذى رحمه ولا يشرب الخمر ولا يأكل الميتة، فعلى هذا ينبغى أن يلزمه كل ما عقد على نفسه من عقد، ولا يجوز له القيام فى شىء منها كما لم يجز له شرب الخمر وأكل الميتة فى دفع القتل عن أبيه أو ابنه وذى رحمه‏.‏

ثم ناقض هذا المعنى بقوله‏:‏ ولكنا نستحسن ونقول‏:‏ البيع وكل عقد فى ذلك باطل‏.‏

فاستحسن بطلان البيع وكل ما عقده على نفسه، وجعل له القيام فيه بعد أن تقدم من قوله‏:‏ أن البيع والإقرار والهبة تلزمه فى القياس ولا يجوز له القيام فيها، واستحسانه كقول أشهب، وقياسه كقول ابن القاسم المتقدمين‏.‏

وقول البخارى‏:‏ فرقوا بين كل ذى رحم محرم وغيره بغير كتاب ولا سنة، يريد أن مذهب أبى حنيفة فى ذوى الأرحام بخلاف مذهبه فى الأجنبيين، فلو قيل لرجل‏:‏ لنقتلن هذا الرجل الأجنبى أو لتبيعن عبدك أو تقر بدين أو هبة ففعل ذلك لينجيه من القتل لزمه جميع ما عقد على نفسه من ذلك ولم يكن له فيها قيام‏.‏

ولو قيل له ذلك فى ذوى محارمه لم يلزمه ما عقد على نفسه من ذلك فى استحسانه‏.‏

وعند البخارى ذوو الأرحام والأجنبيون سواء فى أنه لا يلزمه ما عقد على نفسه فى تخليص الأجنبى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المسلم أخو المسلم‏)‏ والمراد بذلك أخوة الإسلام لا أخوة النسب، ولقول إبراهيم فى سارة‏:‏ ‏(‏هذه أختى‏)‏ وإنما كانت أخته فى الإسلام، فأخوة الإسلام توجب على المسلم حماية أخيه المسلم والدفع عنه، ولا يلزمه ما عقد على نفسه فى ذلك من بيع ولا هبة، وله القيام فيها متى أحب، ووسعه شرب الخمر وأكل الميتة، ولا إثم عليه فى ذلك ولا حد، كما لو قيل له‏:‏ لتفعلن هذه الأشياء أو لنقتلنك، وسعه فى نفسه إتيانها ولا يلزمه حكمها حرى أن يسعه ذلك فى حماية أبيه وأخيه فى النسب وذوى محارمه ولا يلزمه ما عقد على نفسه من بيع ولا هبة ولا فرق بينهما‏.‏

اختلف العلماء فى يمين المكره، فذهب الكوفيون إلى أنه يحنث، وذهب مالك إلى أن كل من أكره على يمين بوعيد أو سجن أو ضرب أنه يحلف ولا حنث عليه، وهو قول الشافعى وأبى ثور وأكثر العلماء، وحجة الكوفيين أن المكره كان له أن يورى فى يمينه، ولما لم يور ولا ذهب بنيته إلى خلاف ما أكره عليه؛ فقد قصد إلى اليمين، ولو لم يد أن يحلف لورّى؛ لأن الأعمال بالنيات، فلذلك لزمته اليمين‏.‏

وحجة من لم يلزمه اليمين أنه إذا أكره على اليمين فنيته مخالفة لقوله؛ لأنه كاره لما حلف عليه ولأن اليمين عندهم على نية الحالف، وأنه حلف على ما لم يرده ولا قصده بنيته، وكل عمل لا نية فيه غير لازم، ولا يصح الإكراه إلا أن يكون الفعل فيه مخالفًا للنية والقصد‏.‏

وقد روى سليمان بن ميسرة، عن النزال بن سبرة قال‏:‏ التقى عثمان وحذيفة عند باب الكعبة فقال له عثمان‏:‏ أنت القائل الكلمة التى بلغتنى‏؟‏ فقال‏:‏ لا والله ما قلتها‏.‏

فلما خلونا به قلنا له‏:‏ يا أبا عبد الله، حلفت له وقد قلت ما قلت‏.‏

قال‏:‏ إنى أشترى دينى بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله‏.‏

وقال الحسن البصرى‏:‏ أعطهم ما شاءوا بلسانك إذا خفتهم‏.‏

وأما قول النخعى‏:‏ إذا كان المستحلف ظالمًا فنية الحالف، وإن كان مظلومًا فنية المستحلف‏.‏

فهو قول مالك؛ لأن النية عنده نية المظلوم أبدًا‏.‏

وهو خلاف قول الكوفيين الذين يجيزون التورية فى الأعمال ويجعلون النية نية الحالف أبدًا‏.‏

وسيأتى الكلام فى ذلك فى الباب بعد هذا إن شاء الله‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ كيف يكون المستحلف مظلومًا‏؟‏ قال‏:‏ إذا جحده رجل حقا له ولم تكن له نية فإن الجاحد يحلف له فتكون النية نية المستحلف؛ لأن الجاحد ظلمه‏.‏

كِتَاب الْحِيَلِ

باب فِى تَرْكِ الْحِيَلِ وَأَنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فِى الأيْمَانِ وَغَيْرِهَا

- فيه‏:‏ عُمَرَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ‏)‏‏.‏

هذا الحديث حجة لصحة مذهب مالك فى الأيمان أنها على نية المحلوف له ولا تنفعه التورية عنده، ورد على الكوفيين والشافعية أنها على نية الحالف أبدًا، وتنفعه التورية فى سقوط الحنث خاصة عنه كالرجل يحلف لغريمه وهو معسر‏:‏ والله ما لك عندى شىء‏.‏

ينوى فى هذا الوقت من أجل عسرى، وأن الله قد أنظرنى إلى الوجود، وكالحالف بالطلاق يقول‏:‏ هند طالق وله زوجة تسمى بهند، وقد نوى امرأة أجنبية تسمى بهند، ويريد طلاقها من موضع سكانها أو طلاقها من قيد، وكالحالف على أكل طعام وخص طعامًا بعينه، وكالحالف لغريمه وهو يريد شيئًا ما غير ما له عليه، فإن كان الحالف يخاصمه غرماؤه وزوجته أخذه الغرماء بظاهر لفظه، ولم يلتفتوا فيه إلى نيته فى الحكم وحملوا الكلام على بساطه ومخرجه، هذا قول مالك وأهل المدينة‏.‏

والذين أجازوا التورية إنما فروا من الحنث بمعاريض الكلام، وجعلوه على نيته فى يمين لا يقتطع بها مال أخيه ولا يبطل حقه، فإن اقتطع بيمينه مال آخر، فلا مخرج له عند أحد من أهل العلم ممن يقول بالتورية وغيرها، ولا يكون ذلك المال حلالا عندهم ولابد من رده إلى صاحبه‏.‏

قال المهلب‏:‏ ولو جازت التورية لنوى الإنسان عند خلفه فى الحقوق غير ما طولب به، والحل له ما اقتطعه بهذه اليمين المعرج بها عن طريق الدعوى؛ ولذلك أنزل الله‏:‏ ‏(‏إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 77‏]‏ الآية‏.‏

ولما اتفقوا معنا أنه لا يحل شىء من ذلك المال لآخذه علم أن التورية لا تزيل الحنث، وسقط قولهم‏.‏

باب فِى الصَّلاةِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ‏)‏‏.‏

معنى هذا الباب الرد على أبى حنيفة فى قوله‏:‏ أن المحدث فى صلاته يتوضأ ويبنى على ما تقدم من صلاته‏.‏

وهو قول ابن أبى ليلى‏.‏

وقال مالك والشافعى‏:‏ يستأنف الوضوء والصلاة ولا يبنى، وحجتهما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏لا صلاة إلا بطهور‏)‏‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ ولا يخلو فى حال انصرافه من الصلاة وقد أحدث أن يكون مصليًا أو غير مصل، فبطل أن يكون مصليًا؛ لقوله‏:‏ ‏(‏لا صلاة إلا بطهور‏)‏ وهذا غير متوضئ فلا يجوز له البناء، وكل حدث منع من ابتداء الصلاة منع من البناء عليها، يدل على ذلك أنه لو سبقه المنى فى الصلاة لا يستأنف، كذلك غيره من الأحداث‏.‏

وقد اتفقنا على أنه ممنوع من المضى فيها من أجل الحدث فوجب أن يمنع من البناء عليها؛ فإن احتجوا بالراعف أنه يبنى‏.‏

قيل‏:‏ الرعاف عندنا لا ينافى حكم الطهارة، والحدث ينافيها، ألا ترى أنه فى غير الصلاة لو تعمد الرعاف لم تنتقض طهارته كما لو بدره‏.‏

والحدث على الوجهين ينفى حكم الطهارة، ألا ترى أنكم لم تفرقوا بين عمد الحدث وسبقه فى نقض الطهارة، وفرقتم بين تعمد المنى والرعاف وغلبته فى الصلاة، وفرقتم بين الأحداث فى الصلاة فقلتم‏:‏ إذا غلبه المنى اغتسل واستأنف وإذا غلبه الحدث الأصغر بنى على صلاته‏.‏

وفرقنا نحن بين الحدث وما ليس بحدث، وهذا الحديث أيضًا يرد قول أبى حنيفة أن من قعد فى الجلسة الآخرة مقدار التشهد ثم أحدث فصلاته تامة، وذهب إلى أن التحلل من الصلاة يقع بما يضادها من قول أو فعل ولا يتعين بالسلام، وخالفه سائر العلماء وقالوا‏:‏ لا تتم الصلاة إلا بالسلام منها، ولا يجوز التحلل منها بما يفسدها إذا اعترض فى خلالها على طريق النسيان، كالحج لا يجوز أن يقع التحلل منه بالجماع؛ لأنه لو طرأ فى خلاله لأفسده، فكذلك الصلاة لو أحدث فى خلالها ناسيًا لأفسدها فلا يتحلل منها بتعمد الحدث‏.‏

باب فِى الزَّكَاةِ

- فيه‏:‏ أَنَسٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الزَّكَاةِ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ‏.‏

- وفيه‏:‏ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِاللَّهِ ‏(‏أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَائِرَ الرَّأْسِ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِى مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ، عَلَىَّ مِنَ الصَّلاةِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِلا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا، فَقَالَ‏:‏ أَخْبِرْنِى بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ الصِّيَامِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ شَهْرَ رَمَضَانَ إِلا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا، قَالَ‏:‏ أَخْبِرْنِى بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ الزَّكَاةِ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَرَائِعَ الإسْلامِ، قَالَ‏:‏ وَالَّذِى أَكْرَمَكَ لا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا، وَلا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ‏)‏‏.‏

وقال بَعْضُ النَّاسِ‏:‏ فِى عِشْرِينَ وَمِائَةِ بَعِيرٍ حِقَّتَانِ، فَإِنْ أَهْلَكَهَا مُتَعَمِّدًا، أَوْ وَهَبَهَا، أَوِ احْتَالَ فِيهَا فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ، فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ، يَفِرُّ مِنْهُ صَاحِبُهُ، فَيَطْلُبُهُ وَيَقُولُ‏:‏ أَنَا كَنْزُكَ، قَالَ وَاللَّهِ لَنْ يَزَالَ يَطْلُبُهُ حَتَّى يَبْسُطَ يَدَهُ، فَيُلْقِمَهَا فَاهُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِذَا مَا رَبُّ النَّعَمِ لَمْ يُعْطِ حَقَّهَا، تُسَلَّطُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتَخْبِطُ وَجْهَهُ بِأَخْفَافِهَا‏)‏‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ‏:‏ فِى رَجُلٍ لَهُ إِبِلٌ، فَخَافَ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، فَبَاعَهَا بِإِبِلٍ مِثْلِهَا، أَوْ بِغَنَمٍ، أَوْ بِبَقَرٍ، أَوْ بِدَرَاهِمَ فِرَارًا مِنَ الصَّدَقَةِ بِيَوْمٍ احْتِيَالا، فَلا شَىْءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ إِنْ زَكَّى إِبِلَهُ، قَبْلَ أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ بِيَوْمٍ أَوْ بِسِنَّةٍ جَازَتْ عَنْهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم فِى نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ اقْضِهِ عَنْهَا‏)‏‏.‏

وقال بَعْضُ النَّاسِ‏:‏ إِذَا بَلَغَتِ الإبِلُ عِشْرِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، فَإِنْ وَهَبَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ، أَوْ بَاعَهَا فِرَارًا وَاحْتِيَالا لإسْقَاطِ الزَّكَاةِ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَتْلَفَهَا، فَمَاتَ فَلا شَيْءَ فِى مَالِهِ‏.‏

أجمع العلماء أن للرجل قبل حلول الحول التصرف فى ماله بالبيع والهبة والذبح إذا لم ينو الفرار من الصدقة، واجمعوا أنه إذا حال الحول وأطل الساعى أنه لا يحلل التحيل والنقصان فى أن يفرق بين مجتمع أو يجمع بين مفترق‏.‏

وقال مالك‏:‏ إذا فوت من ماله شيئًا ينوى به الفرار من الزكاة قبل الحول بشهر أو نحوه لزمته الزكاة عند الحول أخذًا بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خشية الصدقة‏)‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إن نوى بتفويته الفرار من الزكاة قبل الحول بيوم لا تضره النية؛ لأن الزكاة لا تلزمه إلا بتمام الحول، ولا يتوجه إليه معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خشية الصدقة‏)‏ إلا حينئذ‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما قصد البخارى فى هذا الباب أن يعرفك أن كل حيلة يتحيل بها أحد فى إسقاط الزكاة، فإن إثم ذلك عليه؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم لما منع من جمع الغنم أو تفريقها خشية الصدقة؛ فهم منه هذا المعنى، وفهم من قوله‏:‏ ‏(‏أفلح إن صدق‏)‏ أنه من رام أن ينقص شيئًا من فرائض الله بحيلة يحتالها أنه لا يفلح ولا يقوم بذلك عذره عند الله عز وجل فلما أجاز الفقهاء من تصرف صاحب المال فى ماله قرب حلول الحول، فلم يريدوا بذلك الهروب من الزكاة، ومن نوى ذلك فالإثم عنه غير ساقط والله حسيبه، وهو كمن فر عن صيام رمضان قبل رؤية الهلال بيوم واستعمل سفرًا لا يحتاج إليه رغبة عن فرض الله عز وجل الذى كتبه على عباده المؤمنين، فالوعيد إليه متوجه، ألا ترى عقوبة من منع الزكاة يوم القيامة بأى وجه منعها كيف تطؤه الإبل ويمثل له ماله شجاعًا أقرع‏؟‏ وهذا يدل أن الفرار من الزكاة لا يحل وهو مطالب بذلك فى الآخرة‏.‏

وحديث ابن عباس فى النذر حجة أيضًا فى ذلك؛ لأنه إذ أمر النبى صلى الله عليه وسلم سعدًا أن يقضى النذر عن أمه حين فاتها القضاء، دل ذلك أن الفرائض المهروب عنها أوكد من النذر وألزم، والله الموفق‏.‏

قال غيره‏:‏ وأما إذا بيعت الغنم بغنم، فإن مالكًا وأكثر العلماء يقولون‏:‏ إن الثانية على حول الأولى؛ لأن الجنس واحد والنصاب واحد والمأخوذ واحد‏.‏

وقال الشافعى فى أحد قوليه‏:‏ يستأنف بالثانية حولا‏.‏

وليس بشىء‏.‏

وأما إن باع غنمًا ببقر أو بإبل، فأكثر العلماء يقولون‏:‏ يستأنف بما يأخذ حولا كأنه قد باع دنانير بدراهم؛ لأن النصاب فى البقر والإبل مخالف للغنم، وكذلك المأخوذ‏.‏

ومن الناس من يقول‏:‏ إذا ملك الماشية ستة أشهر، ثم باعها بدراهم زكى الدراهم لتمام ستة أشهر من يوم باعها‏.‏

هذا قول أحمد بن حنبل وأهل الظاهر‏.‏

وما ألزمه من التناقض فى قوله بإجازة تقديم الزكاة قبل الحول بسنة فليس بتناقض؛ لأنه لا يوجب الزكاة إلا بتمام الحول، ويجعل من قدمها كمن قدم دينًا مؤجلا قبل أن يجب عليه‏.‏

وإن تم الحول وليس بيده نصاب من تلك الماشية وجب على الإمام أن يؤديها إليه من الصدقة، كما أدى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمل الرباعى الخيار إلى من هذه حاله‏.‏

باب الْحِيلَةِ فِى النِّكَاحِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الشِّغَارِ، قُلْتُ لِنَافِعٍ‏:‏ مَا الشِّغَارُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ يَنْكِحُ ابْنَةَ الرَّجُلِ وَيُنْكِحُهُ ابْنَتَهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ، وَيَنْكِحُ أُخْتَ الرَّجُلِ وَيُنْكِحُهُ أُخْتَهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ‏)‏‏.‏

وقال بَعْضُ النَّاسِ‏:‏ إِنِ احْتَالَ حَتَّى تَزَوَّجَ عَلَى الشِّغَارِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَقَالَ فِى الْمُتْعَةِ‏:‏ النِّكَاحُ فَاسِدٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ‏.‏

وقال بَعْضُهُمُ‏:‏ الْمُتْعَةُ وَالشِّغَارُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ‏.‏

- فيه‏:‏ عَلِىًّ أنه قِيلَ لَهُ‏:‏ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لا يَرَى بِمُتْعَةِ النِّسَاءِ بَأْسًا، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الإنْسِيَّةِ‏.‏

وقال بَعْضُ النَّاسِ‏:‏ إِنِ احْتَالَ حَتَّى تَمَتَّعَ، فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ‏.‏

وقال بَعْضُهُمُ‏:‏ النِّكَاحُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ‏.‏

قال بعض من لقيت‏:‏ أما نكاح الشغار ففساده فى الصداق عند أبى حنيفة، ولا يكون البضع صداقًا عند أحد من العلماء إلا أن أبا حنيفة يقول‏:‏ هذا النكاح منعقد، ويصلح بصداق المثل؛ لأنه يجوز عنده انعقاد النكاح دون ذكر الصداق بخلاف البيع، ثم يذكر الصداق فيما بعد، فلما جاز هذا عندهم كان ذكرهم للبضع بالبضع كلا ذكر وكأنه نكاح انعقد بغير صداق، وما كان عند أبى حنيفة من النكاح فاسد من أجل صداقه فلا يفسخ عنده قبل ولا بعد، ويصلح بصداق المثل وبما يفرض، وعند مالك والشافعى يفسخ نكاح الشغار قبل الدخول وبعده، حملا نهى النبى صلى الله عليه وسلم على التحريم؛ لعموم النهى، إلا أن مالكًا والشافعى اختلفا إن ذكر فى الشغار دراهم‏.‏

فقال مالك‏:‏ إن ذكر مع إحداهما دراهم صح نكاح التى سمى لها دون الثانية‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ إن سمى لإحداهما صح النكاحان معًا، وكان للتى سمى لها ما سمى، وللأخرى صداق المثل، وقد تقدم هذا فى كتاب النكاح‏.‏

وأما قوله فى المتعة فإن فقهاء الأمصار لا يجيزون نكاح المتعة على حال، وقول بعض أصحاب أبى حنيفة‏:‏ المتعة والشغار جائز والشرط باطل غير صحيح؛ لأن المتعة منسوخة بنهى النبى صلى الله عليه وسلم عنها، ولا يجوز مخالفة النهى وفساد نكاح المتعة من قبل البضع‏.‏

باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الاحْتِيَالِ فِى الْبُيُوعِ، وَلا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ الْكَلإ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبىُّ‏:‏ ‏(‏لا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ؛ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ الْكَلإ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ النَّجْشِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ‏)‏ إنما هو لما أراد أن يصون ما حول بئره من الكلأ من النعم الواردة للشرب وهو لا حاجة به إلى الماء الممنوع، إنما حاجته إلى منع الكلأ، فمنع من الاحتيال فى ذلك؛ لأن الكلأ والنبات الذى فى المسارح غير المتملكة مباح لا يجوز منعه، وفيه معنى آخر وهو أنه قد يخص أحد معانى الحديث ويسكت عن معان أخر؛ لأن ظاهر الحديث يوجب أنه لا ينهى عن فضل الماء إلا إذا أريد به منع الكلأ، وإن لم يرد به منع الكلأ، فلا ينهى عن منع الماء، والحديث معناه‏:‏ لا يمنع فضل الماء بوجه من الوجوه؛ لأنه إذا لم يمنع بسبب غيره فأحرى ألا يمنع بسبب نفسه، وقد سماه النبى صلى الله عليه وسلم فضلا، فإن لم يكن فيه فضل عن حاجة صاحب البئر جاز منعه لمالك البئر، وكذلك النجش، ومعناه أن يعطى الرجل الثمن فى السلعة وليس فى نفسه شراؤها، ليقتدى به غيره ممن يحب شراءها فيزيد فيها أكثر من ثمنها، فنهى النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأنه ضرب من التحيل فى تكثير الثمن‏.‏

باب مَا يُنْهَى مِنَ الْخِدَاعِ

وَقَالَ أَيُّوبُ‏:‏ يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَأَنَّمَا يُخَادِعُونَ آدَمِيًّا لَوْ أَتَوُا الأمْرَ عِيَانًا كَانَ أَهْوَنَ عَلَىَّ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ أَنَّ رَجُلا ذَكَرَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يُخْدَعُ فِى الْبُيُوعِ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ‏:‏ لا خِلابَةَ‏)‏‏.‏

قد تقدم فى كتاب البيوع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا خلابة‏)‏ أى‏:‏ لا تخلبونى ولا تخدعونى؛ فإن ذلك لا يحل‏.‏

قال المهلب‏:‏ مثل أن يدلس بالعيب أو يسمى بغير اسمه، فهذا الذى لا يحل منه قليل ولا كثير، وأما الخديعة التى هى تزيين للسلعة والثناء عليها، والإطناب فى مدحها فهذا متجاوز عنه، ولا تنقض له البيوع‏.‏

باب مَا يُنْهَى مِنَ الاحْتِيَالِ لِلْوَلِىِّ فِى الْيَتِيمَةِ الْمَرْغُوبَةِ وَأَنْ لا يُكَمِّلَ لَهَا صَدَاقَهَا

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ‏:‏ ‏(‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏ الآية، قَالَتْ‏:‏ هِىَ الْيَتِيمَةُ فِى حَجْرِ وَلِيِّهَا، فَيَرْغَبُ فِى مَالِهَا وَجَمَالِهَا، فَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ نِسَائِهَا، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِى إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، ثُمَّ اسْتَفْتَى النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏(‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَاءِ ‏(‏فَذَكَرَ الْحَدِيثَ‏.‏

فيه‏:‏ أنه لا يجوز للولى أن يتزوج يتيمة بأقل من صداقها، ولا أن يعطيها من العروض فى صداقها ما لا يفى بقيمة صداق مثلها، وقال ابن عباس‏:‏ قصر الرجل على أربع من النساء من أجل اليتامى‏.‏

ومعناه أن سبب نزول القران بإباحة أربع كان من أجل سؤالهم عن اليتامى، وكانوا يستفتونه لما كانو يخافونه من الحيف عليهن، فقيل لهم‏:‏ إن خفتم الحيف عليهن فاتركوهن، فقد أحللت لكم أن تنكحوا أربعًا‏.‏

فإن قال قائل ممن لا فهم له بكتاب الله من أهل البدع‏:‏ كيف يخافون ألا يقسطوا فى اليتامى ويؤمرون بنكاح أربع وهم عن القسط بينهن أعجز‏؟‏ قال أبو بكر بن الطيب‏:‏ ومعنى الآية‏:‏ إن خفتم ألا تعدلوا فى اليتامى الأطفال اللاتى لا أولياء لهن يطالبونكم بحقوق الزوجية وتخافون من أكل أموالهن بالباطل؛ لعجز الأطفال عن منعكم منها فانكحوا سواهن أربعًا من النساء البزل القادرات على تدبير أموالهن، ذوات الأولياء الذين يمنعونكم من تحيف أموالهن ويأخذونكم بالعدل بينهن، فأنتم عند ذلك أبعد من أكل أموالهن بالباطل والاعتداء عليهن‏.‏

باب إِذَا غَصَبَ جَارِيَةً فَزَعَمَ أَنَّهَا مَاتَتْ، فَقُضِىَ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ الْمَيِّتَةِ، ثُمَّ وَجَدَهَا صَاحِبُهَا، فَهِىَ لَهُ وَيَرُدُّ الْقِيمَةَ، وَلا تَكُونُ الْقِيمَةُ ثَمَنًا

وقال بَعْضُ النَّاسِ‏:‏ الْجَارِيَةُ لِلْغَاصِبِ لأخْذِهِ الْقِيمَةَ، وَفِى هَذَا احْتِيَالٌ لِمَنِ اشْتَهَى جَارِيَةَ رَجُلٍ لا يَبِيعُهَا، فَغَصَبَهَا وَاعْتَلَّ بِأَنَّهَا مَاتَتْ حَتَّى يَأْخُذَ رَبُّهَا قِيمَتَهَا، فَتَطِيبُ لِلْغَاصِبِ جَارِيَةَ غَيْرِهِ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَمْوَالُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، وَلِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ زَيْنَبَ قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَأَقْضِىَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلا يَأْخُذْ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ‏)‏‏.‏

احتج البخارى فى هذا الباب على أبى حنيفة ورَدَّ قوله أن الجارية للغاصب إذا وجدها ربها، واعتل أبو حنيفة بأنه إذا أخذ قيمتها من الغاصب فلا حق له فيها؛ لأنه لا يجتمع الشىء وبدله فى ملك واحد أبدًا‏.‏

وهذا خطأ من أبى حنيفة، والصحيح ما ذهب إليه البخارى وهو قول مالك والشافعى وأبى ثور قالوا‏:‏ إذا وجد الجارية صاحبها فهو مخير إن شاء أخذها ورَدَّ القيمة، وإن شاء تمسك بالقيمة وتركها، إلا أن مالكًا فرق بين أن يجدها ربها عند الغاصب أو عند من اشتراها من الغاصب فقال‏:‏ إن وجدها ربها عند مشتريها من الغاصب لم تتغير أنه مخير بين أخذها أو قيمتها يوم الغصب أو الثمن الذى باعها به الغاصب‏.‏

قال‏:‏ وإن وجدها عند الغاصب لم تتغير وهى أحسن مما كانت يوم الغصب ولم يكن جحدها الغاصب ولا حكم عليه بقيمتها فليس له إلا أخذها، ولا يأخذ قيمتها‏.‏

هذا قوله فى المدونة‏.‏

وقال ابن الماجشون ومطرف‏:‏ وهو مخير بين أخذها أو أخذ قيمتها إذا كان الغاصب قد غاب عنها‏.‏

والحجة لمن خالف أبا حنيفة بيان النبى صلى الله عليه وسلم أنه لا يحل مال مسلم إلا عن طيب نفس منه، وأن حكم الحاكم لا يحل ما حرم الله ورسوله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فلا يأخذها، فإنما أقطع له قطعة من النار‏)‏‏.‏

وأما قول أبى حنيفة‏:‏ إن القيمة ثمن فهو غلط؛ لأن القيمة إنما وجبت؛ لأن الجارية متلفة لا يقدر عليها، فلما ظهرت وجب له أخذها؛ لأن أخذ القيمة ليس ببيع بايعه به، وإنما أخذ القيمة لهلاكها، فإذا زال ذلك وجب الرجوع إلى الأصل الذى كان عليه، وهو تسليم الجارية إلى صاحبها، وقد فرق أهل العلم بين القيمة والثمن، فجعلوا القيمة فى الشىء المستهلك وفى البيع الفاسد، وجعلوا الثمن فى الشىء القائم، والفرق بين البيع الفاسد والغصب أن البائع قد رضى بأخذ الثمن عوضًا من سلعته وأذن للمشترى فى التصرف فيها، وإنما جهل السنة فى البيع، فإصلاح هذا البيع أن يأخذ قيمة السلعة إن فاتت، والغاصب غصب ما لم يأذن له فيه ربه، وما له فيه رغبة؛ فلا يحل تملكه للغاصب بوجه من الوجوه إلا أن يرضى المغصوب منه بأخذ قيمته‏.‏

وقد تناقض أبو حنيفة فى هذه المسألة فقال‏:‏ إن كان الغاصب حين ادعى رب الجارية قيمتها كذا وكذا جحد ما قال، وقال قيمتها كذا وكذا وحلف عليه، ثم قدر عليه الجارية كان ربها بالخيار إن شاء سلم الجارية بالقيمة وإن شاء أخذ الجارية ورد القيمة؛ لأنه لم يعط القيمة التى ادعاها ربها، وهذا ترك منه لقوله‏.‏

ولو كانت القيمة ثمنًا ما كان لرب الجارية الخيار فيما معناه البيع؛ لأن الرجل لو باع ما يساوى خمسين دينارًا بعشرة دنانير كان بيعه لازمًا ولم يجعل له رجوع ولا خيار‏.‏

باب فِى النِّكَاحِ

- فيه‏:‏ أَبِى هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏لا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، وَلا الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ إِذْنُهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِذَا سَكَتَتْ‏)‏‏.‏

وقال بَعْضُ النَّاسِ‏:‏ إِذَا لَمْ تُسْتَأْذَنِ الْبِكْرُ وَلَمْ تَتَزَوَّجْ، فَاحْتَالَ رَجُلٌ فَأَقَامَ شَاهِدَىْ زُورٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِرِضَاهَا فَأَثْبَتَ الْقَاضِى نِكَاحَهَا، وَالزَّوْجُ يَعْلَمُ أَنَّ الشَّهَادَةَ بَاطِلَةٌ، فَلا بَأْسَ أَنْ يَطَأَهَا وَهُوَ تَزْوِيجٌ صَحِيحٌ‏.‏

- وفيه‏:‏ الْقَاسِمِ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ وَلَدِ جَعْفَرٍ تَخَوَّفَتْ أَنْ يُزَوِّجَهَا وَلِيُّهَا، وَهِىَ كَارِهَةٌ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى شَيْخَيْنِ مِنَ الأنْصَارِ عَبْدِالرَّحْمَنِ وَمُجَمِّعٍ ابْنَىْ جَارِيَةَ، قَالا‏:‏ فَلا تَخْشَيْنَ، فَإِنَّ خَنْسَاءَ بِنْتَ خِذَامٍ أَنْكَحَهَا أَبُوهَا، وَهِىَ كَارِهَةٌ، فَرَدَّ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تُنْكَحُ الأيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، قَالُوا‏:‏ كَيْفَ إِذْنُهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَنْ تَسْكُتَ‏.‏

قَالَ بَعْضُ النَّاسِ‏:‏ إِنْ هَوِىَ رَجُلٌ جَارِيَةً ثَيِّبًا، أَوْ بِكْرًا، فَأَبَتْ، فَاحْتَالَ فَجَاءَ بِشَاهِدَىْ زُورٍ عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، فَأَدْرَكَتْ، فَرَضِيَتِ، فَقَبِلَ الْقَاضِى شَهَادَةَ الزُّورِ، وَالزَّوْجُ يَعْلَمُ بِبُطْلانِ ذَلِكَ حَلَّ لَهُ الْوَطْءُ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ لا يحل هذا النكاح للزوج الذى أقام شاهدى زور على رضا المرأة أنه تزوجها عند أحد من العلماء، وليس حكم القاضى بما ظهر له من عدالة الشاهدين فى الظاهر مُحلا ما حرم الله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإنما أقطع له قطعة من النار‏)‏ ولتحريم أكل أموال الناس بالباطل، ولا فرق بين أكل المال الحرام ووطء الفرج الحرام فى الإثم‏.‏

قال المهلب‏:‏ احتيال أبى حنيفة ساقط؛ لأمر النبى صلى الله عليه وسلم باستئذان المرأة واستئمارها عند النكاح، ورد صلى الله عليه وسلم نكاح من تزوجت كارهة فى حديث خنساء، وقد قال تعال‏:‏ ‏(‏ولا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 232‏]‏ فاشتراط الله رضا المرأة فى النكاح يوجب أنه متى عدم هذا الشرط فى النكاح لم يحل، وإنما قاس أبو حنيفة مسائل هذا الباب على القاضى إذا حكم بطلاقها بشاهدى زور وهو لا يعلم؛ أنه يجوز أن يتزوجها من لا يعلم بباطل هذا الطلاق، ولا تحرم عليه بإجماع العلماء، وكذلك يجوز أن يتزوجها من يعلم ولا تحرم عليه، وهذا خطأ فى القياس، وإنما حل تزويجها لمن لا يعلم باطن أمرها؛ لأنه جهل ما دخل فيه‏.‏

وأما الزوج الذى أقام شاهدى زور فهو عالم بالتحريم متعمد لركوب الإثم فكيف يقاس من جهل شيئًا فأتاه فعزر بجهله على من تعمده فأقدم عليه وهو عالم بباطنه‏؟‏ ولا خلاف بين العلماء أنه من أقدم على ما لا يحل له فقد أقدم على الحرام البين الذى قال فيه النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات‏)‏ وليس للشبهة فيه موضع، ولا خلاف بين الأمة أن رجلا لو أقام شاهدى زور على ابنته أنها أمته وحكم الحاكم بذلك أنه لا يجوز له وطؤها، فكذلك الذى شهد على نكاحها هما فى التحريم سواء‏.‏

والمسألة التى فى آخر الباب لا يقول بها أحد وهى خطأ كالمسألتين المتقدمتين‏.‏

باب مَا يُكْرَهُ مِنِ احْتِيَالِ الْمَرْأَةِ مَعَ الزَّوْجِ وَالضَّرَائِرِ وَمَا نَزَلَ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِى ذَلِكَ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ النبى صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ، فَاحْتَبَسَ عِنْدَ حَفْصَةَ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِى‏:‏ أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةَ عَسَلٍ، فَسَقَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ شَرْبَةً، فَقُلْتُ‏:‏ أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَوْدَةَ، قُلْتُ‏:‏ إِذَا دَخَلَ عَلَيْكِ فَإِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ، فَقُولِى لَهُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، فَإِنَّهُ سَيَقُولُ‏:‏ لا فَقُولِى لَهُ‏:‏ مَا هَذِهِ الرِّيحُ‏؟‏ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ، فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ‏:‏ سَقَتْنِى حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، فَقُولِى لَهُ‏:‏ جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، وَسَأَقُولُ ذَلِكِ، وَقُولِيهِ أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سَوْدَةَ، قُلْتُ‏:‏ تَقُولُ سَوْدَةُ‏:‏ وَالَّذِى لا إِلَهَ إِلا هُوَ، لَقَدْ كِدْتُ أَنْ أُبَادِرَهُ بِالَّذِى قُلْتِ لِى، وَإِنَّهُ لَعَلَى الْبَابِ فَرَقًا مِنْكِ، فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، قَالَ‏:‏ لا، قُلْتُ‏:‏ فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ سَقَتْنِى حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، قُلْتُ‏:‏ جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَىَّ، قُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَدَخَلَ عَلَى صَفِيَّةَ، فَقَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، قَالَتْ لَهُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا أَسْقِيكَ مِنْهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا حَاجَةَ لِى بِهِ، قَالَتْ‏:‏ تَقُولُ سَوْدَةُ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ، قَالَتْ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ لَهَا اسْكُتِي‏)‏‏.‏

القسمة التى يقضى بها للنساء على الرجال هى الليل دون النهار، والجماع كله ليلا ونهارًا، ولا يجوز أن يجامع امرأة فى يوم أخرى‏.‏

وأما دخول الزوج بيت من ليس يومها فمباح للرجل ذلك وجائز له أن يأكل ويشرب فى بيتها فى غير يومها ما لم يكن الغداء المعروف والعشاء المعروف، وليس لسائر النساء أن تمنع الزوج من غير ما ذكرناه‏.‏

ومعنى الترجمة ظاهر فى الحديث‏.‏

وقد تقدم تفسير المغافير فى كتاب الأيمان والنذور فى باب إذا حرم طعامًا‏.‏

وقد تقدم ما فى الحديث من الغريب فى كتاب الطلاق فى باب لم تحرم ما أحل الله لك‏.‏

باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الاحْتِيَالِ فِى الْفِرَارِ مِنَ الطَّاعُونِ

- فيه‏:‏ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ، فَلَمَّا جَاءَ بِسَرْغَ بَلَغَهُ أَنَّ الْوَبَاءَ وَقَعَ بِالشَّأْمِ، فَأَخْبَرَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، فَرَجَعَ عُمَرُ مِنْ سَرْغَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أُسَامَةَ أَنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ الْوَجَعَ، فَقَالَ‏:‏ رِجْزٌ أَوْ عَذَابٌ عُذِّبَ بِهِ بَعْضُ الأمَمِ، ثُمَّ بَقِىَ مِنْهُ بَقِيَّةٌ، فَيَذْهَبُ الْمَرَّةَ، وَيَأْتِى الأخْرَى، فَمَنْ سَمِعَ بِهِ بِأَرْضٍ فَلا يُقْدِمَنَّ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ بِأَرْضٍ وَقَعَ بِهَا فَلا يَخْرُجْ فِرَارًا مِنْهُ‏)‏‏.‏

قال المهلب وغيره‏:‏ لا يجوز الفرار من الطاعون، ولا يجوز أن يتحيل بالخروج فى تجارة أو شبهها وهو ينوى بذلك الفرار من الطاعون‏.‏

ويبين هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الأعمال بالنيات‏)‏ فى النهى عن الفرار من الطاعون كأنه يفر من قدر الله وقضائه وهذا لا سبيل لأحد إليه؛ لأن قدر الله لا يغلب‏.‏

وسيأتى الكلام فى معنى هذا الحديث فى كتاب المرضى والطب فى باب من خرج من أرض لا تُلائمه فهو موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

باب فِى الْهِبَةِ وَالشُّفْعَةِ

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ‏:‏ إِنْ وَهَبَ هِبَةً أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى مَكَثَ عِنْدَهُ سِنِينَ، وَاحْتَالَ فِى ذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِيهَا فَلا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَخَالَفَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم فِى الْهِبَةِ وَأَسْقَطَ الزَّكَاةَ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْعَائِدُ فِى هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِى قَيْئِهِ، لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِر، قَالَ‏:‏ إِنَّمَا جَعَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم الشُّفْعَةَ فِى كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلا شُفْعَةَ‏.‏

وقال بَعْضُ النَّاسِ‏:‏ الشُّفْعَةُ لِلْجِوَارِ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى مَا شَدَّدَهُ فَأَبْطَلَهُ، وَقَالَ‏:‏ إِنِ اشْتَرَى دَارًا، فَخَافَ أَنْ يَأْخُذَ الْجَارُ بِالشُّفْعَةِ، فَاشْتَرَى سَهْمًا مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ، ثُمَّ اشْتَرَى الْبَاقِىَ، وَكَانَ لِلْجَارِ الشُّفْعَةُ فِى السَّهْمِ الأوَّلِ وَلا شُفْعَةَ لَهُ فِى بَاقِى الدَّارِ، وَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ فِى ذَلِكَ‏.‏

- فيه‏:‏ عَمْرَو بْنَ الشَّرِيدِ، جَاءَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِى، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ إِلَى سَعْدٍ، فَقَالَ أَبُو رَافِعٍ لِلْمِسْوَرِ‏:‏ أَلا تَأْمُرُ هَذَا أَنْ يَشْتَرِىَ مِنِّى بَيْتِى الَّذِى فِى دَارِى‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ لا أَزِيدُهُ عَلَى أَرْبَعِ مِائَةٍ، إِمَّا مُقَطَّعَةٍ وَإِمَّا مُنَجَّمَةٍ، قَالَ‏:‏ أُعْطِيتُ خَمْسَ مِائَةٍ نَقْدًا، فَمَنَعْتُهُ وَلَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ‏)‏‏.‏

مَا بِعْتُكَهُ، أَوْ قَالَ‏:‏ مَا أَعْطَيْتُكَهُ‏.‏

قُلْتُ لِسُفْيَانَ‏:‏ إِنَّ مَعْمَرًا لَمْ يَقُلْ هَكَذَا، قَالَ‏:‏ لَكِنَّهُ قَالَ لِى هَكَذَا‏.‏

وقال بَعْضُ النَّاسِ‏:‏ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الشُّفْعَةَ، فَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ حَتَّى يُبْطِلَ الشُّفْعَةَ، فَيَهَبَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِى الدَّارَ وَيَحُدُّهَا، وَيَدْفَعُهَا إِلَيْهِ، وَيُعَوِّضُهُ الْمُشْتَرِى أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَلا يَكُونُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا شُفْعَةٌ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِى رَافِعٍ، أَنَّ سَعْدًا سَاوَمَهُ بَيْتًا بِأَرْبَعِ مِائَةِ مِثْقَالٍ، فَقَالَ‏:‏ لَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ‏)‏‏.‏

لَمَا أَعْطَيْتُكَ‏.‏

وقال بَعْضُ النَّاسِ‏:‏ إِنِ اشْتَرَى نَصِيبًا مِنْ دَارٍ، فَأَرَادَ أَنْ يُبْطِلَ الشُّفْعَةَ وَهَبَ لابْنِهِ الصَّغِيرِ، وَلا يَكُونُ عَلَيْهِ يَمِينٌ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إذا وهب الواهب هبة وقبضها الموهوب وحازها فهو مالك لها عند الجميع والزكاة له لازمة ولا سبيل له إلى الرجوع فيها إلا أن يكون على ابن‏.‏

وهذه حيلة لا يمكن أن يخالف بها نص الحديث لأن الزكاة تلزم الابن فى كل هذا ما لم يعتصر منه وإن كان صغيرًا عند الحجازيين لأنه ملك، فإن اعتصرها بعد حلول الحلول عليها عند الموهوب له وجبت الزكاة على الموهوب له ثم يستأنف الراجع فيها حولا من يوم رجوعه، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء فلا معنى للاشتغال بما خالفه‏.‏

قال المهلب‏:‏ والاحتيال فى هذا خارج عن معنى الشريعة، ومن أراد أن يحتال على الشريعة حتى يسقطها فلا يسمّى محتالا، وإنما هو معاند لحدود الله ومنتهك لها، فإذا كانت الهبة لغير الابن دخل الراجع فيها تحت قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏العائد فى هبته كالكلب يعود فى قيئه‏)‏ ولا أعلم لحيلته وجهًا إلا إن كان يريد أن يهبها ويحتال فى حبسها عنده دون تحويز فلا تتم حيلته فى هذا إن وهبها لأجنبى؛ لأن الحيازة عنده شرط فى الهبة، فإن بقيت عنده كانت على ملكه ووجبت عليه فيها الزكاة، فأما مسألة الشفعة فالذى احتال به أبو حنيفة فيها له وجه فى الفقه، وذلك أن الذى أراد شراء الدار خاف شفعة الجار‏.‏

فسأل أبا حنيفة‏:‏ هل من حيل فى إسقاط شفعة الجار‏؟‏ فقال‏:‏ لو باع منك صاحب الدار جزءًا من عشرة أجزاء منها على الإشاعة ثم اشتريت منه بعد حين باقى الدار سقطت شفعة الجار‏.‏

يريد أن الشريك فى المشاع أحق بالشفعة من الجار‏.‏

وهذا إجماع من العلماء فلما اشترى أولا الجزء اليسير صار به شريكًا لصاحب الدار؛ إذ لم يرض الجار أن يشفع فى ذلك الجزء اللطيف لعلة انتفاعه به، فلما عقد الصفقة فى باقى الدار كان الجار لا شفعة له عليه؛ لأنه لو ملك ذلك الجزء اللطيف غيره لمنع الجار به من الشفعة‏.‏

فكذلك يمنعه هو إذا اشترى باقى الدار من الشفعة، وهذا ليس فيه شىء من خلاف السنة‏.‏

وإنما أراد البخارى أن يلزم أبا حنيفة التناقض لأنه يوجب الشفعة للجار ويأخذ فى ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الجار أحق بصقبه‏)‏‏.‏

فمن اعتقد مثل هذا وثب ذلك عنده من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحيل بمثل هذه الحيلة فى إبطال شفعة الجار فقد أبطل السنة التى يعتقدها‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى حديث ابن عباس‏:‏ ‏(‏إذا وقعت الحدود فلا شفعة‏)‏ ما يرد قول من أجاز الشفعة للجار؛ لأن الجار قد حدد ماله من مال جاره ولا اشتراك له معه، وهذا ضد قول من قال بالشفعة للجار، وقوله‏:‏ ‏(‏الشفعة فيما لم يقسم‏)‏ ينفى الشفعة فى كل مقسوم‏.‏

وحديث عمرو بن الشريد حجة فى أن الجار المذكور فى الحديث هو الشريك وعلى ذلك حمله أبو رافع وهو أعلم بمخرج الحديث، وقد تقدم ذلك فى كتاب الشفعة، وقول أبى حنيفة‏:‏ إذا أراد أن يقطع الشفعة فيهب البائع للمشترى الدار إلى آخر المسألة فهذه حيلة فى إبطال السنة لا يجيزها أحد من أهل العلم، وهى منتقضة على أصل أبى حنيفة؛ لأن الهبة إن انعقدت للثواب فهى بيع من البيوع عند الكوفيين ومالك وغيره ففيها الشفعة، وإن كانت هبة مقبولة بغير شرط ثواب فلا شفعة فيها بإجماع، وما انعقد عقدًا ظاهرًا سالمًا فى باطنه والقصد منه فساد فهذا لايحل عند أحد من العلماء‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما ذكر البخارى فى هذه المسألة حديث أبى رافع ليعرفك أن ما جعله النبى صلى الله عليه وسلم حقا للشفيع بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الجار لأحق بصقبه‏)‏ فلا يحل إبطاله ولا إدخال حيلة عليه‏.‏

وأما المسألة التى فى آخر الباب إن اشترى نصيب دار فإذا كان يبطل الشفعة وهب لابنه الصغير ولا يكون عليه يمين، فبيان هذه المسألة أن يكون البائع شريكًا مع غيره فى دار فيقوم رجل آخر فيشترى منها نصيبًا ويهبه لابنه ولا يمين عليه، وإنما قال ذلك لأنه من وهب لابنه هبة فقد فعل ما يباح له فعله‏.‏

قال‏:‏ والأحكام على الظاهر لا على التوهم وادعًا الغيب على البيان‏.‏

وذكر ابن المولد عن مالك إن كانت الهبة للثواب ففيها الشفعة يعنى لأنها بيع من البيوع ويحلف المتصدق عليه إن كان ممن يتهم، وروى ابن نافع عن مالك فى المجموعة قال‏:‏ ينظر فإن رأى أنه محتاج وهب الأغنياء فاليمين على الموهوب له، وإن كان صغيرًا فعلى نية الذى قبل ذلك له، وإن كان مستغنيًا عن ثوابهم وإنما وهب للقرابة أو صداقة فلا يمين فى ذلك‏.‏

وذكر ابن عبد الحكم عن مالك أنه اختلف قوله فى الشفعة فى الهبة فأجازها مرة ثم قال‏:‏ لا شفعة فيها‏.‏

باب

- فيه‏:‏ أَبُو رَافِع، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ‏)‏‏.‏

وقال بعض الناس‏:‏ إن اشترى دارًا بعشرين ألف درهم فلا بأس أن يحتال حين يشترى الدار بعشرين ألف درهم فلا بأس أن يحتال حين يشترى الدار بعشرين ألف درهم وينقده تسعة آلاف درهم وتسعمائة درهم وتسع وتسعين، وينقده دينارًا بما بقى من العشرين ألف درهم، فإن طلب الشفيع أخذها بالعشرين ألف درهم وإلا فلا سبيل له على الدار، فإناستحقت الدار رجع المشترى على البائع بمادفع إليه، وهو تسعة آلاف درهم وتسعمائة وتسعة وتسعون درهمًا ودينار؛ لأن البيع حين استحق انتقض الصرف فى الدينار، فإن وجد بهذه الدار عيبًا ولم يستحق فإنه يردها عليه بعشرين ألفًا، قال‏:‏ فأجاز هذا الخداع بين المسلمين فقد قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بيع المسلم لا داء ولا خبثة ولا غائلة‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو رَافِع أنه سَاوَمَ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ بَيْتًا بِأَرْبَعِ مِائَةِ مِثْقَالٍ، وَقَالَ‏:‏ لَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ‏)‏ مَا أَعْطَيْتُكَ‏.‏

يمكن أن يبيع الشقص من صديق له يحب نفعه بعشرة آلاف درهم ودينار ويكتباه فى وثيقة الشراء عشرين ألف درهم، وهو يعلم أن الشريك لابد له أن يقوم على المشترى بالشفعة، فإذا وجد فى وثيقته عشرين ألف درهم أخذ الشقص بذلك فهو قصد إلى الخداع‏.‏

وقوله‏:‏ لينقده دينارًا بالعشرة آلاف درهم إنما قال ذلك لأنه يجوز عند الأمة بيع الذهب بالفضة متفاضلا كيف شاء المتبايعان‏.‏

فلما جاز هذا بإجماع بنى عليه أصله فى الصرف، فأجاز عشرة دراهم ودينارًا بأحد عشر درهمًا جعل العشرة دراهم بعشرة دراهم وجعل الدينار بدل الدرهم‏.‏

وكذلك جعل فى هذه المسألة الدينار بعشرة آلاف درهم وأوجب على الشفيع أن يؤدى ما انعقدت له به الصفقة دون ما نقد فيها المشترى، كأنه قال من حق المشترى أن يقول لك إنما أخذ منك أيها الشفيع ما أبيعت به الشقص لا ما نقدت فيه؛ لأنه تجاوز لى البائع بعد عقد الصفقة عما شاء ما وجب له على‏.‏

وأما مالك، رحمة الله عليه، فإنما يراعى فى ذلك النقد وما حصل فى يد البائع منه يأخذ الشفيع‏.‏

ومن حجته فى ذلك أنه لا خلاف بين العلماء أن الاستحقاق والرد بالعيب لا يرفع فيهما إلا بما نقد المشترى‏.‏

وهذا يدل على أن المراعاة فى انتقال الصفقات فى الشفعة وانتقاضها بالاستحقاق والعيوب وما نقد البائع فى الوجهين جميعًا، وأن الشفعة فى ذلك كالاستحقاق وهذا هو الصواب‏.‏

وأما قول البخارى عن أبى حنيفة فإن استحقت الدار رجع المشترى على البائع بما دفع إليه، فهذا من أبى حنيفة يدل على أنه قصد الحيلة فى الشفعة؛ لأن الأمة مجمعة وأبو حنيفة معهم على أن البائع لا يرد فى الاستحقاق والرد بالعيب إلا ما قبض‏.‏

فكذلك الشفيع لا يشفع إلا ما نقد المشترى وما قبضه منه البائع لا بما عقد‏.‏

وأما قول أبى حنيفة‏:‏ لأن البيع حين استحقه انتقض صرف الدينار فلا يفهم؛ لأن الاستحقاق والرد بالعيب يوجب نقض الصفقة كلها فلا معنى لذكره الدينار دون غيره‏.‏

وقال المهلب‏:‏ وجه إدخال البخارى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الجار أحق بصقبه‏)‏ فى هذه المسألة، وهو لما كان الجار أحق بالبيع وجب أن يكون أحق أن يرفق به فى الثمن حتى لا يغبن فى شىء، ولا يدخله عروض بأكثر من قيمتها ألا ترى أن أبا رافع لم يأخذ من سعد ما أعطاه غيره من الثمن ووهبه؛ لحق الجار الذى أمر الله بمراعاته وحفظه وحض النبى صلى الله عليه وسلم على ذلك‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا داء ولا خبثة ولا غائلة‏)‏ دليل على أنه لا احتيال فى شىء من بيوع المسلمين من صرف دينار بأكثر من قيمته ولا غيره‏.‏

باب احْتِيَالِ الْعَامِلِ لِيُهْدَى لَهُ

- فيه‏:‏ أَبُو حُمَيْدٍ، اسْتَعْمَلَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم رَجُلا عَلَى صَدَقَاتِ بَنِى سُلَيْمٍ، يُدْعَى ابْنَ الْلَّتَبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ، قَالَ‏:‏ هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فَهَلا جَلَسْتَ فِى بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا‏.‏

ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّى أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلانِى اللَّهُ، فَيَأْتِى فَيَقُولُ‏:‏ هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِى، أَفَلا جَلَسَ فِى بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، وَاللَّهِ لا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلا لَقِىَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ حيلة العامل ليهدى إليه إنما تكون بأن يضع من حقوق المسلمين فى سعايته ما يعوضه من أجله الموضوع له، فكأن الحيلة إنما هى أن وضع من حقوق المسلمين ليستجزل لنفسه، فاستدل النبى صلى الله عليه وسلم على أن الهدية لم تكن للمعوض فقال‏:‏ فهلا جلس فى بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا‏.‏

فغلب الظن وأوجب أخذ الهدية وضمها إلى أموال المسلمين‏.‏

قال غيره‏:‏ وهذا الحديث يدل أن ما أهدى إلى العامل فى عمالته والأمير فى إمارته شكرًا لمعروف صنعه أو تحببًا إليه أنه فى ذلك كله كأحد المسلمين لا فضل له عليهم فيه؛ لأنه بولايته عليهم نال ذلك، فإن استأثر به فهو سحت، والسحت كل ما يأخذه العامل والحاكم على إبطال حق أو تحقيق باطل وكذلك ما يأخذه على القضاء بالحق‏.‏

وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏هدايا الأمراء غلول‏)‏ والغلول معلوم أنه للموجفين ولم يكن معهم، وعلى هذا التأويل كانت مقاسمة عمر بن الخطاب لعماله على طريق الاجتهاد لأنهم خلطوا ما يجب لهم فى عمالتهم بأرباح تجاراتهم وسهمانهم فى الفئ، فلما لم يقف عمر على مبلغ ذلك حقيقة أداه اجتهاده إلى أن يأخذ منهم نصف ذلك‏.‏

وقد روى عن بعض السلف أنه قال‏:‏ ما عدا من تجر فى رعيته‏.‏

وقد فعله عمر، رضى الله عنه، أيضًا فى المال الذى دفعه أبو موسى الأشعرى بالعراق من مال الله إلى ابنيه عبد الله وعبيد الله، أراد عمر أن يأخذ منهم المال وربحه‏.‏

فقال عثمان‏:‏ لو جعلته قراضًا‏.‏

أى خذ منهم نصف الربح ففعل ورأى أن ذلك صواب‏.‏

وقد جاء معاذ بن جبل من اليمن إلى أبى بكر الصديق بأعبد له أصابهم فى إمارته على اليمن، فقال له عمر‏:‏ ادفع الأعبد إلى أبى بكر‏.‏

فأبى معاذ من ذلك، ثم إن معاذًا رأى فى المنام كأنه واقف على نار يكاد أن يقع فيها وأن عمر أخذ بحجزته فصرفه عنها، فلما أصبح قال لعمر‏:‏ ما ظنى إلا أنى أعطى الأعبد أبا بكر‏.‏

فقال له‏:‏ وكيف ذلك‏؟‏ قال‏:‏ رأيت البارحة فى النوم رؤيا وما أظن ما أشرت به علىّ فى الأعبد إلا تأويل الرؤيا‏.‏

فدفعها إلى أبو بكر، فرأى أبو بكر أن يردهم عليه فردهم عليه فكانوا عند معاذ، فاطلع معاذ يومًا فرآهم يصلون صلاة حسنة فأعتقهم‏.‏

واختلف السلف فى تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أكالون للسحت‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 42‏]‏ فروى عن مسروق أنه سأل ابن مسعود عن السحت أهو الرشوة فى الحكم‏؟‏ فقال عبد الله‏:‏ ذلك الكفر، وقرأ عبد الله‏:‏ ‏(‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 42‏]‏ ولكن السحت أن يستعينك رجل على مظلمة إلى إمام فتعينه فيهدى لك‏.‏

وقال إبراهيم النخعى‏:‏ كان يقال‏:‏ السحت الرشوة فى الحكم‏.‏

وعن عكرمة مثله، وذكر إسماعيل بن إسحاق من حديث عبد الله بن عمر وثوبان ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشى والمرتشى‏)‏ وفسره الحسن البصرى فقال‏:‏ ليحق باطلا أو يبطل حقا، فأما أن يدفع عن ماله فلا بأس‏.‏

وهذا خلاف تأويل ابن مسعود‏.‏