فصل: باب الشهادة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شفاء الغليل في حل مقفل خليل



.باب الأقضية:

ابن عرفة: حال الفقيه من حيث هو فقيه كحال عالم بكبرى قياس الشكل الأول فقط، وحال القاضي والمفتي كحال عالم بها مَعَ علمه بصغراه، ولا خفاء أَن العلم بهما أشقّ وأخصّ من العلم بالكبرى فقط، وأَيْضاً فقهاء القضاة والفتيا مبنيان عَلَى إعمال النظر فِي الصور الجزئية وإدراك مَا اشتملت عَلَيْهِ من الأوصاف الكائنة فيها، فيلغى طرديها ويعمل معتبرها.

.أحكام القضاء:

أَهْلُ الْقَضَاءِ عَدْلٌ، ذَكَرٌ، فَطِنٌ، مُجْتَهِدٌ، إِنْ وُجِدَ وإِلا فَأَمْثَلُ مُقَلِّدٍ، وزِيدَ لِلإِمَامِ الأَعْظَمِ قُرَشِيٌّ فَحَكَمَ بِقَوْلِ مُقَلِّدِهِ، ونَفَذَ حُكْمُ أَعْمَى، وأَبْكَمَ، وأَصَمَّ ووَجَبَ عَزْلُهُ، ولَزِمَ الْمُتَعَيِّنَ أَوِ الْخَائِفَ فِتْنَةً إِنْ لَمْ يَتَوَلَّ، أَو ضَيَاعَ الْحَقِّ الْقَبُولُ. والطَّلَبُ. وأُجْبِرَ وإِنْ بِضَرْبٍ، وإِلا فَلَهُ الْهَرَبُ - وإِنْ عُيِّنَ وحَرُمَ لِجَاهِلٍ طالب دُنْيَا، ونُدِبَ لِيُشْهِرَ عِلْمَهُ.
الشرح:
قوله: (وَحَرُمَ لِجَاهِلٍ، طالب دُنْيَا) كذا قال ابن عرفة فِي الذي تكون توليته ملزومة لما لا يحلّ من تكليفه تقديم من لا يحلّ تقديمه للشهادة.
قال: وقد شاهدنا من ذلك مَا الله أعلم بِهِ.

متن الخليل:
كَوَرِعٍ، غَنِيٍّ، حَلِيمٍ، نَزِهٍ.
الشرح:
قوله: (كَوَرِعٍ، غَنِيٍّ، حَلِيمٍ، نَزِهٍ) الورع: التارك للشبهات، لئلا يقع فِي الحرام، والنزه: الكامل المرؤة.
نَسِيبٍ، مُسْتَشِيرٍ بِلا دَيْنٍ وحَدٍّ.
قوله: (نَسِيبٍ) أي معروف النسب كما عبّر عنه ابن الحاجب.
قال فِي "التوضيح": لأن من لا يعرف أبوه من ولد لعان أَو زنا يطعن فيه، فلا يكون لَهُ فِي نفوس الناس كبير هيبة. انتهى وأصله لابن رشد.
فرعان:
الأول: قال ابن عرفة: المعروف أَن كونه معتقاً غير مانع، ومنعه سحنون خوف استحقاقه بملك.
الثاني: قال ابن رشد: من خصاله المستحبة كونه من أهل البلد.
قال ابن عبد السلام: ليعرف المقبولين والمسخوطين من الشهود ويعرف من حال المحقّ والمبطل مَا لا يعرف غير البلدي، وأمراء عصرنا يقصدون إِلَى ترجيح غير البلدي عَلَى البلدي؛ لأن أكثر الحسدة المتكلمين فِي أعراض الناس إنما هم من المشاركين فِي البلد، فإذا كَانَ القاضي غير بلدي قلّ حاسدوه فقل كلام الناس فيه، وقال ابن عرفة قضاة بلدنا يجعلون كونه من أهل البلد فِي قضاة الكور موجباً للرغبة عنه، لفساد القضاة بالميل إِلَى قرابتهم ومعارفهم.

متن الخليل:
وَزَائِدٍ فِي الدَّهَاءِ.
الشرح:
قوله: (وَزَائِدٍ فِي الدَّهَاءِ) عطف عَلَى دين أي: وبلا وصف أَو عقل زائد فِي الدهاء، فإذا ضبط زائد بإسكان الياء من غير ألف كَانَ مصدراً معطوفاً عَلَى مصدر فلا يحتاج إِلَى تقدير حذف المنعوت.
قال الطرطوشي: الزيادة فِي عقله المفضية إِلَى الدهاء والمكر مذمومة؛ فقد عزل عمر بن الخطاب زياد بن سميّة وقال: كرهت أَن أحمل الناس عَلَى فضل عقلك. وكَانَ من الدهاة.
وقال أبو عمر فِي " الاستيعاب": كَانَ عمر بن الخطاب قد استعمله عَلَى بعض صدقات البصرة أَو بعض أعمال البصرة، وقيل بل كَانَ كاتباً لأبي موسى، فلما شهد علي المغيرة مَعَ الثلاثة ولَمْ يقطع الشهادة عزله فقال: يا أمير المؤمنين أخبر الناس أنك لَمْ تعزلني لخزية قال بعض الأخيار: أنّه قال لَهُ مَا عزلتك لخزية ولكني كرهت أَن أحمل الناس على فضل عقلك؛ ولهذا أنكر ابن عرفة إنكار ابن عبد السلام لهذه الحكاية.

متن الخليل:
وَبَطَانَةِ سُوءٍ، ومَنْعُ الرَّاكِبِينَ مَعَهُ، والْمُصَاحِبِينَ لَهُ، وتَخْفِيفُ الأَعْوَانِ، واتِّخَاذُ مَنْ يُخْبِرُهُ بِمَا يُقَالُ فِي سِيرَتِهِ وحُكْمِهِ وشُهُودِهِ، وتَأْدِيبُ مَنْ أَسَاءَ عَلَيْهِ، إِلا فِي مِثْلِ اتَّقِ اللهَ فِي أَمْرِي فَلْيَرْفُقْ بِهِ، ولَمْ يَسْتَخْلِفْ، إِلا لِوُسْعِ عَمَلِهِ فِي جِهَةٍ بَعُدَتْ مَنْ عَلِمَ مَا اسْتَخْلَفَ فِيهِ وانْعَزَلَ بِمَوْتِهِ لا هُوَبِمَوْتِ الأَمِيرِ، ولَوِ الْخَلِيفَةِ.
الشرح:
قوله: (وَبَطَانَةِ سُوءٍ) كذا ذكر ابن الحاجب فِي الصفات المستحبة كونه سليماً من بطانة السوء.
فقال ابن عرفة: الذي فِي " المعونة " أخص من هذا وهو أَن يستبطن أهل الدين والأمانة والعدالة والنزاهة، يستعين بهم، وهذا أخصّ من كونه سليماً من بطانة السوء، وأما نفس السلامة من بطانة السوء فمقتضى قول أصبغ أنها من الشروط الواجبة.
قال أبو محمد عنه: ينبغي للإمام أَن يعزل من قضاته من يخشى عَلَيْهِ الضعف والوهن أَو بطانة السوء، وإِن أمن عَلَيْهِ الجور.

متن الخليل:
وَلا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بَعْدَهُ أنّه قَضَى بِكَذَا.
الشرح:
قوله: (وَلا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بَعْدَهُ أنّه قَضَى بِكَذَا) كذا قال ابن الحاجب.
فقال ابن عرفة: مفهوم قوله: بعد العزل. أنّه قبل العزل يقبل قوله مُطْلَقاً، وليس كَذَلِكَ ففي سماع أصبغ شهادة القاضي بقضاءٍ قضى به وهو معزول أَو غير معزول لا تقبل.
ابن رشد: فِي هذه المسألة معنى خفي وهو أَن قول القاضي قبل عزله قضيت لفلان بكذا لا يقبل إِن كَانَ بمعنى الشهادة كتخاصم رجلين عند قاضٍ فيحتج أَحَدهمَا بأن قاضي بلد كذا قضى لي بكذا أَو ثبت عنده كذا، فيسأله البينة على ذلك، فيأتيه من عنده بكتابه أنّي حكمت لفلان بكذا أَو أنّه ثبت عندي لفلان كذا فهذا لا يجوز؛ لأنّه شاهد ولَو أتى الرجل ابتداءً للقاضي فقال لَهُ خاطب لي قاضي بلد كذا بما ثبت لي عندك عَلَى فلان أَو بما حكمت لي بِهِ عَلَيْهِ فخاطبه بذلك لقبل ذلك؛ لأنّه مخبر لا شاهد.
ابن عبد السلام: وأما بعد العزل فلا يقبل كَانَ عَلَى سبيل الإقرار أَو الشهادة.

متن الخليل:
وَجَازَ تَعَدُّدُ مُسْتَقِلٍّ أَوْ خَاصٍّ بِنَاحِيَةٍ أَوْ نَوْعٍ والْقَوْلُ لِلطَّالِبِ، ثُمَّ مَنْ سَبَقَ رَسُولُهُ.
الشرح:
قوله: (و جَازَ تَعَدُّدُ مُسْتَقِلٍّ أَوْ خَاصٍّ بِنَاحِيَةٍ أَوْ نَوْعٍ) احترز بالمستقل من المشترك الذي لا ينفذ حكمه إِلا بموافقة شريكه.
قال المازري: تجوز تولية قاضيين ببلد عَلَى أَن يخص كل منهما بناحية من البلد أَو نوع من المحكوم فيه؛ لأن هذه الولاية يصحّ فيها التخصيص والتحجير، وكَذَلِكَ على عدم التخصيص مَعَ استقلال كلّ منهما بنفوذ حكمه، ومنعه بعض الناس بمقتضى السياسة خوف تنازع الخصوم فيمن يحكم بينهم، ومقتضى أصول الشرع جوازه؛ لأن لذي الحقّ استنابة من شاء عَلَى حقّه، والتنازع مرتفع شغبه باعتبار قول الطالب.
واستدل عَلَى جواز التعدد بالقياس عَلَى تولية الواحد لبقاء حكم الإمام معه، وفرق بيسير رفع التنازع عند اختلاف حكمهما بعزل الإمام قاضيه وتعذر عزل أحد القاضيين الآخر، وأما تعددهما بشرط وقف نفوذ حكمهما عَلَى اتفاقهما فمنعه ابن شعبان وقال: لا يكون الحاكم نصف حاكم وغلا فيه الباجي، فادعى الإجماع عَلَى منعه، وأجاب عن الاعتراض بتعدد حكمي الصيد والنكاح بأنهما إِن اختلفا انتقل لغيرهما والقاضيان هما بولاية لا يصحّ التنقل فيها بعد انعقادها واختلافهما يؤدي لتضييع الأحكام والغالب اختلاف المجتهدين وإِن كانا مقلدين فولاية المقلد ممنوعة.
قال المازري: وعندي أنّه لا يقوم دليل عَلَى المنع إِن اقتضت ذلك مصلحة ودعت إليه ضرورة فِي نازلة يرى الإمام أنّه لا ترتفع التهمة والريبة إِلا بقضاء رجلين فيها، فإن اختلف نظرهما فِي ذلك استظهر بغيرهما.
ابن عرفة: منع الباجي وابن شعبان فِي تولية قاضيين ولاية مطلقة لا فِي مسألة جزئية كما فرضه المازري، وذكر الباجي أنّه ولّى فِي بعض بلاد الأندلس ثلاثة قضاة عَلَى هذه الصفة، ولَمْ ينكره من كَانَ بذلك البلد من فقهائه، وقال ابن عرفة قبل هذا: هذا الكلام فِي القضاء وأما فِي نازلة معينة فلا أظنهم يختلفون فيها، وقد فعله علي ومعاوية فِي تحكيمهما أبا موسى وعمرو بن العاصي.

متن الخليل:
وَإِلا أُقْرِعَ، كَالادِّعَاءِ، وتَحْكِيمُ غَيْرِ خَصْمٍ، وجَاهِلٍ، وكَافِرٍ، وغَيْرِ مُمَيَّزٍ فِي مَالٍ، وجَرْحٍ. لا حَدٍّ، ولِعَانٍ، وقَتْلٍ، ووَلاءٍ ونَسَبٍ وطَلاقٍ، وعِتْقٍ. ومَضَى، إِنْ حَكَمَ صَوَاباً، وأُدِّبَ، وفِي صَبِيٍّ، وعَبْدٍ، وامْرَأَةٍ، وفَاسِقٍ.
ثالثها، إِلا الصَّبِيَّ، ورَابِعُهَا وفَاسِقٌ، وضَرْبُ خَصْمٍ لَدَّ، وعَزْلُهُ لِمَصْلَحَةٍ. ولَمْ يَنْبَغِ.إِنْ شُهِرَ عَدْلاً بِمُجَرَّدِ شَكِيَّةٍ ولْيُبَرَّأْ عَنْ غَيْرِ سُخْطٍ وخَفِيفُ تَعْزِيرٍ بِمَسْجِدٍ لا حَدٌّ، وجَلَسَ بِهِ بِغَيْرِ عِيدٍ، وقُدُومِ حَاجٍّ، وخُرُوجِهِ، ومَطَرٍ ونَحْوِهِ، واتِّخَاذُ حَاجِبٍ وبَوَّابٍ، وبَدَأَ بِمَحْبُوسٍ، ثُمَّ وَصِيٍّ، ومَالِ طِفْلٍ، ومُقَامٍ ثُمَّ ضَالٍّ، ونَادَى بِمَنْعِ مُعَامَلَةِ يَتِيمٍ وسَفِيهٍ، ورَفْعِ أَمْرِهِمَا، ثُمَّ فِي الْخُصُومِ.
الشرح:
قوله: (وَإِلا أُقْرِعَ، كَالادِّعَاءِ) أي كما يقرع فِي الادعاء، وهو المنبه عَلَيْهِ بقوله بعد: (وإلا فالجالب وإلا أقرع).

متن الخليل:
وَرَتَّبَ كَاتِباً عَدْلاً مَرْضِيَّاً.
الشرح:
قوله: (وَرَتَّبَ كَاتِباً عَدْلاً مَرْضِيَّاً) كذا فِي بعض النسخ مرضياً. اسم مفعول من الرضا، أشار بِهِ لقول ابن القاسم فِي "المدونة": ولا يتخذ القاضي كاتباً من أهل الذمة ولا قاسماً ولا عبداً ولا مكاتباً، ولا يتخذ فِي شيءٍ من أمور المسلمين إِلا العدول المرضيين. كذا فِي غير نسخة من " التهذيب"، ولما نقله فِي "التوضيح" ذكر بإثره قول مطرف وابن الماجشون وأصبغ: وسواء غاب الكاتب عَلَى كتابته أَو لَمْ يغب فلا يكون إِلا من أهل العدالة والرضا. ووقع فِي أكثر نسخ هذا المختصر (شرطاً) عوض (مرضياً)، وأظنّه تصحيفاً إذ لَمْ أر من عبّر هنا بالخلاف فِي الشَرْطية؛ وإنما تَرَدُّدٌ اللخمي فِي وجوب العدالة.

متن الخليل:
كَمُزَكٍّ، واخْتَارَهُمَا والْمُتَرْجِمُ مُخْبِرٌ كَالْمُحَلِّفِ.
الشرح:
قوله: (كَمُزَكٍّ). أي فِي كونه عدلاً رضي فهو كقوله فِي "الرسالة": ولا يقبل فِي التزكية إِلا من يقول عدل رضي أي ليجمع بين الآيتين {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] وهذا يدلك عَلَى أَن (شرطا) تصحيف (مرضياً)، ولا شكّ أنهما فِي الخط متشابهان.

متن الخليل:
وَأَحْضَرَ الْعُلَمَاءَ، أَوْ شَاوَرَهُمْ، وشُهُوداً.
الشرح:
قوله: (وَأَحْضَرَ الْعُلَمَاءَ، أَوْ شَاوَرَهُمْ). المازري: ينبغي أَن يستشير ولَو كَانَ عالماً، وإِن كَانَ حضورهم يوجب حصره لَمْ يختلف فِي عدمه وإِن كَانَ بليداً بلادة لا يمكنه معها ضبط قولي الخصمين وتصوّر حقيقة دعواهما لَمْ يختلف فِي حضورهم إياه.
وكَانَ عندنا قاض اشتهرت بالأمصار نزاهته، فرفع إليّ محاضر بين خصمين طال فيها النزاع والإثبات والتجريح، فتأملت المحاضر فوجدتها تتضمن أَن الخصمين متفقان فِي المعنى مختلفان فِي العبارة، ولَمْ يتفطن لذلك حتى نبهته لَهُ، فخجل منه وارتفع الخصام. فمثل هذا لابد أَن يحضره أهل العلم أَو كاتب يؤمن معه مثل هذا.
ابن عرفة: قبول من هذه صفته القضاء جرحة.

متن الخليل:
وَلَمْ يُفْتِ فِي خُصُومَةٍ، ولَمْ يَشْتَرِ بِمَجْلِسِ قَضَائِهِ كَسَلَفٍ وقِرَاضٍ، وإِبْضَاعٍ، وحُضُورِ وَلِيمَةٍ، إِلا لِنِكَاحٍ.
الشرح:
قوله: (وَلَمْ يُفْتِ فِي خُصُومَةٍ) ظاهره مُطْلَقاً كقول ابن الحاجب تبعاً لابن شاس: ولا يفتي الحاكم فِي الخصومات، وقال ابن عبد الحكم: لا بأس بِهِ كالخلفاء الأربعة.
ابن عرفة وقبله ابن عبد السلام: فحملوا قول ابن عبد الحكم عَلَى الخلاف، وعزى ابن المناصف القول بعدم جوابه فيما يتعلّق بالخصومات لمالك، وعزاه ابن حارث لسحنون، ثم ذكر قول ابن عبد الحكم وقال: النهي فِي الكلام الأول عن فتيا القاضي فِي نفس الخصومات لأحد الخصمين، وكلام ابن عبد الحكم فِي فتياه فِي جملة الأشياء لَمْ يعن الخصومة بعينها. وفِي " الواضحة " للأخوين: لا ينبغي أَن يدخل عَلَى أحد الخصمين دون صاحبه لا وحده ولا فِي جماعة.

متن الخليل:
وَقَبُولِ هَدِيَّةٍ ولَوْ كَافَأَ عَلَيْهَا، إِلا مِنْ قَرِيبٍ، وفِي هَدِيَّةِ مَنِ اعْتَادَهَا قَبْلَ الْوِلايَةِ، وكَرَاهَةِ حُكْمِهِ فِي مَشْيِهِ، أَوْ مُتَّكِئاً، وإِلْزَامِ يَهُودِيٍّ حُكْماً بِسَبْتِهِ، وتَحْدِيثِهِ بِمَجْلِسِهِ لِضَجَرٍ، ودَوَامِ الرِّضَا فِي التَّحْكِيمِ لِلْحُكْمِ قَوْلانِ، ولا يَحْكُمُ مَعَ مَا يُدْهِشُ عَنِ الْفِكْرِ، ومَضَى، وعَزَّرَ شَاهِداً بِزُورٍ فِي الْمَلإِ بِنِدَاءٍ، ولا يَحْلِقُ رَأْسَهُ، ولِحْيَتَهُ، ولا يُسَخِّمُهُ.
الشرح:
قوله: (وَقَبُولِ هَدِيَّةٍ) بعد مَا طوّل فيها.
ابن عرفة قال: قد يخفف للمفتي فِي قبولها إِن كَانَ محتاجاً ولا سيما إِن كَانَ اشتغاله بأصولها يقطعه عن التسبب ولا رزق لَهُ عَلَيْهَا من بيت المال، وعَلَيْهِ يحمل مَا أخبرني بِهِ غير واحد عن الشيخ الفقيه أبي علي بن علوان: أنّه كَانَ يقبل الهدية، ويطلبها ممن يفتيه.

متن الخليل:
ثُمَّ فِي قُبُولِهِ تَرَدُّدٌ، وإِنْ أَدَّبَ التَّائِبَ فَأَهْلٌ، ومَنْ أَسَاءَ عَلَى خِصْمِهِ أَوْ مُفْتٍ، أَوْ شَاهِدٍ، لا بِشَهِدْتَ بِبَاطِلٍ كَلِخَصْمِهِ كَذَبَتْ، ولْيُسَوِّ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، ولَوْ مُسْلِماّ، وَكَافِراً. وقُدِّمَ الْمُسَافِرُ ومَا يُخْشَى فَوَاتُهُ، ثُمَّ السَّابِقَ، قَالَ وإِنْ بِحَقَّيْنِ بِلا طُولٍ، ثُمَّ أُقْرِعَ.
الشرح:
قوله: (ثُمَّ فِي قُبُولِهِ تَرَدُّدٌ).
ابن عبد السلام: قال بعض الشيوخ كابن الحاجب: إِن كَانَ ظاهر العدالة لَمْ تقبل توبته بلا خلاف؛ لأنّه لا يكاد تعرف توبته، وإن كَانَ غير ظاهرها فقَوْلانِ، وقال ابن رشد بالعكس: إِن كَانَ ظاهر العدالة فقَوْلانِ وإِن لَمْ يكن ظاهرها لَمْ تقبل اتفاقاً.
قال ابن عرفة مَا ذكره عن ابن رشد لا أعرفه لَهُ ولا لغيره، ثم جلب مَا فِي "المقدمات" ومَا فِي أول مسألة من سماع يحيي وهو خلاف مَا نسب لَهُ ابن عبد السلام، فقف عَلَى تمامه فِي أصله.

متن الخليل:
وَيَنْبَغِي أَنْ يُفْرِدَ وَقْتاً أَوْ يَوْماً لِلنِّسَاءِ كَالْمُفْتِي، والْمُدَرِّسِ.
الشرح:
قوله: (كَالْمُفْتِي، والْمُدَرِّسِ) هذا كقول ابن شاس: وكذا يفعل المفتي والمدرس عند التزاحم وقد قال ابن عرفة: لا أعرف هذا نصاً لأهل المذهب إنما قاله الغزالي فِي "الوجيز"، ولكن تخريجهما عَلَى حكم تزاحم الخصوم واضح، وكذا عَلَى سماع عيسى من ابن القاسم أحب إلي فِي الصانع الخياط يدفع الناس إليه ثيابهم واحداً بعد واحد أَن يبدأ بالأول فالأول، ولَمْ أسمع فيه شيئاً، ولعله أَن يكون واسعاً إِن كَانَ الشيء الخفيف كالرقعة وأشباهها.
ابن رشد: جعل الاختيار تقديم الأول فالأول دون إيجاب عَلَيْهِ إذ لَمْ يجب عَلَيْهِ عمله فِي يومٍ بعينه، وكذا قال الأخوان: لا بأس أَن يقدم الصانع من أحب مَا لَمْ يقصد مطلا، وكذا يقَوْلانِ فِي الرحا. ولسحنون: لا يقدم صاحب الرحا أحداً عَلَى من أتى قبله إِن كانت سنة البلد الطحن عَلَى الدولة، وإِن تحاكموا قضى بينهم بسنتهم، وليس قول سحنون بِخِلاف لقول غيره؛ لأن العرف كالشَرْط.
ابن عرفة: وجرت عادة تدريس تونس فِي الأكثر بتقديم قراءة التفسير عَلَى الحديث، وتقديم الحديث عَلَى الفقه.

متن الخليل:
وَأُمِرَ مُدَّعٍ تَجَرَّدَ قَوْلُهُ عَنْ مُصَدِّقٍ بِالْكَلامِ، وإِلا فَالْجَالِبُ، وإِلا أُقْرِعَ.
الشرح:
قوله: (وَأُمِرَ مُدَّعٍ تَجَرَّدَ قَوْلُهُ عَنْ مُصَدِّقٍ بِالْكَلامِ)، هذا إِذَا عرف المدعي، يدل عَلَيْهِ مَا بعده، وفِي النوادر عن أشهب: إِن جلس الخصمان بين يديه فلا بأس أَن يقول: مَا لكما أَو مَا خصومتكما، أَو يسكت ليبتدياه، فإن تكلّم المدعي أسكت الآخر حتى يسمع حجة المدعي ثم يسكته ويستنطق الآخر ليفهم حجة كل منهما، ولا يبتديء أَحَدهمَا فيقول: مَا تقول أَو مَا لك، إِلا أَن يكون علم أنّه المدعي، ولا بأس أَن يقول: أيكما المدعي، فإن قال أَحَدهمَا: أنا وسكت الآخر فلا بأس أَن يسأله عن دعواه، وأحب إليّ أَن لا يسأله حتى يقر خصمه بذلك.

متن الخليل:
فَيَدَّعِي بِمَعْلُومٍ مُحَقَّقٍ، قَالَ وكَذَا شَيْءٌ، وإِلا لَمْ تُسْمَعْ كَأَظُنُّ، وكَفَاهُ بِعْتُ، وتَزَوَّجْتُ، وحُمِلَ عَلَى الصَّحِيحِ.
الشرح:
قوله: (فَيَدَّعِي بِمَعْلُومٍ مُحَقَّقٍ، قَالَ وكَذَا شَيْءٌ، وإِلا لَمْ تُسْمَعْ كَأَظُنُّ).
ابن عبد السلام: لا يقال إِن العلم والتحقيق مترادفان أَو كالمترادفين، فالإتيان بقوله: معلوماً. يغني عن قوله: محققاً، لأنا نقول: المعلوم راجع إِلَى تصور المُدَّعَى فيه، فلابد أَن يكون متميزاً فِي ذهن المدعي والمدعى عَلَيْهِ، وفِي ذهن القاضي والمحقق راجع إِلَى جزم المدعي لأنّه مالك لما وقع النزاع فيه، فهو من نوع التصديق، فقد رجع كلّ واحدٍ من اللفظين لمعنى غير المعنى الذي رجع إليه الآخر فلاشتراط العلم، لا يسمع: لي عَلَيْهِ شيء، ولاشتراط التحقيق، لا يسمع: أشكّ أَن لي عَلَيْهِ كذا أَو أظن ومَا أشبهه. انتهى.
وأصل هذه العبارة لابن شاس قال: أولاً والدعوى المسموعة هي الصحيحة، وهي أَن تكون معلومة محققة، فلو قال لي عَلَيْهِ شيء لَمْ تسمع دعواه.
ابن عرفة هو نقل "النوادر" عن "المجموعة " عن عبد الملك قال: إِذَا لَمْ يعين المدعي دعواه مَا هو وكم هو لَمْ يسأل المدعى عَلَيْهِ عن دعواه حتى يبينه الطالب فِي طلبه فيسأل حينئذ المطلوب عن دعواه. ونقله المازري عن المذهب وقال: وعندي لَو قال الطالب: أتيقن عمارة ذمة المطلوب بشيءٍ أجهل مبلغه وأريد جوابه بذكره مفصلاً أَو إنكاره جملة لزمه الجواب.
ثم قال ابن شاس: وكَذَلِكَ لَو قال أظن إِن لي عَلَيْكَ شيئاً أَو قال: لك علي كذا أَو أظن أني قضيته لَمْ يسمع.
قال ابن عرفة فاختصره ابن الحاجب بقوله: وشرط المدعي فيه أَن يكون معلوماً محققاً. فقبله ابن هارون وابن عبد السلام، ولَمْ يذكرا فيه خلافاً، وفِي رسم الطلاق من سماع أشهب وابن نافع من كتاب النكاح سئل عمن تزوج أمرأة بألف دينار، ودخل بها وأقام معها نحواً من ثمانية أشهر ثم مات، فطلبت صداقها، هل ترى اليمين عَلَى ورثته؟ فقال أرى عَلَى ورثته أَن يحلفوا مَا نعلم بقي لَهَا عَلَيْهِ صداق حتى مات.
قال: وليس يدخل النساء عَلَى أزواجهن إِلا بالرضا من مهورهن.
قال ابن رشد: أوجب اليمين عَلَى الورثة فِي هذه الرواية عَلَى العلم وإِن لَمْ تدع ذلك المرأة عليهم خلاف مَا فِي كتاب النكاح الثاني من "المدونة" من أنهم لا يمين عليهم إِلا أَن تدعي عليهم العلم، وخلاف مَا فِي كتاب بيع الغرر منها فِي مسألة التداعي فِي وقت موت الجارية الغائبة المشتراة عَلَى الصفة إِن كَانَ قبل الصفة أَو بعدها، وإنما تجب عليهم اليمين إِذَا كانوا ممن يظن بهم العلم عَلَى مَا قال فِي كتاب العيوب والأقضية من "المدونة"فإن نكلوا عن اليمين حلفت المرأة عَلَى مَا تدعي معرفته من أنها لَمْ تقبض صداقها وتستوجبه لا عَلَى أَن الورثة علموا أنها لَمْ تقبض، فهذه اليمين ترجع عَلَى غير مَا نكل عنه الورثة، ولَهَا نظائر كثيرة، فيختلف فِي لحوق هذه اليمين للورثة؛ لأنها يمين تهمة إذا لَمْ تحقق الزوجة عليهم الدعوى عَلَى مَا ذكرناه، ولا يختلف فِي رجوعها عَلَى الزوجة لمعرفتها بما تحلف عَلَيْهِ كما يختلف فِي رجوع يمين التهمة.

متن الخليل:
وَإِلا فَلْيَسْأَلْهُ الْحَاكِمُ عَنِ السَّبَبِ.
الشرح:
قوله: (وَإِلا فَلْيَسْأَلْهُ الْحَاكِمُ عَنِ السَّبَبِ) هذا تصريح بأن الحاكم هو الذي يسأل عن السبب، فتأمل هل يعارض قوله فيما يأتي: (وَلمدعى عَلَيْهِ السؤال عن السبب) عَلَى أنّه اعتمد فيما يأتي قوله فِي " النوادر": قال أشهب فِي "المجموعة": إِن سأل المدعى عَلَيْهِ طالبه من أي وجه يدعي عَلَيْهِ هذا المال فقال قد تقدمت بيني وبينه مخالطة سئل عن ذلك ولم يقض القاضي بشيءٍ عَلَى المدعى عَلَيْهِ حتى يسمي المدعي السبب الذي كَانَ لَهُ بِهِ الحقّ أَو يقول لا أعلم وجهه ولا أذكره، فلا يكون عَلَيْهِ فِي ذلك يمين أنّه لا يذكره، ويسأله البينة عَلَى دعواه.
ومثله فِي كتاب ابن سحنون وزاد: إِن أبى الطالب أَن يخبر بالسبب فإن قال: لأني لا أذكر وجه ذلك قُبل منه، وإِن لَمْ يقل ذلك فلا يقضى لَهُ بشيء حتى يذكر سبب دعواه أَو يقول: لا أذكر سببه، ولا يمين عَلَيْهِ أنّه لا يذكر سببه، ويسأله البينة عَلَى دعواه ونقله الباجي بلفظ: إِن لَمْ يبين سبب دعواه أَو ادعى نسيأنّه قبل منه بغير يمين وألزم المطلوب أَن يقرّ أَو ينكر قال الباجي: والقياس عندي أَن لا يوقف المطلوب حتى يحلف الطالب أنّه لا يذكر مَا يدعيه، إذ لعله بذكر السبب يجد مخرجاً، وإِن امتنع من ذكره من غير نسيان لَمْ يسأل المطلوب عن شيء.
قال ابن عرفة فِي دلالة الرواية عَلَى مَا ذكر الباجي من قوله: وألزم المطلوب أَن يقرّ أَو ينكر نظر، فتأمله ونقل المازري كالباجي. انتهى.
وفيه دليل عَلَى أَن السؤال من حق المُدَّعَى عَلَيْهِ كما اقتصر عَلَيْهِ ابن الحاجب إذ قال: وللمدعى عَلَيْهِ أَن يسأل عن السبب وتقبل دعوى نسيانه دون يمين.
وقال الباجي: القياس بيمين، وقد قبله فِي "التوضيح" كابن عبد السلام، واعتمد المصنف هنا قول المتيطي، قال محمد بن حارث فِي " محاضره " يجب عَلَى القاضي أَن يقول للطالب: من أين وجب لك مَا ادعيت؟، فإن قال: من سلف أَو بيع أَو ضمان أَو تعدٍ وشبهه لَمْ يكلفه أكثر من ذلك، وإِذَا ذكر المدعي دعواه ولَمْ يذكر السبب ولَمْ يكشفه القاضي عنه، فذلك غفلة من القاضي وجهل منه بالسنة؛ لأنه إِذَا أبهم ذلك ولم يؤمن أَن يكون من وجه لا يوجب شيئاً إِذَا فسره، فيصير القاضي كالخابط عشواء، وكَذَلِكَ إِن ذكر عدد الدين ولم يذكر الحلول والتأجيل، وكَذَلِكَ إِن لَمْ يذكر قبض المتسلف للمال إِن كَانَ الدين من سلف كَانَ نقصاً فِي المقالة.

متن الخليل:
ثُمَّ مُدَّعًى عَلَيْهِ تَرَجَّحَ قَوْلُهُ بِمَعْهُودٍ، أَوْ أَصْلٍ بِجَوَابِهِ.
الشرح:
قوله: (ثُمَّ مُدَّعًى عَلَيْهِ تَرَجَّحَ قَوْلُهُ بِمَعْهُودٍ، أَوْ أَصْلٍ بِجَوَابِهِ) أي ثم أمر المدعى عَلَيْهِ بجوابه.
ابن عرفة: وإِذَا ذكر المدعي دعواه فمقتضى المذهب أمر القاضي خصمه بجوابه إِن استحقت الدعوى جواباً وإِلا فلا كقول المدعي: هذا أخبرني البارحة أنّه رأى هلال الشهر أَو سمع من يعرف بلفظه ولا يتوقف أمره بالجواب عَلَى طلب المدعي لذلك؛ لوضوح دلالة حال التداعي عَلَيْهِ.
وقال المازري إِن لَمْ يكن من المدعي أكثر من الدعوى كَانَ يقول للقاضي: لي عند هذا ألف درهم، فللشافعية فِي أحد الوجهين: أنّه ليس للقاضي طلب المدعى عَلَيْهِ بجواب لعدم تصريح المدعي بذلك.
وذكر أَن أخوين بالبصرة كانا يتوكلان عَلَى أبواب القضاة ولَهُمَا فقه، فلما ولي عيسى بن أبان قضاء البصرة، وهو ممن عاصر الشافعي أراد الأخوان أَن يعلماه مكانهما من العلم، فأتياه فقال لَهُ أَحَدهمَا: لي عند هذا كذا وكذا.
فقال عيسى للآخر: أجبه فقال المدعى عَلَيْهِ: ومن أذن لك أَن تستدعي جوابي؟، وقال المدعي لَمْ آذن لك فِي ذلك فوجم عيسى بن أبان، فقالا لَهُ: إنما أردنا أَن نعلمك مكاننا من العلم، وعرّفاه بأنفسهما، وهذه مناقشة لا طائل تحتها؛ لأن الحال شاهدة بذلك، وهو ظاهر مذاهب العلماء.
ابن عرفة فظاهره إيجاب جوابه بمجرد قوله: لي عنده كذا، وليس كَذَلِكَ بل لابد من بيان السبب من سلف أَو معاوضة أَو بت عطية، ونحوها؛ لجواز كونها بأمرٍ لا يوجب وجوبها عَلَيْهِ كعدة أَو عطية من مال أجنبي.

متن الخليل:
إِنْ خَالَطَهُ بِدَيْنٍ، أَوْ تَكَرُّرِ بَيْعٍ، وإِنْ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ.
الشرح:
قوله: (إِنْ خَالَطَهُ) كذا فِي بعض النسخ بأداة الشَرْط، وفِي بعضها: وخالطه بالعطف عَلَى ترجيح ولا يخفاك مَا فيهما معاً من القلق، فإن الخلطة شرط فِي توجه اليمين لا فِي إيجاب الجواب، ولا فِي سماع الدعوى وتكليف البينة كما تعطيه عبارتاه.
فائدة:
قال ابن عرفة: قطع ابن رشد فِي سماع أصبغ أَن مذهب مالك وكافة أصحابه الحكم بالخلطة، ومثله لابن حارث ونقل ابن زرقون عن ابن نافع: لا تعتبر الخلطة.
ابن عرفة ومضى عمل القضاة عندنا عليه، ونقل لي شيخنا ابن عبد السلام عن بعض القضاة أنّه لا يحكم بها إِلا إِن طلبها منه المدعى عَلَيْهِ. انتهى.
والعجب من ابن عرفة حيث أغفل تمام كلام ابن رشد فِي السماع المذكور إذ قال مَا نصّه: وفِي "المبسوطة " لابن نافع أنّه قال لا أدري مَا الخلطة ولا أراها ولا أقول بها، وأرى الأيمان واجبة عَلَى المسلمين عامة بعضهم عَلَى بعض لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «البينة عَلَى المدعي واليمين عَلَى المدعى عَلَيْهِ» وأغفل أَيْضاً قول المتيطي آخر الحمالة والرهون.
وقال محمد بن عبد الحكم تجب اليمين عَلَى المدعى عليه دون خلطه وبِهِ أخذ ابن لبابة وغيره.
وقال ابن الهندي: كَانَ بعض من يقتدى بِهِ يتوسط فِي مثل هذا إِذَا ادّعى قوم عَلَى أشكالهم بما يوجب اليمين أوجبها دون إثبات الخلطة، وإِن ادعى عَلَى الرجل العدل من ليس من شكله لَمْ يوجب عَلَيْهِ اليمين إِلا بإثبات الخلطة.
وقال أبو الحسن الصغير: هذه من المسائل التي خالف فيها الأندلسيون مذهب مالك؛ لأنهم لا يعتبرون خلطة، ويوجبون اليمين بمجرد الدعوى وعَلَيْهِ العمل اليوم. انتهى.
وقبله أبو عمران العبدوسي.

متن الخليل:
لا بِبَيِّنَةٍ جُرِّحَتْ.
الشرح:
قوله: (لا بِبَيِّنَةٍ جُرِّحَتْ) هو مثل قول المتيطي: وإن كَانَ الطالب أقام بينة بالدين فسقطت بوجهٍ مما تسقط بِهِ الشهادة أَو جرحها المطلوب فليس ذلك بخلطة توجب اليمين عَلَيْهِ، قاله مالك وابن القاسم وسحنون، وقال بعض العلماء: إِن ذلك خلطة توجب اليمين عَلَيْهِ وكَذَلِكَ إِن ترافعا قبل ذلك إِلَى الحاكم فِي حق آخر فقضى بينهما فليس ذلك بخلطة.

متن الخليل:
إِلا الصَّانِعَ، والْمُتَّهَمَ، والضَّيْفَ وفِي مُعَيَّنٍ، والْوَدِيعَةَ عَلَى أَهْلِهَا، والْمُسَافِرَ عَلَى - رُفْقَتِهِ، ودَعْوَى مَرِيضٍ أَوْ بَائِعٍ عَلَى حَاضِرِ الْمُزَايَدَةِ، وإِنْ أَقَرَّ فَلَهُ الإِشْهَادُ عَلَيْهِ، ولِلْحَاكِمِ تَنْبِيهُهُ عَلَيْهِ، وإِنْ أَنْكَرَ قَالَ أَلَكَ بَيِّنَةٌ.
الشرح:
قوله: (إِلا الصَّانِعَ، والْمُتَّهَمَ، والضَّيْفَ وفِي مُعَيَّنٍ، والْوَدِيعَةَ عَلَى أَهْلِهَا، والْمُسَافِرَ عَلَى - رُفْقَتِهِ، ودَعْوَى مَرِيضٍ أَوْ بَائِعٍ عَلَى حَاضِرِ الْمُزَايَدَةِ) هذه ثمانية ذكر المتيطي جميعها فِي الحمالة والرهون إِلا السلعة المعينة فلم يذكرها فِي النظائر، وقد ذكرها عبد الحقّ وابن يونس، وإلا الوديعة عَلَى أهلها فلم يذكرها عَلَى هذا الوجه الأعم وذكرها اللخمي وغيره.
فالأول: الصانع واندرج فيه التاجر والثاني: المتهم بالسرقة والعداء والظلم، والثالث: الغريب ينزل بمدينة فيدعي عَلَى رجلٍ منها أنّه استودعه مالاً، فكأنّه عبّر بالضيف عن الغريب الطاريء عَلَى البلد سواء ضيفه المدعى عَلَيْهِ أَو لَمْ يضيفه، وبهذا يساعد ظاهر نصّ المتيطي، ويُتبادر من لفظ المصنف غير هذا، ولكن لَمْ أر من ذكره.
والرابع: الدعوى فِي شيءٍ معين قال عبد الحقّ عن بعض القرويين: إنما تراعى الخلطة فِي الأشياء المستهلكة وفيما تعلّق بالذمم، وأما الأشياء المعينة فاليمين فِي ذلك واجبة من غير خلطة.
وقال بعض شيوخنا من أهل بلدنا لا تجب اليمين إِلا بالخلطة فِي الأشياء المعينة وغيرها؛ إِلا مثل أَن يعرض رجل سلعة فِي السوق للبيع، فيأتي رجل فيقول: قد بعتها مني، فمثل هذا تجب فيه اليمين وإن لَمْ تكن خلطة، وهذا القول أبين عندي ونحوه لابن يونس.
الخامس: دعوى الوديعة عَلَى من هو أهل لأن يودع عنده مثل هذا المال الحالّ.
قال فِي " توضيحه" وقيّده أصبغ وغيره بأن يكون المودع غريباً، وقيّده اللخمي بثلاثة قيود: أَن يكون المدعي يملك مثل ذلك فِي جنسه وقدره، وأَن يكون المدعى عَلَيْهِ ممن يودع مثل ذلك، وأَن يكون هناك مَا يوجب الإيداع. انتهى.
فالثالث مساوٍ لهذا أَو أخص منه فتأمله.
السادس: المسافر يدعي أنّه دفع مالاً لبعض أهل رفقته.
السابع: الرجل يوصي عند الموت أَن لَهُ عَلَى فلان كذا.
الثامن: عبّر عنه المتيطي بما نصّه: "الرجل يحضر المزايدة فيقول البائع: بعتك بكذا ويقول المبتاع: بل بكذا، كذا رأيته فِي نسختين من " المتيطية"، وقد ظهر لك أَن بعض هؤلاء مدعى عَلَيْهِ كالصانع والمتهم وبعضهم مدعٍ كالضيف والمريض.

متن الخليل:
فَإِنْ نَفَاهَا واسْتَحْلَفَهُ فَلا بَيِّنَةَ، إِلا لِعُذْرٍ كَنِسْيَانٍ، أَوْ وَجَدَ ثَانِياً، أَوْ مَعَ يَمِينٍ لَمْ يَرَهُ الأَوَّلُ، ولَهُ يَمِينُهُ أنّه لَمْ يُحَلِّفْهُ أَوَّلاً، قَالَ: وكَذَا أنّه عَالِمٌ بِفِسْقِ شُهُودِهِ، وأَعْذَرَ بِأَبَقِيَتْ لَكَ حُجَّةٌ؟.
الشرح:
قوله: (فَإِنْ نَفَاهَا واسْتَحْلَفَهُ فَلا بَيِّنَةَ، إِلا لِعُذْرٍ كَنِسْيَانٍ، أَوْ وَجَدَ ثَانِياً، أَوْ مَعَ يَمِينٍ لَمْ يَرَهُ الأَوَّلُ) لَمْ أفهم آخر هذا التركيب كما أحبّ، فلعلّ الكاتب غيّر فيه شيئاً، والذي فِي آخر أقضية "المدونة": وإِذَا أدلى الخصمان بحجتهما ففهم القاضي عنهما، وأراد أَن يحكم بينهما فليقل لَهُمَا أبقيت لكما حجة؟ فإن قالا لَهُ: لا، حكم بينهما ثم لا يقبل من المطلوب حجّة إِلا أَن يأتي بما لَهُ وجه مثل بينة لَمْ يعلم بها، أَو يكون أتى بشاهدٍ عند من لا يقضي بشاهد ويمين، ثم وجد شاهداً آخر بعد الحكم وقال: لَمْ أعلم بِهِ فليقض بهذا الآخر.
قال ابن محرز ضمّ ابن القاسم شهادة الشاهد الذي قام بِهِ الآن إِلَى شهادة الأول صحيح وليس يختلف فيه كما اختلف فيمن أقام شاهداً بحقٍّ ونكل عن اليمين معه، فردت لَهُ اليمين عَلَى المدعى عَلَيْهِ، ثم أقام شاهداً آخر؛ لأن هذا لَمْ يُمكّن من اليمين مَعَ شاهده فيكون مسقطاً لَهُ بنكوله، وهو كمن قام عَلَيْهِ شاهد بعتقٍ أَو طلاق فحلف عَلَى تكذيبه ثم أقام عَلَيْهِ شاهداً آخر فأنّه يضم إِلَى الشاهد الأول ويقضى عَلَيْهِ بالعتق والطلاق؛ وذلك لأن الطالب ههنا لَمْ يمكن أَيْضاً من اليمين مَعَ الشاهد فِي العتق والطلاق؛ ولأنّه لا يملك إسقاط الحقّ فيه لَو كان ممكناً من اليمين، فلما لَمْ يكن لَهُ إسقاط الحقّ فيه لَمْ يكن عجزه عن شاهدٍ آخر مانعاً لَهُ من القيام بشهادة شاهد آخر لَمْ يعلم بِهِ أَو علم بِهِ فتركه متعمداً ثم قام بِهِ أَو قام بِهِ غيره.
وأما الذي أقام شاهداً بحق فكان لَهُ أَن يحلف مَعَ شاهده فنكل عن اليمين وردها عَلَى المدعى عَلَيْهِ، ثم أقام شاهداً آخر، فإنما قيل لا تلفق لَهُ شهادة هذا إِلَى شهادة الأول؛ لأنّه لما نكل عن اليمين معه فقد رضي بإسقاطه وترك القيام بشهادته، ثم اختلف: هل يستقل لَهُ الحكم بيمينه مَعَ شهادة هذا الشاهد الآخر أم لا، انتهى مرادنا منه؛ وبِهِ يتضح لك الفرق بين مَا ذكر المصنف هنا ومَا ذكر فِي الشهادات إذ قال: (وَإِن حلف المطلوب ثم أتى بآخر فلا ضم وفِي حلفه معه ويحلف المطلوب إِن لَمْ يحلف قَوْلانِ).

متن الخليل:
وَنُدِبَ تَوْجِيهُ مُتَعَدِّدٍ فِيهِ، إِلا الشَّاهِدَ بِمَا فِي الْمَجْلِسِ، ومُوَجَّهَهُ، ومُزَكِّيَ السِّرِّ، والْمُبَرِّزِ بِغَيْرِ عَدَاوَةٍ، ومَنْ يُخْشَى مِنْهُ. وأَنْظَرَهُ لَهَا بِاجْتِهَادِهِ، ثُمَّ حَكَمَ كَنَفْيِهَا، ولْيُجِبْ عَنِ الْمُجَرِّحِ، ويُعَجِّزُهُ، إِلا فِي دَمٍ، وحُبُسٍ وعِتْقٍ، ونَسَبٍ، وطَلاقٍ.
الشرح:
قوله: (وَنُدِبَ تَوْجِيهُ مُتَعَدِّدٍ) لما ذكر المَتيْطِي نصّ وثيقة الموجهين فِي الحوز قال: ينبغي للقاضي أَن لا ينفذ حكمه عَلَى أحدٍ حتى يعذر إليه برجلٍ أَو رجلين، وإِن أعذر بواحد أجزأه، عَلَى مَا فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - فِي أنيس إذ قال لَهُ: «يا أنيس أغد عَلَى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها».

متن الخليل:
وَكَتَبَهُ، وإِنْ لَمْ يُجِبْ حُبِسَ، وأُدِّبَ، ثُمَّ حَكَمَ بِلا يَمِينٍ، ولِمُدَّعًى عَلَيْهِ السُّؤَالُ عَنِ السَّبَبِ، وقُبِلَ نِسْيَانه بِلا يَمِينٍ، وإِنْ أَنْكَرَ مَطْلُوبٌ الْمُعَامَلَةَ فَالْبَيِّنَةُ، ثُمَّ لا تُقْبَلُ بَيِّنَةٌ بِالْقَضَاءِ، بِخِلافِ لا حَقَّ لَكَ عَلَيَّ.
الشرح:
قوله: (وَكَتَبَهُ) أي: وكتب القاضي التعجيز.
قال فِي " المفيد": حقّ عَلَى القاضي أَن يكتب التعجيز ويشهد عَلَيْهِ.

متن الخليل:
وَكُلُّ دَعْوَى لا تَثْبُتُ إِلا بِعَدْلَيْنِ، فَلا يَمِينَ بِمُجَرَّدِهَا. ولا تُرَدُّ كَنِكَاحٍ، وأَمَرَ بِالصُّلْحِ ذَوِي الْفَضْلِ والرَّحِمِ كَأَنْ خَشِيَ تَفَاقُمَ الأَمْرِ، ولا يَحْكُمُ لِمَنْ لا يَشْهَدُ لَهُ عَلَى الْمُخْتَارِ، ونُبِذَ حُكْمُ جَائِرٍ، وجَاهِلٍ لَمْ يُشَاوِرْ، وإِلا تُعُقِّبَ، ومَضَى غَيْرُ الْجَوْرِ، ولا يُتَعَقَّبُ حُكْمُ الْعَدْلِ الْعَالِمِ.
الشرح:
قوله: (وَكُلُّ دَعْوَى لا تَثْبُتُ إِلا بِعَدْلَيْنِ، فَلا يَمِينَ بِمُجَرَّدِهَا. ولا تُرَدُّ) هذه عبارة ابن الحاجب.
قال ابن عبد السلام: فإن قلت: قوله: (وَلا ترد) زيادة مستغنىً عنها؛ لأن ردّ اليمين فرع عن توجيهها، فإذا لَمْ تتوجه لَمْ تردّ؟ قلت: الردّ الذي يستغني عن نفيه بنفي التوجه هو الذي يكون فِي جانب المدعى عَلَيْهِ، و قد يكون الرد من جانب المدعي إِلَى جانب المدعى عليه، كما إِذَا قام للمدعي شاهد فِي بعض هذه المسائل يعني كما قال بعد: (وَحلف بشاهدٍ فِي طلاق أوعتق).

متن الخليل:
وَنَقَضَ، وبَيَّنَ السَّبَبَ مُطْلَقاً مَا خَالَفَ قَاطِعاً، وجَلِيَّ قِيَاسٍ كَاسْتِسْعَاءِ مُعْتَقٍ، وشُفْعَةِ جَارٍ، وحُكْمٍ عَلَى عَدُوٍّ. وشَهَادَةِ كَافِرٍ، ومِيرَاثِ ذِي رَحِمٍ، أَوْ مَوْلًى أَسْفَلَ، أَوْ بِعِلْمٍ سَبَقَ مَجْلِسَهُ، أَوْ جَعْلِ بَتَّةٍ وَاحِدَةً، أَوْ أنّه قَصَدَ كَذَا فَأَخْطَأَ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ ظَهَرَ أنّه قَضَى بِعَبْدَيْنِ، أَوْ فَاسِقَيْنِ، أَوْ صَبِيَّيْنِ،أَوْ كَافِرَيْنِ كَأَحَدِهِمَا، إِلا بِمَالٍ فَلا يُرَدُّ، إِنْ حَلَفَ، وإِلا أُخِذَ مِنْهُ إِنْ حَلَفَ، وحَلَفَ فِي الْقِصَاصِ خَمْسِينَ مَعَ عَاصِبِهِ، وإِنْ نَكَلَ رُدَّتْ، وغَرِمَ شُهُودٌ عَلِمُوا، وإِلا فَعَلَى عَاقِلَةِ الإِمَامِ، وفِي الْقَطْعِ حَلَفَ الْمَقْطُوعُ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ. ونَقَضَهُ هُوَفَقَطْ، إِنْ ظَهَرَ أَنَّ غَيْرَهُ الأَصْوَبُ، أَوْ خَرَجَ عَنْ رَأْيِهِ، أَوْ رَأْيِ مُقَلِّدِهِ.
الشرح:
قوله: (وَنَقَضَ، وبَيَّنَ السَّبَبَ مُطْلَقاً) أي سواء كَانَ حكمه أَو حكم غيره بدليل قوله فِي قسيمه (وَنقضه هو فقط).

متن الخليل:
وَرَفَعَ الْخِلافَ.
الشرح:
قوله: (ورَفَعَ الْخِلافَ) قال القرافي فِي: الفرق السابع والسبعين: الخلاف يتقرر فِي مسائل الاجتهاد قبل حكم الحاكم، ويبطل الخلاف فيها ويتعين قول واحدٍ بعد حكم الحاكم، وهو مَا حكم بِهِ الحاكم قال أبو القاسم بن الشاط السبتي: مَا قاله يوهم أَن الخلاف يبطل مُطْلَقاً فِي المسألة التي تعلّق بها حكم الحاكم، وليس الأمر كَذَلِكَ بل الخلاف يبقى عَلَى حاله، إِلا أنّه إِذَا استفتى المخالف فِي عين تلك المسألة التي وقع الحكم فيها لا تسوغ له الفتوى فيها بعينها؛ لأنّه قد نفذ فيها الحكم بقولة قائل، ومضى العمل بها، فإذا استفتي فِي مثلها قبل أَن يقع فيها الحكم أفتى بمذهبه عَلَى أصله.
ثم قال القرافي: اعلم أَن حكم الحاكم فِي مسائل الاجتهاد يرفع الخلاف ويرجع المخالف عن مذهبه لمذهب الحاكم، وتتعين فتياه بعد الحكم عما كانت عَلَيْهِ عَلَى القول الصحيح من مذاهب العلماء، فمين لا يرى وقف المشاع إِذَا حكم حاكم بصحة وقفه ثم رفعت الواقعة لمن كَانَ يفتي ببطلانه نفذه وأمضاه، ولا يحلّ لَهُ بعد ذلك أَن يفتي ببطلانه.
وكَذَلِكَ إِن قال لَهَا: إِن تزوجتك فأنت طالق، فتزوجها وحكم حاكم بصحة هذا النكاح فالذي كَانَ يرى لزوم الطلاق لَهُ ينفذ هذا النكاح، ولا يحلّ لَهُ بعد ذلك أَن يفتي بالطلاق وهذا مذهب الجمهور، وهو مذهب مالك.
قال ابن الشاط: مَا قاله من أنّه إِذَا حكم حاكم بصحة وقف المشاع ثم رفعت الواقعة لمن كَانَ يفتي ببطلانه نفذه وأمضاه. لقائلٍ أَن يقول: لا ينفذه ولا يمضيه؛ ولكنه لا يرده ولا ينقضه وفرق بين كونه ينفذه ويمضيه وكونه لا يرده ولا ينقضه. انظر تمام كلامهما وبحث ابن الشاط. والثاني أقوى من الأول.
وقد كَانَ شيخنا الأستاذ أبو عبد الله الصغير ـ رحمه الله تعالى ـ يحكي عن شيخه أبي عبد الله العكرمي أنّه قال: قال ليّ الشيخ الصالح الزاهد الورع أبو حفص عمر الرجراجي: عَلَيْكَ بـ: "قواعد " القرافي ولا تقبل منها إِلا مَا قبله ابن الشاط.

متن الخليل:
لا أَحَلَّ حَرَاماً، ونَقْلُ مِلْكٍ، أَوْ فَسْخُ عَقْدٍ، أَو تَقَرُّرُ نِكَاحٍ بِلا وَلِيٍّ حُكْمٌ.
الشرح:
قوله: (لا أَحَلَّ حَرَاماً) فيه تنبيهان الأول: قال ابن عبد السلام: ولا فرق بين الفروج والأموال، ثم قال: وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وكثير من أهل المذهب فيما حكى عنهم أبو عمر: إنما ذلك فِي الأموال لا فِي الفروج". انتهى.
وهو تصحيف إما فِي نسخة ابن عبدالسلام من " الاستذكار " وإما فِي شرحه هو، والذي رأيته فِي نسخةٍ من " الاستذكار " عتيقة مقروءة مقابلة بأصل المؤلف: وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وكثير من أصحابهما: إنما ذلك فِي الأموال. فلفظ أصحابهما بضمير التثنية العائد عَلَى أبي حنيفة وأبي يوسف ولا يصح غيره.
ولا خلاف عند أهل المذهب أنّه لا فرق بين الأموال والفروج كما قطع بِهِ ابن رشد وابن عرفة وغيرهما، ولَمْ يتعقبه ابن عرفة عَلَى ابن عبد السلام، إما لسلامة نسخته من هذا التصحيف، أَو لكونه لَمْ يكمل كلامه بالقراءة. الثاني قال ابن الحاجب فِي تمثيله: كمن أقام شهود زور عَلَى نكاح امرأة، فحكم لَهُ به، وكَذَلِكَ لَو حكم الحنفي للمالكي بشفعة الجار، أما المثال الأول فظاهر، وأما الثاني فقال ابن عبد السلام يعني فأنّه لا يحلّ للمالكي الأخذ بهذه الشفعة؛ لأنّه يعتقد بطلان مَا حكم لَهُ بِهِ القاضي، فيعود الأمر فيه إِلَى مَا قبله، هكذا قالوا؛ وليس بالبيّن؛ لأن مَا تقدم الظاهر فيه مخالف لما فِي الباطن، ولَو علم القاضي بكذب الشهود لما حكم بهم إجماعاً، وفِي هذه الصورة القاضي والخصمان يعلمون من حال الباطن مَا يعلمون من حال الظاهر، والمسألة مختلف فيها، وحكم القاضي يرفع الخلاف فتنزل ذلك بعد ارتفاع الخلاف منزلة الإجماع، ومَا هذا سبيله يتناول الظاهر والباطن، والذي قلناه هو ظاهر كلام السيوري فِي بعض مسائله.
وعَلَى مَا قاله ابن الحاجب؛ لَو غصب الغاصب شيئاً فنقله لمكان الغصب وكَانَ مما اختلف فيه هل يفوت بنقله أم لا؟ فقضى القاضي لربه بأخذه، وكَانَ مذهب ربه أنّه يفوت وتجب فيه القيمة، فينبغي عَلَى هذا أَن لا يكون لربه التصرف فيه.
ابن عرفة: ظاهر قوله هكذا قالوا مَعَ عزوه مَا ظهر لَهُ من خلاف ذلك للسيوري أَن المذهب هو مَا قاله ابن الحاجب تبعاً لقول ابن شاس: إنما القضاء إظهار لحكم الشرع لا اختراع لَهُ، فلا يحلّ للمالكي شفعة الجوار إِن قضى لَهُ بها الحنفي، وليس كَذَلِكَ بل مقتضى المذهب خلافه.
قال المازري فِي ائتمام الشافعي بالمالكي وعكسه: الإجماع عَلَى صحته، واعتذر عن قول أشهب: أن من صلى خلف من لا يرى الوضوء من القُبْلة يعيد، وفِي كتاب الزكاة من "المدونة"إن لَمْ يبلغ حظ كل واحد من الخليطين مَا فيه الزكاة وفِي اجتماعهما مَا فيه الزكاة فلا زكاة عَلَيْهِمَا، فإن تعدى الساعي فأخذ من غنم أَحَدهمَا شاة فليترادا فيها عَلَى عدد غنمهما، فتحليله لمن أخذت الشاة من غنمه الرجوع عَلَى خليطه بمنابه منها نصّ فِي صحة عمل المحكوم عَلَيْهِ بلازم مَا حكم بِهِ الحاكم المخالف لمذهب المحكوم عَلَيْهِ، فأحرى إِذَا كَانَ نفس مَا حكم بِهِ له، ولا سيما عَلَى القول بأن كلّ مجتهدٍ مصيب.
ولا أعلم لابن شاس فيه مستنداً إِلا اتباع " وجيز " الغزالي، وهذا لا يجوز لَهُ. وأما المصنف فِي "التوضيح" فقال قول ابن الحاجب، وكَذَلِكَ لَو حكم الحنفي... إِلَى آخره، نقله ابن محرز عن ابن الماجشون فقال: إِن حكم القاضي باجتهاده بقولٍ شاذٍ، فذهب ابن الماجشون إِلَى فسخ حكمه، وذلك كالحكم بالشفعة للجار، ثم أشار إِلَى أَن استشكال ابن عبد السلام لما هنا كاستبعاد المازري؛ لقول ابن الماجشون بنقيض الحكم بشفعة الجار ونظائره المذكورة فِي المختصر قبل هذا، وفِي النفس من هذا شيء.
ومقتضى كلام ابن عرفة أَن التحليل والتحريم لا ينبني عَلَى إمضاء حكم القاضي ونقضه، فأنّه ذكر كل مسألة منهما فِي موضعها عَلَى حدتها، ولا إشارة لملازمة بينهما، فتأمله.

متن الخليل:
لا أُجِيزُهُ، أَوْ أَفْتَى.
الشرح:
قوله: (لا أُجِيزُهُ، أَوْ أَفْتَى) أصله قول ابن شاس: لَو رفع إليه نكاح امرأة زوجت نفسها بغير وليٍ؟ فقال: أنا لا أجيزه، ولم يحكم بفسخه، فهذا ليس بحكم ولكنه فتوى، فتبعه ابن الحاجب، وقال ابن عبد السلام: أنّه متفق عَلَيْهِ، ونحوه لابن هارون، فقال ابن عرفة: مقتضى جعله فتوى أَن لمن ولي بعده أَن ينقضه ضرورة أنّه لَمْ يحكم بِهِ الأول، والظاهر أنّه لا يجوز للثاني نقضه؛ لأن قول الأول حين رفع إليه: لا أجيزه ولا أفسخه حكم منه بأنّه مكروه، والكراهة أحد أقسام الشرع الخمسة يجب رعي كلّ حكم منها، ولازمه وحكم المكروه عدم نقضه بعد وقوعه؛ ولا سيّما عَلَى قول ابن القاسم فِي حكم الحاكم إِذَا كَانَ متعلقه تركاً. انتهى، فليتأمل.

متن الخليل:
وَلَمْ يَتَعَدَّ لِمُمَاثِلٍ، بَلْ إِنْ تَجَدَّدَ، فَالاجْتِهَادُ كَفَسْخٍ بِرِضَاعِ كَبِيرٍ، وتَأْبِيدِ مَنْكُوحَةِ عِدَّةٍ، وهِيَ كَغَيْرِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ ولا يَدْعُو لِصُلْحٍ، إِنْ ظَهَرَ وَجْهُهُ، ولا يَسْتَنِدُ لِعِلْمِهِ، إِلا فِي التَّعْدِيلِ والْجَرْحِ كَالشُّهْرَةِ بِذَلِكَ، أَوْ إِقْرَارِ الْخَصْمِ بِالْعَدَالَةِ، وإِنْ أَنْكَرَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ إِقْرَارَهُ بَعْدَهُ لَمْ يُفِدْهُ، وإِنْ شَهِدَا بِحُكْمٍ نَسِيَهُ أَوْ أَنْكَرَهُ أَمْضَاهُ.
الشرح:
قوله: (وَلَمْ يَتَعَدَّ لِمُمَاثِلٍ، بَلْ إِنْ تَجَدَّدَ، فَالاجْتِهَادُ كَفَسْخٍ بِرِضَاعِ كَبِيرٍ، وتَأْبِيدِ مَنْكُوحَةِ عِدَّةٍ، وهِيَ كَغَيْرِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ) هذان المثالان ذكرهما ابن شاس فقال: إِذَا رفع إِلَى قاضٍ رضاع كبير فحكم بأن رضاع الكبير يحرم وفسخ النكاح من أجله فالقدر الذي يثبت بحكمه هو فسخ النكاح فحسب وأما تحريمها عَلَيْهِ فِي المستقبل فأنّه لا يثبت بحكمه، بل يبقى ذلك معرضاً للاجتهاد فيه، وكَذَلِكَ لَو رفعت إليه حال امرأة نكحت فِي عدتها ففسخ نكاحها وحرمها عَلَى زوجها لكان القدر الذي ثبت من حكمه فسخ النكاح فحسب، وأما تحريمها فِي المستقبل فمعرّض للاجتهاد، وتبعه ابن الحاجب.
قال ابن عرفة: وقد قبلوه وهو صواب فِي مسألة المعتدة، وأما فِي رضاع الكبير فغير صحيح أَو فيه نظر وبيانه أَن علة منع حكم الثاني بِخِلاف حكم الأول، هو كون حكم الثاني رافعاً لمتعلق حكم الأول بالذات، وهذا لأنّه دار معه وجوداً وعدماً، أما وجوداً ففي أمثال حكم الحاكم الثاني بكون المبتاع الأول فيما باعه الآمر والمأمور أحق بالمبيع، ولَو قبضه المبتاع الثاني بعد حكم الحاكم الأول فإن قابضه أحقّ.
وأما عدماً ففي جواز حكم عمر وعلي ـ رضي الله تعالى ـ عنهما بِخِلاف مَا حكم بِهِ من قبلهما في قسم الفيء وتقرر فِي أصول الفقه اعتبار الدوران، إِذَا ثبت هذا ونظرنا وجدنا حكم الثاني فِي مسألة الناكح فِي العدة غير رافعٍ لنفس متعلق الحكم الأول؛ لأن متعلق حكمه بالذات الفسخ، والتحريم تابع لَهُ، فلم توجد علة منع حكم الثاني فيها، ووجدنا حكم الثاني فِي مسألة رضاع الكبير رافعاً لنفس متعلق حكم الحاكم الأول بالذات، وهو تحريم رضاع الكبير، وفسخ نكاح الكبير تابع لهذا المتعلق بالذات لا أنه متعلق حكمه بالذات، فيجب منع حكم الثاني عملاً بالعلة الموجبة لمنعه، فتأمله.

متن الخليل:
وَأَنْهَى لِغَيْرِهِ مُشَافَهَةً، إِنْ كَانَ كُلٌّ بِوِلايَتِهِ، وبِشَاهِدَيْنِ مُطْلَقاً. واعْتَمَدَ عَلَيْهِمَا، وإِنْ خَالَفَا كِتَابَهُ.
الشرح:
قوله: (وَأَنْهَى لِغَيْرِهِ مُشَافَهَةً، إِنْ كَانَ كُلٌّ بِوِلايَتِهِ) كذا لابن الحاجب تابعاً لابن شاس التابع لـ: "وجيز" الغزالي، وقبله ابن عبد السلام وابن هارون، فقال ابن عرفة: لا أعرف من جزم بِهِ من أهل المذهب؛ وإنما قال المازري: لا شكّ أَن ذكر القاضي ثبوت شهادة عنده عَلَى غائب ليس بقضية محضة، ولا نقل محض، بل هو مشوب بالأمرين، فينظر أولاهما بِهِ، ومما يتفرع عَلَى هذا أَن قاضيين لَو قضيا بمدينة عَلَى أَن كلّ واحد منهما ينفذ مَا ثبت عنده، فأخبر أَحَدهمَا الآخر أنّه ثبت عنده شهادة فلان وفلان لرجلين بالبلد وقضى بثبوتهما فإن قلنا: أنّه كنقل شهادة فلا يكتفي هذا القاضي المخاطب بأنهم شهدوا عند الآخر؛ لأن المنقول عنهم حضور، وإن قلنا: أنّه كقضية فالقاضي الثاني ينفذ مَا قاله الأول، وهذا قد يقال فيه أَيْضاً إِذَا قبلنا قول القاضي وحده، وإن كَانَ كالنقل يكتفى بِهِ لحرمة القضاء، فكذا يصحّ نقله وإن كَانَ من نقل عنه حاضراً فهذا مما ينظر فيه، وذكر ابن عرفة بعده إلزاماً وانفصالاً، فقف عَلَيْهِ.

متن الخليل:
وَنُدِبَ خَتْمُهُ، ولَمْ يُفِدْ وَحْدَهُ، وأَدَّيَا، وإِنْ عِنْدَ غَيْرِهِ، وأَفَادَ، إِنْ أَشْهَدَهُمَا أَنَّ مَا فِيهِ حُكْمُهُ، أَوْ خَطُّهُ كَالإِقْرَارِ ومَيَّزَ فِيهِ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ مِنَ اسْمٍ وحِرْفَةٍ وغَيْرِهِمَا.
الشرح:
قوله: (وَنُدِبَ خَتْمُهُ، ولَمْ يُفِدْ وَحْدَهُ) أي: ولَمْ يفد الختم أَو الكتاب دون الشاهدين.
قال ابن عرفة: ولما كانت نصوص الروايات واضحة بلغوا ثبوت كتاب القاضي بمجرد الشهادة عَلَى خطه.
قال ابن المناصف: اتفق أهل عصرنا فِي البلاد التي ينتهي إليها أمرنا عَلَى قبول كتب القضاة فِي الأحكام والحقوق بمجرد معرفة خطّ القاضي دون إشهاده عَلَى ذلك، ولا خاتم معروف، ولا يستطيع أحد فيما أظن صرفهم عنه؛ مَعَ أني لا أعلم خلافاً فِي مذهب مالك أَن كتاب القاضي لا يجوز بمجرد معرفة خطه، بل قولهم فِي القاضي يجد فِي ديوانه حكماً بخطه، وهو لا يذكر أنّه حكم بِهِ أنّه لا يجوز لَهُ إنفاذه إِلا أَن يشهد عنده بذلك الحكم شاهدان، وكذا إِن وجده من ولي بعده، وثبت أنّه خطّ الأول فأنّه لا يعمل بِهِ، ولا يتخرج القول بعمله بما يتقنه من خطه دون ذكر حكمه بِهِ من الخلاف فِي الشاهد يتيقن خطه بالشهادة بالحقّ، ولا يذكر موطنها لعذر الشاهد، إذ مَا عمله هو مقدور كسبه، والقاضي كَانَ قادراً عَلَى إشهادة عَلَى حكمه ثم وجه عمل الناس بأن الظن الحاصل بأنّه كتاب القاضي الباعث بِهِ حصوله بالشهادة عَلَى خطه منضماً للشهود، وهو القول بجواز الشهادة عَلَى خطّ الغير حسبما تقرر فِي المذهب لوجوب كون هذا الظنّ كالظن الناشيء عن ثبوته ببينة عَلَى أنّه كتابه لضرورة دفع مشقة مجيء البينة مَعَ الكتاب، مَعَ انتشار الخطة وبعد المسافة.
ابن عرفة: فإن قيل: تندفع المشقة بإشهاد القاضي عَلَى كتابه ببينة يشهد عَلَى خطها فِي بلد المكتوب إليه كما يفعله كثير من أهل الزمان لنكتة تذكر بعد؟
قلت: ثبوته بالشهادة عَلَى خط القاضي أقوى من ثبوته بالشهادة عَلَى خطّ البينة بشهادتهما عَلَى القاضي؛ لأن ثبوته بالشهادة عَلَى خطّ القاضي مآله توقفه عَلَى مجرد الشهادة عَلَى الخطّ فقط، وثبوته بالشهادة عَلَى خط البينة مآله توقف الشهادة عَلَى الخطّ مَعَ شهادة البينة عَلَى القاضي، ومَا توقف عَلَى أمر واحد فقط أقوى مما يتوقف عَلَيْهِ مَعَ غيره لتطرق احتمال وهن ذلك الغير، لاحتمال فسق البينة، أَو رقها فِي نفس الأمر قال: وإذا ثبت وجه العمل بذلك فإن ثبت خطّ القاضي ببينة عادلة عارفة بالخطوط وجب العمل بِهِ، وإِن لَمْ تقم بينة بذلك والقاضي المكتوب إليه يعرف خطّ القاضي الكاتب إليه فجائز عندي قبوله بمعرفة خطّه.
وقبول سحنون كتب أمنائه بلا بينة يدل عَلَى ذلك، وليس ذلك من باب قضاء القاضي بعلمه الذي لا يجوز لَهُ القضاء بِهِ؛ لأن ورود كتاب القاضي عَلَيْهِ بذلك الحقّ كقيام بينة عنده بذلك فقبوله الكتاب بما عرف من خطه كقبوله بينة بما عرف من عدالتهما، ويحتمل أَن يقال: لابد من الشهادة عنده عَلَى خطه.
قال ابن عرفة: ونحوه قول ابن سهل: إِن أثنى بخير عَلَى شهيدي كتاب القاضي، وإِن لَمْ يكن تعديلاً بيّناً، أَو زكى أَحَدهمَا وتوسم فيهما صلاح وخطه وختمه يعرفه المكتوب إليه استحسن إنفاذه لعمل صدر الأمة بإجازة الخاتم.
ومنه خطاب ابن شماخ بكتابٍ أدرج فيه كتاب عيسى بن عتبة فقيه مكناسة، انظر تمامه فِي نوازل ابن سهل.
قال ابن المناصف: ويجب عَلَى القاضي الذي ثبت عنده كتاب قاضٍ إليه فِي حقٍ يتأخر الحكم فيه - أَن يشهد عَلَى نفسه بثبوت ذلك الكتاب عنده الذي قبله بمعرفته خطه؛ لأنّه إِن لَمْ يفعل ذلك، واتفق أَن مات أَو عزل، وقد مات الذي كتبه لَهُ أَو عزل وخلف مكان المكتوب إليه قاضٍ آخر ألجأ صاحب الحقّ لإثبات ذلك الكتاب عنده بشهود عَلَى القاضي الذي كتبه فِي حين ولايته أنّه كتابه، إذ لا يكتفى فِي ذلك بمعرفة الخطّ إِن كَانَ الذي كتبه مات أَو عزل؛ لما نبينه، وهو أَن ثبوت كتابه بمجرد الشهادة عَلَى خطه كمشافهته بسماع نطقه بذلك وسماع ذلك منه، إنما يعتبر فِي ولايته وأما بعد عزله فلا.
لما فِي "المدونة"وَغيرها: أنّه إذا مات القاضي أَو عزل وفِي ديوانه شهادة البينات وعدالتها لَمْ ينظر فيه من ولي بعده، ولَمْ يجزه إِلا أَن تقوم عَلَيْهِ بينة، وإِن قال المعزول: قد شهدت بِهِ البينة عندي لَمْ يقبل قوله ولا يكون نزاع كثير؛ لأنهم حملوا مَا وقع لمالك وغيره فِي قبول كتب القضاة ماتوا أَو عزلوا عَلَى إطلاقه، وتوهموا ذلك فِي مثل مَا عهدوه، ووقع التساهل فيه من ترك إشهاد القضاة عَلَى كتبهم، والاجتزاء بمعرفة الخطّ.
ابن عرفة: ونزلت هذه المسألة عام خمسين وسبعمائة من هذا القرن الثامن، وقت نزول الطاعون الأعظم، أيام أمير المؤمنين أبي الحسن المريني، فِي خطاب ورد من مدينة فاس لتونس، فوصل خطاب قاضي فاس وقد تقرر علم موته بتونس، فطرح خطابه، فشكى من وصل بِهِ إِلَى أمير المؤمنين، فسأل إمامه ومفتيه شيخنا أبا عبد الله السطي ـ وكان حافظاً ـ فأفتى بإعمال خطابه، واحتج بنحو مَا ذكر ابن المناصف عن من نازعه، فوقفه أصحابنا عَلَى كلام ابن المناصف هذا، فرجع إليه، فظهر أنّه لَمْ يكن لَهُ بِهِ شعور.

متن الخليل:
فَنَفَّذَهُ الثَّانِي، وبَنَى كَأَنْ نُقِلَ لِخُطَّةٍ أُخْرَى وإِنْ حَدَّاً، إِنْ كَانَ أَهْلاً أَوْ قَاضِيَ مِصْرٍ، وإِلا فَلا كَأَنْ شَارَكَهُ غَيْرُهُ، وإِنْ مَيِّتاً، وإِنْ لَمْ يُمَيِّزْ فَفِي إِعْدَائِهِ أَوْ لا حَتَّى يُثْبِتَ أَحَدِيَّتَهُ قَوْلانِ، والْقَرِيبُ كَالْحَاضِرِ، والْبَعِيدُ جِدَّاً كَإِفْرِيقِيَّةَ، يُقْضَى عَلَيْهِ بِيَمِينِ الْقَضَاءِ، وسَمَّى الشُّهُودَ، وإِلا نُقِضَ.
الشرح:
قوله: (كَأَنْ نُقِلَ لِخُطَّةٍ أُخْرَى) ابن سهل: سألت ابن عات عن حاكمٍ من صاحب شرطة أَو غيره، يرتفع إِلَى خطة القضاء، هل يستأنف النظر فيما وقع بين يديه من الأحكام ولم يكملها؟ أَو يصل نظره فيها، ويكمل عَلَى مَا مضى لَهُ؟ قال: يبني عَلَى مَا مضى.

متن الخليل:
وَالْعَشَرَةُ أَوِ الْيَوْمَانِ مَعَ الْخَوْفِ يُقْضَى عَلَيْهِ مَعَهَا فِي غَيْرِ اسْتِحْقَاقِ الْعَقَارِ، وحَكَمَ بِمَا يَتَمَيَّزُ غَائِباً بِالصِّفَةِ كَدَيْنٍ وجَلَبَ الْخَصْمَ، بِخَاتَمٍ، أَوْ رَسُولٍ، إِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْعَدْوَى، لا أَكْثَرَ كَسِتِّينَ مِيلاً، إِلا بِشَاهِدٍ، ولا يُزَوِّجُ امْرَأَةً لَيْسَتْ بِوِلايَتِهِ. وهَلْ يُدَّعَى حَيْثُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وبِهِ عُمِلَ؟ أَوِ الْمُدَّعَى وأُقِيمَ مِنْهَا وفِي تَمْكِينِ الدَّعْوَى لِغَائِبٍ بِلا وَكَالَةٍ؟ تَرَدُّدٌ.
الشرح:
قوله: (وَالْعَشَرَةُ أَوِ الْيَوْمَانِ مَعَ الْخَوْفِ يُقْضَى عَلَيْهِ مَعَهَا) (مَعَ الخوف) قيد فِي (اليومين) لا فِي (الْعَشَرَةُ)، وضمير (مَعَهَا) لليمين. وبالله تعالى التوفيق.

.باب الشهادة:

أقول ـ وبالله تعالى التوفيق ـ ذكر القرافي فِي الفرق الأول من قواعده أنّه أقام نحو ثماني سنين يطلب الفرق بين الشهادة والرواية، إِلَى أَن ظفر بقول المازري فِي " شرح البرهان": "هما خبران، غير أَن المخبر عنه إِن كَانَ أمراً عاماً لا يختصّ بمعين فهو الرواية؛ كقوله عَلَيْهِ السلام: «الأعمال بالنيات» أَو الشفعة فيما لم ينقسم لا يختصّ بشخصٍ معين بل ذلك عَلَى جميع الخلق فِي جميع الأعصار والأمصار، بِخِلاف قول العدل عند الحاكم: لهذا عند هذا دينار، إلزام لمعين لا يتعداه لغيره فهذا شأن الشهادة المحضة، والأول هو الرواية المحضة. ثمّ تجتمع الشوائب بعد ذلك. فناقشه أبو القاسم ابن الشاط السبتي وابن عرفة وبعض شيوخ بلده، فأما ابن الشاط فقال: لَمْ يقتصر الإمام فِي مفتتح كلامه الذي نقل منه الشهاب على التفريق بالعموم والخصوص، ولكنّه ذكر مَعَ الخصوص قيداً آخر وهو إمكان الترافع إِلَى الحكام والتخاصم وطلب فصل القضاء، ثم اقتصر فِي مختتم كلامه عَلَى ذكر الخصوص والعموم، والأَصَحّ اعتبار القيد المذكور، ويتضح ذلك بتقسيم حاصر وهو أَن الخبر إما أَن يقصد بِهِ أَن يترتب عَلَيْهِ فصل قضاءٍ وإبرام حكم وإمضاؤه، أَو لا؟ فإن قصد بِهِ ذلك فهو الشهادة وإِن لَمْ يقصد بِهِ ذلك، فإما أَن يقصد بِهِ تعريف دليل حكم شرعي أَو لا، فإن قصد بِهِ ذلك فهي الرواية، وإِلا فهو سائر أنواع الخبر.
وأما ابن عرفة فقال: مَا ارتضاه القرافي واتبع فيه المازري من أَن الشهادة هي الخبر المتعلق بجزئي، والرواية: الخبر المتعلّق بكلّي، يردّ بأن الرواية تتعلّق بالجزئي كثيراً كحديث قوله صلى الله عَلَيْهِ وسلم «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة»، وحديث تميم الداري فِي السفينة التي لعب البحر بهم فيها حتى ألقتهم بجزيرة، ووجدوا فيها الرجل المفسّر بالدجال إِلَى غير ذلك من الأحاديث المتعلقة بأمور جزئية؛ ولأجل هذا تجدهم يقولون: اختلف فِي القضايا العينية هل تعم أَو لا؟ وكآية: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1]... ونحوها كثير.
وأما بعض شيوخ تونس فقال عَلَى مَا حكى عنه ابن عرفة: كيف يقيم مدة يطلب الفرق بينهما؟!، وهو مذكور فِي أيسر الكتب المتداولة بين المبتدئين وهو: "تنبيه " ابن بشير إذ قال فِي كتاب الصيام منه: لما كَانَ القياس عند المتأخرين رد ثبوت الإهلال لباب الأخبار، إذ رأوا أَن الفرق بين باب الخبر وباب الشهادة: أَن كلّ مَا خصّ المشهود عَلَيْهِ فبابه باب الشهادة، وكل مَا عمّ فلزم القائل منه مَا يلزم المقول، فبابه باب الأخبار جعلوا فِي المذهب قوله بقبول خبر الواحد فِي الهلال، ولا نجده إلا فِي النقل عما يثبت عند الإمام، وكذا كَانَ يتعقّب عَلَيْهِ حكايته عن نفسه مثل ذلك فِي الفرق بين علم الجنس وعلم الشخص، مَعَ أنّه مذكور فِي " الجزولية". انتهى.
فقف عَلَى بقية هذه النقول فِي أماكنها وتأملها، وقف عَلَى مَا ذكرنا في علم الجنس فِي كتابنا المسمى بإتحاف ذوي الاستحقاق ببعض مراد المرادي وزوائد أبي إسحاق".

متن الخليل:
كتاب الشهادة
الْعَدْلُ حُرٌّ، مُسْلِمٌ، عَاقِلٌ، بَالِغٌ بِلا فِسْقٍ وحَجْرٍ وبِدْعَةٍ، وإِنْ تَأَوَّلَ كَخَارِجِيٍّ، وقَدَرِيٍّ. لَمْ يُبَاشِرْ كَبِيرَةً، أَوْ كَثِيرَ كَذِبٍ، أَوْ صَغِيرَةَ خِسَّةٍ وسَفَاهَةٍ، ولَعِبَ نَرْدٍ.
الشرح:
قوله: (وَإِنْ تَأَوَّلَ كَخَارِجِيٍّ، وقَدَرِيٍّ) أحرى إِذَا تعمد أَو جهل، فهو كقول ابن الحاجب: ولا يعذر بجهلٍ ولا تأويل كالقدري والخارجي.
قال فِي توضيحه تبعاً لابن عبد السلام: يحتمل أَن يكون القدري مثالاً للجاهل؛ لأن أكثر شبههم عقلية، والخطأ فيها يسمى جهلاً، والخارجي مثالاً للمتأول؛ لأن شبههم سمعية، والخطأ فيها يسمى تأويلا، ويحتمل أَن يريد بالجاهل: المقلد من الفريقين، وبالمتأول المجتهد منهما.

متن الخليل:
ذُو مُرُوءَةٍ.
الشرح:
قوله: (ذُو مُرُوءَةٍ) نعت لحرّ أَو خبر عن العدل.

متن الخليل:
بِتَرْكِ غَيْرِ لائِقٍ. مِنْ حَمَامٍ، وسَمَاعِ غِنَاءٍ.
الشرح:
قوله: (بِتَرْكِ غَيْرِ لائِقٍ. مِنْ حَمَامٍ) كذا أطلق فِي الحمام فِي كتاب القطع، وقيده آخر كتاب الرجم بما إِذَا قامر عَلَيْهَا.

متن الخليل:
وحِرْفَةٍ دَنِيّةٍ ودِبَاغَةٍ، وحِيَاكَةٍ اخْتِيَاراً.
الشرح:
قوله: (وَحِرْفَةٍ دَنِيّةٍ ودِبَاغَةٍ، وحِيَاكَةٍ) اختياراً أشار بِهِ لقول ابن محرز: لا تردّ شهادة ذوي الحرف الدنية كالكناس والدباغ والحجّام والحائك إِلا ممن رضيها اختياراً ممن لا تليق بِهِ؛ لأنها تدل عَلَى خبلٍ فِي عقله، وعنه نقلها ابن شاس، وعَلَيْهِ اقتصر ابن عرفة فِي " مختصره"، ونقل عنه البرزلي أنّه كَانَ يقول: الحياكة بحسب البلدان، وهي فِي إقليم إفريقية من الصناعات الرفيعة يستعملها وجوه الناس.
قال ابن عبد السلام: وقد ألحق بعض الفضلاء من أهل المذهب وبعض الأئمة خارج المذهب بمن اضطر إِلَى هذه الحرف من قصد باستعمالها، كسر نفسه، ومباعدتها من الكبر، وتخليقها بأخلاق الفضلاء، كما قد اشتهر ذلك عن جماعة.

متن الخليل:
وَإِدَامَةِ شِطْرَنْج، وإِنْ أَعْمَى فِي قَوْلٍ، أَوْ أَصَمَّ فِي فِعْلٍ،لَيْسَ بِمُغَفَّلٍ، إِلا فِيمَا لا يَلْبِسُ، ولا مُتَأَكِّدِ الْقُرْبِ. كَأَبٍ، وإِنْ عَلا،أَوْ أُمٍّ وزَوْجِهِمَا ووَلَدٍ، وإِنْ سَفَلَ. كَبِنْتٍ وزَوْجِهِمَا وشَهَادَةُ ابْنٍ مَعَ أَبٍ، وَاحِدَةٌ كَكُلٍّ عِنْدَ الآخَرِ، وعَلَى شَهَادَتِهِ، أَوْ حُكْمِهِ، بِخِلافِ أَخٍ لأَخٍ، إِنْ بَرَّزَ، ولَوْ بِتَعْدِيلٍ، وتُؤُوِّلَتْ أَيْضاً بِخِلافِهِ. كَأَجِيرٍ، ومَوْلًى، ومُلاطِفٍ، ومُفَاوِضٍ فِي غَيْرِ مُفَاوَضَةٍ، وزَائِدٍ أَوْ نَاقِصٍ، وذَاكِرٍ بَعْدَ شَكٍّ.
الشرح:
قوله: (وَإِدَامَةِ شِطْرَنْج) قال أبو عبد الله بن هشام اللخمي فِي " لحن العامّة "
ويقولون: شَطرنج بفتح الشين، وحكى ابن جني أن الصواب: كسرها ليكون عَلَى بناء جِردْحل، وذكر قبل ذلك أنّه يقال: بالشين والسين؛ لأنّه إما مشتقٌ من المشاطرة أَو التسطير، وقيّده هنا بالإدامة تعويلاً عَلَى قوله أول شهادات "المدونة": ومن أدمن اللعب بالشطرنج لَمْ تجز شهادته، وإِن كَانَ إنما هو المرّة بعد المرّة فشهادته جائزة إِن كَانَ عدلاً.
وكره مالك اللعب بها، وإن قلّ.
وقال هي أشد من النرد.
قال الأبهري فِي تعليل هذا: لأنّه لا يسلم الإنسان من يسير لهو، وقد قال بعض الشعراء:
أفد طبعك المكدود بالجد ** راحة يجم وعلله بشيءٍ من المزح

ولكن إِذَا أعطيته المزح فليكن ** بمقدار ما يعطى الطعام من الملح

وفِي النكت ذكر عن أحمد بن نصر: إِذَا لعب بها فِي السنة أكثر من مرة فقد صار مدمنا.
فرعان:
الأول: قال ابن عرفة لا تجوز شهادة من يشتغل بمطلق علم الكيميا، وأفتى الشيخ الفقيه الصالح أبو الحسن المنتصر بمنع إمامته. انتهى.
ورجّح أبو زيد ابن خلدون أنها عَلَى تقدير صحة وجودها، فانقلاب الأعيان فيها من السحر يأت لا من الطيبات وإنهم يظهرون بألغازهم الظنانة بها، وإنما قصدهم التستر من حملة الشريعة.
الثاني: فِي سماع عيسى: الفرار من الزحف من الضعف جرحة، ومن علمت توبته منه وظهرت قبلت شهادته وإِلا ردّت، والضعف فِي العدد كما قال الله تعالى.
قال ابن رشد: هو كبيرة، وقال بعض الناس: ليس بكبيرة.
قال ابن عرفة: تحقيق توبته عسير؛ لأنها لا تعرف إِلا بتكرر جهاده وعدم فراره فيه، وانظر هل الفرار من الضعف جرحة مُطْلَقاً أَو مالم يكن ممن صار العدو فِي حقّه أكثر من الضعف بفرار من فرّ من الضِعف، وهذا هو المظنون اعتقاده فِي بعض من فرّ فِي هزيمة أبي الحسن المريني فِي وقعة طريف من الفقهاء الذين كانوا معه كشيخنا أبي عبد الله السطّي.

متن الخليل:
وَتَزْكِيَةٍ وإِنْ بِحَدٍّ.
الشرح:
قوله: (و إِنْ بِحَدٍّ) الذي للمتيطي عن الباجي: التعديل يجوز فِي كل شيء فِي الدماء وغيرها.
وقال أحمد بن عبد الملك لا تكون عدالة فِي الدماء، وليس يقضى به، وما تقدم أولى، وقاله مالك فِي كتاب: الديات من "المدونة". وقبله ابن عرفة، ووهم من نقله بزيادة الحدود، فلو قال: ولَو بدم، لكان أولى.

متن الخليل:
مِنْ مَعْرُوفٍ إِلا الْغَرِيبَ بِأَشْهَدُ أنّه عَدْلٌ رِضاً مِنْ فَطِنٍ عَارِفٍ لا يُخْدَعُ، مُعْتَمِدٍ عَلَى طُولِ عِشْرَةٍ.
الشرح:
قوله: (مِنْ مَعْرُوفٍ إِلا الْغَرِيبَ) أشار بِهِ لقوله فِي كتاب اللقطة من "المدونة": وإِن شهد قوم عَلَى حق فعدّلهم قوم غير معروفين فعدل المعدّلين آخرون، فإن كَانَ الشهود غرباء جَازَ ذلك وإِن كانوا من أهل البلد لَمْ يجز ذلك؛ لأن القاضي لا يقبل عدالةً عَلَى عدالة إِذَا كانوا من أهل البلد حتى تكون العدالة عَلَى الشهود أنفسهم عند القاضي.

متن الخليل:
لا سَمَاعٍ.
الشرح:
قوله: (لا سَمَاعٍ) هو كقول ابن الحاجب: لا بالتسامع.

متن الخليل:
مِنْ سُوقِهِ، أَوْ مَحَلَّتِهِ، إِلا لِتَعَذُّرٍ ووَجَبَتْ، إِنْ تَعَيَّنَ كَجَرْحٍ، إِنْ بَطَلَ حَقٌّ، ونُدِبَ تَزْكِيَةُ سِرٍّ مَعَهَا مِنْ مُتَعَدِّدٍ.
الشرح:
قوله: (مِنْ سُوقِهِ، أَوْ مَحَلَّتِهِ، إِلا لِتَعَذُّرٍ) ليس المجرور متعلقاً بـ (سماع)، وإنما هو من صفات تزكية بحذف مضاف أي: من أهل سوقه أو محلته، وكأنّه قال: وتزكية حاصلة من معروف حاصلة من فطن حاصلة من أهل سوقه أَو محلته، وأشار بِهِ لما ذكر اللخمي: أنّه يقبل تعديله من جيرانه وأهل سوقه ومحلته لا من غيرهم؛ لأن وقوفهم عن تعديله مَعَ كونهم أقعد بِهِ ريبة فِي تعديله، فإن لَمْ يكن فيهم عدل قبل من سائر بلده.
وقال المتيطي ما نصّه: ولا يُزكِّي الشاهد إِلا أهل مسجده وسوقه وجيرانه، إِلا أن يكون مشهوراً بالعدالة، ورواه أشهب عن مالك، وبِهِ قال مطرف وابن الماجشون.
قال ابن عبد الحكم وأصبغ: أو يكون من قومٍ مبرزين فِي العدالة. انتهى.
فانظره هل معناه أَو يكون التعديل من قومٍ مبرزين، وقد وقع فِي عبارة "التوضيح" قالوا: إِلا أن يكون معدلوه أهل برازة فِي العدالة والفضل.
وفِي بعض النسخ: إِلا المبرز عوضاً من قوله: (إِلا لتعذر)، وكأنّه إشارة لقولهم: إِلا أن يكون مشهوراً بالعدالة، أَو لقولهم إِلا أن يكون معدلوه أهل برازة. فتأمله.
فائدة:
قال ابن عرفة: لما ملك الأمير أبو الحسن المريني إفريقية قدم تونس، فوجد الشيخ الفقيه ابن عبد السلام قدّم شهوداً بتونس لَمْ يمض لتقديمهم إِلا عدة أشهر، فذكر له بعض من وثق بكلامه: ما أوجب أن أمر القاضي المذكور بوقفهم في أمام الجامع الأعظم، فأنّه قدم فيهم لغرض فوقفهم، وطال وقفهم نحو عام حتى سعى بعضهم عَلَى يد من كَانَ يتكرر للشيخ أبي عبد الله السطي في أن يكلّم السلطان، عسى أن يفوض للقاضي فِي ردّ من شاء منهم، وكَانَ الساعي وعد الواسطة بأن يقدم معه إِذَا وقع التفويض، فلما كلّم الشيخ السطي السلطان، وفوض الشيخ ابن عبد السلام قدم ولده والساعي ومن شاء، ولَمْ يقدم الواسطة، فبعث الشيخ السطي إِلَى الساعي وكلّمه فِي توفيته بما وعد بِهِ الواسطة، وأن يكلّم عنه الشيخ ابن عبد السلام فِي تقديمه، فأتاه عنه، وقال له: يقول لكم: إِن ارتهنتم فيه قدمته.
وكانت أسباب الحرج؛ إذ نالت الشيخ السطي تصدر عنه شديدة، فأجابه بجواب اللائق من ذكره أنّه قال له: قل له: هذا منك غفلة أَو استغفال؛ أما تعلم أن المنصوص أنّه إنما يعدل الرجل أهل محلته وجيرانه، وذكر ما تقدم من نقل اللخمي والمتيطي، وقال له: هذا الذي طلبت مني تعديله أنت عالم بأن معرفتي بِهِ حديثة لمدة يسيرة، وليس من بلدي وهو قاطن معك، مخالط لك كمخالطة غيره ممن قدمته، فلم يستطع أن يردّ إليه جواباً؛ لأن القول بالعلم لا يردّه ذو ديانة أنصف.

متن الخليل:
وَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الاسْمَ، أَوْ لَمْ يَذْكُرِ السَّبَبَ.
الشرح:
قوله: (وَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الاسْمَ) كذا فِي النوادر عن ابن سحنون عن أبيه: أن من عدّل رجلاً لَمْ يعرف اسمه قبل تعديله، وجعله ابن عرفة كالمنافي لقول سحنون فِي نوازله: لا ينبغي لأحدٍ أن يزكّي رجلاً إِلا رجلاً قد خالطه فِي الأخذ والإعطاء، وسافر معه ورافقه؛ ولقول اللخمي عن ابن المواز: لا يزكيه حتى تطول المخالطة فيعلم باطنه كما يعلم ظاهره، قال: يريد يعلم باطنه فِي غالب الأمر لا أنّه يقطع بذلك.
قال ابن عرفة: وانظر قبول سحنون تزكية من لَمْ يعرف اسمه مَعَ تعقب بعض أهل الزمان تزكية الشاهد بعض العوام مَعَ شهادته عَلَيْهِ بالتعريف بعد تزكيته إياه أَو قبلها بقريب. انتهى.
والذي فِي أصل المتيطي: وتجوز تزكية من لا يعرف اسمه إِذَا كَانَ مشهوراً بكنيته أو لقبٍ لا يعز عَلَيْهِ ذكره، وربّ رجلٍ مشهور بكنيته لا يعرف له اسم، وهذا أشهب ابن عبد العزيز لا يكاد أكثر الناس يعرف اسمه: مسكين، وسحنون بن سعيد اسمه عبد السلام، وقد غلب عَلَيْهِ سحنون فِي حياته وبعد وفاته، وبِهِ كَانَ يخاطب عن نفسه.

متن الخليل:
بِخِلافِ الْجَرْحِ، وهُوَالْمُقَدَّمُ، وإِنْ شَهِدَ ثَانِياً فَفِي الاكْتِفَاءِ بِالتَّزْكِيَةِ الأُولَى تَرَدُّدٌ. وبِخِلافِهَا لأَحَدِ وَلَدَيْهِ عَلَى الآخَرِ، أَوْ أَبَوَيْهِ.
الشرح:
قوله: (بِخِلافِ الْجَرْحِ) بفتح الجيم. فِي نوازل ابن الحاجّ: سئل مالك عن الذي يسأله القاضي عن حال الشاهد فيخبره ببعض ما يكون فيه الحدّ؟ فقال: إِذَا كَانَ القاضي هو الذي سأله فكشف عن الشاهد فليس عَلَى المخبر شيء.

متن الخليل:
إِنْ لَمْ يَظْهَرْ مَيْلٌ لَهُ.
الشرح:
قوله: (إِنْ لَمْ يَظْهَرْ مَيْلٌ لَهُ) ينطبق عَلَى الصورتين قبله كما عند ابن الحاجب، وقد صرّح بذلك ابن محرز.

متن الخليل:
وَلا عَدُوٌّ عَلَى عَدُوِّهِ.
الشرح:
قوله: (وَلا عَدُوٌّ) قال ابن عات عن الاستغناء: قال الشعباني: تقبل شهادة القراء فِي كلّ شيء إِلا شهادة بعضهم عَلَى بعض؛ لتحاسدهم كالضرائر، والحسود ظالم لا تقبل شهادته عَلَى من يحسده.
وقال المتيطي فِي المبسوطة عن ابن وهب: لا تجوز شهادة القاريء عَلَى القاريء، يعني العلماء؛ لأنهم أشدّ الناس تحاسداً، وقاله سفيان الثوري ومالك ابن دينار.
ابن عرفة، العمل عَلَى خلاف هذا، وشهادة ذوي القبول منهم مقبولة كغيرهم، ولعلّ قول ابن وهب فيمن ثبت التحاسد بينهم. انتهى.
وسيقول المصنف: (وَلا عالم عَلَى مثله).

متن الخليل:
وَلَوْ عَلَى ابْنِهِ.
الشرح:
قوله: (وَلَوْ عَلَى ابْنِهِ) هذا قول ابن القاسم فِي سماع عيسى، وزاد: ولَو كَانَ مثل ابن شريح وسليمان بن القاسم.
ابن عرفة: عبد الرحمن بن شريح أبو شريح المعافري، وسليمان ابن القاسم من أشياخ عبد الرحمن بن القاسم.

متن الخليل:
أَوْ مُسْلِمٍ وكَافِرٍ.
الشرح:
قوله: (أَوْ مُسْلِمٍ وكَافِرٍ) هو فِي حيّز الإغياء وكأنّه قال: ولَو طرأت العداوة الدنيوية بين مسلمٍ وكافر.

متن الخليل:
وَلْيُخْبِرْ بِهَا كَقَوْلِهِ بَعْدَهَا تَشْتُمُنِي أَوْ تُشَبِّهُنِي بِالْمَجَنونِ مُخَاصِماً، لا شَاكِياً.
الشرح:
قوله: (وَلْيُخْبِرْ بِهَا كَقَوْلِهِ بَعْدَهَا تَشْتُمُنِي أَوْ تُشَبِّهُنِي بِالْمَجَنونِ مُخَاصِماً، لا شَاكِياً) كذا هو فِي نوازل أصبغ من الشهادات، تشتمني من باب الشتم لا تتهمني من باب التهمة، وقال فيه: أنّه لا يقدح، وحكى ابن رشد عنه أنّه فصل فِي الثمانية بين المخاصم والشاكي، وحكى عن ابن الماجشون أنّه قادح، واستظهره، وكلام المصنف فِي "التوضيح" يدل أنّه لَمْ يقف عَلَى نقل ابن رشد هذا.

متن الخليل:
وَاعْتَمَدَ فِي إِعْسَارٍ بِصُحْبَتِهِ، وقَرِينَةِ صَبْرِ ضَرٍّ كَضَرَرِ الزَّوْجَيْنِ.
الشرح:
قوله: (وَاعْتَمَدَ فِي إِعْسَارٍ بِصُحْبَتِهِ) أي مخالطة، وهي عبارة المازري، وفي بعض النسخ بمحنة أي: بامتحان، وهو كقول ابن شاس وابن الحاجب: بالخبرة الباطنة، وعَلَى كلّ حال فهذه طريقة المازري، وعند ابن عرفة احتمال فِي رجوع طريقة ابن رشد فِي المقدمات إليها.

متن الخليل:
وَلا إِنْ حَرَصَ عَلَى إِزَالَةِ نَقْصٍ فِيمَا رُدَّ فِيهِ بِفِسْقٍ أَوْ صِباً، أَوْ رِقٍّ، أَوْ عَلَى التَّأَسِّي كَشَهَادَةِ وَلَدِ الزِّنَا فِيهِ.
الشرح:
قوله: (وَلا إِنْ حَرَصَ عَلَى إِزَالَةِ نَقْصٍ فِيمَا رُدَّ فِيهِ بفِسْقٍ أَوْ صِباً، أَوْ رِقٍّ) شمل الفسق فسق الكفر وفسق المعصية، وقد صرّح غيره بهما.

متن الخليل:
أَوْ مَنْ حُدَّ فِيمَا حُدَّ فِيهِ، ولا إِنْ حَرَصَ عَلَى الْقَبُولِ كَمُخَاصَمَةِ مَشْهُودٍ عَلَيْهِ مُطْلَقاً، أَوْ شَهِدَ وحَلَفَ، أَوْ رَفَعَ قَبْلَ الطَّلَبِ فِي مَحْضِ حَقِّ الآدَمِيِّ، وفِي مَحْضِ حَقِّ اللهِ تَعَالَى تَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِالإِمْكَانِ، إِنِ اسْتُدِيمَ تَحْرِيمُهُ كَعِتْقٍ وطَلاقٍ، ووَقْفٍ، ورِضَاعٍ، وإِلا خُيِّرَ كَالزِّنَا بِخِلافِ الْحِرْصِ عَلَى التَّحَمُّلِ،كَالْمُخْتَفِي، ولا إِنِ اسْتُبْعِدَ كَبَدَوِيٍّ لِحَضَرِيٍّ، بِخِلافِ إِنْ سَمِعَهُ، أَوْ مَرَّ بِهِ، ولا سَائِلٍ فِي كَثِيرٍ، بِخِلافِ مَنْ لَمْ يَسْأَلْ، أَوْ يَسْأَلِ الأَعْيَانَ، ولا إِنْ جَرَّ بِهَا نَفْعاً كَعَلَى مُوَرِّثِهِ الْمُحْصَنِ بِالزِّنَا، أَوْ قَتْلِ الْعَمْدِ إِلا الْفَقِيرَ، أَوْ بِعِتْقِ مَنْ يُتَّهَمُ فِي وَلائِهِ، أَوْ بِدَيْنٍ لِمَدِينِهِ، بِخِلافِ الْمُنْفِقِ لِلْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، وشَهَادَةِ كُلٍّ لِلآخَرِ، وإِنْ بِالْمَجْلِسِ والْقَافِلَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فِي حِرَابَةٍ، لا الْمَجْلُوبِينَ، إِلا كَعِشْرِينَ، ولا مَنْ شَهِدَ لَهُ بِكَثِيرٍ ولِغَيْرِهِ بِوَصِيَّةٍ، وإِلا قُبِلَ لَهُمَا، ولا إِنْ دَفَعَ كَشَهَادَةِ بَعْضِ الْعَاقِلَةِ بِفِسْقِ شُهُودِ الْقَتْلِ.
الشرح:
قوله: (أَوْ مَنْ حَدٍ فِيمَا حُدَّ فِيهِ) ابن رشد هو المشهور من قول ابن القاسم.

متن الخليل:
والْمُدَانِ الْمُعْسِرِ لِرَبِّهِ.
الشرح:
قوله: (والْمُدَانِ الْمُعْسِرِ لِرَبِّهِ) أي لربّ الدين كقوله: إِذَا نهى السفيه جرى إليه أي إِلَى السفه، وضبط فِي "التوضيح" المدان بتخفيف الدال عَلَى أنّه اسم مفعول من أدان الرباعي، وهو فِي بعض نسخ ابن الحاجب بتشديد الدال عَلَى أنّه اسم فاعل من [ادَّان] المشدد الدال الخماسي، وأصله ادّتَن عَلَى وزن افتعل، وكلاهما صحيح، قال فِي مختصر العين: أدنت الرجل أعطيته دينا، وهذا يشهد للأول ثم قال: وأدان واستدان ودان أخذ الدين، وهذا يشهد للثاني ونحوهما للجوهري، إِلا أنّه فسّر الخماسي باستقرض بعد ما قال: دنت الرجل أقرضته فهو مدين ومديون.

متن الخليل:
وَلا مُفْتٍ عَلَى مُسْتَفْتِيهِ، إِنْ كَانَ مِمَّا يُنَوَّى فِيهِ، وإِلا رَفَعَ، ولا إِنْ شَهِدَ بِاسْتِحْقَاقٍ، وقَالَ أَنَا بِعْتُهُ لَهُ، ولا إِنْ حَدَثَ فِسْقٌ بَعْدَ الأَدَاءِ، بِخِلافِ تُهْمَةِ جَرٍّ، ودَفْعٍ وعَدَاوَةٍ.
الشرح:
قوله: (وَلا مُفْتٍ عَلَى مُسْتَفْتِيهِ، إِنْ كَانَ مِمَّا يُنَوَّى فِيهِ) مثّله ابن رشد فِي سماع عيسى بالرجل يأتي العالم فيقول حلفت بالطلاق أن لا أكلم فلاناً فكلمته بعد ذلك بشهر لأني كنت نويت أن لا أكلمه شهراً، فإذا دعته امرأته يشهد لها بما أقر بِهِ عنده من حلفه بالطلاق ألا يكلمه، وأنّه كلّمه بعد شهر لَمْ يجز له أن يشهد عَلَيْهِ بذلك؛ لأنّه يعلم من باطن اليمين خلاف ما يوجب ظاهرها. انتهى، وهو جارٍ مَعَ ما فِي "المدونة".

متن الخليل:
وَلا عَالِمٍ عَلَى مِثْلِهِ.
الشرح:
قوله: (و لا عالم عَلَى مثله) كذا حكى ابن رشد فِي رسم القبلة من سماع ابن القاسم، وعزاه لابن وهب فِي المبسوطة، وقدمناه بأشبع من هذا عند قوله: (و لا عدو).

متن الخليل:
وَلا إِنْ أَخَذَ مِنَ الْعُمَّالِ، أَوْ أَكَلَ عِنْدَهُمْ بِخِلافِ الْخُلَفَاءِ، ولا إِنْ تَعَصَّبَ، كَالرِّشْوَةِ، وتَلْقِينِ خَصْمٍ.
الشرح:
قوله: (ولا إِن أخذ من العمال) كذا فِي سماع سحنون أن قبول الجوائز من العمال المضروب عَلَى أيديهم جرحة.
قال ابن رشد: هذا صحيح، ومعناه عندي: إِذَا قبلوا ذلك من العمال عَلَى الجباية الذين إنما جعل لهم قبض الأموال وتحصيلها دون وضعها فِي وجوهها بالاجتهاد، وأما الأمراء الذين فوض لهم الخليفة أَو خليفته قبض الأموال وصرفها فِي وجوهها باجتهادهم كالحجاج وشبهه من أمراء البلاد الذين فوض إليهم جميع أمورها فجوائزهم كجوائز الخلفاء، فإن صحّ أخذ ابن عمر جوائز الحجاج فهذا وجهه.

متن الخليل:
وَلَعِبٍ بِنَيْرُوزٍ.
الشرح:
قوله: (وَلَعِبٍ بِنَيْرُوزٍ) الذي لابن عات وظاهره أنّه من الاستغناء يخرج الرجل بصنيعة النيروز والمهرجان؛ إذ هو من فعل النصارى؛ لقول النبي صلى الله عَلَيْهِ وسلم: من أحبّ قوماً فهو منهم، ولقوله عَلَيْهِ السلام: «من عمل عملاً ليس عَلَيْهِ أمرنا فليس منا» انتهى، وقد ذكر ابن الحاجّ فِي المدخل: من بِدع أهل مصر: مضاربتهم بالجلود فِي زمن الحاجوز حتى يتعذر عَلَى الفضلاء سلوك طرقاتها.

متن الخليل:
وَمَطْلٍ، وحَلِفٍ بِعِتْقٍ وبِطَلاقٍ، وبِمَجِيءِ مَجْلِسِ الْقَاضِي ثَلاثاً بِلا عُذْرٍ، وتِجَارَةٍ لأَرْضِ حَرْبٍ، وبِسُكْنَى مَغْصُوبَةٍ، أَوْ مَعَ وَلَدٍ شِرِّيبٍ وبِوَطْءِ مَنْ لا تُوطَأُ، وبِالْتِفَاتِهِ فِي الصَّلاةِ.
الشرح:
قوله: (وَمَطْلٍ) كذا فِي نوازل سحنون.

متن الخليل:
وَبِاقْتِرَاضِهِ حِجَارَةً مِنَ الْمَسْجِدِ، وعَدَمِ إِحْكَامِ الْوُضُوءِ والْغُسْلِ.
الشرح:
قوله: (و بِاقْتِرَاضِهِ حِجَارَةً مِنَ الْمَسْجِدِ) أي: ويجرح فِي استسلافه حجارة المسجد وإِن ردّ مثلها، والذي فِي النوادر عن سحنون فِي كتاب ابنه فِي الذي يأخذ من لبن أَو حجارة اشتريت للمسجد واعترف بذلك، وقال: تسلّفتها ورددت مثلها، قال قد يجهل مثل هذا، أَو يظن أن ذلك يجوز له.

متن الخليل:
وَالزَّكَاةِ لِمَنْ لَزِمَتْهُ، وبَيْعِ نَرْدٍ، وطُنْبُورٍ، واسْتِحْلافِ أَبِيهِ. وقُدِحَ فِي الْمُتَوَسِّطِ بِكُلٍّ، وفِي الْمُبَرِّزِ بِعَدَاوَةٍ وقَرَابَةٍ، وإِنْ بِدُونِهِ كَغَيْرِهِمَا عَلَى الْمُخْتَارِ، وزَوَالُ الْعَدَاوَةِ والْفِسْقِ، بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ بِلا حَدٍّ، ومَنِ امْتَنَعَتْ لَهُ. لَمْ يُزَكِّ شَاهِدَهُ ولَمْ يُجَرِّحْ شَاهِداً عَلَيْهِ، ومَنِ امْتَنَعَتْ عَلَيْهِ فَالْعَكْسُ، إِلا الصِّبْيَانَ، لا نِسَاءً فِي كَعُرْسٍ فِي جَرْحٍ، أَوْ قَتْلٍ.
الشرح:
قوله: (و الزَّكَاةِ لِمَنْ لَزِمَتْهُ) كذا قال ابن سحنون عن أبيه فيمن لا يعرف قدر نصيب المال وهو ممن تجب عَلَيْهِ زكاته.
ابن عرفة: إِلا أن يكون ممن ماله كثير لا يفتقر فِي زكاته لتحقيق قدر النصاب؛ لأنّه لا يتوقف إخراجه عَلَى معرفة قدره، وهذا فِي العين لا فِي الماشية والزرع.

متن الخليل:
وَالشَّاهِدُ حُرٌّ.
الشرح:
قوله: (وَالشَّاهِدُ حُرٌّ) يتضمن اشتراط الحكم بإسلامه من بابٍ أحرى.

متن الخليل:
مُمَيِّزٌ، ذَكَرٌ تَعَدَّدَ، لَيْسَ بِعَدُوٍّ، ولا قَرِيبٍ، ولا خِلافَ بَيْنَهُمْ، وفُرْقَةَ إِلا أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِمْ قَبْلَهَا، ولَمْ يَحْضُرْ كَبِيرٌ، أَوْ يُشْهَدْ عَلَيْهِ، أَوْ لَهُ.
الشرح:
قوله: (مُمَيِّزٌ) هو أعمّ مما حكى اللخمي عن عبد الوهاب من اشتراط كونه ممن يعقل الشّهَادَة.
قال ابن عرفة: كقوله فِي "المدونة": وتجوز شهادة ابن عشر سنين وأقلّ مما يقاربها. انتهى.
بقي هذا الشَرْط عَلَيْهِ كما بقي عَلَى ابن الحاجب عَلَى أنّه أشار فِي "التوضيح" للاستغناء عنه بالتمييز وليس بظاهر.

متن الخليل:
وَلا يَقْدَحُ رُجُوعُهُمْ، ولا تَجْرِيحُهُمْ، ولِلزِّنَا واللِّوَاطِ أَرْبَعَةٌ بِوَقْتٍ، ورُؤْيَا اتَّحَدَا، وفُرِّقُوا فَقَطْ أنّه أَدْخَلَ فَرْجَهُ فِي فَرْجِهَا.
الشرح:
قوله: (وَلا يَقْدَحُ رُجُوعُهُمْ، ولا تَجْرِيحُهُمْ) ابن عرفة: الأَظْهَر اعتبار منع الكذب قبول شهادة من عرف بِهِ منهم.

متن الخليل:
وَلِكُلٍّ النَّظَرُ لِلْعَوْرَةِ، ونُدِبَ سُؤَالُهُمْ، كَالسَّرِقَةِ مَا هِيَ؟ وكَيْفَ أُخِذَتْ؟ ولِمَا لَيْسَ بِمَالٍ ولا آيِلٍ لَهُ كَعِتْقٍ، ورَجْعَةٍ، وكِتَابَةٍ عَدْلانِ، وإِلا فَعَدْلٌ، وامْرَأَتَانِ، أَواحدهُمَا بِيَمِينٍ كَأَجَلٍ، وخِيَارٍ، وشُفْعَةٍ، وإِجَارَةٍ، وجَرْحِ خَطَإٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ أَدَاءِ كِتَابَةٍ، وإِيصَاءٍ بِتَصَرُّفٍ فِيهِ.
الشرح:
قوله: (وَلِكُلٍّ النَّظَرُ لِلْعَوْرَةِ) أشار بِهِ لقوله فِي كتاب الرجم من "المدونة" قبل: فإن شهد أربعة عَلَى رجل بالزنا فقالوا تعمدنا النظر إليهما لتثبت الشّهَادَة قال: كيف يشهد الشهود إِلا هكذا فناقضها ابن هارون بعدم إجازته فِي اختلاف الزوجين فِي عيوب الفرج نظر النساء إليه ليشهدن بما رأين من ذلك، وكذا إِن اختلفا فِي الإصابة وهي بكر قال: تصدق ولا ينظر النساء إليها قال: والفرق بين ذلك مشكل، وأورده ابن عبد السلام، وأجاب بقوله: إِن طريق الحكم هنا منحصرة فِي الشّهَادَة، ولا تقبل إِلا بصفتها الخاصة، وطريق الحكم فِي تلك الصور غير منحصرة فِي الشّهَادَة بل لها غير ذلك من الوجوه التي ذكرها الفقهاء فِي محلها، فلا ينبغي أن يرتكب محرم وهو النظر للفرج من غير ضرورة.
ابن عرفة: يرد بأن صورة النقض إنما هي إِذَا لَمْ يتمكن إثبات العيب إِلا بالنظر، وكَانَ يجري لنا الجواب بثلاثة أوجه:
الأول: أن الحدّ حقّ لله وثبوت العيب حق للآدمي، وحقّ الله آكد لقوله فِي "المدونة" فيمن سرق وقطع يمين رجل عمداً: يقطع للسرقة ويسقط القصاص.
الثاني: ما لأجله النظر وهو الزنا محقّق الوجود أَو راجحه، وثبوت العيب محتمل عَلَى السوية.
الثالث: المنظور إليه فِي الزنا إنما هو مغيب الحشفة، ولا يستلزم ذلك إلا من الإحاطة بالنظر إِلَى الفرج ما يستلزمه النظر إِلَى العيب. اللخمي: وقوله: وكيف يشهد الشهود إِلا هكذا؟ يريد: أن تعمد النظر لا يبطل الشّهَادَة، لمّا كَانَ المراد إقامة الحق، وهذا حسن فيمن كَانَ معروفاً بالفساد، وأما من لَمْ يكن معروفاً بذلك ففيه نظر، فيصحّ أن يقال: لا يكشفون عن ذلك ولا يطلبون تحقيق الشّهَادَة لما ندبوا إليه من الستر، ولأنهم لَو تبين ذلك لهم لاستحب لهم أن لا يبلغوا الشّهَادَة، ويصحّ أن يقال: يكشفون عن تحقيق ذلك، فإن قذفه أحد بعد اليوم بلغوا الشّهَادَة فلم يحدّ القاذف، والستر أولى؛ لأن مراعاة قذفه من النادر.
ابن عرفة: ولقوله فِي "المدونة": ومن قذف وهو يعلم أنّه زنى حل له القيام بحد من قذفه.
المازري: تعمد نظر البينة لفعل الزاني ظاهر المذهب أنّه غير ممنوع؛ لأنّه لا تصح الشّهَادَة إِلا بِهِ، ونظرة الفجأة لا يكاد يحصل بها ما تتم بِهِ الشّهَادَة، ومنعه بعض الناس؛ لما نبه عَلَيْهِ الشرع من استحسان الستر.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام فِي قواعده إنما يجوز للشهود أن ينظروا من ذلك ما يحصل وجوب الحد، وهو مغيب الحشفة فقط، والنظر للزائد عَلَى ذلك حرام.
ابن عرفة: وهذا كله إِن عجز الشهود عن منع الفاعلين من إتمام ما قصداه وابتدآه من الفعل، ولَو قدروا عَلَى ذلك بفعلٍ أَو قول فلم يفعلوا بطلت شهادتهم؛ لعصيانهم بعدم تغيير هذا المنكر، إِلا أن يكون فعلهما بحيث لا يمنعه التغيير لسرعتهما.

متن الخليل:
أَوْ بِأنّه حُكِمَ لَهُ بِهِ.
الشرح:
قوله: (أَوْ بِأنّه حُكِمَ لَهُ بِهِ) أي: وكذا يثبت حكم القاضي بالمال بشاهد وامرأتين أَو بشاهد ويمين أَو بامرأتين ويمين، فليس.

متن الخليل:
كَشِرَاءِ زَوْجَةٍ، وتَقَدُّمِ دَيْنٍ عِتْقاً.
الشرح:
قوله: (كَشِرَاءِ زَوْجَةٍ، وتَقَدُّمِ دَيْنٍ عِتْقاً) تمثيلاً؛ ولكنه تشبيه لإفادة حكم.

متن الخليل:
وَقِصَاصٍ فِي جَرْحٍ، ولِمَا لا يَظْهَرُ لِلرِّجَالِ امْرَأَتَانِ، كَوِلادَةٍ وعَيْبِ فَرْجٍ، واسْتِهْلالٍ وحَيْضٍ.
الشرح:
قوله: (وَقِصَاصٍ فِي جَرْحٍ) معطوف عَلَى شراء زوجة وكأنّه فِي معرض الاستثناء من قوله: (وَلِمَا لَيْسَ بِمَالٍ ولا آيِلٍ لَهُ عَدْلانِ).

متن الخليل:
وَنِكَاحٍ بَعْدَ مَوْتٍ، أَوْ سَبْقِيَّتِهِ، أَوْ مَوْتٍ، ولا زَوْجَةٍ، ولا مُدَبَّرَ ونَحْوَهُ.
الشرح:
قوله: (وَنِكَاحٍ بَعْدَ مَوْتٍ، أَوْ سَبْقِيَتِهِ أَوْ مَوْتٍ، ولا زَوْجَةٍ، ولا مُدَبَّرَ ونَحْوَهُ) حقّ هذا الكلام أن يكون متقدماً عَلَى قوله: (وَلما لا يظهر للرجال امرأتان)منخرطاً فِي سلك ما يقبل فيه عدل وامرأتان أَو إحدهمَا بيمين، فلعلّه كَانَ ملحقاً فِي المبيضة، فوضعه الناسخ فِي غير موضعه.

متن الخليل:
وثَبَتَ الإِرْثُ والنَّسَبُ لَهُ، وعَلَيْهِ بِلا يَمِينٍ.
الشرح:
قوله: (و ثَبَتَ الإِرْثُ والنَّسَبُ لَهُ، وعَلَيْهِ بِلا يَمِينٍ) يجب أن يوصل بقوله: (ولما لا يظهر للرجال امرأتان كولادة وعيب فرج واستهلال وحيض) كما فِي عبارة ابن الحاجب، وقد فسّره فِي "التوضيح" بأن النسب والميراث يثبتان بشهادة امرأتين بالولادة والاستهلال للمولود، وعليه فإن شهدتا أنّه استهل ومات بعد أمه ورثها وورثه وارثه، وقال ابن عرفة: لَمْ يتعرض ابن عبد السلام لشرح قول ابن الحاجب: ويثبت الميراث والنسب له وعَلَيْهِ، وقرره ابن هارون بقوله: مثل أن تشهد امرأتان بولادة أمة أقرّ السيّد بوطئها، وأنكر الولادة، فإن نسب الولد لاحقٌ بِهِ، وكذلك موارثته إياه له وعَلَيْهِ.
ابن عرفة: هذا كقوله آخر " أمهات الأولاد " من "المدونة": وإِن ادعت أمة أنها ولدت من سيّدها، فأنكر لَمْ أحلفه لها إِلا أن تقيم رجلين عَلَى إقرار السيّد بالوطء وامرأتين عَلَى الولادة فتصير أم ولد ويثبت النسب للولد إن كان معها ولد، إِلا أن يدعي السيّد استبراءً بعد الوطء، فيكون ذلك له. وهذه نصّ فِي جواز شهادتهن فيما لا تجوز فيه شهادتهن إذا كَانَ لازماً فيما لا تجوز فيه شهادتهن، وهو فِي الموطأ وغيره. انتهى.
ومن تمام نصّ "المدونة": وإِن أقامت شاهدين عَلَى إقرار السيد بالوطء وامرأة عَلَى الولادة أحلفته. وأطلق فِي قوله بلا يمين كابن الحاجب.
قال فِي " التوضيح": كذا قال مالك وأطلق، ولا خلاف فِي هذا إِن كَانَ القائم بشهادتهن لا يعرف حقيقة ما شهدن بِهِ، وإِن كَانَ القائم بشهادتهن يتيقن صدقهن كالبكارة والثيوبة فحكى اللخمي والمازري فِي إلزامه اليمين قولين.
قال ابن عبد السلام: ولا يطّرد هذا الخلاف فِي هذا الفصل.

متن الخليل:
وَالْمَالُ دُونَ الْقَطْعِ فِي سَرِقَةٍ كَقَتْلِ عَبْدٍ آخَرَ.
الشرح:
قوله: (و الْمَالُ دُونَ الْقَطْعِ فِي سَرِقَةٍ) يريد بشهادة عدل وامرأتين أَواحدهمَا بيمين، ولَو وصله بِهِ لكان أحسن، وقد نكت في توضيحه عَلَى ابن الحاجب فِي كونه لَمْ يصله بالأموال إذ قال هنا: ولَو شهد عَلَى السرقة رجل وامرأتان ثبت المال دون القطع؛ مَعَ أنّه لا يوهم كون ذلك بشهادة امرأتين فقط، فما الظن بهذا، ولكنّه اتكل عَلَى تمييز ذهن السامع اللبيب.

متن الخليل:
وَحِيلَتْ أَمَةٌ مُطْلَقاً كَغَيْرِهَا، إِنْ طُلِبَتْ بِعَدْلٍ، أَوِ اثْنَيْنِ يُزَكِّيَانِ، وبِيعَ مَا يَفْسُدُ، ووُقِفَ ثَمَنُهُ مَعَهُمَا، بِخِلافِ الْعَدْلِ فَيَحْلِفَ، ويُبَقَّى بِيَدِهِ. وإِنْ سَأَلَ ذُو الْعَدْلِ أَوْ بَيِّنَةٍ سُمِعَتْ، وإِنْ لَمْ تَقْطَعْ وَضْعَ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِيَذْهَبَ بِهِ إِلَى بَلَدٍ يُشْهَدُ لَهُ عَلَى عَيْنِهِ أُجِيبَ، لا إِنِ انْتَفَيَا، وطَلَبَ إِيقَافَهُ لِيَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ، وإِنْ بِكَيَوْمَيْنِ، إِلا أَنْ يَدَّعِيَ بَيِّنَةً حَاضِرَةً، أَوْ سَمَاعاً يَثْبُتُ بِهِ، فَيُوقَفُ ويُوَكَّلُ بِهِ فِي كَيَوْمٍ، والْغَلَّةُ لَهُ لِلْقَضَاءِ، والنَّفَقَةُ عَلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ بِهِ وجَازَتْ عَلَى خَطِّ مُقِرٍّ بِلا يَمِينٍ، وخَطِّ شَاهِدٍ مَاتَ، أَوْ غَابَ بِبُعْدٍ، وإِنْ بِغَيْرِ مَالٍ فِيهِمَا، إِنْ عَرَفَتْهُ كَالْمُعَيَّنِ، وأنّه كَانَ يَعْرِفُ مُشْهِدَهُ.
الشرح:
قوله: (وَحِيلَتْ وَحِيلَتْ أَمَةٌ مُطْلَقاً) أي: رائعة كانت أَو غير رائعة، بيد مأمون كانت أَو غير مأمون طلب القائم الحيلولة أَو لَمْ يطلبها لحق الله تعالى؛ ولذا قال بعده: (كَغَيْرِهَا، إِنْ طُلِبَتْ) أي: كغير الأمة إِن طلبت الحيلولة.

متن الخليل:
وَتَحَمَّلَهَا عَدْلاً، لا عَلَى خَطِّ نَفْسِهِ حَتَّى يَذْكُرَهَا، وأَدَّى بِلا نَفْعٍ، ولا عَلَى مَنْ لا يَعْرِفُ، إِلا عَلَى عَيْنِهِ، ولا يُسَجِّلُ عَلَى مَنْ زَعَمَتْ أَنَّهَا بِنْتُ فُلانٍ، ولا عَلَى مُنْتَقِبَةٍ لِتَتَعَيَّنَ لِلأَدَاءِ، وإِنْ قَالُوا أَشْهَدَتْنَا مُنْتَقِبَةً، وكَذَلِكَ نَعْرِفُهُا قُلِّدُوا، وعَلَيْهِمْ إِخْرَاجُهَا، إِنْ قِيلَ لَهُمْ عَيِّنُوهَا. وجَازَ الأَدَاءُ، إِنْ حَصَلَ الْعِلْمُ، وإِنْ بِامْرَأَةٍ، لا بِشَاهِدَيْنِ إِلا نَقْلاً. وجَازَتْ بِسَمَاعٍ فَشَا عَنْ ثِقَاتٍ وغَيْرِهِمْ، بِمِلْكٍ لِحَائِزٍ مُتَصَرِّفٍ طَوِيلاً. وقُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْمِلْكِ، إِلا بِالسَّمَاعِ أنّه اشْتَرَاهَا مِنْ كَأَبِي الْقَائِمِ، ووَقْفٍ.
الشرح:
قوله: (وَتَحَمَّلَهَا عَدْلاً) الذي ذكر المتيطي أن الشهود يعرفون أنّه كَانَ بوسم العدالة والقبول فِي تاريخ الشّهَادَة وبعدها إِلَى أن توفي، قاله مالك؛ خوف أن تكون شهادته قد سقطت لجرحة أَو كَانَ غير مقبول الشّهَادَة.
ابن عرفة: قوله: إِلَى أن توفي. قيل: الصواب إِلَى حين الشّهَادَة عَلَى خطّه لجواز ثبوت تجريحه بعد موته ممن أعذر له فِي شهادته، وردّ بأن ثبوت جرحته بعد موته يثبتها عَلَيْهِ قبل موته فاستمرار عدالته إِلَى موته ينفي ما ينتفي بقوله: (إِلَى حين الشّهَادَة عَلَى حظه)، ونقل ابن الحاج قول بعض قضاة إفريقية: لابد من زيادة، وأنّه وضعها فِي حين عدالته؛ لجواز أن يقول: لَو حضر وضعتها فاسقاً، فلا أقوم بها - غير بيّن لوجوب رد شهادة من لَمْ تعلم عدالته. انتهى.
فتأمله.
فروع:
الأول: قال ابن عرفة: فتوى شيخنا ابن عبد السلام بـ: أن شرط الشّهَادَة عَلَى الخط حضوره ولا تصح عَلَيْهِ فِي غيبته. صواب، وهو ظاهر تسجيلات الموثقين المتيطي وغيره، واشتراط التجويز فِي الشّهَادَة باستحقاق الدور والأرضين.
الثاني: قال ابن عرفة: لا تقبل الشّهَادَة عَلَى الخطّ إِلا من الفطن العارف بالخطوط وممارستها، ولا يشترط فيه أن يكون قد أدرك صاحب الخط، وحضرت يوماً مجلس قضاء ابن عبد السلام، فجاءه أحد عدول تونس ليرفع عَلَى خطّ ميّت فردّه وقال له: لَمْ تدرك هذا الميت، فلما انصرف قال لي: إنما لَمْ أقبله؛ لأنّه غير عارف بالخطوط، وليس عدم إدراكه مانعاً؛ فإنا نعرف خطوط كثير ممن لَمْ ندركه كخطّ الشلوبين وابن عصفور وابن السيد؛ لتكرر خطوطهم علينا؛ مَعَ تلقينا من الشيوخ أنها خطوطهم.
الثالث: قال ابن سهل عن ابن الماجشون: الشّهَادَة عَلَى الخطّ باطلة، وما قتل عثمان ابن عفان إِلا عَلَى الخط، وعَلَى معروف المذهب فِي الشّهَادَة عَلَى خط المقر قال المازري: نزل سؤال منذ نيف وخمسين سنة، وشيوخ الفتوي متوافرون وهو: أن رجلين غريبين ادّعى أَحَدهمَا عَلَى صاحبه بمالٍ جليل فأنكره، فأخرج المدعي كتاباً فيه إقرار المدعى عَلَيْهِ، فأنكر كونه خطّه، ولم يوجد من يشهد عَلَيْهِ، وطلب المدعى كتبه، فأفتى شيخنا أبو الحسن اللخمي أنّه يُجبر عَلَى ذلك وعلى أن يُطوِّل فيما يكتب تطويلاً لا يمكن فيه أن يستعمل خطاً غير خطّه، وأفتى شيخنا عبد الحميد بأنّه لا يجبر عَلَى ذلك، ثم اجتمعت بعد ذلك بالشيخ أبي الحسن، وأخذ معي فِي إنكار ما أفتى بِهِ صاحبه الشيخ عبد الحميد، فقلت له احتج بأن هذا كإلزام المدعى عَلَيْهِ بينة يقيمها لخصمه عَلَيْهِ، وهذا لا يلزمه، فأنكر عليّ هذا، وقال: إِن البينة لَو أتى بها المدعي لقال المدعى عَلَيْهِ: شهدت عليّ بالزور فلا يلزمه أن يسعى فيما يعتقد بطلانه، بِخِلاف الذي يكتب خطه.
ابن عرفة: الأَظْهَر ما قاله عبد الحميد، ومقتضى قولهما، وظاهر سياق المازري له: أنّه لَو شهدت بينة عدلة عَلَى مكتوب بشيء ما لا بحق المدعي أنّه بخط المدعى عَلَيْهِ، وهو مماثل لخط الكتاب الذي قام بِهِ المدعي أنّه يثبت بذلك للمدعي دعواه، وفيه نظر؛ لأنّه لا يحصل للشاهد المدرك المماثلة بين الخطين؛ ظن كون الخطّ الذي قام بِهِ المدعي خطّ المدعى عَلَيْهِ بمجرّد إدراكه المماثلة مرة واحدة، ولا يحصل إدراك كون الخط خط فلان إِلا بتكرار رؤية وضعه أَو سماع مفيد للعلم بأنّه خطه حسبما ذكرنا فِي الشّهَادَة عَلَى خط الغائب.

متن الخليل:
وَمَوْتٍ بِبُعْدٍ إِنْ طَالَ الزَّمَانُ، بِلا رِيبَةٍ. وحَلَفَ، وشَهِدَ اثْنَانِ كَعَزْلٍ، وجَرْحٍ، وكُفْرٍ، وسَفَهٍ، ونِكَاحٍ، وضِدِّهَا.
الشرح:
قوله: (إِنْ طَالَ الزَّمَانُ، بِلا رِيبَةٍ) تبع فِي هذا قول ابن الحاجب: وتجوز شهادة السماع الفاشي عن الثقات فِي الملك والوقف والموت للضرورة بشرط طول الزمان وانتفاء الريب وقد قال ابن عرفة: حمله ابن عبد السلام عَلَى إطلاقه، وليس عَلَى إطلاقه؛ إنما هو فِي الملك والوقف والصدقة والأشرية القديمة والنكاح والولاء والنسب والحيازة جميع ذلك يشترط فيه طول الزمان، وأما الموت فمقتضى الروايات والأَقْوَال: أن شهادة السماع القاصرة عن شهادة البت فِي القطع بالمشهود بِهِ يشترط فيها كون المشهود بِهِ بحيث لا يدرك بالقطع والبت بِهِ عادة، فإن أمكن عادة البت بِهِ لَمْ تجز فيه شهادة السماع، وهو مقتضى قول الباجي: أما الموت فيشهد فيه عَلَى السماع فيما بعد من البلاد، وأما ما قرب أَو كَانَ ببلدٍ الموت فإنما هي شهادة بالبت.
وقد شهدت شيخنا القاضي ابن عبد السلام وقد طلب منه بتونس بعض أهلها إثبات وفاة صهر له مات ببرقة قافلاً من الحج، فأذن له، فأتاه بوثيقة بشهادة شهود عَلَى سماعٍ لوفاته عَلَى ما يجب كتبه فِي شهادة السماع، وكَانَ ذلك بعد مدة يتصور فيها بت العلم بوفاته نحو ثمانية أعوام فِي ظني فرد ذلك ولَمْ يقبله. انتهى.
ولما حكى قبله قول الباجي فيشهد عَلَى الموت بالسماع فيما بعد من البلاد لا ما قرب قيّده بأن قال: بشرط أن لا يطول زمن تقدم الموت كالعشرين عاماً ونحوها فإن هذا لا يقبل فيه إِلا البت، قاله بعض من لقيت، وهو صواب؛ لأنّه مظنة البت كمن ببلدٍ قريب.

متن الخليل:
وَإِنْ بِخُلْعٍ، وضَرَرِ زَوْجٍ، وهبةٍ.
الشرح:
قوله: (وإِنْ بِخُلْعٍ) إغياء للطلاق المندرج فِي قوله: (وضدها).

متن الخليل:
وَوَصِيَّةٍ، ووِلادَةٍ، وحِرَابَةٍ، وإِبَاقٍ، وعُدْمٍ، وأَسْرٍ، وعِتْقٍ.
الشرح:
قوله: (وَوَصِيَّةٍ) فسره فِي "التوضيح" بالإيصاء عَلَى الأيتام، كما ذكر فِي الكافي، ويأتي نَصُّه إِن شاء الله تعالى.

متن الخليل:
وَلَوْثٍ.
الشرح:
قوله: (وَلَوْثٍ) أي لوث القسامة فِي النفس ذكره اللخمي، وقبله ابن عبد السلام وابن هارون وابن عرفة، وفِي بعض النسخ (و إرث)، وقد ذكره المتيطي وغيره، وقد نظم الشيخ الفقيه القاضي المحدث أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي عرفة، اللخمي، السبتي، المعروف بابن العزفي رحمه الله تعالى مواطن شهادة السماع فقال:
أَيَا سَائِلِي عَمَّا يَنْفُذُ حُكْمُهُ ** ويَثْبُتُ سَمْعاً دُونَ عِلْمٍ بِأَصْلِهِ

فَفِي الْعَزْلِ والتَّجْرِيحِ والْكُفْرِ بَعْدَهُ ** وفِي سَفَهٍ أَوْ ضِدِّ ذَلِكَ كُلِّهِ

وفِي الْبَيْعِ والْإِحْبَاسِ والصَّدَقَاتِ ** والرَّضَاعِ وَخُلْعٍ والنِّكَاحِ وَحَلِّهِ

وفِي قِسْمَةٍ أَوْ نِسْبَةٍ ووِلَائةٍ ** وَمَوْتٍ وحَمْلٍ والْمُضِرِّ بِأَهْلِهِ

واستدرك عَلَيْهِ ابنه فقال:
مِنْهَا الْهِبَاتُ والْوَصِيَّةُ فَاعْلَمَنْ ** ومِلْكٌ قَدِيمٌ قَدْ يُضَنُّ بِمِثْلِهِ

ومِنْهَا وِلَادَة وَمِنْهَا حِرَابَةٌ ** ومِنْهَا الْإِبَاقُ فَلْيُضَمَّ لِشَكْلِهِ

فَدُونَكَهَا عِشْرِينَ مِنْ بَعْدِ سَبْعَةٍ ** تَدُلُ عَلَى حِفْظِ الْفَقِيهِ ونُبْلِهِ

أَبي نَظَم العشرين من بعد واحد ** وأتبعتها ستاً تماماً لفعله

وألحق ابن عبد السلام بها خمسة نظمها بعض الأذكياء فقال:
وَقَدْ زِيدَ فِيهَا الْأَسْرُ والْفَقْدُ وَالْمَلَا ** ولَوْثٌ وَعِتْقٌ فَاظْفَرْنَ بِنَقْلِهِ

فَصَارَتْ لَدَيَّ عَدَّ ثَلَاثِينَ ** أُتْبِعَتْ بِثِنْتَيْنِ فَاطْلُبْ نَصَّهَا

وما ذكرنا من نسبة القطعتين للرئيس الفقيه ابن العزفي السبتي وولده هو الذي وقفت عَلَيْهِ فِي فهرسة الولد المذكور أبي العباس، وقد تضمنت الفهرسة المذكورة أن أبا الفضل عياض ممن أجاز للوالد، وأن أبا القاسم ابن فيرة الشاطبي ممن أجاز للولد، عَلَى أن ابن عبد السلام وابن هارون وابن عرفة ذكروا نسبتهما لابن رشد وابنه؛ لكن قال ابن عبد السلام: لا أدخل تحت عهدة هذه النسبة.
قال ابن عرفة: لبعدها عن كلامه فِي البيان، ولا يخفى أنّه اندرج فِي قوله: (أَو ضد ذلك كله أربعة وهي: الولاية والتعديل والإسلام والرشد.
فإن قلت: فيتعين أن يضبط قوله فِي البيت: الرابع وولائه بهمزة الياء المكسورة بعدها هاء ضمير مكسورة عائدة عَلَى ما ذكر، وإِلا فمتى جعل ولاية ضد العزل كَانَ تكراراً مَعَ ما تقدم، وسقط واحد من العدد المذكور، وفات ذكر الولاء وهو منها؟
قلت: الذي وقفت عَلَيْهِ فِي فهرسة ابن العزفي: ولاية من باب التولية، قال ابن مرزوق: أي كونه مولى عَلَيْهِ بإيصاء أَو غيره؛ وعَلَى هذا فلا تكرار؛ لأن الأولى ولاية القضاء وهذه ولاية النظر، ومن لازمه أن لا يسقط الواحد من العدد، وأما الولاء فمندرج فِي النسبة؛ لأنّه لحمة كلحمة النسب، لكن يتداخل مَعَ قول ابنه: ومنها الهبات والوصية. إِن فسّرت بالإيصاء لتوافق نص الكافي؛ إِلا أن تحميل الولاية في كلام الوالد عَلَى تقديم القاضي، والوصية فِي كلام الولد عَلَى الإيصاء.
قال ابن عرفة: تقدّم لي نظم لما ذكر المتيطي مَعَ بعض زيادة وهو:
شهادة ظنٍ بالسماع مقالتي ** لما عد متيطهم فِي النهاية

فوقف قديم مثله البيع والولاء ** وموت وإرث والقضا كالعدالة

و جرج وإنكاح وكفر وضده ** ورشد وتسفيه وعزل ولاية

وإضرار زوج والرضاع ونسبة ** تقاس وللخمي لوث قسامة

وقد زادنا الكافي سماع تصرف ** وإنفاق ذي إيصاء أَو ذي نيابة

وتنفيذ إيصاء لعشرٍ وضعفها ** سنين ابن زرب زاده فِي مقالتي

وهذه الثماني عشرة التي نقل عن نهاية المتيطي هي فِي النكاح منها، وقد أغفل خمسة أخرى، ذكرها المتيطي فِي كتاب الحبس من نهايته إذ قال لما ذكر شهادة السماع عَلَى الحبس: قال محمد بن أيمن: وكذلك شهادة السماع فِي حيازة الحبس والصدقة جائزة.
قال ابن عات: وكذلك عَلَى خطوط الشهود الأموات وكذلك فِي جائحات الأحباس، وقاله ابن زرب.
قال ابن الطلاع: وكذلك فِي التقية، وخالفه فِي ذلك أبو الأصبغ ابن سهل، وقد كَانَ شيخنا أبو عبد الله القوري استلحقها بقطعة ابن عرفة فِي بيت لا أذكره الآن، وهذا عوض منه:
وحوز كأحباس وجائحة بها ** وخط لميت أَو تقاة إذايه

ودخل حوز الصدقة تحت الكاف والتقاة التقية، وقد قريء: {إِلا أن تتقوا منهم تقية} قال الزمخشري: قيل للمتقي تقاة وتقية كقولهم: ضرب الأمير لمضروبه، وينبغي أن يجعل هذا البيت المستلحق بعد البيت الثالث من أبيات ابن عرفة؛ حتى ينخرط فِي سلك ما للمتيطي دون اللخمي والكافي وابن زرب، ونص الكافي: وجائز أن يشهد أنّه لَمْ يزل يسمع أن فلاناً كَانَ فِي ولاية فلان، وأنّه كَانَ يتولى النظر له والإنفاق عَلَيْهِ بإيصاء أبيه بِهِ إليه أَو تقديم قاضٍ عَلَيْهِ وإِن لَمْ يشهده أبوه بالإيصاء ولا القاضي بالتقديم؛ ولكنه علم بذلك كله بالاستفاضة من أهل العدل وغيرهم ويصح بذلك سفهه إِذَا شهد معه غيره بمثل شهادته وفيها بين أصحابنا اختلاف. انتهى.
ولشيخ شيوخنا أبي محمد عبد الله العبدوسي فيها نظم بديع وهو:
يا سائلاً شهادة السماع ** أين ينفُذ بها سماع

تجوز فِي مواضع شهيرة ** خذها إليك تحفة خطيرة

منظومة نظم سلوك الجوهر ** يقصر عن نظامها ابن جَهْوَر

في العدل والتجريح ثم الكفر ** والبيع والولاء تلك تجري

وسفه وضده والحُْبُس ** و الصدقات والرضاع فاقبس

والخلع والنكاح والطلاق ** والموت والهبة والإباق

وقسمة ونسب والحمل ** مَعَ المضر فاعلمن بالأهل

والملك يقدم مَعَ الولادة ** ثم الحرابة فخذ إفادة

وملاء وعدم والأسر ** والعتق والميراث دون نكر

واللوث والإسلام ثم العزل ** ثم الولاية فذر تستمل

واعلم بأن هذه الشّهَادَة ** عند ذوي التحصيل والإجادة

يبقى بها ما بيد بلا نزاع ** اعرفه لعالم ولا دفاع

وليس يؤخذ بها ما باليد ** والخلف فيما ليس عند أحد

وليس من شروطها العدول ** بل اللفيف فادر ما أقول

هذي ثلاثون بعيد اثنين ** محصورة العدد دون مين

ويرغب الأجر من القدوس ** عبد الإله الناظم العبدوسي

وقد ذيلته بأبيات استدركت فيها الباقي والله الواقي. فقلت:
وزد لها عن حُبْس النهاية ** تقية المعروف بالإذاية

وخط من مات من الشهود ** وجائحات الحبس المعهود

وحوزه وحوز ما تصدق ** بِهِ عن ابن أيمن أخى التقى

و زد عن الكافي الرضي المهذب ** تقديم حاكم وإيصاء الأب

وزد عن المفيد لابن زَرْبِ ** تنفيذ إيصاءٍ بغير قرب

وزد لها الزفاف للتحليل ** فتوى ابن رشد الرضي الجليل

وابن مغيث زاد دفع النقد ** ونجل عات سامه بالردّ

بنوة أخوة زاد الشهاب ** فِي فرق ركو بعد ذكر الأنتساب

ولابن مرزوق أضف يا صاح ** زيادة الإقرار والجراح

في وصايا المال عندنا نظر ** كالصرف والإنفاق من والي النظر

أما الحيازة مَعَ القسامه ** للملك واللوث ترى علامه

لولا التداخل وهي الزائد ** لبلغت خمسين بعد واحد

ويرغب الرحمان فِي الجواز ** محمد بن أحمد بن غازي

مستشفعاً بسيد الأنام ** عَلَيْهِ مني أفضل السلام

فإذا أضيف هذا الرجز العبدوسي كَانَ مستوفياً لجميع ما تقدم وزيادة، فأما نص ما فِي كتاب الحبس من نهاية المتيطي ونص الكافي فقد تقدما، وأما مفيد الحكام لابن هشام فذكر فيه أن ابن زرب: أفتى فِي وصي قامت له بينة بعد ثلاثين سنة عَلَى تنفيذ وصية أسندت إليه بالسماع من أهل العدل والثقة أنها جائزة، وأما ابن رشد ففي أجوبته: أنّه سئل عما يثبت بِهِ بناء المحلل؟ فأجاب: بأنّه يثبت بشاهدين عدلين وأن يكون بناؤه بها أمراً فاشياً مشتهراً بالسماع من لفيف الرجال والنساء، وإِن لَمْ تعرف عدالتهم.
وأما ابن مغيث فِي آخر طرره فأنّه قال: إِذَا شهد الزوج بالسماع أنّه تزوجها بنقد وكإلى مبلغه كذا إِلَى أجل كذا برضى وليها فلان وأنّه دفع إليها النقد، فالزوجية ثابتة والقول قوله فِي دفع النقد مَعَ يمينه، قال ابن عات: فقد أعمل شهادة السماع فِي دفع النقد.
وذكر فضل فِي وثائقه مثله إِلا فِي دفع النقد فأنّه لَمْ يجعل فيه شهادة السماع عاملة وهو أصحّ. انتهى.
وأغفله ابن عرفة.
وأما شهاب الدين القرافي فأنّه نقل فِي الفرق السادس والعشرين والمائتين وهو الذي رمزنا له (بركو) بحساب الجمل كلام صاحب القبس إذ قال: ما اتسع أحد فِي شهادة السماع اتساع المالكية، وعدّ مما حضر عَلَى خاطره منها خمسة وعشرين منها النسب، ثم قال القرافي: وزاد بعضهم البنوة والأخوة، و قبله ابن الشاط.
وقد سبق المتيطي لذكر البنوة والأخوة فِي آخر الوصايا، وأغفل ذلك ابن عرفة، وأما ابن مرزوق فذكر منها الإقرار والجراح فِي قصيدة له بائنة، ولم أر الجراح لغيره بِخِلاف لوث القسامة، وأما الإقرار فقد يندرج فِي طريقة عبد الوهاب الآتية، وأما قولنا: وفي وصايا المال عندنا نظر كالصرف والإنفاق من والي النظر فمعناه أن هذه الثلاثة فِي عدّها من مواطن السماع نظر، أما الوصايا بالمال فلم أر من صرّح بها؛ وإنما ذكر ابن العربي والقرافي والغرناطي بلفظ الوصية غير مفسر، فالظاهر أنهم قصدوا ما فِي الكافي من الإيصاء بالنظر، بذلك فسّر صاحب "التوضيح" الوصية فِي لفظ ابن العزفي، وراجع ما تقدم فِي لفظ ولاية.
وأما التصرف والإنفاق من الوصي ومقدم القاضي ففي نظم ابن عرفة وزاد لنا الكافي:
سماع تصرف وإنفاق ** ذي إيصاء أَو ذي نيابة

فظاهره أن التصرف والإنفاق مقصودان لذاتهما بالشّهَادَة، وإذا تأملت نصّ الكافي المتقدم ظهر لك أن مقصود الشّهَادَة بالذات إنما هو تصحيح تقديم الحاكم وإيصاء الأب، وأن التصرف والإنفاق دليلان عَلَيْهِمَا، وأما قولنا:
أما الحيازة مَعَ القسامة ** للملك واللوث ترى علامة

فهو جواب عن سؤال مقدر كأنَ قائلاً قال: أغفلتم الحيازة القديمة، وقد ذكرها غير واحد ورأسهم ابن حبيب عن الأخوين عن مالك، وأغفلتم القسامة وقد ذكرها غير واحد كالعبدي وقبله القرافي، فوقع الجواب بأن الحيازة علامة للملك القديم يستدل بها عَلَيْهِ وهي قيد فيه، وأن القسامة علامة للوث إذ هي مسببة عنه، فهما علامتان باعتبارين؛ ولذا استغنى بعضهم بذكر الملك عن الحيازة، وعكس آخرون، وعبّر ابن عبد السلام وغيره باللوث الموجب للقسامة، وأصل المسألة للخمي عن ابن القاسم، وقد أشبعنا القول فِي هذا كله فِي تكميل التقييد وتحليل التعقيد الذي وضعنا عَلَى المدونة.
واعلم أن الأرجوزة العبدوسية مبدوءة بالعدل بـ: الدال، والقصيدة العزفية مبدوءة بالعزل بـ: الزاي، ولا يصح غير ذلك، يظهر بالتأمل وقوله: (سماع) اسم فعل كنزال ودراك وحذار، مبني عَلَى الكسر، ولعل المراد بابن جهور ههنا عيسى بن إبراهيم بن عبد ربه المذكور فِي الصلة، وأما قوله: (و ملأ) فحقّه أن يكون ممدوداً، ولا يساعده الوزن، فلو قال وعدم وضده، والأيسر كَانَ أصوب، وأما قوله:
وليس من شروطها العدول ** بل اللفيف فادر ما أقول

فلو قال عوضاً منه:
وليس سمعها من العدول شرطا ** بل اللفيف فِي المنقول

لكان أدلّ عَلَى المراد.
تنبيه:
فِي شهادة السماع طرق أخر منها: طريقة عبد الوهاب أنها مختصة بما لا يتغير حاله ولا ينتقل الملك فيه كالموت والنسب والوقف المحرم.
قال: وفِي قبولها فِي النكاح قَوْلانِ، بناءً عَلَى اعتبار عدم تغيره إِذَا مات أَحَدهمَا واعتبار جواز التنقل فيه، وقبله الباجي والمازري، وذكر المازري فِي العتق قولين ووجه ثبوته بها بأنّه مما لا يتغير ولا ينفى.
قال ابن عرفة: وهو الحق، ومنها طريقة ابن رشد فِي نوازل سحنون من كتاب الشهادات أن فيها أربعة أَقْوَال:
أحدها أنها تصح فِي كل شيء.
والثاني لا تصح فِي شيء.
والثالث: تجوز فِي كل شيء إِلا أربعة أشياء النسب والقضاء والنكاح والموت؛ إذ من شأنها أن تستفيض حتى تصح الشّهَادَة فيها عَلَى القطع. والرابع: عكسه.
قال أبو محمد صالح ويجمعها قولك: فلان ابن فلان القاضي نكح فمات.

متن الخليل:
وَالتَّحَمُّلُ إِنِ افْتُقِرَ إِلَيْهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ.
الشرح:
قوله: (وَالتَّحَمُّلُ إِنِ افْتُقِرَ إِلَيْهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ) لَمْ يصرح هنا بحكم انتفاعه كما فعل فِي الأداء، وقال ابن عرفه فِي جواز أخذه عَلَى التحمل: خلاف، ثم قال: واستمر عمل الناس اليوم وقبله فِي إفريقية وغيرها عَلَى أخذ الأُجْرَة عَلَى تحملها بالكتب ممن انتصب لها وترك التسبب المعتاد لأجلها، وهو من المصالح العامة وإِلا لَمْ يجد الإنسان من يشهد له بيسر، وأخذها من يحسن كتب الوثيقة فقهاً.
وعبارة: (عَلَى كتبه وشهادته) لا يختلف فيه، ثم قال ابن المناصف: الأولى لمن قدر واستغنى ترك الأخذ، وعلى الأخذ تكون الأُجْرَة معلومة مسماة، وتجوز بما اتفقا عَلَيْهِ من قليل وكثير ما لَمْ يكن المكتوب له مضطراً للكاتب، إما لقصر القاضي الكتب عَلَيْهِ، لاختصاصه بموجب ذلك، وإما لأنّه لَمْ يجد بذلك الموضع غيره، فيجب عَلَى الكاتب أن لا يطلب فوق ما يستحق؛ فإن فعل فهو جرحة، وإِن لَمْ يسميا شيئاً ففيه نظر، وهو عمل الناس اليوم.
وهو عندي محمل هبة الثواب، فإن أعطاه قدر أجر المثل لزمه، وإلا كَانَ مخيراً فِي قبول ما أعطاه، وتمسكه بما كتب له، إِلا أن يتعلق بذلك حق للمكتوب له فيكون فوتاً، ويجبران على أجر المثل.
ابن عرفة: وما زال الناس يعيبون أخذ الأُجْرَة فِي أكثر حوانيت الشهود بتونس؛ لأنهم يقسمون ما تحصّل لهم آخر عملهم عَلَى ثلاثة أجزاء، جزآن للشاهدين، وجزء لمن يُوثّق، وهو أكثر من واحد، وعمل الموثقين فِي الأكثر أكثر من عمل الشاهد؛ لأنّه مجرد كتب اسمه فِي الأكثر، وربما صرّح بعضهم بحرمة فعلهم.
ولقد أخبرني ثقة: أن شيخنا القاضي أبا محمد الأجمي أهدى إليه صهره أبو زوجه القاضي أبو علي بن قداح لبناً فشربه ثم أخبره أنّه أهداه له من يأخذ الأجر فِي شهادته فقام فقاءه، واستغرب المخبر حاله؛ لأنّه لما شهد طلع الحانوت، وكان يأخذ الأجر عَلَى شهادته، ثم أخبرني ثقة: أن الشاهد الذي كَانَ يشهد معه والموثقين كانوا يعطونه كل يوم ديناراً ذهباً، ويأخذ كل موثق منهم أكثر من ذلك، وكان الموثقون ثلاثة أَو أكثر.
قال ابن عرفة: فسلّمه الله من القسمة الفاسدة المتقدم ذكرها.

متن الخليل:
وَتَعَيَّنَ الأَدَاءُ مِنْ، كَبَرِيدَيْنِ، وعَلَى ثَالِثٍ، إِنْ لَمْ يُجْتَزْ بِهِمَا.
الشرح:
قوله: (وَتَعَيَّنَ الأَدَاءُ) قال القرافي: لفظة أوَدِّى مَعَ أنّه إنشاء لا خبر، فلو قال: وديت لَمْ يعد عكس لفظ الإنشاء فِي بعت واشتريت، فإن أبيع، وأشتري لغو.
قال ابن عرفة: الأَظْهَر أن هذا العرف تقرر لا لذات حقيقة الأداء وغيره، والأَظْهَر أن الإشارة المفهمة لذلك تكفي، وشهدت بعض المفتين أدّاها إشارة فلم يقبلها منه من أداها إليه. وفي النوادر لأشهب إذا قال: هذه شهادتي فذلك أداء لها.

متن الخليل:
وَإِنِ انْتَفَعَ فَجُرْحٌ، إِلا رُكُوبَهُ لِعُسْرِ مَشْيِهِ وعَدَمِ دَابَّتِهِ، لا كَمَسَافَةِ الْقَصْرِ.وَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ مِنْهُ بِدَابَّةٍ، ونَفَقَةٍ، وحَلَفَ بِشَاهِدٍ فِي طَلاقٍ، وعِتْقٍ، لا نِكَاحٍ. فَإِنْ نَكَلَ حُبِسَ، وإِنْ طَالَ دُيِّنَ، وحَلَفَ عَبْدٌ، وسَفِيهٌ مَعَ شَاهِدٍ.
الشرح:
قوله: (و إِنِ انْتَفَعَ فَجُرْحٌ) هذا المعروف، وقال ابن المناصف: قال بعض العلماء: يجوز للشاهد أخذ الأُجْرَة عَلَى الأداء، وإِن تعين عَلَيْهِ إِذَا كَانَ اشتغاله بأداء الشّهَادَة يمنعه من اشتغاله بما يقيم بِهِ أوده.
قال ابن عرفة: وهواحد الأَقْوَال فِي أخذ الأُجْرَة فِي الرِّوَايَة عَلَى الإسماع والسماع، الجواز، والمنع، والتفصيل.

متن الخليل:
لا صَبِيٌّ وأَبُوهُ، ولَو أَنْفَقَ وحَلَفَ مَطْلُوبٌ لِيُتْرَكَ بِيَدِهِ، وسُجِّلَ لِيَحْلِفْ، إِذَا بَلَغَ.
الشرح:
قوله: (لا صَبِيٌّ وأَبُوهُ، ولَو أَنْفَقَ) أي: ولو كَانَ الأب منفقاً والصبي فقيراً بحيث تكون يمين الأب لفائدة سقوط النفقة عنه.
قال ابن رشد: هذا هو المشهور المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وقيّد الخلاف بما لَمْ يل الأب والوصي فيه المعاملة، فأما ما وليه أَحَدهمَا فاليمين عَلَيْهِ واجبة؛ لأنّه إِن لَمْ يحلف غرم.

متن الخليل:
كَوَارِثِهِ قَبْلَهُ.
الشرح:
قوله: (كَوَارِثِهِ قَبْلَهُ) أي كما يحلف وارث الصبي قبل زمان بلوغه إِذَا مات الصبي.

متن الخليل:
إِلا أَنْ يَكُونَ نَكَلَ أَوَّلاً، فَفِي حَلِفِهِ قَوْلانِ.
الشرح:
قوله: (إِلا أَنْ يَكُونَ نَكَلَ أَوَّلاً، فَفِي حَلِفِهِ قَوْلانِ) اسم (يكون) عائد عَلَى الوارث، وصورته أن يكون الشاهد شهد بحقٍ لصغير وأخ له كبير مثلاً، فنكل الكبير واستؤني الصغير ثم مات الصغير، فكان الكبير وارثه، فأراد أن يحلف ففي تمكينه من اليمين قَوْلانِ للمتأخرين.
قال بعض شيوخ عبد الحق: لا.
وقال ابن يونس: نعم.
قال المازري: ولا نصّ فيها للمتقدمين، ومن ثمّ عابوا قول ابن الحاجب: فلو كَانَ وارث الصغير معه أَو لا، وكَانَ قد نكل لَمْ يحلف عَلَى المنصوص؛ لأنّه نكل عنها.

متن الخليل:
وَإِنْ نَكَلَ اكْتُفِيَ بِيَمِينِ الْمَطْلُوبِ الأُولَى.
الشرح:
قوله: (وإِنْ نَكَلَ اكْتُفِيَ بِيَمِينِ الْمَطْلُوبِ الأُولَى) لا إشكال أن فاعل (نكل) ضمير الصبي أَو وارثه، وأما نكول المطلوب هنا فقد أغفله المصنف؛ مَعَ أنّه ذكره ابن الحاجب إذ قال: فإن نكل المطلوب ففي أخذه منه تمليكاً أَو وقفاً قَوْلانِ.

متن الخليل:
وَإِنْ حَلَفَ الْمَطْلُوبُ، ثُمَّ أَتَى بِآخَرَ فَلا ضَمَّ، وفِي حَلِفِهِ مَعَهُ، وتَحْلِيفِ الْمَطْلُوبِ إِنْ لَمْ يَحْلِفْ قَوْلانِ.
الشرح:
قوله: (وَفِي حَلِفِهِ مَعَهُ، وتَحْلِيفِ الْمَطْلُوبِ إِنْ لَمْ يَحْلِفْ قَوْلانِ) كذا فِي بعض النسخ وتحليف بصيغة مصدر المضعّف عطفاً عَلَى (حلفه)، وهو أظهر فِي الدلالة عَلَى رجوع القولين للفرعين.

متن الخليل:
وَإِنْ تَعَذَّرَ يَمِينُ بَعْضٍ كَشَاهِدٍ بِوَقْفٍ عَلَى بَنِيهِ وعَقِبِهِمْ، أَوْ عَلَى الْفُقَرَاءِ حَلَفَ وإِلا فَحُبُسٌ.
الشرح:
قوله: (وَإِنْ تَعَذَّرَ يَمِينُ بَعْضٍ كَشَاهِدٍ بِوَقْفٍ عَلَى بَنِيهِ وعَقِبِهِمْ، أَوْ عَلَى الْفُقَرَاءِ حَلَفَ وإِلا فَحُبُسٌ) أما البنون وعقبهم فإنما تعذرت اليمين عَلَى بعضهم كما قال، وأما الفقراء ونحوهم فاليمين فِي حقهم ممتنعة غير مرجوة الإمكان كما عبّر عنه فِي "الجواهر" فلا بد فيه من نوع تجوّز، وفاعل (حلف) ضمير المشهود عَلَيْهِ أي: حلف المشهود عَلَيْهِ لتعذر اليمين من المشهود له، فإن نكل ثبت الحبس فِي الفرعين، هذا أقرب ما يحمل عَلَيْهِ لفظه.
ومن قال: حلف المستحق فِي الأول والمطلوب فِي الثاني فيحتاج إِلَى وحي يسفر عن ذلك، ويتضح لك مراده هنا بالوقوف عَلَى ما سلخ فِي توضيحه من الجواهر مما أصله للمازري، وخلاصته: أن فِي الفرع الأول أربعة أَقْوَال:
الأول: لمالك من رواية مطرف وابن وهب أنّه إِذَا حلف واحد من البطن الأول مَعَ الشاهد ثبت الحبس للجميع.
الثاني: لمالك من رواية ابن الماجشون أنّه إِذَا حلف جُلّهم ثبت الجميع.
الثالث: قول ابن المواز الذي يذهب إليه أصحابنا امتناع اليمين مَعَ هذه الشّهَادَة عَلَى الإطلاق، فعلى هذا القول يكون كما لَو شهد الواحد عَلَى وقف الفقراء، والحكم فِي الفقراء علي ما نصّ عَلَيْهِ اللخمي أن يحلف المشهود عَلَيْهِ، فإن نكل الزم الحبس.
الرابع: لبعض القرويين، ورجّحه اللخمي وغيره: أن من حلف ثبت نصيبه، ومن لا فلا، كالشاهد يشهد لحاضر وغائب أَو حمل. انتهى.
فأنت تراه فِي القول الثالث ساوى بين هذا الفرع والفرع الثاني المتفق عَلَى نفي اليمين فيه عن المشهود لهم، ولم يقنع بذلك حتى ساوى بينهما أَيْضاً فِي رجوع اليمين لجهة المشهود عَلَيْهِ، فإن نكل ألزم الحبس، اعتماداً عَلَى فهم اللخمي فِي الفرع الثاني فعلى هذا اقتصر فِي هذا المختصر وحمله عَلَى غير هذا خبط عشواء. والله تعالى أعلم.
تحرير:
الذي فِي النوادر فِي الفرع الثاني عن أشهب: أن شهادة واحد بحبس فِي السبيل أَو وصية فيه أَو لليتامى أَو من لا يعرف بعينه ساقطة، ليس لأحدٍ ممن ذكر الحلف معه، وليحيي بن يحيي عن ابن القاسم مثله، ولما علله المازري بأن الحق لمجموع يتعذر حصوله والواحد منه لا يتقرر حقّه فيه إِلا بإحصاء المجموع قال: ويجب أن يحلف المشهود عَلَيْهِ عَلَى إبطال شهادة الشاهد كالشاهد عَلَيْهِ بالطلاق.
قال ابن عرفة: وظاهر الروايات عدم حلفه لعدم تعيين طالبه ونقل اللخمي كالمازري قائلا: إِن نكل لزمه ما شهد بِهِ عَلَيْهِ.

متن الخليل:
فَإِنْ مَاتَ، فَفِي تَعْيِينِ مُسْتَحِقِّهِ مِنْ بَقِيَّةِ الأَوَّلِينَ أَوِ الْبَطْنِ الثَّانِي تَرَدُّدٌ.
الشرح:
قوله: (فَإِنْ مَاتَ، فَفِي تَعْيِينِ مُسْتَحِقِّهِ مِنْ بَقِيَّةِ الأَوَّلِينَ أَوِ الْبَطْنِ الثَّانِي تَرَدُّدٌ) هذا الكلام مستغنى عنه هنا؛ لأنّه مرتب عَلَى القول الرابع كما سلّمه فِي توضيحه، وقد علمت مما أسلفناك: أنّه إنما درج هنا عَلَى القول الثالث، ولعل الحرص عَلَى تطبيق هذا الكلام عَلَى ما قبله هو الحامل على ارتكاب المجازفة لمن جعل الفاعل بحلف المتقدم المستحق تارة والمطلوب أخرى، وذلك ضرب فِي حديد بارد فتأمله منصفاً.

متن الخليل:
وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَى حَاكِمٍ قَالَ ثَبَتَ عِنْدِي، إِلا بِإِشْهَادِهِ.
الشرح:
قوله: (وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَى حَاكِمٍ قَالَ ثَبَتَ عِنْدِي، إِلا بِإِشْهَادِهِ) كذا ذكر فِي توضيحه عن " المفيد " عن مطرف.
استطراد:
قال المازري: من الحكمة والمصلحة منع القاضي الحكم بعلمه خوف كونه غير عدل، فيقول: علمت، فيما لا علم له بِهِ؛ وعلى هذا التعليل لا يقبل قوله: ثبت عندي كذا، إِلا أن يسمي البينة كما قال ابن القصار وابن الجلاب ورأى المازري أَيْضاً أن قول القاضي: ثبت عندي كذا ليس حكماً منه بمقتضى ما ثبت عنده؛ فإن ذلك أعم منه وألف فيه جزءاً، وقبله ابن عبد السلام، وبحث فيه ابن عرفة، وعارضه بما له فِي شرح التلقين فقف عَلَى الفرعين فِي أقضيته.

متن الخليل:
كَاشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي، أَو رَآهُ يُؤَدِّيهَا، إِنْ غَابَ الأَصْلُ، وهُوَرَجُلٌ بِمَكَانٍ، لا يَلْزَمُ الأَدَاءُ مِنْهُ، ولا يَكْفِي فِي الْحُدُودِ الثَّلاثَةُ الأَيَّامِ، أَوْ مَاتَ، أَوْ مَرِضَ، ولَمْ يَطْرَأْ فِسْقٌ، أَوْ عَدَاوَةٌ، بِخِلافِ جِنٍّ. ولَمْ يُكَذِّبْهُ أَصْلُهُ قَبْلَ الْحُكْمِ، وإِلا مَضَى بِلا غُرْمٍ.وَنَقَلَ عَنْ كُلٍّ اثْنَانِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَصْلاً. وفِي الزِّنَا أَرْبَعَةٌ عَنْ كُلٍّ، أَوْ عَنْ كُلِّ اثْنَيْنِ اثْنَانِ ولُفِّقَ نَقْلٌ بِأَصْلٍ، وجَازَ تَزْكِيَةُ نَاقِلٍ أَصْلَهُ ونَقْلُ امْرَأَتَيْنِ مَعَ رَجُلٍ فِي بَابِ شَهَادَتِهِنَّ.
الشرح:
قوله: (كَاشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي). ظاهره وإن تسلسل وقد قال ابن عرفة: ظاهر عموم الروايات وإطلاقها صحة نقل النقل، ولم أقف عَلَيْهِ نصاً، وفي "المدونة" وغيرها: تجوز الشّهَادَة عَلَى الشّهَادَة فِي الحدود والطلاق والولاء، وكل شيء.
ابن عرفة: والنقل عن الأصل شيء.

متن الخليل:
وَإِنْ قَالا وَهِمْنَا بَلْ هُوَهَذَا سَقَطَتَا.
الشرح:
قوله: (وَإِنْ قَالا وَهِمْنَا بَلْ هُوَهَذَا سَقَطَتَا) قال فِي كتاب السرقة من "المدونة": وإِذَا شهد رجلان عَلَى رجل بالسرقة ثم قالا قبل القطع: وهمنا، بل هو هذا الآخر لَمْ يقطع واحد منهما.
قال أبو الحسن الصغير: أما الأول فلأنهما رجعا عن شهادتهما عَلَيْهِ، وأما الثاني: فلأنهما قد كانا برآه حين شهدا عَلَى الأول، وظاهره وإن كَانَ بعد الأمر بالحكم وقبل الإنفاذ. انتهى.
والذي فِي النوادر عن الموازية: إذا قالا قبل الحكم: وهمنا، لَمْ يقبلا، وقاله ابن القاسم وأشهب قالا: ولَو قالا فِي آخر عَلَى هذا شهدنا ووهمنا فِي الأول لَمْ يقبلا عَلَى واحد منهما، ورواه ابن القاسم.
قال أشهب: كَانَ ذلك فِي حق أَو قتل أَو سرقة لإخراجهما أنفسهما عن العدالة بإقرارهما أنهما شهدا عَلَى الوهم والشك.

متن الخليل:
وَنُقِضَ، إِن ثَبَتَ كَذِبُهُمْ كَحَيَاةِ مَنْ قُتِلَ، أَوجبهِ، قَبْلَ الزِّنَا، لا رُجُوعُهُمْ، وغَرِمَا مَالاً ودِيَةً، ولَوْ تَعَمَّدَا، ولا يُشَارِكُهُمْ شَاهِدَا الإِحْصَانِ كَرُجُوعِ الْمُزَكِّي، وأُدِّبَا فِي كَقَذْفٍ، وحُدَّ شُهُودُ الزِّنَا مُطْلَقاً كَرُجُوعِ أَحَدِ الأَرْبَعَةِ قَبْلَ الْحُكْمِ، وبَعْدَهُ حُدَّ الرَّاجِعُ فَقَطْ، وإِنْ رَجَعَ اثْنَانِ مِنْ سِتَّةٍ، فَلا غُرْمَ، ولا حَدَّ، إِلا أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ أَحَدَ الأَرْبَعَةِ عَبْدٌ فَيُحَدُّ الرَّاجِعَانِ والْعَبْدُ، وغَرِمَا فَقَطْ رُبْعَ الدِّيَةِ، ثُمَّ إِنْ رَجَعَ ثَالِثٌ حُدَّ هُو والسَّابِقَانِ، وغَرِمُوا رُبْعَ الدِّيَةِ، ورَابِعٌ فَنِصْفُهَا، وإِنْ رَجَعَ سَادِسٌ بَعْدَ فَقْءِ عَيْنِهِ، وخَامِسٌ بَعْدَ مُوضِحَةٍ، ورَابِعٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَعَلَى الثَّانِي خُمُسُ الْمُوضِحَةِ مَعَ سُدُسِ الْعَيْنِ كَالأَوَّلِ، وعَلَى الثَّالِثِ رُبُعُ دِيَةِ النَّفْسِ فَقَطْ، ومُكِّنَ مُدَّعٍ رُجُوعاً مِنْ بَيِّنَةٍ كَيَمِينٍ إِنْ أَتَى بِلَطْخٍ، ولا يُقْبَلُ رُجُوعُهُمَا عَنِ الرُّجُوعِ.
الشرح:
قوله: (وَنُقِضَ، إِن ثَبَتَ كَذِبُهُمْ كَحَيَاةِ مَنْ قُتِلَ، أَوجبهِ، قَبْلَ الزِّنَا) أي: مثل أن يشهدا أن فلاناً قتل زيداً فلم يقتص منه بعد الحكم بالقصاص حتى قدم زيد حياً، أَو شهدا عَلَى محصن بالزنا فلم يرجم بعد الحكم برجمه حتى وُجد مجبوباً فإن الحكم ينقض فيهما؛ لإمكان نقضه، بِخِلاف ما لَو تأخر ثبوت الكذب على القصاص والرجم؛ ولهذا قيّده ابن الحاجب بالإمكان إذ قال: أما لَو ثبت كذبهم نقض إِذَا أمكن.
قال فِي " التوضيح": احترز بذلك من الفوات بالاستيفاء إذ لَمْ يبق حينئذ إِلا الغرم، وهذا خلاف قول ابن عبد السلام ثبوت كذبهم عسير لأنّه راجع إِلَى تجريح الشهود، والمشهود عليهم بالكذب فِي هذه الصورة يشهدون بكذب من شهد عليهم فيها و يثبتون ما نفاه من شهد عليهم؛ فلهذا علّق ابن الحاجب ثبوت كذبهم عَلَى الإمكان، وإليه يعود هذا الشَرْط لا إِلَى نقض الحكم.
ومن هذا المعنى: إِذَا شهد عَلَى رجلٍ بالزنا، ثم تبين أنّه مجبوب؟ قال ابن عرفة: هذا وهم نشأ عن اعتقاده عسر ظهور كذبهم، ويرد ما ادعاه من عسره بما أقرّ بِهِ أخيراً من مسألة المجبوب، وبمسألة من شهد بقتله ثم قدم حياً، وبما يأتي من نص "المدونة"، كذلك لا يقال فيه: عسير، والحق الواضح لمن أنصف أن الشَرْط راجع إِلَى نقض الحكم لا إِلَى ظهور كذبهم؛ لأن نقضه قد لا يمكن ككونه حكماً بقطع أَو قتل وقع، وقد يمكن ككونه باستحقاق رفع ونحوه.
وكقوله فِي أواخر كتاب الاستحقاق من "المدونة" فيمن شهدت بينة بموته فبيعت تركته وتزوجت زوجته ثم قدم حياً، فإن كَانَ الشهود عدولاً، وذكروا ما يعذرون بِهِ فِي دفع تعمد الكذب؛ مثل أن يروه فِي معركة القتلى فيظنون أنّه ميّت أَو طعن فلم يتبين لهم أن بِهِ حياة، أَو شهدوا عَلَى شهادة غيرهم، فهذا ترد إليه زوجته، وليس له من متاعه إِلا ما وجده لَمْ يبع، وما بيع فهو أحق بِهِ بالثمن إِن وجده قائما لَمْ يتغير عن حاله.
قال ابن القاسم: والذي أراد مالك تغير البدن وليس له أخذ ذلك حتى يدفع الثمن إِلَى مبتاعه، و ما وجده قد فاتت عينه عند مبتاعه أَو تغير عن حاله فِي بدنه، أَو فات بعتق أَو تدبير أَو كتابة أَو أمة تحمل من السيد، أَو صغير يكبر فإنما له الرجوع بالثمن عَلَى من باع ذلك كله، فإن لَمْ تأت البينة بما تعذر بِهِ من شبهة دخلت عليهم فذلك كتعمدهم الزور، فيأخذ متاعه حيث وجده إِن شاء بالثمن الذي بيع به، وتردّ إليه زوجته، وله أخذ ما أعتق من عبدٍ، أَو كوتب، أَو دُبّر أَو صغير كبر، أَو أمة اتخذت أم ولد، فيأخذها، وقيمة ولدها من المبتاع يوم الحكم، كالمغصوبة يجدها بيد مشتريها. انتهى نصّ "المدونة".
وإنما جلب منه ابن عرفة محل الحاجة هنا، وهو إِن لَمْ تأت البينة بما تعذر بِهِ، وإِلَى مسألة "المدونة" هذه أشار المصنف بقوله آخر الاستحقاق: (كَمَشْهُودٍ بِمَوْتِهِ إنْ تعذِرَتْ بَيِّنَةُ، وإِلاَّ فَكَالْغَاصِبِ، ومَا فَاتَ فَالثَّمَنُ كَمَا لَوْ دَبَّرَ أَوْ كَبِرَ صَغِيرٌ).

متن الخليل:
وَإِنْ عَلِمَ الْقَاضِي بِكَذِبِهِمْ، وحَكَمَ فَالْقِصَاصُ وإِنْ رَجَعَا عَنْ طَلاقٍ فَلا غُرْمَ كَعَفْوِ الْقِصَاصِ، إِنْ دَخَلَ، وإِلا فَنِصْفُهُ، كَرُجُوعِهِمَا عَنْ دُخُولِ مُطَلَّقَةٍ، واخْتَصَّ الرَّاجِعَانِ بِدُخُولٍ عَنِ الطَّلاقِ، ورَجَعَ شَاهِدَا الدُّخُولِ عَلَى الزَّوْجِ بِمَوْتِ الزَّوْجَةِ إِنْ أَنْكَرَ الطَّلاقَ.
الشرح:
قوله: (وَإِنْ عَلِمَ الْقَاضِي بِكَذِبِهِمْ، وحَكَمَ فَالْقِصَاصُ) لَمْ يتبع هنا قول ابن الحاجب: ولَو علم الحاكم بكذبهم فحكم، ولَمْ يباشر القتل فحكمه كحكمهم. لأنّه رآه كما قال ابن عبد السلام مخالفاً فِي ظاهره؛ لقوله فِي آخر كتاب الرجم من "المدونة": وإِن أقرّ القاضي أنّه رجم أَو قطع الأيدي أَو جلد؛ تعمداً للجور قيد منه. عَلَى أن ابن الحاجب تابع لابن شاس وابن شاس تابع للإمام المازري؛ فإنّه قال: لَو أن القاضي علم بكذب الشهود، فحكم بالجور وأراق هذا الدم كَانَ حكمه حكم الشهود إِذَا لَمْ يباشر القتل بنفسه، بل أمر بِهِ من تلزمه طاعته، ولو أن ولي الدم علم بكذب الشهود فِي شهادتهم، وبأن القاضي علم بذلك فقتل المشهود عَلَيْهِ بقتل وليه لاقتص منه بلا خلاف، عند المالكية، والشافعية. وقول أبي حنيفة: لا يقتل كالشهود، خيال فاسد. انتهى.
وبعد ما عضد ابن عرفة ما فِي "المدونة" بأن مثله فِي النوادر من رواية ابن القاسم، ومن رواية ابن سحنون عن أبيه: أن ما أقر بِهِ القاضي من تعمد جور أَو قامت عَلَيْهِ بِهِ بينة يوجب عَلَيْهِ القصاص قال: قد يفرق بين هذه المسائل ومسألة المازري بأن محمل هذه المسائل: أنّه أقر بالعداء والجور دون استناد منه لسبب ظاهر، وهو فِي مسألة المازري مستند فِي الظاهر لسبب، وهو البينة المذكورة، والاستناد إِلَى السبب الظاهر وإِن كَانَ كاذباً له أثر وشبهة، كقوله فِي "المدونة": إِن لمن قذف، وهو يعلم من نفسه صدق قاذفه فيما رماه بِهِ أن يقوم بحدّه خلافا لابن عبد الحكم.

متن الخليل:
وَرَجَعَ الزَّوْجُ عَلَيْهِمَا بِمَا فَوَّتَاهُ مِنْ إِرْثٍ، دُونَ مَا غَرِمَ ورَجَعَتْ عَلَيْهِمَا بِمَا فَوَّتَاهَا مِنْ إِرْثٍ وصَدَاقٍ.
الشرح:
قوله: (ورَجَعَ الزَّوْجُ عَلَيْهِمَا بِمَا فَوَّتَاهُ مِنْ إِرْثٍ) لَو قال: ورجع الزوج عَلَى شاهدي الطلاق كعبارة ابن الحاجب، لكان أوضح.

متن الخليل:
وَإِنْ كَانَ عَنْ تَجْرِيحٍ أَوْ تَغْلِيطِ شَاهِدَيْ طَلاقِ أَمَةٍ غَرِمَا لِلسَّيِّدِ مَا نَقَصَ بِزَوْجِيَّتِهَا.
الشرح:
قوله: (وَإِنْ كَانَ عَنْ تَجْرِيحِ أَوْ تَغْلِيطِ شَاهِدَيْ طَلاقِ أَمَةٍ) ينبغي أن يقرأ تجريح بغير تنوين؛ لأنّه مضاف فِي التقدير لمثل ما أضيف إليه فأعطف عَلَيْهِ فهو من باب قول الشاعر:
يا من رأى عارضا يُسرّ بِهِ ** بين ذراعي وجبهة الأسد


متن الخليل:
وَلَوْ كَانَ بِخُلْعٍ بِثَمَرَةٍ، لَمْ تَطِبْ، أَو بِآبِقٍ فَالْقِيمَةُ حِينَئِذٍ كَالإِتْلافِ بِلا تَأْخِيرٍ لِلْحُصُولِ فَيَغْرَمَ الْقِيمَةَ حِينَئِذٍ عَلَى الأَحْسَنِ، وإِنْ كَانَ بِعِتْقٍ غَرِمَا قِيمَتَهُ، ووَلاؤُهُ لَهُ، وهَلْ إِنْ كَانَ لأَجَلٍ يَغْرَمَانِ الْقِيمَةَ والْمَنْفَعَةَ إِلَيْهِ لَهُمَا، أَوْ تُسْقَطُ مِنْهُمَا الْمَنْفَعَةُ، أَوْ يُخَيَّرُ فِيهِمَا؟ أَقْوَالٌ. وإِنْ كَانَ بِعِتْقِ تَدْبِيرٍ فَالْقِيمَةُ، واسْتَوْفَيَا مِنْ خِدْمَتِهِ. فَإِنْ عَتَقَ بِمَوْتِ سَيِّدِهِ فعَلَيْهِمَا، وهُمَا أَوْلَى، إِنْ رَدَّهُ دَيْنٌ، أَوْ بَعْضَهُ كَالْجِنَايَةِ. وإِنْ كَانَ بِكِتَابَةٍ فَالْقِيمَةُ، واسْتَوْفَيَا مِنْ نُجُومِهِ، وإِنْ رُقَّ فَمِنْ رَقَبَتِهِ، وإِنْ كَانَ بِإِيلادٍ فَالْقِيمَةُ، وأَخَذَا مِنْ أَرْشِ جِنَايَةٍ عَلَيْهَا، وفِيمَا اسْتَفَادَتْهُ قَوْلانِ، وإِنْ كَانَ بِعِتْقِهَا فَلا غُرْمَ، أَوْ بِعِتْقِ مُكَاتَبٍ فَالْكِتَابَةُ وإِنْ كَانَ بِبُنُوَّةٍ، فَلا غُرْمَ، إِلا بَعْدَ أَخْذِ الْمَالِ بِإِرْثٍ، إِلا أَنْ يَكُونَ عَبْداً فَقِيمَتُهُ، أَوَّلاً، ثُمَّ إِنْ مَاتَ وتَرَكَ آخَرَ فَالْقِيمَةُ لِلآخَرِ، وغَرِمَا لَهُ نِصْفَ الْبَاقِي.
وإِنْ ظَهَرَ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ أُخِذَ مِنْ كُلٍّ نِصْفُهُ، وكُمِّلَ بِالْقِيمَةِ، ورَجَعَا عَلَى الأَوَّلِ بِمَا غَرِمَهُ الْعَبْدُ لِلْغَرِيمِ، وإِنْ كَانَ بِرِقٍّ لِحُرٍّ فَلا غُرْمَ، إِلا لِكُلِّ مَا اسْتُعْمِلَ، ومَالٍ انْتُزِعَ، ولا يَأْخُذُهُ الْمَشْهُودُ لَهُ، ووُرِثَ عَنْهُ، ولَهُ عَطِيَّتُهُ، لا تَزَوُّجٌ.
الشرح:
قوله: (وَلَوْ كَانَ بِخُلْعٍ بِثَمَرَةٍ، لَمْ تَطِبْ، أَو بِآبِقٍ فَالْقِيمَةُ حِينَئِذٍ كَالإِتْلافِ بِلا تَأْخِيرٍ لِلْحُصُولِ فَيَغْرَمَ الْقِيمَةَ حِينَئِذٍ عَلَى الأَحْسَنِ) القيمة الأولى حين الرجوع، وهي مثبتة والقيمة الثانية حين الحصول، وهي منفية، فلم يتواردا عَلَى موضوع ولا حكم، فلا تكرار ولا إعادة، وينبغي أن يقرأ فيغرم بالنصب جواباً للنفي، أوَعطفا للمصدر المؤول عَلَى الصريح، وما أشار إليه من الأحسنية ذكره ابن راشد القفصي غيرَ معزوٍ فقال: وقول عبد الملك أقيس، وإنما يقع الغرم عَلَى الصفة التي كان عَلَيْهَا يوم الخلع كالإتلاف، ولا اعتبار بقول ابن المواز: أنّه كَانَ تالفاً يومئذ؛ لأن ذلك إنما يعتبر فِي البيع وأما الإتلاف فلا. انتهى.
وقبله فِي "التوضيح". والله تعالى أعلم.

متن الخليل:
وَإِنْ كَانَ بِمِائَةٍ لِزَيْدٍ وعَمْرٍو، ثُمَّ قَالا لِزَيْدٍ غَرِمَا خَمْسِينَ لِلْغَرِيمِ فَقَطْ.
الشرح:
قوله: (وَإِنْ كَانَ بِمِائَةٍ لِزَيْدٍ وعَمْرٍو، ثُمَّ قَالا لِزَيْدٍ غَرِمَا خَمْسِينَ لِلْغَرِيمِ فَقَطْ) الغريم هو: المقضي عَلَيْهِ وفي بعض النسخ (لعمرو) مكان الغريم وهو تصحيف فظيع.
وأصل هذه المسألة فِي النوادر عن ابن عبد الحكم: أن الشاهدين إِذَا شهدا عَلَى رجلٍ أنّه أقر لفلان وفلان بمائة دينار ثم رجعا بعد القضاء، وقالا: إنما شهدنا بها لأَحَدهمَا وعيناه: رجع المقضي عَلَيْهِ بالمائة بخمسين عَلَى الشاهدين، ولا تقبل شهادتهما للآخر بكل المائة؛ لجرحتهما برجوعهما ولا يغرمان له شيئاً؛ لأنّه إِن كَانَ له حق فقد بقي عَلَى من هو عَلَيْهِ وليس قول من قال: يغرمان له خمسين بشيء لأنهما إنما أخذا خمسين من المطلوب أعطياها لمن لا شيء له عَلَيْهِ، ولو كَانَ عبدا بعينه شهد أنّه أقر بِهِ لفلان وفلان فرجعا بعد القضاء بِهِ لهما وقالا إنما أقر بِهِ لفلان منهما فها هنا يغرمان لمن أقرا له قيمة نصفه لأنهما أتلفاه عَلَيْهِ، هذا إِن أقر من كَانَ العبد بيده أنّه لمن شهدا له أخيراً وإِن ادعاه لنفسه وأنكر شهادتهما غرما نصف قيمته للمشهود عَلَيْهِ وليس للمقر له أخيرا إِلا نصفه.
قال ابن عرفه: يقوم من هذا أن ما فِي الذمة لا يتعين بحال ما دام فِي الذمة وأن التعرض إليه بغير الواجب لا يوجب فيه حكما، ونزلت فِي أوائل هذا القرن يعني القرن الثامن مسألة وهي: أن رجلا له دين عَلَى رجل، فعدا السلطان عَلَى رب الدين فأخذه من غريمه، ثم تمكن رب الدين من طلب المدين بدينه فاحتجّ المدين بجبر السلطان عَلَى أخذه منه من حيث كونه حقاً لرب الدين؛ فأفتى بعض الفقهاء ببراءة المدين، وأفتى غيره بعدم براءته، محتجاً بأن ما فِي الذمة لا يتعين قال ابن عبد الحكم: ولو أقر الشاهد أنّه شهد أولاً لمن شهد له متعمداً للزور لانبغى أن يتفق عَلَى تضمينه للثاني.
قال ابن عرفة: فيه نظر؛ لأن مقتضى قول ابن عبد الحكم: أن لا فرق بين تعمد الزور وعدمه فتأمله.

متن الخليل:
وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا غَرِمَ نِصْفَ الْحَقِّ كَرَجُلٍ مَعَ نِسَاءٍ.
الشرح:
قوله: (وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا غَرِمَ نِصْفَ الْحَقِّ) هذا راجع لجميع فروع الرجوع ولا يختصّ بمسألة زيد وعمرو.

متن الخليل:
وَهُوَمَعَهُنَّ فِي الرِّضَاعِ كَاثْنَتَيْنِ، وعَنْ بَعْضِهِ غَرِمَ نِصْفَ الْبَعْضِ، وإِنْ رَجَعَ مَنْ يَسْتَقِلُّ الْحُكْمَ بِعَدَمِهِ فَلا غُرْمَ، فَإِذَا رَجَعَ غَيْرُهُ فَالْجَمِيعُ.
الشرح:
قوله: (وَهُوَمَعَهُنَّ فِي الرِّضَاعِ كَاثْنَتَيْنِ) كذا قال ابن شاس وتبعه ابن الحاجب
وقبله ابن راشد القفصي وقال ابن هارون: جعلوا عَلَى الرجل ضعف ما عَلَى المرأة، وفيه نظر، والقياس استواء الرجل والمرأة فِي الغرم فِي هذا الفصل؛ لأن شهادة المرأة فيه كشهادة الرجل، ونحوه لابن عبد السلام، وزاد: ولعل وجهه أن الشّهَادَة لما آلت إِلَى المال حكم بالرجوع فيها بحكم الرجوع عن شهادة الأموال، وقال ابن عرفة: هذا التوجيه وهم؛ لأنّ رجوع الرجل مَعَ نسوة فِي الأموال يوجب عَلَيْهِ غرم نصف الحق لا ضعف ما يجب عَلَى المرأة، وعندي أنّه يتوجه عَلَى غير المشهور فِي إضافة الغرم إِلَى عدد الشهود من حيث عددهم لا عَلَى أقل النصاب منهم، وهو قول ابن عبد الحكم، وأشهب فِي أربعة رجع ثلاثة منهم، أن عليهم ثلاثة أرباع الحق خلاف المشهور أن عليهم نصفه. فتأمله قال ابن عرفة: ولا أعرف هذه المسألة لأحد من أهل المذهب ولقد أطال الشيخ أبو محمد وابن يونس فِي هذا الباب فلم يذكراها؛ وإنما ذكرها الغزالي فِي " وجيزه " بلفظ ما ذكره ابن شاس، فظنّ ابن شاس موافقتها للمذهب فأضافها إليه، وهو متعقب.

متن الخليل:
وَلِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ مُطَالَبَتُهُمَا بِالدَّفْعِ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ.
الشرح:
قوله: (ولِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ مُطَالَبَتُهُمَا بِالدَّفْعِ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ) يعني أن الشاهدين إِذَا شهدا لرجل عَلَى آخر بحق، ثم رجعا عن شهادتهما ذلك كله قبل أن يغرم المقضي عَلَيْهِ فله أن يطالبهما بالدفع للمقضي له؛ لأن الحق توجه عَلَيْهِ للمقضي له بشهادتهما أولاً، وتوجه عَلَيْهِمَا للمقضي عَلَيْهِ برجوعهما عن شهادتهما فله أن يخرج عن هذه الخسارة بأن يلزمهما الدفع للمقضي له وكذا فِي النوادر عن ابن عبد الحكم وعبارة المصنف موفية بِهِ؛ فهي محررة بِخِلاف ما يعطيه لفظ ابن الحاجب من أن المقضي عَلَيْهِ يقبضه من الشاهدين ثم يدفعه للمقضي له.

متن الخليل:
وَلِلْمَقْضِيِّ لَهُ ذَلِكَ، إِذَا تَعَذَّرَ مِنَ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ، وإِنْ أَمْكَنَ جَمْعٌ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ جُمِعَ.
الشرح:
قوله: (وَلِلْمَقْضِيِّ لَهُ ذَلِكَ، إِذَا تَعَذَّرَ مِنَ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ) تبع فِي هذا ابن الحاجب وهو خلاف ما فِي النوادر عن الموازية أنّه إِذَا حكم بشهادتهما ثم رجعا فهرب المقضي عَلَيْهِ قبل أن يؤدي، وطلب المقضي له أن يأخذ الشاهدين بما كانا يغرمان لغريمه لَو غرم لا يلزمهما غرم حتى يغرم المقضي عَلَيْهِ فيغرمان له حينئذ؛ ولكن ينفذ القاضي الحكم للمقضي عَلَيْهِ عَلَى الراجعين بالغرم هرب أَو لَمْ يهرب، فإذا غرم أغرمهما كما لَو شهدا عَلَى رجلٍ بحق إِلَى سنة ثم رجعا فلا يرجع عَلَيْهِمَا حتى تحلّ السنة، ويغرم هو وله أن يطلب القضاء بذلك عَلَيْهِمَا الآن ولا يغرمان الآن.
قال ابن عرفة: فقول ابن الحاجب: وللمقضي له ذلك إِذَا تعذر من المقضي عَلَيْهِ. وهم؛ لأنّه خلاف المنصوص، ولَو ذكره بعد ذكر المنصوص أمكن أن يكون قولاً انفرد بمعرفته.
وقال ابن عبد السلام: لا أعلم من أين نقله إِلا أنّه يقال عَلَى هذا: إِذَا كَانَ الشاهدان فِي هذا الفرع لا يلزمهما الدفع إِلا بعد غرم المقضي عَلَيْهِ فغرمهما حينئذ مشروط بغرم المقضي عَلَيْهِ، ويلزم تأخير الشَرْط عن المشروط وذلك مناقض لأصل المسألة: أن للمقضي عَلَيْهِ أن يطالبهما بالدفع للمقضي له قبل غرمه، ألا ترى أن غرمهما سابق عَلَى غرمه فيكون غرمهما سابقاً لاحقاً، وهو باطل.
فقال ابن عرفة وقفه عَلَى غرمه إنما هو فِي غيبته لا مَعَ حضوره، ولا يتوهم تأخير الشَرْط عن المشروط إِلا من مجموع توقف غرمهما عَلَى غرمه، مَعَ لزوم غرمهما بمجرّد طلب غرمهما قبل غرمه، ويردّ بأنّه إنما شرط غرمهما بغرمه فِي حال غيبته لا فِي حال حضوره؛ لأنّه فِي غيبته يمكن أن لَو حضر أقر بالحق المشهود عَلَيْهِ بِهِ، وإِذَا حضر وطلب غرمهما انتفى هذا الاحتمال، فقوله: (يلزم تأخير الشَرْط عن المشروط) وهم، فتأمله. انتهى.
وزعم المصنف فِي توضيحه أن ما قاله ابن الحاجب هو مقتضى الفقه؛ لأن الشهود غرماء غريمه، ولعله لهذا تبعه هنا وما كَانَ ينبغي له ذلك.

متن الخليل:
وإِلا رُجِّحَ بِسَبَبِ مِلْكٍ. كَنَسْجٍ، ونَتَاجٍ إِلا بِمِلْكٍ مِنَ الْمُقَاسِمِ.
الشرح:
قوله: (وَإِلا رُجِّحَ بِسَبَبِ مِلْكٍ. كَنَسْجٍ) أي: إِذَا ذكرت إحدى البينتين مَعَ الملك سبب الملك من نسيج ثوب ونتاج حيوان ونحوهما كنسخ كتاب واصطياد وحش، ولَمْ تذكر الأخرى سوى مجرد الملك، فإن ذاكرة السبب مرجحة عَلَى التي لَمْ تذكره، وبنحو هذا فسر ابن عبد السلام كلام ابن الحاجب وقال فِي توضيحه: كما إِذَا شهدت إحداهما: أنّه صادها أَو نتجت عنده وشهدت الأخرى بالملك المطلق. انتهى.
وقال فِي شهادات "المدونة": ولَو أن أمة ليست بيد أَحَدهمَا فأتى أَحَدهمَا ببينة أنها له لا يعلمونها خرجت عن ملكه حتى سرقت له وأقام الآخر بينة أنها له ولدت عنده لا يعلمونها خرجت عن ملكه بشيء وقضي بها لصاحب الولادة.
وقال اللخمي قال أشهب: فيمن أقام بينة فِي أمة بيد رجل أنها ولدت عنده فلا يقضى له بها حتى يقولوا: أنّه كَانَ يملكها لا نعلم لغيره فيها حقاً وقد يولد فِي يديه ما هو لغيره وقال ابن القاسم: إنها لمن ولدت عنده أصوب، ومحمل الأمر عَلَى أنها كانت له حتى يثبت أنها وديعة أَو غصب. انتهى وذكر فِي توضيحه عن التونسي نحوه.

متن الخليل:
أَوْ تَارِيخٍ، أَوْ تَقَدُّمِهِ، وبِمَزِيدِ عَدَالَةٍ، لا عَدَدٍ، وبِشَاهِدَيْنِ عَلَى شَاهِدٍ، ويَمِينٍ، أَوِ امْرَأَتَيْنِ.
الشرح:
قوله: (أَوْ تَارِيخٍ) معطوف عَلَى (سبب).

متن الخليل:
وَبِيَدٍ، إِنْ لَمْ تُرَجَّحْ بَيِّنَةُ مُقَابِلِهِ، فَيَحْلِفُ، وبِالْمِلْكِ عَلَى الْحَوْزِ، وبِنَقْلٍ عَلَى مُسْتَصْحِبَةٍ.
الشرح:
قوله: (وَبِيَدٍ، إِنْ لَمْ تُرَجَّحْ بَيِّنَةُ مُقَابِلِهِ، فَيَحْلِفُ) رجوع الحلف للمنطوق أبين من رجوعه للمفهوم.
وَصِحَّةُ الْمِلْكِ بِالتَّصَرُّفِ، وعَدَمِ مُنَازِعٍ، وحَوْزٍ طَالَ كَعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ فِي عِلْمِهِمْ.
قوله: (وَصِحَّةُ الْمِلْكِ بِالتَّصَرُّفِ، وعَدَمِ مُنَازِعٍ، وحَوْزٍ طَالَ كَعَشَرَةِ أَشْهُرٍ) الملك: استحقاق التصرف فِي الشيء بكل أمر جائز فعلاً أَو حكما لا بنيابة، فيدخل ملك الصبي ونحوه لاستحقاقهما ذلك حكماً، ويخرج تصرف الوصي والوكيل وذي الإمرة.
قاله ابن عرفة، وقال اللخمي: قال سحنون من حضر رجلاً اشترى سلعة من السوق، فلا يشهد أنها ملكه، والشّهَادَة بالملك أن تطول الحيازة وهو يفعل ما يفعل المالك بلا منازع، وسواء حضروا بدء دخولها فِي يديه أم لا، فليشهدوا بالملك، وإِن لَمْ تطل
الحيازة لَمْ يثبت الملك إِلا أن يشهدوا أنه غنمها من دار الحرب وشبهه، قال اللخمي: انتهى قول سحنون.
وإِلَى هذا ذهب أشهب ألا يثبت الملك بمجرد ولادة الأم إِلا أن تطول الحيازة، انتهى.
وأما تحديد الطول هنا فقال أبو الفضل راشد فِي كتاب: "الحلال والحرام " عن بعض المتأخرين: تجوز الشّهَادَة بالملك لحائز سنة.

متن الخليل:
وَتُؤُوِّلَتْ عَلَى الْكَمَالِ فِي الأَخِيرِ.
الشرح:
قوله: (وَتُؤُوِّلَتْ عَلَى الْكَمَالِ فِي الأَخِيرِ) اعتمد فِي توضيحه عَلَى ما فِي التقييد، فعزى هذا التأويل لأبي إبراهيم الأعرج، وأبي الحسن الصغير من أئمة فاس وعزاه ابن عرفة لنصّ عارية "المدونة"، وظاهر قول ابن يونس وابن رشد، قال وكَانَ ابن عبد السلام وابن هارون يحملان "المدونة" عَلَى القولين وهو ظاهر نقل ابن عات فِي: الطرر عن ابن سهل، والأَظْهَر أن ما فِي العارية تفسير.

متن الخليل:
لا بِالاشْتِرَاءِ، وإِنْ شُهِدَ بِإِقْرَارٍ اسْتُصْحِبَ وإِنْ تَعَذَّرَ تَرْجِيحٌ سَقَطَتَا، وبَقِيَ بِيَدِ حَائِزِهِ، أَوْ لِمَنْ يُقِرُّ لَهُ.
الشرح:
قوله: (لا بِالاشْتِرَاءِ) الظاهر أنّه معطوف عَلَى (بالتصرف) وكأنّه قال: وصحة الملك بالتصرف وما معه لا باشتراء، فهو إشارة إِلَى قول اللخمي قال سحنون فيمن حضر رجلاً اشترى سلعة من السوق: فلا يشهد أنها ملكه ولَو أقام رجل بينة أنها ملكه وأقام هذا بينة أنّه اشتراها من السوق: كانت لصاحب الملك وقد يبيعها من لا يملكها، ولَو قال لا باشتراء منه لأمكن أن يعود الضمير عَلَى الخصم، وأن يكون المعنى: أن شهود الملك لا يحتاجون إِلَى أن يقولوا أنّه لَمْ يخرج عن ملكه فِي علمهم إِذَا شهدوا أنّه اشتراها من خصمه، بل يحكم بالاستصحاب ولا يقبل قول الخصم أنّه عاد إليه كما ذكر ابن شاس وأتباعه وإِن لَمْ يعرفه ابن عرفة نصاً فِي المذهب؛ وعَلَى هذا فيكون من نوع قوله بعده: (و إِن شهد بإقرار استصحب).

متن الخليل:
وَقُسِمَ عَلَى الدَّعْوَى، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِ أَحَدِهِمَا، كَالْعَوْلِ.
الشرح:
قوله: (وَقُسِمَ عَلَى الدَّعْوَى، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِ أَحَدِهِمَا، كَالْعَوْلِ) كذا فِي كثير من النسخ بالشَرْط المجرد من الواو ولا يصح غيره، وهو فِي غاية التحرير والضبط للمشهور؛ لأنّ الذي لَمْ يكن بيد أَحَدهمَا يتناول صورتين الأولى: أن لا يكون بيد واحدٍ منهما، والثانية: أن يكون بأيديهما معا، وذكر ابن الحاجب وأتباعه الاتفاق فِي الأولى ونقضه ابن عرفة بما ذكر ابن حارث من خلاف عبد الملك وسحنون وبما فِي النوادر من كتاب ابن سحنون عن أشهب.

متن الخليل:
وَلَمْ يَأْخُذْهُ إِنْ شَهِدَ بِأنّه كَانَ بِيَدِهِ، وإِنِ ادَّعَى أَخٌ أَسْلَمَ أَنَّ أَبَاهُ أَسْلَمَ فَالْقَوْلُ لِلنَّصْرَانِيِّ وقُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْمُسْلِمِ، إِلا بِأنّه تَنَصَّرَ، ومَاتَ أَوْ جَهِلَ أَصْلُهُ فَيُقْسَمُ كَمَجْهُولِ الدَّيْنِ، وقُسِمَ عَلَى الْجِهَاتِ بِالسَّوِيَّةِ، وإِنْ كَانَ مَعَهُمَا طِفْلٌ، فَهَلْ يَحْلِفَانِ ويُوقَفُ الثُّلُثُ فَمَنْ وَافَقَهُ أَخَذَ حِصَّتَهُ ورُدَّ عَلَى الآخَرِ وإِنْ مَاتَ حَلَفَا وقُسِمَ، أَوْ لِلصَّغِيرِ النِّصْفُ ويُجْبَرُ عَلَى الإِسْلامِ؟ قَوْلانِ وإِنْ قَدِرَ عَلَى شَيْئِهِ، فَلَهُ أَخْذُهُ إِنْ يَكُنْ غَيْرَ عُقُوبَةٍ، وأَمِنَ فِتْنَةً ورَذِيلَةً.
الشرح:
قوله: (ولَمْ يَأْخُذْهُ إِنْ شَهِدَ بِأنّه كَانَ بِيَدِهِ) هذا مختصر من قول ابن الحاجب: ولَو شهد أنّه كَانَ فِي يد المدعي أمس لَمْ يأخذه بذلك.
قال ابن عبد السلام: لأن كونه فِي يده لا يدل عَلَى أنّه مالكه ولا أنّه مستحق لوضع يده عَلَيْهِ وهو أعم من ذلك كله، والأعمّ لا يشعر بالأخص فلم يبق إِلا مطلق الحوز، وها هو هذا محوز فِي يد الآخر.
تكميل:
قال ابن شاس: ولَو شهدوا أنّه انتزعه منه أَو غصبه أَو غلبه عَلَيْهِ فالشّهَادَة عَلَى هذا جائزة ويجعل المدعي صاحب اليد. ففرّق بينهما، وكذا فعل ابن الحاجب وأغفل المصنف هنا هذه الثانية، وذكر ابن عرفة أنّه لا يعرفهما معاً نصاً لمن قبل ابن شاس من أهل المذهب، مَعَ أنّ هذه الثانية فِي "النوادر" والكمال لله سبحانه.
استطراد:
قال فِي كتاب السرقة من "المدونة": ومن شهدت عَلَيْهِ بينة أنّه سرق هذا المتاع من يد هذا، فقال السارق: أحلفوه أنّه ليس لي، فأنّه يقطع ويحلف الطالب ويأخذه، فإن نكل حلف السارق وأخذه، كذا اختصر أبو سعيد. وفِي التنبيهات استيعابه.
قال أبو الحسن الصغير: هذه اليمين عَلَى نفي دعوى السارق وليست بيمين القضاء؛ لأن البينة لَمْ تشهد له بالملك.

متن الخليل:
وَإِنْ قَالَ أَبْرَأَنِي مُوَكِّلُكَ الْغَائِبُ أُنْظِرَ فِي الْقَرِيبَةِ وفِي الْبَعِيدَةِ يَحْلِفُ الْوَكِيلُ مَا عَلِمَ بِقَبْضِ مُوَكِّلِهِ ويُقْضَى لَهُ، فَإِنْ حَضَرَ الْمُوَكِّلُ حَلَفَ واسْتَمَرَّ الْقَبْضُ، وإِلا حَلَفَ الْمَطْلُوبُ واسْتُرْجِعَ مَا أُخِذَ مِنْهُ، ومَنِ اسْتَمْهَلَ لِدَفْعِ بَيِّنَةٍ، أُنْظِرَ بِالاجْتِهَادِ كَحِسَابٍ وشِبْهِهِ، بِكَفِيلٍ بِالْمَالِ كَأَنْ أَرَادَ إِقَامَةَ ثَانٍ.
الشرح:
قوله: (وَإِنْ قَالَ أَبْرَأَنِي مُوَكِّلُكَ الْغَائِبُ أُنْظِرَ فِي الْقَرِيبَةِ وفِي الْبَعِيدَةِ يَحْلِفُ الْوَكِيلُ مَا عَلِمَ بِقَبْضِ مُوَكِّلِهِ ويُقْضَى لَهُ، فَإِنْ حَضَرَ الْمُوَكِّلُ حَلَفَ واسْتَمَرَّ الْقَبْضُ، وإِلا حَلَفَ الْمَطْلُوبُ واسْتُرْجِعَ مَا أُخِذَ مِنْهُ) أما حلف الوكيل ما علم بقبض موكله فهو كقول ابن كنانة، وقال ابن عبد السلام: أنّه بعيد جداً؛ لأنّه يحلف لينتفع غيره، وأما ما بعده من الكلام فإنما ساقه ابن عبد السلام قولاً آخر فقال: وقيل: يقضى عَلَى المطلوب وترجى له اليمين عَلَى الموكل، فإذا لقيه أحلفه، وإِن نكل حلف المطلوب واسترجع ما دفعه، ولَمْ يزد فِي توضيحه عَلَى نسبة هذا القول لابن المواز، وأنت تراه هنا ركّب هذه الفتوى من القولين. فتأمله، وأما ابن عرفة فلم يذكر هنا هذا القول الأخير؛ وإنما اعتني بنقل الأسمعة، فقف عَلَيْهِ.

متن الخليل:
أَوْ لإِقَامَةِ بَيِّنَةٍ فَبِحَمِيلٍ بِالْوَجْهِ. وفِيهَا أَيْضاً نَفْيُهُ، وهَلْ خِلافٌ، أَوِ الْمُرَادُ وَكِيلٌ يُلازِمُهُ، أَوْ لَمْ تُعْرَفْ عَيْنُهُ تَأْوِيلاتٌ، ويُجِيبُ عَنِ الْقِصَاصِ الْعَبْدُ وعَنِ الأَرْشِ السَّيِّدُ والْيَمِينُ فِي كُلِّ حَقٍّ. بِاللهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُو ولَوْ كِتَابِيَّاً، وتُؤُوِّلَتْ أَيْضاً عَلَى أَنَّ النَّصْرَانِيَّ يَقُولُ بِاللهِ فَقَطْ، وغُلِّظَتْ فِي رُبُعِ دِينَارٍ بِجَامِعٍ كَالْكَنِيسَةِ، وبَيْتِ النَّارِ، وبِالْقِيَامِ، لا بِالاسْتِقْبَالِ وبِمِنْبَرِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وخَرَجَتِ الْمُخَدَّرَةُ فِيمَا ادَّعَتْهُ، أَوِ ادُّعِيَ عَلَيْهَا، إِلا الَّتِي لا تَخْرُجُ نَهَاراً، وإِنْ مُسْتَوْلَدَةً فَلَيْلاً، وتُحَلَّفُ فِي أَقَلَّ بِبَيْتِهَا وإِنِ ادَّعَيْتَ قَضَاءً عَلَى مَيِّتٍ لَمْ يَحْلِفْ إِلا مَنْ يُظَنُّ بِهِ الْعِلْمُ مِنْ وَرَثَتِهِ، وحَلَفَ فِي نَقْصٍ بَتَّاً، وغِشٍّ عِلْماً، واعْتَمَدَ الْبَاتُّ عَلَى ظَنٍّ قَوِيٍّ كَخَطِّ أَبِيهِ، أَوْ قَرِينَةٍ، ويَمِينُ الْمَطْلُوبِ مَا لَهُ عِنْدِي كَذَا، ولا شَيْءٌ مِنْهُ، ونَفَى سَبَباً، إِنْ عُيِّنَ وغَيْرَهُ، فَإِنْ قَضَى نَوَى سَلَفاً يَجِبُ رَدُّهُ وإِنْ قَالَ وَقْفٌ، أَوْ لِوَلَدِي لَمْ يُمْنَعْ مُدَّعٍ مِنْ بَيِّنَتِهِ، وإِنْ قَالَ لِفُلانٍ، فَإِنْ حَضَرَ ادُّعِيَ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ فَلِلْمُدَّعِي تَحْلِيفُ الْمُقِرِّ، وإِنْ نَكَلَ حَلَفَ وغَرِمَ مَا فَوَّتَهُ، أَوْ غَابَ لَزِمَهُ يَمِينٌ أَوْ بَيِّنَةٌ، وانْتَقَلَتِ الْحُكُومَةُ لَهُ، فَإِنْ نَكَلَ أَخَذَهُ بِلا يَمِينٍ، وإِنْ جَاءَ الْمُقَرُّ لَهُ فَصَدَّقَ الْمُقِرَّ، أَخَذَهُ، وإِنِ اسْتَحْلَفَ ولَهُ بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ، أَوْ كَالْجُمُعَةِ يَعْلَمُهَا لَمْ تُسْمَعْ.
الشرح:
قوله: (أَوْ لإِقَامَةِ بَيِّنَةٍ فَبِحَمِيلٍ بِالْوَجْهِ) يقيد هذا الإطلاق قوله آخر الضمان: (وَلَمْ يَجِبْ وَكِيلٌ لِلْخُصُومَةِ ولَا كَفِيلٌ بِالْوَجْهِ بِالدَّعْوَى إلَّا بِشَاهِدٍ وإِنْ ادَّعَى بَيِّنَةً بِكَالسُّوقِ وقَفَهُ الْقَاضِي عِنْدَهُ).

متن الخليل:
وَإِنْ نَكَلَ فِي مَالٍ وحَقِّهِ اسْتَحَقَّ بِهِ بِيَمِينٍ إِنْ حَقَّقَ، ولْيُبَيِّنِ الْحَاكِمُ حُكْمَهُ، ولا يُمَكَّنُ مِنْهَا إِنْ نَكَلَ.
الشرح:
قوله: (وإِنْ نَكَلَ فِي مَالٍ وحَقِّهِ اسْتَحَقَّ بِهِ بِيَمِينٍ إِنْ حَقَّقَ) أي وإِن نكل من توجهت عَلَيْهِ اليمين فِي مال أَو حق مال كخيار وأجل استحق خصمه بسبب النكول مَعَ يمينه، وهو بشرط أن يحقق فيدعي معرفة احترازاً من يمين التهمة، وقد صرّح بالمفهوم فِي بعض النسخ فقال: (و بيمين تهمة بمجرد النكول)، وقد ظهر لك بهذا التقرير: أنّه غير مكرر مَعَ قوله فِي الأقضية: (فَيَدَّعِي بِمَعْلُومٍ مُحَقَّقٍ) قال وكذا شيء، وتقدم الكلام عَلَيْهِ فراجعه.

متن الخليل:
بِخِلافِ مُدَّعٍ الْتَزَمَهَا، ثُمَّ رَجَعَ، وإِنْ رُدَّتْ عَلَى مُدَّعٍ وسَكَتَ زَمَناً فَلَهُ الْحِلْفُ.
الشرح:
قوله: (بِخِلافِ مُدَّعٍ الْتَزَمَهَا، ثُمَّ رَجَعَ) كذا هو فِي جل النسخ وهو الصواب.

متن الخليل:
وَإِنْ حَازَ أَجْنَبِيٌّ غَيْرُ شَرِيكٍ وتَصَرَّفَ، ثُمَّ ادَّعَى حَاضِرٌ سَاكِتٌ بِلا مَانِعٍ عَشْرَ سِنِينَ، لَمْ تُسْمَعْ، ولا بَيِّنَتُهُ، إِلا بِإِسْكَانٍ ونَحْوِهِ، كَشَرِيكٍ أَجْنَبِيٍّ حَازَ فِيهَا إِنْ هَدَمَ وبَنَى، وفِي الشَّرِيكِ الْقَرِيبِ مَعَهُمَا، قَوْلانِ، لا بَيْنَ أَبٍ وابْنِهِ، إِلا بِكَهِبَةٍ، إِلا أَنْ يَطُولَ مَعَهَا مَا تَهْلِكُ الْبَيِّنَةُ، ويَنْقَطِعُ الْعِلْمُ، وإِنَّمَا تَفْتَرِقُ الدَّارُ مِنْ غَيْرِهَا فِي الأَجْنَبِيِّ، فَفِي الدَّابَّةِ وأَمَةِ الْخِدْمَةِ، السَّنَتَانِ، ويُزَادُ فِي عَبْدٍ وعَرْضٍ.
الشرح:
قوله: (وَإِنْ حَازَ أَجْنَبِيٌّ...إِلَى آخر الباب) مختصر من كلام ابن رشد فِي رسم يدير من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق فعليك بِهِ. وبالله تعالى التوفيق.