فصل: الطرف الأول في الأقسام التي أقسم بها الله تعالى في كتابه العزيز:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.المقالة الثامنة في الأيمان:

وفيها بابان:

.الباب الأول في أصول يتعين على الكاتب معرفتها قبل الخوض في الأيمان:

وفيه فصلان:

.الفصل الأول فيما يقع به القسم:

وفيه طرفان:

.الطرف الأول في الأقسام التي أقسم بها الله تعالى في كتابه العزيز:

اعلم أنه قد ورد في القرآن الكريم أقسام أقسم الله تعالى بها إقامة للحجة على المخالف بزيادة التأكيد بالقسم؛ وهي على ضربين:
الضرب الأول: ما أقسم الله تعالى فيه بذاته أو صفاته والمقصود منه مجرد التأكيد:
وقد ورد ذلك في مواضع يسيرة من القرآن: منها قوله تعالى: {فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون}، وقوله: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون}، وقوله: {فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثياً}، وقوله: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم}.
ومنها قوله تعالى: {يس * والقرآن الحكيم}، وقوله: {ص والقرآن ذي الذكر}، وقوله: {ق والقرآن المجيد}، وقوله: {حم * والكتاب المبين}.
الضرب الثاني ما أقسم الله تعالى فيه بشيء من مخلوقاته ومصنوعاته:
والمقصود منه مع التأكيد التنبيه على عظيم قدرته وجلاله عظمته، من حيث إبداعها، تعظيماً له لا لها.
وقد ورد ذلك في مواضع كثيرة من القرآن، لا سيما في أوائل السور: فأقسم تعالى بالسماء والأرض، والشمس والقمر، والنجوم والرياح، والجبال والبحار، والثمار والليل والنهار، وما تفرع عنهما من الأوقات المخصوصة، وبالملائكة الكرام المسخرين في تدبير خلقه، إلى غير ذلك من الحيوان والثمار وغيرها. وقيل المراد في القسم بها وقت كذا.
فأما ما في أوائل السور فقال تعالى: {والصافات صفاً * فالزاجرات زجراً * فالتاليات ذكراً}، وقال عز وجل: {والذاريات ذرواً * فالحاملات وقراً * فالجاريات يسراً * فالمقسمات أمراً}، وقال جلت عظمته: {والطور * وكتاب مسطور * في رق منشور * والبيت المعمور * والسقف المرفوع * والبحر المسجور}، وقال: {والنجم إذا هوى}، وقال: {لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة}، وقال: {والمرسلات عرفاً * فالعاصفات عصفاً * والناشرات نشراً * فالفارقات فرقاً * فالملقيات ذكراً}، وقال: {والنازعات غرقاً * والناشطات نشطاً والسابحات سبحاً * فالسابقات سبقاً * فالمدبرات أمراً}، وقال: {والسماء ذات البروج * واليوم الموعود}، وقال: {والسماء والطارق}، وقال: {والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر * والليل إذا يسر}، وقال: {لا أقسم بهذا البلد * وأنت حل بهذا البلد * ووالد وما ولد}، وقال: {والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى * وما خلق الذكر والأنثى}، وقال: {والضحى * والليل إذا سجى}، وقال: {والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين}، وقال: {والعصر * إن الإنسان لفي خسر}.
وأقسم بالملائكة القائمين في عبادته، والمسخرين في تدبير مخلوقاته في قوله: {والصافات صفاً فالزاجرات زجراً}. قيل المراد بالصافات: الصافون صفوفاً، وبالزاجرات الملائكة التي تزجر السحاب. وفي قوله: {فالمقسمات أمراً}. قيل المراد الملائكة التي تقسم الأرزاق على الخلق. وفي قوله: {والنازعات غرقاً والناشطات نشطاً} قيل: النازعات الملائكة تنزع روح الكافر عند الموت، والناشطات تنشط روح المؤمن كما ينشط العقال من يد البعير. وقوله تعالى: {والمرسلات عرفاً * فالعاصفات عصفاً * والناشرات نشراً * فالفارقات فرقاً * فالملقيات ذكراً}، وقوله تعالى: {والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر * والليل إذا يسر}، وقوله تعالى: {لا أقسم بهذا البلد * وأنت حل بهذا البلد * ووالد وما ولد}، وقوله تعالى: {والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها * والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها}، وقوله تعالى: {والعاديات ضبحاً * فالموريات قدحاً * فالمغيرات صبحاً} وقوله تعالى: {والعصر * إن الإنسان لفي خسر}. أقسم بالعصر وهو الدهر.
وأما في أثناء السور فمنه قوله تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم}؛ وقوله: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب}، وقوله: {فلا أقسم بالشفق * والليل وما وسق * والقمر إذا اتسق}.

.الطرف الثاني في الأقسام التي تقسم بها الخلق:

وهي على ضربين:
الضرب الأول: ما كان يقسم به في الجاهلية:
اعلم أن مبنى الأيمان على الحلف بما يعظمه الحالف ويتحرز من الحنث عند الحلف به. فأهل كل ملة يحلفون بما هو عظيم لديهم في حكم ديانتهم. ولا خفاء في أن كل معترف لله تعالى بالربوبية من أهل الكتاب أو مشركاً، ضرورة اعترافهم بألوهيته تعالى، والإنقياد إلى ربوبيته.
وقد حكى الله تعالى عن الكفار في القرآن الكريم رعاية القسم بالله فقال تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها} وقال جل وعز: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم}، وقال جل من قائل: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت}.
ثم اليهود يحلفون بالتوراة، والنصارى يحلفون بالإنجيل، وعبدة الأوثان من العرب كانوا يحلفون بأوثانهم؛ وكان أكثر حلف عرب الحجاز باللات والعزى. وربما جنحوا عن صورة القسم إلى ضرب من التعليق، مثل أن يقول: إن فعلت كذا فعلي كذا، أو فأنا كذا، أو فأكون مخالفاً لكذا أو خارجاً عن كذا أو داخلاً في كذا، وما أشبه ذلك.
وقد كانت العرب تأتي في نظمها ونثرها عند حلفها بالتعليق بإضافة المكروه إلى مواقعة ما يحذرونه: من هلاك الأنفس والأموال، وفساد الأحوال، وما يجري مجرى ذلك.
قال الجاحظ: قال الهيثم: يمين لا يحلف بها أعرابي أبداً، وهي أن يقول: لا أورد الله لك صافياً، ولا أصدر لك وارداً، ولا حططت رحلك، ولا خلعت نعلك، يعني إن فعلت كذا.
وقال النابغة الذبياني:
ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه ** إذاً فلا رفعت سوطي إلي يدي

وقال الأشتر النخعي:
بقيت وفري وانحرفت عن العلى ** ولقيت أضيافي بوجه عبوس!

إن لم أشن على ابن حرب غارة ** لم تخل يوماً من نهاب نفوس!

وقال معدان بن جواس الكندي:
إن كان ما بلغت عني فلامنى ** صديفي وشلت من يدي الأنامل!

وكفنت وحدي منذراً بردائه ** وصادف حوطاً من أعادي قاتل!

وقال عدي بن زيد:
فإن لم تهلكوا فثكلت عمراً ** وجانبت المروق والسماعا!

ولا ملكت يداي عنان طرف ** ولا أبصرت من شمس شعاعا!

ولا وضعت إلي على خلاء ** حصان يوم خلوتها قناعا!

وقال عمرو بن قميئة:
فإن كان حقاً كما خبروا ** فلا وصلت لي يمين شمالا

وقال العلوي البصري:
ويقول للطرف اصطبر لشبا القنا ** فهدمت ركن المجد إن لم تعقر!

وإذا تأمل شخص ضيف طارقاً ** متسربلاً سربال ليل أغبر!

أومأ إلى الكوماء هذا طارق ** عزتني الأعداء إن لم تنحري!

وقال محمد بن الحصين الأنباري:
ثكلتني التي تؤمل إدرا ** ك المنى بي وعاجلتني المنون!

إن تولى بظلمنا عبد عمرو ** ثم لم تلفظ السيوف الجفون!

الضرب الثاني: الأقسام الشرعية:
والمرجوع فيه إلى صيغة الحلف وما يحلف به.
فإما صيغة الحلف ففيه صريح وكناية: فالصريح يكون مع الإتيان بلفظ الحلف، كقوله: أحلف بالله لأفعلن كذا، وأقسم بالله لأفعلن كذا، مع الإتيان بحرف من حروف القسم: وهي الواو، كما في قوله تعالى: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين}.
وبالتاء المثناة: كما في قوله تعالى حكاية عن الخليل عليه السلام: {وتالله لأكيدن أصناكمم بعد أن تولوا مدبرين}، وقوله حكاية عن إخوة يوسف عليه السلام خطاباً لأبيهم: {قالوا تالله تفئو تذكر يوسف}، وقوله حكاية عنهم في خطاب يوسف عليه السلام: {قالوا تالله لقد آثرك الله علينا}. فإذا أتى باليمين بصيغة من هذه الصيغ انعقدت يمينه، نوى اليمين أو لم ينو.
والكناية كقوله بلا- بحرف القسم- وباله؛ ولعمر الله، وايم الله، وأشهد بالله، وأعزم بالله. فإذا أتى بصيغة من هذه الصيغ ونوى اليمين انعقدت، وإلا فلا. وفي معنى ذلك تعليق التزام فعل أو تركه، بشرط أن يكون ذلك قربة، كقوله: إن فعلت كذا فعلي نذر كذا، أو يكون كفارة يمين، مثل أن يقول: إن فعلت كذا فعلي كفارة يمين.
وأما ما يحلف به فهو على أربعة أصناف:
الصنف الأول- اسم الله تعالى الذي لا يشاركه فيه غيره، وهو الله والرحمن. ولا نزاع في انعقاد اليمين به بكل حال إذ لا ينصرف بالنية إلى غيره، قال تعالى: {فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً} أي هل تعلم أحداً تسمي الله غيره، وقال جل وعز: {قل ادعوا الله وادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى}، فجعل اسمه الرحمن قريناً لاسمه الله. ولا عبرة بتسمية مسيلمة الكذاب- لعنه الله- نفسه رحمن اليمامة تجهرماً، إذ لم يتسم به غلا ميداً لإضافته إلى اليمامة. وكذلك الأزل الذي ليس قبله شيء.
الصنف الثاني اسم الله تعالى الذي يسمى به غيره على سبيل المجاز، وعند الإطلاق ينصرف إلى الله تعالى: كالرحيم، والعليم والحليم، والحكيم، والخالق، والرزاق، والجبار، والحق، والرب. فإن قصد به الله تعالى انعقدت اليمين، وإن قصد به غيره فلا تنعقد، ويدين الحالف.
الصنف الثالث ما يستعمل في أسماء الله تعالى مع مشاركة غيره له فيه: كالموجود، والحي، والناطق؛ ولا تنعقد به اليمين، قصد الله تعالى أو لم يقصد: لأن اليمين إنما تنعقد بحرمة الاسم، وإنما يكون ذلك في الخاص دون المشترك.
الصنف الرابع صفات الله تعالى فإن كانت الصفة المحلوف بها صفة لذاته كقوله: وعظمة الله، وجلال الله، وقدرة الله، وعزة الله، وكبرياء الله، وعلم الله، ومشيئة الله، انعقدت اليمين وإلا فلا. ولو قال: وحق الله، انعقدت اليمين عند الشافعي ومالك وأحمد رحمهم الله. وذهب أبو حنيفة إلى أنها لا تنعقد: لأن حقوق الله تعالى هي الطاعات، وهي مخلوقة، فلا يكون الحلف بها يميناً. ولو قال: والقرآن انعقدت اليمين عند الشافعي رضي الله عنه خلافاً لأبي حنيفة.
وكان كان أكثر حلف النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «والذي نفسي بيده» وأيمان الصحابة في الغالب: ورب محمد، ورب إبراهيم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يحلف: «لا ومقلب القلوب».
ثم اليمين الشرعية التي يحلف بها الحكام: إن كان مسلماً أحلف بالله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الذي أنزل القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان يهودياً أحلف بالله الذي أنزل التوراة على موسى ونجاه من الغرق، وإن كان نصرانياً أحلف بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى بن مريم.

.الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة الثامنة في بيان معنى اليمين الغموس ولغو اليمين والتحذير من الحنث والوقوع في اليمين الغموس:

وفي طرفان:

.الطرف الأول في بيان معنى اليمين الغموس ولغو اليمين:

أما معناها، فقال الشافعي رضي الله عنه: هي أن يكون الحالف في خبره كاذباً. وقال غيره: هي أن يحلف على ماض وإن لم يكن، وهما متقاربان. وإنما سميت الغموس لأنها تغمس صاحبها في الإثم.
وقد اختلف في وجوب الكفارة فيها: فذهب الشافعي رضي الله عنه إلى وجوب الكفارة فيها تغليظاً على الحالف، كما أوجب الكفارة في قتل العمد، وهو مذهب عطاء والزهري وابن عيينة وغيرهم. وذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد رضي الله عنهم إلى أنه لا كفارة فيها، احتجاجاً بأنها أعظم من أن تكفر: لأنها من الكبائر العظام، وهو مذهب الثوري والليث وإسحاق، وحكي عن سعيد بن المسيب.
وأما لغو اليمين فقد اختلف فيه أيضاً: فذهب الشافعي إلى أنه ما وقع من غير قصد: ماضياً كان أو مستقبلاً كقوله: لا والله، وبلى والله، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وذهب أبو حنيفة إلى أنه الحلف على الماضي من غير قصد الكذب في يمينه؛ مثل أن يظن شيئاً فيحلف عليه؛ وهو الرواية الثانية عن أحمد؛ وحكي عن مالك أن هذه هي اليمين الغموس.

.الطرف الثاني في التحذير من الوقوع في اليمين الغموس:

أما اليمين الغموس فإنها من أعظم الكبائر وناهيك أنها تغمس صاحبها في الإثم، وقد قال تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان}، وقال جل وعز: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً}. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لفي الله عز وجل وهو عليه غضبان». وقد قيل إن التوحيد وهو: الذي لا إله إلا هو إنما أوصل في اليمين رفقاً بالحالف كي لا يهلك لوقته؛ فقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إذا حلف الحالف بالله الذي لا إله إلا هو، لم يعاجل لأنه قد وحد الله تعالى.
ويروى أن جعفر بن محمد عليه السلام، ادعى عليه مدع عند قاض، فأحلفه جعفر بالله، لم يزد على ذلك، فهلك ذلك على الحالف لوقته، فقال القاضي ومن حضر: ما هذا؟ فقال: إن يمينه بما فيه ثناء على الله ومدح يؤخر العقوبة كرماً منه عز وجل وتفضلاً. وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أحلفوا الظالم إذا أرتم يمينه بأنه بريء من حول الله وقوته، فإنه إذا حلف بها كاذباً عوجل.
ومن غريب ما يحكى في ذلك أن عبد الله بن مصعب الزبيري سعى بيحيى بن عبد الله بن الحسن إلى الرشيد، بعد قيام يحيى بطلب الخلافة؛ فجمع بينهما وتوافقا، ونسب يحيى إلى الزبيري شعراً يقول منه:
قوموا بيعتكم ننهض بطاعتها ** إن الخلافة فيكم يا بني حسن

فأنكر الزبيري الشعر، فأحلفه يحيى، فقال: قل قد برئت من حول الله وقوته، واعتصمت بحولي وقوتي، وتقلدت من دون الله استكباراً على الله، واستغناء عنه، واستعلاء عليه، فأمتنع؛ فغضب الرشيد وقال: إن كان صادقاً فليحلف؛ وكان للفضل بن الربيع فيه هوى، فرفسه برجله، وقال: ويحك احلف! فحلف ووجهه متغير وهو يرعد، فما برح من موضعه حتى أصابه الجذام فتقطع ومات بعد ثلاثة أيام،؛ ولما حمل إلى قبره ليوضع فيه انخسف به حتى غاب عن أعين الناس، وخرجت منه غبرة عظيمة، وجعلوا كلما هالوا عليه التراب انخسف، فسقفوه وانصرفوا.

.الباب الثاني من المقالة الثامنة في نسخ الأيمان الملوكية:

وفيه فصلان:

.الفصل الأول في نسخ الأيمان المتعلقة بالخلفاء:

وهي على نوعين:

.النوع الأول في الأيمان التي يحلف بها على بيعة الخليفة عند مبايعته:

وهي الأصل في الأيمان الملوكية بأسرها ايمان المبايعة وأول من رتبها الحجاج بن يوسف حين أخذه البيعة لعبد الملك بن مروان على أهل العراق، ثم زيد فيها بعد ذلك، وتنقحت في الدولة العباسية وتنضدت. وكان عادتهم فيها أن يجري القول فيها بكاف الخطاب، كما في مكاتباتهم يومئذ، وربما أتي فيها بلفظ المتكلم.
وهذه نسخة يمين أوردها أبو الحسين الصابي في كتابه غرر البلاغة وهي:
تبايع عبد الله أمير المؤمنين فلاناً: بيعة طوع واختيار، وتبرع وإيثار، وإعلان وإسرار، وإظهار وإضمار، وصحة من غير نغل، وسلامة من غير دغل، وثبات من غير تبديل، ووفاء من غير تأويل، وصلاح الجمهور، وحقن الدماء، وسكون الدهماء، وسعادة الخاصة والعامة، وحسن العائدة على أهل الملة والذمة- على أن عبد الله فلاناً أمير المؤمنين عبد الله الذي اصطفاه، وأمينه الذي ارتضاه، وخليفته الذي جعل طاعته جارية بالحق، وموجبة على الخلق، وموردة لهم مورد الأمن، وعاقدة لهم معاقد اليمن، وولايته مؤذنة بجميل الصنع، ومؤدية لهم إلى جزيل النفع، وإمامته التي اقترن بها الخير والبركة، والمصلحة العامة المشتركة، وأمل فيها قمع الملحد الجاحد، ورد الجائر الحائد، ووقم على العاصي الخالع، وعطف الغاوي المنازع، وعلى أنك ولي أوليائه، وعدو أعدائه: من كل داخل في الجملة، وخارج عن الملة، وعائذ بالحوزة، وحائد عن الدعوة، ومتمسك بما بذلته عن إخلاص من آرائك، وحقيقة من وفائك، لا تنقض ولا تنكث، ولا تخلف ولا تواري ولا تخادع، ولا تداجي ولا تخاتل، علانيتك مثل نيتك، وقولك مثل طويتك، وعلى أن لا ترجع عن شيء من حقوق هذه البيعة وشرائطها على أنك في كل ذلك من أهل الملة الإسلامية ودعاتها، وأعوان المملكة العباسية ورعاتها، لا يتداخل قولك مواربة ولا مداهنة، ولا يعترضه مغالطة ولا يتعقبه مخالفة، ولا تحبس به أمانة، ولا تقله خيانة، حتى تلقى الله تعالى مقيماً على أمرك، ووفياً بعهدك، إذ كان مبايعو ولاة الأمر وخلفاء الله في الأرض {إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً}.
عليك بهذه البيعة التي أعطيت بها صفقة يدك، وأصفيت فيها سريرة قلبك، والتزمت القيام بها ما طال عمرك، وامتد أجلك- عهد الله كان مسؤولاً وما أخذه على أنبيائه ورسله، وملائكته وحملة عرشه، من أيمان مغلظة وعهود مؤكدة، ومواثيق مشددة: على أنك تسمع وتصغي، وتطيع ولا تعصي، وتعتدل ولا تميد، وتستقيم ولا تميل، وتفي ولا تغدر، وتثبت ولا تتغير؛ فمتى زلت عن هذه المحجة خافراً لأمانتك، ورافعاً لديانتك، فجحدت الله تعالى ربوبيته، وأنكرت وحدانيته، وقطعت عصمة محمد صلى الله عليه وسلم منك وجذذتها، ورميت طاعته وراء ظهرك ونبذتها، ولقيت الله يوم الحشر إليه، والعرض عليه، مخالفاً لأمره، وناقضاً لعهده، ومقيماً على الإنكار له، ومصراً على الإشراك به، وكل ما حلله الله لك محرم عليك، وكل ما تملكه يوم رجوعك عن بذلك، وارتجاعك ما أعطيته في قولك: من مال موجود ومذخور، ومصنوع ومضروب، وسارج ومربوط وسائم ومعقول، وأرض وضيعة، وعقار وعقدة، ومملوك وأمة، صدقة على المساكين، محرمة على مر السنين؛ وكل امرأة لك تملك شعرها وبشرها، وأخرى تتزوجها من بعدها طالق ثلاثاً بتاتاً، طلاق الحرج والسنة، لا رجعة فيها ولا مثنوية؛ وعليك الحج إلى بيت الله الحرام الذي بمكة ثلاثين دفعة حاسراً حافياً، وراجلاً ماشياً، نذراً لازماً، ووعداً صادقاً، لا يبرئك منها إلا القضاء لها، والوفاء بها، ولا قبل منك توبة ولا رجعة، ولا أقالك عثرة ولا صرعة، وخذلك يوم الاستنصار بحوله، وأسلمك عند الاعتصام بحبله؛ وهذه اليمين قولك قلتها قولاً فصيحاً، وسردتها سرداً صريحاً، وأخلصت فيها سرك إخلاصاً مبيناً، وصدقت بها عزمك صدقاً يقيناً؛ والنية فيها نية فلان أمير المؤمنين دون نيتك، والطية دون طويتك؛ وأشهدت الله على نفسك بذلك وكفى بالله شهيداً يوم تجد كل نفس عليها حافظاً ورقيباً.
وهذه نسخة يمين بيعة أوردها ابن حمدون في تذكرته وأبو الحسن بن سعد في ترسله تواردت مع البيعة السابقة وأيمانها في بعض الألفاظ، وخالفت في أكثرها؛ وهي: يبايع الإمام أمير المؤمنين بيعة طوع وإيثار، ورضاً واختيار، واعتقاد وإضمار، وإعلان وإسرار، وإخلاص من طويتك، وصدق من نيتك، وانشراح صدرك وصحة عزيمتك، طائعاً غير مكره، ومنقاداً غير مجبر، مقراً بفضلها، مذعناً بحقها، معترفاً ببركتها، ومعتداً بحسن عائدتها، وعالماً يما فيها وفي توكيدها من صلاح الكافة، واجتماع الكلمة الخاصة والعامة، ولم الشعث، وأمن العواقب، وسكون الدهماء، وعز الأولياء، وقمع الأعداء- على أن فلاناً عبد الله وخليفته، والمفترض عليك طاعته، والواجب على الأمة إقامته وولايته، اللازم لهم القيام بحقه، والوفاء بعهده، لا تشك فيه ولا ترتاب به، ولا تداهن في أمره ولا تميل؛ وأنك ولي وليه، وعدو عدوه: من خاص وعام، وقريب وبعيد، وحاضر وغائب، متمسك في بيعته بوفاء العهد، سريرتك مثل علانيتك، وظاهرك فيه مثل باطنك، وباطنك فيه وفق ظاهرك؛ على أن إعطاءك الله هذه البيعة من نفسك، وتوكيدك إياها في عنقك، لفلان أمير المؤمنين عن سلامة من قلبك، واستقامة من عزمك، واستمرار من هواك ورأيك، على أن لا تتأول عليه فيها، ولا تسعى في نقض شيء منها، ولا تقعد عن نصرته في الرخاء والشدة، ولا تدع النصر له في كل حال راهنة وحادثة، حتى تلقى الله تعالى موفياً بها، مؤدياً للأمانة فيها، إذ كان الذين يبايعون ولاة الأمر وخلفاء الله في الأرض {إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه}.
عليك بهذه البيعة التي طوقتها عنقك، وبسطت لها يدك، وأعطيت بها صفقتك؛ وما شرط فيها من وفاء وموالاة، ونصح ومشايعة، وطاعة وموافقة، واجتهاد ومبالغة- عهد الله إن عهد الله كان مسؤولاً، وما أخذ الله على أنبيائه ورسله عليهم السلام؛ وأخذ على عباده من وكيدات مواثيقه، ومحكمات عهوده، وعلى أن تتمسك بها ولا تبدل، وتستقيم ولا تميل.
وإن نكثت هذه البيعة أو بدلت شرطاً من شروطها، أو عفيت رسماً من رسومها، أو غيرت حكماً من أحكامها، معلناً أو مسراً، أو محتالاً أو متأولاً، أو زغت عب السبيل التي يسلكها من لا يخفر الأمانة ولا يستحل الغدر والخيانة ولا يستجيز حل العقود- فكل ما تملكه من عين أو ورق أو آنية أو عقار أو زرع أو ضرع أو غير ذلك من صنوف الأملاك المعتقدة، والأمور المدخرة، صدقة على المساكين، محرمة عليك أن ترجع من ذلك، إلى شيء من مالك، بحبلة من الحيل، على وجه الوجوه وسبب من الأسباب، أو من مخرج من مخارج الإيمان؛ وكل ما تفيده في بقية عمرك: من مال يقل خطره أو يجل، فتلك سبيله إلى أن تتوفاك منيتك، ويأتيك أجلك. وكل مملوك لك اليوم أو تملكه إلى آخر أيامك أحرار سائبون لوجه الله تعالى ونساؤك يوم يلزمك الحنث، ومن تتزوج بعدهن مدة بقائك طوالق ثلاثاً بتاتاً، طلاق الحرج والسنة، لا مثنوية فيها ولا رجعة، وعليك المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجة حافياً حاسراً راجلاً، لا يرضى الله منك إلا بالوفاء بها، ولا يقبل الله منك صرفاً ولا عدلاً، وخذلك يوم تحتاج إليه، وبرأك الله من حوله وقوته، وألجأك إلى حولك وقوتك، والله تعالى بذلك شهيد وكفى بالله شهيداً.