فصل: أقسام الحكم الوضعي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: علم أصول الفقه



.أقسام الحكم الوضعي:

ينقسم الحكم الوضعي إلى خمسة أقسام:
لأنه ثبت بالاستقراء أنه إما أن يقتضي جعل شيء سببا لشيء، أو شرطاً، أو مانعاً، أو مسوغا الرخصة بدل العزيمة، أو صحيحاً، أو غير صحيح.

.1- السبب:

.تعريفه:

السبب؛ هو ما جعله الشارع علامة على مسببه وربط وجود المسبب بوجوده وعدمه. فيلزم من وجود السبب وجود المسبب، ومن عدمه عدمه، فهو أمر ظاهر منضبط، جعله الشارع علامة على حكم شرعي هو مسببه، ويلزم من وجوده وجود المسبب، ومن عدمه عدمه.
وقد قدمنا في مبحث العلة في القياس أن كل علة للحكم تسمى سببه، وليس كل سبب للحكم يسمى علته، وبينا الفرق بينهما أو أمثلتهما.

.أنواعه:

قد يكون السبب سببا لحكم تكليفي؛ كالوقت جعله الشارع سببا لإيجاب إقامة الصلاة لقوله تعالى {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، وكشهود رمضان جعله الشارع سبا لإيجاب صومه بقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وملك النصاب النامي بمن مالك الزكاة جعل سببا لإيجاب إيتاء الزكاة، والسرقة جعلت سببا لإيجاب قطع يعد السارق، وشرك المشركة جعل سببا لتحريم زواج المسلم بها، والمرض جعل سببا لإباحة الفطر في رمضان، وأمثال ذلك.
وقد يكون السبب سببا لإثبات ملك أو حل أو إزالتهما، كالبيع لإثبات الملك وإزالته، والعتق والوقف لإسقاطه، وعقد الزواج لإثبات الحل، والطلاق لإزالته، والقرابة والمصاهرة والولاء لاستحقاق الإرث، وإتلاف مال الغير لاستحقاق الضمان على المتلف، والشركة أو الملك لاستحقاق الشفعة.
وقد يكون السبب فعلا للمكلف مقدورا له كقتله العمد سبب لوجوب القصاص منه، وعقدة البيع أو الزواج أو الإجارة أو غيرها أو أسباب لأحكامها، وملكه مقدار النصاب لوجوب الزكاة عليه، وقد يكون أمرا غير مقدور للمكلف وليس من أفعاله، كدخول الوقت لإيجاب الصلاة والقرابة للإرث والولاية، والصغر لثبوت الولاية على الصغير.
وإذا وجد السبب سواء أكان من فعل المكلف أم لا، وتوافرت شروطه وانتفت موانعه، ترتب عليه مسببه حتما، سواء أكان مسببه حكما تكليفياً، أم إثبات ملك أو حل، أم إزالتهما، لأن المسبب لا يتخلف عن سببه شرعا، سواء أقصد من باشر السبب ترتب المسبب عليه أم لم يقصده، بل يترتب ولو قصد عدم ترتبه، فمن سافر في رمضان أبيح له الفطر، سواء أقصد إلى الإباحة أم لم يقصد إليها، ومن طلق زوته رجعيا ثبت له حق مراجعتها ولو قال لا رجعة لي، ومن تزوج وجب عليه المهر ونفقة زوجته ولو تزوجها على أن لا مهر عليه ولا نفقة. لأن الشارع إذا وضع العقد أو التصرف سببا لحكم، ترتب الحكم على العقد بحكم الشرع، ولا يتوقف ترتبه على قصد المكلف؛ وليس للمكلف أن يحل هذا الارتباط الذي ربط به الشارع المسببات بأسبابها.

.2- الشرط:

.تعريفه:

الشرط: هو ما يتوقف وجود الحكم على وجوده ويلزم من عدمه عدم الحكم. والمراد وجوده الشرعي الذي يترتب عليه أثره. فالشرط أمر خارج عن حقيقة المشروط يلزم من عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجوده.
فالزوجية شرط لإيقاع الطلاق، فإذا لم تود زوجية لم يوجد طلاق، ولا يلزم من وجود الزوجية وجود الطلاق.
والوضوء شرط لصحة إقامة الصلاة، فإذا لم يوجد وضوء لا تصح إقامة الصلاة، ولا يلزم من وجود الوضوء إقامة الصلاة.
ووجود الزواج الشرعي الذي تترتب عليه أحكامه يتوقف على حضور الشاهدين وقت عقده، ووجود البيع الشرعي الذي تترتب عليه أحكامه يتوقف على العلم بالبدلين، وهكذا كل ما شرط الشارع له شرطا لا يتحقق وجوده الشرعي إلا إذا وجدت شروطه، ويعتبر شرعا معدوما إذا فقدت شروطه ولكن لا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط.
والشروط الشرعية هي التي تكمل السبب وتجعل أثره يترتب عليه، فالقتل سبب لإيجاب القصاص ولكن بشرط أن يكون قتلا عمدا وعدوانا، وعقد الزواج سبب لملك المتعة، ولكن بشرط أن يحضره شاهدان، وهكذا كل عقد أو تصرف لا يترتب عليه أثره إلا إذا توافرت شروطه.
والفرق بين ركن الشيء وشرطه، مع أن كلا منهما يتوقف وجود الحكم على وجوده: أن الركن جزء من حقيقة الشيء، وأما الشرط فهو أمر خار عن حقيقته وليس من أجزائه. فالركوع ركن الصلاة لأنه جزء من حقيقتها، والطهارة شرط الصلاة لأنها أمر خارج عن حقيقتها، وصيغة العقد والعاقدان ومحل العقد أركان العقد لأنها أجزاؤه، وحضور الشاهدين في الزواج، وتعيين البدلين في البيع، وتسليم الموهوب في الهبة، شروط لا أركان، لأنها ليست من أجزاء العقد، ومن أجل هذا كان للوقف أركان وشروط، وكذا للبيع وسائر العقود والتصرفات، وإذا حصل خلل في ركن من الأركان كان خللا في نفس العقد والتصرف، وإذا حصل خلل في شرط من الشروط كان خللا في وصفه أي في أمر خارج عن حقيقته.
وقد يكون اشتراط الشرط بحكم الشارع، ويسمى الشرط الشرعي.
وقد يكون اشتراط الشرط بتصرف المكلف ويسمى الشرط الجعلي.
فمثال:
الأول: جميع الشروط التي اشترطها الشارع في الزواج والبيع والهبة والوصية، والتي اشترطها لإيجاب الصلوات الخمس والزكاة والصيام والحج، والتي اشترطها لإقامة الحدود ولغير ذلك.
ومثال الثاني: الشروط التي يشترطها الزوج ليقع الطلاق على زوجته، والتي يشترطها المالك لعتق عبده، فإن تعليق الطلاق أو العتق على وجود شرط مقتضاه أنه يتوقف وجود الطلاق أو العتق على وجود الشرط ويلزم من عدمه عدمه، فصيغة الطلاق سبب يترتب عليه الطلاق، ولكن إذا توافر الشرط.
وليس للمكلف أن يعلق أي عقد أو تصرف على أي شرط يريدهن بل لابد أن يكون الشرط غير مناف حكم العقد أو التصرف. وأما إذا كان الشرط منافيا حكم العقد فيبطل العقد، لأن الشرط مكمل للسبب فإذا نافى حكمه أبطل سببيته.
مثال ذلك: العقود التي تفيد الملك التام أو الحل التام، كعقد البيع، وعقد الزواج حكمها الشرعي أن الأثر المترتب على كل واحد مها لا يتراخى عن صيغته، فإذا عقد المكلف بيعاً أو زواجاً، وعلق واحدا منهما على أن يوجد في المستقبل شرط شرطه، فإن مقتضى هذا الاشتراط أن لا يوجد أثر العقد إلا إذا وجد الشرط، وهذا ينافي مقتضى العقد، وهو أن حكمه لا يتراخى عنه، ولهذا بطل البيع المعلق على شرط، وكذلك الزواج المعلق على شرط، فالشرط الجعلي إذا اعتبره الشارع صار كالشرط الشرعي.

.3- المانع:

.تعريفه:

المانع: هو ما يلزم من وجوده عدم الحكم، أو بطلان السبب، فقد يتحقق السبب الشرعي وتتوافر جميع شروطه ولكن يوجد مانع يمنع ترتب الحكم عليه، كما إذا وجدت الزوجية الصحيحة أو القرابة ولكن منع ترتب الإرث على أحدهما كاختلاف الوارث مع المورث دينا، أو قتل الوارث مورثه، وكما إذا وجد القتل العمد العدوان ولكن منع من إيجاب القصاص به أن القاتل أبو المقتول.
فالمانع في اصطلاح الأصوليين: هو أمر يوجد مع تحقق السبب وتوافر شروطه، ويمنع من ترتب المسبب على سببه، فقد الشرط لا يسمى مانعا في اصطلاحهم، وإن كان يمنع من ترتب المسبب على السبب.
وقد يكون المانع مانعا من تحقق السبب الشرعي لا من ترتب حكمه عليه كالدين لمن ملك نصابا من أموال الزكاة، فإن دينه مانع من تحقق السبب لإيجاب الزكاة عليه، لأن مال المدين كأنه ليس مملوكا له ملكا تاما، نظرا لحقوق دائنيه، ولأن تخليص ذمته مما عليه من الدين أولى من مواساته الفقراء والمساكين بالزكاة، وهذا في الحقيقة مخل بما يشترط توافره في السبب الشرعي فهو من باب عدم توافر الشرط، لا من قبيل وجود المانع.

.4- الرخصة والعزيمة:

.تعريفهما:

الرخصة هي ما شرعه الله من الأحكام تخفيفا على المكلف في حالات خاصة تقتضي هذا التخفيف، أو هي ما شرع لعذر شاق في حالات خاصة، أو هي استباحة المحظور بدليل مع قيام دليل الحظر.
وأما العزيمة فهي ما شرعه الله أصالة من الأحكام العامة التي لا تختص بحال دون حال ولا بمكلف دون مكلف.

.أنواع الرخص:

من الرخص إباحة المحظورات عند الضرورات أو الحاجات، فمن أكره على التلفظ بكلمة الكفر أبيح له ترفيهاً عنه أن يتلفظ بها وقبله مطمئن بالإيمان. وكذا من أكره على أن يفطر في رمضان أو يتلف مال غيره، أبيح له المحظور الذي أكره عليه ترفيهاً عنه. ومن اضطره الجوع الشديد أو الظمأ الشديد إلى أكل الميتة أو شرب الخمر أبيح له أكلها وشربها: قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]، وقال سبحانه: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]، وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173].
ومن الرخص إباحة ترك الواجب إذا وجد عذر يجعل أداءه شاقا على المكلف، فمن كان في رمضان مريضا أو على سفر أبيح له أن يفطر، ومن كان مسافرا أبيح له قصر الصلة الرباعية أي أداؤها ركعتين بدل أربع: قال تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقر: 184]، وقال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ} [النساء: 101]
ومن الرخص: تصحيح بعض العقود الاستثنائية، التي لم تتوافر فيها الشروط العامة لانعقاد العقد وصحته، ولكن جرت بها معاملات الناس وصارت من حاجاتهم، كعقد السلم فإنه بيع معدوم وقت العقد، ولكن جرى به عرف الناس وصار من حاجياتهم، ولذا جاء في الحديث: نهي رسول الله عن بيع الإنسان ما ليس عنده، ورخص في السلم، وكذلك الاستصناع والإجارة وعقد الوصية، فهذه كلها عقود إذا طبقت عليها الشروط العامة لانعقاد العقود وصحتها في العاقد والمعقود عليه لا تصح؛ ولكن الشارع رخص فيها وأجازها سدا لحاجة الناس ودفعا للحرج.
ومن الرخص: نسخ الأحكام التي رفعها الله عنها وكانت من التكاليف الشاقة على الأمم قبلنا: وهي المشار إليها بقوله سبحانه: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} [البقرة: 286]، مثل التكليف بقرض موضع النجاسة من الثوب، وأداء ربع المال في الزكاة، وقتل النفس توبة من المعصية، وعدم وجواز الصلاة في غير المساجد- وتسمية هذه رخصاً فيها توسع- ومن هذه الأنواع يتبين أن ترخيص الشارع للتخفيف عن المكلفين تارة بإباحة المحرم للضرورة، أو بإباحة ترك الواجب للعذر، أو باستثناء بعض العقود من الأحكام الكلية للحاجة، كلها ترجع عند التحقيق إلى إباحة المحظور للضرورة أو الحاجة.
وعلماء الحنفية قسموا الرخصة إلى قسمين: رخصة ترفيه، ورخصة إسقاط، وفرقوا بينهما بأن رخصة الترفية بكون حكم العزيمة معها باقيا ودليله قائما ولكن رخص في تركه تخفيفا وترفيها عن الكف، ومثلوا لهذا بمن أكره على التلفظ بكلمة الكفر، على إتلاف مال غيره، أو على الفطر برمضان. وقالوا إن النص المرخص لم يسقط حرمة التلفظ بكلمة الكفر عمن أكره عليه، ولكن استثنى من أكره من غضب الله عليه واستحقاقه العذاب، قال تعالى {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ} [النحل: 106] ولكن يلاحظ أن الله قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 3]، وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] فقد استثنى المضطر من الإثم، كما استثنى المكره على التلفظ من الإثم واستحقاق العذاب.
بل إن قوله سبحانه: {فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 3]، يشعر بأنه فعل محرماً ولكن الله لم يعاقبه عليه رحمة منه. وقالوا كذلك: لم يسقط الإكراه حرمة إتلاف مال الغير ولا حرمة الفطر في رمضان، بل الحرمة مع الإكراه ثابتة، وإنما المقصود بالإباحة الترفيه عن المكلف. ولبقاء هذه الحرمة قالوا: إن العمل بالعزيمة أولى وإن من تمسك بالعزيمة واحتمل ما كره عليه حتى مات، مات شهيدا.
وأما رخصة الإسقاط فلا يكون حكم العزيمة معها باقيا، بل إن الحال التي استوجبت الترخيص أسقطت حكم العزيمة، وجعلت الحكم المشروع فيها هو الرخصة ومثلوا لهذا بإباحة أكل الميتة أو شرب الخمر عند الجوع والظمأ، وقصر الصلاة في السفر. فالمضطر إلى أكل الميتة أو شرب الخمر سقطت حرمتهما عنه في حال اضطراره، لأن الله سبحانه بعد أن بين هذه المحرمات قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 3]، وهذا يقتضي رفع التحريم ولو لم يأكل أو يشرب أثم. والمسافر سقطت عنه الأربع ولو صلى أربعا كانت الركعتان الأخيرتان نافلة وتطوعا لا من المفروض.
والحق أن النصوص التي شرعت الرخص لا يدخل ظاهرها على هذا التفريق، فإن الله سبحانه قال: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]، فكل محرم عند الضرورة يباح بلا تفريق بين محرم ومحرم.
والقول بأنه عند الإكراه على إفطار رمضان يكون حكم العزيمة، وهو فرض الصيام باقياً، وعند الاضطرار إلى أكل الميتة، أو شرب الخمر، لا يكون حكم العزيمة. وهو تحريمها باقيا، تفريق لا يظهر له وجه، لأن الإكراه نوع من الاضطرار؛ وفي الحالتين أبيح المحظور للضرورة، وكما قال سبحانه: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]، قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 3]، وصريح قوله سبحانه: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ} [النساء: 101]، أن القصر مباح ومقتضى أنه مباح أن الأخذ بالعزيمة وهو إتمام الصلاة أربعا مباح أيضا، فكيف يقال إن حكم العزيمة هنا غير قائم، وإن الرخصة في هذا رخصة إسقاط؟
فالذي يؤخذ من النصوص أن الرخص كلها شرعت للترفيه والتخفيف عن المكلف بإباحة فعل المحرم، وأن حكم الحظر ودليله قائمان. ومعنى إباحة المحظور ترخيصا أنه لا إثم في فعله. وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى: {فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 3]، فللمكلف أن يتبع الرخصة تخفيفا عن نفسه، وله أن يتبع العزيمة محتملا ما فيها من مشقة، إلا إذا كانت المشقة يناله من احتمالها ضرر، فإنه يجب عليه اتقاء الضرر وإتباع الرخصة لقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وقوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29]، والله سبحانه يحب أن تتبع رخصة، كما يجب أن تؤتى عزائمه، لأنه سبحانه ما جعل على الناس في الدين من حرج.
ومما قدمناه في تعريف الرخصة وبيان أنواعها يظهر الوجه في عدها من أقسام الحكم الوضعي، لأن الحكم المشروع هو جعل الضرورة سببا في إباحة المحظور أو طروء العذر سبا في التخفيف بترك الواجب، أو دفع الحرج عن الناس سبا في تصحيح بعض عقود المعاملات بينهم، فهو في الحقيقة وضع أسباب لمسببات.