فصل: أبو مروان بن أبي العلاء بن زهر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عيون الأنباء في طبقات الأطباء (نسخة منقحة)



.أبو مروان بن أبي العلاء بن زهر:

هو أبو مروان عبد الملك بن أبي العلاء، زهر بن أبي مروان عبد الملك بن محمد بن مروان بن زهر، لحق بأبيه في صناعة الطب، وكان جيد الاستقصاء في الأدوية المفردة والمركبة، حسن المعالجة، قد ذاع ذكره في الأندلس وفي غيرها من البلاد، واشتغل الأطباء بمصنفاته، ولم يكن في زمانه من يماثله في مزاولة أعمال صناعة الطب، وله حكايات كثيرة في تأتيه لمعرفة الأمراض ومداواتها مما لم يسبقه أحد من الأطباء إلى مثل ذلك، وكان قد خدم الملثمين، ونال من جهتهم من النعم والأموال شيئًا كثيراً، وفي الوقت الذي كان فيه أبو مروان عبد الملك بن أبي العلاء بن زهر دخل المهدي إلى الأندلس وهو أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه بن تومرت ومعه عبد المؤمن، وشرع في بث الدعوة لعبد المؤمن، وتمهيد أمره إلى أن انتشرت كلمته واتسعت مملكته، وملك البلاد وأطاعه الخلق، وحكاية المهدي في تأتيه إلى أن نال الملك وصفا له الأمر معروفة مشهورة، ولما استقل عبد المؤمن بالمملكة، وعرف بأمير المؤمنين، واستولى على خزائن المغرب، بذل الأموال، وأظهر العدل، وقرب أهل العلم وأكرمهم، ووالى إحسانه إليهم، واختص أبا مروان عبد الملك بن زهر لنفسه، وجعل اعتماده عليه في الطب، وأناله من الإنعام والعطاء فوق أمنيته، وكان مكينًا عنده، علي القدر، متميزًا على كثر من أبناء زمانه، وألف له أبو مروان بن زهر الترياق السبعيني، واختصره عشاريًّا واختصره سباعياً، ويعرف بترياق الأنتلة، حدثني أبو القاسم المعاجيني الأندلسي أن الخليفة عبد المؤمن احتاج إلى شرب دواء مسهل، وكان يكره شرب الأدوية المسهلة فتلطف له ابن زهر في ذلك، وأتى إلى كرمة في بستانه فجعل الماء الذي يسقيها به ماء قد أكسبه قوة أدوية مسهلة بنقعها فيه، أو بغليانها معه، ولما تشربت الكرمة قوة الأدوية المسهلة التي أرادها، وطلع فيها العنب، وله تلك القوة، احم الخليفة، ثم أتاه بعنقود منها وأشار عليه أن يأكل منه، وكان حسن الاعتقاد في ابن زهر، فلما أكل منه وهو ينظر إليه قال له يكفيك يا أمير المؤمنين فإنك قد أكلت عشر حبات من العنب، وهي تخدمك عشر مجالس، فاستخبره عن علة ذلك وعرفه به، ثم قام على عدد ما ذكره له ووجد الراحة فاستحسن منه فعله هذا وتزايدت منزلته عنده.
وحدثني الشيخ محيي الدين أبو عبد اللّه بن علي بن محمد بن الربي الطائي الحاتمي من أهل مرسية أن أبا مروان عبد الملك بن زهر، كان في وقت مروره إلى دار أمير المؤمنين باشبيلية، يجد في طريقه عند حمام أبي الخير بالقرب من دار ابن مؤمل مريضًا به سوء قتبه، وقد كبر جوفه، واصفر لونه فكان أبدًا يشكوا إليه حاله، ويسأله النظر في أمره، فلما كان بعض الأيام سأله مثل ذلك فوقف أبو مروان بن زهر عنده، ونظر إليه فوجد عند رأسه إبريقًا عتيقًا يشرب منه الماء، فقال اكسر هذا الابريق فإنه سبب مرضك، فقال له لا باللّه يا سيدي فإني ما لي غيره، فأمر بعض خدمه بكسره فكسره فظهر منه لما كسر ضفدع وقد كبر مما له فيه من الزمان، فقال له ابن زهر خلصت يا هذا من المرض انظر ما كنت تشرب، وبرأ الرجل بعد ذلك.
وحدثني القاضي أبو مروان حُمد بن أحمد بن عبد الملك اللخمي ثم الباجي قال حدثني من أثق به أنه كان باشبيلية حكيم فاضل في صناعة الطب يعرف بالفار، وله كتاب جيد في الأودية المفردة سفران وكان أبو مروان بن زهر كثيرًا ما يأكل التين ويميل إليه، وكان الطبيب المعروف بالفار لا يغتذي منه بشيء، وإن أخذ منه شيئًا فيكون واحدة في السنة، فكان يقول هذا لأبي مروان بن زهر أنه لا بد أن تعرض لك نغلة صعبة بمداومتك أكل التين، والغلة هو الدبيلة بلغتهم، وكان أبو مروان يقول له لا بد لكثرة حميتك وكونك لم تأكل شيئًا من التين أن يصيبك الشناج قال فلم يمت المعروف بالفار إلا بعلة التشنج وكذلك أيضًا عرض لأبي مروان بن زهر دبيلة في جنبه، وتوفي بها، وهذا من أبلغ ما يكون في تقدمة الإنذار، قال ولما عرض لأبي مروان هذه العلة، كان يعالجها وصنع لها مراهم وأدوية، ولم تؤثر نفعًا يعتد به، فكان يقول له ابنه أبو بكر يا أبي لو غيرت هذا الدواء بالدواء الفلاني، ولو زدت من هذا الدواء أو استعملت دواء كذا وكذا، فكان يقول له يا بني إذا أراد اللّه تغيير هذه البنية فإنه لا يقدر لي أن استعمل من الأدوية إلا ما يتم به مشيئته وإرادته.
أقول وكان من أجل تلاميذ أبي مروان عبد الملك بن أبي العلاء بن زهر في صناعة الطب والآخذين عنه أبو الحسين بن أسدون، شهر بالمصدوم، وأبو بكر بن الفقيه القاضي أبي الحسن قاضي إشبيلية، وأبو محمد الشذوني والفقيه الزاهد أبو عمران بن أبي عمران، وتوفي أبو مروان عبد الملك بن أبي العلاء بن زهر في سنة وخمسمائة، ودفن بإشبيلية خارج باب الفتح.
ولأبي مروان بن أبي العلاء بن زهر من الكتب كتاب التيسير في المداواة والتدبير، ألفه للقاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد، كتاب الأغذية ألفه لأبي محمد عبد المؤمن بن علي، كتاب الزينة تذكرة إلى ولده أبي بكر في أمر الدواء المسهل وكيفية أخذه، وذلك في صغر سنه، وأول سفرة سافرها فناب عن أبيه فيها، مقالة في علل الكلى، رسالة كتب بها إلى بعض الأطباء بإشبيلية في علتي البرص والبهق، كتاب تذكرة ذكر بها لابنه أبي بكر أول ما تعلق بعلاج الأمراض.
الحفيد إبو بكر بن زهر هو الوزير الحكيم الأديب الحسيب أبو بكر محمد بن أبي مروان بن أبي العلاء بن زهر، مولده بمدينة إشبيلية ونشأ بها وتميز في العلوم، وأخذ صناعة الطب عن أبيه، وباشر أعمالها، وكان معتدل القامة صحيح البنية، قوي الأعضاء، وصار في سن الشيخوخة ونضارة لونه وقوة حركاته لم يتبين فيها تغير، وإنما عرض لها في أواخر عمره ثقل في السمع، وكان حافظًا للقرآن، وسمع الحديث، واشتغل بعلم الأدب والعربية، ولم يكن في زمانه أعلم منه بمعرفة اللغة، ويوصف بأنه قد أكمل صناعة الطب والأدب، وعانى عمل الشعر وأجاد فيه، وله موشحات مشهورة ويغني بها، وهي من أجود ما قيل في ذلك.
وكان ملازمًا للأمور الشرعية، متين الدين، قوي النفس، محبًا للخير، وكان مهيبًا وله جرأة في الكلام، ولم يكن في زمانه أعلم منه بصناعة الطب، وذكره قد شاع واشتهر في أقطار الأندلس وغيرها من البلاد، وحدثني القاضي أبو مروان محمد بن أحمد بن عبد الملك الباجي من أهل إشبيلية قال، قال لي الشيخ الوزير الحكيم أبو بكر بن زهر أنه لازم لجدي عبد الملك سبع سنين يشتغل عليه، وقرأ عليه كتاب المدونة لسخنون في مذهب مالك، وقرأ أيضًا عليه مسند ابن أبي شيبة، وحدثني أيضًا القاضي أبو مروان الباجي عن أبي بكر بن زهر أنه كان شديد البأس يجذب قوسًا مائة وخمسين رطلًا بالاشبيلي، والرطل الذي بإشبيلية ستة عشر أوقية، وكل أوقية عشرة دراهم، وأنه كان جيد اللعب بالشطرنج جدًا ولم يكن في زمانه أحد مثله في صناعة الطب، وخدم الدولتين، وذلك أنه لحق دولة الملثمين واستمر في الخدمة مع أبيه في آخر دولتهم، ثم خدم دولة الموحدين وهم بنو عبد المؤمن، وذلك أنه كان في خدمة عبد المؤمن هو وأبوه، وفي أيام عبد المؤمن مات أبوه وبقي هو في خدمته ثم خدم لابن عبد المؤمن أبي يعقوب يوسف، ثم لابنه يعقوب أبي يوسف الذي لقب بالمنصور، ثم خدم ابنه أبا عبد اللّه محمد الناصر، وفي أول دولته توفي أبو بكر بن زهر، وكانت وفاته رحمه اللّه في عام ستة وتسعين وخمسمائة بمراكش وقد أتاها ليزور بها ودفن هناك في الموضع المعروف بمقابر الشيوخ، وعمر نحو الستين سنة، قال وكان أبو بكر بن زهر صائب الرأي، حسن المعالجة، جيد التدبير، وقد عرف هذا منه، حتى أنه يومًا كان قد كتب والده أبو مروان بن زهر نسخة دواء مسهل لعبد المؤمن الخليفة، فلما رآه أبو بكر بعد ذلك، وكان في حال شبيبته قال يجب أن يبدل هذا الدواء المفرد منه بدواء آخر، فلم يتناول عبد المؤمن ذلك الدواء، ولما رآه أبوه قال يا أمير المؤمنين إن الصواب في قوله، وبدل الدواء المفرد بغيره فاثر نفعًا بيناً، وألف أبو بكر ابن زهر الترياق الخمسيني للمنصور أبي يوسف يعقوب، قال وحدثني من أثق به أن رجلًا من بني اليناقي كان صديقًا للحفيد أبي بكر بن زهر، وكان يجالسه كثيرًا ويلعب معه بالشطرنج، وأنه كان عند الحفيد أبي بكر يومًا وهما يلعبان بالشطرنج، فرآه الحفيد على غير ما يعهده به من الانبساط، فقال له ما لخاطرك كأنه مشتغل بشيء عرفني ما هو؟ فقال نعم إن لي بنتًا زوجتها لرجل وهو يطلبها، وقد احتجت إلى ثلثمائة دينار فقال له العب وما عليك فإن عندي في وقتنا هذا ثلثمائة دينار إلا خمسة دنانير تأخذها، فلعب معه ساعة واستدعى بالذهب وأعطاه له، فلما كان عن قرب أتاه صاحبه وترك بين يديه ثلثمائة دينار إلا خمسة فقال له ابن زهر ما هذا؟ فقال إنني بعت زيتونًا لي بسبعمائة دينار، وقد أتيت منها بثلثمائة دينار إلا خمسة عوض الذي تفضلت به علي، وأقرضتني إياه، وقد بقي عندي حاصلًا أربعمائة دينار، فقال له ابن زهر ارفع هذا عندك وانتفع به، فإني ما دفعت لك الذهب على أني أعود آخذه أبداً، فأبى الرجل وقال إنني بحمد اللّه بحال سعة، ولا لي حاجة آخذ هذا ولا غيره من أحد أصلاً، وتفاوضا في ذلك، فقال له ابن زهر يا هذا، أنت صديقي أو عدوي فقال له بل صديقك، وأحب الناس فيك، فقال له ابن زهر واللّه لئن لم تأخذه لأعادينك بسببه، ولا أعود أكلمك أبداً، فأخذه منه، وشكره على فعله.
قال القاضي أبو مروان الباجي وكان المنصور قد قصد أن لا يترك شيئًا من كتب المنطق والحكمة باقيًا في بلاده، وأباد كثيرًا منها بإحراقها بالنار وشدد في أن لا يبقى أحد يشتغل بشيء منها، وأنه متى وجد أحد ينظر في هذا العلم أو جد عنده شيء من الكتب المصنفة فيه فإنه يلحقه ضرر عظيم، ولما شرع في ذلك جعل أمره مفوضًا إلى الحفيد أبي بكر بن زهر، وأنه الذي ينظر إليه، وأراد الخليفة أنه إن كان عند ابن زهر شيء من كتب المنطق والحكمة لم يظهر، ولا يقال عنه أنه يشتغل بها، ولا يناله مكروه بسببها ولما نظر ابن زهر في ذلك، وامتثل أمر المنصور في جمع الكتب من عند الكتبيين وغيرهم، وأن لا يبقى شيء منها، وأهانة المشتغلين بها، وكان بإشبيلية رجل من أعيانها يعادي الحفيد أبا بكر بن زهر ويحسده وعنده شر، فعلم محضرًا في أن ابن زهر دائم الاشتغال بهذا الفن والنظر فيه، وأن عنده في داره شيئًا كثيرًا من كتبه، وجمع فيه شهادات عدة وبعث به إلى المنصور، وكان حينئذ في حصن الفرة وهو موضع بناه قريبًا من إشبيلية على ميلين منها، صحيح الهواء بحيث بقيت الحنطة فيها ثمانين سنة لم تتغير لصحته، وكان أبو بكر بن زهر هو الذي أشار على المنصور أن يبنيه في ذلك الموضع، ويقيم فيه بعض الأوقات، فلما كان المنصور به، وقد أتاه المحضر نظره، ثم أمر بأن يقبض على الذي عمله وأن يودع السجن ففعل به ذلك، وانهزم جميع الشهود الذين وضعوا خطوطهم فيه، ثم قال المنصور إنني لم أول ابن زهر في هذا إلا حتى لا ينسبه أحد إلى شيء منه ولا يقال عنه، وواللّه لو أن جميع أهل الأندلس وقفوا قدامي وشهدوا على ابن زهر بما في هذا المحضر لم أقبل قولهم، لما أعرفه في ابن زهر من متانة دينه وعقله، وحدثني أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد الاشبيلي قال كان الحفيد أبو بكر ابن زهر قد أتى إليه من الطلبة اثنان ليشتغلا عليه بصناعة الطب فترددا إليه، ولازماه مدة وقرأا عليه شيئًا من كتب الطب، ثم إنهما أتياه يومًا وبيد أحدهما كتاب صغير في المنطق، وكان يحضر معهما أبو الحسين المعروف بالمصدوم، وكان غرضه أن يشتغلوا فيه، فلما نظر ابن زهر إلى ذلك الكتاب قال ما هذا؟ ثم أخذه ينظر فيه، فلما وجده في علم المنطق رمى به ناحية، ثم نهض إليهم حافيًا ليضربهم، وانهزموا قدامه، وتبعهم يعدو على حالته تلك وهو يبالغ في شتمهم، وهم يتعادون قدامه إلى أن رجع عنهم عن مسافة بعيدة فبقوا منقطعين عنه أيامًا لا يجسرون أن يأتوا إليه، ثم أنهم توسلوا إلى أن حضروا عنده واعتذروا بأن ذلك الكتاب لم يكن لهم، ولا لهم فيه غرض أصلاً، وأنهم إنما رأوه مع حدث في الطريق وهم قاصدون إليه فهزأوا بصاحبه وعبثوا به وأخذوا من الكتاب قهرًا وبقي معه ودخلوا إليه، وهم ساهمون عنه، فتخادع لهم، وقبل معذرتهم، واستمروا في قراءتهم عليه صناعة الطب، ولما كان بعد مديدة أمرهم أن يجيدوا حفظ القرآن، وأن يشتغلوا بقراءة التفسير والحديث والفقه، وأن يواظبوا على مراعاة الأمور الشرعية والاقتداء بها، ولا يخلوا بشيء من ذلك، فلما امتثلوا أمره، وأتقنوا معرفة ما أشار به عليهم، وصارت لهم مراعاة الأمور الشرعية سجية وعادة قد ألفوها، كانوا يومًا عنده وإذا به قد أخرج لهم الكتاب الذي كان رآه معهم في المنطق، وقال لهم الآن صلحتم لأن تقرأوا هذا الكتاب وأمثاله علي، وأشغلهم فيه، فتعجبوا من فعله رحمه اللّه، وهذا يدل منه على كمال عقله وتوفر مروءته.
وحدثني القاضي أبو مروان الباجي قال كان أبو زيد عبد الرحمن بن يوجان وزير المنصور يعادي الحفيد أبا بكر بن زهر ويحسده لما يرى من عظم حاله، وعلو منزلته وعلمه، فاحتال عليه في سم صيره مع أحد من كان عند الحفيد بن زهر فقدمه إلى الحفيد ابن زهر في بيض، وكانت مع الحفيد أيضًا بنت أخته، وكانت أخته وابنتها هذه عالمتين بصناعة الطب والمداواة، ولهما خبرة جيدة بما يتعلق بمداواة النساء، وكانتا تدخلان إلى نساء المنصور، ولا يقبل للمنصور وأهله ولدًا إلا أخت الحفيد أو بنتها لما توفيت أمها، فما أكل الحفيد من ذلك البيض وبنت أخته ماتا جميعًا ولم ينفع فيهما علاج، قال ولم يمت أبو زيد عبد الرحمن بن يوجان إلا مقتولًا قتله مع بعض أقاربه، أقول وكان من أجل تلامذة الحفيد أبي بكر بن زهر في صناعة الطب، والآخذين عنه أبو جعفر بن الغزال.
ومن شعر الحفيد أبي بكر بن زهر أنشدني محيي الدين أبو عبد اللّه محمد بن علي ابن علي بن محمد العربي الحاتمي قال أنشدني الحفيد أبو بكر بن زهر لنفسه يتشوق إلى ولده:
نأت عنه داري فيا وحشتي ** لذلك الشخيص وذاك الوجيه

تشوقني وتشوقته ** فيبكي علي وأبكي عليه

وقد تعب الشوق ما بيننا فمنه إلي ومني إليه أنشدني القاضي أبو مروان الباجي قال، أنشدني أبو عمران بن عمران الزاهد المرتلي القاطن بإشبيلية قال أنشدني أبو بكر بن زهر لنفسه في آخر عمره:
إني نظرت إلى المرآة إذ ** جليت فأنكرت مقلتاي كلما رأتا

رأيت فيها شييخًا لست أعرفه ** وكنت أعرف فيها قبل ذاك فتى

فقلت أين الذي مثواه كان هنا ** متى ترحّل عن هذا المكان متى

فاستجهلتني وقالت لي وما نطقت ** قد كان ذاك وهذا بعد ذاك أتى

هون عليك فهذا لا بقاء له ** أما ترى العشب يفنى بعدما نبتا

كان الغواني يَقُلْنَ يا أخَيّ فقد ** صار الغواني يقلن اليوم يا أبتا

وأنشدني أيضًا القاضي أبو مروان الباجي عن الحفيد بن زهر له من أبيات:
أعدِ الحديث عليّ من جنباته ** إن الحديث عن الحبيب حبيب

وأنشدني شيخنا علم الدين قيصر بن أبي القاسم بن عبد الغني بن مسافر الحنفي المهندس، للحفيد أبي بكر بن زهر، وهي بديعة المعنى كثيرة التجنيس:
للّه ما صنع الغرام بقلبه ** أودى به لما ألب بلبه

لباه لما أن دعاه وهكذا ** من يدعه داعي الغرام يلبه

بأبي الذي لا تستطيع لعجبه ** رد السلام وإن شككت فعج به

ظبي من الأتراك ما ترك الضنا ** ألحاظه من سلوة لمحبه

إن كنت تنكر ما جنى بلحاظه ** في سلبه يوم الغوير فسل به

أو شئت أن تلقى غزالًا أغيدًا ** في سربه أسد العرين فسر به

يا ما اميلحه وأعذب ريقه ** وأعزه وأذلني في حبه

أو ما أليطف وردة في خده ** وأرقها وأشد قسوة قلبه

كم من خمار دون خمرة ريقه ** وعذاب قلب دون رائق عذبه

نادى بنفسج عارضيه تعمدًا ** يا عاشقين تمنعوا من قربه

ومن موشحاته مما أنشدني أبو عبد اللّه محمد، سبط الحكيم أبي محمد عبد اللّه ابن الحفيد أبي بكر بن زهر، وكان والد هذا المذكور أبي عبد اللّه، وهو أبو مروان أحمد ابن القاضي أبي عبد اللّه محمد بن أحمد بن عبد الملك الباجي، قد تزوج ببنت أبي محمد عبد اللّه بن الحفيد أبي بكر بن زهر، ورزق منها أبا عبد اللّه محمد، وكان- أعني أبا مروان أحمد- قد ملك إشبيلية، وبقيت في يده تسعة أشهر، ثم قتله ابن الأحمر غدرًا في سنة ثلاثين وستمائة، وكان عمره إذ ذاك سبعًا وثلاثين سنة فمن ذلك قال وهي من أول قوله:
زعمت أنفاسي الصعدا ** ان أفراح الهوى نكد

هام قلبي في معذبه ** وأنا أشكو لمطلبه

إن كتمت الحب مت به

وإذا ما صحت واكبدا ** فرح الأعداء وانتقدوا

أيها الباكي على الطلل ** ومدير الراح بالأمل

أنا من عينيك في شغل

فدع الدمع السفوح سدى ** وضرام الشوق تتقد

مقلة جادت بما ملكت ** عرفت ذلك الهوى فبكت

وشكت مما بها ورثت

وفؤادي هائم بدأ ** ما عليه للسلو يد

إن عيني لا أذنبها ** قلبي وأتعبها

لنجوم بت أرقبها

رمت أن أحصي لها عددًا ** وهي لا يحصى لها عدد

وغزال يغلب الأسدا ** جئت لاسنتجاز ما وعدا

فانزوى عني وقال غدا

أترى يا قوم أين هو غدا ** في أي مكان يسكن أو يجد

وقال أيضًا:
شمس قارنت بدرا ** راح ونديم

أدر أكؤس الخمر عنبرية النشر

إن الروض ذو بشر **وقد درع النهرا

هبوب النسيم

وسلت على الأفقيد **الغرب والشرق

سيوفًا من البرق

وقد أضحك الزهرا

بكاء الغيوم

ألا أن لي مولى ** تحكم فاستولى

أما أنه لولا

دمع يفضح السر ** لكنت كتوم

أن لي كتمان ** ودمعي طوفان

شبت فيه نيران

فمن أبصرا الجمرا ** في لج يعوم

إذ لا مني فيه ** من رأى تجنيه

شدوت أغنيه

لعل له عذرًا ** وأنت تلوم

وقال أيضًا:
أيها الساقي إليك المشتكى ** قد دعوناك وإن لم تسمع

ونديم همت في غرته ** وشربت الراح من راحته

كلما استيقظ من سكرته

جذب الزق إليه واتكا ** وسقاني أربعًا في أربع

غصن بان مال من حيث استوى ** بات من يهواه من فرط الجوى

خفق الأحشاء ** موهون القوى

كلما فكر في البين بكى ** ما له يبكي لما لم يقع

ليس لي صبر ولا لي جلد ** يا لقومي عذلوا واجتهدوا

أنكروا شكواي مما أجد

مثل حالي حقه أن يشتكي ** كمد اليأس وذل الطمع

ما لعين عشيت بالنظر ** أنكرت بعدك ضوء القمر

وإذا ما شئت فاسمع خبري

شقيت عيناي من طول البكا ** وبكى بعضي على بعضي معي

كبد حرى ودمع يكف ** يعرف الذنب ولا يعترف

أيها المعرض عما أصف

قد نمى حبك عندي وزكا ** لا يظن الحب أني مدعي

وقال أيضًا:
يا صاحبي نداء مغتبط بصاحب ** لله ما ألقاه من قد الحبائب

قلب أحاط به الجوى من كل جانب

أي قلب هائم لا يستريح من اللواحي

يا من أعانقه بأحناء الضلوع ** وأقيمه بدلًا من القلب الصديع

أنا للغرام وأنت ** للحسن البديع

وكلام اللائم ** شيء يمر مع الرياح

أنحى على رشدي وأفقدني صلاحي ** ثغر ثنى الأبصار عن نور الصباح

يسقى بختلطين ** من مسك وراح

كالحباب العائم ** في صفحة الماء القراح

من لي به بدرًا تجلى في الظلام ** علق من وجناته بدر التمام

وعلقت من أعطافه لدن القوام

كالقضيب الناعم ** لم يستطع حمل الوشاح

حملتني في الحب ما لا يستطاع ** شوقًا يراع لذكره من لا يراع

بل أنت أظلم من له حكم مطاع

وقال أيضًا:
حي الوجوه الملاح ** وحي كحل العيون

هل في الهوى من جناح ** وفي نديم وراح

رام النصوح صلاحي

وكيف أرجو صلاحًا ** بين الهوى والمجون

يا غائبًا لا يغيب ** أنت البعيد القريب

كم تشتقيك القلوب

أثخنتهن جراحًا ** واسأل سهام العيون

أبكى العيون البواكي ** تذكار أخت السماك

حتى حمام الأراك

بكى بشجو وناح ** على فروع الغصون

ألقى إليها زمامه ** صب يداوي غرامه

ولا يطيق الملامه

غدا بشوق وراحا ** ما بين سبي الظنون

يا راحلًا لم يودع ** رحلت بالأنس أجمع

والعجز يعطي ويمنع

مروا واخفوا الرواحا ** سحرًا وما ودعوني

وقال أيضًا:
هل ينفع الوجد أو يفيد ** أم هل على من بكى جناح

يا منية القلب غبت عني ** فالليل عندي بلا صباح

أفديه من معرض تولى ** لا عين منه ولا أثر

عذبني في هواه كلا ** لم يبق مني ولا يذر

يا عين عيني فليس إلا ** صبر على الدمع والسهر

ويفعل الشوق ما يريد ** في كبد كلها جراح

يا مخجل اليد لا تسلني ** عن جور ألحاظك الملاح

زاد على بهجة النهار ** من حسنهِ ادهر في ازدياد

لحظ له سطوة العقار ** يفعل في العقل ما أراد

خداه كالورد في البهار ** يقطف باللحظ أم يكاد

وذلك المبسم البرود ** حصاه در وصرف راح

أو مثل ما قلت ماء مزن ** يسقي به يانع الأقاح

يا من له أبدع الصفات ** يا غصن يا دعص يا قمر

غبت فلم يأت منك آت ** فاستوحش السمع والبصر

لولا صبا تلكم الجهات ** لذاب قلبي من الفكر

يا أيها النازح البعيد ** جادت بانبائك الرياح

أن الصبا عنك أخبرتني ** ما اهتز روض الربى وفاح

يا ساحرًا فوق كل ساحر ** ومن له حسنه أصف

وجه له كالصباح باهر ** أردية الحسن يلتحف

كالروض حفت به الأزاهر ** يقطف باللحظ أم قطف

كالبدر في ليلة السعود ** أشرق لألاؤه ولاح

كالغصن اللدن في التثني ** تهز أعطافه الرياح

من لي بمخضوبة البنان ** ممشوقة القد والدلال

من هجرها مشية الزمان ** ماض ومستقبل وحال

فيها رثى عاذلي لشاني ** ثم انثنى ضاحكًا وقال

عاشق ومسكين اللّه يريد ** وارض لمن يعشق الملاح

فدع يهجر أو يصلني ** ليس على ساحر اقتراح

أبو محمد بن الحفيد أبي بكر بن زهر هو أبو عبد اللّه بن الحفيد أبي بكر محمد بن أبي مروان عبد الملك بن أبي العلاء زهر بن أبي مروان عبد الملك بن محمد بن مروان بن زهر، كان جيد الفطرة، حسن الرأي، جميل الصورة، مفرط الذكاء، محمود الطريقة، محبًا للبس الفاخر، وكان كثير الاعتناء بصناعة الطب والنظر فيها، والتحقيق لمعانيها واشتغل على والده ووقفه على كثير من أسرار علم هذه الصناعة وعملها، وقرأ كتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري على أبيه واتقن معرفته، وكان الخليفة أبو عبد اللَّه محمد الناصر بن المنصور أبي يعقوب يرى له كثيرًا ويحترمه، ويعرف مقدار علمه وبيتوتته.
حدثني القاضي أبو مروان الباجي قال لما توجه أبو محمد عبد اللَّه بن الحفيد إلى الحضرة خرج منه فيما اشتراه لسفره ونفقته في الطريق نحو عشرة آلاف دينار، قال ولما اجتمع بالخليفة الناص بالمهدية لما فتحها الناصر خدمه على ما جرت به العادة وقال له إنني يا أمير المؤمنين بحمد اللَّه بكل خير من إنعامكم وإحسانكم علي وعلى آبائي، وقد وصل إليّ مما كان بيد أبي من إحسانكم ما يغنيني مدة حياتي وأكثر، وإنما أتيت لأكون في الخدمة كما كان أبي، وأن أجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه بين يدي أمير المؤمنين، فأكرمه الناصر إكرامًا كثيراً، وأطلق إليه من الأموال والنعم ما يفوق الوصف، وإن مجلسه إذا حضر قريبًا منه في الموضع الذي كان يجلس فيه والده الحفيد، فكان يجلس إلى جانب الخليفة الناصر الخطيب أبو عبد اللَّه محمد بن الحسن بن أبي يوسف حجاج القاضي، وكان يجلس تلوه القاضي الشريف أبو عبد اللَّه الحسيني، وكان يجلس تلوه أبو محمد عبد اللَّه بن الحفيد أبو بكر بن زهر، وكان يجلس إلى جانبه أبو موسى عيسى بن عبد العزيز الجزولي صاحب المقدمة المشهورة في النحو المعروفة بالجزولية، وكان هذا في النحو يشتغل عليه أبو محمد عبد اللَّه بن الحفيد، ويجلس بين يديه ويتعلم منه.
وكان مولد أبي محمد عبد اللَّه بن الحفيد أبي بكر في سنة سبع وسبعين وخمسمائة بمدينة إشبيلية، وتوفي رحمه اللَّه مسمومًا في سنة اثنتين وستمائة في مدينة سلا في الجهة المسماة برباط الفتح ودفن بها، وكان متوجهًا إلى مراكش فاخترمه الأجل دونها، ثم حمل من الموضع الذي دفن فيه إلى إشبيلية، ودفن عند آبائه بإشبيلية خارج باب الفتح فكانت مدة حياته خمسًا وعشرين سنة.
ومن أعجب ما حدثني القاضي أبو مروان الباجي عنه قال كنت يومًا عنده وإذا به قد قال لي إنني رأيت البارحة في النوم أختي، وكانت أخته قد ماتت قبله قال وكأني قلت لها يا أختي باللَّه عرفيني كم يكون عمري؟ فقالت لي طابيتين ونصفًا والطابية هي خشبة للبناء معروفة في المغرب بهذا الاسم طولها عشرة أشبار فقلت لها أنا أقول لك جد وأنت تجيبين بالهزء؟ فقالت لا واللَّه ما قلت لك إلا جدًّا، وإنما أنت ما فهمت، أليس الطابية عشرة أشبار والطابيتين ونصفًا خمسة وعشرون يكون عمرك خمسًا وعشرين سنة، قال القاضي أبو مروان فلما قص علي هذه الرؤيا قلت له لا تتوهم من هذا فلعله من أضغاث الأحلام، قال ولم تكمل تلك السنة إلا وقد مات فكان عمره كما قيل له خمسًا وعشرين سنة لا أزيد ولا أنقص، وخلف ولدين كل منهما فاضل في نفسه كريم في جنسه، أحدهما يسمى أبا مروان عبد الملك، والآخر أبا العلاء محمد، والأصغر منهما وهو أبو العلاء معتن بصناعة الطب، وله نظر جيد في كتب جالينوس، وكان مقامهما في إشبيلية.