فصل: أفرائيم بن الزفان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عيون الأنباء في طبقات الأطباء (نسخة منقحة)



.أفرائيم بن الزفان:

هو ابو كثير أفرائيم بن الحسن بن إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب، إسرائيلي المذهب وهو من الأطباء المشهورين بديار مصر، وخدم الخلفاء الذين كان في زمانهم وحصل من جهتهم من الأموال والنعم شيئًا كثيرًا جدًّا، وكان قد قرأ صناعة الطب على أبي الحسن علي بن رضوان وهو من أجل تلامذته، وكانت له همة عالية في تحصيل الكتب، وفي استنساخها حتى كانت عنده خزائن كثيرة من الكتب الطبية وغيرها، وكان أبدًا عنده النساخ يكتبون ولهم ما يقوم بكفايتهم منه، ومن جملتهم محمد بن سعيد بن هشام الحجري، وهو المعروف بابن ملساقه ووجدت بخط هذا عدة كتب قد كتبها لأفرائيم، وعليها خط أفرائيم، وحدثني أبي أن رجلًا من العراق كان قد أتى إلى الديار المصرية ليشتري كتبًا ويتوجه بها وأنه اجتمع مع أفرائيم، واتفق الحال فيما بينهما أن باعه أفرائيم من الكتب التي عنده عشرة آلاف مجلد، وكان ذلك في أيام ولاية الأفضل بن أمير الجيوش، فلما سمع بذلك أراد أن تلك الكتب تبقى في المصرية، ولا تنتقل إلى موضع آخر فبعث إلى أفرائيم من عنده بجملة المال الذي كان قد اتفق تثمينه بين أفرائيم والعراقي، ونقلت الكتب إلى خزانة الأفضل وكتبت عليها ألقابه، ولهذا إنني قد وجدت كتبًا كثيرة من الكتب الطبية وغيرها عليها اسم أفرائيم، وألقاب الأفضل أيضاً، وخلف أفرائيم من الكتب ما يزيد على عشرين ألف مجلد، ومن الأموال النعم شيئًا كثيرًا جدًّا.
ولأفرائيم بن الزفان من الكتب تعاليق ومجريات جعلها على جهة الكناش، ووجدت هذا الكتاب بخطه، وقد استقصى فيه ذكر الأمراض ومداواتها، وقد ذكر في أوله ما هذا نصه قال أقول وأنا أفرائيم إنني جعلت هذا الكتاب تذكرة على طريق المجموع، لا على جهة التصنيف احتياطًا على من يعالج من السهو، كتاب التذكرة الطبية في مصلحة الأحوال البدنية، ألفها لنصير الدولة أبي علي الحسين بن أبي علي الحسن بن حمدان، لما أراد الانفصال عن مصر، والتوجه إلى ثغر الإسكندرية والبحيرة وتلك الأعمال، مقالة في التقرير القياسي على أن البلغم يكثر تولده في الصيف، والدم والمرار الأصفر في الشتاء.

.سلامة بن رحمون:

هو أبو الخير سلامة بن مبارك بن رحمون بن موسى، من أطباء مصر وفضائلها، وكان يهوديًّا وله أعمال حسنة في صناعة الطب، واطلاع على كتب جالينوس والبحث عن غوامضها، وكان قد قرأ صناعة الطب أفرائيم، واشتغل بها عليه مدة، وكان لابن رحمون أيضًا اشتغال جيد بالمنطق والعلوم الحكمية، وله تصانيف في ذلك، وكان شيخه الذي اشتغل عليه بهذا الفن الأمير أبو الوفاء محمود الدولة المبشر بن فاتك، ولما وصل أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت الأندلسي من المغرب إلى الديار المصرية اجتمع بسلامة بن رحمون وجرت بينهما مباحث ومشاغبات، وقدذكره ابن أبي الصلت في رسالته المصرية عندما ذكر من رآه من أطباء مصر قال وأشبه من رأيته منهم وأدخلهم في عدد الأطباء رجل من اليهود يدعي أبا الخير سلامة بن رحمون فإنه لقي أبا الوفاء المبشر بن فاتك، فأخذ عنه شيئًا من صناعة المنطق تخصص به وتميز عن أضرابه، وأدرك أبا كثير بن الزفان تلميذ أبي الحسن بن رضوان فقرأ عليه بعض كتب جالينوس، ثم نصب نفسه لتدريس جميع كتب المنطق وجميع كتب الفلسفة الطبيعية والهيئة، وشرح بزعمه وفسر ولخص ولم يكن هناك في تحصيله وتحقيقه واستقصائه عن لطيف العلم ودقيقه، بل كان يكثر كلامه فيضل، ويسرع جوابه فيزل، ولقد سألته أول لقائي له واجتماعي به عن مسائل استفتحت مباحثه بها مما يمكن أن يفهمها من لم يكن يمتد في العلم باعه، ولم يكثر تبحره واتساعه، فأجاب عنها بما أبان عن تقصيره ونطق بعجزه، وأعرب عن سوء تصوره وفهمه، وكان مثله في عظم دواعيه وقصوره عن أيسر ماهو متعاطيه كقول الشاعر:
يشمر للج عن ساقه ** ويغمره الموج في الساحل

تمنيتم مائتي فارس ** فردَّكم فارس واحد

قال أبو الصلت وكان طبيب من أهل إنطاكية يسمى بجرجس، ويلقب بالفيلسوف على نحو ما قيل في الغرب أبو البيضاء، وفي اللديغ سليم قد تفرغ للتولع بابن رحمون والإزراء عليه، وكان يزور فصولًا طبية وفلسفية، يقررها في معارض ألفاظ القوم، وهي محال لا معنى لها وفارغة لا فائدة فيها، ثم إنه ينفذها إلى من يسأله عن معانيها، ويستوضحه أغراضها، فيتكلم عليها ويشرحها بزعمه دون تيقظ ولا تحفظ، بل باسترسال واستعجال وقلة اكتراث واهتبال، فيوجد فيها عنه ما يضحك منه، وأنشدت لجرجس هذا فيه وهو أحسن ما سمعته في هجو طبيب مشؤوم، وأنا متهم له فيه:
إن أبا الخير على جهله ** يخف في كفته الفاضل

عليله المسكين من شؤمه ** في بحر هلك ماله ساحل

ثلاثة تدخل في دفعة ** طلعته والنعش والغاسل

ولبعضهم:
لأبي الخير في العلا ** ج يد ما تقصر

كل من يستطبه ** بعد يومين يقبر

والذي غاب عنكم ** وشهدناه أكثر

وله:
جنون أبي الخير الجنون بعينه ** وكل جنون عنده غاية العقل

خذوه فغلوه فشدو وثاقه ** فما عاقل من يستهين بمختل

وقد كان يؤذي الناس بالقول وحده ** فقد صار يؤذي الناس بالقول والفعل

ولسلامة بن رحمون من الكتب كتاب نظام الموجودات، مقالة في السبب الموجب لقلة المطر بمصر، مقالة في العلم الإلهي، مقالة في خصب أبدان النساء بمصر عند تناهي الشباب.

.مبارك بن سلامة بن رحمون:

هو مبارك بن أبي الخير سلامة بن مبارك بن رحمون، مولده ومنشؤه بمصر، وكان أيضًا طبيبًا فاضلًا ولمبارك بن سلامة بن رحمون من الكتب مقالة في الجمرة المسماة بالشقفة والخزفة مختصرة.

.ابن العين زربي:

هو الشيخ موفق الدين أبو نصر عدنان بن نصر بن منصور من أهل عين زربة، وأقام ببغداد مدة، واشتغل بصناعة الطب بالعلوم الحكمية ومهر فيها، وخصوصًا في علم النجوم، ثم بعد ذلك انتقل من بغداد إلى الديار المصرية إلى حين وفاته وخدم الخلفاء المصريين، حظي في أيامهم، وتميز في دولتهم وكان من أجل المشايخ، وأكثرهم علمًا في صناعة الطب، وكانت له فراسة حسنة وإنذارات صائبة في معالجته، وصنف بديار مصر كتبًا كثيرة في صناعة الطب، وفي المنطق وفي غير ذلك من العلوم، وكانت له تلاميذ عدة يشتغلون عليه، وكل منهم تميز وبرع في الصناعة وكان ابن العين زربي في أول أمره إنما يتكسب بالتنجيم.
وحدثني أبي قال حكى لي سبط الشيخ أبي نصر عدنان بن العين زربي أن سبب اشتهار جده في الديار المصرية، واتصاله بالخلفاء أنه ورد من بغداد رسول إلى ديار مصر، وكان يعرف ابن العين زربي ببغداد وما هو عليه من الفضل والتحصيل والإتقان لكثير من العلوم، فلما كان مارًا في بعض الطرق بالقاهرة، وإذا به قد وجد ابن العين زربي جالسًا وهو يتكسب بالتنجيم فعرفه وسلم عليه، وبقي متعجبًا من كثرة تحصيله للعلوم، وكونه متميزًا في علم صناعة الطب، وهو على تلك الحال، وبقي في خاطره ذلك، فلما اجتمع بالوزير وتحدثا أجرى ذكر ابن العين زربي، وما هو عليه من العلم والفضل والتقدم في صناعة الطب وغيرها، وكونهم لم يعرفوا قدره ولا انتهى إليهم أمره، وإن الواجب في مثل هذا لا يهمل، فاشتاق الوزير إلى رؤيته، والاجتماع بمشاهدته، فاستحضر، وسمع كلامه فأعجب به، واستحسن مما سمعه منه، وتحقق فضله ومنزلته في العلم، وأنهى أمره إلى الخليفة فأطلق له ما يليق بمثله، ولم تزل أنعامهم تصل إليه ومواهبهم تتوالى عليه.
أقول وكان ابن العين زربي خبيرًا بالعربية، جيد الدراية لها، حسن الخط، وقد رأيت كتبًا عدة في الطب وفي غيره بخطه، هي في نهاية الحسن والجودة ولزم الطريقة المنسوبة، وكان أيضًا يشعر وله شعر جيد، وتوفي رحمه اللَّه في ثمان وأربعين وخمسمائة بالقاهرة، وذلك في دولة الظافر بأمر اللَّه.
ولابن العين زربي من الكتب كتاب الكافي في الطب، وصنفه في سنة عشر وخمسمائة بمصر وكمل في السادس والعشرين من ذي القعدة سنة سبع وأربعين وخمسمائة، شرح كتاب الصناعة الصغيرة لجالينوس، الرسالة المقتنعة في المنطق ألفها من كلام أبي نصر الفارابي والرئيس بن سينا، مجربات في الطب على جهة الكناش جمعها ورتبها ظافر بن تميم بمصر بعد وفاة ابن العين زربي، رسالة في السياسة، رسالة في تعذر وجود الطبيب الفاضل ونفاق الجاهل، مقالة في الحصى وعلاجه.

.بلمظفر بن معرف:

هو بلمظفر نصر بن محمود بن المعرف، كان ذكيًّا فطناً، كثير الاجتهاد والعناية والحصر في العلوم الحكمية، وله نظر أيضًا في صناعة الطب والأدب ويشعر، وكان قد اشتغل على ابن العين زربي ولازمه مدة وقرأ عليه كثيرًا من العلوم الحكمية وغيرها، ورأيت خطه في آخر تفسير الإسكندر لكتاب الكون والفساد لأرسطوطاليس، وهو يقول إنه قرأه عليه، وأتقن قراءته، وتاريخ كتابته لذلك في شعبان سة أربع وثلاثين وخمسمائة، وكان بلمظفر حسن الخط، جيد العبارة، وكان مغرى بصناعة الكيمياء، والنظر فيها، والاجتماع بأهلها، وكتب بخطه من الكتب التي صنفت فيها شيئًا كثيرًا جدًّا، وكذلك أيضًا كتب كثيرًا من الكتب الطبية والحكمية، وكانت له همة عالة في تحصيل الكتب وقراءتها.
وحدثني الشيخ سديد الدين المنطقي عنه أنه كان في داره مجلس كبير مشحون بالكتب على رفوف فيه، وأن بلمظفر لم يزل في معظم أوقاته في ذلك المجلس مشتغلًا في الكتب وفي القراءة والنسخ.
أقول ومن أعجب شيء منه أنه كان قد ملك ألوفًا كثيرة من الكتب في كل فن، وأن جميع كتبه لا يوجد شيء منها إلا وقد كتب على ظهره ملحًا ونوادر مما يتعلق بالعلم الذي قد صنف ذلك الكتاب فيه، وقد رأيت كتبًا كثيرة من كتب الطب وغيرها من الكتب الحكمية كانت لأبي المظفر وعليها اسمه، وما منها شيء إلا وعليه تعاليق مستحسنة، وفوائد متفرقة من يجانس ذلك الكتاب.
ومن شعر بلمظفر بن معرف:
وقالوا الطبيعة مبدأ الكيان ** فيا ليت شعري ما هي الطبيعة

أقادرة طبعت نفسها ** على ذاك أم ليس بالمستطيعة

وقال أيضًا:
وقالوا الطبيعة معلومنا ** ونحن نبين ما حدها

ولم يعرفوا الآن ما قبلها ** فكيف يرومون ما بعدها

ولبلمظفر بن معرف من الكتب تعاليق في الكيمياء، كتاب في علم النجوم، مختارات في الطب.
الشيخ السديد رئيس الطب هو القاضي الأجل السديد أبو المنصور عبد اللَّه بن الشيخ السديد أبي الحسن علي، وكان لقب القاضي أبي المنصور شرف الدين، وإنما غلب عليه لقب أبيه وعرف به وصار له علمًا بأن يقال الشيخ السديد، وكان عالمًا بصناعة الطب خبيرًا بأصولها وفروعها، وجيد المعالجة، كثير الدربة، حسن الأعمال باليد، وخدم الخلفاء المصريين وحظي في أيامهم، ونال من جهتهم من الأموال الوافرة، والنعم الجسيمة، ما لم ينله غيره من سائر الأطباء الذين كانوا في زمانه، ولا قريبًا منه، وكانت له عندهم المنزلة العليا والجاه الذي لا مزيد عليه، وعمّر عمرًا طويلاً، وكان من بيتوتة صناعة الطب، وكان أبوه أيضًا طبيبًا للخلفاء المصريين مشهورًا في أيامهم.
حدثني القاضي نفيس الدين بن الزبير، وكان قد لحق الشيخ السديد وقرأ عليه صناعة الطب، قال قال لي الشيخ السديد رئيس الطب إن أول من مثلت بين يديه من الخلفاء وأنعم علي الآمر بأحكام اللَّه، وذلك أن أبي كان طبيبًا في خدمته، وكان مكينًا عنده، رفيع المنزلة في أيامه قال وكنت صبيًّا في ذلك الوقت فكان أبي يهب لي في كل يوم دراهم، وأجلس عند باب الدار التي لنا، وأقصد جماعة في كل نهار، حتى تمرنت وصرت لي دربة جيدة في الفصد، وكنت قد شدوت شيئًا من صناعة الطب، فذكرني أبي عند الآمر وأخبره بما أنا عليه وأنني أعرف صناعة الفصد، ولي درجة جيدة بها، فاستدعاني، فتوجهت إليه وأنا بحالة جميلة من الملبوس الفاخر والمركوب الفاره المتحلي بمثل الطوق الذهب وغيره، وإنني لما دخلت إليه القصر مشيت مع أبي حتى صرنا بين يديه فقبلت الأرض وخدمت، فقال لي افصد هذا الأستاذ وكان واقفًا بين يديه، فقلت السمع والطاعة، ثم جيء بطشت فضة وشددت عضده، وكانت له عروق بينة الظهور ففصدته وربطت موضع الفصادة، فقال لي أحسنت وأمر لي بإنعام كثيرة وخلع فاخرة وصرت من ذلك الوقت مترددًا إلى القصر، وملازمًا للخدمة، وأطلق لي من الجاري ما يقوم بكفايتي على أفضل الأحوال التي أؤملها، وتواترت علي من الهبات والإطلاقات الشيء الكثير.
وحدثني أسعد الدين عبد العزيز بن أبي الحسن إن الشيخ السديد حصل له في يوم واحد من الخلفاء في بعض معالجاته لأحدهم ثلاثون ألف دينار، وقال لي القاضي نفيس الدين بن الزبير عنه أنه لما طهر ولَدَي الحافظ لدين اللَّه، حصل له في ذلك الوقت من المال نحو خمسين ألف دينار وأكثر من ذلك، سوى ما كان في المجلس من أواني الذهب والفضة فإنها وهبت جميعها له وكانت له همة عالية وإنعام عام.
حدثني الشيخ رضي الدين الرحبي قال لما وصل المهذب بن النقاش إلى الشام من بغداد، وكان فاضلًا في صناعة الطب، أقام بدمشق مدة، ولم يحصل له بها ما يقوم بكفايته، وسمع بالديار المصرية وإنعام الخلفاء فيها وكرمهم وإحسانهم إلى من يقصدهم ولا سيما من أرباب العلم والفضل وتاقت نفسه إلى السفر، وتوجهت أمانيه إلى الديار المصرية، فلما وصلها أقام بها أياماً، وكان قد سمع بالشيخ السديد طبيب الخلفاء، وما هو عليه من الأفضال وسعة الحال، والأخلاق الجميلة والمروءة العزيزة، فمشى إلى داره وسلم عليه، وعرفه بصناعته، وأنه إنما أتى قاصدًا إليه، ومفوضًا كل أموره لديه ومغترفًا من بحر علمه، ومعترفًا بأن مهما يصله من جهة الخلفاء فإنما هو من بره، ويكون معتدًا له بذلك في سائر عمره، فتلقاه الشيخ السديد بما يليق بمثله وأكرمه غاية الإكرام، ثم بعد ذلك قال له وكم تؤثر أن يطلق لك من الجامكية إذا كنت مقيمًا بالقاهرة؟ فقال يا مولانا يكفيني مهما تراه وما تأمر به، فقال له قل بالجملة، فقال واللَّه إن أطلق لي في كل شهر من الجاري عشرة دنانير مصرية فإني أراها خيرًا كثيراً، فقال له لا، هذا القدر ما يقوم بكفايتك على ما ينبغي وأنا أقول لوكيلي أن يوصلك في كل شهر خمسة عشر دينارًا مصرية وقاعة قريبة مني تسكنها، وهي بجميع فرشها وطرحها، وجارية حسناء تكون لك، ثم أخرج له بعد ذلك خلعة فاخرة ألبسه إياها وأمر الغلام أن يأتي له ببغلة من أجود دوابه فقدمها له، ثم قال له هذا الجاري يصلك في كل شهر وجميع ما تحتاج إليه من الكتب وغيرها فهو يأتيك على ما تختاره، وأريد منك أننا لا نخلو من الاجتماع والإنس وأنك لا تتطاول إلى شيء آخر من جهة الخلفاء، ولا تتردد إلى أحد من أرباب الدولة، فقبل ذلك منه، ولم يزل ابن النقاش مقيمًا في القاهرة على هذا الحال، إلى أن رجع إلى الشام، وأقام بدمشق إلى حين وفاته.
أقول وكان الشيخ السديد قد قرأ صناعة الطب واشتغل على أبي نصر عدنان بن العين زربي، ولم يزل الشيخ السديد مبجلًا عند الخلفاء، وأحواله تنمى، وحرمته عندهم تتزايد من حين الآمر بأحكام اللَّه إلى آخر أيام العاضد باللَّه، وذلك أنه كان وهو صبي مع أبيه في خدمة الآمر بأحكام اللّه، وهو أبو المنصور بن أبي القاسم أحمد المستعلي باللَّه بن المستنصر، إلى أن استشهد الآمر في يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة من سنة أربع وعشرين وخمسائة بالجزيرة، وكانت مدة خلافته ثمانية وعشرين سنة وتسعة أشهر وأيام، ثم بقي في خدمة الحافظ لدين اللَّه، وهو أبو الميمون عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم محمد بن الإمام المستنصر باللَّه وبويع للحافظ يوم استشهاد الآخر، ولم يزل في خدمة الحافظ إلى أن انتقل في اليوم الخامس من جمادى الآخرة من سنة أربع وأربعين وخمسمائة، ثم خدم بعده للظافر بأمر اللَّه وهو أبو منصور إسماعيل بن الحافظ لدين اللَّه وبويع له في ليلة صباحها الخامس من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة عند انتقال والده، ولم يزل في خدمته إلى أن استشهد الظافر بأمر اللَّه وذلك في التاسع والعشرين من المحرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة.
ثم بعد ذلك خدم الفائز بنصر اللَّه، وهو أبو القاسم عيسى بن الظافر بأمر اللَّه، وبويع له في الثلاثين من المحرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة، ولم يزل في خدمته إلى أن انتقل الفائز بنصر اللَّه في سنة وخمسمائة، ثم خدم بعده العاضد لدين اللَّه وهو أبو محمد عبد اللَّه بن المولى بن أبي الحجاج يوسف بن الإمام الحافظ لدين اللَّه، ولم يزل في خدمة العاضد لدين اللَّه إلى أن انتقل في التاسع من المحرم سنة سبع وستين وخمسمائة، وهو آخر الخلفاء المصريين، وخدمهم ونال في أيامهم من العطايا السنية والمنن الوافرة خمس خلفاء الآمر والحافظ والظافر والفائز والعاضد، ثم لما استبد الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بالملك في القاهرة، واستولى على الدولة كان يفتقد الشيخ السديد بالإنعام الكثير، والهبات المتواترة، والجامكية السنية مدة مقامه بالقاهرة إلى أن توجه إلى الشام وكان يستطبه ويعمل على وصفاته وما يشير به أكثر من بقية الأطباء ولم يزل الشيخ السديد رئيسًا على سائر المتطببين إلى حين وفاته، وكان يسكن في القاهرة عند باب زويلة في دار قد اعتني بها وبولغ في تحسينها، وجرت عليه في أواخر عمره محنة، وذلك أن داره قد احترقت وذهب له فيها من الأثاث والآلات والأمتعة شيء كثير جدًّا، ولما تهدم بعضها من النار وقعت براني كبار وخوابي ممتلئة من الذهب المصري، وتكسرت وتناثر فيها بعد الحريق والهدم منها الذهب إلى كل ناحية، وشاهد الناس وبعضه قد انسبك من النار وكان مقدار ذلك الوفًا كثيرة جدًّا.
وحدثني القاضي نفيس الدين بن الزبير إن الشيخ السديد كان قد رأى في منامه قبل ذلك بقليل أن داره التي هي ساكنها قد احترقت فاشتغل سره بذلك وعزم على الانتقال منها، ثم إنه شرع في بناء دار قريبة منها، وحث الصناع في بنائها، وعند كمالها حيث لم يبق منها إلا مجلس واحد وينتقل إليها احترقت داره التي كان ساكنها، وذلك في السادس والعشرين من جمادى الآخرة سنة تسع وسبعين وخمسمائة، والدار التي عمرها قريبًا منها هي التي صارت بعده للصاحب صفي الدين بن شكر وزير الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وهي التي تعرف به الآن.
ونقلت من خط فخر الكتاب حسن بن علي بن إبراهيم الجويني الكاتب في الشيخ السديد عن حريق داره وذهاب منفوساته يعزيه، وكان صديقًا له وبينهما أنس ومودة:
أيا من حق نعمته قديم ** على المرؤوس منا والرئيس

فكم عاف أعدت له العوافي ** وكم عنا نضوت لباس بوس

ويا من نفسه أعلى محلًا ** من المنفوس يعدم والنفيس

جرعت مرارة أحلى مذاقًا ** لمثلك من كميت خندريس

فعاين ما عراك بنور تقوى ** خلائقك التي هي كالشموس

مصابك بالذي أضحى ثوابًا ** يريك البشر في اليوم العبوس

عطاء اللَّه يوم العرض يسمو ** مماثلة عن العرض الخسيس

هموم الخلق في الدنيا شراب ** يدور عليهم مثل الكؤوس

تروم الروح في الدنيا بعقل ** ترى الأرواح منها في حبوس

وكل حوادث الدنيا يسير ** إذا بقيت حشاشات النفوس

ونقلت أيضًا من خطه مما نظمه في مآثر القاضي السديد مجيزًا البيتين عملًا فيه وهما:
ولكل عافية عفت وقت فإن ** عُدت المريض فأنت من أوقاتها

فاسلم ليسلم من تعلله فقد ** صحَّت بك الدنيا على علاتها

فعمل هذه الأبيات:
بك عرّفت نفسي لذيذ حياتها ** سبحان منشرها عقيب مماتها

وردت حياض الموت فاستنقذتها ** بمشيئة للّه بعد وفاتها

وأعدت فائتها بقدرة قادر ** يسترجع الأشياء بعد فواتها

فلذاك شكرك بعد شكر إلهها ** في سائر الأوقات من أوقاتها

للَّه نفسك ما أتم ضياءها ** ألعلمها تعتام أم بركاتها

تقوى تقرّ الروح في أوطانها ** ونهى تجير النفس من آفاتها

كم مثل مهجتي اختلست من الردى ** فرددت عنها وهي في سكراتها

وغمرتها برًا وبرءًا بعدما ** قذفت بها الأمراض في غراتها

ونزعت عنها النزع وهو مدافع ** لنسيم روح الروح عن لهواتها

ولكم بإذن اللَّه عدت مودعًا ** نفسًا فعدت بها إلى عاداتها

يا من غدت ألفاظه لتلاوة القرآن ** تهدي البرء من نفثاتها

يا أيها القاضي السديد ومن غدا ** للملة البيضاء من حسناتها

يا من بعين العلم منه قريحة ** تتصور الأشياء في مرآتها

للَّه فكرك مدركًا ما اكتن في ** الأعضاء عنه من جيمع جهاتها

يحمي طريق الروح من دعاره ** فكأنه وال على طرقاتها

للَّه في هذا الأنام لطائف ** خفيت عليهم أنت من آياتها

ولكل عافية عفت وقت فإن ** عدت المريض فأنت من أوقاتها

فأسلم ليسلم من تعلله فقد ** صحت بك الدنيا على علاتها

ونقلت أيضًا من خطه مما نظمه فيه وقد عالجه من بعض الأمراض العظيمة الخطر فكتب إليه:
أواصل شكرًا لست عنه بلاهي ** سفيرًا غدا بيني وبين إلهي

أعاد بإذن اللّه روحي ولم أكد ** أعود إلى هذا الوجود ولاهي

هو السيد القاضي السديد الذي به ** أفاخر أرباب العلا وأباهي

فلولا التناهي في البرايا لقلت ما ** لآماده في المكرمات تناهي

تنير له المشكلات بصيرة ** تريه خفايا الغائبات كما هي

زمام العوافي والسقام بكفه ** له آمر في الفرقتين وناهي

لك اللَّه يا عبد الإله فكم زهت ** ببهجتك الدنيا ولست بزاهي

تجل عن الماء الزلال وجَله أن ** يقاس هواء منعش بمياه

وتوفي الشيخ السديد رحمه اللّه بالقاهرة في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة.