فصل: تياذوق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عيون الأنباء في طبقات الأطباء (نسخة منقحة)



.عيسى بن حكم الدمشقي:

وهو المشهور بمسيح، صاحب الكناش الكبير الذي يعرف به وينسب إليه، قال يوسف بن إبراهيم حدثني عيسى بن الحكم أنه عرض لغضيض أم ولد الرشيد قولنج فأحضرته وأحضرت الأبح والطبري الحاسبين، وسألت عيسى عما يرى معالجتها به، قال عيسى فأعلمتها أن القولنج قد استحكم بها استحكامًا إن لم تبادره بالحقنة لم يؤمن عليها التلف، فقالت؛ للأبح والطبري اختارا لي وقتًا أتعالج فيه، فقال لها الأبح علتك هذه ليست من العلل التي يمكن أن يؤخر لها العلاج إلى وقت يحمده المنجمون، وأنا أرى أن تبادري بالعلاج قبل أن تعملي عملاً؛ وكذلك يرى عيسى بن حكم، فسألتني، فأعلمتها أن الأبح قد صدقها، فسألت الطبري عن رأيه فقال إن القمر اليوم مع زحل، وهو في غد مع المشتري، وأنا أرى لك أن تؤخري العلاج إلى مقارنة القمر المشتري، فقال الأبح أنا أخاف أن يصير القمر مع المشتري وقد عمل القولنج عملًا لا يحتاج معه إلى علاج، فتطيرت من ذلك غضيض ولبنتها أم محمد وأمرتا بإخراجه من الدار وقبلت قول الطبري، فماتت غضيض قبل موافاة القمر المشتري، فلما وافى القمر المشتري قال الأبح لأم محمد هذا وقت اختيار الطبري للعلاج فأين العليل حتى نعالجه؟ فزادتها رسالته غيظًا عليه، ولم تزل سيئة الرأي فيه حتى توفيت، قال يوسف نزلت على عيسى بن حكم في منزله بدمشق سنة خمس وعشرين ومائتين؛ وبي نزلة صعبة، فكان يغذوني بأغذية طيبة ويسقيني الثلج فكنت أنكر ذلك، وأعلمه أن تلك الأغذية مضرة بالنزلة، فيعتل علي بالهواء ويقول أنا أعلم بهواء بلدي منك وهذه الأشياء المضرة بالعراق نافعة بدمشق، فكنت أغتذي بما يغذوني به، فلما خرجت عن البلد خرج مشيعًا لي حتى صرنا إلى الموضع المعروف بالراهب، وهو الموضع الذي فارقني فيه، فقال لي قد أعددت لك طعامًا يُحمل معك يخالف الأطعمة التي كنت تأكلها، وأنا آمرك أن لا تشرب ماء بارداً، ولا تأكل من مثل الأغذية التي كنت تأكلها في منزلي شيئاً، فلمته على ما كان يغذوني به فقال أنه لا يحسن بالعاقل أن يلزم قوانين الطب مع ضيفه في منزله، قال يوسف وتجاريت وعيسى يومًا بدمشق ذكر البصل، فابترك في ذمه ووصف معايبه، وكان عيسى وسلمويه بن بيان يسلكان طريق الرهبان، ولا يحمدان شيئًا مما يزيد في الباه، ويذكران أن ذلك مما يتلف الأبدان ويذهب الأنفس، فلم استنجد الاحتجاج عليه بزيادة البصل في الباه فقلت له قد رأيت له في سفري هذا، أعني فيما بين سر من رأى ودمشق، منفعة، فسأل عنها، فاعلمته أني كنت أذوق الماء في بعض المناهل فأصيبه مالحًا فآكل البصل الني ثم أعاود شرب الماء فأجد ملوحته قد نقصت، وكان عيسى قليل الضحك فاستضحك من قولي ثم رجع إلى إظهار جرح منه، ثم قال يعز علي أن يغلط مثلك هذا الغلط، لأنك صرت إلى أسمج نكتة في البصل وأعيب عيب فيه فجعلتها مدحاً، ثم قال لي أليس متى حدث في الدماغ فساد فسدت الحواس، حتى ينقص حس الشم والذوق والسمع والبصر، فأعلمته أن الأمر كذلك، فقال لي إن خاصية البصل إحدث فساد الدماغ، فإنما قلل حسك بملوحة الماء ما أحدث البصل في دماغك من الفساد، قال وقال لي عيسى وقد شيعني إلى الراهب، وهو آخر كلام دار بيني وبينه أن والدي توفي وهو ابن مائة سنة وخمس سنين لم يتشنج له وجه، ولم ينقص من ماء وجهه لأشياء كان يفعلها وأنا الآن مزودكها فاعمل بها؛ وهي أن لا تذوق القديد، ولا تغسل يديك ورجليك عند خروجك من الحمام أبدًا إلا بماء بارد أبرد ما يمكنك، والزم ذلك فإنه ينفعك، فلزمت ما أمرني به من هذا الباب إلا أني ربما مصصت القطعة الصغيرة من القديد في السنة، وفي الأكثر من ذلك، ولعيسى بن حكم من الكتب كناش، كتاب منافع الحيوان.

.تياذوق:

كان طبيبًا فاضلًا وله نوادر وألفاظ مستحسنة في صناعة الطب، وعمر، وكان في أول دولة بني أمية ومشهورًا عندهم بالطب، وصحب أيضًا الحجاج بن يوسف الثقفي، المتولي من جهة عبد الملك بن مروان، وخدمه بصناعة الطب وكان يعتمد عليه، ويثق بمداواته، وكان له منه الجامكية الوافرة والافتقاد الكثير، ومن كلام تياذوق للحجاج قال لا تنكح إلا شابة؛ ولا تأكل من اللحم إلا فتياً، ولا تشرب الدواء إلا من علة؛ ولا تأكل الفاكهة إلا في أوان نضجها، وأجد مضغ الطعام، وإذا أكلت نهارًا فلا بأس أن تنام، وإذا أكلت ليلًا فلا تنم حتى تمشي ولو خمسين خطوة، فقال له بعض من حضر إذا كان الأمر كما تقول فلم هلك بقراط؟ ولم هلك جالينوس وغيرهما ولم يبق أحد منهم؟ قال يا بني قد احتججت فاسمع إن القوم دبّروا أنفسهم بما يملكون وغلبهم ما لا يملكون- يعني الموت- وما يرد من خارج كالحر والبرد والوقوع والغرق والجراح والغم وما أشبه ذلك، وأوصى تياذوق أيضًا الحجاج فقال لا تأكلن حتى تجوع، ولا تتكارهنّ على الجماع، ولا تحبس البول، وخذ من الحمام قبل أن يأخذ منك، وقال أيضًا: للحجاج أربعة تهدم العمر وربما قتلن دخول الحمام على البطنة؛ والمجامعة على الامتلاء؛ وأكل القديد الجاف؛ وشرب الماء البارد على الريق، وما مجامعة العجوز ببعيدة منهن، ووجد الحجاج في رأسه صداعًا فبعث إلى تياذوق وأحضره فقال اغسل رجليك بماء حار، وادهنهما، وخصي للحجاج قائم على رأسه، فقال واللَّه ما رأيت طبيبًا أقل معرفة بالطب منك شكى الأمير الصداع في رأسه فتصف له دواء في رجليه فقال له أما أن علامة ما قلت فيك بينة، قال الخصي وما هي؟ قال نُزعت خصيتاك فذهب شعر لحيتك، فضحك الحجاج ومن حضر، وشكى الحجاج ضعفًا في معدته وقصورًا في الهضم إلى تياذوق فقال يكون الأمير يحضر بين يديه الفستق الأحمر القشر البراني ويكسره ويأكل من لبه، فإن ذلك يقوي المعدة، فلما أمس الحجاج بعث إلى حظاياه وقال إن تياذوق وصف لي الفستق، فبعث إليه كل واحدة منهن صينية فيها قلوب فستق، فأكل من ذلك حتى امتلأ، وأصابته بعقبه هيضة كادت تأتي على نفسه، فشكى حاله إلى تياذوق، وقال وصفت لي شيئًا أضرَّ بي، وذكر له ما تناول، فقال له إنما قلت لك أن حضر عندك الفستق بقشره البراني، فتكسر الواحدة بعد الواحدة، وتلوك قشرها البراني وفيه العطرية والقبض، فيكون بذلك تقوية المعدة، وأنت فقد عملت غير ما قلت لك، وداواه مما عرض له، قيل ومن أخباره مع الحجاج أنه دخل عليه يوماً، فقال له الحجاج أي شيء دواء أكل الطين؟ فقال عزيمة مثلك أيها الأمير، فرمى الحجاج بالطين من يده ولم يعد إليه أبداً، وقيل أن بعض الملوك لما رأى تياذوق وقد شاخ وكبر سنه، وخشي أن يموت ولا يعتاض عنه، لأنه كان أعلم الناس وأحذق الأمة في وقته بالطب، فقال له صف لي ما أعتمد عليه فأسوس به نفسي، وأعمل به أيام حياتي، فلست آمن أن يحدث عليك حدث الموت، ولا أجد مثلك؛ فقال تياذوق أيها الملك بالخيرات، أقول لك عشرة أبواب إن علمت واجتنبتها لم تعتل مدة حياتك، وهذه عشر كلمات 1- لا تأكل طعامًا وفي معدتك طعام؛ 2- ولا تأكل ما تضعف أسنانك من مضغه، وفتضعف معدتك عن هضمه؛ 3- ولا تشرب الماء على الطعام حتى تفرغ ساعتين؛ فإن أصل الداء التخمة، وأصل التخمة الماء على الطعام؛ 4- وعليك بدخول الحمام في كل يومين مرة واحدة، فإنه يخرج من جسدك ما لا يصل إليه الدواء؛ 5- وأكثر الدم في بدنك تحرص به نفسك؛ 6- وعليك كل فصل قيئة ومسهلة؛ 7- ولا تحبس البول وإن كنت راكباً؛ 8- واعرض نفسك عل الخلاء قبل نومك؛ 9- ولا تكثر الجماع فإنه يقتبس من نار الحياة فليكثر أو يقل؛ 10- ولا تجامع العجوز فإنه يورث الموت الفجأة، فلما سمع الملك ذلك أمر كاتبه أن يكتب هذه الألفاظ بالذهب الأحمر، ويضعه في صندوق من ذهب مرصع، وبقي ينظر إليه في كل يوم ويعمل به، فلم يعتل مدة حياته حتى جاءه الموت الذي لا بد منه ولا محيص عنه، وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب قال قال الحجاج لابنه محمد يا بني إن تياذوق الطبيب كان قد أوصاني في تدبير الصحة بوصية كنت استعملها، فلم أر إلا خيراً، ولما حضرته الوفاة دخلت عليه أعوده فقال الزم ما كنت وصيتك به وما نسيت منها فلا تنس لا تشربن دواء حتى تحتاج إليه، ولا تأكلن طعامًا وفي جوفك طعام، وإذا أكلت فامش أربعين خطوة، وذا امتلأت من الطعام فنم على جنبك الأيسر، ولا تأكلن الفاكهة وهي مولية، ولا تأكلن من اللحم إلا فتياً، ولا تنكحن عجوزاً، وعليك بالسواك، ولا تتبعن اللحم اللحم، فإن إدخال اللحم على اللحم يقتل الأُسود في الفلوات، وقال أيضًا: إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتاب أخبار الحجاج إن الحجاج لما قتل سعيد بن جبير رحمه اللَّه، وكان من خيار التابعين، وجرى بينهما كلام كثير، وأمر به فذبح بين يديه، وخرج منه دم كثير استكثره وهاله، فقال الحجاج لتياذوق طبيبه ما هذا؟ قال لاجتماع نفسه، وأنه لم يجزع من الموت، ولا هاب ما فعلته به، وغيره تقتله وهو مفترق النفس، فيقل دمه لذلك، ومات تياذوق بعد ما أسن وكبر، وكانت وفاته بواسط في نحو سنة تسعين للهجرة، ولتياذوق من الكتب كناش كبير ألفه لابنه، كتاب إيدال الأدوية وكيفية دقها وإيقاعها وإذابتها وشيء من تفسير أسماء الأدوية.لت فامش أربعين خطوة، وذا امتلأت من الطعام فنم على جنبك الأيسر، ولا تأكلن الفاكهة وهي مولية، ولا تأكلن من اللحم إلا فتياً، ولا تنكحن عجوزاً، وعليك بالسواك، ولا تتبعن اللحم اللحم، فإن إدخال اللحم على اللحم يقتل الأُسود في الفلوات، وقال أيضًا: إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتاب أخبار الحجاج إن الحجاج لما قتل سعيد بن جبير رحمه اللَّه، وكان من خيار التابعين، وجرى بينهما كلام كثير، وأمر به فذبح بين يديه، وخرج منه دم كثير استكثره وهاله، فقال الحجاج لتياذوق طبيبه ما هذا؟ قال لاجتماع نفسه، وأنه لم يجزع من الموت، ولا هاب ما فعلته به، وغيره تقتله وهو مفترق النفس، فيقل دمه لذلك، ومات تياذوق بعد ما أسن وكبر، وكانت وفاته بواسط في نحو سنة تسعين للهجرة، ولتياذوق من الكتب كناش كبير ألفه لابنه، كتاب إيدال الأدوية وكيفية دقها وإيقاعها وإذابتها وشيء من تفسير أسماء الأدوية.

.زينب طبيبة بني أود:

كانت عارفة بالأعمال الطبية، خبيرة بالعلاج ومداواة آلام العين والجراحات، مشهورة بين العرب بذلك، قال أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني الكبير أخبرنا محمد بن خلف المرزبان قال، حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن كناسة عن أبيه عن جده قال أتيت أمرأة من بني أود لتكحلني من رمد كان قد أصابني فكحلتني، ثم قالت اضطجع قليلًا حتى يدور الدواء في عينيك، فاضطجعت ثم تمثلت قول الشاعر:
أمخترمي ريب المنون ولم أزر طبيب ** بني أود على النأي زينبا

فضحكت ثم قالت: أتدري فيمن قيل هذا الشعر؟ قلت: لا. قالت: فيَّ واللَّه قيل، وأنا زينب التي عناها، وأنا طبيبة بني أود، افتدري من الشاعر؟ قلت: لا قالت: عمك أبو سماك الأسدي.

.الباب الثامن: طبقات الأطباء السريانيين الذين كانوا في ابتداء ظهور دولة بني العبَّاس:

ولنبتدئ أولًا بذكر جورجس وابنه بختيشوع، والمتميزين من أولاده على تواليهم، ثم أذكر بعد ذلك ما يليق ذكره من الأطباء الذين كانوا في ذلك الوقت.

.جورجيوس بن جبرائيل:

كانت له خبرة بصناعة الطب، ومعرفة بالمداواة وأنواع العلاج، وخدم بصناعة الطب المنصور، وكان حظيًّا عنده رفيع المنزلة، ونال من جهته أموالًا جزيلة، وقد نقل للمنصور كتبًا كثيرة من كتب اليونانيين إلى العربي، قال فثيون الترجمان أن أول من استدعى أبو جعفر المنصور لجورجس، هو أن المنصور في سنة مائة وثمان وأربعين سنة للهجرة مرض وفسدت معدته، وانقطعت شهوته، وكلما عالجه الأطباء ازداد مرضه، فتقدم إلى الربيع بأن يجمع الأطباء لمشاورتهم، فجمعهم فقال لهم المنصور من تعرفون من الأطباء في سائر المدن طبيبًا ماهراً؟ فقالوا ليس في وقتنا هذا أحد يشبه جورجس رئيس أطباء جندي سابور، فإنه ماهر في الطب، وله مصنفات جليلة، فانفذ المنصور في الوقت من يحضره، فلما وصل الرسول إلى عامل البلد، احضر جورجس وخاطبه بالخروج معه فقال له علي ههنا أسباب ولا بد أن تصبر علي أيامًا حتى أخرج معك، فقال له إن أنت خرجت معي في غد طوعاً، وإلا أخرجتك كرهاً، وامتنع عليه جورجس فأمر باعتقاله، ولما اعتقل اجتمع رؤساء المدينة مع المطران فأشاروا على جورجس بالخروج، فخرج بعد أن أوصى ابنه بختيشوع بأمر البيمارستان وأموره التي تتعلق به هناك، وأخذ معه إبراهيم تلميذه وسرجس تلميذه، فقال له ابنه بختيشوع لا تدع هاهنا عيسى بن شهلا، فإنه يؤذي أهل البيمارستان، فترك سرجس، وأخذ عيسى معه عوضًا عنه، وخرج إلى مدينة السلام، ولما ودعه بختيشوع ابنه قال له لم لا تأخذني معك؟ فقال لا تعجل يا بني، فإنك ستخدم الملوك وتبلغ من الأحوال أجلها، ولما وصل جورجس إلى الحضرة أمر المنصور بإيصاله إليه، ولما وصل دعا إليه بالفارسية والعربية، فتعجب الخليفة من حسن منظره ومنطقه، فأجلسه قدامه وسأله عن أشياء فأجابه عنها بسكون فقال له قد ظفرت منك بما كنت أحبه وأشتاقه، وحدثه بعلته وكيف كان ابتداؤها، فقال له جورجس أنا أدبرك كما تحب، فأمر الخليفة له في الوقت بخلعة جلية، وقال للربيع أنزله في منزل جليل من دورنا، وأكرمه كما تكرم أخص الأهل، ولما كان من غد دخل إليه، ونظر إلى نبضه، وإلى قارورة الماء، ووافقه على تخفيف الغذاء، ودبره تدبيرًا لطيفًا حتى رجع إلى مزاجه الأول، وفرح به الخليفة فرحًا شديداً، وأمر أن يجاب إلى كل ما يسأل، ولما كان بعد أيام قال الخليفة للربيع أرى هذا الرجل قد تغير وجهه، لا يكون قد منعته مما يشربه على عادته؟
قال له الربيع لم نأذن له أن يدخل إلى هذه الدار مشروباً، فأجابه بقبيح وقال له لا بد أن تمضي بنفسك حتى تحضره من المشروب كل ما يريده فمضى الربيع إلى قطربل، وحمل منها إلى غاية ما أمكنه من الشراب الجيد، ولما كان بعد سنتين قال الخليفة لجورجس أرسل من يحضر ابنك إلينا فقد بلغني أنه مثلك في الطب، فقال له جورجس جندي سابور إليه محتاجة، وإن فارقها انفسد أمر البيمارستان، وكان أهل المدينة إذا مرضوا ساروا إليه، وهاهنا معي تلامذة قد ربيتهم وخرجتهم في الصناعة، حتى أنهم مثلي، فأمر الخليفة بإحضارهم في غد ذلك اليوم ليختبرهم، فلما كان من غد أخذ معه عيسى بن شهلا وأوصله إليه، فسأله الخليفة عن أشياء وجده فيها حاد المزاج حاذقًا بالصناعة، فقال الخليفة لجورجس ما أحسن ما وصفت هذا التلميذ وعلمته، قال فثيون ولما كان في سنة إحدى وخمسين ومائة دخل جورجس إلى الخليفة في يوم الميلاد، فقال له الخليفة أي شيء آكل اليوم؟ فقال له ما تريد، وخرج من بين يديه، فلما بلغ الباب رده، وقال له من يخدمك هاهنا؟ فقال له تلامذتي، فقال له سمعت أنه ليست لك امرأة، فقال له لي زوجة كبيرة ضعيفة ولا تقدر تنتقل إليّ من موضعها، وخرج من حضرته ومضى إلى البيعة، فأمر الخليفة خادمه سالمًا إن يختار من الجواري الروميات الحسان ثلاثاً، ويحملهن إلى جورجس مع ثلاث آلاف دينار، ففعل ذلك، ولما انصرف جورجس إلى منزله، عرفه عيسى بن شهلا بما جرى، وأراه الجواري، فأنكر أمورهن وقال لعيسى تلميذه يا تلميذ الشيطان لِم أدخلت هؤلاء منزلي؟ امض ردهن إلى صاحبهن؛ ثم ركب جورجس وعيسى ومعه الجواري إلى دار الخليفة، وردهن على الخادم، فلما اتصل الخبر بالمنصور أحضره وقال له لِم رددت الجواري؟ قال له هؤلاء لا يكونون معي في بيت واحد لأنا نحن معشر النصارى لا نتزوج بأكثر من امرأة واحدة، وما دامت المرأة في الحياة لا نأخذ غيرها، فحسن موقعه من الخليفة، وأمر في وقته أن يدخل جورجس إلى حظاياه وحرمه ويخدمهن، وزاد موضعه في عينه وعظم محله، قال فثيون ولما كان في سنة مائة واثنتين وخمسين سنة، مرض جورجس مرضا صعباً، وكان الخليفة يرسل إليه في كل يوم الخدم حتى يعرف خبره، ولما اشتد مرض جورجس، أمربه الخليفة فحمل على سرير إلى دار العامة، وخرج إليه الخليفة ماشيًا وراءه وسأله عن خبره، فبكى جورجس بكاء شديدا وقال له إن رأى أمير المؤمنين، أطال اللّه بقاءه، إن يأذن لي في المصير إلى بلدي لأنظر إلى أهلي وولدي، وإن مت قبرت مع آبائي، فقال الخليفة يا جورجس اتق اللَّه وأَسْلِم، وأنا أضمن لك الجنة.
قال جورجس أنا على دين آبائي أموت، وحيث يكون آبائي أحب أن أكون، إما في الجنة أو في جهنم، فضحك الخليفة من قوله وقال له وجدت راحة عظيمة في جسمي منذ رأيتك وإلى هذه الغاية، وقد تخلصت من الأمراض التي كانت تلحقني، قال له جورجس إني أخلف بين يديك عيسى وهو تربيتي، فأمر الخليفة أن يخرج جورجس إلى بلده، وأن يدفع إليه عشرة آلاف دينار، وأنفذ معه خادمًا وقال إن مات في طريقه فاحمله إلى منزله ليدفن هناك كما آثر، فوصل إلى بلده حياً، وحصل عيسى بن شهلا في الخدمة، وبسط يده على المطارنة والأساقفة، يأخذ أموالهم لنفسه حتي أنه كتب إلى مطران نصيبين كتابًا يلتمس منه فيه من آلات البيعة أشياء جليلة المقدار، ويتهدده متى أخرها عنه، وقال في كتابه إلي المطران ألست تعلم أن أمر الملك بيدي إن شئت أمرضته ؤإن شئت عافيته، فعندما وقف المطران على الكتاب احتال في التوصل، حتى وافى الربيع وشرح له صورته، وأقرأه الكتاب، فأوصله الربيع إلى الخليفة حتى عرف شرح ما جرى، فأمر بنفى عيسى بن شهلا بعد أن أخذ منه جميع ما ملكه، ثم قال الخليفة للربيع سل عن جورجس، فإن كان حيًّا فأنفذ من يحضره، وإن كان قد مات فاحضر ابنه، فكتب الربيع إلى العامل بجندي سابور في ذلك، واتفق أن جورجس سقط في تلك الأيام من السطح وضعف ضعفًا فلما خاطبه أمير البلد قال له أنا أنفذ إلى الخليفة طبيبًا ماهرًا يخدمه إلى أن أصلح وأتوجه إليه، وأحضر إبراهيم تلميذه، وأنفذه إلى الأمير مع كتاب شرح فيه حال جورجس إلى الربيع، فلما وصل إلى الربيع أوصله إلى الخليفة، وخاطبه الخليفة في أشياء فوجده فيها حاد المزاج جيد الجواب، فقربه وأكرمه وخلع عليه، ووهب له مالًا واستخلصه لخدمته ولم يزل في الخدمة إلى أن مات المنصور، ولجورجس من الكتب كناشه المشهور، ونقله حنين بن إسحاق من السرياني إلى العربي.