فصل: شرف الدين بن الرحبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عيون الأنباء في طبقات الأطباء (نسخة منقحة)



.رضي الدين الرحبي:

هو الشيخ الحكيم الإمام العالم رضي الدين أبو الحجاج يوسف بن حيدرة بن الحسن الرحبي، من الأكابر في صناعة الطب، والمتعينين من أهلها، وله القدر والاشتهار والذكر الشائع عند الخواص والعوام، ولم يزل مبجلًا عند الملوك وغيرهم، كثيري الاحترام له، وكان كبير النفس، عالي الهمة، كثير التحقيق حسن السيرة، محبًا للخير وأهله، شديد الاجتهاد في مداواة المرض، رؤوفًا بالخلق، طاهر اللسان، ما عرف منه في سائر عمره أنه آذى حدًا ولا تكلم في عرض غيره بسوء، وكان والده من بلد الرحبة، وله أيضًا نظر في صناعة الطب، إلا إن صناعة الكحل كانت أغلب عليه وعرف بها، وكان مولد الشيخ رضي الدين بجزيرة ابن عمر، ونشأ بها وأقام أيضًا بنصيبين وبالرحبة سنين، وسافر أيضًا إلى بغداد وإلى غيرها، واشتغل بصناعة الطب وتمهر فيها، واجتمع أيضًا في ديار مصر بالشيخ الموفق المعروف بابن جميع المصري، وانتفع به، وكان وصوله مع أبيه إلى دمشق في سنة خمس وخمسين وخمسمائة وكان في ذلك الوقت ملكها السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، وأقام رضي الدين ووالده بدمشق سنين، وتوفي والده بها ودفن بجبل قاسيون، وبقي رضي الدين قاطنًا بدمشق، وملازمًا للدكان لمعالجة المرضى ونسخ بها كتابًا كثيرة، وبقي على تلك الحال مدة.
واشتغل على مهذب الدين بن النقاش الطبيب ولازمه فنوه بذكره وقدمه، وتأدت به الحال إلى أن اجتمع بالملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب فحسن موقعه عنده، وأطلق له في كل شهر ثلاثين ديناراً، ويكون ملازمًا للقلعة والبيمارستان، فبقي كذلك مدة دولة صلاح الدين بأسرها، وكان صلاح الدين قد طلبه للخدمة في السفر فلم يفعل ولما توفي صلاح الدين رحمه اللّه بدمشق، وذلك في ليلة الأربعاء ثلث الليل الأول سابع وعشرين صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة، وانتقل الملك عن أولاده ألى أخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب واستولى على البلاد أمر بأن يكون في خدمته في الصحبة فلم يجب إلى ذلك، وطلب أن يكون مقيمًا بدمشق فأطلق له الملك العادل ما كان مقررًا باسمه في أيام صلاح الدين، وأن يبقى مستمرًا على ما هو عليه، وبقي على ذلك أيضًا إلى أن توفي الملك العادل، وملك بعده الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل فأجرى له خمسة عشر ديناراً، ويكون مترددًا إلى البيمارستان فبقي مترددًا إليه إلى أن توفي رحمه اللّه.
واشتغل عليه بصناعة الطب خلق كثير ونبغ منهم جمتاعة عدة، وأقرأوا لغيرهم وصاروا من المشايخ المذكورين في صناعة الطب، ولو اعتبر أحد جمهور الأطباء بالشام لوجد إما أن يكون منهم من قد قرأ على الرحبي، أو من قرأ على من قرأ عليه، وكان من جملة من قد قرأ عليه أيضًا في أول أمره الشيخ مهذب الدين عبد الرحيم بن علي قبل ملازمته لابن المطران.
وحدثني الشيخ رضي الدين يومًا قال أن جميع من قرأ علي ولازمني فإنهم سعدوا وانتفع الناس بهم، وذكر لي أسماء كثيرين منهم قد تميزوا واشتهروا في صناعة الطب منهم من قد مات، ومنهم من كان بعد في الحياة، وكان يرى أنه لا يقرئ أحدًا من أهل الذمة أصلًا صناعة الطب، ولا لمن لا يجده أهلًا لها، وكان يعطي الصناعة حقها من الرآسة والتعظيم، وقال لي أنه لم يقرئ في سائر عمره من أهل الذمة سوى اثنين لا غير أحدهما الحكيم عمران الإسرائيلي، والآخر إبراهيم بن خلف السامري بعد أن ثقلا عليه بكل طريق، وتشفعا عنده بجهات لا يمكنه ردهم، وكل منهما نبغ وصار طبيبًا فاضلاً، ولا شك أن من المشايخ من يكون للاشتغال عليه بركة وسعد كما يوجد ذلك في بعض الكتب المصنفة دون غيرها في علم علم، وكنت في سنة انتين وثلاث وعشرين وستمائة قد قرأت عليه كتابًا في الطب، ولا سيما فيما يتعلق بالجزء العملي من كلام أبي بكر محمد بن زكريا الرازي وغيره وانتفعت به.
وكان الشيخ رضي الدين محبًا للتجارة مغري بها، وكان يراعي مزاجه ويعتني بحفظ صحته، وقال الصاحب جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن إبراهيم القفطي عن الحكيم الرحبي أنه كان يلزم فيه أموره قوانين حفظ الصحة الموجودة، قال ولقد بلغني أنه كان يقتني أجود الطباخات، ويتقدم إليها بأحكام ما يغلب على ظنه الانتفاع باستعماله في نهاره ذلك بما باشره من نفسه، وما غلب عليه من الأخلاط في يومه، فإذا أنجزته وأعلمته بذلك طلب من يؤاكله من مؤانسيه، فإذا حضر منهم من حضر استأذنته في إحضار الطعام فيقول لها أخريه فإن الشهوة لم تصدق بعد، فتؤخره إلى أن يستدعيه، يقول أعجلي فتأتيه به ويتناول منه، فقال له بعض أصحابه يومًا ما المراد بهذا؟ فقال الأكل مع الشهوة هو المندوب إله لحفظ الصحة فإن الأعضاء إذا احتاجت إلى تعويض ما تحلل منها استدعت ذلك من المعدة فتستدعيه المعدة من خارج، فقال له وما ثمرة هذا؟ قال أن يعيش الإنسان العمر الطبيعي، فقال له إنك قد بلغت من السن ما لمي بق بينك وبين العمر الطبيعي إلا القليل، فأي الحاجة إلى هذا التكلف؟ فقال له لأبقى ذلك القليل فوق الأرض استنشق الهواء وأجرع الماء، ولا أكون تحتها بسوء التدبير، ولم يزل على حالته تلك إلى أن أتاه أجله.
أقول ومما يناسب هذا المعنى المتقدم في أنه لا ينبغي أن يؤكل الطعام إلا بشهوة صادقة للأكل، إنني كنت يومًا أقرأ عليه في شيء من كلامه الرازي في ترتيب تناول الأغذية، وقد ذكر الرازي أن الإنسان ينبغي له أن يأكل في اليوم مرتين، وفي اليوم الثاني مرة واحدة، فقال لي لا تسمع هذا، والذي ينبغي له أن يأكل في اليوم مرتين، وفي اليوم الثاني مرة واحدة، فقال لي لا تسمع هذا، والذي ينبغي أن تعتمد عليه أنك تأكل وقت تكون الشهوة للأكل صادقة في أي وقت كان، سواء أكان مرتين في النهار أو مرة أو ليل أو نهار، فالأكل عند الشهوة الصادقة للأكل هو الذي ينفع، وإذا لم يكن كذلك فإنه مضرة البدن، وصدق في قوله، وقد لزم في سائر أيامه أشياء لا يخل بها، وذلك أنه كان يجعل يوم السبت أبدًا لخروجه إلى البستان وراحته فيه، ويتركه يوم بطالة عن الاشتغال، وكان لا يدخل الحمام إلا في يوم الخميس، وقد جعل ذلك له راتباً، وكان في يوم الجمعة يقصد من يريد رؤيته وزيارته من الأعيان والكبراء، وكان أبدًا يتوخى أنه لا يصعد في سلم، وإذا كان له مريض يفتقده إن لم يكن في موضع لا يصعد إليه إذا أتاه في سلم، وإلا لم يقربه وكان يصف السلم بأنه منشار العمر.
ومن أعجب ما حكى لأبي من ذلك أنه قال إنني منذ اشتريت هذه القاعة التي أنا ساكن فيها أكثر من خمس وعشرين سنة ما أعرف أنني طلعت إلى الحجرة التي فوقها، إلا وقت استعرضت الدار واشتريتها، وما عدت طلعت إلى الحجرة بعد ذلك إلى يومي هذا.
ومن نوادره وسن تصرفاته فيما يتعلق بصناعة الطب، حدثني الصاحب صفي الدين إبراهيم بن مرزوق وزير الملك الإشرف بن الملك العادل، وقد حكى جملًا من مناقب الشيخ رضي الدين، فمن ذلك قال إن الصاحب صفي الدين بن شكر وزير الملك العادل أبي بكر بن أيوب كان أبدًا يلازم أكل لحم الدجاج ويعدل عن لحم الضأن في أكثر الأوقات، فشكا إليه شحوبًا كان قد غلب على لونه، وكان الأطباء يصفون له كثيرًا من الأشربة وغيرها فلما شكا إليه هذا مضى لحظة، وعاد ومعه قطعة من صدر دجاجة، وقطعة حمراء من لحم ضأن، ثم قال له أنت تلازم أكل لحم الدجاج فلم يأت الدم المتو لد منه مشرق الحمرة كما يأتي من لحم الضأن، وأنت ترى لون هذا اللحم من الضأن ومباينته في اللون لهذه القطعة من الدجاج فينبغي أن تترك أكل لحم الدجاج، وتلازم أكل لحم الضأن فإنك تصلح، وما تحتاج معه إلى علاج، قال فقبل هذا الرأي منه وتناول ما أوصاه به، واستمر على ذلك مدة فصلح لونه، واعتدل مزاجه.
أقول وهذا إقناع حسن أوجده لمن أراد علاجه، وتدبير بليغ في حفظ صحته، وذلك أن الوزير كان عبل البدن، تام البنية، قوي التركيب، جيد الاستمراء، فكانت أعضاؤه ترزًا من لحم الدجاج بدم لطي وهي تحتاج إلى غذاء أغلظ منه وأمتن، فلما لازم أكل لحم الضأن صار يتولد له منه دم متين يقوم بكفاية ما تحتاج إليه أعضاؤه فصلح مزاجه وظهر لونه.
وكان مولد الشيخ رضي الدين الرحبي في شهر جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وخمسمائة بجزيرة ابن عمر، وكان أول مرضه في يوم عيد الأضحى من سنة ثلاثين وستمائة، ووفاته رحمه اللَّه بكرة يوم الأحد العاشر من المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة بدمشق، ودفن بجبل قاسيون، فعاش نحو المائة سنة، ولم يتبين تغير شيء من سمعه ولا بصره، وإنما كان في آخر عمره قد عرض له نسيان للأشياء القريبة العهد المتجددة، وأما الأشياء البعيدة المدة التي كان يعرفها من زمان طويل فإنه كان ذاكرًا لها، وخلف ولدين الأكبر منهما شرف الدين أبو الحسن علي، والآخر جمال الدين عثمان، وحكي لي بعض أهله ممن لازمه في المرض أنه عند موته جس نبض يده اليسرى بيده اليمنى، وبقي كالمتأمل المفكر في ذلك، ثم ضرب بيديه كفًا على كف لأنه علم أن قوته قد سقطت، قال وعدّل زورقية كانت على رأسه بيديه، واستبسل للموت ومات بعد ذلك.
ولرضي الدين الرحبي من الكتب بتهذيب شرح ابن الطيب لكتاب الفصول لأبقراط، اختصار كتاب المسائل لحنين، كان قد شرع في ذلك ولم يكمله.

.شرف الدين بن الرحبي:

هو الحكيم الإمام العالم الفاضل علامة عصرة وفريد دهرة، شرف الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن حيدرة بن الحسن الرحبي، كان مولدة بدمشق في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وكان قد سلك حذو أبية، واقتفى ما كان يقتفية، وهو أشبة به خلقًا وخُلقًا وطرائق، لم يزل متوفرًا على قراءة الكتب وتحصيلها، ونفسه تشرئب إلى طلب الفضائل وتفصيلها، وله تدقيق في الصناعة الطبية وتحقيق لمباحثها الكلية والجزئية، وله في الطب كتب مؤلفة وحواش متفرقة، واشتغل بصناعة الطب على أبيه، وقرأ أيضًا على الشيخ موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي، وحرر عليه كثيرًا من العلوم، ولا سيما من تصانيف الشيخ موفق الدين البغدادي، وإشتغل أيضًا بالأدب عل الشيخ علم الدين السخاوي وعلى غيره من العلماء، وقد أتقن علم الأدب إتقانًا لا مزيد عليه، ولا يشاركه أحد فيه، وله فطرة جيدة في قول الشعر، وأحب ما إليه التخلي مع نفسه، والملازمة لقراءته ودرسه، والإطلاع على آثار القدماء، والإنتفاع بمؤلفات الحكماء، وكان نزيه النفس، عالي الهمة لم يؤثر التردد إلى الملوك ولا إلى أرباب الدولة، وخدم مدة في البيمارستان الكبير الذي أنشأه الملك العادل نور الدين بن زنكي، ولما وقف شيخنا مهذب الدين عبد الرحيم بن علي رحمه اللّه الدار التي له بدمشق، وجعلمها مدرسة يدرس فيها صناعة الطب وينتفع المسلمون بقراءتهم فيها أوصى أن يكون مدرسها شرف الدين بن الرحبي لما قد تحققه من علمه وفهمه، فتولى التدريس بها مدة، وتوفي شرف الدين بن الرحبي بدمشق ودفن بجبل قاسيون، وكانت وفاته رحمه اللّه في الليلة التي صباحها يوم الجمعة حادي عشر المحرم سنة سبع وستين وستمائة بعلة ذات الجنب.
وحدثني الحكيم بدر الدين بن قاضي بعلبك، وشمس الدين الكتبي المعروف بالخواتمي قالا كان شرف الدين قبل أن يمرض ويموت بأشهر يقول للجماعة المترددين إليه، والتلاميذ المشتغلين عليه أنه بعد قليل أموت وذلك يكون عند قران الكوكبين، ثم يقول لهم قولوا للناس هذا حتى يعرفوا مقدار علمي في حياتي وعلمي بوقت موتي، وكان قوله موافقًا لما حكم به.
ومن شعر شرف الدين بن الرحبي وهو مما أنشدني لنفسه فمن ذلك قال:
سهام المنايا في الورى ليس تمنع ** فكل له يومًا وإن عاش مصرع

وكلّ وإن طال المدى سوف ينتهي ** إلي قعر لحدٍ في ثرى منه يودع

فقل للذي قد عاش بعد قرينه ** إلى مثلها عما قليل ستدفع

فكل ابن أنثي سوف يفضي إلى ردى ** ويرفعه بعد الأرائك شرجع

ويدركه يومًا وإن عاش برهة ** قضاء تساوى فيه هم ومرضع

فلا يفرحن يوماث بطول حياته ** لبيب فما في عيشة المرء مطمع

فما العيش إلا مثل لمحة بارق ** وما الموت إلا مثل ما العين تهجع

وما الناس إلا كالنبات فيابس ** هشيم وغض إثر ما باد يطلع

فتبًا لدنيا ما تزال تعلنا ** أفاويق كأس مرة ليس تقنع

سحاب أمانيها جهام وبرقها ** إذا شيم برق خلب ليس يهمع

كأن لم يكن يومًا علا مرفقًا ** لها نفائس تيجان ودر مرصع

تباعد عنهم وحشة كل وامق ** وعافهم الأهلون والناس أجمع

وقاطعهم من كان حال حياتهم ** بوصلهم وجدًا بهم ليس يطمع

يبكيهم الأعداء من سوء حالهم ** ويرحمهم من كان ضدًا ويججزع

فقل للذي قد غره طول عمره ** وما قد حواه من زخارف تخدع

أفق وانظر الدنيا بعين بصيرة ** تجد كل ما فيها ودائع ترجع

فأين الملوك الصيد قدمًا ومن حوى ** من الأرض ما كانت به الشمس تطلع

حواه ضريح من فضاء بسيطها ** يقصرعن جمانه حين يذرع

وأنشدني أيضًا لنفسه:
ليس يجدي ذكر الفتى بعد موت ** فاطرح ما يقوله السفهاء

أنما يدرك التألم واللذة ** حي لا صخرة صماء

وقال وأنشدني إياها لما توفي الملك الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب بدمشق، وذلك في سنة خمس وثلاثين وستمائة.
كم قال جهلًا بأني إن أمت ** يزل النظام ويفسد الثقلان

وافاه مضيّ الحمام ولم يرع ** حيّ ولم يحفل به اثنان

فغدا لقيٍّ تحت التراب مجندلًا ** لم ينتطح في موته عنزان

من ظن أن لا بد منه وإنه ** ذو عنية في عالم الإكوان

فلبئسما ذهبت وساوس فكره ** منه إلي دعوى بغير بيان

أني وما فوق البسيطة فاسد ** إلا ويخلفه بديل ثاني

وقال وأشدني إياها بعد وفاة أخيه الحكيم جمال الدين عمثان في سنة ثمان وخمسين وستمائة:
تبدلت لما أن وجدت سكينة ** وعزًا نفى شر الحسود المعاند

وقد ناهزت سني ثمانين حجة ** ومات من الأهلين كل مساعد

ولا سيما الأخر الشقيق وإن غدا ** لدى نازل في الخطب ركني وساعدي

فخانتني الأيام فيما رجوته ** ولما تزل تأتي بعكس المقاصد

فصبرًا على كيد الزمان لعله ** يؤول إلى الإنصاف بعد التباعد

وكان يخضب الحناء فقلت له لو تركت اللحية بيضاء كان أليق فأنشدني لنفسه بديها:
سترت مشيبي بالخضاب لأنني ** تيقنت أن الشيب بالموت منذر

فواريته كيلا ترى منه مقلتي ** صباح مساء ما به العيش يكدر

فغيبة ما يشنى عن العين موجب ** تناسى ما منه يخاف ويحذر

وإن كنت ذا علم بأن ليس ملبسي ** شاببًا ولا رد المنية يقدر

وقال هو مما كتب به إلي من دمشق وكنت يومئذ بصرخد عند مالكها الأمير عز الدين أيبك المعظمي:
موفق الدين ماذا السهو منك على ** ما نلت من رتبة في العلم والأدب

أبعت نفسك بالنزر الحقير لقد ** أرخصتها بعد طول الجد والدأب

أقمت في بلد يزري بساكنه ** لا يرتضيه لبيب من ذوي الرتب

ناء عن الخير ذي جدب فليس ** به سوى صخور وحر منه ملتهب

مضيعًا فيه عمرًا ما له عوض ** إذا تصرم وقت منه لم يؤب

أتحسب العمر مردودًا تصومه ** هيهات أن يرجع الماضي من الحقب

أم تحسب العمر ما ولت لذاذته ** ينال بعدذهاب العمر بالذهب

إذا تولى شباب العمر في نغص ** فما له في بقايا العمر من أرب

لو كان ما أنت فيه مكسبًا لغنى ** لما وفى بذهاب العمر في نصب

فكيف مع قلة الجاري وخسته والبعد ** من كل ذي فضل وذي أدب

فعد إلى جنة الدنيا فقد برزت ** لمجتلي الحسن في أثوابها القشب

ولا تقم بسواها مع حصول غنى ** فالعمر فيما سواها غير محتسب

واقطع زمانك طيبًا في محاسنها ** وعد إلى اللهو واللذات والطرب

وبادر العمر قبل الفوت مغتنما ** ما دمت حيًّا فإن الموت في الطلب

وخذ عيانًا إذا ما أمكنت فرص ** ولا تبع طيب موجود بمرتقب

فالعمر منصرم والوقت مغتنم والدهر ** ذو غِيَر فانعم به تصب

فاعمل بقولي ولا تجنح إلى أحد ممن ** يفند من عمري وذي رغب

يرى السعادة في نيل الحطام ولو حواه ** مع نصب من سوء مكتسب

فاستدرك الفائت المقضي في عمر ** فليس بالنأي عن مثواك من كثب

ولا تعش عيش ذي نقص وكن أبدًا ** ممن سمت همة منه على الشهب

واغنم حياة أب ما زال ذا حزن ** مذ غبت عنه لبعد منك مكتئب

فلست تعدم مع رؤياه مكتسبًا ** يسد بالقنع من عري ومن سغب

فالرأي ما قلته فاعمل به عجلًا ** ولا تصخ نحو فدم غير ذي حدب

فغفلة المرء مع علم ومعرفة ** عن واضح بيِّن من أعجب العجب

فقلت في جوابه وكتبت بها إليه:
مولاي يا شرف الدين الذي بلغت ** أدنى مساعيه أعلى رتبة الأدب

ومن سمت في سماء المجد همته ** فأدركت في المعالي أرفع الرتب

قد فاق بقراط في علم وفي حكم ** وفاق سحبان في شعر وفي خطب

له التصانيف في كل العلوم ولا ** شيء يماثلها من سائر الكتب

أقدارها قد علت في الناس وارتفعت ** عن كل شبه كمثل السبعة الشهب في

فيها المعاني التي كالدر قد نظمت ** سلك خط وخير اللفظ منتخب

ولا عجيب لدر كان مورده ** من بحر علم لمولى في العلى دئب

قد نال راحة تحصيل العلوم وما ** من راحة حصلت إلا عن التعب البعض

ورام مسعاه أقوام وما بلغوا ** البعض منه وكلّ جَدّ في الطلب

وكل علم وجود فهو منه إلى ** من يجتديه كغيث دائم الصيب

للَّه كم من أياد منه قد وصلت ** إلي في سالف الأيام والحقب

إني لأشكرها ما دمت مجتهدًا ** وشكر نعماه طول الدهر أجدر بي

عندي من البين أشواق إليك كما ** للناس في الجدب أشواق إلى السحب

تهمي دموعي إذا ما عنَّ ذكركم ** على فؤاد بنار الشوق ملتهب

كأنما حل طرفي بعد بينكم ** متمم وأتى قلبي أبو لهب

وكل عمر تقضى لي بعدكم ** عني فذلك عمر غير محتسب

ولو تكون لي الدنيا بأجمعها ** في البعد ما كنت مختارًا فراق أبي

هو الذي لم يزل أشفاقه أبدًا ** علي والبر من بعد ومن كثب

وأنني بعد ما جد الفراق بنا ** والبعد لم يصف لي عيش ولم يطب

وكيف يلتذ عيشًا من أتاح به ** هذا الزمان إلى قوم من الحطب

لم يعرفوا قدر ذي علم لجهلهم ** وليس ذلك في الجهال بالعجب

أتيت من ضاع فضلي في فناه وهل ** غباوة العجم تدري فطنة العرب

وإن أقمت بأقوام على خطأ ** مني وقد مر بعض العمر في نصب

فقد أقام سميي قبل في نفر ** بأرض نجلة يشكو حادث النوب

وهي الأمور التي تأتي مقدرة ** وليس شيء من الدنيا بلا سبب

ومن بدائع نظم أنت قائله ** بيت به حكم من رأي ذي حدب

إذا انقضى شباب المرء في نغص ** فما له في بقايا العمر من أرب

يا حبذا طيب أيام لنا سلفت ** وطيب أوقاتها لو أنها تؤب

وحبذا جنة الديا إذا برزت ** لمجتلي الحسن في أثوابها القشب

وقد رأيت صوابًا ما أمرت به ** وما نصحت بلا شك ولا ريب

وليس ينكر شيئًا أنت قائله ** من النصيحة والآراء غير غبي

وإن لي همة تسمو السماك وما ** إلا الفضائل والعلياء مطلبي

وسوف أقصد أرضًا قد نشأت بها ** والقرب من كل ذي فضل وذي أدب

واجعل العزم في علم أحصله ** فالعلم في كل حال خير مكتسب

وأنشدني أيضًا لنفسه:
لم يبق تولهي بكم غير ذمًا ** ينصب لذا البكا من العين دما

إن كان يقتلني إلهي حكماًفي ** حبك لم أجد لموتي ألما

ولشرف الدين بن الرحبي من الكتب كتاب في خلق الإنسان وهيئة أعضائه ومنفعتها، لم يسبق إلى مثله، وحواش على كتاب القانون لابن سينا، حواش على شرح ابن أبي صادق لمسائل حنين.