فصل: مهذب الدين عبد الرحيم بن علي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عيون الأنباء في طبقات الأطباء (نسخة منقحة)



.مهذب الدين عبد الرحيم بن علي:

هو شيخنا الإمام الصدر الكبير، العالم الفاضل مهذب الدين أبو محمد عبد الرحيم بن علي بن حامد ويعرف بالدخوار، وكان رحمه اللّه أوحد عصره، وفريد دهره، وعلامة زمانه، وإليه انتهت رياسة صناعة الطب ومعرفتها على ما ينبغي، وتحقيق كلياتها وجزئياتها، ولم يكن في اجتهاده من يجاريه، ولافي علمه من يماثله، أتعب نفسه في الاشتغال، وكد خاطره في تحصيل العلم حتى فاق أهل زمانه، في صناعة الطب، وحظي عند الملوك، ونال من جهتهم من المال والجاه ما لم ينله غيره من الأطباء إلى أن توفي، وكان مولده ومنشؤه بدمشق، وكان أبوه علي بن حامد كحالًا مشهوراً، وكذلك كان أخوه وهو حامد بن علي كحالاً، وكان الحكيم مهذب الدين أيضًا في مبدأ أمره يكحل، وهو مع ذلك مواظب على الاشتغال والنسخ، وكان خطه منسوباً، وكتب كتبًا كثيرة بخطه، وقد رأيت منها نحو مائة مجلد أو أكثر في الطب وغيره، واشتغل بالعربية على الشيخ تاج الدين الكندي أبي اليمن، ولم يزل مجتهدًا في تحصيل العلوم وملازمة القراءة والحفظ حتى في أوقات خدمته وهو في سن الكهولة، وكان في أول اشتغاله بصناعة الطب قد قرأ شيئًا من المكي على الشيخ رضي الدين الرحبي رحمه اللّه، ثم بعد ذلك لازم موفق الدين بن المطران وتتلمذ له، واشتغل عليه بصناعة الطب، ولم يزل ملازمًا له في أسفاره وحضره إلى أن تميز ومهر، واشتغل بعد ذلك أيضًا على فخر الدين المارديني لما ورد إلى دمشق في سنة تسع وسبعين وخمسمائة بشيء من القانون لابن سينا، وكان فخرالدين المارديني كثير الدراية لهذا الكتاب والتحقيق لمعانيه وخدم الحكيم مهذب الدين الملك العادل أبا بكر بن أيوب بصناعة الطب، وكان السبب في ذلك أنه في أول أمره كان يعاني صناعة الكحل ويحاول أعمالها، وخدم بها في البيمارستان الكبير الذي أنشأه ووقفه الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، ثم بعد ذلك لما اشتغل على ابن المطران، ووسم بصناعة الطب، أطلق له الصاحب صفي الدين بن شكر وزير الملك العادل أبي بكر بن أيوب جامكية على الطب وخدم بها، وهو مع ذلك يشتغل ويتزيد في العلم والعمل، ولا يخل بخدمة الصاحب صفي الدين بن شكر والتردد إليه، وعرف الصاحب منزلته في صناعة الطب وعلمه وفضله، ولما كان في شهرشوال سنة أربع وستمائة كان الملك العادل قد قال للصاحب بن شكر نريد أن يكون مع الحكيم موفق الدين عبد العزيز حكيم آخر، برسم خدمة العسكر والتردد إليهم في أمراضهم، فإن الحكيم عبد العزبز ما يلحق لذلك، فامتثل أمره وقال ههنا حكيم فاضل في صناعة الطب يقال له المهذب الدخوار يصلح أن يكون في خدمة مولانا، فأمره باستخدامه.
ولما حضر مهذب الدين عند الصاحب قال له إني شكرتك للسلطان وهذه ثلاثون دينارًا ناصرية لك في كل شهر وتكون في الخدمة، فقال يا مولانا الحكيم موفق الدين عبد العزيز له في كل شهر مائة دينار ورواتب مثلها، وأنا أعرف منزلتي في العلم وما أخدم بدون مقرره، وانفصل عن الصاحب ولم يقبل، ثم إن الجماعة ذمت مهذب الدين على امتناعه، وما بقي يمكنه أن يعاود الصاحب ليخدم، وكان مقرره في البيمارستان شيء يسير، واتفق المقدورأن بعد ذلك الحديث بنحو شهر، وكان يعاود الموفق عبد العزيز قولنج صعب فعرض له وتزايد به ومات منه، ولما بلغ الملك العادل موته قال للصاحب كنت قد شكرت لنا حكيمًا يقال له المهذب نزله على مقرر الموفق عبد العزيز فتنزل على جميع مقرره، واستمرفي خدمة الملك العادل من ذلك الوقت، ثم لم تزل منزلته عنده، وتترقى أحواله، حتى صار جليسه وأنيسه وصاحب مشورته.
وظهر أيضًا منه في أول خدمته له نوادرفي تقدمة المعرفة، أكدت حسن ظنه به واعتماده عليه، ومن ذلك أن الملك العادل كان قد مرض ولازمه أعيان الأطباء، فأشار الحكيم مهذب الدين عليه بالفصد فلم يستصوب ذلك الأطباء الذين كانوا معه، فقال واللّه لم نخرج له دمًا إلا خرج الدم بغير اختيارنا، ولم يوافقوه في قوله فما كان قعد ذلك بأيسر وقت إلا والسلطان قد رعف رعافًا كثيرًا وصلح فعرف أن ما في الجماعة مثله، ومن ذلك أيضًا أنه كان يومًا على باب دار السلطان ومعه جماعة من أطباء الدور فخرج خادم ومعه قارورة جارية يستوصف لها من شيء يؤلمها، فلما رآها الأطباء وصفوا لها ما حضرهم، وعندما عاينها الحكيم مهذب الدين قال إن هذا الألم الذي تشكوه لم يوجب هذا الصبغ الذي للقارورة، يوشك أنه الصبغ من حناء قد اختضبت به، فأعلمه الخادم بذلك وتعجب منه، وأخبر الملك العادل فتزيد حسن اعتقاده فيه.
ومن محاسن ما فعله الشيخ مهذب الدين من كمال مروءته ووافر عصبيته، حدثني أبي قال كان الملك العادل قد غضب على قاضي القضاة محيي الدين بن زكي الدين بدمشق لأمر نقم عليه به، وأمر باعتقاله في القلعة، ورسم عليه أن يزن للسلطان عشرة آلاف دينار مصرية وشدد عليه في ذلك، وبقي في الحبس والمطالبة عليه كل وقت فوزن البعض وعجز عن وزن بقية المال، وعظم الملك العادل عليه الأمر وقال لا بد أن يزن بقية المال وإلا عذبته، فتحير القاضي وأبلغ جميع موجوده وأثاث بيته حتى الكتب التي له، وتوسل إلى السلطان وتشفع بكثير من الأمراء والخواص والأكابر، مثل الشميس أستاذ الدار وشمس الخواص صواب والوزير وغيرهم أن يسامحه بالبعض، أو يسقط عليه فما فعل السلطان، وحمل القاضي همًّا عظيمًا على ذلك حتى قل أكله ونومه، وكاد يهلك فافتقده الحكيم مهذب الدين، وكان بينهما صداقة قديمة، وشكا إليه حاله، وسأله المساعدة بحسب ما يقدر عليه ففكر مهذب الدين وقال أنا أدبر لك أمرًا وأرجو أن يكون فيه نفع لك إن شاء اللّه تعالى وفارقه.
وكانت سرية الملك العادل أم الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل متغيرة المزاج في تلك الأيام، وكانت تركية الجنس وعندها عقل ودين وصلاح ولها معروف كثير وصدقات، فلما حضر الحكيم مهذب الدين عندها وزمام الدور أوجدها مهذب الدين حال القاضي وضره وأنه مظلوم وقد ألزمه السلطان بشيء لا يقدر عليه، وطلب منها شفاعة لعل السلطان ينظر إليه بعين الرحمة ويسامحه بالبعض أو يقسط عليه، وساعده الإمام في ذلك فقالت واللّه كيف لي بالخير للقاضي وأن أقول للسلطان عنه، ولكن ما يمكن هذا فإن السلطان يقول لي أيش الموجب أنك تتكلمي في القاضي، ومن أين تعرفيه ولو كان هو في المثل حكيم يتردد إلينا، أو تاجر يشتري لنا القماش كان فيه توجه للكلام والشفاعة، وهذا فما يمكن أتكلم فيه، فقال لها الحكيم يا ستي أنت لك ولد ومالك غيره وتطلبي له السعادة والبقاء، وتلقي من اللّه كل خير بشيء تقدري تفعليه، وما تقولي للسلطان شفاعة أصلاً، فقالت أيش هو؟ فقال وقت يكون السلطان وأنتم نيام توجديه أنك أبصرت منامًا في أن القاضي مظلوم، وعرفها ما تقول، هذا يمكن.
ولما تكاملت عافيتها، وكان الملك العادل نائمًا عندها وهي إلى جانبه انتبهت في أواخر الليل، وأظهرت أنها مرعوبة وأمسكت فؤادها وبقيت ترتعد وتتباكى، فانتبه السلطان وقال مالك؟ وكان يحبها كثيرًا فلم تجبه مما بها، فأمر بإحضار شراب تفاح وسقاها ورش على وجهها ماء ورد، وقال أما تخبريني أيش جرى عليك وأيش عرض لك؟ فقالت يا خوند منام عظيم هالني، وكدت أموت منه، وهو إنني رأيت كأن القيامة قد قامت، وخلق عظيم، وكان في موضع به نيران كثيرة تشعل وناس يقولون هذا للملك العادل لكونه ظلم القاضي، ثم قالت هل فعلت قط بالقاضي شيئاً؟ فما شك في قولها وانزعج، ثم قام لوقته وطلب الخدام وقال امضوا إلى القاضي وطيبوا قلبه وسلموا عليه عني، وقولوا له يجعلني في حل مما تم عليه وإن جميع ماوزنه يعاد إليه، وما أطالبه بشيء فراحوا إليه وفرح القاضي غاية الفرح بقولهم، ودعا للسلطان وجعله في حل، ولما أصبح أمر له بخلعة كاملة وبغلة وأعاده إلى القضاء، وأمر بالمال الذي وزنه أن يحمل إليه من الخزانة، وأن جميع ما باعه من الكتب وغيرها تسترجع من المشترين لها ويعطوا الثمن الذي وزنوه، وحصل للقاضي الفرج بأهون سعي وألطف تدبير.
قال ولما كان الملك العادل بالشرق، وذلك في سنة عشر وستمائة مرض مرضًا صعبًا وتولى علاجه الحكيم مهذب الدين إلى أن برئ مما كان به فحصل له منه في تلك المرضة نحو سبعة آلاف دينار مصرية، وبعث إليه أيضًا أولاده الملك العادل وسائر ملوك الشرق وغيرهم الذهب والخلع والبغلات بأطواق الذهب وغير ذلك، وكذلك توجه الملك العادل إلى الديار المصرية في سنة اثنتي عشرة وستمائة وأقام بالقاهرة، أتى في ذلك الوقت وباء عظيم إلى أن هلك أكثر الخلق، وكان قد مرض الملك الكامل ابن الملك العادل، ومرض كثير من خواصه، وهو صاحب الديار المصرية فعالجه بألطف علاج إلى أن برئ، وحصل له أيضًا من الذهب والخلع والعطايا السنية شيء كثير، وكان مبلغ ما وصل إليه من الذهب نحو اثني عشر ألف دينار وأربع عشرة بغلة بأطواق ذهب، والخلع الكثيرة من الثياب الأطلس وغيرها، أقول وولاه السلطان الكبير في ذلك الوقت رياسة أطباء ديار مصر بأسرها وأطباء الشام، وكنت في ذلك الوقت مع أبي وهو في خدمة الملك العادل ففوض إليه النظر في أمر الكحالين واعتبارهم، وإن من يصلح منهم لمعالجة أمراض العين ويرتضيه يكتب له خطًا بما يعرفه منه ففعل ذلك، ولما كان في سنة أربعة عشرة وستمائة وسمع الملك العادل بتحرك الفرنج في الساحل أتى إلى الشام، وأقام بمرج الصفر ثم حصل له وهو في أثناء ذلك مرض وهو بمنزله بخانقين، وتوفي رحمه اللّه بها في الساعة الثانية من يوم الجمعة سابع جمادى الآخر سنة خمس عشرة وستمائة، ولما استقر ملك الملك المعظم بالشام استخدم جماعة عدة ممن كانوا في خدمة أبيه الملك العادل، وانتظم في خدمته منهم من الحكماء الحكيم رشيد الدين بن الصوري وأبي، وأما الحكيم مهذب الدين فإنه أطلق له جامكية وجراية، ورسم أنه يقيم بدمشق، وأن يتردد إلى البيمارستان الكبير الذي أنشأه الملك العادل نور الدين بن زنكي ويعالج المرضى به، ولما أقام الشيخ مهذب الدين بدمشق شرع في تدريس صناعة الطب، واجتمع إليه خلق كثير من أعيان الأطباء وغيرهم يقرأون عليه، وأقمت أنا بدمشق لأجل القراءة عليه، وأما أولا فكنت أشتغل عليه في المعسكر لما كان أبي والحكيم مهذب الدين في خدمة السلطان الكبير فبقيت أتردد إليه مع الجماعة، وشرعت في قراءة كتب جالينوس، وكان خبيرًا بكل ما يقرأ عليه من كتب جالينوس وغيرها، وكانت كتب جالينوس تعجبه جدًّا، وإذا سمع شيئًا من كلام جالينوس في ذكر الأمراض ومداواتها والأصول الطبية يقول هذا هو الطب، وكان طلق اللسان حسن التأدية للمعاني جيد البحث لازمته أيضًا في وقت معالجته للمرضى بالبيمارستان فتدربت معه في ذلك وباشرت أعمال صناعة الطب، وكان في ذلك الوقت أيضًا معه في البيمارستان لمعالجة المرضى الحكيم عمران وهو من أعيان الأطباء وأكابرهم في المداواة والتصرف في أنواع العلاج فتضاعفت الفوائد المقتبسة من اجتماعهما، ومما كان يجري بينهما من الكلام في الأمراض ومداواتها ومما كانا يصفاه للمرضى.
وكان الحكيم مهذب الدين يظهر من ملح صناعة الطب ومن غرائب المداواة والتقصي في المعالجة والإقدام بصفات الأدوية التي تبرئ في أسرع وقت ما يفوق به أهل زمانه ويحصل من تأثيرها شيء كأنه سحر، ومن ذلك أنني رأيته يومًا وقد أتى محموم بحمى محرقة وقواريره في غاية الحدة فاعتبر قوته، ثم أمر بأن يترك له في قدح بزور من الكافور مقدارًا صالحًا عينه لهم في الدستور، وأن يشربه ولا يتناول شيئًا غيره، فلما أتينا من الغد وجدنا ذلك المريض والحمى قد انحطت عنه، وقارورته ليس فيها شيء من الحدة، ومثل هذا أيضًا أنه وصف في قاعة الممرورين لمن به المرض المسمى مانيا، وهو الجنون السبعي، أن يضاف إلى ماء الشعير في وقت إسقائه إياه مقدار متوفر من الأفيون، فصلح ذلك الرجل وزال ما به من تلك الحال، ورأيته يومًا في قاعة المحمومين وقد وقفنا عند مريض، وجست الأطباء نبضه فقالوا عنده ضعف ليعطى مرقة الفروج للتقوية فنظر إليه، وقال إن كلامه ونظر عينيه يقتضي الضعف، ثم جس نبض يده اليمنى وجس الأخرى وقال جسوا نبض يده اليسر، فوجدناه قوياً، فقال انظروا نبض يده اليمنى وكيف هو من قريب كوعه قد انفرق العرق الضارب شعبتين، فواحدة بقيت التي تجس والأخرى طلعت في أعلى الزند وامتدت إلى ناحية الأصابع، فوجدناه حقاً، ثم قال إن من الناس، وهو نادر، ومن يكون النبض فيه هكذا، ويشتبه على كثير من الأطباء ويعتقدون أن النبض ضعيف، وإنما يكون جسم لتلك الشعبة التي هي نصف العرق فيعتقدون أن النبض ضعيف، وكان في ذلك الوقت أيضًا في البيمارستان الشيخ رضي الدين الرحبي، وهو من أكبر الأطباء سنًا وأعظمهم قدرًا وأشهرهم ذكراً، فكان يجلس على دكة ويكتب لمن يأتي إلى البيمارستان، ويستوصف منه للمرضى أوراقًا يعتمدون عليها ويأخذون بها من البيمارستان الأشربة والأدوية التي يصفها، فكنت بعد ما يفرغ الحكيم مهذب الدين والحكيم عمران من معالجة المرضى المقيمين بالبيمارستان، وأنا معهم، أجلس مع الشيخ رضي الدين الرحبي فأعاين كيفية استدلاله على الأمراض، وجملة ما يصفه للمرضى وما يكتب لهم، وأبحث معه في كثير من الأمراض ومداواتها، ولم يجتمع في البيمارستان منذ بني وإلى ما بعده من الزمان من مشايخ الأطباء كما اجتمع فيه في ذلك الوقت من هؤلاء المشايخ الثلاثة وبقوا كذلك مدة.
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ** فكأنها وكأنهم أحلام

وكان الشيخ مهذب الدين رحمه اللَّه إذا تفرغ من البيمارستان، وافتقد المرضى في أعيان الدولة وأكابرها وغيرهم، يأتي إلى داره ثم يشرع في القراءة والدرس والمطالعة، ولا بد له مع ذلك من نسخ، فإذا فرغ منه أذن للجماعة فيدخلون إليه ويأتي قوم بعد قوم من الأطباء والمشتغلين، وكان يقرأ كل واحد منهم درسه، ويبحث معه فيه، ويفهمه إياه بقدر طاقته، ويبحث في ذلك مع المتميزين منهم إن كان الموضع يحتاج إلى فضل بحث، أو فيه إشكال يحتاج إلى تحرير، وكان لا يقرئ أحدًا إلا وبيده نسخة من ذلك الكتاب يقرأه ذلك التلميذ، وينظر فيه ويقابل به، فإن كان في نسخة الذي يقرأ غلط أمره بإصلاحه، وكانت نسخ الشيخ مهذب الدين التي تقرأ عليه في غاية الصحة، وكان أكثرها بخطه، وكان أبدًا لا يفارقه إلى جانبه مع ما يحتاج إليه من الكتب الطبية ومن كتب اللغة كتاب الصحاح للجوهري، والمجمل لابن فارس وكتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري، فكان إذا فرغت الجماعة من القراءة يعود هو إلى نفسه فيأكل شيئًا ثم يشرع بقية نهاره في الحفظ والدرس والمطالعة يسهر أكثر ليله في الاشتغال.
وكان أيضًا في ذلك الزمان يجتمع بالشيخ سيف الدين علي بن أبي علي الآمدي، وكان يعرفه قديمًا فلازمه في الاشتغال عليه بالعلوم الحكمية، وحفظ شيئًا من كتبه، وحصل معظم مصنفاته ليشتغل بها مثل كتاب دقائق الحقائق، وكتاب رموز الكنوز، وكتاب كشف التمويهات في شرح التنبيهات وكتاب أبكار الأفكار، وغير ذلك من مصنفات سيف الدين، ثم بعد ذلك أيضًا نظر في علم الهيئة والنجوم، واشتغل بها على أبي الفضل الإسرائيلي المنجم، واقتنى من آلات النحاس التي يحتاج إليها في هذا الفن، ما لم يكن عند غيره ومن الكتب شيئًا كثيرا جدًّا، وسمعته يحكي أن عنده ست عشرة رسالة غريبة من الأصطرلاب لجماعة من المصنفين، وفي أثناء ذلك طلبه الملك الأشرف أبو الفتح موسى ابن الملك العادل وهو بالشرق توجه إليه، وذلك في شهر ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وقال لي إنه خرج منه في هذه السفرة لما عزم على الحركة من شراء بغلات وخيم وآلات لا بد منها للسفر عشرون ألف درهم، ولما وصل ذلك إلى الملك الأشرف أكرمه وأحسن إليه، وأطلق له إقطاعًا في الشرق يغل له في كل سنة ألف وخمسمائة دينار فبقي معه مدة، ثم عرض له ثقل في لسانه واسترخاء فبقي لا يسترسل في الكلام ووصل إلى دمشق لما ملكها الملك الأشرف في سنة ست وعشرين وستمائة، وهو معه فولاه رياسة الطب، وبقي كذلك مديدة، وجعل له مجلسًا لتدريس صناعة الطب، ثم زاد وهو معه فولاه رياسة الطب، ثم زاد به ثقل لسانه حتى بقي إذا حاول الكلام لا يفهم ذلك منه إلا بعسر، وكانت الجماعة تبحث قدامه فإذا استعصى معنى يجيب عنه بأيسر لفظ يدل على كثير من المعنى، وفي أوقات يعسر عليه الكلام فيكتبه في لوح وتنظر الجماعة، ثم اجتهد في مداواة نفسه، واستفرغ بدنه بعدة أدوية مسهلة، وكان يتناول كثيرًا من الأدوية والمعاجين الحارة ويغتذي بمثلها فعرضت له حمى وتزايدت به حتى ضعفت قوته وتوالت عليه أمراض كثيرة، ولا جاء الأجل بطل العمل.
وإذا المنية أنشبت أظفارها ** ألفيت كل تميمة لا تنفع

وكانت وفاته رحمه اللّه في الليلة التي صبيحتها يوم الاثنين خامس عشر صفرسنة ثمان وعشرين وستمائة ودفن بجبل قاسيون ولم يخلف ولداً.
ولما كان في سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وذلك قبل سفر الشيخ مهذب الدين عبد الرحيم بن علي عند الملك الأشرف وخدمته له، وقف داره وهي بدمشق عند الصاغة العتيقة شرقي سوق المناخليين، وجعلها مدرسة يدرس فيها من بعده صناعة الطب، ووقف لها ضياعًا وعدة أماكن يستغل ما ينصرف في مصالحها، وفي جامكية المدرس وجامكية المشتغلين بها، ووصى أن يكون المدرس فيها الحكيم شرف الدين علي بن الرحبي وابتدأ بالصلاة في هذه المدرسة يوم الجمعة صلاة العصر ثامن ربيع الأول سنة ثمان وعشرين وستمائة.
ولما كان يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الآخر سنة ثمان وستمائة حضر الحكيم سعد الدين إبراهيم بن الحكيم موفق الدين عبد العزيز، والقاضي شمس الدين الخوئي والقاضي جمال الدين الخرستاني، والقاضي عزيز الدين السنجاري وجماعة من الفقهاء والحكماء، وشرع الحكيم شرف الدين بن الرحبي في التدريس بها في صناعة الطب واستمر على ذلك، وبقي سنين عدة، ثم صار المدرس فيما بعد الحكيم بدر الدين المظفر بن قاضي بعلبك، وذلك أنه لما ملك دمشق الملك الجواد مظفر الدين يونس بن شمس الدين ممدود ابن الملك العادل، كتب للحكيم بدر الدين ابن قاضي بعلبك منشورًا برياسته على سائر الحكماء في صناعة الطب، وأن يكون مدرسًا للطب في مدرسة الحكيم مهذب الدين عبد الرحيم بن علي، وتولى ذلك في يوم الأربعاء رابع صفر سنة سبع وثلاثين وستمائة.
وأنشدني مهذب الدين أبو نصر محمد بن محمد بن إبراهيم بن الخضر الحلبي، قال أنشدني الشيخ الأديب شهاب الدين فتيان بن علي الشاغوري لنفسه يمدح الحكيم مهذب الدين عبد الرحيم بن علي
أنعم ولذ بأقدار تؤاتيكا حتى ** تنال بها أقصى أمانيكا

مهذب الدين يا عبد الرحيم لقد ** شأوت يا ابن علي من يباريكا

فازت قداحك في حفظ الدروس ** بأيام سلفن وما خابت لياليكا

ما زلت تسعى لكسب الحمد مجتهدًا ** حتى بلغت الأواني من مساعيكا

أنت امرؤ أودعت ألفاظه حكمًا ** أملت دقيق المعاني من معانيكا

حتى ربيت بحجر العلم متخذًا لك ** التواضع لبسًا في تعاليكا

فللمعاني ابتسام في خلائقك الح ** سان مثل ابتسام المجد في فيكا

يا من له قلم كم مد من لقم ** في الفضل سبحان باريه وباريكا

لك الثناء جميلًا حيث كنت ** فما خلق عن المجد والعلياء يثنيكا

متى تمادى المجيد المدح ** في مدح يبدّ أقصى المدى أدنى الذي فيكا

يا جامعًا حسبًا عدا إلى أدب ** جم عدمت امرءًا في الجود يحكيكا

عندي إليك صبابات يؤكدها ** حسن الوفاء بمعروف يوافيكا

ولي إليك اشتياق لا يفارقني ** يا ليت لي سببًا للوصل مسلوكا

ولو تهيأ لي المسعى إليك لما ** فارقت بابك بوابًا أناجيكا

لكنني في يدي شيخوخة وضنا ** قد غادر الجسم منهوبًا ومنهوكا

كم همة لك قد أوفت على الفلك ** الأعلى بأخمصها كيوان معروكا

وددت أن عليًّا والرشيد معًا ** عاشا وقد رأيا ما اللّه يوليكا

كلاهما كان في سر وفي علن ** لك المحب فما ينفك يطريكا

عش وابق وارفل طول الدهر ** في خلع الملوك واخلع قلوبًا من أعاديكا

ولا تزل أبدًا في باب دارك لل ** رسل أزحام إلى السلطان تدعوكا

ونلت بالعادل الميمون طائره ** قصوى بالمنى منجعا فيه تداويكا

فهو الذي ثل عرش الشرك إذ ** دمهم أمسى وأضحى بسيف الدين مسفوكا

معود النصر والفتح القريب ** فسل به الملوك فكل عنه ينبيكا

ستهزم الملك الأنكور وثبته ** وفي كلاء سنان الرمح مشكوكا

دع حمل هم دمشق اللّه كالئها ** مما تخوفه واللَّه كاليكا

هل الرئيس بن سينا وهو يطر ** ب بالقانون وافاك بالبشرى يغنيكا

وهل مقالات جالينوس صادرة ** عما تقول فتأويها فتاويكا

فنعم حدث ملوك أنت أفلح ** من منهم بناديه في الجلى يناديكا

كم قلت لابن خروف دع ** تنمى سعادته يا أنوك النوكا

هجاءك من حتى هوى بحضيض ** قد تبوأه إلى القيامة ما ينفك مدكوكا

وعشت أنت غنيًّا بالهبات ومن عاداك ** مات شديد الفقر صعلوكا

دمشق جنة عدن للمقيم بها فلا ** نأت عن مغانيها مغانيكا

شوت كلى ابن خروف نار سعدك ** إذ دعا به نحسه يومًا ليهجوكا

فكم أسير سقام من جوامعه ** جعلته بعد ضيق الأسر مفكوكا

نزهت عن هفوات يستفز بها ** سواك من للخنا يبغي المماليكا

ولم تضع صلوات ما برحت ** لها حلمًا بخير تحيات تحييكا

ولم تكن راغبًا في شرب صافية ** صحت فأصبح منها العقل موعوكا

أقول وكان هذا ابن خروف الذي ذكره شهاب الدين فتيان مغربيا شاعراً، وكان كثير الهجاء للحكيم مهذب الدين، وكان آخرة ابن خروف أنه توجه إلى حلب، ومدح صاحبها الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين، وأنشده المديح، ولما فرغ تأخر القهقرى إلى خلف، وكان ثم بئر فوقع فيها ومات.
ومن شعر مهذب الدين عبد الرحيم بن علي، قال وكتب به إلى عمي الحكيم رشيد الدين علي بن خليفة في مرضة مرضها:
يا من أؤمله لكل ملمة وأخاف ** إن حدثت له أعراض

حوشيت من مرض تعاد لأجلها ** وبقيت ما بقيت لنا أعراض

إنا نعدك جوهرًا في عصرنا ** وسواك أن عدوا فهم أعراض

ولمهذب الدين عبد الرحيم بن علي من الكتب اختصار كتاب الحاوي في الطب للرازي، اختصار كتاب الأغاني الكبير لأبي الفرج الأصفهاني، مقالة في الاستفراغ ألفها بدمشق في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وستمائة، كتاب الجنينة في الطب، تعاليق ومسائل في الطب وشكوك طبية ورد أجوبتها له، كتاب الرد على شرح ابن صادق لمسائل حنين، مقالة يرد فيها على رسالة أبي الحجاج يوسف الإسرائيلي في ترتيب الأغذية اللطيفة والكثيفة في تناولها.