فصل: باب آنِيَةِ الْفِضَّةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ فِي الشُّرْبِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الأيمن فالأيمن في الشرب‏)‏ ذكر فيه حديث أنس الماضي قريبا في ‏"‏ باب شرب اللبن ‏"‏ وتقدمت مباحثه هناك‏.‏

وإسماعيل هو ابن أبي أويس‏.‏

وكذا في حديث الباب الذي بعده‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ الأيمن فالأيمن ‏"‏ أي يقدم من على يمين الشارب في الشرب ثم الذي عن يمين الثاني وهلم جرا، وهذا مستحب عند الجمهور‏.‏

وقال ابن حزم‏:‏ يجب‏.‏

وقوله في الترجمة‏:‏ ‏"‏ في الشرب ‏"‏ يعم الماء وغيره من المشروبات، ونقل عن مالك وحده أنه خصه بالماء‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ لا يصح عن مالك‏.‏

وقال عياض‏:‏ يشبه أن يكون مراده أن السنة ثبتت نصا في الماء خاصة، وتقديم الأيمن في غير شرب الماء يكون بالقياس‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ كأن اختصاص الماء بذلك لكونه قد قيل إنه لا يملك، بخلاف سائر المشروبات‏.‏

ومن ثم اختلف هل يجري الربا فيه، وهل يقطع في سرقته‏؟‏ وظاهر قوله‏:‏ ‏"‏ في الشرب ‏"‏ أن ذلك لا يجري في الأكل، لكن وقع في حديث أنس خلافه كما سيأتي‏.‏

*3*باب هَلْ يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ فِي الشُّرْبِ لِيُعْطِيَ الْأَكْبَرَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب هل يستأذن الرجل من عن يمينه في الشرب ليعطي الأكبر‏)‏ ‏؟‏ كأنه لم يجزم بالحكم لكونها واقعة عين فيتطرق إليها احتمال الاختصاص، فلا يطرد الحكم فيها لكل جليسين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الْأَشْيَاخُ فَقَالَ لِلْغُلَامِ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ الْغُلَامُ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَداً قَالَ فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ

الشرح‏:‏

حديث سهل بن سعد في ذلك وقد تقدم في أوائل الشرب، وفيه تسمية الغلام وبعض الأشياخ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ أتأذن لي ‏"‏ لم يقع في حديث أنس أنه استأذن الأعرابي الذي عن يمينه، فأجاب النووي وغيره بأن السبب فيه أن الغلام كان ابن عمه فكان له عليه إدلال وكان من على اليسار أقارب الغلام أيضا، وطيب نفسه مع ذلك بالاستئذان لبيان الحكم وأن السنة تقديم الأيمن ولو كان مفضولا بالنسبة إلى من على اليسار، وقد وقع في حديث ابن عباس في هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم تلطف به حيث قال له ‏"‏ الشربة لك، وإن شئت آثرت بها خالدا ‏"‏ كذا في السنن، وفي لفظ لأحمد ‏"‏ وإن شئت آثرت به عمك ‏"‏ وإنما أطلق عليه عمه لكونه أسن منه، ولعل سنه كان قريبا من سن العباس، وإن كان من جهة أخرى من أقرانه لكونه ابن خالته، وكان خالد مع رياسته في الجاهلية وشرفه في قومه قد تأخر إسلامه فلذلك استأذن له، بخلاف أبي بكر فإن رسوخ قدمه في الإسلام وسبقه يقتضي طمأنينته بجميع ما يقع من النبي صلى الله عليه وسلم ولا يتأثر لشيء من ذلك، ولهذا لم يستأذن الأعرابي له، ولعله خشي من استئذانه أن يتوهم إرادة صرفه إلى بقية الحاضرين بعد أبي بكر دونه، فربما سبق إلى قلبه من أجل قرب عهده بالإسلام شيء فجرى صلى الله عليه وسلم على عادته في تأليف من هذا سبيله، وليس ببعيد أنه كان من كبراء قومه ولهذا جلس عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وأقره على ذلك‏.‏

وفي الحديث أن سنة الشرب العامة تقديم الأيمن في كل موطن، وأن تقديم الذي على اليمين ليس لمعنى فيه بل لمعنى في جهة اليمين وهو فضلها على جهة اليسار، فيؤخذ منه أن ذلك ليس ترجيحا لمن هو على اليمين بل هو ترجيح لجهته، وقد تقدم كلام الخطابي في ذلك قبل ثلاثة أبواب‏.‏

وقد يعارض حديث سهل هذا وحديث أنس الذي في الباب قبله وحديث سهل بن أبي خيثمة الآتي في القسامة ‏"‏ كبر كبر ‏"‏ وتقدم في الطهارة حديث ابن عمر في الأمر بمناولة السواك الأكبر، وأخص من ذلك حديث ابن عباس الذي أخرجه أبو يعلى بسند قوي قال‏:‏ ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سقى قال ابدءوا بالكبير ‏"‏ ويجمع بأنه محمول على الحالة التي يجلسون فيها متساوين إما بين يدي الكبير أو عن يساره كلهم أو خلفه أو حيث لا يكون فيهم، فتخص هذه الصورة من عموم تقديم الأيمن، أو يخص من عموم هذا الأمر بالبداءة بالكبير ما إذا جلس بعض عن يمين الرئيس وبعض عن يساره، ففي هذه الصورة يقدم الصغير على الكبير والمفضول على الفاضل‏.‏

ويظهر من هذا أن الأيمن ما امتاز بمجرد الجلوس في الجهة اليمنى بل بخصوص كونها يمين الرئيس فالفضل إنما فاض عليه من الأفضل‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ تفضيل اليمين شرعي وتفضيل اليسار طبعي وإن كان ورد به الشرع لكن الأول أدخل في التعبد، ويؤخذ من الحديث أنه إذا تعارضت فضيلة الفاعل وفضيلة الوظيفة اعتبرت فضيلة الوظيفة كما لو قدمت جنازتان لرجل وامرأة وولي المرأة أفضل من ولي الرجل قدم ولي الرجل ولو كان مفضولا لأن الجنازة هي الوظيفة فتعتبر أفضليتها لا أفضلية المصلي عليها، قال‏:‏ ولعل السر فيه أن الرجولية والميمنة أمر يقطع به كل أحد، بخلاف أفضلية الفاعل فإن الأصل فيه الظن ولو كان مقطوعا به في نفس الأمر لكنه مما يخفى مثله عن بعض‏.‏

كأبي بكر بالنسبة إلى علم الأعرابي والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أتأذن لي أن أعطي هؤلاء‏)‏ ظاهر في أنه لو أذن له لأعطاهم‏.‏

ويؤخذ منه جواز الإيثار بمثل ذلك، وهو مشكل على ما اشتهر من أنه لا إيثار بالقرب، وعبارة إمام الحرمين في هذا‏:‏ لا يجوز التبرع في العبادات ويجوز في غيرها‏.‏

وقد يقال إن القرب أعم من العبادة، وقد أورد على هذه القاعدة تجويز جذب واحد من الصف الأول ليصلي معه ليخرج الجاذب عن أن يكون مصليا خلف الصف وحده لثبوت الزجر عن ذلك، ففي مساعدة المجذوب للجاذب إيثار بقربة كانت له وهي تحصيل فضيلة الصف الأول ليحصل فضيلة تحصل للجاذب وهي الخروج من الخلاف في بطلان صلاته‏.‏

ويمكن الجواب بأنه لا إيثار، إذ حقيقة الإيثار إعطاء ما استحقه لغيره، وهذا لم يعط الجاذب شيئا وإنما رجح مصلحته على مصلحته، لأن مساعدة الجاذب على تحصيل مقصود، ليس فيه إعطاؤه ما كان يحصل للمجذوب لو لم يوافقه، والله أعلم‏.‏

وقوله في هذه الرواية ‏"‏ فتله ‏"‏ بفتح المثناة وتشديد اللام أي وضعه‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ وضعه بعنف‏.‏

وأصله من الرمي على التل وهو المكان العالي المرتفع ثم استعمل في كل شيء يرمى به وفي كل إلقاء، وقيل‏:‏ هو من التلتل بلام ساكنة بين المثناتين المفتوحتين وآخره لام وهو العنق، ومنه وتله للجبين أي صرعه فألقى عنقه وجعل جنبه إلى الأرض، والتفسير الأول أليق بمعنى حديث الباب، وقد أنكر بعضهم تقييد الخطابي الوضع بالعنق‏.‏

*3*باب الْكَرْعِ فِي الْحَوْضِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الكرع في الحوض‏)‏ ذكر فيه حديث جابر، وقد تقدم شرحه قبل خمسة أبواب مستوفى، وإنما قيد في الترجمة بالحوض لما بينته هناك أن جابرا أعاد قوله‏:‏ ‏"‏ وهو يحول الماء ‏"‏ في أثناء مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم الرجل مرتين، وأن الظاهر أنه كان ينقله من أسفل البئر إلى أعلاه، فكأنه كان هناك حوض يجمعه فيه ثم يحوله من جانب إلى جانب‏.‏

*3*باب خِدْمَةِ الصِّغَارِ الْكِبَارَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب خدمة الصغار الكبار‏)‏ ذكر فيه حديث أنس ‏"‏ كنت قائما على الحي أسقيهم وأنا أصغرهم ‏"‏ وهو ظاهر فيما ترجم به، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أوائل الأشربة‏.‏

*3*باب تَغْطِيَةِ الْإِنَاءِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب تغطية الإناء‏)‏ ذكر فيه حديث جابر في الأمر بغلق الأبواب وغير ذلك من الآداب، وفيه ‏"‏ وخمروا آنيتكم ‏"‏ وفي الرواية الثانية ‏"‏ وخمروا الطعام والشراب ‏"‏ ومعنى التخمير التغطية، وقد تقدم شيء من شرح الحديث في بدء الخلق، ويأتي شرحه مستوفى في كتاب الاستئذان، وتقدم في باب شرب اللبن شرح قوله‏:‏ ‏"‏ ولو أن تعرض عليه عودا‏"‏‏.‏

*3*باب اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب اختناث الأسقية‏)‏ افتعال من الخنث بالخاء المعجمة والنون والمثلثة، وهو الانطواء والتكسر والانثناء‏.‏

والأسقية جمع السقاء والمراد به المتخذ من الأدم صغيرا كان أو كبيرا‏.‏

وقيل‏:‏ القربة قد تكون كبيرة وقد تكون صغيرة، والسقاء لا يكون إلا صغيرا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ يَعْنِي أَنْ تُكْسَرَ أَفْوَاهُهَا فَيُشْرَبَ مِنْهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبيد الله‏)‏ بالتصغير ‏(‏ابن عبد الله‏)‏ بالتكبير ‏(‏ابن عتبة‏)‏ بضم المهملة وسكون المثناة بعدها موحدة أي ابن مسعود، وصرح في الرواية التي تليها بتحديث عبيد الله للزهري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي سعيد‏)‏ صرح بالسماع في التي تليها أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ في التي بعدها ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يعني أن تكسر أفواهها فيشرب منها‏)‏ المراد بكسرها ثنيها لا كسرها حقيقة ولا إبانتها، والقائل ‏"‏ يعني ‏"‏ لم يصرح به في هذه الطريق، ووقع عند أحمد عن أبي النضر عن ابن أبي ذئب بحذف لفظ ‏"‏ يعني ‏"‏ فسار التفسير مدرجا في الخبر، ووقع في الرواية الثانية ‏"‏ قال عبد الله ‏"‏ هو ابن المبارك ‏"‏ قالا معمر ‏"‏ هو ابن راشد ‏"‏ أو غيره هو الشرب من أفواهها ‏"‏ وعبد الله بن المبارك روى المرفوع عن يونس عن الزهري، وروى التفسير عن معمر مع التردد، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق ابن وهب يونس وابن أبي ذئب معا مدرجا ولفظه ‏"‏ ينهى عن اختناث الأسقية أو الشرب أن يشرب من أفواهها ‏"‏ كذا فيه بحرف التردد، وهو عند مسلم من طريق ابن وهب عن يونس وحده بلفظ ‏"‏ عن اختناث الأسقية أن يشرب من أفواهها ‏"‏ وهذا أشبه، وهو أنه تفسير الاختناث لا أنه شك من الراوي في أي اللفظين وقع في الحديث، لكن ظاهره أن التفسير في نفس الخبر، وأخرجه مسلم أيضا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ولم يسق لفظه لكن قال‏:‏ ‏"‏ مثله ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏ غير أنه قال‏:‏ واختناثها أن يقلب رأسها ثم يشرب ‏"‏ وهو مدرج أيضا، وقد جزم الخطابي أن تفسير الاختناث من كلام الزهري، ويحمل التفسير المطلق وهو الشرب من أفواهها على المقيد بكسر فمها أو قلب رأسها، ووقع في مسند أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب في أول هذا الحديث ‏"‏ شرب رجل من سقاء فانساب في بطنه جنان، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فذكره، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي بكر وعثمان بن أبي شيبة فرقهما عن يزيد به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أفواهها‏)‏ جمع فم، وهو على سبيل الرد إلى الأصل في الفم أنه فوه نقصت منه الهاء لاستثقال هاءين عند الضمير لو قال فوهه، فلما لم يحتمل حذف الواو بعد حذف الهاء الإعراب لسكونها عوضت ميما فقيل فم، وهذا إذا أفرد، ويجوز أن يقتصر على الفاء إذا أضيفت لكن تزاد حركة مشبعة يختلف إعرابها بالحروف، فإن أضيف إلى مضمر كفت الحركات ولا يضاف مع الميم إلا في ضرورة شعر كقول الشاعر ‏"‏ يصبح عطشان وفي البحر فمه ‏"‏ فإذا أرادوا الجمع أو التصغير ردوه إلى الأصل فقالوا فويه وأفواه، ولم يقولوا فميم ولا أفمام‏.‏

*3*باب الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الشرب من فم السقاء‏)‏ الفم بتخفيف الميم ويجوز تشديدها، ووقع في رواية ‏"‏ من في السقاء ‏"‏ وقد تقدم توجيهها‏.‏

قال ابن المنير‏:‏ لم يقنع بالترجمة التي قبلها لئلا يظن أن النهي خاص بصورة الاختناث، فبين أن النهي يعم ما يمكن اختناثه وما لا يمكن كالفخار مثلا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ قَالَ لَنَا عِكْرِمَةُ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَشْيَاءَ قِصَارٍ حَدَّثَنَا بِهَا أَبُو هُرَيْرَةَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ أَوْ السِّقَاءِ وَأَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي دَارِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا أيوب قال‏:‏ قال لنا عكرمة‏)‏ في رواية الحميدي عن سفيان ‏"‏ حدثنا أيوب السختياني أخبرنا عكرمة ‏"‏ وأخرجه أبو نعيم من طريقه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ألا أخبركم بأشياء قصار حدثنا بها أبو هريرة‏)‏ في الكلام حذف تقديره مثلا‏:‏ فقلنا نعم، أو فقلنا حدثنا أو نحو ذلك فقال‏:‏ حدثنا أبو هريرة‏.‏

ووقع في رواية ابن أبي عمر عن سفيان بهذا الإسناد ‏"‏ سمعت أبا هريرة ‏"‏ أخرجه الإسماعيلي من طريقه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من فم القربة أو السقاء‏)‏ هو شك من الراوي، وكأنه من سفيان، قد وقع في رواية عبد الجبار بن العلاء عن سفيان عند الإسماعيلي ‏"‏ من في السقاء ‏"‏ وفي رواية ابن أبي عمر عنده من فم القربة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأن يمنع جاره الخ‏)‏ تقدم شرحه في أوائل كتاب المظالم‏.‏

قال الكرماني، ‏"‏ قال ألا أخبركم بأشياء ‏"‏ ولم يذكر إلا شيئين فلعله أخبر بأكثر فاختصره بعض الرواة أو أقل الجمع عنده اثنان‏.‏

قلت‏:‏ واختصاره يجوز أن يكون عمدا ويجوز أن يكون نسيانا، وقد أخرج أحمد الحديث المذكور من رواية حماد بن زيد عن أيوب فذكر بهذا الإسناد الشيئين المذكورين وزاد النهي عن الشرب قائما، وفي مسند الحميدي أيضا ما يدل على أنه ذكر ثلاثة أشياء، فإنه ذكر النهي عن الشرب من في السقاء أو القربة وقال هذا آخرها، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ

الشرح‏:‏

‏(‏حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل‏)‏ هو المعروف بابن علية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن يشرب من في السقاء‏)‏ زاد أحمد عن إسماعيل بهذا الإسناد والمتن ‏"‏ قال أيوب فأنبئت أن رجلا شرب من في السقاء فخرجت حية ‏"‏ وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية عباد بن موسى عن إسماعيل ووهم الحاكم فأخرج الحديث في ‏"‏ المستدرك ‏"‏ بزيادته والزيادة المذكورة ليست على شرط الصحيح لأن راويها لم يسم وليست موصولة، ولكن أخرجها ابن ماجه من رواية سلمة بن وهرام عن عكرمة بنحو المرفوع، وفي آخره ‏"‏ وإن رجلا قام من الليل بعد النهي إلى سقاء فاختنثه فخرجت عليه منه حية ‏"‏ وهذا صريح في أن ذلك وقع بعد النهي، بخلاف ما تقدم من رواية ابن أبي ذئب في أن ذلك كان سبب النهي، ويمكن الجمع بأن يكون ذلك وقع قبل النهي فكان من أسباب النهي، ثم وقع بعد النهي تأكيدا‏.‏

وقال النووي‏:‏ اتفقوا على أن النهي هنا للتنزيه لا للتحريم، كذا قال، وفي نقل الاتفاق نظر لما سأذكره، فقد نقل ابن التين وغيره عن مالك أنه أجاز الشرب من أفواه القرب وقال‏:‏ لم يبلغني فيه نهي، وبالغ ابن بطال في رد هذا القول، واعتذر عنه ابن المنير باحتمال أنه كان لا يحمل النهي فيه على التحريم، كذا قال مع النقل عن مالك أنه لم يبلغه فيه نهي، فالاعتذار عنه بهذا القول أولى، والحجة قائمة على من بلغه النهي، قال النووي‏:‏ ويؤيد كون هذا النهي للتنزيه أحاديث الرخصة في ذلك‏.‏

قلت‏:‏ لم أر في شيء من الأحاديث المرفوعة ما يدل على الجواز إلا من فعله صلى الله عليه وسلم، وأحاديث النهي كلها من قوله‏.‏

فهي أرجح إذا نظرنا إلى علة النهي عن ذلك، فإن جميع ما ذكره العلماء في ذلك يقتضي أنه مأمون منه صلى الله عليه وسلم، أما أولا فلعصمته ولطيب نكهته، وأما ثانيا فلرفقه في صب الماء وبيان ذلك بسياق ما ورد في علة النهي، فمنها ما تقدم من أنه لا يؤمن دخول شيء من الهوام مع الماء في جوف السقاء فيدخل فم الشارب وهو لا يشعر، وهذا يقتضي أنه لو ملأ السقاء وهو يشاهد الماء يدخل فيه ثم ربطه ربطا محكما ثم لما أراد أن يشرب حله فشربه منه لا يتناوله النهي، ومنها ما أخرجه الحاكم من حديث عائشة بسند قوي بلفظ ‏"‏ نهى أن يشرب من في السقاء لأن ذلك ينتنه ‏"‏ وهذا يقتضي أن يكون النهي خاصا بمن يشرب فيتنفس داخل الإناء أو باشر بفمه باطن السقاء، أما من صب من القربة داخل فمه من غير مماسة فلا، ومنها أن الذي يشرب من فم السقاء قد يغلبه الماء فينصب منه أكثر من حاجته فلا يأمن أن يشرق به أو تبتل ثيابه، قال ابن العربي‏:‏ وواحدة من الثلاثة تكفي في ثبوت الكراهة، وبمجموعها تقوى الكراهة جدا‏.‏

وقال الشيخ محمد بن أبي جمرة ما ملخصه‏:‏ اختلف في علة النهي فقيل‏:‏ يخشى أن يكون في الوعاء حيوان أو ينصب بقوة فيشرق به أو يقطع العروق الضعيفة التي بإزاء القلب فربما كان سبب الهلاك أو بما يتعلق بفم السقاء من بخار النفس أو بما يخالط الماء من ريق الشارب فيتقذره غيره أو لأن الوعاء يفسد بذلك في العادة فيكون من إضاعة المال، قال‏:‏ والذي يقتضيه الفقه أنه لا يبعد أن يكون النهي لمجموع هذه الأمور وفيها ما يقتضي الكراهة وفيها ما يقتضي التحريم، والقاعدة في مثل ذلك ترجيح القول بالتحريم، وقد جزم ابن حزم بالتحريم لثبوت النهي وحمل أحاديث الرخصة على أصل الإباحة، وأطلق أبو بكر الأثرم صاحب أحمد أن أحاديث النهي ناسخة للإباحة لأنهم كانوا أولا يفعلون ذلك حتى وقع دخول الحية في بطن الذي شرب من فم السقاء فنسخ الجواز‏.‏

قلت‏:‏ ومن الأحاديث الواردة في الجواز ما أخرجه الترمذي وصححه من حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة عن جدته كبشة قالت ‏"‏ دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب من في قربة معلقة ‏"‏ وفي الباب عن عبد الله بن أنيس عند أبي داود والترمذي وعن أم سلمة في ‏"‏ الشمائل ‏"‏ وفي مسند أحمد والطبراني والمعاني للطحاوي، قال شيخنا في شرح الترمذي‏:‏ لو فرق بين ما يكون لعذر كأن تكون القربة معلقة ولم يجد المحتاج إلى الشرب إناء متيسرا ولم يتمكن من التناول بكفه فلا كراهة حينئذ وعلى ذلك تحمل الأحاديث المذكورة، وبين ما يكون لغير عذر فتحمل عليه أحاديث النهي‏.‏

قلت‏:‏ ويؤيده أن أحاديث الجواز كلها فيها أن القربة كانت معلقة والشرب من القربة المعلقة أخص من الشرب من مطلق القربة، ولا دلالة في أخبار الجواز على الرخصة مطلقا بل على تلك الصورة وحدها، وحملها على حال الضرورة جمعا بين الخبرين أولى من حملها على النسخ والله أعلم‏.‏

وقد سبق ابن العربي إلى نحو ما أشار إليه شيخنا فقال‏:‏ يحتمل أن يكون شربه صلى الله عليه وسلم في حال ضرورة، إما عند الحرب وإما عند عدم الإناء أو مع وجوده لكن لم يتمكن لشغله من التفريغ من السقاء في الإناء، ثم قال‏:‏ ويحتمل أن يكون شرب من إداوة، والنهي محمول على ما إذا كانت القربة كبيرة لأنها مظنة وجود الهوام، كذا قال، والقربة الصغيرة لا يمتنع وجود شيء من الهوام فيها، والضرر يحصل به ولو كان حقيرا، والله أعلم‏.‏

*3*باب النَّهْيِ عَنْ التَّنَفُّسِ فِي الْإِنَاءِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب النهي عن التنفس في الإناء‏)‏ ذكر فيه حديث أبي قتادة‏.‏

وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ وَإِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمْسَحْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَإِذَا تَمَسَّحَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلا يتنفس في الإناء‏)‏ زاد ابن أبي شيبة من وجه آخر عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه النهي عن النفخ في الإناء، وله شاهد من حديث ابن عباس عند أبي داود والترمذي ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الإناء، وأن ينفخ فيه ‏"‏ وجاء في النهي عن النفخ في الإناء عدة أحاديث، وكذا النهي عن التنفس في الإناء لأنه ربما حصل له تغير من النفس إما لكون المتنفس كان متغير الفم بمأكول مثلا، أو لبعد عهده بالسواك والمضمضة، أو لأن النفس يصعد ببخار المعدة، والنفخ في هذه الأحوال كلها أشد من التنفس‏.‏

*3*باب الشُّرْبِ بِنَفَسَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الشرب بنفسين أو ثلاثة‏)‏ كذا ترجم، مع أن لفظ الحديث الذي أورده في الباب ‏"‏ كان يتنفس ‏"‏ فكأنه أراد أن يجمع بين حديث الباب والذي قبله لأن ظاهرهما التعارض، إذ الأول صريح في النهي عن التنفس في الإناء والثاني يثبت التنفس، فحملهما على حالتين‏:‏ فحالة النهي على التنفس داخل الإناء، وحالة الفعل على من تنفس خارجه، فالأول‏:‏ على ظاهره من النهي، والثاني‏:‏ تقديره كان يتنفس في حالة الشرب من الإناء‏.‏

قال ابن المنير‏:‏ أورد ابن بطال سؤال التعارض بين الحديثين، وأجاب بينهما فأطنب، ولقد أغنى البخاري عن ذلك بمجرد لفظ الترجمة‏:‏ فجعل الإناء في الأول ظرفا للتنفس والنهي عنه لاستقذاره‏.‏

وقال في الثاني ‏"‏ الشرب بنفسين ‏"‏ فجعل النفس الشرب، أي لا يقتصر على نفس واحد بل يفصل بين الشربين بنفسين أو ثلاثة خارج الإناء‏.‏

فعرف بذلك انتفاء التعارض‏.‏

وقال الإسماعيلي‏:‏ المعنى أنه كان يتنفس أي على الشراب لا فيه داخل الإناء، قال‏:‏ وإن لم يحمل على هذا صار الحديثان مختلفين وكان أحدهما منسوخا لا محالة، والأصل عدم النسخ، والجمع مهما أمكن أولى‏.‏

ثم أشار إلى حديث أبي سعيد، وهو ما أخرجه الترمذي وصححه والحاكم من طريقه ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل‏:‏ القذاة أراها في الإناء، قال‏:‏ أهرقها‏.‏

قال‏:‏ فإني لا أروى من نفس واحد، قال فابن القدح إذا عن فيك ‏"‏ ولابن ماجه من حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، فإذا أراد أن يعود فلينح الإناء ثم ليعد إن كان يريد‏"‏‏.‏

قال الأثرم‏:‏ اختلاف الرواية في هذا دال على الجواز وعلى اختيار الثلاث، والمراد بالنهي عن التنفس في الإناء أن لا يجعل نفسه داخل الإناء، وليس المراد أن يتنفس خارجه طلب الراحة‏.‏

واستدل به لمالك على جواز الشرب بنفس واحد‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة الجواز عن سعيد بن المسيب وطائفة‏.‏

وقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ إنما نهى عن التنفس داخل الإناء، فأما من لم يتنفس فإن شاء فليشرب بنفس واحد‏.‏

قلت‏:‏ وهو تفصيل حسن‏.‏

وقد ورد الأمر بالشرب بنفس واحد من حديث أبي قتادة مرفوعا أخرجه الحاكم، وهو محمول على التفصيل المذكور‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ قَالَا حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ أَنَسٌ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثاً وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَنَفَّسُ ثَلَاثاً

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عزرة‏)‏ بفتح المهملة وسكون الزاي بعدها راء ابن ثابت، هو تابعي صغير أنصاري أصله من المدينة نزل البصرة، وقد سمع من جده لأمه عبد الله بن يزيد الخطمي وعبد الله بن أبي أوفى وغيرهما، فهذا الإسناد له حكم الثلاثيات وإن كان شيخ تابعيه فيه تابعيا آخر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان يتنفس في الإناء مرتين أو ثلاثا‏)‏ يحتمل أن تكون ‏"‏ أو ‏"‏ للتنويع، وأنه كان صلى الله عليه وسلم لا يقتصر على المرة بل إن روى من نفسين اكتفى بهما وإلا فثلاث، ويحتمل أن تكون ‏"‏ أو ‏"‏ للشك، فقد أخرج إسحاق بن راهويه الحديث المذكور عن عبد الرحمن بن مهدي عن عزرة بلفظ ‏"‏ كان يتنفس ثلاثا ‏"‏ ولم يقل أو‏.‏

وأخرج الترمذي بسند ضعيف عن ابن عباس رفعه ‏"‏ لا تشربوا واحدة كما يشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاث‏"‏، فإن كان محفوظا فهو يقوي ما تقدم من التنويع‏.‏

وأخرج أيضا بسند ضعيف عن ابن عباس أيضا ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا شرب تنفس مرتين ‏"‏ وهذا ليس نصا في الاقتصار على المرتين بل يحتمل أن يراد به التنفس في أثناء الشرب فيكون قد شرب ثلاث مرات، وسكت عن التنفس الأخير لكونه من ضرورة الواقع‏.‏

وأخرج مسلم وأصحاب السنن من طريق أبي عاصم عن أنس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الإناء ثلاثا ويقول‏:‏ هو أروى وأمرأ وأبرأ ‏"‏ لفظ مسلم‏.‏

وفي رواية أبي داود ‏"‏ أهنأ ‏"‏ بدل قوله أروى وقوله‏:‏ ‏"‏ أروى ‏"‏ هو من الري بكسر الراء غير مهموز أي أكثر ريا، ويجوز أن يقرأ مهموزا للمشاكلة، و ‏"‏ امرءا ‏"‏ بالهمز من المراءة، يقال مرأ الطعام بفتح الراء يمرأ بفتحها ويجوز كسرها صار مريا، و ‏"‏ أبرأ ‏"‏ بالهمز من البراءة أو من البرء أي يبرئ من الأذى والعطش‏.‏

و ‏"‏ أهنأ ‏"‏ بالهمز من الهنء، والمعنى أنه يصير هنيئا مريا بريا أي سالما أو مبريا من مرض أو عطش أو أذى‏.‏

ويؤخذ من ذلك أنه أقمع للعطش وأقوى على الهضم وأقل أثرا في ضعف الأعضاء وبرد المعدة‏.‏

واستعمال أفعل التفضيل في هذا يدل على أن للمرتين في ذلك مدخلا في الفضل المذكور، ويؤخذ منه أن النهي عن الشرب في نفس واحد للتنزيه، قال المهلب‏:‏ النهي عن التنفس في الشرب كالنهي عن النفخ في الطعام والشراب، من أجل أنه قد يقع فيه شيء من الريق فيعافه الشارب ويتقذره‏.‏

إذ كان التقذر في مثل ذلك عادة غالبة على طباع أكثر الناس، ومحل هذا إذا أكل وشرب مع غيره، وأما لو أكل وحده أو مع أهله أو من يعلم أنه لا يتقذر شيئا مما يتناوله فلا بأس‏.‏

قلت‏:‏ والأولى تعميم المنع، لأنه لا يؤمن مع ذلك أن تفضل فضلة أو يحصل التقذر من الإناء أو نحو ذلك‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ قال علماؤنا هو من مكارم الأخلاق، ولكن محرم على الرجل أن يناول أخاه ما يتقذره، فإن فعله في خاصة نفسه ثم جاء غيره فناوله إياه فليعلمه، فإن لم يعلمه فهو غش، والغش حرام‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ معنى النهي عن التنفس في الإناء لئلا يتقذر به من بزاق أو رائحة كريهة تتعلق بالماء، وعلى هذا إذا لم يتنفس يجوز الشرب بنفس واحد، وقيل‏:‏ يمنع مطلقا لأنه شرب الشيطان، قال‏:‏ وقول أنس ‏"‏ يتنفس في الشرب ثلاثا ‏"‏ قد جعله بعضهم معارضا للنهي، وحمل على بيان الجواز، ومنهم من أومأ إلى أنه من خصائصه لأنه كان لا يتقذر منه شيء‏.‏

‏(‏تكملة‏)‏ ‏:‏ أخرج الطبراني في الأوسط بسند حسن عن أبي هريرة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب في ثلاثة أنفاس، إذا أدنى الإناء إلى فيه يسمي الله، فإذا أخره حمد الله، يفعل ذلك ثلاثا ‏"‏ وأصله في ابن ماجه، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند البزار والطبراني‏.‏

وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس المشار إليه قبل ‏"‏ وسموا إذا أنتم شربتم، واحمدوا إذا أنتم رفعتم ‏"‏ وهذا يحتمل أن يكون شاهدا لحديث أبي هريرة المذكور، ويحتمل أن يكون المراد به في الابتداء والانتهاء فقط، والله أعلم‏.‏

*3*باب الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الشرب في آنية الذهب‏)‏ كذا أطلق الترجمة، وكأنه استغنى عن ذكر الحكم بما صرح به بعد في كتاب الأحكام أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم على التحريم حتى يقوم دليل الإباحة‏.‏

وقد وقع التصريح في حديث الباب بالنهي والإشارة إلى الوعيد على ذلك، ونقل ابن المنذر الإجماع على تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة إلا عن معاوية بن قرة أحد التابعين فكأنه لم يبلغه النهي، وعن الشافعي في القديم ونقل عن نصه في حرملة أن النهي فيه للتنزيه لأن علته ما فيه من التشبه بالأعاجم، ونص في الجديد على التحريم، ومن أصحابه من قطع به عنه، وهذا اللائق به لثبوت الوعيد عليه بالنار كما سيأتي في الذي يليه‏.‏

وإذا ثبت ما نقل عنه فلعله كان قبل أن يبلغه الحديث المذكور، ويؤيد وهم النقل أيضا عن نصه في حرملة أن صاحب ‏"‏ التقريب ‏"‏ نقل في كتاب الزكاة عن نصه في حرملة تحريم اتخاذ الإناء من الذهب أو الفضة، وإذا حرم الاتخاذ فتحريم الاستعمال أولى، والعلة المشار إليها ليست متفقا عليها، بل ذكروا للنهي عدة علل‏:‏ منها ما فيه من كسر قلوب الفقراء، أو من الخيلاء والسرف، ومن تضييق النقدين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَايِنِ فَاسْتَسْقَى فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِقَدَحِ فِضَّةٍ فَرَمَاهُ بِهِ فَقَالَ إِنِّي لَمْ أَرْمِهِ إِلَّا أَنِّي نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا عَنْ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَقَالَ هُنَّ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ابن أبي ليلى‏)‏ هو عبد الرحمن‏.‏

وفي رواية غندر عن شعبة عن الحكم ‏"‏ سمعت ابن أبي ليلى ‏"‏ أخرجه مسلم والترمذي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان حذيفة بالمدائن‏)‏ ، عند أحمد من طريق يزيد عن ابن أبي ليلى ‏"‏ كنت مع حذيفة بالمدائن ‏"‏ والمدائن اسم بلفظ جمع مدينة، وهو بلد عظيم على دجلة بينها وبين بغداد سبعة فراسخ كانت مسكن ملوك الفرس، وبها إيوان كسرى المشهور، وكان فتحها على يد سعد بن أبي وقاص في خلافة عمر سنة ست عشرة وقيل‏:‏ قبل ذلك، وكان حذيفة عاملا عليها في خلافة عمر ثم عثمان إلى أن مات بعد قتل عثمان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فاستسقى فأتاه دهقان‏)‏ بكسر الدال المهملة ويجوز ضمها بعدها هاء ساكنة ثم قاف، هو كبير القرية بالفارسية، ووقع في رواية أحمد عن وكيع عن شعبة ‏"‏ استسقى حذيفة من دهقان أو علج ‏"‏ وتقدم في الأطعمة من طريق سيف عن مجاهد عن ابن أبي ليلى ‏"‏ أنهم كانوا عند حذيفة، فاستسقى، فسقاه مجوسي ‏"‏ ولم أقف على اسمه بعد البحث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بقدح فضة‏)‏ في رواية أبي داود عن حفص شيخ البخاري فيه ‏"‏ بإناء من فضة ‏"‏ ولمسلم من طريق عبد الله بن عكيم ‏"‏ كنا عند حذيفة فجاءه دهقان بشراب في إناء من فضة ‏"‏ ويأتي في اللباس عن سليمان بن حرب عن شعبة بلفظ ‏"‏ بماء في إناء‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فرماه به‏)‏ في رواية وكيع ‏"‏ فحذفه به ‏"‏ ويأتي في الذي يليه بلفظ ‏"‏ فرمى به في وجهه ‏"‏ ولأحمد من رواية يزيد عن ابن أبي ليلى ‏"‏ ما يألو أن يصيب به وجهه ‏"‏ زاد في رواية الإسماعيلي وأصله عند مسلم‏:‏ فرماه به فكسره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال‏:‏ إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته‏)‏ في رواية الإسماعيلي المذكورة ‏"‏ لم أكسره إلا أني نهيته فلم يقبل ‏"‏ وفي رواية وكيع ‏"‏ ثم أقبل على القوم فاعتذر ‏"‏ وفي رواية يزيد ‏"‏ لولا أني تقدمت إليه مرة أو مرتين لم أفعل به هذا ‏"‏ وفي رواية عبد الله بن عكيم ‏"‏ إني أمرته أن لا يسقيني فيه ‏"‏ ويأتي في الذي بعده مزيد فيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج‏)‏ سيأتي في اللباس التصريح ببيان النهي عن لبسهما، وفيه بيان الديباج ما هو‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والشرب في آنية الذهب والفضة‏)‏ وقع في الذي يليه بلفظ ‏"‏ لا تشربوا ولا تلبسوا ‏"‏ وكذا عند أحمد من وجه آخر عن الحكم، كذا وقع في معظم الروايات عن حذيفة الاقتصار على الشرب ووقع عند أحمد من طريق مجاهد عن ابن أبي ليلى بلفظ ‏"‏ نهى أن يشرب في آنية الذهب والفضة، وأن يؤكل فيها ‏"‏ ويأتي نحوه في حديث أم سلمة في الباب الذي يليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال‏:‏ هن لهم في الدنيا، وهن لكم في الآخرة‏)‏ كذا فيه بلفظ ‏"‏ هن ‏"‏ بضم الهاء وتشديد النون في الموضعين‏.‏

وفي رواية أبي داود عن حفص بن عمر شيخ البخاري فيه بلفظ ‏"‏ هي ‏"‏ بكسر الهاء ثم التحتانية، وكذا في رواية غندر عن شعبة، ووقع عند الإسماعيلي وأصله في مسلم ‏"‏ هو ‏"‏ أي جميع ما ذكر‏.‏

قال الإسماعيلي‏:‏ ليس المراد بقوله‏:‏ ‏"‏ في الدنيا ‏"‏ إباحة استعمالهم إياه وإنما المعنى بقوله ‏"‏ لهم ‏"‏ أي هم الذين يستعملونه مخالفة لزي المسلمين‏.‏

وكذا قوله ولكم في الآخرة أي تستعملونه مكافأة لكم على تركه في الدنيا، ويمنعه أولئك جزاء لهم على معصيتهم باستعماله‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون فيه إشارة إلى أن الذي يتعاطى ذلك في الدنيا لا يتعاطاه في الآخرة كما تقدم في شرب الخمر، ويأتي مثله في لباس الحرير، بل وقع في هذا بخصوصه ما سأبينه في الذي قبله‏.‏

*3*باب آنِيَةِ الْفِضَّةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب آنية الفضة‏)‏ ذكر فيه ثلاثة أحاديث

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ خَرَجْنَا مَعَ حُذَيْفَةَ وَذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏خرجنا مع حذيفة وذكر النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ كذا ذكره مختصرا، وقد أخرجه أحمد عن ابن أبي عدي الذي أخرجه البخاري من طريقه، وأخرجه الإسماعيلي وأصله في مسلم من طريق معاذ بن معاذ وكلاهما عن عبد الله بن عون بلفظ ‏"‏ خرجت مع حذيفة إلى بعض هذا السواد، فاستسقى، فأتاه الدهقان بإناء من فضة، فرمى به في وجهه، قال فقلنا‏:‏ اسكتوا، فإنا إن سألناه لم يحدثنا، قال فسكتنا‏.‏

فلما كان بعد ذلك قال‏:‏ أتدرون لم رميت بهذا في وجهه‏؟‏ قلنا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ ذلك أني كنت نهيته‏.‏

قال فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ‏"‏ قال أحمد‏:‏ وفي رواية معاذ ‏"‏ ولا في الفضة‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الَّذِي يَشْرَبُ فِي إِنَاءِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي أويس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن زيد بن عبد الله بن عمر‏)‏ هو تابعي ثقة، تقدمت روايته عن أبيه في إسلام عمر، وليس له في البخاري سوى هذين الحديثين‏.‏

وهذا الإسناد كله مدنيون، وقد تابع مالكا عن نافع عليه موسى بن عقبة وأيوب وغيرهما وذلك عند مسلم، وخالفهم إسماعيل بن أمية عن نافع فلم يذكر زيدا في إسناده، جعله عن نافع عن عبد الله بن عبد الرحمن، أخرجه النسائي، والحكم لمن زاد من الثقات، ولا سيما وهم حفاظ وقد اجتمعوا وانفرد إسماعيل‏.‏

وقال محمد بن إسحاق عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد عن أم سلمة، ووافقه سعد بن إبراهيم عن نافع في صفية لكن خالفه فقال عن عائشة بدل أم سلمة، وقول محمد بن إسحاق أقرب، فإن كان محفوظا فلعل لنافع فيه إسنادين، وشذ عبد العزيز بن أبي رواد فقال ‏"‏ عن نافع عن أبي هريرة ‏"‏ وسلك برد بن سنان وهشام بن الغاز الجادة فقالا عن نافع عن ابن عمر أخرج الجميع النسائي وقال‏:‏ الصواب من ذلك كله رواية أيوب ومن تابعه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق‏)‏ هو ابن أخت أم سلمة التي روى عنها هذا الحديث، أمه قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية، وهو ثقة ما له في البخاري غير هذا الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الذي يشرب في آنية الفضة‏)‏ في رواية مسلم من طريق عثمان بن مرة عن عبد الله بن عبد الرحمن ‏"‏ من شرب من إناء ذهب أو فضة ‏"‏ وله من رواية علي بن مسهر عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع ‏"‏ إن الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة ‏"‏ وأشار مسلم إلى تفرد علي بن مسهر بهذه اللفظة، أعني الأكل‏.‏

قوله ‏(‏إنما يجرجر‏)‏ بضم التحتانية وفتح الجيم وسكون الراء ثم جيم مكسورة ثم راء من الجرجرة وهو صوت يردده البعير في حنجرته إذا هاج نحو صوت اللجام في فك الفرس، قال النووي‏:‏ اتفقوا على كسر الجيم الثانية من يجرجر، وتعقب بأن الموفق بن حمزة في كلامه على المذهب حكى فتحها، وحكى ابن الفركاح عن والده أنه قال‏:‏ روي يجرجر على البناء للفاعل والمفعول، وكذا جوزه ابن مالك في ‏"‏ شواهد التوضيح ‏"‏ نعم رد ذلك ابن أبي الفتح تلميذه فقال في جزء جمعه في الكلام على هذا المتن‏:‏ لقد كثر بحثي على أن أرى أحدا رواه مبنيا للمفعول فلم أجده عند أحد من حفاظ الحديث، وإنما سمعناه من الفقهاء الذين ليست لهم عناية بالرواية، وسألت أبا الحسين اليونيني فقال‏:‏ ما قرأته على والدي ولا على شيخنا المنذر إلا مبنيا للفاعل‏.‏

قال‏:‏ ويبعد اتفاق الحفاظ قديما وحديثا على ترك رواية ثابتة‏.‏

قال‏:‏ وأيضا فإسناده إلى الفاعل هو الأصل وإسناده إلى المفعول فرع فلا يصار إليه بغير حاجة، وأيضا فإن علماء العربية قالوا‏:‏ يحذف الفاعل إما للعلم به أو للجهل به، أو إذا تخوف منه أو عليه، أو لشرفه أو لحقارته، أو لإقامة وزن، وليس هنا شيء من ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في بطنه نار جهنم‏)‏ وقع للأكثر بنصب نار على أن الجرجرة بمعنى الصب أو التجرع فيكون ‏"‏ نار ‏"‏ نصب على المفعولية والفاعل الشارب أي يصب أو يتجرع، وجاء الرفع على أن الجرجرة هي التي تصوت في البطن، قال النووي‏:‏ النصب أشهر، ويؤيده رواية عثمان بن مرة عند مسلم بلفظ ‏"‏ فإنما يجرجر في بطنه نارا من جهنم ‏"‏ وأجاز الأزهري النصب على أن الفعل عدي إليه، وابن السيد الرفع على أنه خبر إن وما موصولة، قال‏:‏ ومن نصب جعل ‏"‏ ما ‏"‏ زائدة كافة لأن عن العمل، وهو نحو ‏(‏إنما صنعوا كيد ساحر‏)‏ فقرئ بنصب كيد ورفعه، ويدفعه أنه لم يقع في شيء من النسخ بفصل ما من إن‏.‏

وقوله‏:‏ إن النار تصوت في بطنه كما يصوت البعير بالجرجرة مجاز تشبيه، لأن النار لا صوت لها، كذا قيل‏.‏

وفي النفي نظر لا يخفى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الْأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ وَعَنْ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ أَوْ قَالَ آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَعَنْ الْمَيَاثِرِ وَالْقَسِّيِّ وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالْإِسْتَبْرَقِ

الشرح‏:‏

حديث البراء ‏"‏ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعن الشرب في الفضة أو قال في آنية الفضة‏)‏ شك من الراوي‏.‏

زاد مسلم من طريق أخرى عن البراء ‏"‏ فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة ‏"‏ ومثله في حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ من شرب في آنية الفضة والذهب في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة، وآنية أهل الجنة الذهب والفضة ‏"‏ أخرجه النسائي بسند قوي، وسيأتي شرح حديث البراء مستوفى في كتاب الأدب، ويأتي ما يتعلق باللباس منه في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى‏.‏

وفي هذه الأحاديث تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة على كل مكلف رجلا كان أو امرأة، ولا يلتحق ذلك بالحلي للنساء لأنه ليس من التزين الذي أبيح لها في شيء، قال القرطبي وغيره‏:‏ في الحديث تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب، ويلحق بهما ما في معناهما مثل التطيب والتكحل وسائر وجوه الاستعمالات، وبهذا قال الجمهور، وأغربت طائفة شذت فأباحت ذلك مطلقا، ومنهم من قصر التحريم على الأكل والشرب، ومنهم من قصره على الشرب لأنه لم يقف على الزيادة في الأكل، قال‏:‏ واختلف في علة المنع فقيل‏:‏ إن ذلك يرجع إلى عينهما، ويؤيده قوله هي لهم وإنها لهم، وقيل‏:‏ لكونهما الأثمان وقيم المتلفات، فلو أبيح استعمالها لجاز اتخاذ الآلات منهما فيفضي إلى قلتهما بأيدي الناس فيجحف بهم، ومثله الغزالي بالحكام الذين وظيفتهم التصرف لإظهار العدل بين الناس، فلو منعوا التصرف لأخل ذلك بالعدل، فكذا في اتخاذ الأواني من النقدين حبس لهما عن التصرف الذي ينتفع به الناس‏.‏

ويرد على هذا جواز الحلي للنساء من النقدين، ويمكن الانفصال عنه‏.‏

وهذه العلة هي الراجحة عند الشافعية، وبه صرح أبو علي السنجي وأبو محمد الجويني‏.‏

وقيل‏:‏ علة التحريم السرف والخيلاء، أو كسر قلوب الفقراء‏.‏

ويرد عليه جواز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة وعاليها أنفس وأكثر قيمة من الذهب والفضة، ولم يمنعها إلا من شذ‏.‏

وقد نقل ابن الصباغ في ‏"‏ الشامل ‏"‏ الإجماع على الجواز، وتبعه الرافعي ومن بعده‏.‏

لكن في ‏"‏ زوائد العمراني ‏"‏ عن صاحب ‏"‏ الفروع ‏"‏ نقل وجهين‏.‏

وقيل‏:‏ العلة في المنع التشبه بالأعاجم، وفي ذلك نظر لثبوت الوعيد لفاعله، ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك‏.‏

واختلف في اتخاذ الأواني دون استعمالها كما تقدم، والأشهر المنع وهو قول الجمهور، ورخصت فيه طائفة، وهو مبني على العلة في منع الاستعمال، ويتفرع على ذلك غرامة أرش ما أفسد منها وجواز الاستئجار عليها‏.‏