فصل: باب الصَّلَاةِ عَلَى النُّفَسَاءِ إِذَا مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب فَضْلِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ

وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا صَلَّيْتَ فَقَدْ قَضَيْتَ الَّذِي عَلَيْكَ وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ مَا عَلِمْنَا عَلَى الْجَنَازَةِ إِذْنًا وَلَكِنْ مَنْ صَلَّى ثُمَّ رَجَعَ فَلَهُ قِيرَاطٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب فضل اتباع الجنائز‏)‏ قال ابن رشيد ما محصله مقصود الباب بيان القدر الذي يحصل به مسمى الاتباع الذي يجوز به القيراط، إذ في الحديث الذي أورده إجمال، ولذلك صدره بقول زيد بن ثابت، وآثر الحديث المذكور على الذي بعده وإن كان أوضح منه في مقصوده كعادته المألوفة في الترجمة على اللفظ المشكل ليبين مجمله، وقد تقدم طرف من بيان ما يحصل به مسمى الاتباع في ‏"‏ باب السرعة بالجنازة‏"‏، وله تعلق بهذا الباب، وكأنه قصد هناك كيفية المشي وأمكنته، وقصد هنا ما الذي يحصل به الاتباع وهو أعم من ذلك، قال‏:‏ ويمكن أن يكون قصد هنا ما الذي يحصل به المقصد إذ الاتباع إنما هو وسيلة إلى تحصيل الصلاة منفردة أو الدفن منفردا أو المجموع‏.‏

قال‏:‏ وهذا كله يدل على براعة المصنف ودقة فهمه وسعة علمه‏.‏

وقال الزين بن المنير ما محصله‏:‏ مراد الترجمة إثبات الأجر والترغيب فيه لا تعيين الحكم، لأن الاتباع من الواجبات على الكفاية، فالمراد بالفضل ما ذكرناه لا قسيم الواجب، وأجمل لفظ الاتباع تبعا للفظ الحديث الذي أورده لأن القيراط لا يحصل إلا لمن اتبع وصلى أو اتبع وشيع وحضر الدفن لا لمن اتبع مثلا وشيع ثم انصرف بغير صلاة كما سيأتي بيان الحجة لذلك في الباب الذي يليه، وذلك لأن الاتباع إنما هو وسيلة لأحد مقصودين‏:‏ إما الصلاة وإما الدفن، فإذا تجردت الوسيلة عن المقصد لم يحصل المرتب على المفصود، وإن كان يرجى أن يحصل لفاعل ذلك فضل ما بحسب نيته‏.‏

وروى سعيد بن منصور من طريق مجاهد قال ‏"‏ اتباع الجنازة أفضل النوافل ‏"‏ وفي رواية عبد الرزاق عنه ‏"‏ اتباع الجنازة أفضل من صلاة التطوع‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال زيد بن ثابت‏:‏ إذا صليت فقد قضيت الذي عليك‏)‏ وصله سعيد بن منصور من طريق عروة عنه بلفظ ‏"‏ إذا صليتم على الجنازة فقد قضيتم ما عليكم فخلوا بينها وبين أهلها ‏"‏ وكذا أخرجه عبد الرزاق، لكن بلفظ ‏"‏ إذا صليت على جنازة فقد قضيت ما عليك ‏"‏ ووصله ابن أبي شيبة من هذا الوجه بلفظ الأفراد ومعناه فقد قضيت حق الميت، فإن أردت الاتباع فلك زيادة أجر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال حميد بن هلال‏:‏ ما علمنا على الجنازة إذنا ولكن من صلى ثم رجع فله قيراط‏)‏ لم أره موصولا عنه، قال الزين بن المنير‏:‏ مناسبته للترجمة استعارة بأن الاتباع إنما هو لمحض ابتغاء الفضل، وأنه لا يجري مجرى قضاء حق أولياء الميت فلا يكون لهم فيه حق ليتوقف الانصراف قبله على الإذن منهم‏.‏

قلت‏:‏ وكأن البخاري أراد الرد على ما أخرجه عبد الرزاق من طريق عمرو بن شعيب عن أبي هريره قال ‏"‏ أميران وليسا بأميرين‏:‏ الرجل يكون مع الجنازة يصلي عليها فليس له أن يرجع حتى يستأذن وليها ‏"‏ الحديث، وهذا منقطع موقوف، وروى عبد الرزاق مثله من قول إبراهيم، وأخرجه ابن أبي شيبة عن المسور من فعله أيضا، وقد ورد مثله مرفوعا من حديث جابر أخرجه البزار بإسناد فيه مقال، وأخرجه العقيلي في الضعفاء من حديث أبي هريرة مرفوعا بإسناد ضعيف، وروى أحمد من طريق عبد الله بن هرمز عن أبي هريرة مرفوعا ‏"‏ من تبع جنازة فحمل من علوها وحثا في قبرها وقعد حتى يؤذن له رجع بقيراطين ‏"‏ وإسناده ضعيف‏.‏

والذي عليه معظم أئمة الفتوى قول حميد بن هلال، وحكي عن مالك أنه لا ينصرف حتى يستأذن‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ نَافِعًا يَقُولُ حُدِّثَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَقُولُ مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ فَقَالَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَيْنَا فَصَدَّقَتْ يَعْنِي عَائِشَةَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَقَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ فَرَّطْتُ ضَيَّعْتُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدث ابن عمر‏)‏ كذا في جميع الطرق ‏"‏ حدث ‏"‏ بضم المهملة على البناء للمجهول، ولم أقف في شيء من الطرق عن نافع على تسمية من حدث ابن عمر عن أبي هريرة بذلك، وقد أورده أصحاب الأطراف والحميدي في جمعه في ترجمة نافع عن أبي هريرة، وليس في شيء من طرقه ما يدل على أنه سمع منه وإن كان ذلك محتملا، ووقفت على تسمية من حدث ابن عمر بذلك صريحا في موضعين‏:‏ أحدهما في صحيح مسلم وهو خباب بمعجمة وموحدتين الأولى مشددة وهو أبو السائب المدني صاحب المقصورة قيل إن له صحبة، ولفظه من طريق داود بن عامر بن سعد عن أبيه ‏"‏ أنه كان قاعدا عند عبد الله بن عمر إذ طلع خباب صاحب المقصورة فقال‏:‏ يا عبد الله بن عمر، ألا تسمع ما يقول أبو هريرة ‏"‏‏؟‏ فذكر الحديث‏.‏

والثاني في جامع الترمذي من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة فذكر الحديث، قال أبو سلمة فذكرت ذلك لابن عمر فأرسل إلى عائشة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن أبا هريرة يقول من تبع‏)‏ كذا في جميع‏:‏ الطرق لم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق إبراهيم بن راشد عن أبي النعمان شيخ البخاري فيه، لكن أخرجه أبو عوانة في صحيحه عن مهدي بن الحارث عن موسى بن إسماعيل، عن أبي أمية عن أبي النعمان، وعن التستري عن شيبان ثلاثتهم عن جرير بن حازم عن نافع قال ‏"‏ قيل لابن عمر إن أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ من تبع جنازة فله قيراط من الأجر ‏"‏ فذكره ولم يبين لمن السياق، وقد أخرجه مسلم عن شيبان بن فروخ كذلك، فالظاهر أن السياق له‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من تبع جنازة فله قيراط‏)‏ زاد مسلم في روايته ‏"‏ من الأجر‏"‏‏.‏

والقيراط بكسر القاف‏.‏

قال الجوهري‏:‏ أصله قراط بالتشديد لأن جمعه قراريط فأبدل من أحد حرفي تضعيفه ياء قال‏:‏ والقيراط نصف دانق‏.‏

وقال قبل ذلك‏:‏ الدانق سدس الدرهم‏.‏

فعلى هذا يكون القيراط جزءا من اثني عشر جزءا من الدرهم‏.‏

وأما صاحب النهاية فقال‏:‏ القيراط جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عشره في أكثر البلاد، وفي الشام جزء من أربعة وعشرين جزءا، ونقل ابن الجوزي عن ابن عقيل أنه كان يقول‏:‏ القيراط نصف سدس درهم أو نصف عشر دينار‏.‏

والإشارة بهذا المقدار إلى الأجر المتعلق بالميت في تجهيزه وغسله وجميع ما يتعلق به، فللمصلي عليه قيراط من ذلك، ولمن شهد الدفن قيراط‏.‏

وذكر القيراط تقريبا للفهم لما كان الإنسان يعرف القيراط ويعمل العمل في مقابلته، وعد من جنس ما يعرف وضرب له المثل يما يعلم انتهى‏.‏

وليس الذي قال ببعيد، وقد روى بزار من طريق عجلان عن أبي هريره مرفوعا ‏"‏ من أتى جنازة في أهلها فله قيراط، فإن تبعها فله قيراط، فإن صلى عليها فله قيراط، فإن انتظرها حتى تدفن فله قيراط ‏"‏ فهذا يدل على أن لكل عمل من أعمال الجنازة قيراطا وأن اختلفت مقادير القراريط ولا سيما بالنسبة إلى مشقة ذلك العمل وسهولته، وعلى هذا فيقال‏:‏ إنما خص قيراطي الصلاة والدفن بالذكر لكونهما المقصودين، بخلاف باقي أحوال الميت فإنها وسائل، ولكن هذا يخالف ظاهر سياق الحديث الذي في الصحيح المتقدم في كتاب الإيمان فإن فيه ‏"‏ إن لمن تبعها حتى يصلي عليها ويفرغ من دفنها قيراطين ‏"‏ فقط، ويجاب عن هذا بأن القيراطين المذكورين لمن شهد، والذي ذكره ابن عقيل لمن باشر الأعمال التي يحتاج إليها الميت فافترقا، وقد ورد لفظ القيراط في عدة أحاديث‏:‏ فمنها ما يحمل على القيراط المتعارف ومنها ما يحمل على الجزء في الجملة وإن لم تعرف النسبة‏.‏

فمن الأول حديث كعب بن مالك مرفوعا ‏"‏ إنكم ستفتحون بلدا يذكر فيها القيراط ‏"‏ وحديث أبي هريرة مرفوعا ‏"‏ كنت أرعى غنما لأهل مكة بالقراريط ‏"‏ قال ابن ماجه عن بعض شيوخه‏:‏ يعني كل شاة بقيراط‏.‏

وقال غيره‏:‏ قراريط جبل بمكة‏.‏

ومن المحتمل حديث ابن عمر في الذين أوتوا التوراة ‏"‏ أعطوا قيراطا قيراطا ‏"‏ وحديث الباب، وحديث أبي هريرة ‏"‏ من اقتنى كلبا نقص من عمله كل يوم قيراط ‏"‏ وقد جاء تعيين مقدار القيراط في حديث الباب بأنه مثل أحد كما سيأتي الكلام عليه في الباب الذي يليه‏.‏

وفي رواية عند أحمد والطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر ‏"‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله مثل قراريطنا هذه‏؟‏ قال‏:‏ لا بل مثل أحد ‏"‏ قال النووي وغيره‏:‏ لا يلزم من ذكر القيراط في الحديثين تساويهما لأن عادة الشارع تعظيم الحسنات وتخفيف مقابلها والله أعلم‏.‏

وقال ابن العربي القاضي‏:‏ الذرة جزء من ألف وأربعة وعشرين جزءا من حبة والحبة ثلث القيراط، فإذا كانت الذرة تخرج من النار فكيف بالقيراط‏؟‏ قال وهذا قدر قيراط الحسنات، فأما قيراط السيئات فلا‏.‏

وقال غيره‏:‏ القيراط في اقتناء الكلب جزء من أجزاء عمل المقتنى له في ذلك اليوم، وذهب الأكثر إلى أن المراد بالقيراط في حديث الباب جزء من أجزاء معلومة عند الله؛ وقد قربها النبي صلى الله عليه وسلم للفهم بتمثيله القيراط بأحد، قال الطيبي‏:‏ قوله ‏"‏ مثل أحد ‏"‏ تفسير للمقصود من الكلام لا للفظ القيراط، والمراد منه أنه يرجع بنصيب كبير من الأجر، وذلك لأن لفظ القيراط مبهم من وجهين، فبين الموزون بقوله ‏"‏ من الأجر ‏"‏ وبين المقدار المراد منه بقوله ‏"‏ مثل أحد‏"‏‏.‏

وقال الزين بن المنير‏:‏ أراد تعظيم الثواب فمثله للعيان بأعظم الجبال خلقا وأكثرها إلى النفوس المؤمنة حبا، لأنه الذي قال في حقه ‏"‏ إنه حبل يحبنا ونحبه ‏"‏ انتهى‏.‏

ولأنه أيضا قريب من المخاطبين يشترك أكثرهم في معرفته، وخص القيراط بالذكر لأنه كان أقل ما تقع به الإجارة في ذلك الوقت، أو جرى ذلك مجرى العادة من تقليل الأجر بتقليل العمل‏.‏

واستدل بقوله ‏"‏ من تبع ‏"‏ على أن المشي خلف الجنازة أفضل من المشي أمامها، لأن ذلك هو حقيقة الاتباع حسا‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ الذين رجحوا المشي أمامها حملوا الاتباع هنا على الاتباع المعنوي أي المصاحبة، وهو أعم من أن يكون أمامها أو خلفها أو غير ذلك، وهذا مجاز يحتاج إلى أن يكون الدليل الدال على استحباب التقدم راجحا انتهى‏.‏

وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في ‏"‏ باب السرعة بالجنازة ‏"‏ وذكرنا اختلاف العلماء في ذلك بما يغني عن إعادته قوله‏:‏ ‏(‏أكثر علينا أبو هريرة‏)‏ قال ابن التين‏:‏ لم يتهمه ابن عمر، بل خشي عليه السهو، أو قال ذلك لكونه لم ينقل له عن أبي هريرة أنه رفعه، فظن أنه قال برأيه فاستنكره انتهى‏.‏

والثاني جمود على سياق رواية البخاري، وقد بينا أن في رواية مسلم أن رفعه، وكذا في رواية خباب عن أبي هريرة عند مسلم أيضا‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ قوله ‏"‏ أكثر علينا ‏"‏ أي في ذكر الأجر أو في كثرة الحديث، كأنه خشي لكثرة رواياته أن يشتبه عليه بعض الأمر انتهى‏.‏

ووقع في رواية أبي سلمة عند سعيد بن منصور ‏"‏ فبلغ ذلك ابن عمر فتعاظمه ‏"‏ وفي رواية الوليد بن عبد الرحمن عند سعيد أيضا ومسدد وأحمد بإسناد صحيح ‏"‏ فقال ابن عمر‏:‏ يا أبا هريرة انظر ما تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فصدقت يعني عائشة أبا هريرة‏)‏ لفظ ‏"‏ يعني ‏"‏ للبخاري، كأنه شك فاستعملها‏.‏

وقد رواه الإسماعيلي من طريق أبي النعمان شيخه فلم يقلها‏.‏

وفي رواية مسلم ‏"‏ فبعث ابن عمر إلى عائشة يسألها فصدقت أبا هريرة ‏"‏ وفي رواية أبي سلمة عند الترمذي ‏"‏ فذكر ذلك لابن عمر، فأرسل إلى عائشة فسألها عن ذلك فقالت‏:‏ صدق ‏"‏ وفي رواية خباب صاحب المقصورة عند مسلم ‏"‏ فأرسل ابن عمر خبابا إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة ثم يرجع إليه فيخبره بما قالت، حتى رجع إليه الرسول فقال‏:‏ قالت عائشة صدق أبو هريرة ‏"‏ ووقع في رواية الوليد بن عبد الرحمن عند سعيد بن منصور ‏"‏ فقام أبو هريرة فأخذ بيده فانطلقا حتى أتيا عائشة فقال لها‏:‏ يا أم المؤمنين، أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ فذكره فقالت ‏"‏ اللهم نعم‏"‏‏.‏

ويجمع بينهما بأن الرسول لما رجع إلى ابن عمر بخبر عائشة بلغ ذلك أبا هريرة فمشى إلى ابن عمر فاسمعه ذلك من عائشة مشافهة، وزاد في رواية الوليد ‏"‏ فقال أبو هريرة‏:‏ لم يشغلني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس الودي ولا صفق بالأسواق، وإنما كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلة يطعمنيها أو كلمة يعلمنيها ‏"‏ قال له ابن عمر ‏"‏ كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لقد فرطنا في قراريط كثيرة‏)‏ أي من عدم المواظبة على حضور الدفن، بين ذلك مسلم في روايته من طريق ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر قال ‏"‏ كان ابن عمر يصلي على الجنازة ثم ينصرف، فلما بلغه حديث أبي هريرة ‏"‏ قال فذكره‏.‏

وفي هذه القصة دلالة على تميز أبي هريرة في الحفظ، وأن إنكار العلماء بعضهم على بعض قديم، وفيه استغراب العالم ما لم يصل إلى علمه وعدم مبالاة الحافظ بإنكار من لم يحفظ، وفيه ما كان الصحابة عليه من التثبت في الحديث النبوي والتحرز فيه والتنقيب عليه، وفيه دلالة على فضيلة ابن عمر من حرصه على العلم وتأسفه على ما فاته من العمل الصالح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فرطت‏:‏ ضيعت من أمر الله‏)‏ كذا في جميع الطرق، وفي بعض النسخ ‏"‏ فرطت من أمر الله أي ضيعت ‏"‏ وهو أشبه‏.‏

وهذه عادة المصنف إذا أراد تفسير كلمة غريبة من الحديث ووافقت كلمة من القرآن فسر الكلمة التي من القرآن، وقد ورد في رواية سالم المذكورة بلفظ ‏"‏ لقد ضيعنا قراريط كثيرة‏"‏‏.‏

‏(‏تكملة‏)‏ ‏:‏ وقع لي حديث الباب من رواية عشرة من الصحابة غير أبي هريرة وعائشة‏:‏ من حديث ثوبان عند مسلم، والبراء، وعبد الله بن مغفل عند النسائي، وأبي سعيد عند أحمد، وابن مسعود عند أبي عوانة وأسانيد هؤلاء الخمسة صحاح‏.‏

ومن حديث أبي بن كعب عند ابن ماجه، وابن عباس عند البيهقي في الشعب، وأنس عند الطبراني في الأوسط، وواثلة بن الأسقع عند ابن عدي، وحفصة عند حميد بن زنجويه في فضائل الأعمال وفي كل من أسانيد هؤلاء الخمسة ضعف‏.‏

وسأشير إلى ما فيها من فائدة زائدة في الكلام على الحديث في الباب الذي يلي هذا‏.‏

*3*باب مَنْ انْتَظَرَ حَتَّى تُدْفَنَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من انتظر حتى تدفن‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ لم يذكر المصنف جواب ‏"‏ من ‏"‏ إما استغناء بما ذكر في الخبر أو توقفا على إثبات الاستحقاق بمجرد الانتظار إن خلا عن اتباع‏.‏

قال‏:‏ وعدل عن لفظ الشهود كما هو في الخبر إلى لفظ الانتظار لينبه على أن المقصود من الشهود إنما هو معاضدة أهل الميت والتصدي لمعونتهم، وذلك من المقاصد المعتبرة انتهى‏.‏

والذي يظهر لي أنه اختار لفظ الانتظار لكونه أعم من المشاهدة، فهو أكثر فائدة‏.‏

وأشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرقه بلفظ الانتظار ليفسر اللفظ الوارد بالمشاهدة به، ولفظ الانتظار وقع في رواية معمر عند مسلم، وقد ساق البخاري سندها ولم يذكر لفظها‏.‏

ووقعت هذه الطريق في بعض الروايات التي لم تتصل لنا عن البخاري في هذا الباب أيضا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ قَرَأْتُ عَلَى ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ قِيلَ وَمَا الْقِيرَاطَانِ قَالَ مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبد الله بن مسلمة‏)‏ هو القعنبي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبيه‏)‏ يعني أبا سعيد كيسان المقبري وهو ثابت في جميع الطرق، وحكى الكرماني أنه سقط من بعض الطرق‏.‏

قلت‏:‏ والصواب إثباته‏.‏

وكذا أخرجه إسحاق بن راهويه والإسماعيلي وغيرهما من طريق ابن أبي ذئب، نعم سقط قوله ‏"‏ عن أبيه ‏"‏ من رواية ابن عجلان عند أبي عوانة وعبد الرحمن بن إسحاق عند ابن أبي شيبة وأبي معشر عند حميد بن زنجويه ثلاثتهم عن سعيد المقبري‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ لم يسق البخاري لفظ رواية أبي سعيد، ولفظه عند الإسماعيلي ‏"‏ أنه سأل أبا هريرة‏:‏ ما ينبغي في الجنازة‏؟‏ فقال‏:‏ سأخبرك بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ من تبعها من أهلها حتى يصلي عليها فله قيراط مثل أحد، ومن تبعها حتى يفرغ منها فله قيراطان ‏"‏‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏وحدثني عبد الرحمن‏)‏ هو معطوف على مقدر أي قال ابن شهاب حدثني فلان بكذا، وحدثني عبد الرحمن الأعرج بكذا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى يصلي‏)‏ زاد الكشميهني ‏"‏ عليه ‏"‏ واللام للأكثر مفتوحة، وفي بعض الروايات بكسرها، ورواية الفتح محمولة عليها فإن حصول القيراط متوقف على وجود الصلاة من الذي يحصل له كما تقدم تقريره، وللبيهقي من طريق محمد بن علي الصائغ عن أحمد بن شبيب شيخ البخاري فيه بلفظ ‏"‏ حتى يصلي عليها ‏"‏ وكذا هو عند مسلم من طريق ابن وهب عن يونس، ولم يبين في هذه الرواية ابتداء الحضور، وقد تقدم بيانه في رواية أبي سعيد المقبري حيث قال ‏"‏ من أهلها ‏"‏ وفي رواية خباب عند مسلم ‏"‏ من خرج مع جنازة من بيتها ‏"‏ ولأحمد في حـديث أبي سعيد الخدري ‏"‏ فمشى معها من أهلها ‏"‏ ومقتضاه أن القيراط يختصن بمن حضر من أول الأمر إلى انقضاء الصلاة، وبذلك صرح المحب الطبري وغيره، والذي يظهر لي أن القيراط يحصل أيضا لمن صلى فقط لأن كل ما قبل الصلاة وسيلة إليها، لكن يكون قيراط من صلى فقط دون قيراط من شيع مثلا وصلى، ورواية مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ أصغرهما مثل أحد ‏"‏ يدل على أن القراريط تتفاوت‏.‏

ووقع أيضا في رواية أبي صالح المذكورة عند مسلم ‏"‏ من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط ‏"‏ وفي رواية نافع بن جبير عن أبي هريرة عند أحمد ‏"‏ ومن صلى ولم يتبع فله قيراط ‏"‏ فدل على أن الصلاة تحصل القيراط وأن لم يقع اتباع، ويمكن أن يحمل الاتباع هنا على ما بعد الصلاة، وهل يأتي نظير هذا في قيراط الدفن‏؟‏ فيه بحث‏.‏

قال النووي في شرح البخاري عند الكلام على طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة في كتاب الإيمان بلفظ ‏"‏ من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا وكان معها حتى يصلي ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين‏"‏‏.‏

الحديث‏.‏

ومقتضى هذا أن القيراطين إنما يحصلان لمن كان معها في جميع الطريق حتى تدفن، فإن صلى مثلا وذهب إلى القبر وحده فحضر الدفن لم يحصل له إلا قيراط واحد انتهى‏.‏

وليس في الحديث ما يقتضي ذلك إلا من طريق المفهوم، فإن ورد منطوق بحصول القيراط لشهود الدفن وحده كان مقدما‏.‏

ويجمع حينئذ بتفاوت القيراط، والذين أبوا ذلك جعلوه من باب المطلق والمقيد، نعم مقتضى جميع الأحاديث أن من اقتصر على التشييع فلم يصل ولم يشهد الدفن فلا قيراط له إلا على الطريقة التي قدمناها عن ابن عقيل، لكن الحديث الذي أوردناه عن البراء في ذلك ضعيف‏.‏

وأما التقييد بالإيمان والاحتساب فلا بد منه لأن ترتب الثواب على العمل يستدعي سبق النية فيه فيخرج من فعل ذلك على سبيل المكافأة المجردة أو على سبيل المحاباة والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن شهد‏)‏ كذا في جميع الطرق بحذف المفعول‏.‏

وفي رواية البيهقي التي أشرت إليها ‏"‏ ومن شهدها‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فله قيراطان‏)‏ ظاهره أنهما غير قيراط الصلاة، وهو ظاهر سياق أكثر الروايات، وبذلك جزم بعض المتقدمين وحكاه ابن التين عن القاضي أبي الوليد، لكن سياق رواية ابن سيرين يأبى ذلك وهي صريحة في أن الحاصل من الصلاة ومن الدفن قيراطان فقط، وكذلك رواية خباب صاحب المقصورة عند مسلم بلفظ ‏"‏ من خرج مع جنازة من بيتها ثم تبعها حتى كان له قيراطان من أجر، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع كان له قيراط ‏"‏ وكذلك رواية الشعبي عن أبي هريرة عند النسائي بمعناه، ونحوه رواية نافع بن جبير‏.‏

قال النووي‏:‏ رواية ابن سيرين صريحة في أن المجموع قيراطان، ومعني رواية الأعرج على هذا كان له قيراطان أي بالأول، وهذا مثل حديث ‏"‏ من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله ‏"‏ أي بانضمام صلاة العشاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى تدفن‏)‏ ظاهره أن حصول القيراط متوقف على فراغ الدفن، وهو أصح الأوجه عند الشافعية وغيرهم، وقيل يحصل بمجرد الوضع في اللحد، وقيل عند انتهاء الدفن قبل إهالة التراب، وقد وردت الأخبار بكل ذلك، ويترجح الأول للزيادة، فعند مسلم من طريق معمر في إحدى الروايتين عنه ‏"‏ حتى يفرغ منها ‏"‏ وفي الأخرى ‏"‏ حتى توضع في اللحد ‏"‏ وكذا عنده في رواية أبي حازم بلفظ ‏"‏ حتى توضع في القبر ‏"‏ وفي رواية ابن سيرين والشعبي ‏"‏ حتى يفرغ منها ‏"‏ وفي رواية أبي مزاحم عند أحمد ‏"‏ حتى يقضي قضاؤها ‏"‏ وفي رواية أبي سلمة عند الترمذي ‏"‏ حتى يقضى دفنها ‏"‏ وفي رواية ابن عياض عند أبي عوانة ‏"‏ حتى يسوى عليها ‏"‏ أي التراب، وهي أصرح الروايات في ذلك‏.‏

ويحتمل حصول القيراط بكل من ذلك، لكن يتفاوت القيراط كما تقدم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قيل وما القيراطان‏)‏ لم يعين في هذه الرواية القائل ولا المقول له، وقد بين الثاني مسلم في رواية الأعرج هذه فقال ‏"‏ قيل وما القيراطان يا رسول الله ‏"‏ وعنده في حديث ثوبان ‏"‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القيراط ‏"‏ وبين القائل أبو عوانة من طريق أبي مزاحم عن أبي هريرة ولفظه ‏"‏ قلت وما القيراط يا رسول الله‏"‏، ووقع عند مسلم أن أبا حازم أيضا سأل أبا هريرة عن ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مثل الجبلين العظيمين‏)‏ سبق أن في رواية ابن سيرين وغيره ‏"‏ مثل أحد ‏"‏ وفي رواية الوليد بن عبد الرحمن عند ابن أبي شيبة ‏"‏ القيراط مثل جبل أحد ‏"‏ وكذا في حديث ثوبان عند مسلم والبراء عند النسائي وأبي سعيد عند أحمد‏.‏

ووقع عند النسائي من طريق الشعبي ‏"‏ فله قيراطان من الأجر كل واحد منهما أعظم من أحد ‏"‏ وتقدم أن في رواية أبي صالح عند مسلم ‏"‏ أصغرهما مثل أحد ‏"‏ وفي رواية أبي بن كعب عند ابن ماجه ‏"‏ القيراط أعظم من أحد هذا ‏"‏ كأنه أشار إلى الجبل عند ذكر الحديث، وفي حديث واثلة عند ابن عدي ‏"‏ كتب له قيراطان من أجر أخفهما في ميزانه يوم القيامة أثقل من جبل أحد ‏"‏ فأفادت هذه الرواية بيان وجه التمثيل بجبل أحد وأن المراد به زنة الثواب المرتب على ذلك العمل‏.‏

وفي حديث الباب من الفوائد غير ما تقدم الترغيب في شهود الميت، والقيام بأمره، والحض على الاجتماع له، والتنبيه على عظيم فضل الله وتكريمه للمسلم في تكثير الثواب لمن يتولى أمره بعد موته، وفيه تقدير الأعمال بنسبة الأوزان إما تقريبا للأفهام وإما على حقيقته‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب صَلَاةِ الصِّبْيَانِ مَعَ النَّاسِ عَلَى الْجَنَائِزِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب صلاة الصبيان مع الناس على الجنائز‏)‏ أورد فيه حديث ابن عباس في صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم على القبر، وقد تقدم توجيهه قبل ثلاثة أبواب، قال ابن رشيد‏:‏ أفاد بالترجمة الأولى بيان كيفية وقوف الصبيان مع الرجال وأنهم يصفون معهم لا يتأخرون عنهم، لقوله في الحديث الذي ساقه فيها ‏"‏ وأنا فيهم ‏"‏ وأفاد بهذه الترجمة مشروعية صلاة الصبيان على الجنائز، وهو وإن كان الأول دل عليه ضمنا لكن أراد التنصيص عليه وأخر هذه الترجمة عن فضل اتباع الجنائز ليبين أن الصبيان داخلون في قوله ‏"‏ من تبع جنازة‏"‏‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ بِالْمُصَلَّى وَالْمَسْجِدِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد‏)‏ قال ابن رشيد‏:‏ لم يتعرض المصنف لكون الميت بالمصلى أو لا لأن المصلى عليه كان غائبا وألحق حكم المصلى بالمسجد بدليل ما تقدم في العيدين وفي الحيض من حديث أم عطية ‏"‏ ويعتزل الحيض المصلى ‏"‏ فدل على أن للمصلى حكم المسجد فيما ينبغي أن يجتنب فيه ويلحق به ما سوى ذلك، وقد تقدم الكلام على ما في قصة الصلاة على النجاشي قبل خمسة أبواب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَعَى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ يَوْمَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقَالَ اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفَّ بِهِمْ بِالْمُصَلَّى فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا

الشرح‏:‏

قوله ‏"‏وعن ابن شهاب ‏"‏ هو معطوف على الإسناد المصدر به، وسيأتي الكلام على عدد التكبير بعد ثلاثة أبواب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر في رجم اليهوديين، سيأتي الكلام عليه مبسوطا في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى‏.‏

وحكى ابن بطال عن ابن حبيب أن مصلى الجنائز بالمدينة كان لاصقا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية جهة المشرق انتهى، فإن ثبت ما قال وإلا فيحتمل أن يكـون المراد بـالمسجد هنا المصلى المتخذ للعيـدين والاستسقاء لأنه لم يكن عند المسجد النبوي مكان يتهيأ فيه الرجم، وسيأتي في قصة ماعز ‏"‏ فرجمناه بالمصلى ‏"‏ ودل حديث ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكان معد للصلاة عليها فقد يستفاد منه أن ما وقع من الصلاة على بعض الجنائز في المسجد كان لأمر عارض أو لبيان الجواز‏.‏

والله أعلم‏.‏

واستدل به على مشروعية الصلاة على الجنائز في المسجد، ويقويه حديث عائشة ‏"‏ ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد ‏"‏ أخرجه مسلم، وبه قال الجمهور‏.‏

وقال مالك‏:‏ لا يعجبني، وكرهه ابن أبي ذئب وأبو حنيفة وكل من قال بنجاسة الميت، وأما من قال بطهارته منهم فلخشية التلويث، وحملوا الصلاة على سهيل بأنه كان خارج المسجد والمصلون داخله وذلك جائز اتفاقا، وفيه نظر لأن عائشة استدلت بذلك لما أنكروا عليها أمرها بالمرور بجنازة سعد على حجرتها لتصلي عليه، واحتج بعضهم بأن العمل استقر على ترك ذلك لأن الذين أنكروا ذلك على عائشة كانوا من الصحابة، ورد بأن عائشة لما أنكرت ذلك الإنكار سلموا لها فدل على أنها حفظت ما نسوه، وقد روى ابن أبي شيبة وغيره ‏"‏ أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد، وأن صهيبا صلى على عمر في المسجد ‏"‏ زاد في رواية ‏"‏ ووضعت الجنازة في المسجد تجاه المنبر ‏"‏ وهذا يقتضي الإجماع على جواز ذلك‏.‏

*3*باب مَا يُكْرَهُ مِنْ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ

وَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ضَرَبَتْ امْرَأَتُهُ الْقُبَّةَ عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً ثُمَّ رُفِعَتْ فَسَمِعُوا صَائِحًا يَقُولُ أَلَا هَلْ وَجَدُوا مَا فَقَدُوا فَأَجَابَهُ الْآخَرُ بَلْ يَئِسُوا فَانْقَلَبُوا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور‏)‏ ترجم بعد ثمانية أبواب ‏"‏ باب بناء المسجد على القبر ‏"‏ قال ابن رشيد‏:‏ الاتخاذ أعم من البناء فلذلك أفرده بالترجمة، ولفظها يقتضي أن بعض الاتخاذ لا يكره، فكأنه يفصل بين ما إذا ترتبت على الاتخاذ مفسدة أو لا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولما مات الحسن بن الحسن‏)‏ هو ممن وافق اسمه اسم أبيه، وكانت وفاته سنة سبع وتسعين وهو من ثقات التابعين وروى له النسائي، وله ولد يسمى الحسن أيضا فهم ثلاثة في نسق، واسم امرأته المذكورة فاطمة بنت الحسين وهي ابنة عمه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏القبة‏)‏ أي الخيمة، فقد جاء في موضع آخر بلفظ الفسطاط كما رويناه في الجزء السادس عشر من حديث الحسين بن إسماعيل بن عبد الله المحاملي رواية الأصبهانيين عنه، وفي كتاب ابن أبي الدنيا في القبور من طريق المغيرة بن مقسم قال ‏"‏ لما مات الحسن بن الحسن ضربت امرأته على قبره فسطاطا فأقامت عليه سنة ‏"‏ فذكر نحوه، ومناسبة هذا الأثر لحديث الباب أن المقيم في الفسطاط لا يخلو من الصلاة هناك، فيلزم اتخاذ المسجد عند القبر، وقد يكون القبر في جهة القبلة فتزداد الكراهة‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ إنما ضربت الخيمة هناك للاستمتاع بالميت بالقرب منه تعليلا للنفس، وتخييلا باستصحاب المألوف من الأنس، ومكابرة للحس، كما يتعلل بالوقوف على الأطلال البالية ومخاطبة المنازل الخالية، فجاءتهم الموعظة على لسان الهاتفين بتقبيح ما صنعوا، وكأنهما من الملائكة، أو من مؤمني الجن‏.‏

وإنما ذكره البخاري لموافقته للأدلة الشرعية لا لأنه دليل برأسه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ شَيْبَانَ عَنْ هِلَالٍ هُوَ الْوَزَّانُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا قَالَتْ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزُوا قَبْرَهُ غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن شيبان‏)‏ هو ابن عبد الرحمن النحوي، وهلال الوزان هو ابن أبي حميد على المشهور، وكذا وقع منسوبا عند ابن أبي شيبة والإسماعيلي وغيرهما‏.‏

وقال البخاري في تاريخه‏:‏ قال وكيع هلال بن حميد‏.‏

وقال مرة هلال بن عبد الله ولا يصح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مسجدا‏)‏ في رواية الكشميهني مساجد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لأبرز قبره‏)‏ أي لكشف قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتخذ عليه الحائل، والمراد الدفن خارج بيته، وهذا قالته عائشة قبل أن يوسع المسجد النبوي، ولهذا لما وسع المسجد جعلت حجرتها مثلثة الشكل محددة حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر مع استقبال القبلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏غير أني أخشى‏)‏ كذا هنا‏.‏

وفي رواية أبي عوانة عن هلال الآتية في أواخر الجنائز ‏"‏ غير أنه خشي أو خشي ‏"‏ على الشك هل هو بفتح الخاء المعجمة أو ضمها‏.‏

وفي رواية مسلم ‏"‏ غير أنه خشي ‏"‏ بالضم لا غير، فرواية الباب تقتضي أنها هي التي امتنعت من إبرازه، ورواية الضم مبهمة يمكن أن تفسر بهذه، والهاء ضمير الشأن وكأنها أرادت نفسها ومن وافقها على ذلك، وذلك يقتضي أنهم فعلوه باجتهاد، بخلاف رواية الفتح فإنها تقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمرهم بذلك، وقد تقدم الكلام على بقية فوائد المتن في أبواب المساجد في ‏"‏ باب هل تنبش قبور المشركين ‏"‏ قال الكرماني‏:‏ مفاد الحديث منع اتخاذ القبر مسجدا، ومدلول الترجمة اتخاذ المسجد على القبر، ومفهومهما متغاير، ويجاب بأنهما متلازمان وإن تغاير المفهوم‏.‏

*3*باب الصَّلَاةِ عَلَى النُّفَسَاءِ إِذَا مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الصلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها‏)‏ وقع في نسخة ‏"‏ من ‏"‏ يدل ‏"‏ في‏"‏، أي في مدة نفاسها أو بسبب نفاسها، والأول أعم من جهة أنه يدخل فيه من ماتت منه أو من غيره، والثاني أليق بخبر الباب فإن في بعض طرقه أنها ماتت حاملا وتقدم الكلام عليه في أثناء كتاب الحيض‏.‏

وحسين المذكور في هذا الإسناد هو ابن ذكوان المعلم، قال الزين بن المنير وغيره‏:‏ المفصود بهذه الترجمة أن النفساء وإن كانت معدودة من جملة الشهداء فإن الصلاة عليها مشروعة، بخلاف شهيد المعركة‏.‏

*3*باب أَيْنَ يَقُومُ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب أين يقوم‏)‏ أي الإمام من المرأة والرجل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ حَدَّثَنَا سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ عَلَيْهَا وَسَطَهَا

الشرح‏:‏

حديث سمرة المذكور في الباب ورد من وجه آخر عن حسين المعلم، وفيه مشروعية الصلاة على المرأة، فإن كونها نفساء وصف غير معتبر، وأما كونها امرأة فيحتمل أن يكون معتبرا فإن القيام عليها عند وسطها لسترها، وذلك مطلوب في حقها؛ بخلاف الرجل‏.‏

ويحتمل أن لا يكون معتبرا وأن ذلك كان قبل اتخاذ النعش للنساء، فأما بعد اتخاذه فقد حصل الستر المطلوب، ولهذا أورد المصنف الترجمة مورد السؤال، وأراد عدم التفرقة بين الرجل والمرأة، وأشار إلى تضعيف ما رواه أبو داود والترمذي من طريق أبي غالب عن أنس بن مالك أنه صلى على رجل فقام عند رأسه، وصلى على امرأة فقام عند عجيزتها، فقال له العلاء بن زياد‏:‏ أهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل‏؟‏ قال‏:‏ نعم وحكى ابن رشيد عن ابن المرابط أنه أبدى لكونها نفساء علة مناسبة وهي استقبال جنينها ليناله من بركة الدعاء، وتعقب بأن الجنين كعضو منها، ثم هو لا يصلى عليه إذا انفرد وكان سقطا فأحرى إذا كان باقيا في بطنها أن لا يقصد‏.‏

والله أعلم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ روى حماد بن زيد عن عطاء بن السائب أن عبد الله بن معقل بن مقرن أتي بجنازة رجل وامرأة فصلى على الرجل ثم صلى على المرأة أخرجه ابن شاهين في الجنائز له، وهو مقطوع فإن عبد الله تابعي‏.‏

*3*باب التَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَازَةِ أَرْبَعًا

وَقَالَ حُمَيْدٌ صَلَّى بِنَا أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ سَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ كَبَّرَ الرَّابِعَةَ ثُمَّ سَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب التكبير على الجنازة أربعا‏)‏ قال الزين بن المنير أشار بهذه الترجمة إلى أن التكبير لا يزيد على أربع، ولذلك لم يذكر ترجمة أخرى ولا خبرا في الباب، وقد اختلف السلف في ذلك‏:‏ فروى مسلم عن زيد بن أرقم أنه يكبر خمسا ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وروى ابن المنذر عن ابن مسعود أنه صلى على جنازة رجل من بني أسد فكبر خمسا، وروى ابن المنذر وغيره عن علي أنه كان يكبر على أهل بدر ستا وعلى الصحابة خمسا وعلى سائر الناس أربعا، وروي أيضا بإسناد صحيح عن أبي معبد قال صليت خلف ابن عباس على جنازة فكبر ثلاثا‏.‏

وسنذكر الاختلاف على أنس في ذلك‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ذهب أكثر أهل العلم إلى أن التكبير أربع، وفيه أقوال أخر، فذكر ما تقدم‏.‏

قال‏:‏ وذهب بكر بن عبد الله المزني إلى أنه لا ينقص من ثلاث ولا يزاد على سبع‏.‏

وقال أحمد مثله لكن قال‏:‏ لا ينقص من أربع‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ كبر ما كبر الإمام‏.‏

قال‏:‏ والذي نختاره ما ثبت عن عمر، ثم ساق بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب قال ‏"‏ كان التكبير أربعا وخمسا، فجمع عمر الناس على أربع ‏"‏ وروى البيهقي بإسناد حسن إلى أبي وائل قال ‏"‏ كانوا يكبرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعا وستا وخمسا وأربعا، فجمع عمر الناس على أربع كأطول الصلاة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال حميد‏:‏ صلى بنا أنس فكبر ثلاثا ثم سلم، فقيل له فاستقبل القبلة ثم كبر الرابعة ثم سلم‏)‏ لم أره موصولا من طريق حميد، وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس أنه كبر على جنازة ثلاثا ثم انصرف ناسيا، فقالوا يا أبا حمزة إنك كبرت ثلاثا فقال‏:‏ صفوا فصفوا، فكبر الرابعة‏.‏

وروي عن أنس الاقتصار على ثلاث‏.‏

قال ابن أبي شيبة‏:‏ حدثنا معاذ بن معاذ عن عمران ابن حدير قال‏:‏ صليت مع أنس بن مالك على جنازة فكبر عليها ثلاثا لم يزد عليها‏.‏

وروى ابن المنذر من طريق حماد بن سلمة عن يحيى بن أبي إسحاق قال قيل لأنس إن فلانا كبر ثلاثا فقال‏:‏ وهل التكبير إلا ثلاثا‏؟‏ انتهى قال مغلطاي إحدى الروايتين وهم‏.‏

قلت‏:‏ بل يمكن الجمع بين ما اختلف فيه على أنس إما بأنه كان يرى الثلاث مجزئة والأربع أكمل منها، وإما بأن من أطلق عنه الثلاث لم يذكر الأولى لأنها افتتاح الصلاة كما تقدم في باب سنة الصلاة من طريق ابن علية عن يحيى بن أبي إسحاق أن أنسا قال ‏"‏ أو ليس التكبير ثلاثا‏؟‏ فقيل له‏:‏ يا أبا حمزة التكبير أربعا‏.‏

قال‏:‏ أجل، غير أن واحدة هي افتتاح الصلاة ‏"‏ وقال ابن عبد البر‏:‏ لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال‏:‏ يزيد في التكبير على أربع إلا ابن أبي ليلى انتهى‏.‏

وفي المبسوط للحنفية قيل‏:‏ إن أبا يوسف قال يكبر خمسا‏.‏

وقد تقدم القول عن أحمد في ذلك‏.‏

ثم أورد المصنف حديث أبي هريرة في الصلاة على النجاشي، وقد تقدم الجواب عن إيراد من تعقبه بأن الصلاة على النجاشي صلاة على غائب لا على جنازة، ومحصل الجواب أن ذلك بطريق الأولى‏.‏

وقد روى ابن أبي داود في ‏"‏ الأفراد ‏"‏ من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة فكبر أربعا وقال‏:‏ لم أر في شيء من الأحاديث الصحيحة أنه كبر على جنازة أربعا إلا في هذا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ سَلِيمٍ أَصْحَمَةَ وَتَابَعَهُ عَبْدُ الصَّمَدِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال يزيد بن هرون وعبد الصمد عن سليم‏)‏ يعني بإسناده إلى جابر ‏(‏أصحمة‏)‏ ووقع في رواية المستملي وقال يزيد عن سليم أصحمة وتابعه عبد الصمد، أما رواية يزيد فوصلها المصنف في هجرة الحبشة عن أبي بكر بن أبي شيبة عنه، وأما رواية عبد الصمد فوصلها الإسماعيلي من طريق أحمد بن سعيد عنه‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ وقع في جميع الطرق التي اتصلت لنا من البخاري أصحمة بمهملتين بوزن أفعلة مفتوح العين في المسند والمعلق معا، وفيه نظر لأن إيراد المصنف يشعر بأن يزيد خالف محمد بن سنان، وأن عبد الصمد تابع يزيد، ووقع في مصنف ابن أبي شيبة عن يزيد صحمة بفتح الصاد وسكون الحاء فهذا متجه، ويتحصل منه أن الرواة اختلفوا في إثبات الألف وحذفها‏.‏

وحكى الإسماعيلي أن في رواية عبد الصمد أصخمة بخاء معجمة وإثبات الألف، قال‏:‏ وهو غلط فيحتمل أن يكون هذا محل الاختلاف الذي أشار إليه البخاري‏.‏

وحكى كثير من الشراح أن رواية يزيد ورفيقه صحمة بالمهملة بغير ألف، وحكى الكرماني أن في بعض النسخ في رواية محمد بن سنان أصحبة بموحدة بدل الميم‏.‏

*3*باب قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْجَنَازَةِ

وَقَالَ الْحَسَنُ يَقْرَأُ عَلَى الطِّفْلِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا وَسَلَفًا وَأَجْرًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة‏)‏ أي مشروعيتها، وهي من المسائل المختلف فيها، ونقل ابن المنذر عن ابن مسعود والحسن بن علي وابن الزبير والمسور بن مخرمة مشروعيتها، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق‏.‏

ونقل عن أبي هريرة وابن عمر ليس فيها قراءة وهو قول مالك والكوفيين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الحسن إلخ‏)‏ وصله عبد الوهاب بن عطاء في ‏"‏ كتاب الجنائز ‏"‏ له عن سعيد بن أبي عروبة أنه سئل عن الصلاة على الصبي فأخبرهم عن قتادة عن الحسن أنه كان يكبر ثم يقرأ فاتحة الكتاب ثم يقول‏:‏ اللهم اجعله لنا سلفا وفرطا وأجرا‏.‏

وروى عبد الرزاق والنسائي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال ‏"‏ السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر ثم يقرأ بأم القرآن ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخلص الدعاء للميت ولا يقرأ إلا في الأولى ‏"‏ إسناده صحيح‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدٍ عَنْ طَلْحَةَ قَالَ صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ح حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى جَنَازَةٍ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَالَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن سعد‏)‏ هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، وطلحة هو ابن عبد الله بن عوف الخزاعي كما نسبهما في الإسناد الثاني‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ ليس في حديث الباب بيان محل قراءة الفاتحة، وقد وقع التصريح به في حديث جابر أخرجه الشافعي بلفظ ‏"‏ وقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى ‏"‏ أفاده شيخنا في شرح الترمذي وقال إن سنده ضعيف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لتعلموا أنها سنة‏)‏ قال الإسماعيلي‏:‏ جمع البخاري بين روايتي شعبة وسفيان، وسياقهما مختلف ا هـ‏.‏

فأما رواية شعبة فقد أخرجها ابن خزيمة في صحيحه والنسائي جميعا عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه بلفظ ‏"‏ فأخذت بيده فسألته عن ذلك فقال‏:‏ نعم يا ابن أخي، إنه حق وسنة ‏"‏ وللحاكم من طريق آدم عن شعبة ‏"‏ فسألته فقلت‏:‏ يقرأ‏؟‏ نعم، إنه حق وسنة‏"‏‏.‏

وأما رواية سفيان فأخرجها الترمذي من طريق عبد الرحمن بن مهدي عنه بلفظ ‏"‏ فقال‏:‏ أنه من السنة، أو من تمام السنة ‏"‏ وأخرجه النسائي أيضا من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه بهذا الإسناد بلفظ ‏"‏ فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده فسألته، فقال‏:‏ سنة وحق ‏"‏ وللحاكم من طريق ابن عجلان أنه سمع سعيد بن أبي سعيد يقول‏:‏ ‏"‏ صلى ابن عباس على جنازة فجهر بالحمد ثم قال‏:‏ إنما جهرت لتعلموا أنها سنة ‏"‏ وقد أجمعوا على أن قول الصحابي ‏"‏ سنة ‏"‏ حديث مسند، كذا نقل الإجماع، مع أن الخلاف عند أهل الحديث وعند الأصوليين شهير، وعلى الحاكم فيه مأخذ آخر وهو استدراكه له وهو في البخاري، وقد روى الترمذي من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب وقال‏:‏ لا يصح هذا، والصحيح عن ابن عباس قوله ‏"‏ من السنة ‏"‏ وهذا مصير منه إلى الفرق بين الصيغتين، ولعله أراد الفرق بالنسبة إلى الصراحة والاحتمال، والله أعلم‏.‏

وروى الحاكم أيضا من طريق شرحبيل بن سعد عن ابن عباس أنه صلى على جنازة بالأبواء فكبر، ثم قرأ الفاتحة رافعا صوته، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ اللهم عبدك وابن عبدك أصبح فقيرا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه، إن كان زاكيا فزكه، وإن كان مخطئا فاغفر له‏.‏

اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده‏.‏

ثم كبر ثلاث تكبيرات ثم انصرف فقال يا أيها الناس، إني لم أقرأ عليها - أي جهرا - إلا لتعلموا أنها سنة‏"‏‏.‏

قال الحاكم‏:‏ شرحبيل لم يحتج به الشيخان، وإنما أخرجته لأنه مفسر للطرق المتقدمة انتهى‏.‏

وشرحبيل مختلف في توثيقه، واستدل الطحاوي على ترك القراءة في الأولى بتركها في باقي التكبيرات وبترك التشهد، قال‏:‏ ولعل قراءة من قرأ الفاتحة من الصحابة كان على وجه الدعاء لا على وجه التلاوة‏.‏

وقوله ‏"‏أنها سنة ‏"‏ يحتمل أن يريد أن الدعاء سنة انتهى‏.‏

ولا يخفى ما يجيء على كلامه من التعقب، وما يتضمنه استدلاله من التعسف‏.‏

*3*باب الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ مَا يُدْفَنُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الصلاة على القبر بعدما يدفن‏)‏ وهذه أيضا من المسائل المختلف فيها، قال ابن المنذر قال بمشروعيته الجمهور، ومنعه النخعي ومالك وأبو حنيفة، وعنهم إن دفن قبل أن يصلى عليه شرع إلا فلا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ قَالَ أَخْبَرَنِي مَنْ مَرَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَأَمَّهُمْ وَصَلَّوْا خَلْفَهُ قُلْتُ مَنْ حَدَّثَكَ هَذَا يَا أَبَا عَمْرٍو قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قلت من حدثك هذا يا أبا عمرو‏)‏ القائل هو الشيباني، والمقول له هو الشعبي‏.‏

وقد تقدم في ‏"‏ باب الإذن بالجنازة ‏"‏ بأتم من هذا السياق، وفيه عن الشيباني عن الشعبي عن ابن عباس، وتكلما هناك على ما ورد في تسمية المقبور المذكور‏.‏

ووقع في الأوسط للطبراني من طريق محمد بن الصباح الدولابي عن إسماعيل بن زكريا عن الشيباني أنه صلى عليه بعد دفنه بليلتين‏.‏

وقال‏:‏ إن إسماعيل تفرد بذلك‏.‏

ورواه الدارقطني من طريق هريم بن سفيان عن الشيباني فقال ‏"‏ بعد موته بثلاث ‏"‏ ومن طريق بشر بن آدم عن أبي عاصم عن سفيان الثوري عن الشيباني فقال ‏"‏ بعد شهر ‏"‏ وهذه روايات شاذة، وسياق الطرق الصحيحة يدل على أنه صلى عليه في صبيحة دفنه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَسْوَدَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً كَانَ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَمَاتَ وَلَمْ يَعْلَمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْتِهِ فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ مَا فَعَلَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ قَالُوا مَاتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَفَلَا آذَنْتُمُونِي فَقَالُوا إِنَّهُ كَانَ كَذَا وَكَذَا قِصَّتُهُ قَالَ فَحَقَرُوا شَأْنَهُ قَالَ فَدُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ

الشرح‏:‏

قوله في حديث أبي هريرة ‏(‏فأتى قبره فصلى عليه‏)‏ زاد ابن حبان في رواية حماد بن سلمة عن ثابت ‏"‏ ثم قال إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها عليهم بصلاتي ‏"‏ وأشار إلى أن بعض المخالفين احتج بهذه الزيادة على أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم ساق من طريق خارجة بن زيد بن ثابت نحو هذه القصة وفيها ‏"‏ ثم أتى القبر فصففنا خلفه وكبر عليه أربعا ‏"‏ قال ابن حبان‏:‏ في ترك إنكاره صلى الله عليه وسلم على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، وأنه ليس من خصائصه‏.‏

وتعقب بأن الذي يقع بالتبعية لا ينهض دليلا للأصالة، واستدل بخبر الباب على رد التفصيل بين من صلى عليه فلا يصلى عليه بأن القصة وردت فيمن صلى عليه، وأجيب بأن الخصوصية تنسحب على ذلك‏.‏

واختلف من قال بشرع الصلاة لمن لم يصل فقيل‏:‏ يؤخر دفنه ليصلي عليها من كان لم يصل، وقيل‏:‏ يبادر بدفنها ويصلي الذي فاتته على القبر، وكذا اختلف في أمد ذلك‏:‏ فعند بعضهم إلى شهر، وقيل ما لم يبل الجسد، وقيل‏:‏ يختص بمن كان من أهل الصلاة عليه حين موته وهو الراجح عند الشافعية، وقيل‏:‏ يجوز أبدا‏.‏

*3*باب الْمَيِّتُ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الميت يسمع خفق النعال‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ جرد المصنف ما ضمنه هذه الترجمة ليجعله أول آداب الدفن من إلزام الوقار واجتناب اللغط وقرع الأرض بشدة الوطء عليها كما يلزم ذلك مع الحي النائم، وكأنه اقتطع ما هو من سماع الآدميين من سماع ما هو من الملائكة، وترجم بالخفق ولفظ المتن بالقرع إشارة إلى ما ورد في بعض طرقه بلفظ الخفق وهو ما رواه أحمد وأبو داود من حديث البراء بن عازب في أثناء حديث طويل فيه ‏"‏ وأنه ليسمع خفق نعالهم ‏"‏ وروى إسماعيل بن عبد الرحمن السدي عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أن الميت ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين ‏"‏ أخرجه البزار وابن حبان في صحيحه هكذا مختصرا‏.‏

وأخرج ابن حبان أيضا من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ نحوه في حديث طويل، واستدل به على جواز المشي بين القبور بالنعال، ولا دلالة فيه‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ ليس في الحديث سوى الحكاية عمن يدخل المقابر، وذلك لا يقتضي إباحة ولا تحريما انتهى‏.‏

وإنما استدل به من استدل على الإباحة أخذا من كونه صلى الله عليه وسلم قاله وأقره فلو كان مكروها لبينه، لكن يعكر عليه احتمال أن يكون المراد سماعه إياها بعد أن يجاوز المقبرة، ويدل على الكراهة حديث بشير بن الخصاصية ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يمشي بين القبور وعليه نعلان سبتيتان فقال‏:‏ يا صاحب السبتيتين ألق نعليك ‏"‏ أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم‏.‏

وأغرب ابن حزم فقال‏:‏ يحرم المشي بين القبور بالنعال السبتية دون غيرها، وهو جمود شديد‏.‏

وأما قول الخطابي يشبه أن يكون النهي عنهما لما فيهما من الخيلاء فإنه متعقب بأن ابن عمر كان يلبس النعال السبتية ويقول ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبسها ‏"‏ وهو حديث صحيح كما سيأتي في موضعه‏.‏

وقال الطحاوي‏:‏ يحمل نهي الرجل المذكور على أنه كان في نعليه قذر، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه ما لم ير فيهما أذى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ قَالَ وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولَانِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَيُقَالُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوْ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالُ لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عياش‏)‏ هو ابن الوليد الرقام كما جزم به أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ وهو بتحتانية ومعجمة، وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى‏.‏

وساق حديثه مقرونا برواية خليفة عن يزيد بن زريع على لفظ خليفة، وسيأتي مفردا في عذاب القبر عن عياش بن الوليد بلفظه وما فيه من زيادة، ويأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله‏.‏

وقوله هنا ‏"‏ إذا وضع في قبره وتولي وذهب أصحابه ‏"‏ كذا ثبت في جميع الروايات فقال ابن التين‏:‏ إنه كرر اللفظ والمعني واحد، ورأيته أنا مضبوطا بخط معتمد ‏"‏ وتولي ‏"‏ بضم أوله وكسر اللام على البناء للمجهول، أي تولي أمره أي الميت، وسيأتي في رواية عياش بلفظ ‏"‏ وتولى عنه أصحابه ‏"‏ وهو الموجود في جميع الروايات عند مسلم وغيره‏.‏

*3*باب مَنْ أَحَبَّ الدَّفْنَ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أَوْ نَحْوِهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة أو نحوها‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ المراد بقوله ‏"‏ أو نحوها ‏"‏ بقية ما تشد إليه الرجال من الحرمين وكذلك ما يمكن من مدافن الأنبياء وقبور الشهداء والأولياء تيمنا بالجوار وتعرضا للرحمة النازلة عليهم اقتداء بموسى عليه السلام، انتهى‏.‏

وهذا بناء على أن المطلوب القرب من الأنبياء الذين دفنوا ببيت المقدس، وهو الذي رجحه عياض‏.‏

وقال المهلب‏:‏ إنما طلب ذلك ليقرب عليه المشي إلى المحشر وتسقط عنه المشقة الحاصلة لمن بعد عنه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ ارْجِعْ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ قَالَ أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَاذَا قَالَ ثُمَّ الْمَوْتُ قَالَ فَالْآنَ فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنْ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ أرسل ملك الموت إلى موسى ‏"‏ الحديث أورده المصنف بطوله من طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه عنه ولم يذكر فيه الرفع، وقد ساقه في أحاديث الأنبياء من هذا الوجه ثم قال‏:‏ وعن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وقد ساقه مسلم من طريق معمر بالسندين كذلك‏.‏

وقوله فيه ‏"‏ رمية بحجر ‏"‏ أي قدر رمية حجر، أي أدنني من مكان إلى الأرض المقدسة هذا القدر، أو أدنني إليها حتى يكون بيني وبينها هذا القدر، وهذا الثاني أظهر، وعليه شرح ابن بطال وغيره‏.‏

وأما الأول فهو وإن رجحه بعضهم فليس بجيد إذ لو كان كذلك لطلب الدنو أكثر من ذلك، ويحتمل أن يكون القدر الذي كان بينه وبين أول الأرض المقدسة كان قدر رمية فلذلك طلبها، لكن حكى ابن بطال عن غيره أن الحكمة في أنه لم يطلب دخولها ليعمى موضع قبره لئلا تعبده الجهال من ملته انتهى‏.‏

ويحتمل أن يكون سر ذلك أن الله لما منع بنى إسرائيل من دخول بيت المقدس وتركهم في التيه أربعين سنة إلى أن أفناهم الموت فلم يدخل الأرض المقدسة مع يوشع إلا أولادهم، ولم يدخلها معه أحد ممن امتنع أولا أن يدخلها كما سيأتي شرح ذلك في أحاديث الأنبياء ومات هرون ثم موسى عليهما السلام قبل فتح الأرض المقدسة على الصحيح كما سيأتي واضحا أيضا، فكأن موسى لما لم يتهيأ له دخولها لغلبة الجبارين عليها ولا يمكن نبشه بعد ذلك لينقل إليها طلب القرب منها لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه، وقيل إنما طلب موسى الدنو لأن النبي يدفن حيث يموت ولا ينقل، وفيه نظر لأن موسى قد نقل يوسف عليهما السلام معه لما خرج من مصر كما سيأتي ذلك في ترجمته إن شاء الله تعالى، وهذا كله بناء على الاحتمال الثاني والله أعلم‏.‏

واختلف في جواز نقل الميت من بلد إلى بلد، فقيل‏:‏ يكره لما فيه من تأخير دفنه وتعريضه لهتك حرمته، وقيل يستحب، والأولى تنزيل ذلك على حالتين‏:‏ فالمنع حيث لم يكن هناك غرض راجح كالدفن في البقاع الفاضلة، وتختلف الكراهة في ذلك فقد تبلغ التحريم، والاستحباب حيث يكون ذلك بقرب مكان فاضل كما نص الشافعي على استحباب نقل الميت إلى الأرض الفاضلة كمكة وغيرها‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب الدَّفْنِ بِاللَّيْلِ

وَدُفِنَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْلًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الدفن بالليل‏)‏ أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من منع ذلك محتجا بحديث جابر ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر أن يقبر الرجل ليلا إلا أن يضطر إلى ذلك ‏"‏ أخرجه ابن حبان، لكن بين مسلم في روايته السبب في ذلك ولفظه ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوما فذكر رجلا من أصحابه قبض وكفن في كفن غير طائل وقبر ليلا، فزجر أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلي عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك‏.‏

وقال إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه ‏"‏ فدل على أن النهي بسبب تحسين الكفن‏.‏

وقوله ‏"‏حتى يصلي عليه ‏"‏ مضبوط بكسر اللام أي النبي صلى الله عليه وسلم فهذا سبب آخر يقتضي أنه إن رجي بتأخير الميت إلى الصباح صلاة من ترجى بركته عليه استحب تأخيره، وإلا فلا، وبه جزم الطحاوي‏.‏

واستدل المصنف للجواز بما ذكره من حديث ابن عباس ‏"‏ ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم دفنهم إياه بالليل، بل أنكر عليهم عدم إعلامهم بأمره ‏"‏ وأيد ذلك بما صنع الصحابة بأبي بكر، وكان ذلك كالإجماع منهم على الجواز‏.‏

وقد تقدم الكلام على حديث ابن عباس قريبا‏.‏

وأما أثر أبي بكر فوصله المصنف في أواخر الجنائز في ‏"‏ باب موت يوم الاثنين ‏"‏ من حديث عائشة وفيه ‏"‏ ودفن أبو بكر قبل أن يصبح ‏"‏ ولابن أبي شيبة من حديث القاسم بن محمد قال ‏"‏ دفن أبو بكر ليلا ‏"‏ ومن حديث عبيد بن السباق ‏"‏ أن عمر دفن أبا بكر بعد العشاء الآخرة ‏"‏ وصح أن عليا دفن فاطمة ليلا كما سيأتي في مكانه‏.‏

*3*باب بِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْقَبْرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب بناء المسجد على القبر‏)‏ أورد فيه حديث عائشة في لعن من بنى على القبر مسجدا، وقد تقدم الكلام عليه قبل ثمانية أبواب‏.‏

قال الزين بن المنير‏:‏ كأنه قصد بالترجمة الأولى اتخاذ المساجد في المقبرة لأجل القبور بحيث لولا تجدد القبر ما اتخذ المسجد‏.‏

ويؤيده بناء المسجد في المقبرة على حدته لئلا يحتاج إلى الصلاة فيوجد مكان يصلى فيه سوى المقبرة، فلذلك نحا به منحى الجواز انتهى‏.‏

وقد تقدم أن المنع من ذلك إنما هو حال خشية أن يصنع بالقبر كما صنع أولئك الذين لعنوا، وأما إذا أمن ذلك فلا امتناع، وقد يقول بالمنع مطلقا من يرى سد الذريعة وهو هنا متجه قوي‏.‏

*3*باب مَنْ يَدْخُلُ قَبْرَ الْمَرْأَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من يدخل قبر المرأة‏)‏ أورد فيه حديث أنس في دفن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزول أبي طلحة في قبرها، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في ‏"‏ باب الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ شَهِدْنَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ فَقَالَ هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ لَمْ يُقَارِفْ اللَّيْلَةَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَنَا قَالَ فَانْزِلْ فِي قَبْرِهَا فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا فَقَبَرَهَا قَالَ ابْنُ مُبَارَكٍ قَالَ فُلَيْحٌ أُرَاهُ يَعْنِي الذَّنْبَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ لِيَقْتَرِفُوا أَيْ لِيَكْتَسِبُوا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال ابن المبارك‏)‏ تقضم هناك أن الإسماعيلي وصله من طريقه‏.‏

ووقع في رواية أبي الحسن القابسي هنا ‏"‏ قال أبو المبارك ‏"‏ بلفظ الكنية، ونقل أبو علي الجياني عنه أنه قال‏:‏ أبو المبارك كنية محمد بن سنان يعني راوي الطريق الموصولة، وتعقبه بأن محمد بن سنان يكنى أبا بكر بغير خلاف عند أهل العلم بالحديث، والصواب ابن المبارك كما في بقية الطرق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ليقترفوا‏:‏ ليكتسبوا‏)‏ ثبت هذا في رواية الكشميهني، وهذا تفسير ابن عباس أخرجه الطبراني من طريق علي بن أبي طلحة عنه، قال في قوله تعالى ‏(‏وليقترفوا ما هم مقترفون‏)‏ ‏:‏ ليكتسبوا ما هم مكتسبون‏.‏

وفي هذا مصير من البخاري إلى تأييد ما قاله ابن المبارك عن فليح، أو أراد أن يوجه الكلام المذكور، وأن لفظ المقارفة في الحديث أريد به ما هو أخص من ذلك وهو الجماع‏.‏