فصل: باب الْبَيْعَةِ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*1*المجلد الثاني

*2*كتاب مواقيت الصلاة

*3*باب مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَفَضْلِهَا

وَقَوْلِهِ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا مُوَقَّتًا وَقَّتَهُ عَلَيْهِمْ

الشرح‏:‏

‏(‏باب مواقيت الصلاة - بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏ كذا للمستملي وبعده البسملة، ولرفيقيه البسملة مقدمة وبعدها ‏"‏ باب مواقيت الصلاة وفضلها ‏"‏ وكذا في نسخة الصغاني، وكذا لكريمة لكن بلا بسملة، وكذا للأصيلي لكن بلا باب‏.‏

و ‏"‏ المواقيت ‏"‏ جمع ميقات وهو مفعال من الوقت وهو القدر المحدد للفعل من الزمان أو المكان‏.‏

قوله ‏(‏كتابا موقوتا موقتا وقته عليهم‏)‏ كذا وقع في أكثر الروايات، وسقط في بعضها لفظ ‏"‏ موقتا ‏"‏ فاستشكل ابن التبن تشديد القاف من وقته‏.‏

وقال‏:‏ المعروف في اللغة التخفيف ا هـ‏.‏

والظاهر أن المصنف أراد بقوله ‏"‏ موقتا ‏"‏ بيان أن قوله ‏"‏ موقوتا ‏"‏ من التوقيت، فقد جاء عن مجاهد في معنى قوله موقوتا قال‏:‏ مفروضا، وعن غيره محدودا‏.‏

وقال صاحب المنتهى‏:‏ كل شيء جعل له حين وغاية فهو موقت، يقال وقته ليوم كذا، أي أجله‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا وَهُوَ بِالْعِرَاقِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ فَصَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ بِهَذَا أُمِرْتُ فَقَالَ عُمَرُ لِعُرْوَةَ اعْلَمْ مَا تُحَدِّثُ أو أن جِبْرِيلَ هُوَ أَقَامَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقْتَ الصَّلَاةِ قَالَ عُرْوَةُ كَذَلِكَ كَانَ بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ عُرْوَةُ وَلَقَدْ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا عبد الله بن مسلمة‏)‏ هو القعنبي، وهذا الحديث أول شيء في الموطأ، ورجاله كلهم مدنيون‏.‏

قوله ‏(‏أخر الصلاة يوما‏)‏ وللمصنف في بدء الخلق من طريق الليث عن ابن شهاب بيان الصلاة المذكورة ولفظه ‏"‏ أخر العصر شيئا ‏"‏ قال ابن عبد البر‏:‏ ظاهر سياقه أنه فعل ذلك يوما ما، لا أن ذلك كان عادة له وإن كان أهل بيته معروفين بذلك ا ه‏.‏

وسيأتي بيان ذلك قريبا في ‏"‏ باب تضييع الصلاة عن وقتها ‏"‏ وكذا في نسخة الصغاني‏.‏

وفي رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب ‏"‏ أخر الصلاة مرة ‏"‏ يعني العصر، وللطبراني من طريق أبي بكر بن حزم أن عروة حدث عمر بن عبد العزيز - وهو يومئذ أمير المدينة في زمان الوليد بن عبد الملك - وكان ذلك زمان يؤخرون فيه الصلاة، يعني بني أمية‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ المراد أنه أخرها حتى خرج الوقت المستحب، لا أنه أخرها حتى غربت الشمس ا هـ‏.‏

ويؤيده سياق رواية الليث المتقدمة‏.‏

وأما ما رواه الطبراني من طريق يزيد بن أبي حبيب عن أسامة بن زيد الليثي عن ابن شهاب في هذا الحديث قال ‏"‏ دعا المؤذن لصلاة العصر فأمسى عمر بن عبد العزيز قيل أن يصليها ‏"‏ فمحمول على أنه قارب المساء لا أنه دخل فيه‏.‏

وقد رجع عمر بن عبد العزيز عن ذلك، فروى الأوزاعي عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز - يعني في خلافته - كان يصلي الظهر في الساعة الثامنة والعصر في الساعة العاشرة حين تدخل‏.‏

قوله ‏(‏أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوما‏)‏ بين عبد الرزاق في روايته عن ابن جريج عن ابن شهاب أن الصلاة المذكورة العصر أيضا، ولفظه ‏"‏ أمسى المغيرة بن شعبة بصلاة العصر‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وهو بالعراق‏)‏ في الموطأ رواية القعنبي وغيره عن مالك ‏"‏ وهو بالكوفة‏"‏، وكذا أخرجه الإسماعيلي عن أبي خليفة عن القعنبي‏.‏

والكوفة من جملة العراق، فالتعبير بها أخص من التعبير بالعراق، وكان المغيرة إذ ذاك أميرا عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان‏.‏

قوله ‏(‏أبو مسعود‏)‏ أي عقبة بن عمرو البدري‏.‏

قوله ‏(‏ما هذا‏)‏ أي التأخير‏.‏

قوله ‏(‏أليس‏)‏ كذا الرواية، وهو استعمال صحيح، لكن الأكثر في الاستعمال في مخاطبة الحاضر ‏"‏ ألست ‏"‏ وفي مخاطبة الغائب ‏"‏ أليس‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قد علمت‏)‏ قال عياض يدل ظاهره على علم المغيرة بذلك، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل الظن من أبي مسعود لعلمه بصحبة المغيرة‏.‏

قلت‏:‏ ويؤيد الأول رواية شعيب عن ابن شهاب عند المصنف في غزوة بدر بلفظ ‏"‏ فقال لقد علمت ‏"‏ بغير أداة استفهام، ونحوه لعبد الرزاق عن معمر وابن جريج جميعا‏.‏

قوله ‏(‏أن جبريل نزل‏)‏ بين ابن إسحاق في المغازي أن ذلك كان صبيحة الليلة التي فرضت فيها الصلاة وهي ليلة الإسراء، قال ابن إسحاق ‏"‏ حدثني عتبة بن مسلم عن نافع بن جبير ‏"‏ وقال عبد الرزاق ‏"‏ عن ابن جريج قال‏:‏ قال نافع بن جبير وغيره‏:‏ لما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم من الليلة التي أسرى به لم يرعه إلا جبريل نزل حين زاغت الشمس، ولذلك سميت ‏"‏ الأولى ‏"‏ أي صلاة الظهر، فأمر فصيح بأصحابه‏:‏ ‏"‏ الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصلى به جبريل وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس ‏"‏ فذكر الحديث، وفيه رد على من زعم أن بيان الأوقات إنما وقع بعد الهجرة، والحق أن ذلك وقع قبلها ببيان جبريل، وبعدها ببيان النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله ‏(‏نزل فصلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ قال عياض‏:‏ ظاهره أن صلاته كانت بعد فراغ صلاة جبريل، لكن المنصوص في غيره أن جبريل أم النبي صلى الله عليه وسلم، فيحمل قوله ‏"‏ صلى فصلى ‏"‏ على أن جبريل كان كلما فعل جزءا من الصلاة تابعه النبي صلى الله عليه وسلم بفعله ا ه‏.‏

وبهذا جزم النووي‏.‏

وقال غيره‏:‏ الفاء بمعنى الواو، واعترض بأنه يلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يتقدم في بعض الأركان على جبريل على ما يقتضيه مطلق الجمع‏.‏

وأجيب بمراعاة الحيثية وهي التبيين، فكان لأجل ذلك يتراخى عنه‏.‏

وقيل‏:‏ الفاء للسببية كقوله تعالى ‏(‏فوكزه موسى فقضى عليه‏)‏ وفي رواية الليث عند المصنف وغيره ‏"‏ نزل جبريل فأمنى فصليت معه‏"‏‏.‏

وفي رواية عبد الرزاق عن معمر ‏"‏ نزل فصلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الناس معه ‏"‏ وهذا يؤيد رواية نافع بن جبير المتقدمة، وإنما دعاهم إلى الصلاة بقوله ‏"‏ الصلاة جامعة ‏"‏ لأن الأذان لم يكن شرع حينئذ، واستدل بهذا الحديث على جواز الائتمام بمن يأتم بغيره، ويجاب عنه بما يجاب به عن قصة أبي بكر في صلاته خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلاة الناس خلفه، فإنه محمول على أنه كان مبلغا فقط كما سيأتي تقريره في أبواب الإمامة‏.‏

واستدل به أيضا على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل من جهة أن الملائكة ليسوا مكلفين بمثل ما كلف به الإنس‏.‏

قاله ابن العربي وغيره‏.‏

وأجاب عياض باحتمال أن لا تكون تلك الصلاة كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ‏.‏

وتعقبه بما تقدم من أنها كانت صبيحة ليلة فرض الصلاة، وأجاب باحتمال أن الوجوب عليه كان معلقا بالبيان، فلم يتحقق الوجوب إلا بعد تلك الصلاة‏.‏

قال‏:‏ وأيضا لا نسلم أن جبريل كان متنفلا بل كانت تلك الصلاة واجبة عليه لأنه مكلف بتبليغها، فهي صلاة مفترض خلف مفترض ا ه‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ قد يتعلق به من يجوز صلاة مفترض بفرض خلف مفترض بفرض آخر، كذا قال، وهو مسلم له في صورة المؤداة مثلا خلف المقضية لا في صورة الظهر خلف العصر مثلا‏.‏

قوله ‏(‏بهذا أمرت‏)‏ بفتح المثناة على المشهور، والمعنى هذا الذي أمرت به أن تصليه كل يوم وليلة، وروى بالضم، أي هذا الذي أمرت بتبليغه لك‏.‏

قوله ‏(‏اعلم‏)‏ بصيغة الأمر‏.‏

قوله ‏(‏أو إن جبريل‏)‏ بفتح الهمزة وهي للاستفهام والواو هي العاطفة والعطف على شيء مقدر وبكسر همزة إن ويجوز الفتح‏.‏

قوله ‏(‏وقوت الصلاة‏)‏ كذا للمستملي بصيغة الجمع، وللباقين ‏"‏ وقت الصلاة ‏"‏ بالإفراد وهو للجنس‏.‏

قوله ‏(‏كذلك كان بشير‏)‏ هو بفتح الموحدة بعدها معجمة بوزن فعيل‏.‏

وهو تابعي جليل ذكر في الصحابة لكونه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ورآه‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ هذا السياق منقطع عند جماعة من العلماء لأن ابن شهاب لم يقل حضرت مراجعة عروة لعمر، وعروة لم يقل حدثني بشير، لكن الاعتبار عند الجمهور بثبوت اللقاء والمجالسة لا بالصيغ ا ه‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ أعلم أن الحديث بهذا الطريق ليس متصل الإسناد إذ لم يقل أبو مسعود‏:‏ شاهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قلت‏:‏ هذا لا يسمى منقطعا اصطلاحا، وإنما هو مرسل صحابي لأنه لم يدرك القصة، فاحتمل أن يكون سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم أو بلغه عنه بتبليغ من شاهده أو سمعه كصحابي آخر‏.‏

على أن رواية الليث عند المصنف تزيل الإشكال كله، ولفظه ‏"‏ فقال عروة‏:‏ سمعت بشير بن أبي مسعود يقول‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ فذكر الحديث‏.‏

وكذا سياق ابن شهاب، وليس فيه التصريح بسماعه له من عروة، وابن شهاب قد جرب عليه التدليس، لكن وقع في رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب قال ‏"‏ كنا مع عمر بن عبد العزيز‏"‏؛ فذكره‏.‏

وفي رواية شعيب عن الزهري ‏"‏ سمعت عروة يحدث عمر بن عبد العزيز ‏"‏ الحديث‏.‏

قال القرطبي‏:‏ قول عروة إن جبريل نزل ليس فيه حجة واضحة على عمر بن عبد العزيز إذ لم يعين له الأوقات‏.‏

قال‏:‏ وغاية ما يتوهم عليه أنه نبهه وذكره بما كان يعرفه من تفاصيل الأوقات‏.‏

قال‏:‏ وفيه بعد، لإنكار عمر على عروة حيث قال له ‏"‏ اعلم ما تحدث يا عروة ‏"‏ قال‏:‏ وظاهر هذا الإنكار أنه لم يكن عنده علم من إمامة جبريل‏.‏

قلت‏:‏ لا يلزم من كونه لم يكن عنده علم منها أن لا يكون عنده علم بتفاصيل الأوقات المذكورة من جهة العمل المستمر، لكن لم يكن يعرف أن أصله بتبيين جبريل بالفعل، فلهذا استثبت فيه، وكأنه كان يرى أن لا مفاضلة بين أجزاء الوقت الواحد، وكذا يحمل عمل المغيرة وغيره من الصحابة، ولم أقف في شيء من الروايات على جواب المغيرة لأبي مسعود، والظاهر أنه رجع إليه والله أعلم‏.‏

وأما ما زاده عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري في هذه القصة قال‏:‏ فلم يزل عمر يعلم الصلاة بعلامة حتى فارق الدنيا، ورواه أبو الشيخ في ‏"‏ كتاب المواقيت ‏"‏ له من طريق الوليد عن الأوزاعي عن الزهري قال ‏"‏ ما زال عمر بن عبد العزيز يتعلم مواقيت الصلاة حتى مات‏"‏‏.‏

ومن طريق إسماعيل بن حكيم ‏"‏ أن عمر بن عبد العزيز جعل ساعات ينقضين مع غروب الشمس ‏"‏ زاد من طريق ابن إسحاق عن الزهري ‏"‏ فما أخرها حتى مات ‏"‏ فكله يدل على أن عمر لم يكن يحتاط في الأوقات كثير احتياط إلا بعد أن حدثه عروة بالحديث المذكور‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ ورد في هذه القصة من وجه آخر عن الزهري بيان أبي مسعود للأوقات، وفي ذلك ما يرفع الإشكال، ويوضح توجيه احتجاج عروة به، فروى أبو داود وغيره، وصححه ابن خزيمة وغيره من طريق ابن وهب، والطبراني من طريق يزيد بن أبي حبيب كلاهما عن أسامة بن زيد عن الزهري هذا الحديث بإسناده وزاد في آخره ‏"‏ قال أبو مسعود‏:‏ فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الطهر حين تزول الشمس ‏"‏ فذكر الحديث‏.‏

وذكر أبو داود أن أسامة بن زيد تفرد بتفسير الأوقات فيه، وأن أصحاب الزهري لم يذكروا ذلك‏.‏

قال‏:‏ وكذا رواه هشام بن عروة وحبيب بن أبي مرزوق عن عروة لم يذكرا تفسيرا ا هـ‏.‏

ورواية هشام أخرجها سعيد بن منصور في سننه، ورواية حبيب أخرجها الحارث بن أبي أسامة في مسنده‏.‏

وقد وجدت ما يعضد رواية أسامة ويزيد عليها أن البيان من فعل جبريل، وذلك فيما رواه الباغندي في ‏"‏ مسند عمر بن عبد العزيز ‏"‏ والبيهقي في ‏"‏ السنن الكبرى ‏"‏ من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي بكر بن حزم أنه بلغه عن أبي مسعود، فذكره منقطعا، لكن رواه الطبراني من وجه آخر عن أبي بكر عن عروة، فرجع الحديث إلى عروة، ووضح أن له أصلا، وأن في رواية مالك ومن تابعه اختصارا، وبذلك جزم ابن عبد البر، وليس في رواية مالك ومن تابعه ما ينفي الزيادة المذكورة فلا توصف والحالة هذه بالشذوذ‏.‏

وفي الحديث من الفوائد‏:‏ دخول العلماء على الأمراء، وإنكارهم عليهم ما يخالف السنة، واستثبات العالم فيما يستغربه السامع، والرجوع عند التنازع إلى السنة‏.‏

وفيه فضيلة عمر بن عبد العزيز‏.‏

وفيه فضيلة المبادرة بالصلاة في الوقت الفاضل‏.‏

وقبول خبر الواحد الثبت‏.‏

واستدل به ابن بطال وغيره على أن الحجة بالمتصل دون المنقطع لأن عروة أجاب عن استفهام عمر له لما أن أرسل الحديث بذكر من حدثه به فرجع إليه، فكأن عمر قال له‏:‏ تأمل ما تقول، فلعله بلغك عن غير ثبت‏.‏

فكأن عروة قال له‏:‏ بل قد سمعته ممن قد سمع صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصاحب قد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

واستدل به عياض على جواز الاحتجاج بمرسل الثقة كصنيع عروة حين احتج على عمر قال‏:‏ وإنما راجعه عمر لتثبته فيه لا لكونه لم يرض به مرسلا‏.‏

كذا قال، وظاهر السياق يشهد لما قال ابن بطال‏.‏

وقال ابن بطال أيضا‏:‏ في هذا الحديث دليل على ضعف الحديث الوارد في أن جبريل أم بالنبي صلى الله عليه وسلم في يومين لوقتين مختلفين لكل صلاة، قال‏:‏ لأنه لو كان صحيحا لم ينكر عروة على عمر صلاته في آخر الوقت محتجا بصلاة جبريل، مع أن جبريل قد صلى في اليوم الثاني في آخر الوقت وقال ‏"‏ الوقت ما بين هذين ‏"‏ وأجيب باحتمال أن تكون صلاة عمر كانت خرجت عن وقت الاختيار وهو مصير ظل الشيء مثليه، لا عن وقت الجواز وهو مغيب الشمس، فيتجه إنكار عروة، ولا يلزم منه ضعف الحديث‏.‏

أو يكون عروة أنكر مخالفة ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصلاة في أول الوقت ورأى أن الصلاة بعد ذلك إنما هي لبيان الجواز، فلا يلزم منه ضعف الحديث أيضا‏.‏

وقد روى سعيد بن منصور من طريق طلق بن حبيب مرسلا قال ‏"‏ إن الرجل ليصلي الصلاة وما فاتته، ولما فاته من وقتها خير له من أهله وماله ‏"‏ ورواه أيضا عن ابن عمر من قوله، ويؤيد ذلك احتجاج عروة بحديث عائشة في كونه صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها، وهي الصلاة التي وقع الإنكار بسببها، وبذلك تظهر مناسبة ذكره لحديث عائشة بعد حديث أبي مسعود، لأن حديث عائشة يشعر بمواظبته على صلاة العصر في أول الوقت، وحديث أبي مسعود يشعر بأن أصل بيان الأوقات كان بتعليم جبريل‏.‏

قوله ‏(‏قال عروة‏:‏ ولقد حدثتني عائشة‏)‏ قال الكرماني‏:‏ هو إما مقول ابن شهاب أو تعليق من البخاري‏.‏

قلت‏:‏ الاحتمال الثاني - على بعده - مغاير للواقع كما سيظهر في ‏"‏ باب وقت العصر ‏"‏ قريبا‏.‏

فقد ذكره مسندا عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة، فهو مقوله وليس بتعليق، وسنذكر الكلام على فوائده هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب منيبين إليه‏)‏ كذا عند أبي ذر بتنوين باب، ولغيره ‏"‏ باب قوله تعالى ‏"‏ بالإضافة‏.‏

والمنيب‏:‏ التائب، من الإنابة وهي الرجوع‏.‏

وهذه الآية مما استدل به من يرى تكفير تارك الصلاة لما يقتضيه مفهومها، وأجيب بأن المراد أن ترك الصلاة من أفعال المشركين فورد النهي عن التشبه بهم، لا أن من وافقهم في الترك صار مشركا‏.‏

وهي من أعظم ما ورد في القرآن في فضل الصلاة‏.‏

ومناسبتها لحديث وفد عبد القيس أن في الآية اقتران نفي الشرك بإقامة الصلاة، وفي الحديث اقتران إثبات التوحيد بإقامتها، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في كتاب الإيمان‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبَّادٌ هُوَ ابْنُ عَبَّادٍ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا إِنَّا مِنْ هَذَا الْحَيِّ مِنْ رَبِيعَةَ وَلَسْنَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَمُرْنَا بِشَيْءٍ نَأْخُذْهُ عَنْكَ وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا فَقَالَ آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ ثُمَّ فَسَّرَهَا لَهُمْ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَأَنْ تُؤَدُّوا إِلَيَّ خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ وَأَنْهَى عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُقَيَّرِ وَالنَّقِيرِ

الشرح‏:‏

وقوله في هذه الرواية ‏"‏ حدثنا عباد وهو ابن عباد ‏"‏ كذا لأبي ذر، وسقطت الواو لغيره، وهو ممن وافق اسمه اسم أبيه، واسم جده حبيب بن المهلب بن أبي صفرة‏.‏

وقوله ‏"‏إنا من هذا الحي ‏"‏ هو بالنصب على الاختصاص، والله أعلم‏.‏

*3*باب الْبَيْعَةِ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب البيعة على إقام الصلاة‏)‏ وفي رواية كريمة ‏"‏ إقامة‏"‏، والمراد بالبيعة المبايعة على الإسلام‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنَا قَيْسٌ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ

الشرح‏:‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم أول ما يشترط بعد التوحيد إقامة الصلاة لأنها رأس العبادات البدنية، ثم أداء الزكاة لأنها رأس العبادات المالية، ثم يعلم كل قوم ما حاجتهم إليه أمس، فبايع جريرا على النصيحة لأنه كان سيد قومه فأرشده إلى تعليمهم بأمره بالنصيحة لهم، وبايع وفد عبد القيس على أداء الخمس لكونهم كانوا أهل محاربة من يليهم من كفار مضر، وقد تقدم الكلام على حديث جرير أيضا مستوفى في آخر كتاب الإيمان‏.‏

و ‏"‏ يحيى ‏"‏ في الإسناد أيضا هو القطان، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم‏.‏

*3*باب الصَّلَاةُ كَفَّارَةٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الصلاة كفارة‏)‏ كذا للأكثر، وللمستملي ‏"‏ باب تكفير الصلاة‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ قَالَ سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِتْنَةِ قُلْتُ أَنَا كَمَا قَالَهُ قَالَ إِنَّكَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا لَجَرِيءٌ قُلْتُ فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ قَالَ لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ وَلَكِنْ الْفِتْنَةُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ قَالَ لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا قَالَ أَيُكْسَرُ أَمْ يُفْتَحُ قَالَ يُكْسَرُ قَالَ إِذًا لَا يُغْلَقَ أَبَدًا قُلْنَا أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ الْبَابَ قَالَ نَعَمْ كَمَا أَنَّ دُونَ الْغَدِ اللَّيْلَةَ إِنِّي حَدَّثْتُهُ بِحَدِيثٍ لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَ حُذَيْفَةَ فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ الْبَابُ عُمَرُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا يحيى‏)‏ هو القطان، وشقيق هو ابن سلمة أبو وائل‏.‏

قوله ‏(‏في الفتنة‏)‏ للمستملي ‏"‏ حدثني حذيفة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏في الفتنة‏)‏ فيه دليل على جواز إطلاق اللفظ العام وإرادة الخاص‏.‏

إذ تبين أنه لم يسأل إلا عن فتنة مخصوصة‏.‏

ومعنى الفتنة في الأصل الاختبار والامتحان، ثم استعملت في كل أمر يكشفه الامتحان عن سوء‏.‏

وتطلق على الكفر، والغلو في التأويل البعيد، وعلى الفضيحة والبلية والعذاب والقتال والتحول من الحسن إلى القبيح والميل إلى الشيء والإعجاب به، وتكون في الخير والشر كقوله تعالى ‏(‏ونبلوكم بالشر والخير فتنة‏)‏ ‏.‏

قوله ‏(‏أنا كما قاله‏)‏ أي أنا أحفظ ما قاله، والكاف زائدة للتأكيد، أو هي بمعنى على‏.‏

ويحتمل أن يراد بها المثلية، أي أقول مثل ما قاله‏.‏

قوله ‏(‏عليه‏)‏ أي على النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏أو عليها‏)‏ أي على المقالة، والشك من أحد رواته‏.‏

قوله ‏(‏الأمر والنهي‏)‏ أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما صرح به في الزكاة‏.‏

قوله ‏(‏قلنا‏)‏ هو مقول شقيق‏.‏

و قوله ‏(‏إني حدثته‏)‏ هر مقول حذيفة‏.‏

و ‏(‏الأغاليط‏)‏ جمع أغلوطة‏.‏

و قوله ‏(‏فهبنا‏)‏ أي خفنا، وهو مقول شقيق أيضا‏.‏

و قوله ‏(‏الباب عمر‏)‏ لا يغاير قوله قبل ذلك ‏(‏إن بينه وبين الفتنة بابا‏)‏ لأن المراد بقوله بينك وبينها، أي بين زمانك وبين زمان الفتنة وجود حياتك، وسيأتي الكلام على بقية فوائد هذا الحديث في علامات النبوة إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنْ امْرَأَةٍ قُبْلَةً فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِي هَذَا قَالَ لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏أن رجلا‏)‏ هو أبو اليسر بفتح التحتانية والمهملة الأنصاري، رواه الترمذي وقيل غيره، ولم أقف على اسم المرأة المذكورة، ولكن جاء في بعض الأحاديث أنها من الأنصار‏.‏

قوله ‏(‏لجميع أمتي كلهم‏)‏ فيه مبالغة في التأكيد وسقط ‏"‏ كلهم ‏"‏ من رواية المستملي، وسيأتي الكلام على بقية فوائد هذا الحديث في آخر تفسير سورة هود إن شاء الله تعالى‏.‏

واحتج المرجئة بظاهره وظاهر الذي قبله على أن أفعال الخير مكفرة للكبائر والصغائر، وحمله جمهور أهل السنة على الصغائر عملا بحمل المطلق على المقيد كما سيأتي بسطه هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب فَضْلِ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب فضل الصلاة لوقتها‏)‏ كذا ترجم، وأورده بلفظ ‏"‏ على وقتها ‏"‏ وهي رواية شعبة وأكثر الرواة، نعم أخرجه في التوحيد من وجه آخر بلفظ الترجمة، وكذا أخرجه مسلم باللفظين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْعَيْزَارِ أَخْبَرَنِي قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ يَقُولُ حَدَّثَنَا صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ وَأَشَارَ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي بِهِنَّ وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏قال الوليد بن العيزار أخبرني‏)‏ هو على التقديم والتأخير‏.‏

قوله ‏(‏حدثنا صاحب هذه الدار‏)‏ كذا رواه شعبة مبهما، ورواه مالك بن مغول عند المصنف في الجهاد وأبو إسحاق الشيباني في التوحيد عن الوليد فصرحا باسم عبد الله، وكذا رواه النسائي من طريق أبي معاوية النخعي عن أبي عمرو الشيباني وأحمد من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه‏.‏

قوله ‏(‏وأشار بيده‏)‏ فيه الاكتفاء بالإشارة المفهمة عن التصريح، وعبد الله هو ابن مسعود‏.‏

قوله ‏(‏أي العمل أحب إلى الله‏)‏ في رواية مالك بن مغول ‏"‏ أي العمل أفضل ‏"‏ وكذا لأكثر الرواة، فإن كان هذا اللفظ هو المسئول به فلفظ حديث الباب ملزوم عنه‏.‏

ومحصل ما أجاب به العلماء عن هذا الحديث وغيره مما اختلفت فيه الأجوبة بأنه أفضل الأعمال أن الجواب اختلف لاختلاف أحوال السائلين بأن أعلم كل قوم بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبة، أو بما هو لائق بهم، أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره، فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضل الأعمال لأنه الوسيلة إلى القيام بها والتمكن من أدائها، وقد تضافرت النصوص على أن الصلاة أفضل من الصدقة، ومع ذلك ففي وقت مواساة المضطر تكون الصدقة أفضل، أو أن ‏"‏ أفضل ‏"‏ ليست على بابها بل المراد بها الفضل المطلق، أو المراد من أفضل الأعمال فحذفت من وهي مرادة‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ الأعمال في هذا الحديث محمولة على البدنية، وأراد بذلك الاحتراز عن الإيمان لأنه من أعمال القلوب، فلا تعارض حينئذ بينه وبين حديث أبي هريرة ‏"‏ أفضل الأعمال إيمان بالله ‏"‏ الحديث‏.‏

وقال غيره‏:‏ المراد بالجهاد هنا ما ليس بفرض عين، لأنه يتوقف على إذن الوالدين فيكون برهما مقدما عليه‏.‏

قوله ‏(‏الصلاة على وقتها‏)‏ قال ابن بطال فيه أن البدار إلى الصلاة في أول أوقاتها أفضل من التراخي فيها لأنه إنما شرط فيها أن تكون أحب الأعمال إذا أقيمت لوقتها المستحب‏.‏

قلت‏:‏ وفي أخذ ذلك من اللفظ المذكور نظر، قال ابن دقيق العيد‏:‏ ليس في هذا اللفظ ما يقتضي أولا ولا آخرا، وكأن المقصود به الاحتراز عما إذا وقعت قضاء‏.‏

وتعقب بأن إخراجها عن وقتها محرم، ولفظ ‏"‏ أحب ‏"‏ يقتضي المشاركة في الاستحباب فيكون المراد الاحتراز عن إيقاعها آخر الوقت‏.‏

وأجيب بأن المشاركة إنما هي بالنسبة إلى الصلاة وغيرها من الأعمال، فإن وقعت الصلاة في وقتها كانت أحب إلى الله من غيرها من الأعمال؛ فوقع الاحتراز عما إذا وقعت خارج وقتها من معذور كالنائم والناسي فإن إخراجهما لها عن وقتها لا يوصف بالتحريم ولا يوصف بكونه أفضل الأعمال مع كونه محبوبا، لكن إيقاعها في الوقت أحب‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ اتفق أصحاب شعبة على اللفظ المذكور في الباب وهو قوله ‏"‏ عن وقتها ‏"‏ وخالفهم علي ابن حفص وهو شيخ صدوق من رجال مسلم فقال ‏"‏ الصلاة في أول وقتها ‏"‏ أحرجه الحاكم والدار قطني والبيهقي من طريقه‏.‏

قال الدار قطني‏:‏ ما أحسبه حفظه، لأنه كير وتغير حفظه‏.‏

قلت‏:‏ ورواه الحسن بن علي المعمري في ‏"‏ اليوم والليلة ‏"‏ عن أبي موسى محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة كذلك‏.‏

قال الدار قطني‏:‏ تفرد به المعمري، فقد رواه أصحاب أبي موسى عنه بلفظ ‏"‏ على وقتها ‏"‏ ثم أخرجه الدار قطني عن المحاملي عن أبي موسى كرواية الجماعة، وهكذا رواه أصحاب غندر عنه، والظاهر أن المعمري وهم فيه لأنه كان يحدث من حفظه، وقد أطلق النووي في ‏"‏ شرح المهذب ‏"‏ أن رواية ‏"‏ في أول وقتها ‏"‏ ضعيفة ا هـ، لكن لها طريق أخرى أخرجها ابن خزيمة في صحيحه والحاكم وغيرهما من طريق عثمان عن عمر عن مالك بن مغول عن الوليد، وتفرد عثمان بذلك، والمعروف عن مالك بن مغول كرواية الجماعة، كذا أخرجه المصنف وغيره، وكأن من رواها كذلك ظن أن المعنى واحد، ويمكن أن يكون أخذه من لفظة ‏"‏ على ‏"‏ لأنها تقتضي الاستعلاء على جميع الوقت فيتعين أوله، قال القرطبي وغيره‏:‏ قوله ‏"‏ لوقتها ‏"‏ اللام للاستقبال مثل قوله تعالى ‏(‏فطلقوهن لعدتهن‏)‏ أي مستقبلات عدتهن، وقيل للابتداء كقوله تعالى ‏(‏أقم الصلاة لدلوك الشمس‏)‏ وقيل بمعنى في، أي في وقتها‏.‏

وقوله ‏"‏على وقتها ‏"‏ قيل على بمعنى اللام ففيه ما تقدم، وقيل لإرادة الاستعلاء على الوقت، وفائدته تحقق دخول الوقت ليقع الأداء فيه‏.‏

قوله ‏(‏ثم أي‏)‏ قيل‏:‏ الصواب أنه غير منون لأنه غير موقوف عليه في الكلام، والسائل ينتظر الجواب، والتنوين لا يوقف عليه فتنوينه ووصله بما بعده خطأ، فيوقف عليه وقفة لطيفة ثم يؤتي بما بعده قاله الفاكهاني‏.‏

وحكى ابن الجوزي عن ابن الخشاب الجزم بتنوينه لأنه معرب غير مضاف، وتعقب بأنه مضاف تقديرا والمضاف إليه محذوف لفظا، والتقدير‏:‏ ثم أي العمل أحب‏؟‏ فيوقف عليه بلا تنوين‏.‏

وقد نص سيبوبه على أنها تعرب ولكنها تبنى إذا أضيفت، واستشكله الزجاج‏.‏

قوله ‏(‏قال بر الوالدين‏)‏ كذا للأكثر، وللمستملي ‏"‏ قال ثم بر الوالدين ‏"‏ بزيادة ثم، قال بعضهم‏:‏ هذا الحديث موافق لقوله تعالى ‏(‏أن اشكر لي ولوالديك‏)‏ وكأنه أخذه من تفسير ابن عيينة حيث قال‏:‏ من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا لوالديه عقبها فقد شكر لهما‏.‏

قوله ‏(‏حدثني بهن‏)‏ هو مقول عبد الله بن مسعود، وفيه تقرير وتأكيد لما تقدم من أنه باشر السؤال وسمع الجواب‏.‏

قوله ‏(‏ولو استزدته‏)‏ يحتمل أن يريد من هذا النوع وهو مراتب أفضل الأعمال، ويحتمل أن يريد من مطلق المسائل المحتاج إليها، وزاد الترمذي من طريق المسعودي عن الوليد ‏"‏ فسكت عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني ‏"‏ فكأنه استشعر منه مشقة، ويؤيده ما في رواية لمسلم ‏"‏ فما تركت أن أستزيده إلا إرعاء عليه ‏"‏ أي شفقة عليه لئلا يسأم‏.‏

وفي الحديث فضل تعظيم الوالدين، وأن أعمال البر يفضل بعضها على بعض‏.‏

وفيه السؤال عن مسائل شتى في وقت واحد، والرفق بالعالم، والتوقف عن الإكثار عليه خشية ملاله، وما كان عليه الصحابة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والشفقة عليه، وما كان هو عليه من إرشاد المسترشدين ولو شق عليه‏.‏

وفيه أن الإشارة تتنزل منزلة التصريح إذا كانت معينة للمشار إليه مميز له عن غيره‏.‏

قال ابن بزيزة‏:‏ الذي يقتضيه النظر تقدم الجهاد على جميع أعمال البدن، لأن فيه بذل النفس، إلا أن الصبر على المحافظة على الصلوات وأدائها في أوقاتها والمحافظة على بر الوالدين أمر لازم متكرر دائم لا يصبر على مراقبة أمر الله فيه إلا الصديقون، والله أعلم‏.‏