فصل: باب تَسْلِيمِ الْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*1*المجلد الحادي عشر

*2*كِتَاب الِاسْتِئْذَانِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏كتاب الاستئذان - باب بدء السلام‏)‏ الاستئذان طلب الإذن في الدخول لمحل لا يملكه المستأذن‏:‏ وبدء بفتح أوله والهمز بمعنى الابتداء أي أول ما وقع السلام، وإنما ترجم للسلام مع الاستئذان للإشارة إلى أنه لا يؤمن لمن لم يسلم‏.‏

وقد أخرج أبو داود وابن أبي شيبة بسند جيد عن ربعي بن حراش ‏"‏ حدثني رجل أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فقال‏:‏ أألج‏؟‏ ‏"‏ فقال لخادمه‏:‏ اخرج لهذا فعلمه ‏"‏ فقال‏:‏ قل السلام عليكم أأدخل ‏"‏ الحديث وصححه الدار قطني‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة من طريق زيد بن أسلم ‏"‏ بعثني أبي إلى ابن عمر فقلت‏:‏ أألج‏؟‏ فقال‏:‏ لا تقل كذا، ولكن قل‏:‏ السلام عليكم، فإذا رد عليك فادخل‏"‏‏.‏

ومن طريق ابن أبي بريدة ‏"‏ استأذن رجل على رجل من الصحابة ثلاث مرات يقول أأدخل‏؟‏ وهو ينظر إليه لا يأذن له فقال‏:‏ السلام عليكم أأدخل‏؟‏ قال‏:‏ نعم، ثم قال‏:‏ لو أقمت إلى الليل‏.‏

‏"‏ وسيأتي مزيد لذلك في الباب الذي يليه‏.‏

*3*بَاب بَدْءِ السَّلَامِ

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الْآنَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا يحيى بن جعفر‏)‏ هو البيكندي‏.‏

قوله ‏(‏خلق الله آدم على صورته‏)‏ تقدم بيانه في بدء الخلق، واختلف إلى ماذا يعود الضمير‏؟‏ فقيل‏:‏ إلى آدم أي خلقه على صورته التي استمر عليها إلى أن أهبط وإلى أن مات، دفعا لتوهم من يظن أنه لما كان في الجنة كان على صفة أخرى، أو ابتدأ خلقه كما وجد لم ينتقل في النشأة كما ينتقل ولده من حالة إلى حالة‏.‏

وقيل للرد على الدهرية أنه لم يكن إنسان إلا من نطفة ولا تكون نطفة إنسان إلا من إنسان ولا أول لذلك، فبين أنه خلق من أول الأمر على هذه الصورة‏.‏

وقيل للرد على الطبائعيين الزاعمين أن الإنسان قد يكون من فعل الطبع وتأثيره، وقيل للرد على القدرية الزاعمين أن الإنسان يخلق فعل نفسه، وقيل إن لهذا الحديث سببا حذف من هذه الرواية وأن أوله قصة الذي ضرب عبده فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال له إن الله خلق آدم على صورته، وقد تقدم بيان ذلك في كتاب العتق، وقيل الضمير لله وتمسك قائل ذلك بما ورد في بعض طرقه ‏"‏ على صورة الرحمن ‏"‏ والمراد بالصورة الصفة، والمعنى أن الله خلقه على صفته من العلم والحياة والسمع والبصر وغير ذلك، وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء‏.‏

قوله ‏(‏اذهب فسلم على أولئك‏)‏ فيه إشعار بأنهم كانوا على بعد، واستدل به على إيجاب ابتداء السلام لورود الأمر به، وهو بعيد بل ضعيف لأنها واقعة حال لا عموم لها، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على أن الابتداء بالسلام سنة، ولكن في كلام المازري ما يقتضي إثبات خلاف في ذلك، كذا زعم بعض من أدركناه وقد راجعت كلام المازري وليس فيه ذلك فإنه قال‏:‏ ابتداء السلام سنة ورده واجب‏.‏

هذا هو المشهور عند أصحابنا، وهو من عبادات الكفاية، فأشار بقوله المشهور إلى الخلاف في وجوب الرد هل هو فرض عين أو كفاية‏؟‏ وقد صرح بعد ذلك بخلاف أبي يوسف كما سأذكره بعد، نعم وقع في كلام القاضي عبد الوهاب فيما نقله عنه عياض قال‏:‏ لا خلاف أن ابتداء السلام سنة أو فرض على الكفاية فإن سلم واحد من الجماعة أجزأ عنهم، قال عياض‏:‏ معنى قوله فرض على الكفاية مع نقل الإجماع على أنه سنة أن إقامة السنن وإحياءها فرض على الكفاية‏.‏

قوله ‏(‏نفر من الملائكة‏)‏ بالخفض في الرواية، ويجوز الرفع والنصب، ولم أقف على تعيينهم‏.‏

قوله ‏(‏فاستمع‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فاسمع‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ما يحيونك‏)‏ كذا للأكثر بالمهملة من التحية، وكذا تقدم في خلق آدم عن عبد الله بن محمد عن عبد الرزاق، وكذا عند أحمد ومسلم عن محمد بن رافع كلاهما عن عبد الرزاق‏.‏

وفي رواية أبي ذر هنا بكسر الجيم وسكون التحتانية بعدها موحدة من الجواب، وكذا هو في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ للمصنف عن عبد الله بن محمد بالسند المذكور‏.‏

قوله ‏(‏فإنها‏)‏ أي الكلمات التي يحيون بها أو يجيبون‏.‏

قوله ‏(‏تحيتك وتحية ذريتك‏)‏ أي من جهة الشرع، أو المراد بالذرية بعضهم وهم المسلمون‏.‏

وقد أخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ وابن ماجه وصححه ابن خزيمة من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن عائشة مرفوعا ‏"‏ ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدوكم على السلام والتأمين ‏"‏ وهو يدل على أنه شرع لهذه الأمة دونهم‏.‏

وفي حديث أبي ذر الطويل في قصة إسلامه قال ‏"‏ وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فذكر الحديث وفيه ‏"‏ فكنت أول من حياه بتحية الإسلام فقال‏:‏ وعليك ورحمة الله ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏

وأخرج الطبراني والبيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ من حديث أبي أمامة رفعه ‏"‏ جعل الله السلام تحية لأمتنا وأمانا لأهل ذمتنا ‏"‏ وعند أبي داود من حديث عمران بن حصين ‏"‏ كنا نقول في الجاهلية‏:‏ أنعم بك عينا، وأنعم صباحا ‏"‏ فلما جاء الإسلام نهينا عن ذلك ورجاله ثقات، لكنه منقطع‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال ‏"‏ كانوا في الجاهلية يقولون‏:‏ حييت مساء، حييت صباحا، فغير الله ذلك بالسلام‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فقال السلام عليكم‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ يحتمل أن يكون الله علمه كيفية ذلك تنصيصا، ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله له ‏"‏ فسلم ‏"‏ قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون ألهمه ذلك، ويؤيده ما تقدم في ‏"‏ باب حمد العاطس ‏"‏ في الحديث الذي أخرجه ابن حبان من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ أن آدم لما خلقه الله عطس فألهمه الله أن قال الحمد لله ‏"‏ الحديث فلعله ألهمه أيضا صفة السلام‏.‏

واستدل به على أن هذه الصيغة هي المشروعة لابتداء السلام لقوله ‏"‏ فهي تحيتك وتحية ذريتك ‏"‏ وهذا فيما لو سلم على جماعة، فلو سلم على واحد فسيأتي حكمه بعد أبواب، ولو حذف اللام فقال ‏"‏ سلام عليكم ‏"‏ أجزأ، قال الله تعالى ‏(‏والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم‏)‏ وقال تعالى ‏(‏فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة‏)‏ وقال تعالى ‏(‏سلام على نوح في العالمين‏)‏ إلى غير ذلك، لكن باللام أولى لأنها للتفخيم والتكثير، وثبت في حديث التشهد ‏"‏ السلام عليك أيها النبي ‏"‏ قال عياض‏:‏ ويكره أن يقول في الابتداء‏:‏ عليك السلام‏.‏

وقال النووي في ‏"‏ الأذكار ‏"‏‏:‏ إذا قال المبتدئ وعليكم السلام لا يكون سلاما ولا يستحق جوابا، لأن هذه الصيغة لا تصلح للابتداء قاله المتولي، فلو قاله بغير واو فهو سلام، قطع بذلك الواحدي، وهو ظاهر‏.‏

قال النووي‏:‏ ويحتمل أن لا يجزئ كما قيل به في التحلل من الصلاة، ويحتمل أن لا يعد سلاما ولا يستحق جوابا لما رويناه في سنن أبي داود والترمذي وصححه وغيرهما بالأسانيد الصحيحة عن أبي جري بالجيم والراء مصغر الهجيمي بالجيم مصغرا قال ‏"‏ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ عليك السلام يا رسول الله، قال‏:‏ لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى ‏"‏ قال ويحتمل أن يكون ورد لبيان الأكمل، وقد قال الغزالي في ‏"‏ الإحياء ‏"‏‏:‏ يكره للمبتدئ أن يقول عليكم السلام، قال النووي‏:‏ والمختار لا يكره، ويجب الجواب لأنه سلام‏.‏

قلت‏:‏ وقوله بالأسانيد الصحيحة يوهم أن له طرقا إلى الصحابي المذكور، وليس كذلك فإنه لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي جري، ومع ذلك فمداره عند جميع من أخرجه على أبي تميمة الهجيمي راوية عن أبي جري، وقد أخرجه أحمد أيضا والنسائي وصححه الحاكم، وقد اعترض هو ما دل عليه الحديث بما أخرجه مسلم من حديث عائشة في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، الحديث‏.‏

وفيه ‏"‏ قلت‏:‏ كيف أقول‏؟‏ قال‏:‏ قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وكذا أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما أتى البقيع ‏"‏ السلام على أهل الديار من المؤمنين ‏"‏ الحديث‏.‏

قال الخطابي‏:‏ فيه أن السلام على الأموات والأحياء سواء، بخلاف ما كانت عليه الجاهلية من قولهم‏:‏ ‏"‏ عليك سلام الله قيس بن عاصم‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ ليس هذا من شعر أهل الجاهلية، فإن قيس بن عاصم صحابي مشهور عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والمرثية المذكورة لمسلم معروف قالها لما مات قيس، ومثله ما أخرج ابن سعد وغيره أن الجن رثوا عمر بن الخطاب بأبيات منها‏:‏ عليك السلام من أمير وباركت يد الله في ذاك الأديم الممزق وقال ابن العربي في السلام على أهل البقيع‏:‏ لا يعارض النهي في حديث أبي جري لاحتمال أن يكون الله أحياهم لنبيه صلى الله عليه وسلم فسلم عليهم سلام الأحياء، كذا قال، ويرده حديث عائشة المذكور قال‏:‏ ويحتمل أن يكون النهي مخصوصا بمن يرى أنها تحية الموتى وبمن يتطير بها من الأحياء فإنها كانت عادة أهل الجاهلية وجاء الإسلام بخلاف ذلك، قال عياض وتبعه ابن القيم في ‏"‏ الهدى ‏"‏ فنقح كلامه فقال‏:‏ كان من هدى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول في الابتداء السلام عليكم، ويكره أن يقول عليكم السلام، فذكر حديث أبي جري وصححه ثم قال‏:‏ أشكل هذا على طائفة وظنوه معارضا لحديث عائشة وأبي هريرة وليس كذلك، وإنما معنى قوله ‏"‏ عليك السلام تحية الموتى ‏"‏ إخبار عن الواقع لا عن الشرع، أي أن الشعراء ونحوهم يحيون الموتى به واستشهد بالبيت المتقدم وفيه ما فيه، قال‏:‏ فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحيى بتحية الأموات‏.‏

وقال عياض أيضا‏:‏ كانت عادة العرب في تحية الموتى تأخير الاسم، كقولهم عليه لعنة الله وغضبه عند الذم، وكقوله تعالى ‏(‏وأن عليك اللعنة إلى يوم الدين‏)‏ ، وتعقب بأن النص في الملاعنة ورد بتقديم اللعنة والغضب على الاسم‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ يحتمل أن يكون حديث عائشة لمن زار المقبرة فسلم على جميع من بها، وحديث أبي جري إثباتا ونفيا في السلام على الشخص الواحد، ونقل ابن دقيق العيد عن بعض الشافعية أن المبتدئ لو قال عليكم السلام لم يجز، لأنها صيغة جواب، قال‏:‏ والأولى الإجزاء لحصول مسمى السلام، ولأنهم قالوا‏:‏ إن المصلي ينوي بإحدى التسليمتين الرد على من حضر، وهي بصيغة الابتداء‏.‏

ثم حكى عن أبي الوليد بن رشد أنه يجوز الابتداء بلفظ الرد وعكسه، وسيأتي مزيد لذلك في ‏"‏ باب من رد فقال عليك السلام ‏"‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله ‏(‏فقالوا السلام عليك ورحمة الله‏)‏ كذا للأكثر في البخاري هنا، وكذا للجميع في بدء الخلق، ولأحمد ومسلم من هذا الوجه من رواية عبد الرزاق، ووقع هنا للكشميهني فقالوا وعليك السلام ورحمة الله، وعليها شرح الخطابي، واستدل برواية الأكثر لمن يقول يجزئ في الرد أن يقع باللفظ الذي يبتدأ به كما تقدم، قيل ويكفي أيضا الرد بلفظ الإفراد، وسيأتي البحث في ذلك ‏"‏ باب من رد فقال عليك السلام‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فزادوه ورحمة الله‏)‏ فيه مشروعية الزيادة في الرد على الابتداء، وهو مستحب بالاتفاق لوقوع التحية في ذلك في قوله تعالى ‏(‏فحيوا بأحسن منها أو ردوها‏)‏ فلو زاد المبتدئ ‏"‏ ورحمة الله ‏"‏ استحب أن يزاد ‏"‏ وبركاته ‏"‏ فلو زاد ‏"‏ وبركاته ‏"‏ فهل تشرع الزيادة في الرد‏؟‏ وكذا لو زاد المبتدئ على ‏"‏ وبركاته ‏"‏ هل يشرع له ذلك‏؟‏ أخرج مالك في الموطأ عن ابن عباس قال ‏"‏ انتهى السلام إلى البركة ‏"‏ وأخرج البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ من طريق عبد الله بن بابه قال ‏"‏ جاء رجل إلى ابن عمر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فقال‏:‏ حسبك إلى وبركاته ‏"‏ انتهى إلى ‏"‏ وبركاته ‏"‏ ومن طريق زهرة بن معبد قال ‏"‏ قال عمر‏:‏ انتهى السلام إلى وبركاته ‏"‏ ورجاله ثقات‏.‏

وجاء عن ابن عمر الجواز، فأخرج مالك أيضا في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ عنه أنه زاد في الجواب ‏"‏ والغاديات والرائحات ‏"‏ وأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من طريق عمرو بن شعيب عن سالم مولى ابن عمر قال ‏"‏ كان ابن عمر يزيد إذا رد السلام، فأتيته مرة فقلت‏:‏ السلام عليكم، فقال‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله‏.‏

ثم أتيته فزدت ‏"‏ وبركاته ‏"‏ فرد وزاد ‏"‏ وطيب صلواته ‏"‏ ومن طريق زيد بن ثابت أنه كتب إلى معاوية ‏"‏ السلام عليكم يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ومغفرته وطيب صلواته ‏"‏ ونقل ابن دقيق العيد عن أبي الوليد بن رشد أنه يؤخذ من قوله تعالى ‏(‏فحيوا بأحسن منها‏)‏ الجواز في الزيادة على البركة إذا انتهى إليها المبتدئ‏.‏

وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي بسند قوي عن عمران بن حصين قال ‏"‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ السلام عليكم، فرد عليه وقال‏:‏ عشر‏.‏

ثم جاء آخر، فقال السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه وقال‏:‏ عشرون‏.‏

ثم جاء آخر فزاد وبركاته، فرد وقال‏:‏ ثلاثون ‏"‏ وأخرجه البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من حديث أبي هريرة وصححه ابن حبان وقال ‏"‏ ثلاثون حسنة ‏"‏ وكذا فيما قبلها، صرح بالمعدود‏.‏

وعند أبي نعيم في ‏"‏ عمل يوم وليلة ‏"‏ من حديث على أنه هو الذي وقع له مع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك‏.‏

وأخرج الطبراني من حديث سهل بن حنيف بسند ضعيف رفعه ‏"‏ من قال السلام عليكم كتب له عشر حسنات، ومن زاد ورحمة الله كتب له عشرون حسنة، ومن زاد وبركاته كتبت له ثلاثون حسنة‏"‏‏.‏

وأخرج أبو داود من حديث سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه بسند ضعيف نحو حديث عمران وزاد في آخره ‏"‏ ثم جاء آخر فزاد ومغفرته، فقال أربعون‏.‏

وقال‏:‏ هكذا تكون الفضائل ‏"‏ وأخرج ابن السني في كتابه بسند واه من حديث أنس قال ‏"‏ كان رجل يمر فيقول السلام عليك يا رسول الله فيقول له وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه ‏"‏ وأخرج البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ بسند ضعيف أيضا من حديث زيد بن أرقم ‏"‏ كنا إذا سلم علينا النبي صلى الله عليه وسلم قلنا‏:‏ وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ‏"‏ وهذه الأحاديث الضعيفة إذا انضمت قوي ما اجتمعت عليه من مشروعية الزيادة على وبركاته‏.‏

واتفق العلماء على أن الرد واجب على الكفاية، وجاء عن أبي يوسف أنه قال‏:‏ يجب الرد على كل فرد فرد، واحتج له بحديث الباب لأن فيه ‏"‏ فقالوا السلام عليك ‏"‏ وتعقب بجواز أن يكون نسب إليهم والمتكلم به بعضهم، واحتج له أيضا بالاتفاق على أن من سلم على جماعة فرد عليه واحد من غيرهم لا يجزئ عنهم، وتعقب بظهور الفرق‏.‏

واحتج للجمهور بحديث علي رفعه ‏"‏ يجزي عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزي عن الجلوس أن يرد أحدهم ‏"‏ أخرجه أبو داود والبزار، وفي سنده ضعف لكن له شاهد من حديث الحسن ابن علي عند الطبراني وفي سنده مقال، وآخر مرسل في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ عن زيد بن أسلم‏.‏

واحتج ابن بطال بالاتفاق على أن المبتدئ لا يشترط في حقه تكرير السلام بعدد من يسلم عليهم كما في حديث الباب من سلام آدم وفي غيره من الأحاديث، قال‏:‏ فكذلك لا يجب الرد على كل فرد فرد إذا سلم الواحد عليهم‏.‏

واحتج الماوردي بصحة الصلاة الواحدة على العدد من الجنائز‏.‏

وقال الحليمي‏:‏ إنما كان الرد واجبا لأن السلام معناه الأمان، فإذا ابتدأ به المسلم أخاه فلم يجبه فإنه يتوهم منه الشر، فيجب عليه دفع ذلك التوهم عنه‏.‏

انتهى كلامه‏.‏

وسيأتي بيان معاني لفظ السلام في ‏"‏ باب السلام اسم من أسماء الله تعالى ‏"‏ ويؤخذ من كلامه موافقة القاضي حسين حيث قال‏:‏ لا يجب رد السلام على من سلم عند قيامه من المجلس إذا كان سلم حين دخل، ووافقه المتولي، وخالفه المستظهري فقال‏:‏ السلام سنة عند الانصراف فيكون الجواب واجبا، قال النووي‏:‏ هذا هو الصواب، كذا قال‏.‏

قوله ‏(‏فكل من يدخل الجنة‏)‏ كذا للأكثر هنا وللجميع في بدء الخلق، ووقع هنا لأبي ذر ‏"‏ فكل من يدخل يعني الجنة ‏"‏ وكأن لفظ الجنة سقط من روايته فزاد فيه يعني‏.‏

قوله ‏(‏على صورة آدم‏)‏ تقدم شرح ذلك في بدء الخلق، قال المهلب‏:‏ في هذا الحديث أن الملائكة يتكلمون بالعربية ويتحيون بتحية الإسلام‏.‏

قلت‏:‏ وفي الأول نظر لاحتمال أن يكون في الأزل بغير اللسان العربي، ثم لما حكى للعرب ترجم بلسانهم، ومن المعلوم أن من ذكرت قصصهم في القرآن من غير العرب نقل كلامهم بالعربي فلم يتعين أنهم تكلموا بما نقل عنهم بالعربي، بل الظاهر أن كلامهم ترجم بالعربي‏.‏

وفيه الأمر بتعلم العلم من أهله والأخذ بنزول مع إمكان العلو، والاكتفاء في الخبر مع إمكان القطع بما دونه‏.‏

وفيه أن المدة التي بين آدم والبعثة المحمدية فوق ما نقل عن الإخباريين من أهل الكتاب وغيرهم بكثير، وقد تقدم بيان ذلك ووجه الاحتجاج به في بدء الخلق‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا

ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ لِلْحَسَنِ إِنَّ نِسَاءَ الْعَجَمِ يَكْشِفْنَ صُدُورَهُنَّ وَرُءُوسَهُنَّ قَالَ اصْرِفْ بَصَرَكَ عَنْهُنَّ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ وَقَالَ قَتَادَةُ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُمْ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ مِنْ النَّظَرِ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي النَّظَرِ إِلَى الَّتِي لَمْ تَحِضْ مِنْ النِّسَاءِ لَا يَصْلُحُ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُنَّ مِمَّنْ يُشْتَهَى النَّظَرُ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً وَكَرِهَ عَطَاءٌ النَّظَرَ إِلَى الْجَوَارِي الَّتِي يُبَعْنَ بِمَكَّةَ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَشْتَرِيَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى‏)‏ في رواية أبي ذر ‏"‏ قوله تعالى‏"‏‏.‏

(‏لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم‏)‏ إلى قوله تعالى ‏(‏وما تكتمون‏)‏ ، وساق في رواية كريمة والأصيلي الآيات الثلاث، والمراد بالاستئناس في قوله تعالى ‏(‏حتى تستأنسوا‏)‏ الاستئذان بتنحنح ونحوه عند الجمهور‏.‏

وأخرج الطبري من طريق مجاهد ‏"‏ حتى تستأنسوا تتنحنحوا أو تتنخموا ‏"‏ ومن طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ‏"‏ كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس يتكلم ويرفع صوته ‏"‏ وأخرج ابن أبي حاتم بسند ضعيف من حديث أبي أيوب قال ‏"‏ قلت يا رسول الله هذا السلام، فما الاستئناس‏؟‏ قال‏:‏ يتكلم الرجل بتسبيحة أو تكبيرة ويتنحنح فيؤذن أهل البيت ‏"‏ وأخرج الطبري من طريق قتادة قال‏:‏ الاستئناس هو الاستئذان ثلاثا، فالأولى ليسمع، والثانية ليتأهبوا له، والثالثة إن شاءوا أذنوا له وإن شاءوا ردوا‏.‏

والاستئناس في اللغة طلب الإيناس وهو من الأنس بالضم ضد الوحشة، وقد تقدم في أواخر النكاح في حديث عمر الطويل في قصة اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم نساءه وفيه ‏"‏ فقلت أستأنس يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال فجلس ‏"‏ وقال البيهقي‏:‏ معنى تستأنسوا تستبصروا ليكون الدخول على بصيرة، فلا يصادف حالة يكره صاحب المنزل أن يطلعوا عليها‏.‏

وأخرج من طريق الفراء قال‏:‏ الاستئناس في كلام العرب معناه انظروا من في الدار‏.‏

وعن الحليمي‏:‏ معناه حتى تستأنسوا بأن تسلموا‏.‏

وحكى الطحاوي أن الاستئناس في لغة اليمن الاستئذان وجاء عن ابن عباس إنكار ذلك، فأخرج سعيد بن منصور والطبري والبيهقي في الشعب بسند صحيح أن ابن عباس ‏"‏ كان يقرأ حتى تستأذنوا ‏"‏ ويقول‏:‏ أخطأ الكاتب‏.‏

وكان يقرأ على قراءة أبي بن كعب، ومن طريق مغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي قال‏:‏ في مصحف ابن مسعود ‏"‏ حتى تستأذنوا ‏"‏ وأخرج سعيد ابن منصور من طريق مغيرة عن إبراهيم في مصحف عبد الله ‏"‏ حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا ‏"‏ وأخرجه إسماعيل بن إسحاق في ‏"‏ أحكام القرآن ‏"‏ عن ابن عباس واستشكله، وكذا طعن في صحته جماعة ممن بعده، وأجيب بأن ابن عباس بناها على قراءته التي تلقاها عن أبي بن كعب، وأما اتفاق الناس على قراءتها بالسين فلموافقة خط المصحف الذي وقع الاتفاق على عدم الخروج عما يوافقه، وكان قراءة أبي من الأحرف التي تركت للقراءة بها كما تقدم تقريره في فضائل القرآن‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ يحتمل أن يكون ذلك كان في القراءة الأولى ثم نسخت تلاوته، يعني ولم يطلع ابن عباس على ذلك‏.‏

قوله ‏(‏وقال سعيد بن أبي الحسن‏)‏ هو البصري أخو الحسن‏.‏

قوله ‏(‏للحسن‏)‏ أي لأخيه‏.‏

قوله ‏(‏إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورءوسهن، قال‏:‏ اصرف بصرك عنهن، يقول الله عز وجل ‏(‏قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم‏)‏ قال قتادة‏:‏ عما لا يحل لهم‏)‏ كذا وقع في رواية الكشميهني‏:‏ ووقع في رواية غيره بعد قوله ‏"‏ اصرف بصرك ‏"‏ وقول الله عز وجل ‏(‏قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم‏)‏ إلخ، فعلى رواية الكشميهني يكون الحسن استدل بالآية‏.‏

وأورد المصنف أثر قتادة تفسيرا لها، وعلى رواية الأكثر تكون ترجمة مستأنفة، والنكتة في ذكرها في هذا الباب على الحالين للإشارة إلى أن أصل مشروعية الاستئذان للاحتراز من وقوع النظر إلى ما لا يريد صاحب المنزل النظر إليه لو دخل بغير إذن، وأعظم ذلك النظر إلى النساء الأجنبيات، وأثر قتادة عند ابن أبي حاتم وصله من طريق يزيد بن أبي زريع عن سعيد بن أبي عروبة عنه في قوله تعالى ‏(‏ويحفظوا فروجهم‏)‏ قال‏:‏ عما لا يحل لهم‏.‏

قوله ‏(‏وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن‏)‏ كذا للأكثر تخلل أثر قتادة بين الآيتين، وسقط جميع ذلك من رواية النسفي فقال بعد قوله ‏(‏حتى تستأنسوا‏)‏ الآيتين وقول الله عز وجل ‏(‏قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم‏)‏ الآية ‏(‏وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن‏)‏ ‏.‏

قوله ‏(‏خائنة الأعين من النظر إلى ما نهى عنه‏)‏ كذا للأكثر بضم نون ‏"‏ نهى ‏"‏ على البناء للمجهول‏.‏

وفي رواية كريمة ‏"‏ إلى ما نهى الله عنه ‏"‏ وسقط لفظ ‏"‏ من ‏"‏ من رواية أبي ذر، وعند ابن أبي حاتم من طريق ابن عباس في قوله تعالى ‏(‏يعلم خائنة الأعين‏)‏ قال هو الرجل ينظر إلى المرأة الحسناء تمر به أو يدخل بيتا هي فيه فإذا فطن له غض بصره، وقد علم الله تعالى أنه يود لو اطلع على فرجها وإن قدر عليها لو زنى بها، ومن طريق مجاهد وقتادة نحوه، وكأنهم أرادوا أن هذا من جملة خائنة الأعين‏.‏

وقال الكرماني‏.‏

معنى ‏(‏يعلم خائنة الأعين‏)‏ أن الله يعلم النظرة المسترقة إلى ما لا يحل، وأما خائنة الأعين التي ذكرت في الخصائص النبوية فهي الإشارة بالعين إلى أمر مباح لكن على خلاف ما يظهر منه بالقول‏.‏

قلت‏:‏ وكذا السكوت المشعر بالتقرير فإنه يقوم مقام القول‏.‏

وبيان ذلك في حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال ‏"‏ لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، فذكر منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، إلى أن قال ‏"‏ فأما عبد الله فاختبأ عند عثمان، فجاء به حتى أوقفه فقال‏:‏ يا رسول الله بايعه، فأعرض عنه، ثم بايعه بعد الثلاث مرات، ثم أقبل على أصحابه فقال‏:‏ أما كان فيكم رجل يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عنه فيقتله‏:‏ فقالوا‏:‏ هلا أومأت قال‏.‏

إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين ‏"‏ أخرجه الحاكم من هذا الوجه، وأخرجه ابن سعد في ‏"‏ الطبقات ‏"‏ من مرسل سعيد بن المسيب أخصر منه وزاد فيه ‏"‏ وكان رجل من الأنصار نذر إن رأى ابن أبي سرح أن يقتله، فذكر بقية الحديث نحو حديث ابن عباس‏.‏

وأخرجه الدار قطني من طريق سعيد بن يربوع‏.‏

وله طرق أخرى يشد بعضها بعضا‏.‏

قوله ‏(‏وقال الزهري في النظر إلى التي لم تحض من النساء‏:‏ لا يصلح النظر إلى شيء منهن ممن يشتهى النظر إليه وإن كانت صغيرة‏)‏ كذا للأكثر‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ في النظر إلى ما لا يحل من النساء لا يصلح إلخ ‏"‏ وقال ‏"‏ النظر إليهن ‏"‏ وسقط هذا الأثر والذي بعده من رواية النسفي‏.‏

قوله ‏(‏وكره عطاء النظر إلى الجواري التي يبعن بمكة إلا أن يريد أن يشتري‏)‏ وصله ابن أبي شيبة من طريق الأوزاعي قال ‏"‏ سئل عطاء بن أبي رباح عن الجواري التي يبعن بمكة، فكره النظر إليهن، إلا لمن يريد أن يشتري ‏"‏ ووصله الفاكهي في ‏"‏ كتاب مكة ‏"‏ من وجهين عن الأوزاعي وزاد ‏"‏ اللاتي يطاف بهن حول البيت ‏"‏ قال الفاكهي ‏"‏ زعموا أنهم كانوا يلبسون الجارية ويطوفون بها مسفرة حول البيت ليشهروا أمرها ويرغبوا الناس في شرائها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ يَوْمَ النَّحْرِ خَلْفَهُ عَلَى عَجُزِ رَاحِلَتِهِ وَكَانَ الْفَضْلُ رَجُلًا وَضِيئًا فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ يُفْتِيهِمْ وَأَقْبَلَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ وَضِيئَةٌ تَسْتَفْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا فَأَخْلَفَ بِيَدِهِ فَأَخَذَ بِذَقَنِ الْفَضْلِ فَعَدَلَ وَجْهَهُ عَنْ النَّظَرِ إِلَيْهَا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏أردف النبي صلى الله عليه وسلم الفضل‏)‏ هو ابن عباس، وقد تقدم شرحه في كتاب الحج، قال ابن بطال‏:‏ في الحديث الأمر بغض البصر خشية الفتنة، ومقتضاه أنه إذا أمنت الفتنة لم يمتنع، قال‏:‏ ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم لم يحول وجه الفضل حتى أدمن النظر إليها لإعجابه بها فخشي الفتنة عليه، قال‏:‏ وفيه مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من الميل إلى النساء والإعجاب بهن‏.‏

وفيه دليل على أن نساء المؤمنين ليس عليهن من الحجاب ما يلزم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لو لزم ذلك جميع النساء لأمر النبي صلى الله عليه وسلم الخثعمية بالاستتار ولما صرف وجه الفضل، قال‏:‏ وفيه دليل على أن ستر المرأة وجهها ليس فرضا لإجماعهم على أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة ولو رآه الغرباء، وأن قوله ‏(‏قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم‏)‏ على الوجوب في غير الوجه‏.‏

قلت‏:‏ وفي استدلاله بقصة الخثعمية لما ادعاه نظر لأنها كانت محرمة، و قوله ‏"‏ عجز راحلته ‏"‏ بفتح العين المهملة وضم الجيم بعدها زاي أي مؤخرها، و قوله ‏"‏ وضيئا ‏"‏ أي لحسن وجهه ونظافة صورته، وقوله ‏"‏فأخلف يده ‏"‏ أي أدارها من خلفه، و قوله ‏"‏ بذقن الفضل ‏"‏ بفتح الذال المعجمة والقاف بعدها نون، قال ابن التين‏:‏ أخذ منه بعضهم أن الفضل كان حينئذ أمرد، وليس بصحيح، لأن في الرواية الأخرى ‏"‏ وكان الفضل رجلا وضيئا‏"‏‏.‏

فإن قيل سماه رجلا باعتبار ما آل إليه أمره قلنا‏.‏

بل الظاهر أنه وصف حالته حينئذ، ويقويه أن ذلك كان في حجة الوداع والفضل كان أكبر من أخيه عبد الله وقد كان عبد الله حينئذ راهق الاحتلام قلت‏:‏ وثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمه أن يزوج الفضل لما سأله أن يستعمله على الصدقة ليصيب ما يتزوج به، فهذا يدل على بلوغه قبل ذلك الوقت ولكن لا يلزم منه أن تكون نبتت لحيته كما لا يلزم من كونه لا لحية له أن يكون صبيا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا فَقَالَ إِذْ أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا عبد الله بن محمد‏)‏ هو الجعفي، وأبو عامر هو العقدي، وزهير هو ابن محمد التميمي، وزيد ابن أسلم هو مولى ابن عمر، وهكذا أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن أبي عامر، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق أخرى عن أبي عامر كذلك، وأخرجه أحمد وعبد بن حميد جميعا عن أبي عامر العقدي عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم، فكأن لأبي عامر فيه شيخين، وهو عند أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن زهير به، وأخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن زهير، وقد مضى في المظالم من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم‏.‏

قوله ‏(‏إياكم‏)‏ هو للتحذير‏.‏

قوله ‏(‏والجلوس‏)‏ بالنصب وقوله بالطرقات في رواية الكشميهني ‏"‏ في الطرقات ‏"‏ وفي رواية حفص بن ميسرة ‏"‏ على الطرقات ‏"‏ وهي جمع الطرق بضمتين وطرق جمع طريق‏.‏

وفي حديث أبي طلحة عند مسلم ‏"‏ كنا قعودا بالأفنية ‏"‏ جمع فناء بكسر الفاء ونون ومد وهو المكان المتسع أمام الدار ‏"‏ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ما لكم ولمجالس الصعدات ‏"‏ بضم الصاد والعين المهملتين جمع صعيد وهو المكان الواسع وتقدم بيانه في كتاب المظالم، ومثله لابن حبان من حديث أبي هريرة، زاد سعيد بن منصور من مرسل يحيى بن يعمر ‏"‏ فإنها سبيل من سبيل الشيطان أو النار‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فقالوا يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد، نتحدث فيها‏)‏ قال عياض‏:‏ فيه دليل على أن أمره لهم لم يكن للوجوب، وإنما كان على طريق الترغيب والأولى، إذ لو فهموا الوجوب لم يراجعوه هذه المراجعة، وقد يحتج به من لا يرى الأوامر على الوجوب‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكونوا رجوا وقوع النسخ تخفيفا لما شكوا من الحاجة إلى ذلك، ويؤيده أن في مرسل يحيى بن يعمر ‏"‏ فظن القوم أنها عزمة ‏"‏ ووقع في حديث أبي طلحة ‏"‏ فقالوا إنما قعدنا لغير ما بأس، قعدنا نتحدث ونتذاكر‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فإذا أبيتم‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ إذا أبيتم ‏"‏ بحذف الفاء‏.‏

قوله ‏(‏إلا المجلس‏)‏ كذا للجميع هنا بلفظ ‏"‏ إلا ‏"‏ بالتشديد، وتقدم في أواخر المظالم بلفظ فإذا أتيتم إلى المجالس بالمثناة بدل الموحدة في أتيتم وبتخفيف اللام من إلى، وذكر عياض أنه للجميع هناك هكذا، وقد بينت هناك أنه للكشميهني هناك كالذي هنا، ووقع في حديث أبي طلحة ‏"‏ إما لا ‏"‏ بكسر الهمزة ‏"‏ ولا ‏"‏ نافية وهي ممالة في الرواية، ويجوز ترك الإمالة‏.‏

ومعناه إلا تتركوا ذلك فافعلوا كذا‏.‏

وقال ابن الأنباري افعل كذا إن كنت لا تفعل كذا، ودخلت ‏"‏ ما ‏"‏ صلة‏.‏

وفي حديث عائشة عند الطبراني في الأوسط ‏"‏ فإن أبيتم إلا أن تفعلوا ‏"‏ وفي مرسل يحيى بن يعمر ‏"‏ فإن كنتم لا بد فاعلين‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فأعطوا الطريق حقه‏)‏ في رواية حفص بن ميسرة ‏"‏ حقها ‏"‏ والطريق يذكر ويؤنث، وفي حديث أبي شريح عند أحمد ‏"‏ فمن جلس منكم على الصعيد فليعطه حقه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قالوا وما حق الطريق‏)‏ ‏؟‏ في حديث أبي شريح ‏"‏ قلنا‏:‏ يا رسول الله وما حقه ‏"‏‏؟‏ ‏.‏

قوله ‏(‏غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر‏)‏ في حديث أبي طلحة الأولى والثانية وزاد ‏"‏ وحسن الكلام ‏"‏ وفي حديث أبي هريرة الأولى والثالثة وزاد ‏"‏ وإرشاد ابن السبيل وتشميت العاطس إذا حمد ‏"‏ وفي حديث عمر عند أبي داود وكذا في مرسل يحيى بن يعمر من الزيادة وتغيثوا الملهوف وتهدوا الضال، وهو عند البزار بلفظ وإرشاد الضال، وفي حديث البراء عند أحمد والترمذي ‏"‏ اهدوا السبيل وأعينوا المظلوم وأفشوا السلام ‏"‏ وفي حديث ابن عباس عند البزار من الزيادة ‏"‏ وأعينوا على الحمولة‏"‏‏.‏

وفي حديث سهل بن حنيف عند الطبراني من الزيادة ‏"‏ ذكر الله كثيرا ‏"‏ وفي حديث وحشي بن حرب عند الطبراني من الزيادة ‏"‏ واهدوا الأغبياء وأعينوا المظلوم ‏"‏ ومجموع ما في هذه الأحاديث أربعة عشر أدبا وقد نظمتها في ثلاثة أبيات وهي‏:‏ جمعت آداب من رام الجلوس على الطريق من قول خير الخلق إنسانا أفش السلام وأحسن في الكلام وشمت عاطسا وسلاما رد إحسانا في الحمل عاون ومظلوما أعن وأغث لهفان اهد سبيلا واهد حيرانا بالعرف مروانه عن نكر وكف أذى وغض طرفا وأكثر ذكر مولانا وقد اشتملت على معنى علة النهي عن الجلوس في الطرق من التعرض للفتن بخطور النساء الشواب وخوف ما يلحق من النظر إليهن من ذلك، إذ لم يمنع النساء من المرور في الشوارع لحوائجهن، ومن التعرض لحقوق الله وللمسلمين مما لا يلزم الإنسان إذا كان في بيته وحيث لا ينفرد أو يشتغل بما يلزمه، ومن رؤية المناكير وتعطيل المعارف، فيجب على المسلم الأمر والنهي عند ذلك فإن ترك ذلك فقد تعرض للمعصية، وكذا يتعرض لمن يمر عليه ويسلم عليه فإنه ربما كثر ذلك فيعجز عن الرد على كل مار، ورده فرض فيأثم، والمرء مأمور بأن لا يتعرض للفتن وإلزام نفسه ما لعله لا يقوى عليه، فندبهم الشارع إلى ترك الجلوس حسما للمادة، فلما ذكروا له ضرورتهم إلى ذلك لما فيه من المصالح من تعاهد بعضهم بعضا ومذاكرتهم في أمور الدين ومصالح الدنيا وترويح النفوس بالمحادثة في المباح دلهم على ما يزيل المفسدة من الأمور المذكورة، ولكل من الآداب المذكورة شواهد في أحاديث أخرى‏:‏ فأما إفشاء السلام فسيأتي في باب مفرد، وأما إحسان الكلام فقال عياض فيه ندب إلى حسن معاملة المسلمين بعضهم لبعض، فإن الجالس على الطريق يمر به العدد الكثير من الناس فربما سألوه عن بعض شأنهم ووجه طرقهم فيجب أن يتلقاهم بالجميل من الكلام، ولا يتلقاهم بالضجر وخشونة اللفظ، وهو من جملة كف الأذى قلت‏:‏ وله شواهد من حديث أبي شريح هانئ رفعه ‏"‏ من موجبات الجنة إطعام الطعام وإفشاء السلام وحسن الكلام ‏"‏ ومن حديث أبي مالك الأشعري رفعه ‏"‏ في الجنة غرف لمن أطاب الكلام ‏"‏ الحديث، وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم رفعه ‏"‏ اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة‏"‏‏.‏

وأما تشميت العاطس فمضى مبسوطا في أواخر كتاب الأدب، وأما رد السلام فسيأتي أيضا قريبا، وأما المعاونة على الحمل فله شاهد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ كل سلامي من الناس عليه صدقة ‏"‏ الحديث، وفيه ‏"‏ ويعين الرجل على دابته فيحمله عليها ويرفع له عليها متاعه صدقة ‏"‏ وأما إعانة المظلوم فتقدم في حديث البراء قريبا، وله شاهد آخر تقدم في كتاب المظالم، وأما إغاثة الملهوف فله شاهد في الصحيحين من حديث أبي موسى فيه ‏"‏ ويعين ذا الحاجة الملهوف ‏"‏ وفي حديث أبي ذر عند ابن حبان ‏"‏ وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث ‏"‏ وأخرج المرهبي في العلم من حديث أنس رفعه في حديث ‏"‏ والله يحب إغاثة اللهفان ‏"‏ وسنده ضعيف جدا، لكن له شاهد من حديث ابن عباس أصلح منه ‏"‏ والله يحب إغاثة اللهفان ‏"‏ وأما إرشاد السبيل فروى الترمذي وصححه ابن حبان من حديث أبي ذر مرفوعا ‏"‏ وإرشادك الرجل في أرض الضلال صدقة ‏"‏ وللبخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ والترمذي وصححه من حديث البراء رفعه ‏"‏ من منح منيحة أو هدى زقاقا كان له عدل عتق نسمة ‏"‏ وهدى بفتح الهاء وتشديد المهملة، والزقاق بضم الزاي وتخفيف القاف وآخره قاف معروف، والمراد من دل الذي لا يعرفه عليه إذا احتاج إلى دخوله، وفي حديث أبي ذر عند ابن حبان ‏"‏ ويسمع الأصم ويهدي الأعمى ويدل المستدل على حاجته ‏"‏ وأما هداية الحيران فله شاهد في الذي قبله، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ففيهما أحاديث كثيرة منها في حديث أبي ذر المذكور قريبا وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر صدقة ‏"‏ وأما كف الأذى فالمراد به كف الأذى عن المارة بأن لا يجلس حيث يضيق عليهم الطريق أو على باب منزل من يتأذى بجلوسه عليه أو حيث يكشف عياله أو ما يريد التستر به من حاله قاله عياض، قال‏:‏ ويحتمل أن يكون المراد كف أذى الناس بعضهم عن بعض انتهى‏.‏

وقد وقع في الصحيح من حديث أبي ذر رفعه ‏"‏ فكف عن الشر فإنها لك الصدقة ‏"‏ وهو يؤيد الأول، وأما غض البصر فهو المقصود من حديث الباب، وأما كثرة ذكر الله ففيه عدة أحاديث يأتي بعضها في الدعوات‏.‏

*3*باب السَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى

وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب السلام اسم من أسماء الله تعالى‏)‏ هذه الترجمة لفظ بعض حديث مرفوع له طرق ليس منها شيء على شرط المصنف في الصحيح، فاستعمله في الترجمة وأورد ما يؤدي معناه على شرطه وهو حديث التشهد لقوله فيه ‏"‏ فإن الله هو السلام ‏"‏ وكذا ثبت في القرآن في أسماء الله ‏(‏السلام المؤمن المهيمن‏)‏ ومعنى السلام السالم من النقائص، وقيل المسلم لعباده، وقيل المسلم على أوليائه‏.‏

وأما لفظ الترجمة فأخرجه في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من حديث أنس بسند حسن وزاد ‏"‏ وضعه الله في الأرض، فأفشوه بينكم ‏"‏ وأخرجه البزار والطبراني من حديث ابن مسعود موقوفا ومرفوعا، وطريق الموقوف أقوى‏.‏

وأخرجه البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ من حديث أبي هريرة مرفوعا بسند ضعيف وألفاظهم سواء‏.‏

وأخرج البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ عن ابن عباس موقوفا ‏"‏ السلام اسم الله وهو تحية أهل الجنة ‏"‏ وشاهده حديث المهاجر بن قنفذ أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه حتى توضأ وقال ‏"‏ إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر ‏"‏ أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره، ويحتمل أن يكون أراد ما في رد السلام من ذكر اسم الله صريحا في قوله ‏"‏ ورحمة الله‏"‏‏.‏

وقد اختلف في معنى السلام‏:‏ فنقل عياض أن معناه اسم الله أي كلاءة الله عليك وحفظه، كما يقال الله معك ومصاحبك‏.‏

وقيل‏:‏ معناه إن الله مطلع عليك فيما تفعل‏.‏

وقيل‏:‏ معناه إن اسم الله يذكر على الأعمال توقعا لاجتماع معاني الخيرات فيها وانتفاء عوارض الفساد عنها‏.‏

وقيل‏:‏ معناه السلامة كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏فسلام لك من أصحاب اليمين‏)‏ وكما قال الشاعر‏:‏ تحيى بالسلامة أم عمرو وهل لي بعد قومي من سلام فكأن المسلم أعلم من سلم عليه أنه سالم منه وأن لا خوف عليه منه‏.‏

وقال ابن دقيق العيد في ‏"‏ شرح الإلمام ‏"‏‏:‏ السلام يطلق بإزاء معان، منها السلامة، ومنها التحية، ومنها أنه اسم من أسماء الله‏.‏

قال وقد يأتي بمعنى التحية محضا‏.‏

وقد يأتي بمعنى السلامة محضا، وقد يأتي مترددا بين المعنيين كقوله تعالى ‏(‏ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا‏)‏ فإنه يحتمل التحية والسلامة، وقوله تعالى ‏(‏ولهم ما يدعون سلام قولا من رب رحيم‏)‏ ‏.‏

قوله ‏(‏وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها‏)‏ لم يقع في رواية أبي ذر ‏(‏أو ردوها‏)‏ ومناسبة ذكر هذه الآية في هذه الترجمة للإشارة إلى أن عموم الأمر بالتحية مخصوص بلفظ السلام كما دلت عليه الأحاديث المشار إليها في الباب الأول‏.‏

واتفق العلماء على ذلك إلا ما حكاه ابن التين عن ابن خويز منداد عن مالك أن المراد بالتحية في الآية الهدية لكن حكى القرطبي عن ابن خويز منداد أنه ذكره احتمالا، وادعى أنه قول الحنفية فإنهم احتجوا بذلك بأن السلام لا يمكن رده بعينه بخلاف الهدية فإن الذي يهدى له إن أمكنه أن يهدي أحسن منها فعل وإلا ردها بعينها‏.‏

وتعقب بأن المراد بالرد رد المثل لا رد العين، وذلك سائغ كثير‏.‏

ونقل القرطبي أيضا عن ابن القاسم وابن وهب عن مالك أن المراد بالتحية في الآية تشميت العاطس والرد على المشمت، قال‏:‏ وليس في السياق دلالة على ذلك، ولكن حكم التشميت والرد مأخوذ من حكم السلام والرد عند الجمهور، ولعل هذا هو الذي نحا إليه مالك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ السَّلَامُ عَلَى مِيكَائِيلَ السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ فَإِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَتَخَيَّرْ بَعْدُ مِنْ الْكَلَامِ مَا شَاءَ

الشرح‏:‏

حديث ابن مسعود في التشهد، وقد تقدم شرحه مستوفي في كتاب الصلاة، والغرض منه قوله فيه ‏"‏ إن الله هو السلام ‏"‏ وهو مطابق لما ترجم له‏.‏

واتفقوا على أن من سلم لم يجزئ في جوابه إلا السلام، ولا يجزئ في جوابه صبحت بالخير أو بالسعادة ونحو ذلك‏.‏

واختلف فيمن أتى في التحية بغير لفظ السلام هل يجب جوابه، أم لا‏؟‏ وأقل ما يحصل به وجوب الرد أن يسمع المبتدئ‏.‏

وحينئذ يستحق الجواب، ولا يكفي الرد بالإشارة، بل ورد الزجر عنه، وذلك فيما أخرجه الترمذي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه ‏"‏ لا تشبهوا باليهود والنصارى، فإن تسليم الإشارة بالإصبع، وتسليم النصارى بالأكف ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ غريب‏.‏

قلت‏:‏ وفي سنده ضعف، لكن أخرج النسائي بسند جيد عن جابر رفعه ‏"‏ لا تسلموا تسليم اليهود، فإن تسليمهم بالرءوس والأكف والإشارة ‏"‏ قال النووي‏:‏ لا يرد على هذا حديث أسماء بنت يزيد ‏"‏ مر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وعصبة من النساء قعود فألوى بيده بالتسليم ‏"‏ فإنه محمول على أنه جمع بين اللفظ والإشارة، وقد أخرجه أبو داود من حديثها بلفظ ‏"‏ فسلم علينا ‏"‏ انتهى‏.‏

والنهي عن السلام بالإشارة مخصوص بمن قدر على اللفظ حسا وشرعا، وإلا فهي مشروعة لمن يكون في شغل يمنعه من التلفظ بجواب السلام كالمصلي والبعيد والأخرس، وكذا السلام على الأصم، ولو أتى بالسلام بغير اللفظ العربي هل يستحق الجواب‏؟‏ فيه ثلاثة أقوال للعلماء، ثالثها يجب لمن يحسن بالعربية‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ الذي يظهر أن التحية بغير لفظ السلام من باب ترك المستحب وليس بمكروه إلا إن قصد به العدول عن السلام إلى ما هو أظهر في التعظيم من أجل أكابر أهل الدنيا، ويجب الرد على الفور، فلو أخر ثم استدرك فرد لم يعد جوابا قاله القاضي حسين وجماعة، وكأن محله إذا لم يكن عذر‏.‏

ويجب رد جواب السلام في الكتاب ومع الرسول، ولو سلم الصبي على بالغ وجب عليه الرد، ولو سلم على جماعة فيهم صبي فأجاب أجزأ عنهم في وجه‏.‏

*3*باب تَسْلِيمِ الْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب تسليم القليل على الكثير‏)‏ هو أمر نسبي يشمل الواحد بالنسبة للاثنين فصاعدا والاثنين بالنسبة للثلاثة فصاعدا وما فوق ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عبد الله‏)‏ هو ابن المبارك‏.‏

قوله ‏(‏يسلم‏)‏ كذا للجميع بصيغة الخبر وهو بمعنى الأمر، وقد ورد صريحا في رواية عبد الرزاق عن معمر عند أحمد بلفظ ‏"‏ ليسلم ‏"‏ ويأتي شرحه فيما بعده، قال الماوردي‏:‏ لو دخل شخص مجلسا فإن كان الجمع قليلا يعمهم سلام واحد فسلم كفاه، فإن زاد فخصص بعضهم فلا بأس، ويكفي أن يرد منهم واحد، فإن زاد فلا بأس، وإن كانوا كثيرا بحيث لا ينتشر فيهم فيبتدئ أول دخوله إذا شاهدهم، وتتأدى سنة السلام في حق جميع من يسمعه، ويجب على من سمعه الرد على الكفاية‏.‏

وإذا جلس سقط عنه سنة السلام فيمن لم يسمعه من الباقين، وهل يستحب أن يسلم على من جلس عندهم ممن لم يسمعه‏؟‏ وجهان‏:‏ أحدهما إن عاد فلا بأس، وإلا فقد سقطت عنه سنة السلام لأنهم جمع واحد، وعلى هذا يسقط فرض الرد بفعل بعضهم، والثاني أن سنة السلام باقية في حق من لم يبلغهم سلامه المتقدم فلا يسقط فرض الرد من الأوائل عن الأواخر‏.‏

*3*باب تَسْلِيمِ الرَّاكِبِ عَلَى الْمَاشِي

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب يسلم الراكب على الماشي‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ تسليم ‏"‏ على وفق الترجمة التي قبلها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا مَخْلَدٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي زِيَادٌ أَنَّهُ سَمِعَ ثَابِتًا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏مخلد‏)‏ هو ابن يزيد‏.‏

قوله ‏(‏زياد‏)‏ هو ابن سعد الخراساني نزيل مكة، وقد وقع في رواية الإسماعيلي هنا ‏"‏ زياد بن سعد‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أنه سمع ثابتا مولى ابن يزيد‏)‏ في رواية غير أبي ذر ‏"‏ عبد الرحمن بن زيد ‏"‏ ووقع في رواية روح التي بعدها ‏"‏ أن ثابتا أخبره وهو مولى عبد الرحمن بن زيد ‏"‏ وزيد المذكور هو ابن الخطاب أخو عمر بن الخطاب ولذلك نسبوا ثابتا عدويا، وحكى أبو علي الجياني أن في رواية الأصيلي عن الجرجاني ‏"‏ عبد الرحمن بن يزيد ‏"‏ بزيادة ياء في أوله وهو وهم، وثابت هو ابن الأحنف وقيل ابن عياض بن الأحنف وقيل إن الأحنف لقب عياض، وليس لثابت في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في المصراة من كتاب البيوع‏.‏

قوله ‏(‏يسلم الراكب على الماشي‏)‏ كذا ثبت في هذه الرواية، ولم يذكر ذلك في رواية همام كما ذكر في رواية همام الصغير على الكبير ولم يذكر في هذه، فكأن كلا منهما حفظ ما لم يحفظ الآخر، وقد وافق هماما عطاء بن يسار كما سيأتي بعده، واجتمع من ذلك أربعة أشياء وقد اجتمعت في رواية الحسن عن أبي هريرة عند الترمذي وقال‏:‏ روي من غير وجه عن أبي هريرة، ثم حكى قول أيوب وغيره أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة‏.‏

*3*باب تَسْلِيمِ الْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب يسلم الماشي على القاعد‏)‏ ذكر فيه الحديث الذي قبله من وجه آخر عن ابن جريج؛ وله شاهد من حديث عبد الرحمن بن شبل بكسر المعجمة وسكون الموحدة بعدها لام بزيادة أخرجه عبد الرزاق وأحمد بسند صحيح بلفظ ‏"‏ يسلم الراكب على الراجل، والراجل على الجالس والأقل على الأكثر‏.‏

فمن أجاب كان له ومن لم يجب فلا شيء له‏"‏‏.‏

*3*باب تَسْلِيمِ الصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب يسلم الصغير على الكبير‏)‏ وقال إبراهيم هو ابن طهمان‏:‏ وثبت كذلك في رواية أبي ذر‏.‏

وقد وصله البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ قال ‏"‏ حدثنا أحمد بن أبي عمرو حدثني أبي حدثني إبراهيم بن طهمان به سواء ‏"‏ وأبو عمرو هو حفص بن عبد الله بن راشد السلمي قاضي نيسابور، ووصله أيضا أبو نعيم من طريق عبد الله بن العباس، والبيهقي من طريق أبي حامد بن الشرفي كلاهما عن أحمد بن حفص به، وأما قول الكرماني‏:‏ عبر البخاري بقوله ‏"‏ وقال إبراهيم ‏"‏ لأنه سمع منه في مقام المذاكرة فغلط عجيب، فإن البخاري لم يدرك إبراهيم بن طهمان فضلا عن أن يسمع منه، فإنه مات قبل مولد البخاري بست وعشرين سنة، وقد ظهر بروايته في الأدب أن بينهما في هذا الحديث رجلين‏.‏

قوله ‏(‏والمار على القاعد‏)‏ هو كذا في رواية همام، وهو أشمل من رواية ثابت التي قبلها بلفظ ‏"‏ الماشي ‏"‏ لأنه أعم من أن يكون المار ماشيا أو راكبا، وقد اجتمعا في حديث فضالة بن عبيد عند البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ والترمذي وصححه والنسائي وصحيح ابن حبان بلفظ ‏"‏ يسلم الفارس على الماشي والماشي على القائم ‏"‏ وإذا حمل القائم على المستقر كان أعم من أن يكون جالسا أو واقفا أو متكئا أو مضطجعا، وإذا أضيفت هذه الصورة إلى الراكب تعددت الصور، وتبقى صورة لم تقع منصوصة وهي ما إذا تلاقى ماران راكبان أو ماشيان وقد تكلم عليها المازري فقال‏:‏ يبدأ الأدنى منهما الأعلى قدرا في الدين إجلالا لفضله، لأن فضيلة الدين مرغب فيها في الشرع، وعلى هذا لو التقى راكبان ومركوب أحدهما أعلى في الحس من مركوب الآخر كالجمل والفرس فيبدأ راكب الفرس، أو يكتفي بالنظر إلى أعلاهما قدرا في الدين فيبتدؤه الذي دونه، هذا الثاني أظهر كما لا نظر إلى من يكون أعلاهما قدرا من جهة الدنيا، إلا أن يكون سلطانا يخشى منه، وإذا تساوى المتلاقيان من كل جهة فكل منهما مأمور بالابتداء، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام كما تقدم في حديث المتهاجرين في أبواب الأدب‏.‏

وأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ بسند صحيح من حديث جابر قال ‏"‏ الماشيان إذا اجتمعا فأيهما بدأ بالسلام فهو أفضل ‏"‏ ذكره عقب رواية ابن جريج عن زياد بن سعد عن ثابت عن أبي هريرة بسنده المذكور عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر وصرح فيه بالسماع‏.‏

وأخرج أبو عوانة وابن حبان في صحيحيهما والبزار من وجه آخر عن ابن جريج الحديث بتمامه مرفوعا بالزيادة‏.‏

وأخرج الطبراني بسند صحيح عن الأغر المزني ‏"‏ قال لي أبو بكر لا يسبقك أحد إلى السلام ‏"‏ والترمذي من حديث أبي أمامة رفعه ‏"‏ إن أولى الناس بالله من بدأ بالسلام ‏"‏ وقال‏:‏ حسن‏.‏

وأخرج الطبراني من حديث أبي الدرداء ‏"‏ قلنا‏:‏ يا رسول الله إنا نلتقي فأينا يبدأ بالسلام‏؟‏ قال‏:‏ أطوعكم لله‏.‏

قوله ‏(‏والقليل على الكثير‏)‏ تقدم تقريره، لكن لو عكس الأمر فمر جمع كثير على جمع قليل، وكذا لو مر الصغير على الكبير، لم أر فيهما نصا‏.‏

واعتبر النووي المرور فقال الوارد يبدأ سواء كان صغيرا أم كبيرا قليلا أم كثيرا، ويوافقه قول المهلب‏:‏ إن المار في حكم الداخل، وذكر الماوردي أن من مشى في الشوارع المطروقة كالسوق أنه لا يسلم إلا على البعض، لأنه لو سلم على كل من لقي لتشاغل به عن المهم الذي خرج لأجله ولخرج به عن العرف قلت‏:‏ ولا يعكر على هذا ما أخرجه البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ عن الطفيل بن أبي ابن كعب قال ‏"‏ كنت أغدو مع ابن عمر إلى السوق فلا يمر على بياع ولا أحد إلا سلم عليه‏.‏

فقلت‏:‏ ما تصنع بالسوق وأنت لا تقف على البيع ولا تسأل عن السلع‏؟‏ قال‏:‏ إنما نغدو من أجل السلام على من لقينا ‏"‏ لأن مراد الماوردي من خرج في حاجة له فتشاغل عنها بما ذكر، والأثر المذكور ظاهر في أنه خرج لقصد تحصيل ثواب السلام‏.‏

وقد تكلم العلماء على الحكمة فيمن شرع لهم الابتداء، فقال ابن بطال عن المهلب‏:‏ تسليم الصغير لأجل حق الكبير لأنه أمر بتوقيره والتواضع له، وتسليم القليل لأجل حق الكثير لأن حقهم أعظم، وتسليم المار لشبهه بالداخل على أهل المنزل، وتسليم الراكب لئلا يتكبر بركوبه فيرجع إلى التواضع‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ حاصل ما في هذا الحديث أن المفضول بنوع ما يبدأ الفاضل‏.‏

وقال المازري‏:‏ أما أمر الراكب فلأن له مزية على الماشي فعوض الماشي بأن يبدأه الراكب بالسلام احتياطا على الراكب من الزهو أن لو حاز الفضيلتين، وأما الماشي فلما يتوقع القاعد منه من الشر ولا سيما إذا كان راكبا، فإذا ابتدأه بالسلام أمن منه ذلك وأنس إليه، أو لأن في التصرف في الحاجات امتهانا فصار للقاعد مزية فأمر بالابتداء، أو لأن القاعد يشق عليه مراعاة المارين مع كثرتهم فسقطت البداءة عنه للمشقة، بخلاف المار فلا مشقة عليه، وأما القليل فلفضيلة الجماعة أو لأن الجماعة لو ابتدءوا لخيف على الواحد الزهو فاحتيط له، ولم يقع تسليم الصغير على الكبير في صحيح مسلم وكأنه لمراعاة السن فإنه معتبر في أمور كثيرة في الشرع، فلو تعارض الصغر المعنوي والحسي كأن يكون الأصغر أعلم مثلا فيه نظر، ولم أر فيه نقلا‏.‏

والذي يظهر اعتبار السن لأنه الظاهر، كما تقدم الحقيقة على المجاز‏.‏

ونقل ابن دقيق العيد عن ابن رشد أن محل الأمر في تسليم الصغير على الكبير إذا التقيا فإن كان أحدهما راكبا والآخر ماشيا بدأ الراكب، وإن كانا راكبين أو ماشيين بدأ الصغير‏.‏

وقال المازري وغيره‏:‏ هذه المناسبات لا يعترض عليها بجزئيات تخالفها لأنها لم تنصب نصب العلل الواجبة الاعتبار حتى لا يجوز أن يعدل عنها، حتى لو ابتدأ الماشي فسلم على الراكب لم يمتنع لأنه ممتثل للأمر بإظهار السلام وإفشائه، غير أن مراعاة ما ثبت في الحديث أولى وهو خبر بمعنى الأمر على سبيل الاستحباب، ولا يلزم من ترك المستحب الكراهة، بل يكون خلاف الأولى، فلو ترك المأمور بالابتداء فبدأه الآخر كان المأمور تاركا للمستحب والآخر فاعلا للسنة، إلا إن بادر فيكون تاركا للمستحب أيضا‏.‏

وقال المتولي‏:‏ لو خالف الراكب أو الماشي ما دل عليه الخبر كره، قال‏:‏ والوارد يبدأ بكل حال‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ لو جاء أن الكبير يبدأ الصغير والكثير يبدأ القليل لكان مناسبا، لأن الغالب أن الصغير يخاف من الكبير والقليل من الكثير، فإذا بدأ الكبير والكثير أمن منه الصغير والقليل، لكن لما كان من شأن المسلمين أن يأمن بعضهم بعضا اعتبر جانب التواضع كما تقدم، وحيث لا يظهر رجحان أحد الطرفين باستحقاقه التواضع له اعتبر الإعلام بالسلامة والدعاء له رجوعا إلى ما هو الأصل، فلو كان المشاة كثيرا والقعود قليلا تعارضا ويكون الحكم حكم اثنين تلاقيا معا فأيهما بدأ فهو أفضل، ويحتمل ترجيح جانب الماشي كما تقدم، والله أعلم

*3*باب إِفْشَاءِ السَّلَامِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إفشاء السلام‏)‏ كذا للنسفي وأبي الوقت، وسقط لفظ ‏"‏ باب ‏"‏ للباقين‏.‏

والإفشاء الإظهار، والمراد نشر السلام بين الناس ليحيوا سنته‏.‏

وأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ بسند صحيح عن ابن عمر ‏"‏ إذا سلمت فأسمع فإنها تحية من عند الله ‏"‏ قال النووي‏:‏ أقله أن يرفع صوته بحيث يسمع المسلم عليه، فإن لم يسمعه لم يكن آتيا بالسنة‏.‏

ويستحب أن يرفع صوته بقدر ما يتحقق أنه سمعه، فإن شك استظهر‏.‏

ويستثنى من رفع الصوت بالسلام ما إذا دخل على مكان فيه أيقاظ ونيام فالسنة فيه ما ثبت في، صحيح مسلم عن المقداد قال ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيء من الليل فيسلم تسليما لا يوقظ نائما ويسمع اليقظان ‏"‏ ونقل النووي عن المتولي أنه قال ‏"‏ يكره إذا لقي جماعة أن يخص بعضهم بالسلام‏.‏

لأن القصد بمشروعية السلام تحصيل الألفة، وفي التخصيص إيحاش لغير من خص بالسلام‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَنَصْرِ الضَّعِيفِ وَعَوْنِ الْمَظْلُومِ وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ وَنَهَى عَنْ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ وَنَهَانَا عَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ وَعَنْ رُكُوبِ الْمَيَاثِرِ وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالْقَسِّيِّ وَالْإِسْتَبْرَقِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏جرير‏)‏ هو ابن عبد الحميد، والشيباني هو أبو إسحاق، وأشعث هو ابن أبي الشعثاء بمعجمة ثم مهملة ثم مثلثة فيه وفي أبيه، واسم أبيه سليم بن أسود‏.‏

قوله ‏(‏عن معاوية بن قرة‏)‏ كذا للأكثر وخالفهم جعفر بن عوف فقال عن الشيباني عن أشعث عن سويد ابن غفلة عن البراء وهي رواية شاذة أخرجها الإسماعيلي‏.‏

قوله ‏(‏أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع‏:‏ بعيادة المريض الحديث‏)‏ تقدم في اللباس أنه ذكر في عدة مواضع لم يسقه بتمامه في أكثرها، وهذا الموضع مما ذكر فيه سبعا مأمورات وسبعا منهيات، والمراد منه هنا إفشاء السلام، وتقدم شرح عيادة المريض في الطب واتباع الجنائز فيه وعون المظلوم في كتاب المظالم وتشميت العاطس في أواخر الأدب وسيأتي إبرار القسم في كتاب الأيمان والنذور، وسبق شرح المناهي في الأشربة وفي اللباس، وأما نصر الضعيف المذكور هنا فسبق حكمه في كتاب المظالم، ولم يقع في أكثر الروايات في حديث البراء هذا، وإنما وقع بدله إجابة الداعي، وقد تقدم شرحه في كتاب الوليمة من كتاب النكاح‏.‏

قال الكرماني‏:‏ نصر الضعيف من جملة إجابة الداعي لأنه قد يكون ضعيفا وإجابته نصره، أو أن لا مفهوم للعدد المذكور وهو السبع فتكون المأمورات ثمانية، كذا قال؛ والذي يظهر لي أن إجابة الداعي سقطت من هذه الرواية، وأن نصر الضعيف المراد به عون المظلوم الذي ذكر في غير هذه الطريق، ويؤيد هذا الاحتمال أن البخاري حذف بعض المأمورات من غالب المواضع التي أورد الحديث فيها اختصارا‏.‏

قوله ‏(‏وإفشاء السلام‏)‏ تقدم في الجنائز بلفظ ورد السلام، ولا مغايرة في المعنى لأن ابتداء السلام ورده متلازمان، وإفشاء السلام ابتداء يستلزم إفشاءه جوابا، وقد جاء إفشاء السلام من حديث البراء بلفظ آخر وهو عند المصنف في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ وصححه ابن حبان من طريق عبد الرحمن بن عوسجة عنه رفعه ‏"‏ أفشوا السلام تسلموا ‏"‏ وله شاهد من حديث أبي الدرداء مثله عند الطبراني، ولمسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا ‏"‏ ألا أدلكم على ما تحابون به‏؟‏ أفشوا السلام بينكم ‏"‏ قال ابن العربي‏:‏ فيه أن من فوائد إفشاء السلام حصول المحبة بين المتسالمين، وكان ذلك لما فيه من ائتلاف الكلمة لتعم المصلحة بوقوع المعاونة على إقامة شرائع الدين وإخزاء الكافرين، وهي كلمة إذا سمعت أخلصت القلب الواعي لها عن النفور إلى الإقبال على قائلها‏.‏

وعن عبد الله بن سلام رفعه ‏"‏ أطعموا الطعام وأفشوا السلام ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ تدخلوا الجنة بسلام ‏"‏ أخرجه البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ وصححه الترمذي والحاكم، وللأولين وصححه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمرو رفعه ‏"‏ اعبدوا الرحمن، وأفشوا السلام ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ تدخلوا الجنان ‏"‏ والأحاديث في إفشاء السلام كثيرة منها عند البزار من حديث الزبير وعند أحمد من حديث عبد الله بن الزبير وعند الطبراني من حديث ابن مسعود وأبي موسى وغيرهم، ومن الأحاديث في إفشاء السلام ما أخرجه النسائي عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ إذا قعد أحدكم فليسلم وإذا قام فليسلم فليست الأولى أحق من الآخرة ‏"‏ وأخرج ابن أبي شيبة من طريق مجاهد عن ابن عمر قال ‏"‏ إن كنت لأخرج إلى السوق وما لي حاجة إلا أن أسلم ويسلم علي ‏"‏ وأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من طريق الطفيل بن أبي بن كعب عن ابن عمر نحوه لكن ليس فيها شيء على شرط البخاري فاكتفى بما ذكره من حديث البراء، واستدل بالأمر بإفشاء السلام على أنه لا يكفي السلام سرا بل يشترط الجهر وأقله أن يسمع في الابتداء وفي الجواب، ولا تكفي الإشارة باليد ونحوه‏.‏

وقد أخرج النسائي بسند جيد عن جابر رفعه ‏"‏ لا تسلموا تسليم اليهود فإن تسليمهم بالرءوس والأكف ‏"‏ ويستثنى من ذلك حالة الصلاة فقد وردت أحاديث جيدة أنه صلى الله عليه وسلم رد السلام وهو يصلي إشارة، منها حديث أبي سعيد ‏"‏ أن رجلا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فرد عليه إشارة ‏"‏ ومن حديث ابن مسعود نحوه، وكذا من كان بعيدا بحيث لا يسمع التسليم يجوز السلام عليه إشارة ويتلفظ مع ذلك بالسلام وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال ‏"‏ يكره السلام باليد ولا يكره بالرأس ‏"‏ وقال ابن دقيق العيد‏:‏ استدل بالأمر بإفشاء السلام من قال بوجوب الابتداء بالسلام، وفيه نظر إذ لا سبيل إلى القول بأنه فرض عين على التعميم من الجانبين وهو أن يجب على كل أحد أن يسلم على كل من لقيه لما في ذلك من الحرج والمشقة، فإذا سقط من جانبي العمومين سقط من جانبي الخصوصين إذ لا قائل يجب على واحد دون الباقين، ولا يجب السلام على واحد دون الباقين، قال‏:‏ وإذا سقط على هذه الصورة لم يسقط الاستحباب لأن العموم بالنسبة إلى كلا الفريقين ممكن انتهى‏.‏

وهذا البحث ظاهر في حق من قال إن ابتداء السلام فرض عين، وأما من قال فرض كفاية فلا يرد عليه إذا قلنا إن فرض الكفاية ليس واجبا على واحد بعينه، قال ويستثنى من الاستحباب من ورد الأمر بترك ابتدائه بالسلام كالكافر قلت‏:‏ ويدل عليه قوله في الحديث المذكور قبل ‏"‏ إذا فعلتموه تحاببتم ‏"‏ والمسلم مأمور بمعاداة الكافر فلا يشرع له فعل ما يستدعي محبته ومواددته‏.‏

‏"‏ وسيأتي البحث في ذلك في ‏"‏ باب التسليم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين‏"‏، وقد اختلف أيضا في مشروعية السلام على الفاسق وعلى الصبي، وفي سلام الرجل على المرأة وعكسه، وإذا جمع المجلس كافرا ومسلما هل يشرع السلام مراعاة لحق المسلمين‏؟‏ أو يسقط من أجل الكافر‏؟‏ وقد ترجم المصنف لذلك كله‏.‏

وقال النووي يستثنى من العموم بابتداء السلام من كان مشتغلا بأكل أو شرب أو جماع، أو كان في الخلاء أو الحمام أو نائما أو ناعسا أو مصليا أو مؤذنا ما دام متلبسا بشيء مما ذكر، فلو لم تكن اللقمة في فم الآكل مثلا شرع السلام عليه، ويشرع في حق المتبايعين وسائر المعاملات، واحتج له ابن دقيق العيد بأن الناس غالبا يكونون في أشغالهم فلو روعي ذلك لم يحصل امتثال الإفشاء‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ احتج من منع السلام على من في الحمام بأنه بيت الشيطان وليس موضع التحية لاشتغال من فيه بالتنظيف، قال وليس هذا المعنى بالقوي في الكراهة، بل يدل على عدم الاستحباب‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدم في كتاب الطهارة من البخاري ‏"‏ إن كان عليهم إزار فيسلم وإلا فلا ‏"‏ وتقدم البحث فيه هناك‏.‏

وقد ثبت في صحيح مسلم عن أم هانئ ‏"‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل وفاطمة تستره فسلمت عليه ‏"‏ الحديث‏.‏

قال النووي‏:‏ وأما السلام حال الخطبة في الجمعة فيكره للأمر بالإنصات، فلو سلم لم يجب الرد عند من قال الإنصات واجب، ويجب عند من قال إنه سنة، وعلى الوجهين لا ينبغي أن يرد أكثر من واحد، وأما المشتغل بقراءة القرآن فقال الواحدي الأولى ترك السلام عليه فإن سلم عليه كفاه الرد بالإشارة، وإن رد لفظا استأنف الاستعاذة وقرأ‏.‏

قال النووي‏:‏ وفيه نظر، والظاهر أنه يشرع السلام عليه ويجب عليه الرد، ثم قال‏:‏ وأما من كان مشتغلا بالدعاء مستغرقا فيه مستجمع القلب فيحتمل أن يقال هو كالقارئ، والأظهر عندي أنه يكره السلام عليه لأنه يتنكد به ويشق عليه أكثر من مشقة الأكل‏.‏

وأما الملبي في الإحرام فيكره أن يسلم عليه لأن قطعه التلبية مكروه، ويجب عليه الرد مع ذلك لفظا أن لو سلم عليه، قال‏:‏ ولو تبرع واحد من هؤلاء برد السلام إن كان مشتغلا بالبول ونحوه فيكره ‏"‏ وإن كان آكلا ونحوه فيستحب في الموضع الذي لا يجب، وإن كان مصليا لم يجز أن يقول بلفظ المخاطبة كعليك السلام أو عليك فقط، فلو فعل بطلت إن علم التحريم لا إن جهل في الأصح، فلو أتى بضمير الغيبة لم تبطل، ويستحب أن يرد بالإشارة، وإن رد بعد فراغ الصلاة لفظا فهو أحب، وإن كان مؤذنا أو ملبيا لم يكره له الرد لفظا لأنه قدر يسير لا يبطل الموالاة‏.‏

وقد تعقب والدي رحمه الله في نكته على الأذكار ما قاله الشيخ في القارئ لكونه يأتي في حقه نظير ما أبداه هو في الداعي، لأن القارئ قد يستغرق فكره في تدبر معاني ما يقرؤه، ثم اعتذر عنه بأن الداعي يكون مهتما بطلب حاجته فيغلب عليه التوجه طبعا، والقارئ إنما يطلب منه التوجه شرعا فالوساوس مسلطة عليه ولو فرض أنه يوفق للحاجة العلية فهو على ندور انتهى‏.‏

ولا يخفى أن التعليل الذي ذكره الشيخ من تنكد الداعي يأتي نظيره في القارئ، وما ذكره الشيخ في بطلان الصلاة إذا رد السلام بالخطاب ليس متفقا عليه، فعن الشافعي نص في أنه لا تبطل لأنه لا يريد حقيقة الخطاب بل الدعاء، وإذا عذرنا الداعي والقارئ بعدم الرد فرد بعد الفراغ كان مستحبا‏.‏

وذكر بعض الحنفية أن من جلس في المسجد للقراءة أو التسبيح أو لانتظاره الصلاة لا يشرع السلام عليهم، وإن سلم عليهم لم يجب الجواب، قال وكذا الخصم إذا سلم على القاضي لا يجب عليه الرد‏.‏

وكذلك الأستاذ إذا سلم عليه تلميذه لا يجب الرد عليه، كذا قال‏.‏

وهذا الأخير لا يوافق عليه‏.‏

ويدخل في عموم إفشاء السلام، السلام على النفس لمن دخل مكانا ليس فيه أحد، لقوله تعالى ‏(‏فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم‏)‏ الآية‏.‏

وأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ وابن أبي شيبة بسند حسن عن ابن عمر ‏"‏ فيستحب إذا لم يكن أحد في البيت أن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين‏.‏

وأخرج الطبري عن ابن عباس ومن طريق كل من علقمة وعطاء ومجاهد نحوه، ويدخل فيه من مر على من ظن أنه إذا سلم عليه لا يرد عليه فإنه يشرع له السلام ولا يتركه لهذا الظن لأنه قد يخطئ، قال النووي‏:‏ وأما قول من لا تحقيق عنده أن ذلك يكون سببا لتأثيم الآخر فهو غباوة، لأن المأمورات الشرعية لا تترك بمثل هذا، ولو أعملنا هذا لبطل إنكار كثير من المنكرات‏.‏

قال‏:‏ وينبغي لمن وقع له ذلك أن يقول له بعبارة لطيفة رد السلام واجب، فينبغي أن ترد ليسقط عنك الفرض، وينبغي إذا تمادى على الترك أن يحلله من ذلك لأنه حق آدمي، ورجح ابن دقيق العيد في ‏"‏ شرح الإلمام ‏"‏ المقالة التي زيفها النووي بأن مفسدة توريط المسلم في المعصية أشد من ترك مصلحة السلام عليه، ولا سيما وامتثال الإفشاء قد حصل مع غيره‏.‏