فصل: باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلَى قَوْلِهِ وَهُوَ مُلِيمٌ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى الْآيَةَ لَتَنُوءُ لَتُثْقِلُ

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أُولِي الْقُوَّةِ لَا يَرْفَعُهَا الْعُصْبَةُ مِنْ الرِّجَالِ يُقَالُ الْفَرِحِينَ الْمَرِحِينَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ مِثْلُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِ وَيُضَيِّقُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إن قارون كان من قوم موسى الآية‏)‏ هو قارون بن يصفد بن يصهر ابـن عم‏.‏

موسى، وقيل‏:‏ كان عم يوسف، والأول أصح فقد روى ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه كان ابن عم موسى قال‏:‏ وكذا قال قتادة وإبراهيم النخعي وعبد الله بن الحارث وسماك بن حرب، واختلف في تفسير بغي قارون فقيل‏:‏ الحسد، لأنه قال‏:‏ ذهب موسى وهارون بالأمر فلم يبق لي شيء‏.‏

وقيل‏:‏ أنه واطأ امرأة من البغايا أن تقذف موسى بنفسها فألهمها الله أن اعترفت بأنه هو الذي حملها على ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ الكبر، لأنه طغى بكثرة ماله‏.‏

وقيل‏:‏ هو أول من أطال ثيابه حتى زادت على قامته شبرا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لتنوء‏:‏ لتثقل‏)‏ هو تفسير ابن عباس أورده ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه في قوله‏:‏ ‏(‏ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة‏)‏ يقول تثقل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال ابن عباس‏:‏ أولي القوة لا يرفعها العصبة من الرجال‏)‏ واختلف في العصبة فقيل عشرة، وقيل‏:‏ خمسة عشر، وقيل‏:‏ أربعون، وقيل‏:‏ من عشرة إلى أربعين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الفرحين‏:‏ المرحين‏)‏ هو تفسير ابن عباس أورده ابن أبي حاتم أيضا من طريق ابن أبي طلحة عنه في قوله‏:‏ ‏(‏إن الله لا يحب الفرحين‏)‏ أي المرحين، والمعنى أنهم يبطرون فلا يشكرون الله على نعمه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويكأن الله، مثل ألم تر أن الله‏)‏ هو قول أبي عبيدة، واستشهد بقول الشاعر‏:‏ ويكـأن من يكن لـه نشب يحبـ ـب ومن يفتقر يـعش عيش ضر وذهب قطرب إلى أن ‏"‏ وي ‏"‏ كلمة تفجع و ‏"‏ كأن ‏"‏ حرف تشبيه، وعن الفراء هي كلمة موصولة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏:‏ يوسع عليه ويضيق‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء‏)‏ يوسع ويكثر‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏(‏ويقدر‏)‏ هو مثل قوله‏:‏ ‏(‏ومن قدر عليه رزقه‏)‏ أي ضاق‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ لم يذكر المصنف في قصة قارون إلا هذه الآثار، وهي ثابتة في رواية المستملي والكشميهني فقط‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن ابن عباس قال‏:‏ كان موسى يقول لبني إسرائيل إن الله يأمركم بكذا حتى دخل عليهم في أموالهم فشق ذلك على قارون فقال لبني إسرائيل‏:‏ إن موسى يقول‏:‏ من زنى رجم، فتعالوا نجعل لبغي شيئا حتى تقول إن موسى فعل بها فيرجم فنستريح منه، ففعلوا ذلك، فلما خطبهم موسى قالوا له‏:‏ وإن كنت أنت‏؟‏ قال‏:‏ وإن كنت أنا‏.‏

فقالوا‏:‏ فقد زنيت، فأرسلوا إلى المرأة فلما جاءت عظم عليها موسى، وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل إلا صدقت، فأقرت بالحق، فخر موسى ساجدا يبكي، فأوحى الله إليه‏:‏ إني أمرت الأرض أن تطيعك فأمرها بما شئت، فأمرها فخسفت بقارون ومن معه‏.‏

وكان من قصة قارون أنه حصل أموالا عظيمة جدا حتى قيل‏:‏ كانت مفاتيح خزائنه كانت من جلود تحمل على أربعين بغلا وكان يسكن تنيس، فحكي أن عبد العزيز الحروري ظفر ببعض كنوز قارون وهو أمير على تنيس، فلما مات تأمر ابنه علي مكانه وتورع ابنه الحسن بن عبد العزيز عن ذلك فيقال‏:‏ إن عليا كتب إلى أخيه الحسن إني استطيبت لك من مال أبيك مائة ألف دينار فخدها فقال‏:‏ أنا تركت الكثير من ماله لأنه لم يطب لي فكيف هذا القليل‏؟‏ وقد روى البخاري في هذا الصحيح عن الحسن بن عبد العزيز هذا‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا

إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ لِأَنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ وَمِثْلُهُ وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ وَاسْأَلْ الْعِيرَ يَعْنِي أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَأَهْلَ الْعِيرِ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ يُقَالُ إِذَا لَمْ يَقْضِ حَاجَتَهُ ظَهَرْتَ حَاجَتِي وَجَعَلْتَنِي ظِهْرِيًّا قَالَ الظِّهْرِيُّ أَنْ تَأْخُذَ مَعَكَ دَابَّةً أَوْ وِعَاءً تَسْتَظْهِرُ بِهِ مَكَانَتُهُمْ وَمَكَانُهُمْ وَاحِدٌ يَغْنَوْا يَعِيشُوا تَأْسَ تَحْزَنْ آسَى أَحْزَنُ وَقَالَ الْحَسَنُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَيْكَةُ الْأَيْكَةُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِظْلَالُ الْغَمَامِ الْعَذَابَ عَلَيْهِمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول الله تعالى‏:‏ وإلى مدين أخاهم شعيبا‏)‏ هو شعيب بن ميكيل بن يشجر بن لاوي بن يعقوب، كذا قال ابن إسحاق ولا يثبت‏.‏

وقيل‏:‏ يشجر بن عنقا بن مدين بن إبراهيم‏.‏

وقيل‏:‏ هو شعيب بن صفور بن عنقا بن ثابت بن مدين‏.‏

وكأن مدين ممن آمن بإبراهيم لما أحرق‏.‏

وروى ابن حبان في حديث أبي ذر الطويل ‏"‏ أربعة من العرب‏:‏ هود وصالح وشعيب ومحمد ‏"‏ فعلى هذا هو من العرب العاربة‏.‏

وقيل‏:‏ إنه من بني عنزة بن أسد، ففي حديث سلمة بن سعيد العنزي ‏"‏ أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فانتسب إلى عنزة فقال‏:‏ نعم الحي عنزة مبغي عليهم منصورون رهط شعيب وأختان موسى ‏"‏ أخرجه الطبراني، وفي إسناده مجاهيل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلى أهل مدين، لأن مدين بلد ومثله ‏(‏واسأل القرية - واسأل العير‏)‏ يعني أهل القرية وأهل العير‏)‏ هو قول أبي عبيدة قاله في تفسير سورة هود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وراءكم ظهريا لم يلتفتوا إليه، ويقال إذا لم تقض حاجته ظهرت حاجتي وجعلتني ظهريا قال‏:‏ الظهري أن تأخذ معك دابة أو وعاء تستظهر به‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏وراءكم ظهريا‏)‏ أي ألقيتموه خلف ظهوركم فلم تلتفتوا إليه، وتقول للذي لا يقضي حاجتك ولا يلتفت إليها‏:‏ ظهرت بحاجتي وجعلتها ظهرية أي خلف ظهرك، قال الشاعر‏:‏ وجدنا بني البرصاء من ولد الظهر أي من الذين يظهرون بهم ولا يلتفتون إليهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مكانتهم ومكانهم واحد‏)‏ هكذا وقع، وإنما هو في قصة شعيب ‏(‏مكانتكم‏)‏ في قوله‏:‏ ‏(‏ويا قوم اعملوا على مكانتكم‏)‏ ، ثم هو قول أبي عبيدة قال في تفسير سورة يس في قوله‏:‏ ‏(‏مكانتهم‏)‏ المكان والمكانة واحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يغنوا يعيشوا‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏كأن لم يغنوا فيها‏)‏ أي لم ينزلوا فيها ولم يعيشوا فيها، قال‏:‏ والمغني الدار، الجمع مغاني، يغني بالغين المعجمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تأس تحزن، آسى أحزن‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏فكيف آسى‏)‏ أي أحزن وأندم وأتوجع، والمصدر الأسى، وأما قوله‏:‏ ‏"‏ تأس تحزن ‏"‏ فهو من قوله تعالى لموسى‏:‏ ‏(‏فلا تأس على القوم الفاسقين‏)‏ وذكره المصنف هنا استطرادا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الحسن‏:‏ إنك لأنت الحليم الرشيد يستهزئون به‏)‏ وصله ابن أبي حاتم من طريق أبي المليح عن الحسن البصري بهذا، وأراد الحسن أنهم قالوا له ذلك على سبيل الاستعارة التهكمية ومرادهم عكس ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال مجاهد‏:‏ ليكة الأيكة، يوم الظلة إظلال العذاب عليهم‏)‏ وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏(‏كذب أصحاب ليكة‏)‏ كذا قرأها، وهي قراءة أهل مكة ابن كثير وغيره‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏(‏عذاب يوم الظلة‏)‏ قال‏:‏ إظلال العذاب إياهم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ لم يذكر المصنف في قصة شعيب سوى هذه الآثار، وهي للكشميهني والمستملي فقط‏.‏

قد ذكر الله تعالى قصته في الأعراف وهود والشعراء والعنكبوت وغيرها، وجاء عن قتادة أنه أرسل إلى أمتين‏:‏ أصحاب مدين وأصحاب الأيكة، ورجح بأنه وصف في أصحاب مدين بأنه أخوهم بخلاف أصحاب الأيكة وقال في أصحاب مدين ‏(‏أخذتهم الرجفة - والصيحة‏)‏ وفي أصحاب الأيكة ‏(‏أخذهم عذاب يوم الظلة‏)‏ والجمهور على أن أصحاب مدين هم أصحاب الأيكة، وأجابوا عن ترك ذكر الأخوة في أصحاب الأيكة بأنه لما كانوا يعيدون الأيكة ووقع في صدر الكلام بأنهم أصحاب الأيكة ناسب أن لا يذكر الأخوة، وعن الثاني بأن المغايرة في أنواع العذاب إن كانت تقتضي المغايرة في المعذبين فليكن الذين عذبوا بالرجفة غير الذين عذبوا بالصيحة، والحق أنهم أصابهم جميع ذلك، فإنهم أصابهم حر شديد فخرجوا من البيوت فأظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها فرجفت بهم الأرض من تحتهم وأخذتهم الصيحة من فوقهم، وسيأتي الكلام على الأيكة في التفسير إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلَى قَوْلِهِ وَهُوَ مُلِيمٌ

قَالَ مُجَاهِدٌ مُذْنِبٌ الْمَشْحُونُ الْمُوقَرُ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ الْآيَةَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ بِوَجْهِ الْأَرْضِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ مِنْ غَيْرِ ذَاتِ أَصْلٍ الدُّبَّاءِ وَنَحْوِهِ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ كَظِيمٌ وَهُوَ مَغْمُومٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول الله تعالى‏:‏ وإن يونس لمن المرسلين - إلى قوله - وهو مليم‏)‏ هو يونس بن متي بفتح الميم وتشديد المثناة مقصور، ووقع في تفسير عبد الرزاق أنه اسم أمه، وهو مردود بما في حديث ابن عباس في هذا الباب ‏"‏ ونسبه إلى أبيه ‏"‏ فهذا أصح، ولم أقف في شيء من الأخبار على اتصال نسبه، وقد قيل إنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال مجاهد‏:‏ مذنب‏)‏ يعني تفسير قوله‏:‏ ‏(‏وهو مليم‏)‏ وقد أخرجه ابن جرير من طريق مجاهد قال‏:‏ فالتقمه الحوت وهو مليم؛ من ألام الرجل إذا أتى بما يلام عليه‏.‏

ثم قال الطبري‏:‏ المليم هو المكتسب اللوم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والمشحون الموقر‏)‏ وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال المشحون المملوء، ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس المشحون الموقر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلولا أنه كان من المسبحين - الآية - فنبذناه بالعراء‏:‏ بوجه الأرض‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏فنبذناه بالعراء‏)‏ ‏:‏ أي بوجه الأرض، والعرب تقول نبذته بالعراء أي بالأرض الفضاء، قال الشاعر‏:‏ ونبذت بالبلد العراء ثيابي والعراء الذي لا شيء فيه يواري من شجر ولا غيره‏.‏

وقال الفراء‏:‏ العراء المكان الخالي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من يقطين‏:‏ من غير ذات أصل، الدباء ونحوه‏)‏ وصله عبد بن حميد من طريق مجاهد وزاد‏:‏ ليس لها ساق، وكذا قال أبو عبيدة‏:‏ كل شجرة لا تقوم على ساق فهي يقطين نحو الدباء والحنظل والبطيخ، والمشهور أنه القرع، وقيل التين وقيل الموز، وجاء في حديث مرفوع في القرع ‏"‏ هي شجرة أخي يونس‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم‏.‏

كظيم‏:‏ مغموم‏)‏ كذا فيه، والذي قاله أبو عبيدة في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إذ نادى وهو مكظوم‏)‏ ‏:‏ أي من الغم مثل كظيم‏.‏

وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏(‏وهو مكظوم‏)‏ يقول‏:‏ مغموم‏.‏

ثم ذكر حديث ابن مسعود ‏"‏ لا يقولن أحدكم إني خير من يونس بن متى ‏"‏ وحديث ابن عباس ‏"‏ لا ينبغي لعبد أن يقول إني خير من يونس بن متى، ونسبه إلى أبيه ‏"‏ وحديث أبي هريرة في قصة المسلم الذي لطم اليهودي وقد تقدم شرحها في أواخر قصة موسى‏.‏

وقال في آخره في هذه الرواية ‏"‏ ولا أقول إن أحد أفضل من يونس بن متى ‏"‏ وحديثه من وجه آخر مختصرا مقتصرا على مثل لفظ حديث ابن عباس‏.‏

وقد وقع في حديث عبد الله بن جعفر عند الطبراني بلفظ ‏"‏ لا ينبغي لنبي أن يقول إلخ ‏"‏ وهذا يؤيد أن قوله في الطريق الأولى‏:‏ ‏"‏ إن ‏"‏ المراد بها النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي رواية للطبراني في حديث ابن عباس ‏"‏ ما ينبغي لأحد أن يقول أنا عند الله خير من يونس ‏"‏ وفي رواية للطحاوي ‏"‏ أنه سبح الله في الظلمات ‏"‏ فأشار إلى جهة الخيرية المذكورة، وأما قوله في الرواية الأولى ‏"‏ ونسبه إلى أبيه ‏"‏ ففيه إشارة إلى الرد على من زعم أن متي اسم أمه، وهو محكي عن وهب بن منبه في ‏"‏ المبتدأ‏"‏، وذكره الطبري وتبعه ابن الأثير في ‏"‏ الكامل ‏"‏ والذي في الصحيح أصح‏.‏

وقيل‏:‏ سبب قوله‏:‏ ‏"‏ ونسبه إلى أبيه ‏"‏ أنه كان في الأصل يونس ابن فلان فنسي الراوي اسم الأب وكنى عنه بفلان، وقيل‏:‏ إن ذلك هو السبب في نسبته إلى أمه فقال الذي نسي اسم أبيه يونس ابن متي وهو أمه ثم اعتذر فقال ونسبه - أي شيخه - إلى أبيه أي سماه فنسبه، ولا يخفى بعد هذا التأويل وتكلفه، قال العلماء إنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك تواضعا إن كان قاله بعد أن أعلم أنه أفضل الخلق، وإن كان قاله قبل علمه بذلك فلا إشكال، وقيل‏:‏ خص يونس بالذكر لما يخشى على من سمع قصته أن يقع في نفسه تنقيص له فبالغ في ذكر فضله لسد هذه الذريعة‏.‏

وقد روى قصته السدي في تفسيره بأسانيده عن ابن مسعود وغيره ‏"‏ إن الله بعث يونس إلى أهل نينوى وهي من أرض الموصل فكذبوه، فوعدهم بنزول العذاب في وقت معين، وخرج عنهم مغاضبا لهم، فلما رأوا آثار ذلك خضعوا وتضرعوا وآمنوا، فرحمهم الله فكشف عنهم العذاب، وذهب يونس فركب سفينة فلججت به، فاقترعوا فيمن يطرحونه منهم فوقعت القرعة عليه ثلاثا، فالتقمه الحوت ‏"‏ وروى ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن ميمون عن ابن مسعود بإسناد صحيح إليه نحو ذلك وفيه‏:‏ ‏"‏ وأصبح يونس فأشرف على القرية فلم ير العذاب وقع عليهم، وكان في شريعتهم من كذب قتل، فانطلق مغاضبا حتى ركب سفينة - وقال فيه - فقال لهم يونس إن معهم عبدا آبقا من ربه وإنها لا تسير حتى تلقوه، فقالوا‏:‏ لا نلقيك يا نبي الله أبدا، قال فاقترعوا فخرج عليه ثلاث مرات، فألقوه فالتقمه الحوت فبلغ به قرار الأرض، فسمع تسبيح الحصى فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت ‏"‏ الآية‏.‏

وروى البزار وابن جرير من طريق عبد الله بن نافع عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت أمر الله الحوت أن لا يكسر له عظما ولا يخدش له لحما، فلما انتهى به إلى قعر البحر سبح الله فقالت الملائكة‏:‏ يا ربنا إنا نسمع صوتا بأرض غريبة‏.‏

قال‏:‏ ذاك عبدي يونس، فشفعوا له، فأمر الحوت فقذفه في الساحل - قال ابن مسعود - كهيئة الفرخ ليس عليه ريش ‏"‏ وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك قال‏:‏ لبث في بطن الحوت أربعين يوما‏.‏

ومن طريق جعفر الصادق قال‏:‏ سبعة أيام، ومن طريق قتادة قال‏:‏ ثلاثا، ومن طريق الشعبي قال‏:‏ التقمه ضحى، ولفظه عشية‏.‏

*3*باب وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ

إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ يَتَعَدَّوْنَ يُجَاوِزُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا شَوَارِعَ وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ إِلَى قَوْلِهِ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ بَئِيسٌ شَدِيدٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قوله تعالى‏:‏ واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر‏)‏ الجمهور أن القرية المذكورة أيلة وهي التي على طريق الحاج الذاهب إلى مكة من مصر، وحكى ابن التين عن الزهري أنها طبرية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذ يعدون في السبت‏:‏ يتعدون، يتجاوزون‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إذ يعدون في السبت‏)‏ ‏:‏ أي يتعدون فيه عما أمروا به ويتجوزون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏شرعا‏:‏ شوارع - إلى قوله - كونوا قردة خاسئين‏)‏ هو قول أبي عبيدة أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بئيس‏)‏ شديد، قال أبو عبيدة في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فأخذناهم بعذاب بئيس‏)‏ ‏:‏ أي شديد وزنا ومعنى، قال الشاعر‏:‏ حنقـا علي وما تـرى لي فيهم أمـرا بئيسـا هذا على إحدى القراءتين، والأخرى بوزن حذر، وقرئ شاذا بوزن هين وهين مذكرين‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ لم يذكر المصنف في هذه القصة حديثا مسندا، وقد روى عبد الرزاق من حديث ابن عباس بسند فيه مبهم، وحكاه مالك عن يزيد بن رومان معضلا، وكذا قال قتادة‏:‏ إن أصحاب السبت كانوا من أهل أيلة وأنهم لما تحيلوا علي صيد السمك بأن نصبوا الشباك يوم السبت ثم صادوها يوم الأحد فأنكر عليهم قوم ونهوهم فأغلظوا لهم، فقالت طائفة أخرى دعوهم واعتزلوا بنا عنهم، فأصبحوا يوما فلم يروا الذين اعتدوا، ففتحوا أبوابهم فأمروا رجلا أن يصعد على سلم فأشرف عليهم فرآهم قد صاروا قردة، فدخلوا عليهم فجعلوا يلوذون بهم، فيقول الذين نهوهم‏:‏ ألم نقل لكم، ألم ننهكم‏؟‏ فيشيرون برءوسهم‏.‏

وروى ابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏ أنهم لم يعيشوا إلا قليلا وهلكوا ‏"‏ وروى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس ‏"‏ صار شبابهم قردة وشيوخهم خنازير‏"‏‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا

الزُّبُرُ الْكُتُبُ وَاحِدُهَا زَبُورٌ زَبَرْتُ كَتَبْتُ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ قَالَ مُجَاهِدٌ سَبِّحِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ الدُّرُوعَ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ الْمَسَامِيرِ وَالْحَلَقِ وَلَا يُدِقَّ الْمِسْمَارَ فَيَتَسَلْسَلَ وَلَا يُعَظِّمْ فَيَفْصِمَ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول الله تعالى‏:‏ وآتينا داود زبورا‏)‏ هو داود بن إيشا بكسر الهمز وسكون التحتانية بعدها معجمة ابن عوبد بوزن جعفر بمهملة وموحدة ابن باعر بموحدة ومهملة مفتوحة ابن سلمون بن يارب بتحتانية وآخره موحدة ابن رام بن حضرون بمهملة ثم معجمة ابن فارص بفاء وآخره مهملة ابن يهوذا بن يعقوب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الزبر الكتب واحدها زبور، زبرت‏:‏ كتبت‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏في زبر الأولين‏)‏ أي كتب الأولين واحدها زبور‏.‏

وقال الكسائي‏:‏ زبور بمعنى مزبور، تقول زبرته فهو مزبور مثل كتبته فهو مكتوب، وقرئ بضم أوله وهو جمع زبر‏.‏

قلت‏:‏ الضم قراءة حمزة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أوبي معه قال مجاهد‏:‏ سبحي معه‏)‏ وصله الفريابي من طريق مجاهد مثله، وعن الضحاك هو بلسان الحبشة‏.‏

وقال قتادة‏:‏ معنى أوبي سيري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن أعمل سابغات‏:‏ الدروع‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏أن اعمل سابغات‏)‏ أي دروعا واسعة طويلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقدر في السرد‏:‏ المسامير والحلق، ولا ترق السمار فيسلس، ولا تعظم فينفصم‏)‏ كذا في رواية الكشميهني، ولغيره ‏"‏ لا تدق ‏"‏ بالدال بدل الراء، وعندهم ‏"‏ فيتسلسل ‏"‏ وفي آخره ‏"‏ فيفصم ‏"‏ بغير نون، ووافقه الأصيلي في قوله‏:‏ ‏"‏ فيسلس ‏"‏ وهو بفتح اللام ومعناه فيخرج من الثقب برفق أو يصير متحركا فيلين عند الخروج‏.‏

وأما الرواية الأخرى ‏"‏ فيتسلسل ‏"‏ أي يصير كالسلسلة في اللين، والأول أوجه، والفصم بالفاء القطع من غير إبانة‏.‏

وهذا التفسير وصله الفريابي من طريق مجاهد في قوله‏:‏ ‏(‏وقدر في السرد‏)‏ أي قدر المسامير والحلق، وروى إبراهيم الحربي في ‏"‏ غريب الحديث ‏"‏ من طريق مجاهد في قوله‏:‏ ‏(‏وقدر في السرد‏)‏ ‏:‏ لا ترق المسامير فيسلس، ولا تغلظه فيفصمها‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ يقال درع مسردة أي مستديرة الحلق، قال أبو ذؤيب‏:‏ وعليهمـا مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابـغ تبع وهو مثل مسمار السفينة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أفرغ أنزل‏)‏ لم أعرف المراد من هذه الكلمة هنا، واستقريت قصة داود في المواضع التي ذكرت فيها فلم أجدها، وهذه الكلمة والتي بعدها في رواية الكشميهني وحده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بسطة‏:‏ زيادة وفضلا‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏وزاده بسطة في العلم والجسم‏)‏ أي زيادة وفضلا وكثرة، وهذه الكلمة في قصة طالوت وكأنه ذكرها لما كان آخرها متعلقا بداود فلمح بشيء من قصة طالوت، وقد قصها الله في القرآن‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام الْقُرْآنُ فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ فَتُسْرَجُ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ دَوَابُّهُ وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ رَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ صَفْوَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

حديث همام عن أبي هريرة‏:‏ ‏"‏ خفف على داود القرآن ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ القراءة ‏"‏ قيل‏:‏ المراد بالقرآن القراءة، والأصل في هذه اللفظة الجمع وكل شيء جمعته فقد قرأته، وقيل‏:‏ المراد الزبور وقيل‏:‏ التوراة، وقراءة كل نبي تطلق علي كتابه الذي أوحي إليه، وإنما سماه قرآنا للإشارة إلى وقوع المعجزة به كوقوع المعجزة بالقرآن أشار إليه صاحب ‏"‏ المصابيح ‏"‏ والأول أقرب، وإنما ترددوا بين الزبور والتوراة لأن الزبور كله مواعظ، وكانوا يتلقون الأحكام من التوراة‏.‏

قال قتادة‏:‏ كنا نتحدث أن الزبور مائة وخمسون سورة كلها مواعظ وثناء، ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود، بل كان اعتماده على التوراة، أخرجه ابن أبي حاتم وغيره‏.‏

وفي الحديث أن البركة قد تقع في الزمن اليسير حتى يقع فيه العمل الكثير‏.‏

قال النووي‏:‏ أكثر ما بلغنا من ذلك من كان يقرأ أربع ختمات بالليل وأربعا بالنهار، وقد بالغ بعض الصوفية في ذلك فادعى شيئا مفرطا، والعلم عند الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بدوابه‏)‏ في رواية موسى بن عقبة الآتية ‏"‏ بدابته ‏"‏ بالإفراد، وكذا هو في التفسير، ويحمل الإفراد على الجنس، أو المراد بها ما يختص بركوبه، وبالجمع ما يضاف إليها مما يركبه أتباعه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيقرأ القرآن قبل أن تسرج‏)‏ في رواية موسى ‏"‏ فلا تسرج حتى يقرأ القرآن‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا يأكل آلا من عمل يده‏)‏ تقدم شرحه في أوائل البيوع وأن فيه دليلا على أنه أفضل المكاسب، وقد استدل به على مشروعية الإجارة من جهة أن عمل اليد أعم من أن يكون للغير أو للنفس، والذي يظهر أن الذي كان يعمله داود بيده هو نسج الدروع، وألان الله له الحديد، فكان ينسج الدروع ويبيعها ولا يأكل إلا من ثمن ذلك مع كونه كان من كبار الملوك، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏وشددنا ملكه‏)‏ ، وفي حديث الباب أيضا ما يدل على ذلك، وأنه مع سعته بحيث أنه كان له دواب تسرج إذا أراد أن يركب ويتولى خدمتها غيره، ومع ذلك كان يتورع ولا يأكل إلا مما يعمل بيده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رواه موسى بن عقبة عن صفوان بن سليم إلخ‏)‏ وصله المصنف في كتاب خلق أفعال العباد عن أحمد بن أبي عمرو عن أبيه - وهو حفص بن عبد الله - عن إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ أَخْبَرَهُ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَقُولُ وَاللَّهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ قُلْتُ قَدْ قُلْتُهُ قَالَ إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ فَقُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ قَالَ قُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ قُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ

الشرح‏:‏

حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل وصيام النهار، أورده من طريقين، وقد تقدم في صلاة الليل، والغرض منه قوله‏:‏ ‏"‏ صيام داود‏"‏‏.‏

*3*باب أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ

كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا قَالَ عَلِيٌّ وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ مَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِي إِلَّا نَائِمًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب أحب الصلاة إلى الله صلاة داود إلخ‏)‏ يشير إلى الحديث المذكور قبله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال علي‏:‏ هو قول عائشة ما ألفاه السحر عندي إلا نائما‏)‏ هكذا وقع في رواية المستملي والكشميهني، وأما غيرهما فذكر الطريق الثالثة مضمومة إلى ما قبله دون الباب ودون قول علي، ولم أره منسوبا، وأظنه علي بن المديني شيخ البخاري، وأراد بذلك بيان المراد بقوله‏:‏ ‏"‏ وينام سدسه ‏"‏ أي السدس الأخير، وكأنه قال‏:‏ يوافق ذلك حديث عائشة ‏"‏ ما ألفاه ‏"‏ بالفاء أي وجده والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم والسحر الفاعل، أي لم يجيء السحر والنبي صلى الله عليه وسلم عندي إلا وجده نائما، كما تقدم بيان ذلك في قيام الليل‏.‏

*3*باب وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِلَى قَوْلِهِ وَفَصْلَ الْخِطَابِ

قَالَ مُجَاهِدٌ الْفَهْمُ فِي الْقَضَاءِ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِلَى وَلَا تُشْطِطْ لَا تُسْرِفْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ نَعْجَةٌ وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا شَاةٌ وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا مِثْلُ وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّاءُ ضَمَّهَا وَعَزَّنِي غَلَبَنِي صَارَ أَعَزَّ مِنِّي أَعْزَزْتُهُ جَعَلْتُهُ عَزِيزًا فِي الْخِطَابِ يُقَالُ الْمُحَاوَرَةُ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْخُلَطَاءِ الشُّرَكَاءِ لَيَبْغِي إِلَى قَوْلِهِ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ اخْتَبَرْنَاهُ وَقَرَأَ عُمَرُ فَتَّنَّاهُ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب - إلى قوله - وفصل الخطاب‏)‏ الأيد القوة، وكان داود موصوفا بفرط الشجاعة، والأواب يأتي تفسيره قريبا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال مجاهد‏:‏ الفهم في القضاء‏)‏ أي المراد بفصل الخطاب، وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي بشر عن مجاهد قال‏:‏ الحكمة الصواب‏.‏

ومن طريق ليث عن مجاهد‏:‏ فصل الخطاب إصابة القضاء وفهمه، ومن طريق ابن جريج عن مجاهد قال‏:‏ فصل الخطاب العدل في الحكم وما قال من شيء أنفذه‏.‏

وقال الشعبي‏:‏ فصل الخطاب قوله أما بعد، وفي ذلك حديث مسند من طريق بلال بن أبي بردة عن أبيه عن جده قال‏:‏ ‏"‏ أول من قال أما بعد داود النبي صلى الله عليه وسلم وهو فصل الخطاب ‏"‏ أخرجه ابن أبي حاتم، وذكر عن ابن جرير بإسناد صحيح عن الشعبي مثله، وروى ابن أبي حاتم من طريق شريح قال‏:‏ ‏"‏ فصل الخطاب الشهود والأيمان ‏"‏ ومن طريق أبي عبد الرحمن السلمي نحوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا تشطط‏:‏ لا تسرف‏)‏ كذا وقع هنا‏.‏

وقال الفراء‏:‏ معناه لا تجر، وروى ابن جرير من طريق قتادة في قوله‏:‏ ولا تشطط أي لا تمل، ومن طريق السدي قال لا تخف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يقال للمرأة نعجة ويقال لها أيضا شاة‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏ولي نعجة واحدة‏)‏ ‏.‏

أي امرأة، قال الأعشى‏:‏ فرميت غفلة عينه عن شاته فأصبت حبة قلبها وطحالها قوله‏:‏ ‏(‏فقال أكفلنيها، مثل وكفلها زكريا ضمها‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏أكفلنيها وعزني في الخطاب‏)‏ هو كقوله‏:‏ ‏(‏وكفلها زكريا‏)‏ أي ضمها إليه، وتقول كفلت بالنفس أو بالمال ضمنته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعزني غلبني صار أعز مني، أعززته جعلته عزيزا، في الخطاب يغال المحاورة‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏وعزني في الخطاب‏)‏ ‏:‏ أي صار أعز مني فيه‏.‏

وروى الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال‏:‏ إن دعا ودعوت كان أكثر مني، وإن بطشت وبطش كان أشد مني‏.‏

ومن طريق قتادة قال‏:‏ معناه قهرني وظلمني‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏"‏ يقال المحاورة ‏"‏ فمراده تفسير الخطاب بالمحاورة، وهي بالحاء المهملة أي المراجعة بين الخصمين، وهذا تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وعزني في الخطاب‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الخلطاء الشركاء‏)‏ حكاه ابن جرير أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتناه قال ابن عباس‏:‏ اختبرناه، وقرأ عمر فتناه بتشديد بالتاء‏)‏ أما قول ابن عباس فوصله ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وأما قراءة عمر فمذكورة في الشواذ ولم يذكرها أبو عبيد في القراآت المشهورة، ونقل التشديد أيضا عن أبي رجاء العطاردي والحسن البصري‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ سَمِعْتُ الْعَوَّامَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَسْجُدُ فِي ‏"‏ص‏"‏ فَقَرَأَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ حَتَّى أَتَى فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس في السجود في ‏"‏ص‏"‏ أورده من وجهين، ومحمد شيخه في الطريق الأولى هو ابن سلام، والعوام هو ابن حوشب بمهملة ثم معجمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنسجد‏)‏ بنون، وللكشميهني والمستملي أأسجد، وسيأتي شرح الحديث في التفسير إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ الرَّاجِعُ الْمُنِيبُ

وَقَوْلِهِ هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي وَقَوْلِهِ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أَذَبْنَا لَهُ عَيْنَ الْحَدِيدِ وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى قَوْلِهِ مِنْ مَحَارِيبَ قَالَ مُجَاهِدٌ بُنْيَانٌ مَا دُونَ الْقُصُورِ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ كَالْحِيَاضِ لِلْإِبِلِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَالْجَوْبَةِ مِنْ الْأَرْضِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ الْأَرَضَةُ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ عَصَاهُ فَلَمَّا خَرَّ إِلَى قَوْلِهِ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ يَمْسَحُ أَعْرَافَ الْخَيْلِ وَعَرَاقِيبَهَا الْأَصْفَادُ الْوَثَاقُ قَالَ مُجَاهِدٌ الصَّافِنَاتُ صَفَنَ الْفَرَسُ رَفَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ حَتَّى تَكُونَ عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ الْجِيَادُ السِّرَاعُ جَسَدًا شَيْطَانًا رُخَاءً طَيِّبَةً حَيْثُ أَصَابَ حَيْثُ شَاءَ فَامْنُنْ أَعْطِ بِغَيْرِ حِسَابٍ بِغَيْرِ حَرَجٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قول الله تعالى ووهبنا لداود سليمان‏)‏ في رواية غير أبي ذر ‏"‏ باب قول الله‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نعم العبد إنه أواب الراجع المنيب‏)‏ هو تفسير الأواب‏.‏

وقد أخرج ابن جريج من طريق مجاهد قال‏:‏ الأواب الرجاع عن الذنوب ومن طريق قتادة قال‏:‏ المطيع، ومن طريق السدي قال‏:‏ هو المسبح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من محاريب، قال مجاهد‏:‏ بنيان ما دون القصور‏)‏ وصله عبد بن حميد عنه كذلك وقال أبو عبيدة المحاريب جمع محراب وهو مقدم كل بيت، وهو أيضا المسجد والمصلي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وجفان كالجواب كالحياض للإبل‏.‏

وقال ابن عباس كالجوبة من الأرض‏)‏ أما قول مجاهد فوصله عبد بن حميد عنه، وأما قول ابن عباس فوصله ابن أبي حاتم عنه‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ الجوابي جمع جابية، وهو الحوض الذي يجبى فيه الماء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏دابة الأرض‏)‏ الأرضة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏منسأته‏:‏ عصاه‏)‏ هو قول ابن عباس وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه، قال أبو عبيدة‏:‏ المنسأة العصا‏.‏

ثم ذكر تصريفها وهي مفعلة من نسأت إذا زجرت الإبل أي ضربتها بالمنسأة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فطفق مسحا بالسوق والأعناق، يمسح أعراف الخيل وعراقيبها‏)‏ هو قول ابن عباس أخرجه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عنه وزاد في آخره ‏"‏ حبا لها‏"‏، وروى من طريق الحسن قال‏:‏ كشف عراقيبها وضرب أعناقها وقال‏:‏ لا تشغلني عن عبادة ربي مرة أخرى‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ ومنه قوله مسح علاوته إذا ضرب عنقه‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وقول ابن عباس أقرب إلى الصواب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الأصفاد الوثاق‏)‏ روى ابن جرير من طريق السدي قال‏:‏ مقرنين في الأصفاد‏:‏ أي يجمع اليدين إلى العنق بالأغلال‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ الأصفاد الأغلال واحدها صفد، ويقال للغطاء أيضا صفد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال مجاهد‏:‏ الصافنات، صفن الفرس رفع إحدى رجليه حتى يكون على طرف الحافر‏)‏ وصله الفريابي من طريقه قال‏:‏ صفن الفرس إلخ، لكن قال ‏"‏ يديه ‏"‏ ووقع في أصل البخاري ‏"‏ رجليه ‏"‏ وصوب عياض ما عند الفريابي‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ الصافن الذي يجمع بين يديه ويثني مقدم حافر إحدى رجليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الجياد السراع‏)‏ وصله الفريابي من طريق مجاهد أيضا‏.‏

روى ابن جرير من طريق إبراهيم التيمي أنها كانت عشرين فرسا ذوات أجنحة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏جسدا شيطانا‏)‏ قال الفريابي‏:‏ حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏(‏وألقينا على كرسيه جسدا‏)‏ قال‏:‏ شيطانا يقال له آصف، قال له سليمان كيف تفتن الناس‏؟‏ قال أرني خاتمك أخبرك، فأعطاه، فنبذه آصف في البحر فساخ، فذهب ملك سليمان وقعد آصف على كرسيه، ومنعه الله نساء سليمان فلم يقربهن، فأنكرته أم سليمان، وكان سليمان يستطعم ويعرفهم بنفسه فيكذبونه حتى أعطته امرأة حوتا فطيب بطنه فوجد خاتمه في بطنه فرد الله إليه ملكه، وفر آصف فدخل البحر‏.‏

وروى ابن جرير من وجه آخر عن مجاهد أن اسمه آصر آخره راء، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن اسم الجني صخر، ومن طريق السدي كذلك وأخرج القصة من طريقه مطولة، والمشهور أن آصف اسم الرجل الذي كان عنده علم من الكتاب والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رخاء طيبة‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ طيبا ‏"‏ رواه الفريابي من الوجه المذكور في قوله‏:‏ ‏"‏ رخاء ‏"‏ قال طيبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حيث أصاب حيث شاء‏)‏ وصله الفريابي كذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فامنن أعط، بغير حساب بغير حرج‏)‏ وصله الفريابي من طريق مجاهد كذلك‏.‏

وقال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏بغير حساب‏)‏ أي بغير ثواب ولا جزاء، أو بغير منة ولا قلة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبُطَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا عِفْرِيتٌ مُتَمَرِّدٌ مِنْ إِنْسٍ أَوْ جَانٍّ مِثْلُ زِبْنِيَةٍ جَمَاعَتُهَا الزَّبَانِيَةُ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة في تفلت العفريت على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تفلت علي‏)‏ بتشديد اللام أي تعرض لي فلتة أي بغتة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏البارحة‏)‏ أي الليلة الخالية الزائلة، والبارح الزائل ويقال من بعد الزوال إلى آخر النهار البارحة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فذكرت دعوة أخي سليمان‏)‏ أي قوله‏:‏ ‏(‏وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي‏)‏ وفي هذه إشارة إلى أنه تركه رعاية لسليمان عليه السلام، ويحتمل أن تكون خصوصية سليمان استخدام الجن في جميع ما يريده لا في هذا القدر فقط، واستدل الخطابي بهذا الحديث على أن أصحاب سليمان كانوا يرون الجن في أشكالهم وهيئتهم حال تصرفهم، قال‏:‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم‏)‏ فالمراد الأكثر الأغلب من أحوال بني آدم، وتعقب بأن نفي رؤية الإنس للجن على هيئتهم ليس بقاطع من الآية بل ظاهرها أنه ممكن، فإن نفي رؤيتنا إياهم مقيد بحال رؤيتهم لنا ولا ينفي إمكان رؤيتنا لهم في غير تلك الحالة، ويحتمل العموم‏.‏

وهذا الذي فهمه أكثر العلماء حتى قال الشافعي‏:‏ من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته، واستدل بهذه الآية‏.‏

والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عفريت متمرد من إنس أو جان مثل زبنية جماعته زبانية‏)‏ الزبانية في الأصل اسم أصحاب الشرطة، مشتق من الزبن وهو الدفع، وأطلق على الملائكة، ذلك لأنهم يدفعون الكفار في النار، وواحد الزبانية زبنية وقيل‏:‏ زبني وقيل‏:‏ زابن وقيل‏:‏ زباني وقال قوم لا واحد له من لفظه وقيل واحده زبنيت وزن عفريت، ويقال عفرية لغة مستقلة ليست مأخوذة من عفريت، ومراد المصنف بقوله‏:‏ ‏"‏ مثل زبنية ‏"‏ أي أنه قيل في عفريت عفرية، وهي قراءة رويت في الشواذ عن أبي بكر الصديق، وعن أبي رجاء العطاردي وأبي السمال بالمهملة واللام‏.‏

وقال ذو الرمة‏:‏ كأنه كوكب في اثر عفرية مصوب في ظلام الليل منتصب وقد تقدم كثير من بيان أحوال الجن في ‏"‏ باب صفة إبليس وجنوده ‏"‏ من بدء الخلق‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ الجن على مراتب، فالأصل جني، فإن خالط الإنس قيل‏:‏ عامر، ومن تعرض منهم للصبيان قيل‏:‏ أرواح، ومن زاد في الخبث قيل شيطان، فإن زاد على ذلك قيل‏:‏ مارد، فإن زاد على ذلك قيل‏:‏ عفريت‏.‏

وقال الراغب‏:‏ العفريت من الجن هو العارم الخبيث، وإذا بولغ فيه قيل عفريت نفريت‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ العفريت الموثق الخلق، وأصله من العفر وهو التراب، ورجل عفر بكسر أوله وثانيه وتثقيل ثالثه إذا بولغ فيه أيضا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ فَارِسًا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ وَلَمْ تَحْمِلْ شَيْئًا إِلَّا وَاحِدًا سَاقِطًا أَحَدُ شِقَّيْهِ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قَالَهَا لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ شُعَيْبٌ وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ تِسْعِينَ وَهُوَ أَصَحُّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن‏)‏ هو الحزامي وليس بالمخزومي، واسم جد الحزامي عبد الله بن خالد بن حزام، واسم جد المخزومي الحارث بن عبد الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال سليمان بن داود لأطوفن الليلة‏)‏ في رواية الحموي والمستملي ‏"‏ لأطيفن ‏"‏ وهما لغتان‏.‏

طاف بالشيء وأطاف به إذا دار حوله وتكرر عليه، وهو هنا كناية عن الجماع، واللام جواب القسم وهو محذوف، أي والله لأطوفن، ويؤيده قوله في آخره ‏"‏ لم يحنث ‏"‏ لأن الحنث لا يكون إلا عن قسم، والقسم لابد له من مقسم به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏على سبعين امرأة‏)‏ كذا هنا من رواية مغيرة‏.‏

وفي رواية شعيب كما سيأتي في الأيمان والنذور ‏"‏ فقال تسعين ‏"‏ وقد ذكر المصنف ذلك عقب هذا الحديث ورجح تسعين بتقديم المثناة على سبعين وذكر أن ابن أبي الزناد رواه كذلك‏.‏

قلت‏:‏ وقد رواه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد فقال‏:‏ ‏"‏ سبعين ‏"‏ وسيأتي في كفارة الأيمان من طريقه ولكن رواه مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان فقال‏:‏ ‏"‏ سبعين ‏"‏ بتقديم السين، وكذا هو في ‏"‏ مسند الحميدي ‏"‏ عن سفيان، وكذا أخرجه مسلم من رواية ورقاء عن أبي الزناد، وأخرجه الإسماعيلي والنسائي وابن حبان من طريق هشام بن عروة عن أبي الزناد قال‏:‏ ‏"‏ مائة امرأة ‏"‏ وكذا قال طاوس عن أبي هريرة كما سيأتي في الأيمان والنذور، من رواية معمر، وكذا قال أحمد عن عبد الرزاق من رواية هشام بن حجير عن طاوس ‏"‏ تسعين ‏"‏ وسيأتي في كفارة الأيمان، ورواه مسلم عن عبد بن حميد عن عبد الرزاق فقال‏:‏ ‏"‏ سبعين ‏"‏ وسيأتي في التوحيد من رواية أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة ‏"‏ كان لسليمان ستون امرأة ‏"‏ ورواه أحمد وأبو عوانة من طريق هشام عن ابن سيرين فقال‏:‏ ‏"‏ مائة امرأة ‏"‏ وكذا قال عمران بن خالد عن ابن سيرين عند ابن مردويه، وتقدم في الجهاد من طريق جعفر بن ربيعة عن الأعرج فقال‏:‏ ‏"‏ مائة امرأة أو تسع وتسعون ‏"‏ على الشك، فمحصل الروايات ستون وسبعون وتسعون وتسع وتسعون ومائة، والجمع بينها أن الستين كن حرائر وما زاد عليهن كن سراري أو بالعكس، وأما السبعون فللمبالغة، وأما التسعون والمائة فكن دون المائة وفوق التسعين فمن قال تسعون ألغى الكسر ومن قال مائة جبره ومن ثم وقع التردد في رواية جعفر، وأما قول بعض الشراح‏:‏ ليس في ذكر القليل نفي الكثير وهو من مفهوم العدد وليس بحجة عند الجمهور فليس بكاف في هذا المقام، وذلك أن مفهوم العدد معتبر عند كثيرين والله أعلم‏.‏

وقد حكى وهب بن منبه في ‏"‏ المبتدأ ‏"‏ أنه كان لسليمان ألف امرأة ثلاثمائة مهيرة وسبعمائة سرية، ونحوه مما أخرج الحاكم في ‏"‏ المستدرك ‏"‏ من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب قال‏:‏ بلغنا أنه كان لسليمان ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة صربحة وسبعمائة سرية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تحمل كل امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله‏)‏ هذا قاله على سبيل التمني للخير، وإنما جزم به لأنه غلب عليه الرجاء، لكونه قصد به الخير وأمر الآخرة لا لغرض الـدنيا‏.‏

قال بعض السلف‏:‏ نبه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على آفة التمني والإعراض عن التفويض، قال‏:‏ ولذلك نسي الاستثناء ليمضي فيه القدر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال له صاحبه‏:‏ إن شاء الله‏)‏ في رواية معمر عن طاوس الآتية ‏"‏ فقال له الملك ‏"‏ وفي رواية هشام بن حجير ‏"‏ فقال له صاحبه، قال سفيان يعني الملك ‏"‏ وفي هذا إشعار بأن تفسير صاحبه بالملك ليس بمرفوع، لكن في ‏"‏ مسند الحميدي ‏"‏ عن سفيان ‏"‏ فقال له صاحبه أو الملك ‏"‏ بالشك، ومثلها لمسلم، وفي الجملة ففيه رد على من فسر صاحبه بأنه الذي عنده علم من الكتاب، وهو آصف بالمد وكسر المهملة بعدها فاء ابن برخيا بفتح الموحدة وسكون الراء وكسر المعجمة بعدها تحتانية‏.‏

وقال القرطبي في قوله‏:‏ ‏"‏ فقال له صاحبه أو الملك ‏"‏ إن كان صاحبه فيعني به وزيره من الإنس والجن، وإن كان الملك فهو الذي كان يأتيه بالوحي‏.‏

وقال‏:‏ وقد أبعد من قال المراد به خاطره‏.‏

وقال النووي‏:‏ قيل‏:‏ المراد بصاحبه الملك، وهو الظاهر من لفظه، وقيل‏:‏ القرين، وقيل‏:‏ صاحب له آدمي‏.‏

قلت‏:‏ ليس بين قوله صاحبه والملك منافاة، إلا أن لفظه ‏"‏ صاحبه ‏"‏ أعم، فمن ثم نشأ لهم الاحتمال، ولكن الشك لا يؤثر في الجزم، فمن جزم بأنه الملك حجة على من لم يجزم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلم يقل‏)‏ قال عياض‏:‏ بين في الطريق الأخرى بقوله‏:‏ ‏"‏ فنسي‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ هي رواية ابن عيينة عن شيخه‏.‏

وفي رواية معمر قال‏:‏ ‏"‏ ونسي أن يقول إن شاء الله ‏"‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏"‏ فلم يقل ‏"‏ أي بلسانه لا أنه أبى أن يفوض إلى الله بل كان ذلك ثابتا في قلبه، لكنه اكتفى بذلك أولا ونسي أن يجريه على لسانه لما قيل له لشيء عرض له‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فطاف بهن‏)‏ في رواية ابن عيينة، ‏"‏ فأطاف بهن ‏"‏ وقد تقدم توجيهه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا واحدا ساقطا أحد شقيه‏)‏ في رواية شعيب ‏"‏ فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل ‏"‏ وفي رواية أيوب عن ابن سيرين ‏"‏ ولدت شق غلام ‏"‏ وفي رواية هشام عنه ‏"‏ نصف إنسان ‏"‏ وهي رواية معمر، حكى النقاش في تفسيره أن الشق المذكور هو الجسد الذي ألقي على كرسيه، وقد تقدم قول غير واحد من المفسرين إن المراد بالجسد المذكور شيطان وهو المعتمد، والنقاش صاحب مناكير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لو قالها لجاهدوا في سبيل الله‏)‏ في رواية شعيب ‏"‏ لو قال إن شاء الله ‏"‏ وزاد في آخره ‏"‏ فرسانا أجمعون ‏"‏ وفي رواية ابن سيرين ‏"‏ لو استثنى لحملت كل امرأة منهن فولدت فارسا يقاتل في سبيل الله ‏"‏ وفي رواية طاوس ‏"‏ لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته ‏"‏ كذا عند المصنف من رواية هشام بن حجير، وعند أحمد ومسلم مثله من رواية معمر، وعند المصنف من طريق معمر ‏"‏ وكان أرجى لحاجته ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ دركا ‏"‏ بفتحتين من الإدراك وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏لا تخاف دركا‏)‏ أي لحاقا، والمراد أنه كان يحصل له ما طلب ولا يلزم من إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك في حق سليمان في هذه القصة أن يقع ذلك لكل من استثنى في أمنيته، بل في الاستثناء رجو الوقوع وفي ترك الاستثناء خشية عدم الوقوع، وبهذا يجاب عن قول موسى للخضر ‏(‏ستجدني إن شاء الله صابرا‏)‏ مع قول الخضر له آخرا ‏(‏ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا‏)‏ وفي الحديث فضل فعل الخير وتعاطي أسبابه، وأن كثيرا من المباح والملاذ يصير مستحبا بالنية والقصد‏.‏

وفيه استحباب الاستثناء لمن قال سأفعل كذا، وأن إتباع المشيئة اليمين يرفع حكمها، وهو متفق عليه بشرط الاتصال، وسيأتي بيان ذلك في الأيمان والنذور مع بسط فيه‏.‏

وقد استدل بهذا الحديث من قال‏:‏ الاستثناء إذا عقب اليمين ولو تخلل بينهما شيء يسير لا يضر، فإن الحديث دل على أن سليمان لو قال إن شاء الله عقب قول الملك له قل إن شاء الله لأفاد مع التخلل بين كلاميه بمقدار كلام الملك، وأجاب القرطبي باحتمال أن يكون الملك قال ذلك في أثناء كلام سليمان، وهو احتمال ممكن يسقط به الاستدلال المذكور‏.‏

وفيه أن الاستثناء لا يكون إلا باللفظ ولا يكفي فيه النية‏.‏

وهو اتفاق إلا ما حكي عن بعض المالكية‏.‏

وفيه ما خص به الأنبياء من القوة على الجماع الدال ذلك على صحة البنية وقوة الفحولية وكمال الرجولية مع ما هم فيه من الاشتغال بالعبادة والعلوم‏.‏

وقد وقع للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أبلغ المعجزة لأنه مع اشتغاله بعبادة ربه وعلومه ومعالجة الخلق كان متقللا من المآكل والمشارب المقتضية لضعف البدن على كثرة الجماع، ومع ذلك فكان يطوف على نسائه في ليلة بغسل واحد وهن إحدى عشرة امرأة، وقد تقدم في كتاب الغسل، ويقال إن كل من كان أتقى لله فشهوته أشد لأن الذي لا يتقي يتفرج بالنظر ونحوه‏.‏

وفيه جواز الإخبار عن الشيء ووقوعه في المستقبل بناء على غلبة الظن فإن سليمان عليه السلام جزم بما قال ولم يكن ذلك عن وحي وإلا لوقع، كذا قيل‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ لا يظن بسليمان عليه السلام أنه قطع بذلك على ربه إلا من جهل حال الأنبياء وأدبهم مع الله تعالى‏.‏

وقال ابن الجوزي‏:‏ فإن قيل من أين لسليمان أن يخلق من مائه هذا العدد في ليلة‏؟‏ لا جائز أن يكون بوحي لأنه ما وقع، ولا جائز أن يكون الأمر في ذلك إليه لأن الإرادة لله‏.‏

والجواب أنه من جنس التمني على الله والسؤال له أن يفعل والقسم عليه كقول أنس بن النضر ‏"‏ والله لا يكسر سنها ‏"‏ ويحتمل أن يكون لما أجاب الله دعوته أن يهب له ملكا لا ينبغي لأحد من بعده كان هذا عنده من جملة ذلك فجزم به‏.‏

وأقرب الاحتمالات ما ذكرته أولا وبالله التوفيق‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون أوحى إليه بذلك مقيدا بشرط الاستثناء فنسي الاستثناء فلم يقع ذلك لفقدان الشرط، ومن ثم ساغ له أولا أن يحلف‏.‏

وأبعد من استدل به على جواز الحلف على غلبة الظن‏.‏

وفيه جواز السهو على الأنبياء، وأن ذلك لا يقدح في علو منصبهم، وفيه جواز الإخبار عن الشيء أنه سيقع ومستند المخبر الظن مع وجود القرينة القوية لذلك‏.‏

وفيه جواز إضمار المقسم به في اليمين لقوله‏:‏ ‏"‏ لأطوفن ‏"‏ مع قوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ لم يحنث ‏"‏ فدل على أن اسم الله فيه مقدر، فإن قال أحد بجواز ذلك فالحديث حجة له بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا ورد تقديره على لسان الشارع، وإن وقع الاتفاق على عدم الجواز فيحتاج إلى تأويله كأن يقال لعل التلفظ باسم الله وقع في الأصل وإن لم يقع في الحكاية، وذلك ليس بممتنع، فإن من قال‏:‏ والله لأطوفن يصدق أنه قال لأطوفن فإن اللافظ بالمركب لافظ بالمفرد، وفيه حجة لمن قال‏:‏ لا يشترط التصريح بمقسم به معين، فمن قال أحلف أو أشهد ونحو ذلك فهو يمين وهو قول الحنفية، وقيده المالكية بالنية‏.‏

وقال بعض الشافعية ليست بيمين مطلقا‏.‏

وفيه جواز استعمال لو ولولا، وسيأتي الكلام عليه في باب مفرد عقده له المصنف في أواخر الكتاب‏.‏

وفيه استعمال الكناية في اللفظ الذي يستقبح ذكره لقوله ‏"‏ لأطوفن ‏"‏ بدل قوله لأجامعن‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ قَالَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قُلْتُ كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَالَ أَرْبَعُونَ ثُمَّ قَالَ حَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ وَالْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا إبراهيم التيمي عن أبيه‏)‏ هو يزيد بن شريك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أي مسجد وضع أول‏)‏ تقديم التنبيه عليه في أثناء قصة إبراهيم عليه السلام وقوله‏:‏ ‏"‏ أدركتك الصلاة ‏"‏ أي وقت الصلاة، وفيه إشارة إلى المحافظة على الصلاة في أول وقتها، ويتضمن ذلك الندب إلى معرفة الأوقات‏.‏

وفيه إشارة إلى أن المكان الأفضل للعبادة إذا لم يحصل لا يترك المأمور به لفواته بل يفعل المأمور في المفضول لأنه صلى الله عليه وسلم كأنه فهم عن أبي ذر من تخصيصه السؤال عن أول مسجد وضع أنه يريد تخصيص صلاته فيه فنبه على أن إيقاع الصلاة إذا حضرت لا يتوقف على المكان الأفضل‏.‏

وفيه فضيلة الأمة المحمدية لما ذكر أن الأمم قبلهم كانوا لا يصلون إلا في مكان مخصوص وقد تقدم التنبيه عليه في كتاب التيمم‏.‏

وفيه الزيادة على السؤال في الجواب لا سيما إذا كان للسائل في ذلك مزيد فائدة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَجَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ تَقَعُ فِي النَّارِ وَقَالَ كَانَتْ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ وَقَالَتْ الْأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا فَقَالَتْ الصُّغْرَى لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ إِلَّا يَوْمَئِذٍ وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلَّا الْمُدْيَةُ

الشرح‏:‏

قوله في الإسناد‏:‏ ‏(‏عن عبد الرحمن‏)‏ هو الأعرج، وهو كذلك في نسخة شعيب عن أبي الزناد عند الطبراني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا فجعل الفراش وهذه الدواب تقع في النار‏.‏

وقال كانت امرأتان معهما ابناهما‏)‏ هكذا أورده، ومراده الحديث الثاني فإنه هو الذي يدخل في ترجمة سليمان، وكأنه ذكر ما قبله - وهو طرف من حديث طويل - لكونه سمع نسخة شعيب عن أبي الزناد، وهذا الحديث مقدم على الآخر، وسمع الإسناد في السابق دون الذي يليه فاحتاج أن يذكر شيئا من لفظ الحديث الأول لأجل الإسناد، وقد تقدم في الطهارة للمصنف مثل هذا الصنيع فذكر من هذه النسخة بعينها حديث ‏"‏ لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ‏"‏ وذكر قبله طرفا من حديث ‏"‏ نحن الآخرون السابقون ‏"‏ ولما ذكر في الجمعة حديث ‏"‏ نحن الآخرون السابقون ‏"‏ لم يضم معه شيئا، وذكر في الجهاد حديث ‏"‏ من أطاعني فقد أطاع الله ‏"‏ الحديث فقال قبله‏:‏ ‏"‏ نحن الآخرون السابقون ‏"‏ أيضا، وذكر في الديات حديث ‏"‏ لو اطلع عليك رجل ‏"‏ وقدم ذلك قبله أيضا، لكنه أورد حديث المرأتين في الفرائض ولم يضم معه في أوله شيئا من الحديث الآخر وكذا في بقية هذه النسخة فلم يطرد للمصنف في ذلك عمل، وكأنه حيث ضم إليه شيئا أراد الاحتياط، وحيث لم يضم نبه على الجواز والله أعلم‏.‏

وأما مسلم فإنه في نسخة همام عن أبي هريرة ينبه على أنه لم يسمع الإسناد في كل حديث منها فإنه يسوق الإسناد إلى أبي هريرة ثم يقول‏:‏ فذكر أحاديث منها كذا وكذا‏.‏

وصنيعه في ذلك حسن جدا والله أعلم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ لم أر الحديث الأول تاما في صحيح البخاري، وقد أورده الحميدي في ‏"‏ الجمع ‏"‏ من طريق شعيب هذه وساق المتن بتمامه وقال‏:‏ إنه لفظ البخاري وإن مسلما أخرجه من رواية مغيرة وسفيان عن أبي الزناد به، ومن طريق همام عن أبي هريرة، وكذلك أطلق المزي أن البخاري أخرجه في أحاديث الأنبياء، فإن كان عني هذا الموضع فليس هو فيه بتمامه، وإن كان عني موضعا آخر فلم أره فيه‏.‏

ثم وجدته في ‏"‏ باب الانتهاء عن المعاصي ‏"‏ من كتاب الرقاق، ويأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مثلي‏)‏ أي في دعائي الناس إلى الإسلام المنقذ لهم من النار ومثل ما تزين لهم أنفسهم من التمادي على الباطل ‏(‏كمثل رجل إلخ‏)‏ والمراد تمثيل الجملة بالجملة لا تمثيل فرد بفرد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏استوقد‏)‏ أي أوقد، وزيادة السين والتاء للإشارة إلى أنه عالج إيقادها وسعى في تحصيل آلاتها‏.‏

ووقع في حديث جابر عند مسلم ‏"‏ مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا ‏"‏ زاد أحمد ومسلم من رواية همام عن أبي هريرة ‏"‏ فلما أضاءت ما حوله‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجعل الفراش‏)‏ بفتح الفاء والشين المعجمة معروف ويطلق الفراش أيضا على غوغاء الجراد الذي يكثر ويتراكم‏.‏

وقال في ‏"‏ المحكم ‏"‏ الفراش دواب مثل البعوض واحدتها فراشة، وقد شبه الله تعالى الناس في المحشر بالفراش المبثوت أي في الكثرة والانتشار والإسراع إلى الداعي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهذه الدواب تقع في النار‏)‏ قلت‏:‏ منها البرغش والبعوض، ووقع في حديث جابر ‏"‏ فجعل الجنابذ والفراش ‏"‏ والجنابذ جمع جنبذ وهو على القلب، والمعروف الجنادب جمع جندب بفتح الدال وضمها والجيم مضمومة وقد تكسر، وهو على خلقة الجرادة يصر في الليل صرا شديدا، وقيل‏:‏ إن ذكر الجراد يسمى أيضا الجندب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تقع في النار‏)‏ كذا فيه، وإنما هو في نسخـة شعيب كما أخـرجه أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏‏:‏ ‏"‏ وهذه الدواب التي تقعن في النار تقعن فيها ‏"‏ قال النووي‏:‏ مقصود الحديث أنه صلى الله عليه وسلم شبه المحالفين له بالفراش وتساقطهم في نار الآخرة بتساقط الفراش في نار الدنيا مع حرصهم على الوقوع في ذلك ومنعه إياهم، والجامع بينهما اتباع الهوى وضعف التمييز وحرص كل من الطائفتين على هلاك نفسه‏.‏

وقال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ هذا مثل كثير المعاني، والمقصود أن الخلق لا يأتون ما يجرهم إلى النار على قصد الهلكة، وإنما يأتونه على قصد المنفعة واتباع الشهوة، كما أن الفراش يقتحم النار لا ليهلك فيها بل لما يعجبه من الضياء‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنها لا تبصر بحال وهو بعيد، وإنما قيل إنها تكون في ظلمة فإذا رأت الضياء اعتقدت أنها كوة يظهر منها النور فتقصده لأجل ذلك فتحترق وهي لا تشعر‏.‏

وقيل‏:‏ إن ذلك لضعف بصرها فتظن أنها في بيت مظلم وأن السراج مثلا كوة فترمي بنفسها إليه وهي من شدة طيرانها تجاوزه فتقع في الظلمة فترجع إلى أن تحترق‏.‏

وقيل‏:‏ إنها تتضرر بشدة النور فتقصد إطفاءه فلشدة جهلها تورط نفسها فيما لا قدرة لها عليه، ذكر مغلطاي أنه سمع بعض مشايخ الطب يقوله‏.‏

وقال الغزالي‏:‏ التمثيل وقع على صورة الإكباب على الشهوات من الإنسان بإكباب الفراش على التهافت في النار، ولكن جهل الآدمي أشد من جهل الفراش؛ لأنها باغترارها بظواهر الضوء إذا احترقت انتهى عذابها في الحال، والآدمي يبقى في النار مدة طويلة أو أبدأ والله المستعان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال كانت امرأتان‏)‏ ليس في سياق البخاري تصريح برفعه، وهو مرفوع عنده عن أبي اليمان عن شعيب في أواخر كتاب الفرائض أورده هناك، وكذا هو في نسخة شعيب عند الطبراني وغيره‏.‏

وفي رواية النسائي، من طريق علي بن عياش عن شعيب ‏"‏ حدثني أبو الزناد مما حدثه عبد الرحمن الأعرج مما ذكر أنه سمع أبا هريرة يحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ بينما امرأتان‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ ولم أقف على اسم واحدة من هاتين المرأتين ولا على اسم واحد من ابنيهما في شيء من الطرق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتحاكما‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فتحاكمتا ‏"‏ وفي نسخة شعيب ‏"‏ فاختصما‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقضى به للكبرى إلخ‏)‏ قيل‏:‏ كان ذلك على سبيل الفتيا منهما لا الحكم، ولذلك ساغ لسليمان أن ينقضه‏.‏

وتعقبه القرطبي بأن في لفظ الحديث أنه قضى بأنهما تحاكما، وبأن فتيا النبي وحكمه سواء في وجوب تنفيذ ذلك‏.‏

وقال الداودي‏:‏ إنما كان منهما على سبيل المشاورة فوضح لداود صحة رأي سليمان فأمضاه‏.‏

وقال ابن الجوزي‏:‏ استويا عند داود في اليد، فقدم الكبرى للسن‏.‏

وتعقبه القرطبي وحكى أنه قيل‏:‏ كان من شرع داود أن يحكم للكبرى قال‏:‏ وهو فاسد لأن الكبر والصغر وصف طردي كالطول والقصر والسواد والبياض، ولا أثر لشيء من ذلك في الترجيح، قال‏:‏ وهذا مما يكاد يقطع بفساده‏.‏

قال‏:‏ والذي ينبغي أن يقال إن داود عليه السلام قضى به للكبرى لسبب اقتضى به عنده ترجيح قولها، إذ لا بينة لواحدة منهما، وكونه لم يعين في الحديث اختصارا لا يلزم منه عدم وقوعه، فيحتمل أن يقال‏:‏ إن الولد الباقي كان في يد الكبرى وعجزت الأخرى عن إقامة البينة قال‏:‏ وهذا تأويل حسن جار على القواعد الشرعية وليس في السياق ما يأباه ولا يمنعه، فإن قيل فكيف ساغ لسليمان نقض حكمه‏؟‏ فالجواب أنه لم يعمد إلى نقض الحكم، وإنما احتال بحيلة لطيفة أظهرت ما في نفس الأمر، وذلك أنهما لما أخبرتا سليمان بالقصة فدعا بالسكين ليشقه بينهما، ولم يعزم على ذلك في الباطن، وإنمـا أراد استكشاف الأمر، فحصل مقصوده لذلك لجزع الصغرى الدال على عظيم الشفقة، ولم يلتفت إلى إقرارها بقولها هو ابن الكبرى لأنه علم أنها آثرت حياته، فظهر له من قرينة شفقة الصغرى وعدمها في الكبرى - مع ما انضاف إلى ذلك من القرينة الدالة على صدقها - ما هجم به على الحكم للصغرى‏.‏

ويحتمل أن يكون سليمان عليه السلام ممن يسوغ له أن يحكم بعلمه، أو تكون الكبرى في تلك الحالة اعترفت بالحق لما رأت من سليمان الجد والعزم في ذلك‏.‏

ونظير هذه القصة ما لو حكم حاكم على مدع منكر بيمين، فلما مضى ليحلفه حضر من استخرج من المنكر ما اقتضى إقراره بما أراد أن يحلف على جحده، فإنه والحالة هذه يحكم عليه بإقراره سواء كان ذلك قبل اليمين أو بعدها، ولا يكون ذلك من نقض الحكم الأول، ولكن من باب تبدل الأحكام بتبدل الأسباب‏.‏

وقال ابن الجوزي‏:‏ استنبط سليمان لما رأى الأمر محتملا فأجاد، وكلاهما حكم بالاجتهاد، لأنه لو كان داود حكم بالنص لما ساغ لسليمان أن يحكم بخلافه‏.‏

ودلت هذه القصة على أن الفطنة والفهم موهبة من الله لا تتعلق بكبر سن ولا صغره‏.‏

وفيه أن الحق في جهة واحدة، وإن الأنبياء يسوغ لهم الحكم بالاجتهاد وإن كان وجود النص ممكنا لديهم بالوحي، لكن في ذلك زيادة في أجورهم، ولعصمتهم من الخطأ في ذلك إذ لا يقرون لعصمتهم على الباطل‏.‏

وقال النووي‏:‏ إن سليمان فعل ذلك تحيلا على إظهار الحق، فكان كما لو اعترف المحكوم له بعد الحكم أن الحق لخصمه‏.‏

وفيه استعمال الحيل في الأحكام لاستخراج الحقوق، ولا يتأتى ذلك إلا بمزيد الفطنة وممارسة الأحوال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا تفعل يرحمك الله‏)‏ وقع في رواية مسلم والإسماعيلي من طريق ورقاء عن أبي الزناد ‏"‏ لا، يرحمك الله ‏"‏ قال القرطبي ينبغي على هذه الرواية أن يقف قليلا بعد ‏"‏ لا ‏"‏ حتى يتبين للسامع أن الذي بعده كلام مستأنف؛ لأنه إذا وصله بما بعده يتوهم السامع أنه دعا عليه وإنما هو دعاء له، ويزول الإيهام في مثل هذا بزيادة واو كأن يقول‏:‏ لا ويرحمك الله‏.‏

وفيه حجة لمن قال‏:‏ إن الأم تستلحق، والمشهور من مذهب مالك والشافعي أنه لا يصح، وقد تعرض المصنف لذلك في أواخر كتاب الفرائض، ويأتي البحث فيه هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال أبو هريرة‏)‏ يعني بالإسناد إليه وليس تعليقا، وقد وقع كذلك في رواية الإسماعيلي من طريق ورقاء عن أبي الزناد، والمدية مثلثة الميم قيل‏:‏ للسكين، ذلك لأنها تقطع مدى حياة الحيوان، والسكين تذكر وتؤنث، قيل لها ذلك لأنها تسكن حركة الحيوان‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ إِلَى قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَلَا تُصَعِّرْ الْإِعْرَاضُ بِالْوَجْهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول الله تعالى‏:‏ ولقد آتينا لقمان الحكمة - إلى قوله - فخور‏)‏ اختلف في لقمان فقيل كان حبشيا، وقيل‏:‏ كان نوبيا‏.‏

واختلف هل كان نبيا‏؟‏ قال السهيلي‏:‏ كان نوبيا من أهل أيلة، واسم أبيه عنقا بن شيرون‏.‏

وقال غيره هو ابن باعور بن ناحر بن آزر فهو ابن أخي إبراهيم‏.‏

وذكر وهب في ‏"‏ المبتدأ ‏"‏ أنه كان ابن أخت أيوب، وقيل‏:‏ ابن خالته‏.‏

وروى الثوري في تفسيره عن أشعث عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ كان لقمان عبدا حبشيا نجارا‏.‏

وفي ‏"‏ مصنف ابن أبي شيبة ‏"‏ عن خالد بن ثابت الربعي أحد التابعين مثله، وحكى أبو عبيد البكري في ‏"‏ شرح الأمالي ‏"‏ أنه كان مولى لقوم من الأزد، وروى الطبري من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب كان لقمان من سودان مصر ذو مشافر، أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة‏.‏

وفي ‏"‏ المستدرك ‏"‏ بإسناد صحيح عن أنس قال‏:‏ كان لقمان عند داود وهو يسرد الدرع، فحصل لقمان يتعجب ويريد أن يسأله عن فائدته فتمنعه حكمته أن يسأل‏.‏

وهذا صريح في أنه عاصر داود عليه السلام‏.‏

وقد ذكره ابن الجوزي في ‏"‏ التلقيح ‏"‏ بعد إبراهيم قبل إسماعيل وإسحاق والصحيح أنه كان في زمن داود‏.‏

وقد أخرج الطبري وغيره عن مجاهد أنه كان قاضيا على بني إسرائيل زمن داود عليه السلام، وقيل‏:‏ إنه عاش ألف سنة، نقل عن ابن إسحاق وهو غلط ممن قاله، وكأنه اختلط عليه بلقمان بن عاد وقيل‏:‏ إنه كان يفتي قبل بعث داود، وأغرب الواقدي فزعم أنه كان بين عيسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام، وشبهته ما حكاه أبو عبيدة البكري أنه كان عبدا لبني الحسحاس بن الأزد والأكثر أنه كان صالحا‏.‏

قال شعبة عن الحكم عن مجاهد كان صالحا ولم يكن نبيا، وقيل‏:‏ كان نبيا أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق إسرائيل عن جابر عن عكرمة‏.‏

قلت‏:‏ وجابر هو الجعفي ضعيف، ويقال إن عكرمة تفرد بقوله كان نبيا، وقيل‏:‏ كان لرجل من بني إسرائيل فأعتقه وأعطاه مالا يتجر فيه‏.‏

وروى ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن بشير عن قتادة أن لقمان خير بين الحكمة والنبوة فاختار الحكمة، فسئل عن ذلك فقال‏:‏ خفت أن أضعف عن حمل أعباء النبوة‏.‏

وفي سعيد بن بشير ضعف، وقد روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولقد آتينا لقمان الحكمة‏)‏ قال التفقه في الدين ولم يكن نبيا، وقد تقدم تفسير المراد بالحكمة في أوائل كتاب العلم في شرح حديث ابن عباس ‏"‏ اللهم علمه الحكمة ‏"‏ وقيل كان خياطا وقيل‏:‏ نجارا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وإذ قال لقمان لابنه‏)‏ قال السهيلي‏:‏ اسم ابنه باران بموحدة وراء مهملة، وقيل فيه بالدال في أوله، وقيل‏:‏ اسمه أنعم، وقيل‏:‏ شكور وقيل بابلي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا تصعر‏:‏ الإعراض بالوجه‏)‏ هو تفسير لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولا تصعر خدك للناس‏)‏ وهو تفسير عكرمة أورده عنه الطبري، وأورد من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏(‏ولا تصعر خدك للناس‏)‏ ‏:‏ لا تتكبر عليهم، قال الطبري‏:‏ أصل الصعر - يعني بالمهملتين - داء يأخذ الإبل في أعناقها حتى تلفت أعناقها عن رءوسها، فيشبه به الرجل المتكبر المعرض عن الناس انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏تصعر‏)‏ هي قراءة عاصم وابن كثير وأبي جعفر‏.‏

وقال أبو عبيدة في ‏"‏ القراآت ‏"‏ له‏:‏ حدثنا هشيم عن يونس عن الحسن أنه قرأها كذلك وقرأها الباقون ‏"‏ تصاعر ‏"‏ قال أبو عبيدة والأول أحب إلي لما في الثانية من المفاعلة، والغالب أنه من اثنين، وتكون الأولى أشمل في اجتناب ذلك‏.‏

وقال الطبري‏:‏ القراءتان مشهورتان ومعناهما صحيح والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ فَنَزَلَتْ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ

الشرح‏:‏

حديث ابن مسعود في نزول قوله تعالى‏:‏ ‏(‏الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏)‏ وسيأتي شرحه في تفسير الأنعام أورده من وجهين، وإسحاق شيخه في الطريق الثانية هو ابن راهويه وبذلك جزم أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج‏"‏‏.‏

*3*باب وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ الْآيَةَ فَعَزَّزْنَا

قَالَ مُجَاهِدٌ شَدَّدْنَا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ طَائِرُكُمْ مَصَائِبُكُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب واضرب لهم مثلا أصحاب القرية الآية‏:‏ فعززنا، قال مجاهد‏:‏ شددنا‏.‏

وقال ابن عباس طائركم مصائبكم‏)‏ أما قول مجاهد فوصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عنه بهذا، وأما قول ابن عباس فوصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه به‏.‏

والقرية المراد بها أنطاكية فيما ذكر ابن إسحاق ووهب في ‏"‏ المبتدأ ‏"‏ ولعلها كانت مدينة بالقرب من هذه الموجودة، لأن الله أخبر أنه أهلك أهلها‏.‏

وليس لذلك أثر في هذه المدينة الموجودة الآن، ولم يذكر المصنف في ذلك حديثا مرفوعا، وقد روى الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا ‏"‏ السبق ثلاثة يوشع إلى موسى، وصاحب يس إلى عيسى، وعلي إلى محمد صلى الله عليه وسلم وفي إسناده حسين بن حسين الأشقر وهو ضعيف فإن ثبت دل على أن القصة كانت في زمن عيسى أو بعده، وصنيع المصنف يقتضي أنها قبل عيسى‏.‏

وروى ابن إسحاق في ‏"‏ المبتدأ ‏"‏ عن أبي طوالة عن كعب الأحبار أن اسم صاحب يس حبيب النجار، وروى الثوري في تفسيره عن عاصم عن أبي مجلز قال‏:‏ كان اسمه حبيب بن بري، وعن حبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس‏:‏ هو حبيب النجار، وعن السدي كان قصارا، وقيل‏:‏ كان إسكافا‏.‏

قال ابن إسحاق واسم الرسل الثلاثة صادق وصدوق وشلوم‏.‏

وقال ابن جريج عن وهب بن سليمان عن شعيب الجبئي بالجيم والموحدة والهمز بلا مد‏:‏ كان اسم الرسولين شمعون ويوحنا واسم الثالث بولص‏.‏

وعن قتادة‏:‏ كانوا رسلا من قبل المسيح‏.‏

والله أعلم‏.‏