فصل: كِتَاب الدَّعَوَاتِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*2*كِتَاب الدَّعَوَاتِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الدعوات‏)‏ بفتح المهملتين جمع دعوة بفتح أوله وهي المسألة الواحدة، والدعاء الطلب، والدعاء إلى الشيء الحث على فعله ودعوت فلانا سألته ودعوته استغثته ويطلق أيضا على رفعة القدر كقوله تعالى ‏(‏ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة‏)‏ كذا قال الراغب، ويمكن رده إلى الذي قبله، ويطلق الدعاء أيضا على العبادة، والدعوى بالقصر الدعاء كقوله تعالى ‏(‏وآخر دعواهم‏)‏ والادعاء كقوله تعالى ‏(‏فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا‏)‏ وقال الراغب‏:‏ الدعاء على التسمية كقوله تعالى ‏(‏لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا‏)‏ وقال الراغب‏:‏ الدعاء والنداء واحد، لكن قد يتجرد النداء عن الاسم والدعاء لا يكاد يتجرد‏.‏

وقال الشيخ أبو القاسم القشيري في ‏"‏ شرح الأسماء الحسنى ‏"‏ ما ملخصه‏:‏ جاء الدعاء في القرآن على وجوه‏:‏ منها العبادة ‏(‏ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك‏)‏ ومنها الاستغاثة ‏(‏وادعوا شهداءكم‏)‏ ، ومنها السؤال ‏(‏ادعوني أستجب لكم‏)‏ ، ومنها القول ‏(‏دعواهم فيها سبحانك اللهم‏)‏ والنداء ‏(‏يوم يدعوكم‏)‏ ، والثناء ‏(‏قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن‏)‏ ‏.‏

قوله ‏(‏وقول الله تعالى‏:‏ ادعوني أستجب لكم الآية‏)‏ كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية إلى قوله ‏(‏داخرين‏)‏ وهذه الآية ظاهرة في ترجيح الدعاء على التفويض‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء، وأجابوا عن الآية بأن آخرها دل على أن المراد بالدعاء العبادة لقوله ‏(‏إن الذين يستكبرون عن عبادتي‏)‏ واستدلوا بحديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ الدعاء هو العبادة ‏"‏ ثم قرأ ‏(‏وقال ربكم ادعوني أستجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتي‏)‏ الآية أخرجه الأربعة وصححه الترمذي والحاكم‏.‏

وشذت طائفة فقالوا‏:‏ المراد بالدعاء في الآية ترك الذنوب، وأجاب الجمهور أن الدعاء من أعظم العبادة فهو كالحديث الآخر ‏"‏ الحج عرفه ‏"‏ أي معظم الحج وركنه الأكبر، ويؤيده ما أخرجه الترمذي من حديث أنس رفعه ‏"‏ الدعاء مخ العبادة ‏"‏ وقد تواردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالترغيب في الدعاء والحث عليه كحديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ ليس شيء أكرم على الله من الدعاء ‏"‏ أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم وحديثه رفعه ‏"‏ من لم يسأل الله يغضب عليه ‏"‏ أخرجه أحمد والبخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ والترمذي وابن ماجه والبزار والحاكم كلهم من رواية أبي صالح الخوزي بضم الخاء المعجمة وسكون الواو ثم زاي عنه، وهذا الخوزي مختلف فيه ضعفه ابن معين وقواه أبو زرعة، وظن الحافظ ابن كثير أنه أبو صالح السمان فجزم بأن أحمد تفرد بتخريجه، وليس كما قال فقد جزم شيخه المزي في ‏"‏ الأطراف ‏"‏ بما قلته‏.‏

ووقع في رواية البزار والحاكم عن أبي صالح الخوزي ‏"‏ سمعت أبا هريرة ‏"‏ قال الطيبي‏:‏ معنى الحديث أن من لم يسأل الله يبغضه، والمبغوض مغضوب عليه والله يحب أن يسأل انتهى‏.‏

ويؤيده حديث ابن مسعود رفعه ‏"‏ سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل ‏"‏ أخرجه الترمذي، وله من حديث ابن عمر رفعه ‏"‏ إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء ‏"‏ وفي سنده لين، وقد صححه مع ذلك الحاكم‏.‏

وأخرج الطبراني في الدعاء بسند رجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة بقية عن عائشة مرفوعا ‏"‏ إن الله يحب الملحين في الدعاء ‏"‏ وقال الشيخ تقي الدين السبكي‏:‏ الأولى حمل الدعاء في الآية على ظاهره، وأما قوله بعد ذلك ‏(‏عن عبادتي‏)‏ فوجه الربط أن الدعاء أخص من العبادة، فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء، وعلى هذا فالوعيد إنما هو في حق من ترك الدعاء استكبارا ومن فعل ذلك كفر، وأما من تركه لمقصد من المقاصد فلا يتوجه إليه الوعيد المذكور، وإن كنا نرى أن ملازمة الدعاء والاستكثار منه أرجح من الترك لكثرة الأدلة الواردة في الحث عليه‏.‏

قلت‏:‏ وقد دلت الآية الآتية قريبا في السورة المذكورة أن الإجابة مشترطة بالإخلاص، وهو قوله تعالى ‏(‏فادعوه مخلصين له الدين‏)‏ وقال الطيبي‏:‏ معنى حديث النعمان أن تحمل العبادة على المعنى اللغوي، إذ الدعاء هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له، وما شرعت العبادات إلا للخضوع للباري وإظهار الافتقار إليه، ولهذا ختم الآية بقوله تعالى ‏(‏إن الذين يستكبرون عن عبادتي‏)‏ حيث عبر عن عدم التذلل والخضوع بالاستكبار، ووضع عبادتي موضع دعائي وجعل جزاء ذلك الاستكبار الصغار والهوان‏.‏

وحكى القشيري في ‏"‏ الرسالة ‏"‏ الخلاف في المسألة فقال‏:‏ اختلف أي الأمرين أولى‏:‏ الدعاء أو السكوت والرضا‏؟‏ فقيل‏:‏ الدعاء، وهو الذي ينبغي ترجيحه لكثرة الأدلة، لما فيه من إظهار الخضوع والافتقار‏.‏

وقيل السكوت والرضا أولى لما في التسليم من الفضل‏.‏

قلت‏:‏ وشبهتهم أن الداعي لا يعرف ما قدر له فدعاؤه إن كان على وفق المقدور فهو تحصيل الحاصل، وإن كان على خلافه فهو معاندة‏.‏

والجواب عن الأول أن الدعاء من جملة العبادة لما فيه من الخضوع والافتقار، وعن الثاني أنه إذا اعتقد أنه لا يقع إلا ما قدر الله تعالى كان إذعانا لا معاندة، وفائدة الدعاء تحصيل الثواب بامتثال الأمر، ولاحتمال أن يكون المدعو به موقوفا على الدعاء لأن الله خالق الأسباب ومسبباتها، قال وقالت طائفة‏:‏ ينبغي أن يكون داعيا بلسانه راضيا بقلبه، قال‏:‏ والأولى أن يقال إذا وجد في قلبه إشارة الدعاء فالدعاء أفضل وبالعكس‏.‏

قلت‏:‏ القول الأول أعلى المقامات أن يدعو بلسانه ويرضى بقلبه، والثاني لا يتأتى من كل أحد بل ينبغي أن يختص به الكمل‏.‏

قال القشيري‏:‏ ويصح أن يقال ما كان لله أو للمسلمين فيه نصيب فالدعاء أفضل، وما كان للنفس فيه حظ فالسكوت أفضل، وعبر ابن بطال عن هذا القول لما حكاه بقوله‏:‏ يستحب أن يدعو لغيره ويترك لنفسه، وعمدة من أول الدعاء في الآية بالعبادة أو غيرها قوله تعالى ‏(‏فيكشف ما تدعون إليه إن شاء‏)‏ وإن كثيرا من الناس يدعو فلا يستجاب له، فلو كانت على ظاهرها لم يتخلف‏.‏

والجواب عن ذلك أن كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة‏:‏ فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعوضه‏.‏

وقد ورد في ذلك حديث صحيح أخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبادة ابن الصامت رفعه ‏"‏ ما على الأرض مسلم يدعو بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها ‏"‏ ولأحمد من حديث أبي هريرة ‏"‏ إما أن يعجلها له، وإما أن يدخرها له ‏"‏ وله في حديث أبي سعيد رفعه ‏"‏ ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث‏:‏ إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها ‏"‏ وصححه الحاكم‏.‏

وهذا شرط ثان للإجابة، ولها شروط أخرى منها أن يكون طيب المطعم والملبس لحديث ‏"‏ فأني يستجاب لذلك ‏"‏ وسيأتي بعد عشرين بابا من حديث أبي هريرة، ومنها ألا يكون يستعجل لحديث ‏"‏ يستجاب لأحدكم ما لم يقل دعوت فلم يستجب لي ‏"‏ أخرجه مالك‏.‏

*3*باب لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب لكل نبي دعوة مستجابة‏)‏ كذا لأبي ذر وسقط لفظ ‏"‏ باب ‏"‏ لغيره فصار من جملة الترجمة الأولى‏.‏

ومناسبتها للآية الإشارة إلى أن بعض الدعاء لا يستجاب عينا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ يَدْعُو بِهَا وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فِي الْآخِرَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي أويس‏.‏

قوله ‏(‏مستجابة‏)‏ كذا لأبي ذر ولم أرها عند الباقين ولا في شيء من نسخ الموطأ‏.‏

قوله ‏(‏يدعو بها‏)‏ زاد في رواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ‏"‏ فيعجل كل نبي دعوته ‏"‏ وفي حديث أنس ثاني حديثي الباب ‏"‏ فاستجيب له‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة‏)‏ وفي رواية أبي سلمة عن أبي هريرة الآتية في التوحيد ‏"‏ فأريد إن شاء الله أن أختبئ ‏"‏ وزيادة ‏"‏ إن شاء الله ‏"‏ في هذا للتبرك‏.‏

ولمسلم ‏"‏ من رواية أبي صالح عن أبي هريرة ‏"‏ وإني اختبأت ‏"‏ وفي حديث أنس ‏"‏ فجعلت دعوتي ‏"‏ وزاد ‏"‏ يوم القيامة ‏"‏ وزاد أبو صالح فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا ‏"‏ وقوله ‏"‏ من مات ‏"‏ في محل نصب على المفعولية و ‏"‏ لا يشرك بالله ‏"‏ في محل نصب على الحال، والتقدير شفاعتي نائلة من مات غير مشرك، وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يؤخرها ثم عزم ففعل ورجا وقوع ذلك فأعلمه الله به فجزم به، وسيأتي تتمة الكلام على الشفاعة وأنواعها في أول كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى‏.‏

وقد استشكل ظاهر الحديث بما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة ولا سيما نبينا صلى الله عليه وسلم، وظاهره أن لكل نبي دعوة مستجابة فقط، والجواب أن المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها، وما عدا ذلك من دعواتهم فهو على رجاء الإجابة‏.‏

وقيل معنى قوله ‏"‏ لكل نبي دعوة ‏"‏ أي أفضل دعواته، ولهم دعوات أخرى، وقيل لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم، وأما الدعوات الخاصة فمنها ما يستجاب ومنها ما لا يستجاب، وقيل لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه كقول نوح ‏(‏لا تذر على الأرض‏)‏ وقول زكريا ‏(‏فهب لي من لدنك وليا يرثني‏)‏ وقول سليمان ‏(‏وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي‏)‏ حكاه ابن التين‏.‏

وقال بعض شراح ‏"‏ المصابيح ‏"‏ ما لفظه‏:‏ اعلم أن جميع دعوات الأنبياء مستجابة، والمراد بهذا الحديث أن كل نبي دعا على أمته بالإهلاك إلا أنا فلم أدع فأعطيت الشفاعة عوضا عن ذلك للصبر على أذاهم، والمراد بالأمة أمة الدعوة لا أمة الإجابة‏.‏

وتعقبه الطيبي بأنه صلى الله عليه وسلم دعا على أحياء من العرب ودعا على أناس من قريش بأسمائهم ودعا على رعل وذكوان ودعا على مضر، قال‏:‏ والأولى أن يقال إن الله جعل لكل نبي دعوة تستجاب في حق أمته فنالها كل منهم في الدنيا، وأما نبينا فإنه لما دعا على بعض أمته نزل عليه ‏(‏ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم‏)‏ فبقي تلك الدعوة المستجابة مدخرة للآخرة، وغالب من دعا عليهم لم يرد إهلاكهم وإنما أراد ردعهم ليتوبوا‏.‏

وأما جزمه أولا بأن جميع أدعيتهم مستجابة ففيه غفلة عن الحديث الصحيح ‏"‏ سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة ‏"‏ الحديث ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ في هذا الحديث بيان فضل نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة، ولم يجعلها أيضا دعاء عليهم بالهلاك كما وقع لغيره ممن تقدم‏.‏

وقال ابن الجوزي‏:‏ هذا من حسن تصرفه صلى الله عليه وسلم لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي، ومن كثرة كرمه لأنه آثر أمته على نفسه، ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمته لكونهم أحوج إليها من الطائعين‏.‏

وقال النووي‏:‏ فيه كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم واعتناؤه بالنظر في مصالحهم، فجعل دعوته في أهم أوقات حاجتهم‏.‏

وأما قوله ‏"‏ فهي نائلة ‏"‏ ففيه دليل لأهل السنة أن من مات غير مشرك لا يخلد في النار، ولو مات مصرا على الكبائر‏.‏

الحديث‏:‏

وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ قَالَ مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كُلُّ نَبِيٍّ سَأَلَ سُؤْلًا أَوْ قَالَ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ قَدْ دَعَا بِهَا فَاسْتُجِيبَ فَجَعَلْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏وقال معتمر‏)‏ هو ابن سليمان التيمي، كذا للأكثر وبه جزم الإسماعيلي والحميدي، لكن عند الأصيلي وكريمة في أوله ‏"‏ قال لي خليفة حدثنا معتمر ‏"‏ فعلى هذا هو متصل، وقد وصله أيضا مسلم عن محمد بن عبد الأعلى عن معتمر‏.‏

قوله ‏(‏لكل نبي سأل سؤلا أو قال لكل نبي دعوة‏)‏ هكذا وقع بالشك، ولم يسق مسلم لفظه بل أحال به على طريق قتادة عن أنس، وقد أخرجه ابن منده في كتاب الإيمان من طريق محمد بن عبد الأعلى به، ومن طريق الحسن بن الربيع ومسدد وغيرهما عن معتمر بالشك، ولفظه ‏"‏ كل نبي قد سأل سؤلا أو قال لكل نبي دعوة قد دعا بها ‏"‏ الحديث ولفظ قتادة عند مسلم ‏"‏ لكل نبي دعوة لأمته ‏"‏ فذكره ولم يشك‏.‏

*3*باب أَفْضَلِ الِاسْتِغْفَارِ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب أفضل الاستغفار‏)‏ سقط لفظ ‏"‏ باب ‏"‏ لأبي ذر‏.‏

ووقع في شرح ابن بطال بلفظ ‏"‏ فضل الاستغفار ‏"‏ وكأنه لما رأى الآيتين في أول الترجمة وهما دالتان على الحث على الاستغفار ظن أن الترجمة لبيان فضيلة الاستغفار، ولكن حديث الباب يؤيد ما وقع عند الأكثر، وكأن المصنف أراد إثبات مشروعية الحث على الاستغفار بذكر الآيتين‏.‏

ثم بين بالحديث أولى ما يستعمل من ألفاظه، وترجم بالأفضلية‏.‏

ووقع الحديث بلفظ السيادة وكأنه أشار إلى أن المراد بالسيادة الأفضلية ومعناها الأكثر نفعا لمستعمله، ومن أوضح ما وقع في فضل الاستغفار ما أخرجه الترمذي وغيره من حديث يسار وغيره مرفوعا ‏"‏ من قال أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان فر من الزحف ‏"‏ قال أبو نعيم الأصبهاني‏:‏ هذا يدل على أن بعض الكبائر تغفر ببعض العمل الصالح، وضابطه الذنوب التي لا توجب على مرتكبها حكما في نفس ولا مال، ووجه الدلالة منه أنه مثل بالفرار من الزحف وهو من الكبائر، فدل على أن ما كان مثله أو دونه يغفر إذا كان مثل الفرار من الزحف، فإنه لا يوجب على مرتكبه حكما في نفس ولا مال‏.‏

قوله ‏(‏وقوله تعالى‏:‏ واستغفروا ربكم إنه كان غفارا الآية‏)‏ كذا رأيت في نسخة معتمدة من رواية أبي ذر، وسقطت الواو من رواية غيره وهو الصواب‏.‏

فإن التلاوة ‏(‏فقلت استغفروا ربكم‏)‏ وساق غير أبي ذر الآية إلى قوله تعالى ‏(‏أنهارا‏)‏ وكأن المصنف لمح بذكر هذه الآية إلى أثر الحسن البصري‏:‏ إن رجلا شكى إليه الجدب فقال استغفر الله، وشكى إليه آخر فقال استغفر الله، وشكى إليه آخر جفاف بستانه فقال استغفر الله، وشكى إليه آخر عدم الولد فقال استغفر الله، ثم تلا عليهم هذه الآية‏.‏

وفي الآية حث على الاستغفار وإشارة إلى وقوع المغفرة لمن استغفر وإلى ذلك أشار الشاعر بقوله‏:‏ لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من جود كفيك ما علمتني الطلبا قوله ‏(‏والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم الآية‏)‏ كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى قوله ‏(‏وهم يعلمون‏)‏ واختلف في معنى قوله ‏(‏ذكروا الله‏)‏ فقيل إن قوله ‏(‏فاستغفروا‏)‏ تفسير للمراد بالذكر، وقيل هو على حذف تقديره ذكروا عقاب الله، والمعنى تفكروا في أنفسهم أن الله سائلهم فاستغفروا لذنوبهم أي لأجل ذنوبهم وقد ورد في حديث حسن صفة الاستغفار المشار إليه في الآية أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن حبان من حديث علي بن أبي طالب قال ‏"‏ حدثني أبو بكر الصديق رضي الله عنهما وصدق أبو بكر‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر فيحسن الطهور ثم يستغفر الله عز وجل إلا غفر له ‏"‏ ثم تلا ‏(‏والذين إذا فعلوا فاحشة‏)‏ الآية‏.‏

وقوله تعالى ‏(‏ولم يصروا على ما فعلوا‏)‏ فيه إشارة إلى أن من شرط قبول الاستغفار أن يقلع المستغفر عن الذنب، وإلا فالاستغفار باللسان مع التلبس بالذنب كالتلاعب‏.‏

وورد في فضل الاستغفار والحث عليه آيات كثيرة، وأحاديث كثيرة منها حديث أبي سعيد رفعه ‏"‏ قال إبليس‏:‏ يا رب لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم‏.‏

فقال الله تعالى‏:‏ وعزتي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني ‏"‏ أخرجه أحمد، وحديث أبي بكر الصديق رفعه ‏"‏ ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة ‏"‏ أخرجه أبو داود والترمذي وذكر السبعين للمبالغة، وإلا ففي حديث أبي هريرة الآتي في التوحيد مرفوعا ‏"‏ أن عبدا أذنب ذنبا فقال رب إني أذنبت ذنبا فاغفر لي فغفر له ‏"‏ الحديث وفي آخره ‏"‏ علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، اعمل ما شئت فقد غفرت لك‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ قَالَ حَدَّثَنِي بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ الْعَدَوِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ قَالَ وَمَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا الحسين‏)‏ هو ابن ذكوان المعلم، ووقع عند النسائي من رواية غندر حدثنا الحسين المعلم، وكذا عند الإسماعيلي من طريق يحيى القطان عن حسين المعلم‏.‏

قوله ‏(‏حدثنا عبد الله بن بريدة‏)‏ أي ابن الحصيب الأسلمي‏.‏

قوله ‏(‏حدثنا بشير‏)‏ بالموحدة ثم المعجمة مصغر، وقد تابع حسينا على ذلك ثابت البناني وأبو العوام عن بريدة ولكنهما لم يذكرا بشير بن كعب بل قالا عن ابن بريدة عن شداد أخرجه النسائي، وخالفهم الوليد بن ثعلبة فقال‏:‏ عن ابن بريدة عن أبيه أخرجه الأربعة إلا الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم لكن لم يقع في رواية الوليد أول الحديث، قال النسائي حسين المعلم أثبت من الوليد بن ثعلبة وأعلم بعبد الله بن بريدة وحديثه أولى بالصواب‏.‏

قلت‏:‏ كأن الوليد سلك الجادة، لأن جل رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه، وكأن من صححه جوز أن يكون عن عبد الله بن بريدة على الوجهين، والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏حدثني شداد بن أوس‏)‏ أي ابن ثابت بن المنذر بن حرام بمهملتين الأنصاري ابن أخي حسان بن ثابت الشاعر، وشداد صحابي جليل نزل الشام وكنيته أبو يعلى‏.‏

واختلف في صحبة أبيه وليس لشداد في البخاري إلا هذا الحديث الواحد‏.‏

قوله ‏(‏سيد الاستغفار‏)‏ قال الطيبي‏:‏ لما كان هذا الدعاء جامعا لمعاني التوبة كلها استعير له اسم السيد، وهو في الأصل الرئيس الذي يقصد في الحوائج، ويرجع إليه في الأمور‏.‏

قوله ‏(‏أن يقول‏)‏ أي العبد، وثبت في رواية أحمد والنسائي ‏"‏ إن سيد الاستغفار أن يقول العبد ‏"‏ وللترمذي من رواية عثمان بن ربيعة عن شداد ‏"‏ ألا أدلك على سيد الاستغفار ‏"‏ وفي حديث جابر عند النسائي ‏"‏ تعلموا سيد الاستغفار‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏لا إله إلا أنت خلقتني‏)‏ كذا في نسخة معتمدة بتكرير أنت، وسقطت الثانية من معظم الروايات، ووقع عند الطبراني من حديث أبي أمامة ‏"‏ من قال حين يصبح‏:‏ اللهم لك الحمد لا إله إلا أنت ‏"‏ والباقي نحو حديث شداد وزاد فيه ‏"‏ آمنت لك مخلصا لك ديني‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وأنا عبدك‏)‏ قال الطيبي‏:‏ يجوز أن تكون مؤكدة، ويجوز أن تكون مقدرة، أي أنا عابد لك، ويؤيده عطف قوله ‏"‏ وأنا على عهدك‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وأنا على عهدك‏)‏ سقطت الواو في رواية النسائي، قال الخطابي‏:‏ يريد أنا على ما عهدتك عليه وواعدتك من الإيمان بك وإخلاص الطاعة لك ما استطعت من ذلك‏.‏

ويحتمل أن يريد أنا مقيم على ما عهدت إلى من أمرك ومتمسك به ومنتجز وعدك في المثوبة والأجر‏.‏

واشتراط الاستطاعة في ذلك معناه الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه تعالى‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ قوله ‏"‏ وأنا على عهدك ووعدك ‏"‏ يريد العهد الذي أخذه الله على عباده حيث أخرجهم أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم فأقروا له بالربوبية وأذعنوا له بالوحدانية‏.‏

وبالوعد ما قال على لسان نبيه ‏"‏ أن من مات لا يشرك بالله شيئا وأدى ما افترض عليه أن يدخله الجنة‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وقوله وأدى ما افترض علي زيادة ليست بشرط في هذا المقام لأنه جعل المراد بالعهد الميثاق المأخوذ في عالم الذر وهو التوحيد خاصة، فالوعد هو إدخال من مات على ذلك الجنة‏.‏

قال وفي قوله ‏"‏ ما استطعت ‏"‏ إعلام لأمته أن أحدا لا يقدر على الإتيان بجميع ما يجب عليه لله‏.‏

ولا الوفاء بكمال الطاعات والشكر على النعم، فرفق الله بعباده فلم يكلفهم من ذلك إلا وسعهم‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ يحتمل أن يراد بالعهد والوعد ما في الآية المذكورة، كذا قال‏:‏ والتفريق بين العهد والوعد أوضح‏.‏

قوله ‏(‏أبوء لك بنعمتك علي‏)‏ سقط لفظ لك من رواية النسائي، وأبوء بالموحدة والهمز ممدود معناه أعترف‏.‏

ووقع في رواية عثمان بن ربيعة عن شداد ‏"‏ وأعترف بذنوبي ‏"‏ وأصله البواء ومعناه اللزوم، ومنه بوأه الله منزلا إذا أسكنه فكأنه ألزمه به‏.‏

قوله ‏(‏وأبوء لك بذنبي‏)‏ أي أعترف أيضا، وقيل معناه أحمله برغمي لا أستطيع صرفه عني‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ اعترف أولا بأنه أنعم عليه، ولم يقيده لأنه يشمل أنواع الإنعام، ثم اعترف بالتقصير وأنه لم يقم بأداء شكرها، ثم بالغ فعده ذنبا مبالغة في التقصير وهضم النفس‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون قوله ‏"‏ أبوء لك بذنبي ‏"‏ أعترف بوقوع الذنب مطلقا ليصح الاستغفار منه، لا أنه عد ما قصر فيه من أداء شكر النعم ذنبا‏.‏

قوله ‏(‏فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏)‏ يؤخذ منه أن من اعترف بذنبه غفر له، وقد وقع صريحا في حديث الإفك الطويل وفيه ‏"‏ العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏من قالها موقنا بها‏)‏ أي مخلصا من قلبه مصدقا بثوابها‏.‏

وقال الداودي يحتمل أن يكون هذا من قوله إن الحسنات يذهبن السيئات ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء وغيره، لأنه بشر بالثواب ثم بشر بأفضل منه فثبت الأول وما زيد عليه، وليس يبشر بالشيء ثم يبشر بأقل منه مع ارتفاع الأول، ويحتمل أن يكون ذلك ناسخا وأن يكون هذا فيمن قالها ومات قبل أن يفعل ما يغفر له به ذنوبه، أو يكون ما فعله من الوضوء وغيره لم ينتقل منه بوجه ما، والله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء‏.‏

كذا حكاه ابن التين عنه، وبعضه يحتاج إلى تأمل‏.‏

قوله ‏(‏ومن قالها من النهار‏)‏ في رواية النسائي ‏"‏ فإن قالها حين يصبح ‏"‏ وفي رواية عثمان بن ربيعة ‏"‏ لا يقولها أحدكم حين يمسي فيأتي عليه قدر قبل أن يصبح، أو حين يصبح فيأتي عليه قدر قبل أن يمسي‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فهو من أهل الجنة‏)‏ في رواية النسائي ‏"‏ دخل الجنة ‏"‏ وفي رواية عثمان بن ربيعة ‏"‏ إلا وجبت له الجنة ‏"‏ قال ابن أبي جمرة‏:‏ جمع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أنه يسمى سيد الاستغفار، ففيه الإقرار لله وحده بالإلهية والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده به، والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه، وإضافة النعماء إلى موجدها، وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو، وفي كل ذلك الإشارة إلى الجمع بين الشريعة والحقيقة، فإن تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كان في ذلك عون من الله تعالى‏.‏

وهذا القدر الذي يكني عنه بالحقيقة‏.‏

فلو اتفق أن العبد خالف حتى يجري عليه ما قدر عليه وقامت الحجة عليه ببيان المخالفة لم يبق إلا أحد أمرين‏:‏ إما العقوبة بمقتضى العدل أو العفو بمقتضى الفضل، انتهى ملخصا‏.‏

أيضا‏:‏ من شروط الاستغفار صحة النية، والتوجه والأدب، فلو أن أحدا حصل الشروط واستغفر بغير هذا اللفظ الوارد واستغفر آخر بهذا اللفظ الوارد لكن أخل بالشروط هل يستويان‏؟‏ فالجواب أن الذي يظهر أن اللفظ المذكور إنما يكون سيد الاستغفار إذا جمع الشروط المذكورة، والله أعلم‏.‏

*3*باب اسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي وقوع الاستغفار منه‏.‏

أو التقدير مقدار استغفاره في كل يوم، ولا يحمل على الكيفية لتقدم بيان الأفضل وهو لا يترك الأفضل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏قال‏:‏ قال أبو هريرة‏)‏ في رواية يونس بن يزيد عن الزهري ‏"‏ أخبرني أبو سلمة أنه سمع أبا هريرة ‏"‏ أخرجه النسائي‏.‏

قوله ‏(‏والله إني لأستغفر الله‏)‏ فيه القسم على الشيء تأكيدا له وإن لم يكن عند السامع فيه شك‏.‏

قوله ‏(‏لأستغفر الله وأتوب إليه‏)‏ ظاهره أنه يطلب المغفرة ويعزم على التوبة ‏"‏ ويحتمل أن يكون المراد يقول هذا اللفظ بعينه، ويرجح الثاني ما أخرجه النسائي بسند جيد من طريق مجاهد عن ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه في المجلس قبل أن يقوم مائة مرة ‏"‏ وله من رواية محمد بن سوقة عن نافع عن ابن عمر بلفظ ‏"‏ إنا كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس‏:‏ رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور، مائة مرة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أكثر من سبعين مرة‏)‏ وقع في حديث أنس ‏"‏ إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة، فيحتمل أن يريد المبالغة ويحتمل أن يريد العدد بعينه‏.‏

وقوله ‏"‏أكثر ‏"‏ مبهم فيحتمل أن يفسر بحديث ابن عمر المذكور وأنه يبلغ المائة‏.‏

وقد وقع في طريق أخرى عن أبي هريرة من رواية معمر عن الزهري بلفظ ‏"‏ إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة ‏"‏ لكن خالف أصحاب الزهري في ذلك‏.‏

نعم أخرج النسائي أيضا من رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة بلفظ ‏"‏ إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم مائة مرة ‏"‏ وأخرج النسائي أيضا من طريق عطاء عن أبي هريرة ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الناس فقال‏:‏ يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة ‏"‏ وله في حديث الأغر المزني رفعه مثله، وهو عنده وعند مسلم بلفظ ‏"‏ إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة ‏"‏ قال عياض‏:‏ المراد بالغين فترات عن الذكر الذي شأنه أن يداوم عليه، فإذا فتر عنه لأمر ما عد ذلك ذنبا فاستغفر عنه‏.‏

وقيل هو شيء يعتري القلب مما يقع من حديث النفس، وقيل هو السكينة التي تغشى قلبه والاستغفار لإظهار العبودية لله والشكر لما أولاه، وقيل هي حالة خشية وإعظام والاستغفار شكرها، ومن ثم قال المحاسبي‏:‏ خوف المتقربين خوف إجلال وإعظام‏.‏

وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي‏:‏ لا يعتقد أن الغين في حالة نقص، بل هو كمال أو تتمة كمال‏.‏

ثم مثل ذلك بجفن العين حين يسبل ليدفع القذى عن العين مثلا فإنه يمنع العين من الرؤية، فهو من هذه الحيثية نقص، وفي الحقيقة هو كمال‏.‏

هذا محصل كلامه بعبارة طويلة، قال‏:‏ فهكذا بصيرة النبي صلى الله عليه وسلم متعرضة للأغيرة الثائرة من أنفاس الأغيار فدعت الحاجة إلى الستر على حدقة بصيرته صيانة لها ووقاية عن ذلك انتهى‏.‏

وقد استشكل وقوع الاستغفار من النبي صلى الله عليه وسلم وهو معصوم، والاستغفار يستدعي وقوع معصية‏.‏

وأجيب بعدة أجوبة‏:‏ منها ما تقدم في تفسير الغين، ومنها قول ابن الجوزي‏:‏ هفوات الطباع البشرية لا يسلم منها أحد، والأنبياء وإن عصموا من الكبائر فلم يعصموا من الصغائر‏.‏

كذا قال، وهو مفرع على خلاف المختار، والراجح عصمتهم من الصغائر أيضا‏.‏

ومنها قول ابن بطال‏:‏ الأنبياء أشد الناس اجتهادا في العبادة لما أعطاهم الله تعالى من المعرفة، فهم دائبون في شكره معترفون له بالتقصير انتهى‏.‏

ومحصل جوابه أن الاستغفار من التقصير في أداء الحق الذي يجب لله تعالى، ويحتمل أن يكون لاشتغاله بالأمور المباحة من أكل أو شرب أو جماع أو نوم أو راحة، أو لمخاطبة الناس والنظر في مصالحهم، ومحاربة عدوهم تارة ومداراته أخرى، وتأليف المؤلفة وغير ذلك مما يحجبه عن الاشتغال بذكر الله والتضرع إليه ومشاهدته ومراقبته، فيرى ذلك ذنبا بالنسبة إلى المقام العلى وهو الحضور في حظيرة القدس‏.‏

ومنها أن استغفاره تشريع لأمته، أو من ذنوب الأمة فهو كالشفاعة لهم‏.‏

وقال الغزالي في ‏"‏ الإحياء ‏"‏ كان صلى الله عليه وسلم دائم الترقي، فإذا ارتقى إلى حال رأى ما قبلها دونها فاستغفر من الحالة السابقة، وهذا مفرع على أن العدد المذكور في استغفاره كان مفرقا بحسب تعدد الأحوال، وظاهر ألفاظ الحديث يخالف ذلك‏.‏

وقال الشيخ السهروردي‏:‏ لما كان روح النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل في الترقي إلى مقامات القرب يستتبع القلب، والقلب يستتبع النفس، ولا ريب أن حركة الروح والقلب أسرع من نهضة النفس فكانت خطأ النفس تقصر عن مداهما في العروج، فاقتضت الحكمة إبطاء حركة القلب لئلا تنقطع علاقة النفس عنه فيبقى العباد محرومين، فكان صلى الله عليه وسلم يفزع إلى الاستغفار لقصور النفس عن شأو ترقي القلب، والله أعلم‏.‏

*3*باب التَّوْبَةِ

قَالَ قَتَادَةُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا الصَّادِقَةُ النَّاصِحَةُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب التوبة‏)‏ أشار المصنف بإيراد هذين البابين - وهما الاستغفار ثم التوبة - في أوائل كتاب الدعاء إلى أن الإجابة تسرع إلى من لم يكن متلبسا بالمعصية، فإذا قدم التوبة والاستغفار قبل الدعاء كان أمكن لإجابته‏.‏

وما ألطف قول ابن الجوزي، إذ سئل أأسبح أو أستغفر‏؟‏ فقال‏:‏ الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون من البخور‏.‏

والاستغفار استفعال من الغفران وأصله الغفر وهو إلباس الشيء ما يصونه عما يدنسه، وتدنيس كل شيء يحسبه والغفران من الله للعبد أن يصونه عن العذاب، والتوبة ترك الذنب على أحد الأوجه‏.‏

وفي الشرع ترك الذنب لقبحه، والندم على فعله، والعزم على عدم العود، ورد المظلمة إن كانت أو طلب البراءة من صاحبها، وهي أبلغ ضروب الاعتذار، لأن المعتذر إما أن يقول لا أفعل فلا يقع الموقع عند من اعتذر له لقيام احتمال أنه فعل، لا سيما إن ثبت ذلك عنده عنه، أو يقول فعلت لأجل كذا ويذكر شيئا يقيم عذره وهو فوق الأول، أو يقول فعلت ولكن أسأت وقد أقلعت وهذا أعلاه انتهى من كلام الراغب ملخصا‏.‏

وقال‏:‏ القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏‏:‏ اختلفت عبارات المشايخ فيها، فقائل يقول إنها الندم، وآخر يقول إنها العزم على أن لا يعود، وآخر يقول الإقلاع عن الذنب، ومنهم من يجمع بين الأمور الثلاثة وهو أكملها غير أنه مع ما فيه غير مانع ولا جامع‏.‏

أما أولا فلأنه قد يجمع الثلاثة ولا يكون تائبا شرعا، إذ قد يفعل ذلك شحا على ماله أو لئلا يعيره الناس به؛ ولا تصح التوبة الشرعية إلا بالإخلاص، ومن ترك الذنب لغير الله لا يكون تائبا اتفاقا‏.‏

وأما ثانيا فلأنه يخرج منه من زنى مثلا ثم جب ذكره فإنه لا يتأتى منه غير الندم على ما مضى، وأما العزم على عدم العود فلا يتصور منه، قال‏:‏ وبهذا اغتر من قال إن الندم يكفي في حد التوبة، وليس كما قال لأنه لو ندم ولم يقلع وعزم على العود لم يكن تائبا اتفاقا، قال‏:‏ وقال بعض المحققين هي اختيار ترك ذنب سبق حقيقة أو تقديرا لأجل الله، قال‏:‏ وهذا أسد العبارات وأجمعها، لأن التائب لا يكون تاركا للذنب الذي فرغ لأنه غير متمكن من عينه لا تركا ولا فعلا، وإنما هو متمكن من مثله حقيقة، وكذا من لم يقع منه ذنب إنما يصح منه اتقاء ما يمكن أن يقع لا ترك مثل ما وقع فيكون متقيا لا تائبا، قال‏:‏ والباعث على هذا تنبيه إلهي لمن أراد سعادته لقبح الذنب وضرره، لأنه سم مهلك يفوت على الإنسان سعادة الدنيا والآخرة، ويحجبه عن معرفة الله تعالى في الدنيا وعن تقريبه في الآخرة‏.‏

قال‏:‏ ومن تفقد نفسه وجدها مشحونة بهذا السم، فإذا وفق انبعث منه خوف هجوم الهلاك عليه فيبادر بطلب ما يدفع به عن نفسه ضرر ذلك، فحينئذ ينبعث منه الندم على ما سبق والعزم على ترك العود عليه، قال‏:‏ ثم اعلم أن التوبة إما من الكفر وإما من الذنب، فتوبة الكافر مقبولة قطعا، وتوبة العاصي مقبولة بالوعد الصادق، ومعنى القبول الخلاص من ضرر الذنوب حتى يرجع كمن لم يعمل‏.‏

ثم توبة العاصي إما من حق الله وإما من حق غيره، فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه الترك على ما تقدم، غير أن منه ما لم يكتف الشرع فيه بالترك فقط بل أضاف إليه القضاء أو الكفارة، وحق غير الله يحتاج إلى إيصالها لمستحقها وإلا لم يحصل الخلاص من ضرر ذلك الذنب، لكن من لم يقدر على الإيصال بعد بذله الوسع في ذلك فعفو الله مأمول، فإنه يضمن التبعات ويبدل السيئات حسنات، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ حكى غيره عن عبد الله بن المبارك في شروط التوبة زيادة فقال‏:‏ الندم، والعزم على عدم العود؛ ورد المظلمة، وأداء ما ضيع من الفرائض، وأن يعمد إلى البدن الذي رباه بالسحت فيذيبه بالهم والحزن حتى ينشأ له لحم طيب، وأن يذيق نفسه ألم الطاعة كما أذاقها لذة المعصية‏.‏

قلت‏:‏ وبعض هذه الأشياء مكملات‏.‏

وقد تمسك من فسر التوبة بالندم بما أخرجه أحمد وابن ماجه وغيرهما من حديث ابن مسعود رفعه ‏"‏ الندم توبة ‏"‏ ولا حجة فيه لأن المعنى الحض عليه وأنه الركن الأعظم في التوبة لا أنه التوبة نفسها، وما يؤيد اشتراط كونها لله تعالى وجود الندم على الفعل ولا يستلزم الإقلاع عن أصل تلك المعصية، كمن قتل ولده مثلا وندم لكونه ولده، وكمن بذل مالا في معصية ثم ندم على نقص ذلك المال مما عنده‏.‏

واحتج من شرط في صحة التوبة من حقوق العباد أن يرد تلك المظلمة بأن من غصب أمة فزنى بها لا تصح توبته إلا بردها لمالكها، وأن من قتل نفسا عمدا لا تصح توبته إلا بتمكين نفسه من ولي الدم ليقتص أو يعفو‏.‏

قلت‏:‏ وهذا من جهة التوبة من الغصب ومن حق المقتول واضح، ولكن يمكن أن تصح التوبة من العود إلى الزنا وإن استمرت الأمة في يده، ومن العود إلى القتل وإن لم يمكن من نفسه‏.‏

وزاد بعض من أدركناه في شروط التوبة أمورا أخرى‏:‏ منها أن يفارق موضع المعصية، وأن لا يصل في آخر عمره إلى الغرغرة، وأن لا تطلع الشمس من مغربها، وأن لا يعود إلى ذلك الذنب، فإن عاد إليه بان أن توبته باطلة‏.‏

قلت‏:‏ والأول مستحب، والثاني والثالث داخلان في حد التكليف والرابع الأخير عزى للقاضي أبي بكر الباقلاني‏.‏

ويرده الحديث الآتي بعد عشرين بابا وقد أشرت إليه في ‏"‏ باب فضل الاستغفار ‏"‏ وقد قال الحليمي في تفسير التواب في الأسماء الحسنى‏:‏ أنه العائد على عبده بفضل رحمته، كلما رجع لطاعته وندم على معصيته فلا يحبط عنه ما قدمه من خير ولا يحرمه ما وعد به الطائع من الإحسان‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ التواب الذي يعود إلى القبول كلما عاد العبد إلى الذنب وتاب‏.‏

قوله ‏(‏وقال قتادة توبة نصوحا‏:‏ الصادقة الناصحة‏)‏ وصله عبد بن حميد من طريق شيبان عن قتادة مثله، وقيل سميت ناصحة لأن العبد ينصح نفسه فيها، فذكرت بلفظ المبالغة‏.‏

وقرأ عاصم ‏"‏ نصوحا ‏"‏ بضم النون أي ذات نصح‏.‏

وقال الراغب‏:‏ النصح تحرى قول أو فعل فيه صلاح، تقول‏:‏ نصحت لك الود أي أخلصته، ونصحت الجلد أي خطته، والناصح الخياط، والنصاح الخيط، فيحتمل أن يكون قوله ‏"‏ توبة نصوحا ‏"‏ مأخوذا من الإخلاص أو من الإحكام، وحكى القرطبي المفسر أنه اجتمع له من أقوال العلماء في تفسير التوبة النصوح ثلاثة وعشرون قولا‏:‏ الأول قول عمر ‏"‏ أن يذنب الذنب ثم لا يرجع ‏"‏ وفي لفظ ثم ‏"‏ لا يعود فيه ‏"‏ أخرجه الطبري بسند صحيح عن ابن مسعود مثله، وأخرجه أحمد مرفوعا‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق زر بن حبيش عن أبي بن كعب أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال ‏"‏ أن يندم إذا أذنب فيستغفر ثم لا يعود إليه ‏"‏ وسنده ضعيف جدا‏.‏

الثاني‏:‏ أن يبغض الذنب ويستغفر منه كلما ذكره، أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري‏.‏

الثالث قول قتادة المذكور قبل‏.‏

الرابع أن يخلص فيها‏.‏

الخامس أن يصير من عدم قبولها على وجل‏.‏

السادس أن لا يحتاج معها إلى توبة أخرى‏.‏

السابع أن يشتمل على خوف ورجاء ويدمن الطاعة‏.‏

الثامن مثله وزاد‏:‏ وأن يهاجر من أعانه عليه‏.‏

التاسع أن يكون ذنبه بين عينيه‏.‏

العاشر أن يكون وجها بلا قفا كما كان في المعصية قفا بلا وجه‏.‏

ثم سرد بقية الأقوال من كلام الصوفية بعبارات مختلفة ومعان مجتمعة ترجع إلى ما تقدم، وجميع ذلك من المكملات لا من شرائط الصحة، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا قَالَ أَبُو شِهَابٍ بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ ثُمَّ قَالَ لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ تَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَجَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ سَمِعْتُ الْحَارِثَ وَقَالَ شُعْبَةُ وَأَبُو مُسْلِمٍ اسْمُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ كُوفِيٌّ قَائِدُ الْأَعْمَشِ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا أحمد بن يونس‏)‏ هو ابن عبد الله بن يونس نسب إلى جده واشتهر بذلك، وأبو شهاب شيخه اسمه عبد ربه بن نافع الحناط بالمهملة والنون وهو أبو شهاب الحناط الصغير، وأما أبو شهاب الحناط الكبير فهو في طبقة شيوخ هذا واسمه موسى بن نافع، وليسا أخوين وهما كوفيان، وكذا بقية رجال هذا السند‏.‏

قوله ‏(‏عن عمارة بن عمير‏)‏ فذكر المصنف تصريح الأعمش بالتحديث وتصريح شيخه عمارة‏.‏

وفي رواية أبي أسامة المعلقة بعد هذا، وعمارة تيمي من بني تيم اللات ابن ثعلبة كوفي من طبقة الأعمش، وشيخه الحارث ابن سويد تيمي أيضا، وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق أولهم الأعمش وهو من صغار التابعين، وعمارة من أوساطهم، والحارث من كبارهم‏.‏

قوله ‏(‏حديثين أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم والآخر عن نفسه قال إن المؤمن‏)‏ فذكره إلى قوله ‏"‏ فوق أنفه ‏"‏ ثم قال ‏"‏ لله أفرح بتوبة عبده ‏"‏ هكذا وقع في هذه الرواية غير مصرح برفع أحد الحديثين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال النووي‏:‏ قالوا المرفوع ‏"‏ لله أفرح إلخ ‏"‏ والأول قول ابن مسعود، وكذا جزم ابن بطال بأن الأول هو الموقوف والثاني هو المرفوع وهو كذلك، ولم يقف ابن التين على تحقيق ذلك فقال‏:‏ أحد الحديثين عن ابن مسعود والآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزد في الشرح على الأصل شيئا، وأغرب الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة في مختصره فأفرد أحد الحديثين من الأخر وعبر في كل منهما بقوله ‏"‏ عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وليس ذلك في شيء من نسخ البخاري، ولا التصريح برفع الحديث الأول إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من نسخ كتب الحديث إلا ما قرأت في شرح مغلطاي أنه روى مرفوعا من طريق وهاها أبو أحمد الجرجاني يعني ابن عدي، وقد وقع بيان ذلك في الرواية المعلقة، وكذا وقع البيان في رواية مسلم مع كونه لم يسق حديث ابن مسعود الموقوف ولفظه من طريق جرير عن الأعمش عن عمارة عن الحارث قال ‏"‏ دخلت على ابن مسعود أعوده وهو مريض فحدثنا بحديثين‏:‏ حديثا عن نفسه، وحديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لله أشد فرحا ‏"‏ الحديث‏.‏

قوله ‏(‏إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه‏)‏ قال ابن أبي جمرة‏:‏ السبب في ذلك أن قلب المؤمن منور، فإذا رأي من نفسه ما يخالف ما ينور به قلبه عظم الأمر عليه، والحكمة في التمثيل بالجبل أن غيره من المهلكات قد يحصل التسبب إلى النجاة منه، بخلاف الجبل إذا سقط على الشخص لا ينجو منه عادة‏.‏

وحاصله أن المؤمن يغلب عليه الخوف لقوة ما عنده من الإيمان فلا يأمن العقوبة بسببها، وهذا شأن المسلم أنه دائم الخوف والمراقبة، يستصغر عمله الصالح ويخشى من صغير عمله السيئ‏.‏

قوله ‏(‏وأن الفاجر يرى ذنوبه كذباب‏)‏ في رواية أبي الربيع الزهراني عن أبي شهاب عند الإسماعيلي ‏"‏ يرى ذنوبه كأنها ذباب مر على أنفه ‏"‏ أي ذنبه سهل عنده لا يعتقد أنه يحصل له بسببه كبير ضرر، كما أن ضرر الذباب عنده سهل، وكذا دفعه عنه‏.‏

والذباب بضم المعجمة وموحدتين الأولى خفيفة بينهما ألف جمع ذبابة وهي الطير المعروف‏.‏

قوله ‏(‏فقال به هكذا‏)‏ أي نحاه بيده أو دفعه، هو من إطلاق القول على الفعل قالوا وهو أبلغ‏.‏

قوله ‏(‏قال أبو شهاب‏)‏ هو موصول بالسند المذكور‏.‏

قوله ‏(‏بيده على أنفه‏)‏ هو تفسير منه لقوله ‏"‏ فقال به ‏"‏ قال المحب الطبري‏:‏ إنما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه من الله ومن عقوبته، لأنه على يقين من الذنب وليس على يقين من المغفرة، والفاجر قليل المعرفة بالله فلذلك قل خوفه واستهان بالمعصية‏.‏

وقال ابن أبي جمرة‏:‏ السبب في ذلك أن قلب الفاجر مظلم فوقوع الذنب خفيف عنده، ولهذا تجد من يقع في المعصية إذا وعظ يقول هذا سهل، قال‏:‏ ويستفاد من الحديث أن قلة خوف المؤمن ذنوبه وخفته عليه يدل على فجوره، قال‏:‏ والحكمة في تشبيه ذنوب الفاجر بالذباب كون الذباب أخف الطير وأحقره؛ وهو مما يعاين ويدفع بأقل الأشياء، قال‏:‏ وفي ذكر الأنف مبالغة في اعتقاده خفة الذنب عنده‏.‏

لأن الذباب قلما ينزل على الأنف وإنما يقصد غالبا العين، قال‏:‏ وفي إشارته بيده تأكيد للخفة أيضا لأنه بهذا القدر اليسير يدفع ضرره، قال‏:‏ وفي الحديث ضرب المثل بما يمكن، وإرشاد إلى الحض على محاسبة النفس، واعتبار العلامات الدالة على بقاء نعمة الإيمان، وفيه أن الفجور أمر قلبي كالإيمان، وفيه دليل لأهل السنة لأنهم لا يكفرون بالذنوب، ورد على الخوارج وغيرهم ممن يكفر بالذنوب‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ يؤخذ منه أنه ينبغي أن يكون المؤمن عظيم الخوف من الله تعالى من كل ذنب صغيرا كان أو كبيرا، لأن الله تعالى قد يعذب على القليل فإنه لا يسأل عما يفعل سبحانه وتعالى‏.‏

قوله ‏(‏ثم قال‏:‏ لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلا‏)‏ في رواية أبي الربيع المذكورة ‏"‏ بتوبة عبده المؤمن ‏"‏ وعند مسلم من رواية جرير، ومن رواية أبي أسامة ‏"‏ لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن ‏"‏ وكذا عنده من حديث أبي هريرة، وإطلاق الفرح في حق الله مجاز عن رضاه، قال الخطابي‏:‏ معنى الحديث أن الله أرضى بالتوبة وأقبل لها، والفرح الذي يتعارفه الناس بينهم غير جائز على الله، وهو كقوله تعالى ‏(‏كل حزب بما لديهم فرحون‏)‏ أي راضون‏.‏

وقال ابن فورك‏:‏ الفرح في اللغة السرور‏.‏

ويطلق على البطر، ومنه ‏(‏إن الله لا يحب الفرحين‏)‏ وعلى الرضا، فإن كل من يسر بشيء ويرضى به يقال في حقه فرح به‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ كل صفة تقتضي التغير لا يجوز أن يوصف الله بحقيقتها، فإن ورد شيء من ذلك حمل على معنى يليق به، وقد يعبر عن الشيء بسببه أو ثمرته الحاصلة عنه، فإن من فرح بشيء جاد لفاعله بما سأل وبذل له ما طلب، فعبر عن عطاء الباري وواسع كرمه بالفرح‏.‏

وقال ابن أبي جمرة‏:‏ كنى عن إحسان الله للتائب وتجاوزه عنه بالفرح لأن عادة الملك إذا فرح بفعل أحد أن يبالغ في الإحسان إليه‏.‏

وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏‏:‏ هذا مثل قصد به بيان سرعة قبول الله توبة عبده التائب، وأنه يقبل عليه بمغفرته ويعامله معاملة من يفرح بعمله، ووجه هذا المثل أن العاصي حصل بسبب معصيته في قبضة الشيطان وأسره وقد أشرف على الهلاك، فإذا لطف الله به ووفقه للتوبة خرج من شؤم تلك المعصية وتخلص من أسر الشيطان ومن المهلكة التي أشرف عليها فأقبل الله عليه بمغفرته وبرحمته، وإلا فالفرح الذي هو من صفات المخلوقين محال على الله تعالى لأنه اهتزاز وطرب يجده الشخص من نفسه عند ظفره بغرض يستكمل به نقصانه ويسد به خلته، أو يدفع به عن نفسه ضررا أو نقصا، وكل ذلك محال على الله تعالى فإنه الكامل بذاته الغني بوجوده الذي لا يلحقه نقص ولا قصور، لكن هذا الفرح له عندنا ثمرة وفائدة وهو الإقبال على الشيء المفروح به وإحلاله المحل الأعلى، وهذا هو الذي يصح في حقه تعالى، فعبر عن ثمرة الفرح بالفرح على طريقة العرب في تسمية الشيء باسم ما جاوره أو كان منه بسبب، وهذا القانون جار في جميع ما أطلقه الله تعالى على صفة من الصفات التي لا تليق به، وكذا ما ثبت بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله ‏(‏وبه مهلكة‏)‏ كذا في الروايات التي وقفت عليها من صحيح البخاري بواو مفتوحة ثم موحدة خفيفة مكسورة ثم هاء ضمير، ووقع عند الإسماعيلي في رواية أبي الربيع عن أبي شهاب بسند البخاري فيه ‏"‏ بدوية ‏"‏ بموحدة مكسورة ودال مفتوحة ثم واو ثقيلة مكسورة ثم تحتانية مفتوحة ثم هاء تأنيث، وكذا في جميع الروايات خارج البخاري عند مسلم وأصحاب السنن والمسانيد وغيرهم‏.‏

وفي رواية لمسلم ‏"‏ في أرض دوية مهلكة ‏"‏ وحكى الكرماني أنه وقع في نسخة من البخاري ‏"‏ وبيئة ‏"‏ وزن فعيلة من الوباء ولم أقف أنا على ذلك في كلام غيره، ويلزم عليه أن يكون وصف المذكر وهو المنزل بصفة المؤنث في قوله ‏"‏ وبيئة مهلكة ‏"‏ وهو جائز على إرادة البقعة، والدوية هي القفر والمفازة، وهي الداوية بإشباع الدال، ووقع كذلك في رواية لمسلم وجمعها داوي قال الشاعر ‏"‏ أروع خراج من الداوي‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏مهلكة‏)‏ بفتح الميم واللام بينهما هاء ساكنة يهلك من حصل بها، وفي بعض النسخ بضم الميم وكسر اللام من الرباعي أي تهلك هي من يحصل بها‏.‏

قوله ‏(‏عليها طعامه وشرابه‏)‏ زاد أبو معاوية عن الأعمش ‏"‏ وما يصلحه ‏"‏ أخرجه الترمذي وغيره‏.‏

قوله ‏(‏وقد ذهبت راحلته‏)‏ في رواية أبي معاوية ‏"‏ فأضلها فخرج في طلبها ‏"‏ وفي رواية جرير عن الأعمش عند مسلم ‏"‏ فطلبها‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله‏)‏ شك من أبي شهاب، واقتصر جرير على ذكر العطش، ووقع في رواية أبي معاوية ‏"‏ حتى إذا أدركه الموت‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قال أرجع‏)‏ بهمزة قطع بلفظ المتكلم‏.‏

قوله ‏(‏إلى مكاني فرجع فنام‏)‏ في رواية جرير ‏"‏ أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت ‏"‏ وفي رواية أبي معاوية ‏"‏ أرجع إلى مكاني الذي أضللنها فيه فأموت فيه، فرجع إلى مكانه فغلبته عينه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده‏)‏ في رواية جرير ‏"‏ فاستيقظ وعنده راحلته عليها زاده طعامه وشرابه ‏"‏ وزاد أبو معاوية في روايته ‏"‏ وما يصلحه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏تابعه أبو عوانة‏)‏ هو الوضاح، وجرير هو ابن عبد الحميد ‏(‏عن الأعمش‏)‏ فأما متابعة أبي عوانة فوصلها الإسماعيلي من طريق يحيى بن حماد عنه، وأما متابعة جرير فوصلها مسلم وقد ذكرت اختلاف لفظها‏.‏

قوله ‏(‏وقال أبو أسامة‏)‏ هو حماد بن أسامة ‏(‏حدثنا الأعمش حدثنا عمارة حدثنا الحارث‏)‏ يعني عن ابن مسعود بالحديثين، ومراده أن هؤلاء الثلاثة وافقوا أبا شهاب في إسناد هذا الحديث، إلا أن الأولين عنعناه، وصرح فيه أبو أسامة، ورواية أبي أسامة وصلها مسلم أيضا وقال مثل حديث جرير‏.‏

قوله ‏(‏وقال شعبة وأبو مسلم‏)‏ زاد المستملي في روايته عن الفربري ‏"‏ اسمه عبيد الله ‏"‏ أي بالتصغير كوفي قائد الأعمش‏.‏

قلت‏:‏ واسم أبيه سعيد بن مسلم كوفي ضعفه جماعة، لكن لما وافقه شعبة ترخص البخاري في ذكره، وقد ذكره في تاريخه وقال‏:‏ في حديثه نظر وقال العقيلي‏:‏ يكتب حديثه وينظر فيه، ومراده أن شعبة وأبا مسلم خالفا أبا شهاب ومن تبعه في تسمية شيخ الأعمش فقال الأولون عمارة‏.‏

وقال هذان إبراهيم التيمي، وقد ذكر الإسماعيلي أن محمد بن فضيل وشجاع بن الوليد وقطبة بن عبد العزيز وافقوا أبا شهاب على قوله عمارة عن الحارث، ثم ساق رواياتهم، وطريق قطبة عند مسلم أيضا‏.‏

قوله ‏(‏وقال أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عمارة عن الأسود عن عبد الله وعن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن عبد الله‏)‏ يعني أن أبا معاوية خالف الجميع فجعل الحديث عند الأعمش عن عمارة بن عمير وإبراهيم التيمي جميعا، لكنه عند عمارة عن الأسود وهو ابن يزيد النخعي، وعند إبراهيم التيمي عن الحارث ابن سويد، وأبو شهاب ومن تبعه جعلوه عند عمارة عن الحارث بن سويد، ورواية أبي معاوية لم أقف عليها في شيء من السنن والمسانيد على هذين الوجهين، فقد أخرجه الترمذي عن هناد بن السري والنسائي عن محمد بن عبيد والإسماعيلي من طريق أبي همام ومن طريق أبي كريب ومن طريق محمد بن طريف كلهم عن أبي معاوية كما قال أبو شهاب ومن تبعه، وأخرجه النسائي عن أحمد بن حرب الموصلي عن أبي معاوية فجمع بين الأسود والحارث بن سويد‏.‏

وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي كريب، ولم أره من رواية أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي، وإنما وجدته عند النسائي من رواية علي بن مسهر عن الأعمش كذلك، وفي الجملة فقد اختلف فيه على عمارة في شيخه هل هو الحارث بن سويد أو الأسود، وتبين مما ذكرته أنه عنده عنهما جميعا، واختلف على الأعمش في شيخه هل هو عمارة أو إبراهيم التيمي، وتبين أيضا أنه عنده عنهما جميعا، والراجح من الاختلاف كله ما قال أبو شهاب ومن تبعه، ولذلك اقتصر عليه مسلم، وصدر به البخاري كلامه فأخرجه موصولا، وذكر الاختلاف معلقا كعادته في الإشارة إلى أن مثل هذا الخلاف ليس بقادح، والله أعلم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ ذكر مسلم من حديث البراء لهذا الحديث المرفوع سببا وأوله ‏"‏ كيف تقولون في رجل انفلتت منه راحلته بأرض قفر ليس بها طعام ولا شراب وعليها له طعام وشراب فطلبها حتى شق عليه ‏"‏ فذكر معناه‏.‏

وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة مختصرا ‏"‏ ذكروا الفرح عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجل يجد ضالته فقال‏:‏ لله أشد فرحا ‏"‏ الحديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنَا هُدْبَةُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ وَقَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثني إسحاق‏)‏ قال أبو علي الجياني‏:‏ يحتمل أن يكون ابن منصور، فإن مسلما أخرج عن إسحاق ابن منصور عن حبان بن هلال حديثا غير هذا‏.‏

قلت‏:‏ وتقدم في البيوع في ‏"‏ باب البيعان بالخيار ‏"‏ في رواية أبي علي بن شبوية ‏"‏ حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا حبان بن هلال ‏"‏ فذكر حديثا غير هذا، وهذا مما يقوى ظن أبي علي، والله أعلم‏.‏

وحبان بفتح المهملة ثم الموحدة الثقيلة، وهمام هو ابن يحيى، وقد نزل البخاري في حديثه في السند الأول ثم علاه بدرجة في السند الثاني، والسبب في ذلك أنه وقع في السند النازل تصرخ قتادة بتحديث أنس له، ووقع في السند العالي بالعنعنة‏.‏

قوله ‏(‏سقط على بعيره‏)‏ أي صادفه وعثر عليه من غير قصد فظفر به، ومنه قولهم ‏"‏ على الخبير سقطت ‏"‏ وحكى الكرماني أن في رواية ‏"‏ سقط إلى بعيره ‏"‏ أي انتهى إليه والأول أولى‏.‏

قوله ‏(‏وقد أضله‏)‏ أي ذهب منه بغير قصده، قال ابن السكيت‏:‏ أضللت بعيري أي ذهب مني، وضللت بعيري أي لم أعرف موضعه‏.‏

قوله ‏(‏بفلاة‏)‏ أي مفازة‏.‏

إلى هنا انتهت رواية قتادة‏:‏ وزاد إسحاق بن أبي طلحة عن أنس فيه عند مسلم ‏"‏ فانفلت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، فبينا هو كذلك إذا بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح‏:‏ اللهم أنت عبدي وأنا ربك‏.‏

أخطأ من شدة الفرح ‏"‏ قال عياض‏:‏ فيه أن ما قاله الإنسان من مثل هذا في حال دهشته وذهوله لا يؤاخذ به، وكذا حكايته عنه على طريق علمي وفائدة شرعية لا على الهزل والمحاكاة والعبث، ويدل على ذلك حكاية النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولو كان منكرا ما حكاه والله أعلم‏.‏

قال ابن أبي حمزة‏:‏ وفي حديث ابن مسعود من الفوائد جواز سفر المرء وحده لأنه لا يضرب الشارع المثل إلا بما يجوز، ويحمل حديث النهي على الكراهة جمعا، ويظهر من هذا الحديث حكمة النهي‏.‏

قلت‏:‏ والحصر الأول مردود، وهذه القصة تؤكد النهي‏.‏

قال‏:‏ وفيه تسمية المفازة التي ليس فيها ما يؤكل ولا يشرب مهلكة‏.‏

وفيه أن من ركن إلى ما سوى الله يقطع به أحوج ما يكون إليه، لأن الرجل ما نام في الفلاة وحده إلا ركونا إلى ما معه من الزاد، فلما اعتمد على ذلك خانه، لولا أن الله لطف به وأعاد عليه ضالته قال بعضهم‏:‏ من سره أن لا يرى ما يسوؤه فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا قال‏:‏ وفيه أن فرح البشر وغمهم إنما هو على ما جرى به أثر الحكمة من العوائد، يؤخذ من ذلك أن حزن المذكور إنما كان على ذهاب راحلته لخوف الموت من أجل فقد زاده، وفرحه بها إنما كان من أجل وجدانه ما فقد مما تنسب الحياة إليه في العادة، وفيه بركة الاستسلام لأمر الله، لأن المذكور لما أيس من وجدان راحلته استسلم للموت فمن الله عليه برد ضالته‏.‏

وفيه ضرب المثل بما يصل إلى الأفهام من الأمور المحسوسة، والإرشاد إلى الحض على محاسبة النفس، واعتبار العلامات الدالة على بقاء نعمة الإيمان‏.‏

*3*باب الضَّجْعِ عَلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الضجع على الشق الأيمن‏)‏ الضجع بفتح أوله وسكون الجيم مصدر؛ يقال ضجع الرجل يضجع ضجعا وضجوعا فهو ضاجع والمعنى وضع جنبه بالأرض‏.‏

وفي رواية باب الضجعة وهو بكسر أوله لأن المراد الهيئة ويجوز الفتح أي المرة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَجِيءَ الْمُؤَذِّنُ فَيُؤْذِنَهُ

الشرح‏:‏

حديث عائشة في اضطجاعه صلى الله عليه وسلم بعد ركعتي الفجر، وقد مضى شرحه في كتاب الصلاة، وترجم له ‏"‏ باب الضجع على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر ‏"‏ قال ابن التين‏:‏ أصل اضطجع اضتجع بمثناة فأبدلوها طاء، ومنهم من أبقاها ولم يدغموا الضاد فيها، وحكى المازني الضجع بلام ساكنة قبل الضاد كراهة للجمع بين الضاد والطاء في النطق لثقله فجعل بدلها اللام‏.‏

وذكر المصنف هذا الباب والذي بعده توطئة لما يذكر بعدهما من القول عند النوم‏.‏

*3*باب إِذَا بَاتَ طَاهِرًا وَفَضْلِهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا بات طاهرا‏)‏ زاد أبو ذر في روايته ‏"‏ وفضله ‏"‏ وقد ورد في هذا المعنى عدة أحاديث ليست على شرطه، منها حديث معاذ رفعه ‏"‏ ما من مسلم يبيت على ذكر وطهارة فيتعار من الليل فيسأل الله خيرا من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه ‏"‏ أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وأخرجه الترمذي من حديث أبي أمامة نحوه وأخرج ابن حبان في صحيحه عن ابن عمر رفعه ‏"‏ من بات طاهرا بات في شعاره ملك فلا يستيقظ إلا قال الملك‏:‏ اللهم اغفر لعبدك فلان ‏"‏ وأخرج الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ من حديث ابن عباس نحوه بسند جيد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ مَنْصُورًا عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ وَقُلْ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ فَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ فَقُلْتُ أَسْتَذْكِرُهُنَّ وَبِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ قَالَ لَا وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏معتمر‏)‏ هو ابن سليمان التيمي، ومنصور هو ابن المعتمر‏.‏

قوله ‏(‏عن سعد بن عبيدة‏)‏ كذا قال الأكثر، وخالفهم إبراهيم بن طهمان فقال ‏"‏ عن منصور عن الحكم عن سعد بن عبيدة ‏"‏ زاد في الإسناد الحكم أخرجه النسائي، وقد سأل ابن أبي حاتم عنه أباه فقال‏:‏ هذا خطأ ليس فيه الحكم‏.‏

قلت‏:‏ فهو من المزيد في متصل الأسانيد‏.‏

قوله ‏(‏قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ كذا لأبي ذر وأبي زيد المروزي، وسقط لفظ ‏"‏ لي ‏"‏ من رواية الباقين‏.‏

وفي رواية أبي إسحاق في الباب الذي يليه ‏"‏ أمر رجلا ‏"‏ وفي أخرى له ‏"‏ أوصى رجلا ‏"‏ وفي رواية أبي الأحوص عن أبي إسحاق الآتية كتاب التوحيد عن البراء ‏"‏ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا فلان إذا أويت إلى فراشك ‏"‏ الحديث‏.‏

وأخرجه الترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن أبي إسحاق عن البراء ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ألا أعلمك كلمات تقول إذ أويت إلى فراشك‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏إذا أتيت مضجعك‏)‏ أي إذا أردت أن تضطجع، ووقع صريحا كذلك في رواية أبي إسحاق المذكورة، ووقع في رواية فطر بن خليفة عن سعد بن عبيدة عند أبي داود والنسائي ‏"‏ إذا أويت إلى فراشك وأنت طاهر فتوسد يمينك ‏"‏ الحديث نحو حديث الباب وسنده جيد، ولكن ثبت ذلك في أثناء حديث آخر سأشير إليه في شرح حديث حذيفة الأتي في الباب بعده، وللنسائي من طريق الربيع بن البراء بن عازب قال قال البراء فذكر الحديث بلفظ ‏"‏ من تكلم بهؤلاء الكلمات حين يأخذ جنبه من مضجعه بعد صلاة العشاء ‏"‏ فذكر نحو حديث الباب‏.‏

قوله ‏(‏فتوضأ وضوءك للصلاة‏)‏ الأمر فيه للندب‏.‏

وله فوائد‏:‏ منها أن يبيت على طهارة لئلا يبغته الموت فيكون على هيئة كاملة، ويؤخذ منه الندب إلى الاستعداد للموت بطهارة القلب لأنه أولى من طهارة البدن‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق من طريق مجاهد قال ‏"‏ قال لي ابن عباس‏:‏ لا تبيتن إلا على وضوء، فإن الأرواح نبعث على ما قبضت عليه ‏"‏ ورجاله ثقات إلا أبا يحيى القتات هو صدوق فيه كلام‏.‏

ومن طريق أبي مراية العجلي قال من أوى إلى فراشه طاهرا ونام ذاكرا كان فراشه مسجدا وكان في صلاة وذكر حتى يستيقظ ‏"‏ ومن طريق طاوس نحوه‏.‏

ويتأكد ذلك في حق المحدث ولا سيما الجنب وهو أنشط للعود، وقد يكون منشطا للغسل فيبيت على طهارة كاملة‏.‏

ومنها أن يكون أصدق لرؤياه وأبعد من تلعب الشيطان به‏.‏

قال الترمذي‏:‏ ليس في الأحاديث ذكر الوضوء عند النوم إلا في هذا الحديث‏.‏

قوله ‏(‏ثم اضطجع على شقك‏)‏ بكسر المعجمة وتشديد القاف أي الجانب، وخص الأيمن لفوائد‏:‏ منها أنه أسرع إلى الانتباه، ومنها أن القلب متعلق إلى جهة اليمين فلا يثقل بالنوم، ومنها قال ابن الجوزي‏:‏ هذه الهيئة نص الأطباء على أنها أصلح للبدن، قالوا يبدأ بالاضطجاع على الجانب الأيمن ساعة ثم ينقلب إلى الأيسر لأن الأول سبب لانحدار الطعام، والنوم على اليسار يهضم لاشتمال الكبد على المعدة‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ هكذا وقع في رواية سعد بن عبيدة وأبي إسحاق عن البراء، ووقع في رواية العلاء بن المسيب عن أبيه عن البراء من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه كما سيأتي قريبا ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن ‏"‏ ثم قال‏:‏ الحديث فيستفاد مشروعية هذا الذكر من قوله صلى الله عليه وسلم ومن فعله، ووقع عند النسائي من رواية حصين بن عبد الرحمن عن سعد بن عبيدة عن البراء وزاد في أوله ‏"‏ ثم قال‏:‏ بسم الله اللهم أسلمت نفسي إليك ‏"‏ ووقع عند الخرائطي في ‏"‏ مكارم الأخلاق ‏"‏ من وجه آخر عن البراء بلفظ ‏"‏ كان إذا أوى إلى فراشه قال‏:‏ اللهم أنت ربي ومليكي وإلهي لا إله إلا أنت، إليك وجهت وجهي ‏"‏ الحديث‏.‏

قوله ‏(‏وقل‏:‏ اللهم أسلمت وجهي إليك‏)‏ كذا لأبي ذر وأبي زيد ولغيرهما ‏"‏ أسلمت نفسي ‏"‏ قيل الوجه والنفس هنا بمعنى الذات والشخص، أي أسلمت ذاتي وشخصي لك، وفيه نظر للجمع بينهما في رواية أبي إسحاق عن البراء الآتية بعد باب ولفظه أسلمت نفسي إليك وفوضت أمري إليك ووجهت وجهي إليك ‏"‏ وجمع بينهما أيضا في رواية العلاء بن المسيب وزاد خصلة رابعة ولفظه ‏"‏ أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري وألجأت ظهري إليك ‏"‏ فعلى هذا فالمراد بالنفس هنا الذات وبالوجه القصد، وأبدى القرطبي هذا احتمالا بعد جزمه بالأول‏.‏

قوله ‏(‏أسلمت‏)‏ أي استسلمت وانقدت، والمعنى جعلت نفسي منقادة لك تابعة لحكمك إذ لا قدرة لي على تدبيرها ولا على جلب ما ينفعها إليها ولا دفع ما يضرها عنها، وقوله ‏"‏وفوضت أمري إليك ‏"‏ أي توكلت عليك في أمري كله؛ وقوله ‏"‏ وألجأت ‏"‏ أي اعتمدت في أموري عليك لتعينني على ما ينفعني، لأن من استند إلى شيء تقوى به واستعان به، وخصه بالظهر لأن العادة جرت أن الإنسان يعتمد بظهره إلى ما يستند إليه، وقوله ‏"‏رغبة ورهبة إليك ‏"‏ أي رغبة في رفدك وثوابك ‏"‏ ورهبة ‏"‏ أي خوفا من غضبك ومن عقابك‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ أسقط ‏"‏ من ‏"‏ مع ذكر الرهبة وأعمل ‏"‏ إلى ‏"‏ مع ذكر الرغبة وهو على طريق الاكتفاء كقول الشاعر ‏"‏ وزججن الحواجب والعيونا ‏"‏ والعيون لا تزجج، لكن لما جمعهما في نظم حمل أحدهما على الآخر في اللفظ، وكذا قال الطيبي، ومثل بقوله ‏"‏ متقلدا سيفا ورمحا‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ ولكن ورد في بعض طرقه بإثبات ‏"‏ من ‏"‏ ولفظه ‏"‏ رهبة منك ورغبة إليك ‏"‏ أخرجه النسائي وأحمد من طريق حصين بن عبد الرحمن عن سعد بن عبيدة‏.‏

قوله ‏(‏لا ملجأ ولا منجأ منك إلا إليك‏)‏ أصل ملجأ بالهمز ومنجا بغير همز ولكن لما جمعا جاز أن يهمزا للازدواج، وأن يترك الهمز فيهما، وأن يهمز المهموز ويترك الآخر، فهذه ثلاثة أوجه، ويجوز التنوين مع القصر فتصير خمسة‏.‏

قال الكرماني‏:‏ هذان اللفظان إن كانا مصدرين يتنازعان في ‏"‏ منك ‏"‏ وإن كانا ظرفين فلا، إذ اسم المكان لا يعمل، وتقديره لا ملجأ منك إلى أحد إلا إليك ولا منجا منك إلا إليك‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ في نظم هذا الذكر عجائب لا يعرفها إلا المتقن من أهل البيان، فأشار بقوله ‏"‏ أسلمت نفسي ‏"‏ إلى أن جوارحه منقادة لله تعالى في أوامره ونواهيه، وبقوله ‏"‏ وجهت وجهي ‏"‏ إلى أن ذاته مخلصة له بريئة من النفاق، وبقوله ‏"‏ فوضت أمري ‏"‏ إلى أن أموره الخارجة والداخلة مفوضة إليه لا مدبر لها غيره، وبقوله ‏"‏ ألجأت ظهري ‏"‏ إلى أنه بعد التفويض يلتجئ إليه مما يضره ويؤذيه من الأسباب كلها‏.‏

قال‏:‏ وقوله رغبة ورهبة منصوبان على المفعول له على طريق اللف والنشر، أي فوضت أموري إليك رغبة وألجأت ظهري إليك رهبة‏.‏

قوله ‏(‏آمنت بكتابك الذي أنزلت‏)‏ يحتمل أن يريد به القرآن، ويحتمل أن يريد اسم الجنس فيشمل كل كتاب أنزل‏.‏

قوله ‏(‏ونبيك الذي أرسلت‏)‏ وقع في رواية أبي زيد المروزي ‏"‏ أرسلته وأنزلته ‏"‏ في الأول بزيادة الضمير فيهما‏.‏

قوله ‏(‏فإن مت مت على الفطرة‏)‏ في رواية أبي الأحوص عن أبي إسحاق الآتية في التوحيد ‏"‏ من ليلتك ‏"‏ وفي رواية المسيب بن رافع ‏"‏ من قالهن ثم مات تحت ليلته ‏"‏ قال الطيبي‏:‏ فيه إشارة إلى وقوع ذلك قبل أن ينسلخ النهار من الليل وهو تحته، أو المعنى بالتحت أي مت تحت نازل ينزل عليك في ليلتك، وكذا معنى ‏"‏ من ‏"‏ في الرواية الأخرى أي من أجل ما يحدث ليلتك، وقوله ‏"‏على الفطرة ‏"‏ أي على الدين القويم ملة إبراهيم، فإنه عليه السلام أسلم واستسلم، قال الله تعالى عنه ‏(‏جاء ربه بقلب سليم‏)‏ وقال عنه ‏(‏أسلمت لرب العالمين‏)‏ وقال ‏(‏فلما أسلما‏)‏ وقال ابن بطال وجماعة‏:‏ المراد بالفطرة هنا دين الإسلام، وهو بمعنى الحديث الآخر ‏"‏ من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ‏"‏ قال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏‏:‏ كذا قال الشيوخ وفيه نظر، لأنه إذا كان قائل هذه الكلمات المقتضية للمعاني التي ذكرت من التوحيد والتسليم والرضا إلى أن يموت كمن يقول لا إله إلا الله ممن لم يخطر له شيء من هذه الأمور فأين فائدة هذه الكلمات العظيمة وتلك المقامات الشريفة‏؟‏ ويمكن أن يكون الجواب أن كلا منهما وإن مات على الفطرة فبين الفطرتين ما بين الحالتين، ففطرة الأول فطرة المقربين وفطرة الثاني فطرة أصحاب اليمين‏.‏

قلت‏:‏ وقع في رواية حصين بن عبد الرحمن عن سعد بن عبيدة في آخره عند أحمد بدل قوله‏:‏ مات على الفطرة ‏"‏ بنى له بيت في الجنة ‏"‏ وهو يؤيد ما ذكره القرطبي، ووقع في آخر الحديث في التوحيد من طريق أبي إسحاق عن البراء ‏"‏ وإن أصبحت أصبت خيرا ‏"‏ وكذا لمسلم والترمذي من طريق ابن عيينة عن أبي إسحاق ‏"‏ فإن أصبحت أصبحت وقد أصبت خيرا ‏"‏ وهو عند مسلم من طريق حصين عن سعد بن عبيدة ولفظه ‏"‏ وإن أصبح أصاب خيرا ‏"‏ أي صلاحا في المال وزيادة في الأعمال‏.‏

قوله ‏(‏فقلت‏)‏ كذا لأبي ذر وأبي زيد المروزي، ولغيرهما ‏"‏ فجعلت أستذكرهن ‏"‏ أي أتحفظهن‏.‏

ووقع في رواية الثوري عن منصور الماضية في آخر كتاب الوضوء ‏"‏ فرددتها ‏"‏ أي رددت تلك الكلمات لأحفظهن‏.‏

ولمسلم من رواية جرير عن منصور ‏"‏ فرددتهن لأستذكرهن‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وبرسولك الذي أرسلت، قال‏:‏ لا‏.‏

وبنبيك الذي أرسلت‏)‏ في رواية جرير عن منصور ‏"‏ فقال قل وبنبيك ‏"‏ قال القرطبي تبعا لغيره‏:‏ هذا حجة لمن لم يجز نقل الحديث بالمعنى، وهو الصحيح من مذهب مالك، فإن لفظ النبوة والرسالة مختلفان في أصل الوضع، فإن النبوة من النبأ وهو الخبر فالنبي في العرف هو المنبأ من جهة الله بأمر يقتضي تكليفا، وأن أمر بتبليغه إلى غيره فهو رسول، وإلا فهو نبي غير رسول، وعلى هذا فكل نبي رسول بلا عكس، فإن النبي والرسول اشتركا في أمر عام وهو النبأ وافترقا في الرسالة، فإذا قلت‏:‏ فلان رسول تضمن أنه نبي رسول، وإذا قلت‏:‏ فلان نبي لم يستلزم أنه رسول، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يجمع بينهما في اللفظ لاجتماعهما فيه حتى يفهم من كل واحد منهما من حيث النطق ما وضع له وليخرج عما يكون شبه التكرار في اللفظ من غير فائدة، فإنه إذا قال ‏"‏ ورسولك ‏"‏ فقد فهم منه أنه أرسله، فإذا قال ‏"‏ الذي أرسلت ‏"‏ صار كالحشو الذي لا فائدة فيه، بخلاف قوله ‏"‏ ونبيك الذي أرسلت ‏"‏ فلا تكرار فيه لا متحققا ولا متوهما، انتهى كلامه‏.‏

وقوله صار كالحشو متعقب لثبوته في أفصح الكلام كقوله تعالى ‏(‏وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه - إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم - هو الذي أرسل رسوله بالهدى‏)‏ ومن غير هذا اللفظ ‏(‏يوم ينادي المنادي‏)‏ إلى غير ذلك، فالأولى حذف هذا الكلام الأخير والاقتصار على قوله ‏"‏ ونبيك الذي أرسلت ‏"‏ في هذا المقام أفيد من قوله ورسولك الذي أرسلت لما ذكر، والذي ذكره في الفرق بين الرسول والنبي مقيد بالرسول البشري، وإلا فإطلاق الرسول كما في اللفظ هنا يتناول الملك كجبريل مثلا فيظهر لذلك فائدة أخرى وهي تعين البشري دون الملك فيخلص الكلام من اللبس‏.‏

وأما الاستدلال به على منع الرواية بالمعنى ففيه نظر، لأن شرط الرواية بالمعنى أن يتفق اللفظان في المعنى المذكور، وقد تقرر أن النبي والرسول متغايران لفظا ومعنى فلا يتم الاحتجاج بذلك‏.‏

قيل وفي الاستدلال بهذا الحديث لمنع الرواية بالمعنى مطلقا نظر، وخصوصا إبدال الرسول بالنبي وعكسه إذا وقع في الرواية، لأن الذات المحدث عنها واحدة، فالمراد يفهم بأي صفة وصف بها الموصوف إذا ثبتت الصفة له، وهذا بناء على أن السبب في منع الرواية بالمعنى أن الذي يتسجيز ذلك قد يظن يوفى بمعنى اللفظ الآخر ولا يكون كذلك في نفس الأمر كما عهد في كثير من الأحاديث، فالاحتياط الإتيان باللفظ، فعلى هذا إذا تحقق بالقطع أن المعنى فيهما متحد لم يضر، بخلاف ما إذا اقتصر على الظن ولو كان غالبا‏.‏

وأولى ما قيل في الحكمة في رده صلى الله عليه وسلم على من قال الرسول بدل النبي أن ألفاظ الأذكار توقيفية، ولها خصائص وأسرار لا يدخلها القياس، فتجب المحافظة على اللفظ الذي وردت به، وهذا اختيار المازري قال‏:‏ فيقتصر فيه على اللفظ الوارد بحروفه‏.‏

وقد يتعلق الجزاء بتلك الحروف، ولعله أوحى إليه بهذه الكلمات فيتعين أداؤها بحروفها‏.‏

وقال النووي‏:‏ في الحديث ثلاث سنن إحداها الوضوء عند النوم، وإن كان متوضئا كفاه لأن المقصود النوم على طهارة‏.‏

ثانيها النوم على اليمين‏.‏

ثالثها الختم بذكر الله‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ هذا الحديث يشتمل على الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إجمالا من الكتب والرسل من الإلهيات والنبويات، وعلى إسناد الكل إلى الله من الذوات والصفات والأفعال، لذكر الوجه والنفس والأمر وإسناد الظهر مع ما فيه من التوكل على الله والرضا بقضائه، وهذا كله بحسب المعاش، وعلى الاعتراف بالثواب والعقاب خيرا وشرا وهذا بحسب المعاد‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع عند النسائي في رواية عمرو بن مرة عن سعد بن عبيدة في أصل الحديث ‏"‏ آمنت بكتابك الذي أنزلت وبرسولك الذي أرسلت ‏"‏ وكأنه لم يسمع من سعد بن عبيدة الزيادة التي في آخره فروي بالمعنى، وقد وقع في رواية أبي إسحاق عن البراء نظير ما في رواية منصور عن سعد بن عبيدة أخرجه الترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن أبي إسحاق، وفي آخره ‏"‏ قال البراء‏:‏ فقلت وبرسولك الذي أرسلت، فطعن بيده في صدري ثم قال‏:‏ ونبيك الذي أرسلت‏.‏

وكذا أخرج النسائي من طريق فطر بن خليفة عن أبي إسحاق ولفظه ‏"‏ فوضع يده في صدري ‏"‏ نعم أخرج الترمذي من حديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ إذا اضطجع أحدكم على يمينه ثم قال ‏"‏ فذكر نحو الحديث، وفي آخره ‏"‏ أؤمن بكتابك الذي أنزلت وبرسلك الذي أرسلت ‏"‏ هكذا فيه بصيغة الجمع‏.‏

وقال‏:‏ حسن غريب‏.‏

فإن كان محفوظا فالسر فيه حصول التعميم الذي دلت عليه صيغة الجمع صريحا فدخل فيه جميع الرسل من الملائكة والبشر فأمن اللبس، ومنه قوله تعالى ‏(‏كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله‏)‏ والله أعلم‏.‏