فصل: كِتَاب الطَّلَاقِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*2*كِتَاب الطَّلَاقِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الطلاق‏)‏ الطلاق في اللغة حل الوثاق مشتق من الإطلاق وهو الإرسال والترك‏.‏

وفلان طلق اليد بالخير أي كثير البذل وفي الشرع حل عقدة التزويج فقط، وهو موافق لبعض أقراد مدلوله اللغوي‏.‏

قال إمام الحرمين‏:‏ هو لفظ جاهلي ورد الشرع بتقريره‏.‏

وطلقت المرأة بفتح الطاء وضم اللام وبفتحها أيضا وهو أفصح، وطلقت أيضا بضم أوله وكسر اللام الثقيلة، فإن خففت فهو خاص بالولادة والمضارع فيهما بضم اللام، والمصدر في الولادة طلقا ساكنة اللام، فهي طالق فيهما‏.‏

ثم الطلاق قد يكون حراما أو مكروها أو واجبا أو مندوبا أو جائزا، أما الأول ففيما إذا كان بدعيا وله صور، وأما الثاني ففيما إذا وقع بغير سبب مع استقامة الحال، وأما الثالث ففي صور منها الشقاق إذا رأى ذلك الحكمان، وأما الرابع ففيما إذا كانت غير عفيفة، وأما الخامس فنفاه النووي وصوره غيره بما إذا كان لا يريدها ولا تطيب نفسه أن يتحمل مؤنتها من غير حصول غرض الاستمتاع، فقد صرح الإمام أن الطلاق في هذه الصورة لا يكره‏.‏

*3*باب قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ

وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أَحْصَيْنَاهُ حَفِظْنَاهُ وَعَدَدْنَاهُ وَطَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَيُشْهِدَ شَاهِدَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏وقول الله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة‏)‏ أما قوله تعالى ‏(‏إذا طلقتم النساء‏)‏ فخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الجمع تعظيما أو على إرادة ضم أمته إليه، والتقدير يا أيها النبي وأمته‏.‏

وقيل هو على إضمار قل أي قل لأمتك، والثاني أليق، فخص النبي عليه الصلاة والسلام بالنداء لأنه إمام أمته اعتبارا بتقدمه وعم بالخطاب كما يقال لأمير القوم يا فلان افعلوا كذا، وقوله ‏(‏إذا طلقتم‏)‏ أي إذا أردتم التطليق جزما، ولا يمكن حمله على ظاهره‏.‏

وقوله ‏(‏لعدتهن‏)‏ أي عند ابتداء شروعهن في العدة، واللام للتوقيت كما يقال لقيته لليلة بقيت من الشهر، قال مجاهد في قوله تعالى ‏(‏يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن‏)‏ قال ابن عباس‏:‏ في قبل عدتهن، أخرجه الطبري بسند صحيح‏.‏

ومن وجه آخر أنه قرأها كذلك، وكذا وقع عند مسلم من رواية أبي الزبير عن ابن عمر في آخر حديثه قال ابن عمر ‏"‏ وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن ‏"‏ ونقلت هذه القراءة أيضا عن أبي وعثمان وجابر وعلي بن الحسين وغيرهم، وسيأتي في حديث ابن عمر في الباب مزيد بيان في ذلك‏.‏

قوله ‏(‏أحصيناه حفظناه‏)‏ هو تفسير أبي عبيدة‏.‏

وأخرج الطبري معناه عن السدي، والمراد الأمر بحفظ ابتداء وقت العدة لئلا يلتبس الأمر بطول العدة فتتأذى بذلك المرأة‏.‏

قوله ‏(‏وطلاق السنة أن يطلقها طاهرا من غير جماع‏)‏ روى الطبري بسند صحيح عن ابن مسعود في قوله تعالى ‏(‏فطلقوهن لعدتهن‏)‏ قال‏:‏ في الطهر من غير جماع، وأخرجه عن جمع من الصحابة ومن بعدهم كذلك، وهو عند الترمذي أيضا‏.‏

قوله ‏(‏ويشهد شاهدين‏)‏ مأخوذ من قوله تعالى ‏(‏وأشهدوا ذوي عدل منكم‏)‏ وهو واضح، وكأنه لمح بما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال ‏"‏ كان نفر من المهاجرين يطلقون لغير عدة ويراجعون بغير شهود فنزلت ‏"‏ وقد قسم الفقهاء الطلاق إلى سني، وبدعي، وإلى قسم ثالث لا وصف له‏.‏

فالأول ما تقدم‏.‏

والثاني أن يطلق في الحيض أو في طهر جامعها فيه ولم يتبين أمرها أحملت أم لا، ومنهم من أضاف له أن يزيد على طلقة ومنهم من أضاف له الخلع‏.‏

والثالث تطليق الصغيرة والآيسة والحامل التي قربت ولادتها، وكذا إذا وقع السؤال منها في وجه بشرط أن تكون عالمة بالأمر، وكذا إذا وقع الخلع بسؤالها وقلنا إنه طلاق، ويستثنى من تحريم طلاق الحائض صور‏:‏ مها ما لو كانت حاملا ورأت الدم وقلنا الحامل تحيض فلا يكون طلاقها بدعيا ولا سيما إن وقع بقرب الولادة، ومنها إذا طلق الحاكم على المولى واتفق وقوع ذلك في الحيض، وكذا في صورة الحكمين إذا تعين ذلك طريقا لرفع الشقاق، وكذلك الخلع والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏أنه طلق امرأته‏)‏ في مسلم من رواية الليث عن نافع ‏"‏ أن ابن عمر طلق امرأة له ‏"‏ وعنده من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ‏"‏ طلقت امرأتي ‏"‏ وكذا في رواية شعبة عن أنس بن سيرين عن ابن عمر، قال النووي في تهذيبه‏:‏ اسمها آمنة بنت غفار قاله ابن باطيش، ونقله عن النووي جماعة ممن بعده منهم الذهبي في ‏"‏ تجريد الصحابة ‏"‏ لكن قال في مبهماته‏:‏ فكأنه أراد مبهمات التهذيب‏.‏

وأوردها الذهبي في آمنة بالمد وكسر الميم ثم نون وأبوها غفار ضبطه ابن يقظة بكسر المعجمة وتخفيف الفاء، ولكني رأيت مستند ابن باطيش في أحاديث قتيبة جمع سعيد العيار بسند فيه ابن لهيعة أن ابن عمر طلق امرأته آمنة بنت عمار؛ كذا رأيتها في بعض الأصول بمهملة مفتوحة ثم ميم ثقيلة والأول أولى، وأقوى من ذلك ما رأيته في مسند أحمد قال ‏"‏ حدثنا يونس حدثنا الليث عن نافع أن عبد الله طلق امرأته وهي حائض، فقال عمر‏:‏ يا رسول الله إن عبد الله طلق امرأته النوار، فأمره أن يراجعها ‏"‏ الحديث، وهذا الإسناد على شرط الشيخين، ويونس شيخ أحمد هو ابن محمد المؤدب من رجالهما، وقد أخرجه الشيخان عن قتيبة عن الليث ولكن لم تسم عندهما، ويمكن الجمع بأن يكون اسمها آمنة ولقبها النوار‏.‏

قوله ‏(‏وهي حائض‏)‏ في رواية قاسم بن أصبغ من طريق عبد الحميد بن جعفر عن نافع عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي في دمها حائض، وعند البيهقي من طريق ميمون بن مهران عن ابن عمر أنه طلق امرأته في حيضها‏.‏

قوله ‏(‏على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ كذا في رواية مالك ومثله عند مسلم من رواية أبي الزبير عن ابن عمر، وأكثر الرواة لم يذكروا ذلك استغناء بما في الخبر أن عمر سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستلزم أن ذلك وقع في عهده، وزاد الليث عن نافع ‏"‏ تطليقة واحدة ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏

وقال في آخره ‏"‏ جود الليث في قوله تطليقة واحدة ‏"‏ ا هـ، وكذا وقع عند مسلم من طريق محمد بن سيرين قال ‏"‏ مكثت عشرين سنة يحدثني من لا أتهم أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثا وهي حائض فأمر أن يراجعها، فكنت لا أتهمهم ولا أعرف وجه الحديث، حتى لقيت أبا غلاب يونس بن جبير وكان ذا ثبت، فحدثني أنه سأل ابن عمر فحدثه أنه ‏"‏ طلق امرأته تطليقة وهي حائض ‏"‏ وأخرجه الدار قطني والبيهقي من طريق الشعبي قال ‏"‏ طلق ابن عمر امرأته وهي حائض واحدة ‏"‏ ومن طريق عطاء الخراساني عن الحسن عن ابن عمر أنه ‏"‏ طلق امرأته تطليقة وهي حائض‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك‏)‏ في رواية ابن أبي ذئب عن نافع ‏"‏ فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك ‏"‏ أخرجه الدار قطني، وكذا سيأتي للمصنف من رواية قتادة عن يونس بن حبير عن ابن عمر، وكذا عند مسلم من رواية يونس بن عبيد عن محمد بن سيرين عن يونس بن جبير، وكذا عنده في رواية طاوس عن ابن عمر، وكذا في رواية الشعبي المذكورة، وزاد فيه الزهري في روايته كما تقدم في التفسير ‏"‏ عن سالم أن ابن عمر أخبره، فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ولم أر هذه الزيادة في رواية غير سالم، وهو أجل من روى الحديث عن ابن عمر، وفيه إشعار بأن الطلاق في الحيض كان تقدم النهي عنه‏.‏

وإلا لم يقع التغيظ على أمر لم يسبق النهي عنه‏.‏

ولا يعكر على ذلك مبادرة عمر بالسؤال عن ذلك لاحتمال أن يكون عرف حكم الطلاق في الحيض وأنه منهي عنه ولم يعرف ماذا يصنع من وقع له ذلك، قال ابن العربي‏:‏ سؤال عمر محتمل لأن يكون أنهم لم يروا قبلها مثلها فسأل ليعلم، ويحتمل أن يكون لما رأى في القرآن قوله ‏(‏فطلقوهن لعدتهن‏)‏ وقوله ‏(‏يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏)‏ أراد أن يعلم إن هذا قرء أم لا‏؟‏ ويحتمل أن يكون سمع من النبي صلى الله عليه وسلم النهي فجاء ليسأل عن الحكم بعد ذلك‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ وتغيظ النبي صلى الله عليه وسلم إما لأن المعنى الذي يقتضي المنع كان ظاهرا فكان مقتضى الحال التثبت في ذلك، أو لأنه كان مقتضى الحال مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا عزم عليه‏.‏

قوله ‏(‏مره فليراجعها‏)‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ يتعلق به مسألة أصولية، وهي أن الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك أم لا‏؟‏ فإنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر مره، فأمره بأن يأمره‏.‏

قلت‏:‏ هذه المسألة ذكرها ابن الحاجب فقال‏:‏ الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا بذلك الشيء، لنا لو كان لكان مر عبدك بكذا تعديا، ولكان يناقض قولك للعبد لا تفعل‏.‏

قالوا‏:‏ فهم ذلك من أمر الله ورسوله ومن قول الملك لوزيره قل لفلان افعل‏.‏

قلنا للعلم بأنه مبلغ‏.‏

قلت‏:‏ والحاصل أن النفي إنما هو حيث تجرد الأمر، وأما إذا وجدت قرينة تدل على أن الآمر الأول أمر المأمور الأول أن يبلغ المأمور الثاني فلا، وينبغي أن ينزل كلام الفريقين على هذا التفصيل فيرتفع الخلاف‏.‏

ومنهم من فرق بين الأمرين فقال‏:‏ إن كان الأمر الأول بحيث يسوغ له الحكم على المأمور الثاني فهو آمر له وإلا فلا، وهذا قوي، وهو مستفاد من الدليل الذي استدل به ابن الحاجب على النفي، لأنه لا يكون متعديا إلا إذا أمر من لا حكم له عليه لئلا يصير متصرفا في ملك غيره بغير إذنه، والشارع حاكم على الآمر والمأمور فوجد فيه سلطان التكليف على الفريقين، ومنه قوله تعالى ‏(‏وأمر أهلك بالصلاة‏)‏ فإن كل أحد يفهم منه أمر الله لأهل بيته بالصلاة، ومثله حديث الباب، فإن عمر إنما استفتى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ليمتثل ما يأمره به ويلزم ابنه به، فمن مثل بهذا الحديث لهذه المسألة فهو غالط، فإن القرينة واضحة في أن عمر في هذه الكائنة كان مأمورا بالتبليغ، ولهذا وقع في رواية أيوب عن نافع ‏"‏ فأمره أن يراجعها ‏"‏ وفي رواية أنس بن سيرين ويونس بن جبير وطاوس عن ابن عمر وفي رواية الزهري عن سالم ‏"‏ فليراجعها ‏"‏ وفي رواية لمسلم ‏"‏ فراجعها عبد الله كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وفي رواية أبي الزبير عن ابن عمر ‏"‏ ليراجعها ‏"‏ وفي رواية الليث عن نافع عن ابن عمر ‏"‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا ‏"‏ وقد اقتضى كلام سليم الرازي في ‏"‏ التقريب ‏"‏ أنه يجب على الثاني الفعل جزما وإنما الخلاف في تسميته آمرا فرجع الخلاف عنده لفظيا‏.‏

وقال الفخر الرازي في ‏"‏ المحصول ‏"‏‏:‏ الحق أن الله تعالى إذا قال لزيد أوجبت على عمرو كذا وقال لعمرو كل ما أوجب عليك زيد فهو واجب عليك كان الأمر بالأمر بالشيء أمرا بالشيء‏.‏

قلت‏:‏ وهذا يمكن أن يؤخذ منه التفرقة بين الأمر الصادر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن غيره، فمهما أمر الرسول أحدا أن يأمر به غيره وجب لأن الله أوجب طاعته وهو أوجب طاعة أميره كما ثبت في الصحيح ‏"‏ من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ‏"‏ وأما غيره ممن بعده فلا، وفيهم تظهر صورة التعدي التي أشار إليها ابن الحاجب‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ لا ينبغي أن يتردد في اقتضاء ذلك الطلب، وإنما ينبغي أن ينظر في أن لوازم صيغة الأمر هل هي لوازم صيغة الأمر بالأمر أو لا‏؟‏ بمعنى أنهما يستويان في الدلالة على الطلب من وجه واحد أو لا‏.‏

قلت‏:‏ وهو حسن، فإن أصل المسألة التي انبنى عليها هذا الخلاف حديث ‏"‏ مروا أولادكم بالصلاة لسبع ‏"‏ فإن الأولاد ليسوا بمكلفين فلا يتجه عليهم الوجوب، وإنما الطلب متوجه على أوليائهم أن يعلموهم ذلك، فهو مطلوب من الأولاد بهذه الطريق وليس مساويا للأمر الأول، وهذا إنما عرض من أمر خارج وهو امتناع توجه الأمر على غير المكلف، وهو بخلاف القصة التي في حديث الباب‏.‏

والحاصل أن الخطاب إذا توجه لمكلف أن يأمر مكلفا آخر بفعل شيء كان المكلف الأول مبلغا محضا والثاني مأمور من قبل الشارع، وهذا كقوله لمالك بن الحويرث وأصحابه ‏"‏ ومروهم بصلاة كذا في حين كذا ‏"‏ وقوله لرسول ابنته صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مرها فلتصبر ولتحتسب ‏"‏ ونظائره كثيرة، فإذا أمر الأول الثاني بذلك فلم يمتثله كان عاصيا، وإن توجه الخطاب من الشارع لمكلف أن يأمر غير مكلف أو توجه الخطاب من غير الشارع بأمر من له عليه الأمر أن يأمر من لا أمر للأول عليه لم يكن الأمر بالأمر بالشيء أمرا بالشيء فالصورة الأولى هي التي نشأ عنها الاختلاف وهو أمر أولياء الصبيان أن يأمروا الصبيان، والصورة الثانية هي التي يتصور فيها أن يكون الأمر متعديا بأمره للأول أن يأمر الثاني، فهذا فصل الخطاب في هذه المسألة والله المستعان‏.‏

واختلف في وجوب المراجعة، فذهب إليه مالك وأحمد في رواية، والمشهور عنه - وهو قول الجمهور - أنها مستحبة، واحتجوا بأن ابتداء النكاح لا يجب فاستدامته كذلك، لكن صحح صاحب ‏"‏ الهداية ‏"‏ من الحنفية أنها واجبة، والحجة، لمن قال بالوجوب ورود الأمر بها، ولأن الطلاق لما كان محرما في الحيض كانت استدامة النكاح فيه واجبة، فلو تمادى الذي طلق في الحيض حتى طهرت قال مالك وأكثر أصحابه‏:‏ يجبر على الرجعة أيضا‏.‏

وقال أشهب منهم إذا طهرت انتهى الأمر بالرجعة، واتفقوا على أنها إذا انقضت عدتها أن لا رجعة، وأنه لو طلق في طهر قد مسها فيه لا يؤمر بمراجعتها، كذا نقله ابن بطال وغيره، لكن الخلاف فيه ثابت قد حكاه الحناطي من الشافعية وجها، واتفقوا على أنه لو طلق قبل الدخول وهي حائض لم يؤمر بالمراجعة إلا ما نقل عن زفر فطرد الباب‏.‏

قوله ‏(‏ثم ليمسكها‏)‏ أي يستمر بها في عصمته‏.‏

قوله ‏(‏حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر‏)‏ في رواية عبيد الله بن عمر عن نافع ‏"‏ ثم ليدعها حتى تطهر، ثم تحيض حيضة أخرى فإذا طهرت فليطلقها ‏"‏ ونحوه في رواية الليث وأيوب عن نافع، وكذا عند مسلم من رواية عبد الله بن دينار، وكذا عندهما من رواية الزهري عن سالم، وعند مسلم من رواية محمد بن عبد الرحمن عن سالم بلفظ ‏"‏ مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا ‏"‏ قال الشافعي‏:‏ غير نافع إنما روى ‏"‏ حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها‏.‏

ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق ‏"‏ رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسالم قلت‏:‏ وهو كما قال، لكن رواية الزهري عن سالم موافقة لرواية نافع، وقد نبه على ذلك أبو داود، والزيادة من الثقة مقبولة ولا سيما إذا كان حافظا‏.‏

وقد اختلف في الحكمة في ذلك فقال الشافعي‏:‏ يحتمل أن يكون أراد بذلك - أي بما في رواية نافع - أن يستبرئها بعد الحيضة التي طلقها فيها بطهر تام ثم حيض تام ليكون تطليقها وهي تعلم عدتها إما بحمل أو بحيض، أو ليكون تطليقها بعد علمه بالحمل وهو غير جاهل بما صنع إذ يرغب فيمسك للحمل أو ليكون إن كانت سألت الطلاق غير حامل أن تكف عنه‏.‏

وقيل‏:‏ الحكمة فيه أن لا تصير الرجعة لغرض الطلاق، فإذا أمسكها زمانا يحل له فيه طلاقها ظهرت فائدة الرجعة، لأنه قد يطول مقامه معها، فقد يجامعها فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقها فيمسكها‏.‏

وقيل‏:‏ إن الطهر الذي يلي الحيض الذي طلقها فيه كقرء واحد، فلو طلقها قيه لكان كمن طلق في الحيض، وهو ممتنع من الطلاق في الحيض، فلزم أن يتأخر إلى الطهر الثاني‏.‏

واختلف في جواز تطليقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي وقع فيها الطلاق والرجعة‏.‏

وفيه للشافعية وجهان أصحهما المنع، وبه قطع المتولي، وهو الذي يقتضيه ظاهر الزيادة التي في الحديث‏.‏

وعبارة الغزالي في ‏"‏ الوسيط ‏"‏ وتبعه مجلي‏:‏ هل يجوز أن يطلق في هذا الطهر‏؟‏ وجهان‏.‏

وكلام المالكية يقتضي أن التأخير مستحب‏.‏

وقال ابن تيمية في ‏"‏ المحرر ‏"‏‏:‏ ولا يطلقها في الطهر المتعقب له فإنه بدعة، وعنه - أي عن أحمد - جواز ذلك‏.‏

وفي كتب الحنفية عن أبي حنيفة الجواز، وعن أبي يوسف ومحمد المنع، ووجه الجواز أن التحريم إنما كان لأجل الحيض، فإذا طهرت زال موجب التحريم فجاز طلاقها في هذا الطهر كما يجوز في الطهر الذي بعده، وكما يجوز طلاقها في الطهر إن لم يتقدم طلاق في الحيض، وقد ذكرنا حجج المانعين، ومنها أنه لو طلقها عقب تلك الحيضة كان قد راجعها ليطلقها، وهذا عكس مقصود الرجعة فإنها شرعت لإيواء المرأة ولهذا سماها إمساكا فأمره أن يمسكها في ذلك الطهر وأن لا يطلق فيه حتى تحيض حيضة أخرى ثم تطهر لتكون الرجعة للإمساك لا للطلاق، ويؤيد ذلك أن الشارع أكد هذا المعنى حيث أمر بأن يمسكها في الطهر الذي يلي الحيض الذي طلقها فيه، لقوله في رواية عبد الحميد بن جعفر ‏"‏ مره أن يراجعها فإذا طهرت أمسكها حتى إذا طهرت أخرى فإن شاء طلقها وإن شاء أمسكها ‏"‏ فإذا كان قد أمره بأن يمسكها في ذلك الطهر فكيف يبيح له أن يطلقها فيه‏؟‏ وقد ثبت النهي عن الطلاق في طهر جامعها فيه‏.‏

قوله ‏(‏ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس‏)‏ في رواية أيوب ‏"‏ ثم يطلقها قبل أن يمسها ‏"‏ وفي رواية عبيد الله بن عمر ‏"‏ فإذا طهرت فليطلقها قبل أن يجامعها أو يمسكها ‏"‏ ونحوه في رواية الليث‏.‏

وفي رواية الزهري عن سالم ‏"‏ فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها ‏"‏ وفي رواية محمد بن عبد الرحمن عن سالم ‏"‏ ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا ‏"‏ وتمسك بهذه الزيادة من استثنى من تحرم الطلاق في طهر جامع فيه ما إذا ظهر الحمل فإنه لا يحرم‏.‏

والحكمة فيه أنه إذا ظهر الحمل فقد أقدم على ذلك على بصيرة فلا يندم على الطلاق، وأيضا فإن زمن الحمل زمن الرغبة في الوطء فإقدامه على الطلاق فيه يدل على رغبته عنها، ومحل ذلك أن يكون الحمل من المطلق، فلو كان من غيره بأن نكح حاملا من زنا ووطئها ثم طلقها أو وطئت منكوحة بشبهة ثم حملت منه فطلقها زوجها فإن الطلاق يكون بدعيا، لأن عدة الطلاق تقع بعد وضع الحمل والنقاء من النفاس، فلا تشرع عقب الطلاق في العدة كما في الحامل منه، قال الخطابي‏:‏ في قوله ‏"‏ ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق ‏"‏ دليل على أن من قال لزوجته وهي حائض‏:‏ إذا طهرت فأنت طالق لا يكون مطلقا للسنة، لأن المطلق للسنة هو الذي يكون مخيرا عند وقوع طلاقه بين إيقاع الطلاق وتركه، واستدل بقوله ‏"‏ قبل أن يمس ‏"‏ على أن الطلاق في طهر جامع فيه حرام، وبه صرح الجمهور، فلو طلق هل يجبر على الرجعة كما يجبر عليها إذا طلقها وهي حائض‏؟‏ طرده بعض المالكية فيهما، والمشهور عنهم إجباره في الحائض دون الطاهر‏.‏

وقالوا فيما إذا طلقها وهي حائض‏:‏ يجبر على الرجعة، فإن امتنع أدبه الحاكم، فإن أصر ارتجع الحاكم عليه‏.‏

وهل يجوز له وطؤها‏؟‏ بذلك روايتان لهم أصحهما الجواز، وعن داود يجبر على الرجعة إذا طلقها حائضا ولا يجبر إذا طلقها نفساء؛ وهو جمود‏.‏

ووقع فيه رواية مسلم من طريق محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن سالم عن ابن عمر ‏"‏ ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا ‏"‏ وفي روايته من طريق ابن أخي الزهري عن الزهري ‏"‏ فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا من حيضها ‏"‏ واختلف الفقهاء في المراد بقوله طاهرا هل المراد به انقطاع الدم أو التطهر بالغسل‏؟‏ على قولين، وهما روايتان عن أحمد، والراجح الثاني، لما أخرجه النسائي من طريق معتمر بن سليمان عن عبيد الله بن عمر عن نافع في هذه القصة قال ‏"‏ مر عبد الله فليراجعها، فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها، وإن شاء يمسكها فليمسكها ‏"‏ وهذا مفسر لقوله ‏"‏ فإذا طهرت ‏"‏ فليحمل عليه، ويتفرغ من هذا أن العدة هل تنقضي بانقطاع الدم وترتفع الرجعة، أو لا بد من الاغتسال‏؟‏ فيه خلاف أيضا‏.‏

والحاصل أن الأحكام المرتبة على الحيض نوعان‏:‏ الأول يزول بانقطاع الدم كصحة الغسل والصوم وترتب الصلاة في الذمة، والثاني لا يزول إلا بالغسل كصحة الصلاة والطواف وجواز اللبث في المسجد، فهل يكون الطلاق من النوع الأول أو من الثاني‏؟‏ وتمسك بقوله ‏"‏ ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا ‏"‏ من ذهب إلى أن طلاق الحامل سني، وهو قول الجمهور، وعن أحمد رواية أنه ليس بسني ولا بدعي‏.‏

قوله ‏(‏فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء‏)‏ أي أذن، وهذا بيان لمراد الآية وهي قوله تعالى ‏(‏يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن‏)‏ وصرح معمر في روايته عن أيوب عن نافع بأن هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي رواية الزبير عند مسلم قال ابن عمر ‏"‏ وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏يا أيها النبي إذا طلقتم النساء‏)‏ الآية ‏"‏ واستدل به من ذهب إلى أن الإقراء طهار للأمر بطلاقها في الطهر، وقوله ‏(‏فطلقوهن لعدتهن‏)‏ أي وقت ابتداء عدتهن، وقد جعل للمطلقة تربص ثلاثة قروء، فلما نهى عن الطلاق في الحيض وقال إن الطلاق في الطهر هو الطلاق المأذون فيه علم أن الإقراء الإطهار، قاله ابن عبد البر‏.‏

وسأذكر بقية فوائد حديث ابن عمر في الباب الذي يلي هذا إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب إِذَا طُلِّقَتْ الْحَائِضُ تَعْتَدُّ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق‏)‏ كذا بت الحكم بالمسألة، وفيها خلاف قديم عن طاوس وعن خلاس بن عمرو وغيرهما أنه لا يقع، ومن ثم نشأ سؤال من سأل ابن عمر عن ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ قَالَ طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِيُرَاجِعْهَا قُلْتُ تُحْتَسَبُ قَالَ فَمَهْ وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا قُلْتُ تُحْتَسَبُ قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ حُسِبَتْ عَلَيَّ بِتَطْلِيقَةٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏شعبة عن أنس بن سيرين قال سمعت ابن عمر قال‏:‏ طلق ابن عمر امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ليراجعها‏.‏

قلت‏:‏ تحتسب‏؟‏ قال‏:‏ فمه‏)‏ ‏؟‏ القائل ‏"‏ قلت ‏"‏ هو أنس بن سيرين والمقول له ابن عمر بين ذلك أحمد في روايته عن محمد بن جعفر عن شعبة، وكذا أخرجه مسلم من طريق محمد بن جعفر، وقد ساقه مسلم من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن ابن سيرين مطولا كما سأذكره بعد ذلك‏.‏

قوله ‏(‏وعن قتادة عن يونس بن جبير‏)‏ هو معطوف على قوله ‏"‏ عن أنس بن سيرين ‏"‏ فهو موصول، وهو من رواية شعبة عن قتادة، ولقد أفرده مسلم من رواية محمد بن جعفر عن شعبة عن قتادة ‏"‏ سمعت يونس بن جبير‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏عن ابن عمر قال‏:‏ مره فليراجعها‏)‏ هكذا اختصره، ومراده أن يونس بن جبير حكى القصة نحو ما ذكرها أنس بن سيرين سوى ما بين من سياقه‏.‏

قوله ‏(‏قلت تحتسب‏)‏ هو بضم أوله، والقائل هو يونس بن جبير‏.‏

قوله ‏(‏قال أرأيته‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ أرأيت إن عجز واستحمق ‏"‏ وقد اختصره البخاري اكتفاء بسياق أنس بن سيرين، وقد ساقه مسلم حيث أفرده ولفظه ‏"‏ سمعت ابن عمر يقول‏:‏ طلقت امرأتي وهي حائض، فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال‏:‏ ليراجعها، فإذا طهرت فإن شاء فليطلقها‏.‏

قال قلت لابن عمر‏:‏ أفيحسب بها‏؟‏ قال‏:‏ ما يمنعه‏؟‏ أرأيت إن عجز واستحمق‏"‏‏.‏

وقال أحمد ‏"‏ حدثنا محمد بن جعفر وعبد الله بن بكير قالا حدثنا شعبة ‏"‏ فذكره أتم منه وفي أوله أنه ‏"‏ سأل ابن عمر عن رجل طلق امرأته وهي حائض - وفيه - فقال مره فليراجعها ثم إن بدا له طلاقها طلقها في قبل عدتها وفي قبل طهرها‏.‏

قال قلت لابن عمر‏:‏ أفتحتسب طلاقها ذلك طلاقا‏؟‏ قال‏:‏ نعم، أرأيت إن عجز واستحمق ‏"‏ وقد ساقه البخاري في آخر الباب الذي بعد هذا نحو هذا السياق من رواية همام عن قتادة بطوله وفيه ‏"‏ قلت‏:‏ فهل عد ذلك طلاقا‏؟‏ قال‏:‏ أرأيت أن عجز واستحمق ‏"‏ وسيأتي في أبواب العدد في ‏"‏ باب مراجعة الحائض ‏"‏ من طريق محمد بن سيرين عن يونس ابن جبير مختصرا وفيه ‏"‏ قلت‏:‏ فتعتد بتلك التطليقة‏؟‏ قال‏:‏ أرأيت إن عجز واستحمق ‏"‏ وأخرجه مسلم من وجه آخر عن محمد بن سيرين مطولا ولفظه ‏"‏ فقلت له‏:‏ إذا طلق الرجل امرأته وهي حائض أيعتد بتلك التطليقة‏؟‏ قال‏:‏ فمه‏؟‏ أو إن عجز واستحمق ‏"‏ وفي رواية له ‏"‏ فقلت‏:‏ أفتحتسب عليه ‏"‏ والباقي مثله‏.‏

وقوله ‏"‏فمه ‏"‏ أصله فما، وهو استفهام فيه اكتفاء أي فما يكون إن لمن تحتسب، ويحتمل أن تكون الهاء أصلية وهي كلمة تقال للزجر أي كف عن هذا الكلام فإنه لا بد من وقوع الطلاق بذلك، قال ابن عبد البر‏:‏ قول ابن عمر ‏"‏ فمه ‏"‏ معناه فأي شيء يكون إذا لم يعتد بها‏؟‏ إنكارا لقول السائل ‏"‏ أيعتد بها ‏"‏ فكأنه قال‏:‏ وهل من ذلك بد‏؟‏ وقوله ‏"‏ أرأيت إن عجز واستحمق ‏"‏ أي إن عجز عن فرض فلم يقمه، أو استحمق فلم يأت به أيكون ذلك عذرا له‏؟‏ وقال الخطابي‏:‏ في الكلام حذف، أي أرأيت إن عجز واستحمق أيسقط عنه الطلاق حمقه أو يبطله عجزه‏؟‏ وحذف الجواب لدلالة الكلام عليه‏.‏

وقال الكرماني يحتمل أن تكون ‏"‏ إن ‏"‏ نافية بمعنى ما أي لم يعجر ابن عمر ولا استحمق، لأنه ليس بطفل ولا مجنون‏.‏

قال‏:‏ وإن كانت الرواية بفتح ألف أن فمعناه أظهر، والتاء من استحمق مفتوحة قاله ابن الخشاب وقال‏:‏ المعنى فعل فعلا يصيره أحمق عاجزا فيسقط عنه حكم الطلاق عجزه أو حمقة، والسين والتاء فيه إشارة إلى أنه تكلف الحمق بما فعله من تطليق امرأته وهي حائض‏.‏

وقد وقع في بعض الأصول بضم التاء مبنيا للمجهول، أي إن الناس استحمقوه بما فعل، وهو موجه‏.‏

وقال المهلب‏:‏ معنى قوله ‏"‏ إن عجز واستحمق ‏"‏ يعني عجز في المراجعة التي أمر بها عن إيقاع الطلاق أو فقد عقله فلم تمكن منه الرجعة أتبقى المرأة معلقة لا ذات بعل ولا مطلقة‏؟‏ وقد نهى الله عن ذلك، فلا بد أن تحتسب بتلك التطليقة التي أوقعها على غير وجهها، كما أنه لو عجز عن فرض آخر لله فلم يقمه واستحمق فلم يأت به ما كان يعذر بذلك ويسقط عنه‏.‏

قوله ‏(‏حدثنا أبو معمر‏)‏ كذا في رواية أبي ذر، وهو ظاهر كلام أبي نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ وللباقين ‏"‏ وقال أبو معمر ‏"‏ وبه جزم الإسماعيلي، وسقط هذا الحديث من رواية النسفي أصلا‏.‏

قوله ‏(‏عن ابن عمر قال‏:‏ حسبت علي بتطليقة‏)‏ هو بضم أوله من الحساب، وقد أخرجه أبو نعيم من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه مثل ما أخرجه البخاري مختصرا وزاد ‏"‏ يعني حين طلق امرأته فسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ‏"‏ قال النووي‏:‏ شذ بعض أهل الظاهر فقال إذا طلق الحائض لم يقع الطلاق لأنه غير مأذون فيه فأشبه طلاق الأجنبية وحكاه الخطابي عن الخوارج والروافض‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ لا يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال يعني الآن‏.‏

قال‏:‏ وروى مثله عن بعض التابعين وهو شذوذ وحكاه ابن العربي وغيره عن ابن علية يعني إبراهيم بن إسماعيل بن علية الذي قال الشافعي في حقه‏:‏ إبراهيم ضال، جلس في باب الضوال يضل الناس‏.‏

وكان بمصر، وله مسائل ينفرد بها‏.‏

وكان من فقهاء المعتزلة‏.‏

وقد غلط فيه من ظن أن المنقول عنه المسائل الشاذة أبوه، وحاشاه، فإنه من كبار أهل السنة‏.‏

وكأن النووي أراد ببعض الظاهرية ابن حزم، فإنه ممن جرد القول بذلك وانتصر له وبالغ، وأجاب عن أمر ابن عمر بالمراجعة بأن ابن عمر كان اجتنبها فأمره أن يعيدها إليه على ما كانت عليه من المعاشرة فحمل المراجعة على معناها اللغوي، وتعقب بأن الحمل على الحقيقة الشرعية مقدم على اللغوية اتفاقا، وأجاب عن قول ابن عمر ‏"‏ حسبت علي بتطليقة ‏"‏ بأنه لم يصرح بمن حسبها عليه، ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعقب بأنه مثل قول الصحابي ‏"‏ أمرنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ‏"‏ فإنه ينصرف إلى من له الأمر حينئذ وهو النبي صلى الله عليه وسلم، كذا قال بعض الشراح، وعندي أنه لا ينبغي أن يجئ فيه الخلاف الذي في قول الصحابي أمرنا بكذا فإن ذاك محله حيث يكون اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ليس صريحا، وليس كذلك في قصة ابن عمر هذه فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو الآمر بالمراجعة وهو المرشد لابن عمر فيما يفعل إذا أراد طلاقها بعد ذلك، وإذا أخبر ابن عمر أن الذي وقع منه حسبت عليه بتطليقة كان احتمال أن يكون الذي حسبها عليه غير النبي صلى الله عليه وسلم بعيدا جدا مع احتفاف القرائن في هذه القصة بذلك، كيف يتخيل أن ابن عمر يفعل في القصة شيئا برأيه وهو ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم تغيظ من صنيعه كيف لم يشاوره فيما يفعل في القصة المذكورة، وقد أخرج ابن وهب في مسنده عن ابن أبي ذئب أن نافعا أخبره ‏"‏ أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال‏:‏ مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ‏"‏ قال ابن أبي ذئب في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وهي واحدة ‏"‏ قال ابن أبي ذئب‏:‏ وحدثني حنظلة بن أبي سفيان أنه سمع سالما يحدث عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأخرجه الدار قطني من طريق يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب وابن إسحاق جميعا عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ هي واحدة‏"‏، وهذا نص في موضع الخلاف فيجب المصير إليه‏.‏

وقد أورده بعض العلماء على ابن حزم فأجابه بأن قوله ‏"‏ هي واحدة ‏"‏ لعله ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فألزمه بأنه نقض أصله لأن الأصل لا يدفع بالاحتمال‏.‏

وعند الدار قطني في رواية شعبة عن أنس بن سيرين عن ابن عمر في القصة ‏"‏ فقال عمر‏:‏ يا رسول الله أفتحتسب بتلك التطليقة‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏"‏‏.‏

ورجاله إلى شعبة ثقات‏.‏

وعنده من طريق سعيد ابن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ‏"‏ أن رجلا قال‏:‏ إني طلقت امرأتي البتة وهي حائض، فقال‏:‏ عصيت ربك، وفارقت امرأتك‏.‏

قال فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر أن يراجع امرأته، قال‏:‏ إنه أمر ابن عمر أن يراجعها بطلاق بقي له، وأتت لم تبق ما ترتجع به امرأتك ‏"‏ وفي هذا السياق رد على من حمل الرجعة في قصة ابن عمر على المعنى اللغوي، وقد وافق ابن حزم على ذلك من المتأخرين ابن تيمية، وله كلام طويل في تقرير ذلك والانتصار له‏.‏

وأعظم ما احتجوا به ما وقع في رواية أبي الزبير عن ابن عمر عند مسلم وأبي داود والنسائي وفيه ‏"‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ليراجعها، فردها وقال‏:‏ إذا طهرت فليطلق أو يمسك ‏"‏ لفظ مسلم، وللنسائي وأبي داود ‏"‏ فردها علي ‏"‏ زاد أبو داود ‏"‏ ولم يرها شيئا ‏"‏ وإسناده على شرط الصحيح فإن مسلما أخرجه من رواية حجاج بن محمد عن ابن جريج، وساقه على لفظه ثم أخرجه من رواية أبي عاصم عنه وقال نحو هذه القصة، ثم أخرجه من رواية عبد الرزاق عن ابن جريج قال مثل حديث حجاج وفيه بعض الزيادة، فأشار إلى هذه الزيادة، ولعله طوى ذكرها عمدا‏.‏

وقد أخرج أحمد الحديث عن روح بن عبادة عن ابن جريج فذكرها، فلا يتخيل انفراد عبد الرزاق بها‏.‏

قال أبو داود‏:‏ روى هذا الحديث عنه ابن عمر جماعة، وأحاديثهم كلها على خلاف ما قال أبو الزبير وقال ابن عبد البر‏:‏ قوله ‏"‏ ولم يرها شيئا ‏"‏ منكر لم يقله غير أبي الزبير، وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بمن هو أثبت منه، ولو صح فمعناه عندي والله أعلم‏:‏ ولم يرها شيئا مستقيما لكونها لم تقع على السنة‏.‏

وقال الخطابي قال أهل الحديث‏:‏ لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا، وقد يحتمل أن يكون معناه‏:‏ ولم يرها شيئا تحرم معه المراجعة، أو لم يرها شيئا جائزا في السنة ماضيا في الاختيار وإن كان لازما له مع الكراهة‏.‏

ونقل البيهقي في ‏"‏ المعرفة ‏"‏ عن الشافعي أنه ذكر رواية أبي الزبير فقال‏:‏ نافع أثبت من أبي الزبير والأثبت من الحديثين أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا، وقد وافق نافعا غيره من أهل الثبت‏.‏

قال‏:‏ وبسط الشافعي القول في ذلك وحمل قوله لم يرها شيئا على أنه لم يعدها شيئا صوابا غير خطأ، بل يؤمر صاحبه أن لا يقيم عليه لأنه أمره بالمراجعة، ولو كان طلقها طاهرا لم يؤمر بذلك، فهو كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله أو أخطأ في جوابه لم يصنع شيء أي لم يصنع شيئا صوابا، قال ابن عبد البر‏:‏ واحتج بعض من ذهب إلى أن الطلاق لا يقع بما روي عن الشعبي قال‏:‏ إذا طلق الرجل امرأته وهي حائض لم يعتد بها في قول ابن عمر، قال ابن عبد البر‏:‏ وليس معناه ما ذهب إليه، وإنما معناه لم تعتد المرأة بتلك الحيضة في العدة، كما روى ذلك عنه منصوصا أنه قال‏:‏ يقع عليها الطلاق ولا تعتد بتلك الحيضة ا هـ‏.‏

وقد روى عبد الوهاب الثقفي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر نحوا ما نقله ابن عبد البر عن الشعبي أخرجه ابن حزم بإسناد صحيح، والجواب عنه مثله‏.‏

وروى سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن مالك ‏"‏ عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ليس ذلك بشيء ‏"‏ وهذه متابعات لأبي الزبير، إلا أنها قابلة للتأويل، وهو أولى من إلغاء الصريح في قول ابن عمر إنها حسبت عليه بتطليقة‏.‏

وهذا الجمع الذي ذكره ابن عبد البر وغيره يتعين، وهو أولى من تغليظ بعض الثقات وأما قول ابن عمر ‏"‏ إنها حسبت عليه بتطليقة ‏"‏ فإنه وإن لم يصرح برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن فيه تسليم أن ابن عمر قال إنها حسبت عليه، فكيف يجتمع مع هذا قوله إنه لم يعتد بها أو لم يرها شيئا على المعنى الذي ذهب إليه المخالف‏؟‏ لأنه إن جعل الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم لزم منه أن ابن عمر خالف ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة بخصوصها لأنه قال إنها حسبت عليه بتطليقة فيكون من حسبها عليه خالف كونه لم يرها شيئا، وكيف يظن به ذلك مع اهتمامه واهتمام أبيه بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ليفعل ما يأمره به‏؟‏ وإن جعل الضمير في لم يعتد بها أو لم يرها لابن عمر لزم منه التناقض في القصة الواحدة فيفتقر إلى الترجيح، ولا شك أن الأخذ بما رواه الأكثر والأحفظ أولى من مقابله عند تعذر الجمع عند الجمهور والله أعلم‏.‏

واحتج ابن القيم لترجيح ما ذهب إليه شيخه بأقيسة ترجع إلى مسألة أن النهي يقتضي الفساد فقال‏:‏ الطلاق ينقسم إلى حلال وحرام، فالقياس أن حرامه باطل كالنكاح وسائر العقود، وأيضا فكما أن النهي يقتضي التحريم فكذلك يقتضي الفساد، وأيضا فهو طلاق منع منه الشرع فأفاد منعه عدم جواز إيقاعه فكذلك يفيد عدم نفوذه وإلا لم يكن للمنع فائدة، لأن الزوج لو وكل رجلا أن يطلق امرأته على وجه فطلقها على غير الوجه المأذون فيه لم ينفذ، فكذلك لم يأذن الشارع للمكلف في الطلاق إلا إذا كان مباحا، فإذا طلق طلاقا محرما لم يصح‏.‏

وأيضا فكل ما حرمه الله من العقود مطلوب الإعدام، فالحكم ببطلان ما حرمه أقرب إلى تحصيل هذا المطلوب من تصحيحه، ومعلوم أن الحلال المأذون فيه ليس الحرام الممنوع منه‏.‏

ثم أطال من هذا الجنس بمعارضات كثيرة لا تنهض مع التنصيص على صريح الأمر بالرجعة فإنها فرع وقوع الطلاق على تصريح صاحب القصة بأنها حسبت عليه تطليقة، والقياس في معارضة النص فاسد الاعتبار والله أعلم‏.‏

وقد عورض بقياس أحسن من قياسه فقال ابن عبد البر‏:‏ ليس الطلاق من أعمال البر التي يتقرب بها، وإنما هو إزالة عصمة فيها حق آدمي، فكيفما أوقعه وقع، سواء أجر في ذلك أم أثم، ولو لزم المطيع ولم يلزم العاصي لكان العاصي أخف حالا من المطيع‏.‏

ثم قال ابن القيم‏:‏ لم يرد التصريح بأن ابن عمر احتسب بتلك التطليقة إلا في رواية سعيد بن جبير عنه عند البخاري، وليس فيها تصريح بالرفع، قال‏:‏ فانفراد سعيد بن جبير بذلك كانفراد أبي الزبير بقوله لم يرها شيئا، فإما أن يتساقطا وإما أن ترجح رواية أبي الزبير لتصريحها بالرفع، وتحمل رواية سعيد بن جبير على أن أباه هو الذي حسبها عليه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي ألزم الناس فيه بالطلاق الثلاث بعد أن كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتسب عليهم به ثلاثا إذا كان بلفظ واحد‏.‏

قلت‏:‏ وغفل رحمه الله عما ثبت في صحيح مسلم من رواية أنس بن سيرين على وفاق ما روى سعيد بن جبير، وفي سياقه ما يشعر بأنه إنما راجعها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه ‏"‏ سألت ابن عمر عن امرأته التي طلق فقال‏.‏

طلقتها وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ مره فليراجعها فإذا طهرت فليطلقها لطهرها، قال فراجعتها ثم طلقها لطهرها قلت فاعتددت بتلك التطليقة وهي حائض‏؟‏ فقال ما لي لا اعتد بها وإن كنت عجزت واستحمقت ‏"‏ وعند مسلم أيضا من طريق ابن أخي ابن شهاب عن عمه عن سالم في حديث الباب ‏"‏ وكان عبد الله بن عمر طلقها تطليقة فحسبت من طلاقها فراجعها كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وله من رواية الزبيدي عن ابن شهاب ‏"‏ قال ابن عمر فراجعتها وحسبت لها التطليقة التي طلقتها ‏"‏ وعند الشافعي عن مسلم بن خالد عن ابن جريج ‏"‏ أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه‏:‏ هل حسبت تطليقة ابن عمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏"‏‏.‏

وفي حديث ابن عمر من الفوائد غير ما تقدم أن الرجعة يستقل بها الزوج دون الولي ورضا المرأة، لأنه جعل ذلك إليه دون غيره، وهو كقوله تعالى ‏(‏وبعولتهن أحق بردهن في ذلك‏)‏ وفيه أن الأب يقوم عن ابنه البالغ الرشيد في الأمور التي تقع له مما يحتشم الابن من ذكره، ويتلقى عنه ما لعله يلحقه من العتاب على فعله شفقة منه وبرا‏.‏

وفيه أن طلاق الطاهرة لا يكره لأنه أنكر إيقاعه في الحيض لا في غيره، ولقوله في آخر الحديث ‏"‏ فإن شاء أمسك وإن شاء طلق‏"‏‏.‏

وفيه أن الحامل لا تحيض لقوله في طريق سالم المتقدمة ‏"‏ ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا ‏"‏ فحرم صلى الله عليه وسلم الطلاق في زمن الحيض وأباحه في زمن الحمل، فدل على أنهما لا يجتمعان‏.‏

وأجيب بأن حيض الحامل لما لم يكن له تأثير في تطويل العدة ولا تخفيفها لأنها بوضع الحمل فأباح الشارع طلاقها حاملا مطلقا، وأما غير الحامل ففرق بين الحائض والطاهر لأن الحيض يؤثر في العدة فالفرق بين الحامل وغيرها إنما هو بسبب الحمل لا بسبب الحيض ولا الطهر‏.‏

وفيه أن الأقراء في العدة هي الأطهار، وسيأتي تقرير ذلك في كتاب العدة‏.‏

وفيه تحريم الطلاق في طهر جامعها فيه وبه قال الجمهور‏.‏

وقال المالكية لا يحرم؛ وفي رواية كالجمهور، ورجحها الفاكهاني لكونه شرط في الإذن في الطلاق عدم المسيس، والمعلق بشرط معدوم عند عدمه

*3*باب مَنْ طَلَّقَ وَهَلْ يُوَاجِهُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالطَّلَاقِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب من طلق، وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق‏)‏ كذا للجميع وحذف ابن بطال من الترجمة قوله ‏"‏ من طلق ‏"‏ فكأنه لم يظهر له وجهه، وأظن المصنف قصد إثبات مشروعية جواز الطلاق وحمل حديث ‏"‏ أبغض الحلال إلى الله الطلاق ‏"‏ على ما إذا وقع من غير سبب، وهو حديث أخرجه أبو داود وغيره، وأعل بالإرسال، وأما المواجهة فأشار إلى أنها خلاف الأولى لأن ترك المواجهة أرفق وألطف إلا أن احتيج إلى ذكر ذلك‏.‏

ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ أَيُّ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَنَا مِنْهَا قَالَتْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ فَقَالَ لَهَا لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ الْحَقِي بِأَهْلِكِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ رَوَاهُ حَجَّاجُ بْنُ أَبِي مَنِيعٍ عَنْ جَدِّهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عُرْوَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ

الشرح‏:‏

حديث عائشة‏.‏

قوله ‏(‏إن ابنة الجون‏)‏ زاد في نسخة الصغاني ‏"‏ الكلبية ‏"‏ وهو بعيد على ما سأبينه، ووقع في ‏"‏ كتاب الصحابة لأبي نعيم ‏"‏ من طريق عبيد بن القاسم عن هشام بن عروة عن أبيه ‏"‏ عن عائشة أن عمرة بنت الجون تعوذت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أدخلت عليه، قال‏:‏ لقد عذت بمعاذ ‏"‏ الحديث‏.‏

وعبيد متروك‏.‏

والصحيح أن أسمها أميمة بنت النعمان بن شراحيل كما في حديث أبي أسيد‏.‏

وقال مرة‏:‏ أميمة بنت شراحيل فنسبت لجدها، وقيل اسمها أسماء كما سأبينه في حديث أبي أسيد مع شرحه مستوفى، وروى ابن سعد عن الواقدي عن ابن أخي الزهري عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت ‏"‏ تزوج النبي صلى الله عليه وسلم الكلابية ‏"‏ فذكر مثل حديث الباب، وقوله الكلابية غلط وإنما هي الكندية، فكأنما الكلمة تصحفت‏.‏

نعم للكلابية قصة أخرى ذكرها ابن سعد أيضا بهذا السند إلى الزهري وقال‏:‏ اسمها فاطمة بنت الضحاك بن سفيان، فاستعاذت منه فطلقها، فكانت تلقط البعر وتقول‏:‏ أنا الشقية‏.‏

قال وتوفيت سنة ستين‏.‏

ومن طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ‏"‏ أن الكندية لما وقع التخيير اختارت قومها ففارقها، فكانت تقول‏:‏ أنا الشقية‏"‏‏.‏

ومن طريق سعيد بن أبي هند أنها استعاذت منه فأعاذها‏.‏

ومن طريق الكلبي اسمها العالية بنت ظبيان بن عمرو، وحكى ابن سعد أيضا أن اسمها عمرة بنت يزيد بن عبيد، وقيل بنت يزيد بن الجون‏.‏

وأشار ابن سعد إلى أنها واحدة اختلف في اسمها، والصحيح أن التي استعاذت منه هي الجونية‏.‏

وروى ابن سعد من طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال‏:‏ لم تستعذ منه امرأة غيرها‏.‏

قلت‏:‏ وهو الذي يغلب على الظن، لأن ذلك إنما وقع للمستعيذة بالخديعة المذكورة فيبعد أن تخدع أخرى بعدها بمثل ما خدعت به بعد شيوع الخبر بذلك‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ أجمعوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج الجونية‏.‏

واختلفوا في سبب فراقه فقال قتادة‏:‏ لما دخل عليها دعاها فقالت‏:‏ تعالى أنت‏.‏

فطلقها‏.‏

وقيل كان بها وضح كالعامرية قال وزعم بعضهم أنها قالت أعوذ بالله منك فقال قد عذت بمعاذ وقد أعاذك الله مني فطلقها‏.‏

قال وهذا باطل إنما قال له هذا امرأة من بني العنبر وكانت جميلة فحاف نساؤه أن تغلبهن عليه فقلن لها إنه يعجبه أن يقال له نعوذ بالله منك ففعلت فطلقها، كذا قال، وما أدري لم حكم ببطلان ذلك مع كثرة الروايات الواردة فيه وثبوته في حديث عائشة في صحيح البخاري، وسيأتي مزيد لذلك في الحديث الذي بعده‏.‏

والقول الذي نسبه لقتادة ذكر مثله أبو سعيد النيسابوري عن شرقي ابن قطامي‏.‏

قوله ‏(‏رواه حجاج بن أبي منيع عن جده‏)‏ هو حجاج بن يوسف بن أبي منيع وأبو منيع هو عبيد الله بن أبي زياد الوصافي بفتح الواو وتشديد المهملة وبالفاء وكان يكون بحلب، ولم يخرج له البخاري إلا معلقا وكذا لجده‏.‏

وهذه الطريق وصلها الذهلي في ‏"‏ الزهريات ‏"‏ ورواه ابن أبي ذئب أيضا عن الزهري نحوه وزاد في آخره ‏"‏ قال الزهري جعلها تطليقة ‏"‏ أخرجه البيهقي، وقوله ‏"‏الحقي بأهلك ‏"‏ بكسر الألف من الحقي وفتح الحاء بخلاف قوله في الحديث الثاني ألحقها فإنه بفتح الهمزة وكسر الحاء‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَسِيلٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْطَلَقْنَا إِلَى حَائِطٍ يُقَالُ لَهُ الشَّوْطُ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى حَائِطَيْنِ فَجَلَسْنَا بَيْنَهُمَا

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْلِسُوا هَا هُنَا وَدَخَلَ وَقَدْ أُتِيَ بِالْجَوْنِيَّةِ فَأُنْزِلَتْ فِي بَيْتٍ فِي نَخْلٍ فِي بَيْتِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ النُّعْمَانِ بْنِ شَرَاحِيلَ وَمَعَهَا دَايَتُهَا حَاضِنَةٌ لَهَا فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَبِي نَفْسَكِ لِي قَالَتْ وَهَلْ تَهَبُ الْمَلِكَةُ نَفْسَهَا لِلسُّوقَةِ قَالَ فَأَهْوَى بِيَدِهِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا لِتَسْكُنَ فَقَالَتْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ فَقَالَ قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ يَا أَبَا أُسَيْدٍ اكْسُهَا رَازِقِيَّتَيْنِ وَأَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّيْسَابُورِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ وَأَبِي أُسَيْدٍ قَالَا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَيْمَةَ بِنْتَ شَرَاحِيلَ فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا فَكَأَنَّهَا كَرِهَتْ ذَلِكَ فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ أَنْ يُجَهِّزَهَا وَيَكْسُوَهَا ثَوْبَيْنِ رَازِقِيَّيْنِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْوَزِيرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ حَمْزَةَ عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ بِهَذَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا عبد الرحمن بن غسيل‏)‏ كذا في رواية الأكثر بغير ألف ولام وفي رواية النسفي ‏"‏ ابن الغسيل ‏"‏ وهو أوجه ولعلها كانت ابن غسيل الملائكة فسقط لفظ الملائكة، والألف واللام بدل الإضافة، وعبد الرحمن ينسب إلى جد أبيه وهو عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الأنصاري، وحنظلة هو غسيل الملائكة استشهد بأحد وهو جنب فغسلته الملائكة وقصته مشهورة، ووقع في رواية الجرجاني عبد الرحيم والصواب عبد الرحمن كما نبه عليه الجياني‏.‏

قوله ‏(‏إلى حائط يقال له الشوط‏)‏ بفتح المعجمة وسكون الواو بعدها مهملة وقيل معجمة هو بستان في المدينة معروف‏.‏

قوله ‏(‏حتى انتهينا إلى حائطين جلسنا بينهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اجلسوا هاهنا ودخل‏)‏ أي إلى الحائط‏.‏

له رواية لابن سعد عن أبي أسيد قال ‏"‏ تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من بني الجون فأمرني أن آتيه بها فأتيته بها فأنزلتها بالشوط من وراء ذباب في أطم، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فخرج يمشي ونحن معه‏.‏

وذباب بضم المعجمة وموحدتين مخففا جبل معروف بالمدينة، والأطم الحصون وهو الأجم أيضا والجمع آطام وآجام كعنق وأعناق‏.‏

وفي رواية لابن سعد أن النعمان بن الجون الكندي أتى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما فقال‏:‏ ألا أزوجك أجمل أيم في العرب‏؟‏ فتزوجها وبعث معه أبا أسيد الساعدي، قال أبو أسيد‏:‏ فأنزلتها في بني ساعدة فدخل عليها نساء الحي فرحين بها وخرجن فذكرن من جمالها‏.‏

قوله ‏(‏فأنزلت في بيت في نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل‏)‏ هو بالتنوين في الكل، وأميمة بالرفع إما بدلا عن الجونية وإما عطف بيان، وظن بعض الشراح أنه بالإضافة فقال في الكلام على الرواية التي بعدها‏:‏ تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل ولعل التي نزلت في بيتها بنت أخيها؛ وهو مردود فإن مخرج الطريقين واحد، وإنما جاء الوهم من إعادة لفظ ‏"‏ في بيت ‏"‏ وقد رواه أبو بكر بن أبي قتيبة في مسنده عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه فقال ‏"‏ في بيت في النخل أميمة إلخ ‏"‏ وجزم هشام بن الكلبي بأنها أسماء بنت النعمان بن شراحيل بن الأسود بن الجون الكندية، وكذا جزم بتسميتها أسماء محمد بن إسحاق ومحمد بن حبيب وغيرهما، فلعل اسمها أسماء ولقبها أميمة‏.‏

ووقع في المغازي رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق ‏"‏ أسماء بنت كعب الجونية ‏"‏ فلعل في نسبها من اسمه كعب نسبها إليه، وقيل هي أسماء بنت الأسود بن الحارث بن النعمان‏.‏

قوله ‏(‏ومعها دايتها حاضنة لها‏)‏ الداية بالتحتانية الظئر المرضع وهي معربة، ولم أقف على تسمية هذه الحاضنة‏.‏

قوله ‏(‏هبي نفسك لي إلخ‏)‏ السوقة بضم السين المهملة يقال للواحد من الرعية والجمع، قيل لهم ذلك لأن الملك يسوقهم فيساقون إليه ويصرفهم على مراده، وأما أهل السوق فالواحد منهم سوقي، قال ابن المنير‏:‏ هذا من بقية ما كان فيها من الجاهلية، والسوقة عندهم من ليس بملك كائنا من كان، فكأنها استبعدت أن يتزوج الملكة من ليس بملك، وكان صلى الله عليه وسلم قد خير أن يكون ملكا نبيا فاختار أن يكون عبدا نبيا تواضعا منه صلى الله عليه وسلم لربه‏.‏

ولم يؤاخذها النبي صلى الله عليه وسلم بكلامها معذرة لها لقرب عهدها بجاهليتها‏.‏

وقال غيره يحتمل أنها لم تعرفه صلى الله عليه وسلم فخاطبته بذلك، وسياق القصة من مجموع طرقها يأبى هذا الاحتمال، نعم سيأتي في أواخر الأشربة من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد قال ‏"‏ ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم امرأة من العرب، فأمر أبا أسيد الساعدي أن يرسل إليها فقدمت، فنزلت في أجم بني ساعدة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء بها فدخل عليها فإذا امرأة منكسة رأسها، فلما كلمها قالت‏:‏ أعوذ بالله منك، قال‏:‏ لقد أعذتك مني‏.‏

فقالوا لها أتدرين من هذا‏؟‏ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليخطبك، قالت كنت أنا أشقى من ذلك‏.‏

فإن كانت القصة واحدة فلا يكون قوله في حديث الباب ألحقها بأهلها ولا قوله في حديث عائشة الحقي بأهلك تطليقا، ويتعين أنها لم تعرفه‏.‏

وإن كانت القصة متعددة ولا مانع من ذلك فلعل هذه المرأة هي الكلابية التي وقع فيها الاضطراب‏.‏

وقد ذكر ابن سعد بسند فيه العزرمي الضعيف عن ابن عمر قال ‏"‏ كان في نساء النبي صلى الله عليه وسلم سنا بنت سفيان بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب، قال‏:‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا أسيد الساعدي يخطب عليه امرأة من بني عامر يقال لها عمرة بنت يزيد بن عبيد بن رؤاس بن كلاب بن ربيعة بن عامر، قال ابن سعد‏:‏ اختلف علينا اسم الكلابية فقيل فاطمة بنت الضحاك بن سفيان وقيل عمرة بنت يزيد بن عبيد وقيل سنا بنت سفيان بن عوف وقيل العالية بنت ظبيان بن عمرو بن عوف، فقال بعضهم هي واحدة اختلف في اسمها‏.‏

وقال بعضهم بل كن جمعا ولكن لكل واحدة منهن قصة غير قصة صاحبتها‏"‏‏.‏

ثم ترجم الجونية فقال‏:‏ أسماء بنت النعمان‏.‏

ثم أخرج من طريق عند الواحد بن أبي عون قال ‏"‏ قدم النعمان بن أبي الجون الكندي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما فقال‏:‏ يا رسول الله ألا أزوجك أجمل أيم في العرب، كانت تحت ابن عم لها فتوفي وقد رغبت فيك‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فابعث من يحملها إليك‏.‏

فبعث معه أبا أسيد الساعدي‏.‏

قال أبو أسيد فأقمت ثلاثة أيام ثم تحملت معي في محفة فأقبلت بها حتى قدمت المدينة فأنزلتها في بني ساعدة، ووجهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بني عمرو بن عوف فأخبرته ‏"‏ الحديث‏.‏

قال ابن أبي عون‏:‏ وكان ذلك في ربيع الأول سنة تسع‏.‏

ثم أخرج من طريق أخرى عن عمر بن الحكم عن أبي أسيد قال ‏"‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجونية فحملتها حتى نزلت بها في أطم بني ساعدة، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فخرج يمشي على رجليه حتى جاءها ‏"‏ الحديث‏.‏

ومن طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال‏:‏ اسم الجونية أسماء بنت النعمان بن أبي الجون، قيل لها استعيذي منه فإنه أحظى لك عنده، وخدعت لما رؤى من جمالها، وذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حملها على ما قالت فقال‏:‏ إنهن صواحب يوسف وكيدهن‏.‏

فهذه تتنزل قصتها على حديث أبي حازم عن سهل بن سعد، وأما القصة التي في حديث الباب من رواية عائشة فيمكن أن تنزل على هذه أيضا فإنه ليس فيها إلا الاستعاذة، والقصة التي في حديث أبي أسيد فيها أشياء مغايرة لهذه القصة، فيقوى التعدد، ويقوى أن التي في حديث أبي أسيد اسمها أميمة والتي في حديث سهل اسمها أسماء والله أعلم‏.‏

وأميمة كان قد عقد عليها ثم فارقها وهذه لم يعقد عليها بل جاء ليخطبها فقط‏.‏

قوله ‏(‏فأهوى بيده‏)‏ أي أمالها إليها‏.‏

ووقع في رواية ابن سعد ‏"‏ فأهوى إليها ليقبلها، وكان إذا اختلى النساء أقعى وقبل ‏"‏ وفي رواية لابن سعد ‏"‏ فدخل عليها داخل من النساء وكانت من أجمل النساء فقالت‏:‏ إنك من الملوك فإن كنت تريدين أن تحظي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا جاءك فاستعيذي منه ‏"‏ ووقع عنده عن هشام بن محمد عن عبد الرحمن بن الغسيل بإسناد حديث الباب ‏"‏ إن عائشة وحفصة دخلتا عليها أول ما قدمت فمشطتاها وخضبتاها‏.‏

وقالت لها إحداهما‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول أعوذ بالله منك‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فقال‏:‏ قد عذت بمعاذ‏)‏ هو بفتح الميم ما يستعاذ به، أو اسم مكان العوذ، والتنوين فيه للتعظيم‏.‏

وفي رواية ابن سعد ‏"‏ فقال بكمه على وجهه وقال‏:‏ عذت معاذا‏.‏

ثلاث مرات ‏"‏ وفي أخرى له ‏"‏ فقال أمن عائذ الله‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ثم خرج علينا فقال‏:‏ يا أبا أسيد اكسها رازقيين‏)‏ براء ثم زاي ثم قاف بالتثنية صفة موصوف محذوف للعلم به، والرازقية ثياب من كتان بيض طوال قاله أبو عبيدة‏.‏

وقال غيره‏.‏

يكون في داخل بياضها زرقة، والرازقي الصفيق‏.‏

قال ابن التين‏:‏ متعها بذلك إما وجوبا وإما تفضلا‏.‏

قلت‏:‏ وسيأتي حكم المتعة في كتاب النفقات‏.‏

قوله ‏(‏وألحقها بأهلها‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ ليس في هذا أنه واجهها بالطلاق‏.‏

وتعقبه ابن المنير بأن ذلك ثبت في حديث عائشة أول أحاديث الباب، فيحمل على أنه قال لها الحقي بأهلك، ثم لما خرج إلى أبي أسيد قال له ألحقها بأهلها، فلا منافاة، فالأول قصد به الطلاق والثاني أراد به حقيقة اللفظ وهو أن يعيدها إلى أهلها، لأن أبا أسيد هو الذي كان أحضرها كما ذكرناه‏.‏

ووقع في رواية لابن سعد عن أبي أسيد قال ‏"‏ فأمرني فرددتها إلى قومها ‏"‏ وفي أخرى له ‏"‏ فلما وصلت بها تصايحوا وقالوا‏:‏ إنك لغير مباركة، فما دهاك‏؟‏ قالت‏:‏ خدعت‏.‏

قال فتوفيت في خلافة عثمان‏"‏‏.‏

قال ‏"‏وحدثني هشام بن محمد عن أبي خيثمة زهير بن معاوية أنها ماتت كمدا ‏"‏ ثم روي بسند فيه الكلبي ‏"‏ أن المهاجر بن أبي أمية تزوجها، فأراد عمر معاقبتها فقالت‏:‏ ما ضرب علي الحجاب، ولا سميت أم المؤمنين‏.‏

فكف عنها ‏"‏ وعن الواقدي‏:‏ سمعت من يقول إن عكرمة بن أبي جهل خلف عليها، قال‏:‏ وليس ذلك بثبت‏.‏

ولعل ابن بطال أراد أنه لم يواجهها بلفظ الطلاق‏.‏

وقد أخرج ابن سعد من طريق هشام بن عروة عن أبيه أن الوليد بن عبد الملك كتب إليه يسأله، فكتب إليه‏:‏ ما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم كندية إلا أخت بني الجون فملكها‏.‏

فلما قدمت المدينة نظر إليها فطلقها ولم يبن بها‏.‏

فقوله فطلقها يحتمل أن يكون باللفظ المذكور قبل ويحتمل أن يكون واجهها بلفظ الطلاق، ولعل هذا هو السر في إيراد الترجمة بلفظ الاستفهام دون بت الحكم‏.‏

واعترض بعضهم بأنه لم يتزوجها إذ لم يجر ذكر صورة العقد، وامتنعت أن تهب له نفسها فكيف يطلقها‏؟‏ والجواب أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يزوج من نفسه بغير إذن المرأة وبغير إذن وليها، فكان مجرد إرساله إليها وإحضارها ورغبته فيها كافيا في ذلك، ويكون قوله ‏"‏ هبي لي نفسك ‏"‏ تطييبا لخاطرها واستمالة لقلبها، ويؤيده قوله في رواية لابن سعد ‏"‏ إنه اتفق مع أبيها على مقدار صداقها، وأن أباها قال له‏:‏ إنها رغبت فيك وخطبت إليك‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وقال الحسين بن الوليد النيسابوري عن عبد الرحمن‏)‏ هو ابن الغسيل ‏(‏عن عباس بن سهل عن أبيه وأبي أسيد‏)‏ هذا التعليق وصله أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ من طريق أبي أحمد الفراء عن الحسين، ومراد البخاري منه أن الحسين بن الوليد شارك أبا نعيم في روايته لهذا الحديث عن عبد الرحمن بن الغسيل، لكن اختلفا في شيخ عبد الرحمن فقال أبو نعيم حمزة وقال الحسين عباس بن سهل، ثم ساقه من طريق ثالثة عن عبد الرحمن فبين أنه عند عبد الرحمن بالإسنادين، لكن طريق أبي أسيد عن حمزة ابنه عنه وطريق سهل بن سعد عن عباس ابنه عنه، وكأن حمزة حذف في رواية الحسين بن الوليد فصار الحديث من رواية عباس بن سهل عن أبي أسيد وليس كذلك، والتحرير ما وقع في الرواية الثالثة وهي رواية إبراهيم بن أبي الوزير واسم أبي الوزير عمر بن مطرف، وهو حجازي نزل البصرة، وقد أدركه البخاري ولم يلقه فحدث عنه بواسطة، وذكره في تاريخه فقال‏:‏ مات بعد أبي عاصم سنة اثنتي عشرة، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع، وقد وافقه على إقامة إسناده أبو أحمد الزبيري أخرجه أحمد في مسنده عنه‏.‏

‏(‏تنبهان‏)‏ ‏:‏ الأول قال القاضي عياض في أوائل كتاب الجهاد من ‏"‏ شرح مسلم ‏"‏ قال البخاري في تاريخه‏:‏ الحسين بن الوليد بن علي النيسابوري القرشي مات سنة ثلاث ومائتين، ولم يذكر في باب الحسن مكبرا من اسمه الحسن بن الوليد، وذكر في صحيحه في كتاب الطلاق الحسن بن الوليد النيسابوري عن عبد الرحمن عن عباس ابن سهل عن أبيه وأبي أسيد ‏"‏ تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل ‏"‏ كذا ذكره مكبرا‏.‏

قلت‏:‏ لم أره في شيء من النسخ المعتمدة من البخاري إلا مصغرا، ويؤيده اقتصاره عليه في تاريخه والله أعلم‏.‏

الثاني وقع في رواية أبي أحمد الجرجاني في السند الأول ‏"‏ عن حمزة بن أبي أسيد عن عباس بن سهل عن أبيه ‏"‏ وهو خطأ سقطت الواو من قوله ‏"‏ وعن عباس ‏"‏ وقد ثبتت عند جميع الرواة، وفي الحديث أن من قال لامرأته الحقي بأهلك وأراد الطلاق طلقت، فإن لم يرد الطلاق لم تطلق على ما وقع في حديث كعب بن مالك الطويل في قصة توبته ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل إليه أن يعتزل امرأته قال لها الحقي بأهلك فكوني فيهم حتى يقضي الله هذا الأمر ‏"‏ وقد مضى الكلام عليه مستوفى في شرحه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي غَلَّابٍ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَقَالَ تَعْرِفُ ابْنَ عُمَرَ إِنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَإِذَا طَهُرَتْ فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا قُلْتُ فَهَلْ عَدَّ ذَلِكَ طَلَاقًا قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر في طلاق امرأته، وقد مضى شرحه مستوفى قبل، وقوله في هذه الرواية ‏"‏ أتعرف ابن عمر ‏"‏ إنما قال له ذلك مع أنه يعرف أنه يعرفه وهو الذي يخاطبه ليقرره على اتباع السنة، وعلى القبول من ناقلها، وأنه يلزم العامة الاقتداء بمشاهير العلماء، فقرره على ما يلزمه من ذلك لا أنه ظن أنه لا يعرفه، قال ابن المنير‏:‏ ليس فيه مواجهة ابن عمر المرأة بالطلاق، وإنما فيه ‏"‏ طلق ابن عمر امرأته ‏"‏ لكن الظاهر من حاله المواجهة لأنه إنما طلقها عن شقاق ا هـ‏.‏

ولم يذكر مستنده في الشقاق المذكور، فقد يحتمل أن لا يكون عن شقاق بل عن سبب آخر، وقد روى أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم من طريق حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال ‏"‏ كان تحتي امرأة أحبها، وكان عمر يكرهها فقال‏:‏ طلقها، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أطع أباك ‏"‏ فيحتمل أن تكون هي هذه، ولعل عمر لما أمره بطلاقها وشاور النبي صلى الله عليه وسلم فامتثل أمره اتفق أن الطلاق وقع وهي في الحيض فعلم عمر بذلك فكان ذلك هو السر في توليه السؤال عن ذلك لكونه وقع من قبله‏.‏