فصل: ‏(‏خاتمة‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب وكان أمر الله قدرا مقدورا‏)‏ أي حكما مقطوعا بوقوعه، والمراد بالأمر واحد الأمور المقدرة ويحتمل أن يكون واحد الأوامر، لأن كل موجود بكن‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَسْأَلْ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا وَلْتَنْكِحْ فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ لا تسأل المرأة طلاق أختها - إلى قوله في آخره - فإن لها ما قدر لها ‏"‏ وقد مضى شرحه في ‏"‏ باب الشروط التي لا تحل في النكاح ‏"‏ من كتاب النكاح قال ابن العربي‏:‏ في هذا الحديث من أصول الدين السلوك في مجاري القدر، وذلك لا يناقض العمل في الطاعات ولا يمنع التحرف في الاكتساب والنظر لقوت غد وإن كان لا يتحقق أنه يبلغه‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ هذا الحديث من أحسن أحاديث القدر عند أهل العلم لما دل عليه من أن الزوج لو أجابها وطلق من تظن أنها تزاحمها في رزقها فإنه لا يحصل لها من ذلك إلا ما كتب الله لها سواء أجابها أو لم يجبها، وهو كقول الله تعالى في الآية الأخرى ‏(‏قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا‏)

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ وَعِنْدَهُ سَعْدٌ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذٌ أَنَّ ابْنَهَا يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهَا لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى كُلٌّ بِأَجَلٍ فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ

الشرح‏:‏

حديث أسامة وهو ابن زيد، قوله ‏(‏عاصم‏)‏ هو الأحول، وأبو عثمان هو النهدي‏.‏

قوله ‏(‏وعنده سعد‏)‏ هو ابن عبادة، ومعاذ هو ابن جبل، وقد تقدم شرحه مستوفي في كتاب الجنائز وما قيل في تسمية الابن المذكور وبيان الجمع بين هذه الرواية والرواية التي فيها ‏"‏ أن ابنتها‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ الجُمَحِيُّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُصِيبُ سَبْيًا وَنُحِبُّ الْمَالَ كَيْفَ تَرَى فِي الْعَزْلِ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ ذَلِكَ لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَّا هِيَ كَائِنَةٌ

الشرح‏:‏

حديث أبي سعيد، قوله ‏(‏عبد الله‏)‏ هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد‏.‏

قوله ‏(‏جاء رجل من الأنصار‏)‏ تقدم في غزوة المريسيع وفي عشرة النساء من كتاب النكاح عن أبي سعيد قال ‏"‏ سألنا ‏"‏ وأخرجه النسائي من طريق ابن محيريز أن أبا سعيد وأبا صرمة أخبراه أنهم أصابوا سبايا، قال ‏"‏ فتراجعنا في العزل، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فلعل أبا سعيد باشر السؤال وإن كان الذين تراجعوا في ذلك جماعة، وقد وقع عند البخاري في تاريخه وابن السكن وغيره في الصحابة من حديث مجدي الضمري قال ‏"‏ غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة المريسيع فأصبنا سبيا، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن العزل ‏"‏ الحديث، وأبو صرمة مختلف في صحبته، وقد وقع في صحيح مسلم من طريق ابن محيريز ‏"‏ دخلت أنا وأبو صرمة على أبي سعيد فقال‏:‏ يا أبا سعيد هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في العزل ‏"‏ الحديث، والثابت أن أبا صرمة وهو بكسر المهملة وسكون الراء إنما سأل أبا سعيد، وقد تقدم شرح الحديث مستوفي في النكاح، والغرض منه هنا قوله في آخره ‏"‏ وليست نسمة كتب الله أن تخرج إلا هي كائنة‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَقَدْ خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً مَا تَرَكَ فِيهَا شَيْئًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا ذَكَرَهُ عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ إِنْ كُنْتُ لَأَرَى الشَّيْءَ قَدْ نَسِيتُ فَأَعْرِفُ مَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ إِذَا غَابَ عَنْهُ فَرَآهُ فَعَرَفَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا موسى بن مسعود‏)‏ هو أبو حذيفة النهدي، وسفيان هو الثوري، قوله ‏(‏لقد خطبنا‏)‏ في رواية جرير عن الأعمش عند مسلم ‏"‏ قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏إلا ذكره‏)‏ في رواية جرير ‏"‏ إلا حدث به‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏علمه من علمه وجهله من جهله‏)‏ في رواية جرير ‏"‏ حفظه من حفظه ونسيه من نسيه ‏"‏ وزاد ‏"‏ قد علمه أصحابي هؤلاء ‏"‏ أي علموا وقوع ذلك المقام وما وقع فيه من الكلام، وقد سميت في أول بدء الخلق من روى نحو حديث حذيفة هذا من الصحابة كعمر وأبي زيد بن أخطب وأبي سعيد قال وغيرهم فلعل حذيفة أشار إليهم أو إلى بعضهم، وقد أخرج مسلم من طريق أبي إدريس الخولاني عن حذيفة ‏"‏ والله إني لأعلم كل فتنة كائنة فيما بيني وبين الساعة، وما بي أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى شيئا لم يكن يحدث به غيري ‏"‏ وقال في آخره ‏"‏ فذهب أولئك الرهط غيري ‏"‏ وهذا لا يناقض الأول بل يجمع بأن يحمل على مجلسين، أو المراد بالأول أعم من المراد بالثاني‏.‏

قوله ‏(‏إن كنت لأرى الشيء قد نسيت‏)‏ كذا للأكثر بحذف المفعول‏.‏

وفي رواية الكشميهني بإثباته ولفظه ‏"‏ نسيته‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فأعرفه كما يعرف الرجل الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه‏)‏ في رواية محمد بن يوسف عن سفيان عند الإسماعيلي ‏"‏ كما يعرف الرجل ‏"‏ بحذف المفعول‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ الرجل وجه الرجل غاب عنه ثم رآه فعرفه ‏"‏ قال عياض‏:‏ في هذا الكلام تلفيق، وكذا في رواية جرير ‏"‏ وأنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه ‏"‏ قال والصواب كما ينسي الرجل وجه الرجل - أو كما لا يذكر الرجل وجه الرجل - إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه‏.‏

قلت‏:‏ والذي يظهر لي أن الرواية في الأصلين مستقيمة، وتقدير ما في حديث سفيان أنه يرى الشيء الذي كان نسيه فإذا رآه عرفه وقوله ‏"‏ كما يعرف الرجل الرجل غاب عنه ‏"‏ أي الذي كان غاب عنه فنسى صورته ثم إذا رآه عرفه، وأخرجه الإسماعيلي من رواية ابن المبارك عن سفيان بلفظ ‏"‏ إني لأرى الشيء نسيته فأعرفه كما يعرف الرجل إلخ‏"‏‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ أخرج هذا الحديث القاضي عياض في ‏"‏ الشفاء ‏"‏ من طريق أبي داود بسنده إلى قوله ‏"‏ ثم إذا رآه عرفه ‏"‏ ثم قال حذيفة ‏"‏ ما أدري أنسى أصحابي أم تناسوه ‏"‏ والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة إلا قد سماه لنا ‏"‏ قلت‏:‏ ولم أر هذه الزيادة في كتاب أبي داود، وإنما أخرجه أبو داود بسند آخر مستقل من وجه آخر عن حذيفة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ وَقَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ أَوْ مِنْ الْجَنَّةِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ أَلَا نَتَّكِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ ثُمَّ قَرَأَ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى الْآيَةَ

الشرح‏:‏

حديث على، قوله ‏(‏عن أبي حمزة‏)‏ بمهملة وزاي هو محمد بن ميمون السكري‏.‏

قوله ‏(‏عن سعد بن عبيدة‏)‏ بضم العين هو السلمي الكوفي يكني أبا حمزة وكان صهر أبي عبد الرحمن شيخه في هذا الحديث، ووقع في تفسير ‏(‏والليل إذا يغشى‏)‏ من طريق شعبة عن الأعمش ‏"‏ سمعت سعد بن عبيدة ‏"‏ وأبو عبد الرحمن السلمي اسمه عبد الله بن حبيب وهو من كبار التابعين، ووقع مسمى في رواية معتمر ابن سليمان عن منصور عن سعد بن عبيدة عند الفريابي‏.‏

قوله ‏(‏عن علي‏)‏ في رواية مسلم البطين عن أبي عبد الرحمن السلمي ‏"‏ أخذ بيدي علي فانطلقنا نمشي حتى جلسنا على شاطئ الفرات، فقال على‏:‏ قال رسول صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فذكر الحديث مختصرا‏.‏

قوله ‏(‏كنا جلوسا‏)‏ في رواية عبد الواحد عن الأعمش ‏"‏ كنا قعودا ‏"‏ وزاد في رواية سفيان الثوري عن الأعمش ‏"‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بقيع الغرقد - بفتح الغين المعجمة والقاف بينهما راء ساكنة - في جنازة ‏"‏ فظاهره أنهم كانوا جميعا شهدوا الجنازة، لكن أخرجه في الجنائز من طريق منصور عن سعد بن عبيدة فبين أنهم سبقوا بالجنازة وأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ولفظه ‏"‏ كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ومعه عود ينكت به في الأرض‏)‏ في رواية شعبة ‏"‏ وبيده عود فجعل ينكت به في الأرض ‏"‏ وفي رواية منصور ‏"‏ ومعه مخصرة ‏"‏ بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الصاد المهملة هي عصا أو قضيب يمسكه الرئيس ليتوكأ عليه ويدفع به عنه ويشير به لما يريد، وسميت بذلك لأنها تحمل تحت الخصر غالبا للاتكاء عليها، وفي اللغة اختصر الرجل إذا أمسك المخصرة‏.‏

قوله ‏(‏فنكس‏)‏ بتشديد الكاف أي أطرق‏.‏

قوله ‏(‏فقال ما منكم من أحد‏)‏ زاد في رواية منصور ‏"‏ ما من نفس منفوسة ‏"‏ أي مصنوعة مخلوقة، واقتصر في رواية أبي حمزة والثوري على الأول‏.‏

قوله ‏(‏إلا قد كتب مقعده من النار أو من الجنة‏)‏ أو للتنويع، ووقع في رواية سفيان ما قد يشعر بأنها بمعنى في الواو ولفظه ‏"‏ إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار ‏"‏ وكأنه يشير إلى ما تقدم من حديث ابن عمر الدال على أن لكل أحد مقعدين‏.‏

وفي رواية منصور ‏"‏ إلا كتب مكانها من الجنة والنار ‏"‏ وزاد فيها ‏"‏ وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة ‏"‏ وإعادة ‏"‏ إلا ‏"‏ يحتمل أن يكون ‏"‏ ما من نفس ‏"‏ بدل ‏"‏ ما منكم ‏"‏ ‏"‏ وإلا ‏"‏ الثانية بدلا من الأولى وأن يكون من باب اللف والنشر فيكون فيه تعميم بعد تخصيص والثاني في كل منهما أعم من الأول أشار إليه الكرماني‏.‏

قوله ‏(‏فقال رجل من القوم‏)‏ في رواية سفيان وشعبة ‏"‏ فقالوا يا رسول الله ‏"‏ وهذا الرجل وقع في حديث جابر عند مسلم أنه سراقة بن مالك بن جعشم ولفظه ‏"‏ جاء سراقة فقال يا رسول الله أنعمل اليوم فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أو فيما يستقبل‏؟‏ قال‏:‏ بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير‏.‏

فقال‏:‏ ففيم العمل‏؟‏ قال‏:‏ اعملوا فكل ميسر لما خلق له ‏"‏ وأخرجه الطبراني وابن مردويه نحوه وزاد‏:‏ وقرأ ‏(‏فأما من أعطى - إلى قوله - العسرى‏)‏ وأخرجه ابن ماجه من حديث سراقة نفسه لكن دون تلاوة الآية‏.‏

ووقع هذا السؤال وجوابه سوى تلاوة الآية لشريح بن عامر الكلابي أخرجه أحمد والطبراني ولفظه ‏"‏ قال‏:‏ ففيم العمل إذا‏؟‏ قال‏:‏ اعملوا فكل ميسر لما خلق له ‏"‏ وأخرج الترمذي من حديث ابن عمر قال ‏"‏ قال عمر‏:‏ يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو أمر قد فرغ منه‏؟‏ قال‏:‏ فيما قد فرغ منه ‏"‏ فذكر نحوه‏.‏

وأخرج البزار والفريابي من حديث أبي هريرة ‏"‏ إن عمر قال‏:‏ يا رسول الله ‏"‏ فذكره‏.‏

وأخرجه أحمد والبزار والطبراني من حديث أبي بكر الصديق ‏"‏ قلت يا رسول الله نعمل على ما فرغ منه ‏"‏ الحديث نحوه، ووقع في حديث سعد بن أبي وقاص ‏"‏ فقال رجل من الأنصار ‏"‏ والجمع بينها تعدد السائلين عن ذلك، فقد وقع في حديث عبد الله بن عمرو أن السائل عن ذلك جماعة ولفظه ‏"‏ فقال أصحابه‏:‏ ففيم العمل إن كان قد فرغ منه‏؟‏ فقال‏:‏ سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل ‏"‏ الحديث أخرجه الفريابي‏.‏

قوله ‏(‏ألا نتكل يا رسول الله‏)‏ في رواية سفيان ‏"‏ أفلا ‏"‏ والفاء معقبة لشيء محذوف تقديره أفإذا كان كذلك أفلا نتكل، وزاد في رواية منصور وكذا في رواية شعبة ‏"‏ أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل ‏"‏ أي نعتمد على ما قدر علينا، وزاد في رواية منصور ‏"‏ فمن كان منا من أهل السعادة فيصير إلى عمل السعادة ومن كان منا من أهل الشقاوة ‏"‏ مثله‏.‏

قوله ‏(‏اعملوا فكل ميسر‏)‏ زاد شعبة ‏"‏ لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل السعادة ‏"‏ الحديث‏.‏

وفي رواية منصور قال ‏"‏ أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ‏"‏ الحديث‏.‏

وحاصل السؤال‏:‏ ألا نترك مشقة العمل فإنا سنصير إلى ما قدر علينا، وحاصل الجواب‏:‏ لا مشقة لأن كل أحد ميسر لما خلق له، وهو يسير على من يسره الله‏.‏

قال الطيبي‏:‏ الجواب من الأسلوب الحكيم، منعهم عن ترك العمل وأمرهم بالتزام ما يجب على العبد من العبودية، وزجرهم عن التصرف في الأمور المغيبة فلا يجعلوا العبادة وتركها سببا مستقلا لدخول الجنة والنار بل هي علامات فقط‏.‏

قوله ‏(‏ثم قرأ‏:‏ فأما من أعطى واتقى الآية‏)‏ وساق في رواية سفيان ووكيع الآيات إلى قوله ‏(‏العسرى‏)‏ ووقع في حديث ابن عباس عند الطبراني نحو حديث عمر وفي آخره ‏"‏ قال اعمل فكل ميسر ‏"‏ وفي آخره عند البزار ‏"‏ فقال القوم بعضهم لبعض‏:‏ فالجد إذا ‏"‏ وأخرجه الطبراني في آخر حديث سراقة ولفظه ‏"‏ فقال يا رسول الله ففيم العمل‏؟‏ قال كل ميسر لعمله، قال‏:‏ الآن الجد الآن الجد ‏"‏ وفي آخر حديث عمر عند الفريابي ‏"‏ فقال عمر ففيم العمل إذا‏؟‏ قال‏:‏ كل لا ينال إلا بالعمل، قال عمر‏:‏ إذا نجتهد ‏"‏ وأخرج الفريابي بسند صحيح إلى بشير بن كعب أحد كبار التابعين قال ‏"‏ سأل غلامان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيم العمل‏:‏ فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم شيء نستأنفه‏؟‏ قال‏:‏ بل فيما جفت به الأقلام، قالا‏:‏ ففيم العمل‏؟‏ قال‏:‏ اعملوا فكل ميسر لما هو عامل، قالا‏:‏ فالجد الآن ‏"‏ وفي الحديث جواز القعود عند القبور والتحدث عندها بالعلم والموعظة‏.‏

وقال المهلب‏:‏ نكته الأرض بالمخصرة أصل في تحريك الأصبع في التشهد نقله ابن بطال، وهو بعيد، وإنما هي عادة لمن يتفكر في شيء يستحضر معانيه، فيحتمل أن يكون ذلك تفكرا منه صلى الله عليه وسلم في أمر الآخرة بقرينة حضور الجنازة، ويحتمل أن يكون فيما أبداه بعد ذلك لأصحابه من الحكم المذكورة، ومناسبته للقصة أن فيه إشارة إلى التسلية عن الميت بأنه مات بفراغ أجله‏.‏

وهذا الحديث أصل لأهل السنة في أن السعادة والشقاء بتقدير الله القديم، وفيه رد على الجبرية لأن التيسير ضد الجبر لأن الجبر لا يكون إلا عن كره ولا يأتي الإنسان الشيء بطريق التيسير إلا وهو غير كاره له‏.‏

واستدل به على إمكان معرفة الشقي من السعيد في الدنيا كمن اشتهر له لسان صدق وعكسه لأن العمل أمارة على الجزاء على ظاهر هذا الخبر، ورد بما تقدم في حديث ابن مسعود، وأن هذا العمل الظاهر قد ينقلب لعكسه على وفق ما قدر، والحق أن العمل علامة وأمارة، فيحكم بظاهر الأمر وأمر الباطن إلى الله تعالى‏.‏

قال الخطابي‏:‏ لما أخبر صلى الله عليه وسلم عن سبق الكائنات رام من تمسك بالقدر أن يتخذه حجة في ترك العمل فأعلمهم أن هنا أمرين لا يبطل أحدهما بالآخر‏:‏ باطن وهو العلة الموجبة في حكم الربوبية، وظاهر وهو العلامة اللازمة في حق العبودية، وإنما هي أمارة مخيلة في مطالعة علم العواقب غير مفيدة حقيقة، فبين لهم أن كلا ميسر لما خلق له، وأن عمله في العاجل دليل على مصيره في الآجل، ولذلك مثل بالآيات‏.‏

ونظير ذلك الرزق مع الأمر بالكسب، والأجل مع الإذن في المعالجة‏.‏

وقال في موضع آخر‏:‏ هذا الحديث إذا تأملته وجدت فيه الشفاء مما يتخالج في الضمير من أمر القدر، وذلك أن القائل ‏"‏ أفلا نتكل وندع العمل ‏"‏ لم يدع شيئا مما يدخل في أبواب المطالبات والأسئلة إلا وقد طالب به وسأل عنه، فأعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القياس في هذا الباب متروك والمطالبة ساقطة، وأنه لا يشبه الأمور التي عقلت معانيها وجرت معاملة البشر فيما بينهم عليها، بل طوى الله علم الغيب عن خلقه وحجبهم عن دركه كما أخفى عنهم أمر الساعة فلا يعلم أحد متى حين قيامها انتهى‏.‏

وقد تقدم كلام ابن السمعاني في نحو ذلك في أول كتاب القدر‏.‏

وقال غيره‏:‏ وجه الانفصال عن شبهة القدرية أن الله أمرنا بالعمل فوجب علينا الامتثال، وغيب عنا المقادير لقيام الحجة، ونصب الأعمال علامة على ما سبق مشيئته‏.‏

فمن عدل عنه ضل وتاه لأن القدر سر من أسرار الله لا يطلع عليه إلا هو، فإذا أدخل أهل الجنة الجنة كشف لهم عنه حينئذ‏.‏

وفي أحاديث هذا الباب أن أفعال العباد وإن صدرت عنهم لكنها قد سبق علم الله بوقوعها بتقديره، ففيها بطلان قول القدرية صريحا، والله أعلم‏.‏

*3*باب الْعَمَلُ بِالْخَوَاتِيمِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب العمل بالخواتيم‏)‏ لما كان ظاهر حديث على يقتضي اعتبار العمل الظاهر أردفه بهذه الترجمة الدالة على أن الاعتبار بالخاتمة، وذكر فيه قصة الذي نحر نفسه في القتال من حديث أبي هريرة ومن حديث سهل ابن سعد، وقد تقدم شرحهما في غزوة خيبر من كتاب المغازي، وذكرت هناك الاختلاف في اسم المذكور، وهل القصتان متغايرتان في موطنين لرجلين أو هما قصة واحدة، وقوله في آخر حديث أبي هريرة ‏"‏ وإنما الأعمال بالخواتيم ‏"‏ وقع في حديث أنس عند الترمذي وصححه ‏"‏ إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله، قيل‏:‏ كيف يستعمله‏؟‏ قال‏:‏ يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه ‏"‏ وأخرجه أحمد من هذا الوجه مطولا وأوله ‏"‏ لا تعجبوا لعمل عامل حتى تنظروا بم يختم له ‏"‏ فذكر نحو حديث ابن مسعود وأخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة مختصرا‏.‏

وأخرج البزار من حديث ابن عمر حديثا فيه ذكر الكتابين وفي آخره ‏"‏ العمل بخواتيمه العمل بخواتيمه‏"‏‏.‏

*3*باب إِلْقَاءِ النَّذْرِ الْعَبْدَ إِلَى الْقَدَرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إلقاء العبد النذر إلى القدر‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ إلقاء النذر العبد ‏"‏ وفي الأول النذر بالرفع وهو الفاعل والإلقاء مضاف إلى المفعول وهو العبد وفي الثانية العبد بالنصب وهو المفعول والإلقاء مضاف إلى الفاعل وهو النذر، وسيأتي في ‏"‏ باب الوفاء بالنذر ‏"‏ من وجه آخر عن أبي هريرة على وفق رواية الكشميهني وذكر فيه حديث ابن عمر وأبي هريرة في ذلك وسيأتيان في ‏"‏ باب الوفاء بالنذر ‏"‏ من كتاب الأيمان والنذور مع شرحهما، فأما حديث أبي هريرة فهو صريح في الترجمة لكن لفظه ‏"‏ ولكن يلقيه القدر ‏"‏ كذا للأكثر وللكشميهني ‏"‏ يلقيه النذر ‏"‏ بنون ثم ذال معجمة‏.‏

وقد اعترض بعض شيوخنا على البخاري فقال‏:‏ ليس في واحد من اللفظين المرويين عنه في الترجمة مطابقة للحديث، والمطابق، أن يقول إلقاء القدر العبد إلى النذر بتقديم القدر بالقاف على النذر بالنون، لأن لفظ الخبر ‏"‏ يلقيه القدر ‏"‏ بالقاف، كذا قال، وكأنه لم يشعر برواية الكشميهني في متن الحديث، ثم ادعى أن الترجمة مع عدم مطابقتها للخبر ليس المعنى فيها صحيحا انتهى‏.‏

وما نفاه مردود، بل المعنى بين لمن له أدنى تأمل، وكأنه استبعد نسبة الإلقاء إلى النذر، وجوابه أن النسبة مجازية، وسوغ ذلك كونه سببا إلى الإلقاء فنسب الإلقاء إليه، وأيضا فهما متلازمان‏.‏

قال الكرماني الظاهر أن الترجمة مقلوبة إذ القدر هو الذي يلقى إلى النذر لقوله في الخبر ‏"‏ يلقيه القدر ‏"‏ والجواب أنهما صادقان إذ الذي يلقى في الحقيقة هو القدر وهو الموصل وبالظاهر هو النذر، قال وكان الأولى أن يقول‏:‏ يلقيه القدر إلى النذر ليطابق الحديث، إلا أن يقال إنهما متلازمان، وكأنه أيضا ما نظر إلى رواية الكشميهني، وأيضا فقد جرت عادة البخاري أنه يترجم بما ورد في بعض طرق الحديث وإن لم يسق ذلك اللفظ بعينه ليبعث ذلك الناظر في كتابه على تتبع الطرق وليقدح الفكر في التطبيق ولغير ذلك من المقاصد التي فاق بها غيره من المصنفين كما تقرر غير مرة‏.‏

وأما حديث ابن عمر فهو بلفظ ‏"‏ أنه - أي النذر - لا يرد شيئا ‏"‏ وهو يعطى معنى الرواية الأخرى، وقوله هنا ‏"‏ منصور ‏"‏ هو ابن المعتمر عن عبد الله بن مرة يأتي في الباب المذكور بلفظ ‏"‏ أخبرنا عبد الله بن مرة ‏"‏ وهو الهمداني بسكون الميم الخارفي بمعجمة وراء مكسورة ثم فاء تابعي كبير، ولهم كوفي شيخ آخر في طبقته يقال له عبد الله بن مرة الزوفي بزاي وواو ساكنة ثم فاء مصري، ويقال له عبد الله بن أبي مرة وهو بها أشهر‏.‏

*3*باب لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب‏)‏ بالتنوين ‏(‏لا حول ولا قوة إلا بالله‏)‏ ترجم في أواخر الدعوات ‏"‏ باب قول لا حول ‏"‏ بالإضافة واقتصر هنا على لفظ الخبر واستغنى به لظهوره في أبواب القدر، لأن معنى لا حول لا تحويل للعبد عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة له على طاعة الله إلا بتوفيق الله، وقيل معنى لا حول لا حيلة‏.‏

وقال النووي‏:‏ هي كلمة استسلام وتفويض وأن العبد لا يملك من أمره شيئا وليس له حيلة في دفع شر ولا قوة في جلب خير إلا بإرادة الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ فَجَعَلْنَا لَا نَصْعَدُ شَرَفًا وَلَا نَعْلُو شَرَفًا وَلَا نَهْبِطُ فِي وَادٍ إِلَّا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا بِالتَّكْبِيرِ قَالَ فَدَنَا مِنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا ثُمَّ قَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً هِيَ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ

الشرح‏:‏

حديث أبي موسى وقد تقدم في الدعوات بهذا الإسناد بعينه لكن فيه سليمان التيمي بدل خالد الحذاء المذكور هنا، وهو محمول على أن لعبد الله وهو ابن المبارك فيه شيخين، وقد أخرجه النسائي من رواية سويد ابن نصر عن ابن المبارك عن خالد الحذاء‏.‏

قوله ‏(‏كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة‏)‏ تقدم في غزوة خيبر من كتاب المغازي بيان أنها غزوة خيبر‏.‏

قوله ‏(‏إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير‏)‏ في رواية سليمان التيمي المذكورة ‏"‏ فلما علا عليها رجل نادى فرفع صوته لا إله إلا الله والله أكبر ‏"‏ لم أقف على اسم هذا الرجل، ويجمع بأن الكل كبروا وزاد هذا عليهم بالتهليل، وتقدم في رواية عبد الواحد ما يدل على أن المراد بالتكبير قول لا إله إلا الله والله أكبر‏.‏

قوله ‏(‏اربعوا‏)‏ بفتح الموحدة أي ارفقوا، وقد تقدم بيانه في أوائل الدعاء، قال يعقوب بن السكيت‏:‏ ربع الرجل يربع إذا رفق وكف، وكذا بقية ألفاظه‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ كان عليه السلام معلما لأمته فلا يراهم على حالة من الخير إلا أحب لهم الزيادة، فأحب للذين رفعوا أصواتهم بكلمة الإخلاص والتكبير أن يضيفوا إليها التبري من الحول والقوة فيجمعوا بين التوحيد والإيمان بالقدر، وقد جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏ إذا قال العبد لا حول ولا قوة إلا بالله قال الله أسلم عبدي واستسلم‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ أخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة بسند قوى‏.‏

وفي رواية له ‏"‏ قال لي يا أبا هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة‏؟‏ قلت‏:‏ بلى يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ تقول لا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

فيقول الله أسلم عبدي واستسلم ‏"‏ وزاد في رواية له ‏"‏ ولا منجا ولا ملجأ من الله إلا إليه ‏"‏ قوله ‏(‏من كنوز الجنة‏)‏ تقدم القول فيه، وحاصله أن المراد أنها من ذخائر الجنة أو محصلات نفائس الجنة، قال النووي‏:‏ المعنى أن قولها يحصل ثوابا نفيسا يدخر لصاحبه في الجنة‏.‏

وأخرج أحمد والترمذي وصححه ابن حبان عن أيوب ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به مر على إبراهيم على نبينا و عليه الصلاة والسلام فقال‏:‏ يا محمد مر أمتك أن يكثروا من غراس الجنة، قال‏:‏ وما غراس الجنة‏؟‏ قال‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏لا تدعون‏)‏ كذا أطلق على التكبير ونحوه دعاء من جهة أنه بمعنى النداء لكون الذاكر يريد إسماع من ذكره والشهادة له‏.‏

*3*باب الْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ عَاصِمٌ مَانِعٌ

قَالَ مُجَاهِدٌ سَدًّا عَنْ الْحَقِّ يَتَرَدَّدُونَ فِي الضَّلَالَةِ دَسَّاهَا أَغْوَاهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب‏)‏ بالتنوين ‏(‏المعصوم من عصم الله‏)‏ أي من عصمه الله بأن حماه من الوقوع في الهلاك أو ما يجر إليه يقال عصمه الله من المكروه وقاه وحفظه واعتصمت بالله لجأت إليه وعصمة الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام حفظهم من النقائص وتخصيصهم بالكمالات النفيسة والنصرة والثبات في الأمور وإنزال السكينة، والفرق بينهم وبين غيرهم أن العصمة في حقهم بطريق الوجوب وفي حق غيرهم بطريق الجواز‏.‏

قوله ‏(‏عاصم مانع‏)‏ يريد تفسير قوله تعالى في قصة نوح وابنه ‏(‏قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء، قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم‏)‏ وبذلك فسره عكرمة فيما أخرجه الطبري من طريق الحكم بن أبان عنه‏.‏

وقال الراغب المعنى بقوله ‏(‏لا عاصم اليوم‏)‏ أي لا شيء يعصم منه، وفسره بعضهم بمعصوم، ولم يرد أن العاصم بمعنى المعصوم وإنما نبه على أنهما متلازمان فأيهما حصل حصل الآخر‏.‏

قوله ‏(‏قال مجاهد سدا عن الحق يترددون في الضلالة‏)‏ كذا للأكثر سدا بتشديد الدال بعدها ألف، وصله ابن أبي حاتم من طريق ورقاء عن ابن نجيح عنه في قوله تعالى ‏(‏وجعلنا من بين أيديهم سدا‏)‏ قال عن الحق، ووصله عبد بن حميد من طريق شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله ‏(‏سدا‏)‏ قال‏:‏ عن الحق وقد يترددون، ورأيته في بعض نسخ البخاري ‏"‏ سدى ‏"‏ بتخفيف الدال مقصورة وعليها شرح الكرماني فزعم أنه وقع هنا ‏(‏أيحسب الإنسان أن يترك سدى‏)‏ أي مهملا مترددا في الضلالة، ولم أر في شيء من نسخ البخاري إلا اللفظ الذي أوردته ‏"‏ قال مجاهد سدا إلخ ‏"‏ ولم أر في شيء من التفاسير التي تساق بالأسانيد لمجاهد في قوله ‏(‏أيحسب الإنسان أن يترك سدي‏)‏ كلاما، ولم أر قوله ‏"‏ في الضلالة ‏"‏ في شيء من النقول بالسند عن مجاهد، ووقع في رواية النسفي لضلالة بدل قوله في الضلالة‏.‏

قوله ‏(‏دساها أغواها‏)‏ قال الفريابي‏:‏ حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى ‏(‏وقد خاب من دساها‏)‏ قال‏:‏ من أغواها‏.‏

وأخرج الطبري بسند صحيح عن حبيب بن أبي ثابت عن مجاهد وسعيد بن جبير في قوله ‏(‏دساها‏)‏ قال‏:‏ قال أحدهما أغواها وقال الآخر أضلها‏.‏

وقال أبو عبيدة دساها أصله دسست، لكن العرب تقلب الحرف المضاعف إلى الياء مثل تظننت من الظن فتقول تظنيت بالتحتانية بعد النون‏.‏

ومناسبة هذا التفسير للترجمة تؤخذ من المراد بفاعل دساها فقال قوم‏:‏ هو الله أي قد أفلح صاحب النفس التي زكاها الله وخاب صاحب النفس التي أغواها الله‏.‏

وقال آخرون‏:‏ هو صاحب النفس إذا فعل الطاعات فقد زكاها وإذا فعل المعاصي فقد أغواها، والأول هو المناسب للترجمة‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ مناسبة التفسيرين للترجمة أن من لم يعصمه الله كان سدي وكان مغوي‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلَّا لَهُ بِطَانَتَانِ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ

الشرح‏:‏

حديث أبي سعيد الخدري ‏"‏ ما استخلف من خليفة إلا وله بطانتان ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ والمعصوم من عصم الله ‏"‏ وسيأتي شرحه في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى‏.‏

والبطانة بكسر الموحدة اسم جنس يشمل الواحد والجماعة، والمراد من يطلع على باطن حال الكبير من أتباعه‏.‏

*3*باب وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا

وَقَالَ مَنْصُورُ بْنُ النُّعْمَانِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحِرْمٌ بِالْحَبَشِيَّةِ وَجَبَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب وحِرْم على قرية أهلكناها‏)‏ كذا لأبي ذر وفي رواية غيره ‏(‏وحرام‏)‏ بفتح أوله وزيادة الألف وزادوا بقية الآية والقراءتان مشهورتان‏:‏ قرأ أهل الكوفة بكسر أوله وسكون ثانيه وقرأ أهل الحجاز والبصرة والشام بفتحتين وألف وهما بمعنى كالحلال والحل، وجاء في الشواذ عن ابن عباس قراءات أخرى بفتح أوله وتثليث الراء وبالضم أشهر وبضم أوله وتشديد الراء المكسورة، قال الراغب‏:‏ في قوله تعالى ‏(‏وحرمنا عليه المراضع‏)‏ هو تحريم تسخير، وحمل بعضهم عليه قوله ‏(‏وحرام على قرية‏)‏ ‏.‏

قوله ‏(‏لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا‏)‏ كذا جمع بين بعض كل من الآيتين وهما من سورتين إشارة إلى ما ورد في تفسير ذلك، وقد أخرج الطبري من طريق يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال‏:‏ ما قال نوح ‏(‏رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا - إلى قوله - كفارا‏)‏ إلا بعد أن نزل عليه ‏(‏وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن‏)‏ ‏.‏

قلت‏:‏ ودخول ذلك في أبواب القدر ظاهر، فإنه يقتضي سبق علم الله بما يقع من عبيده‏.‏

قوله ‏(‏وقال منصور بن النعمان‏)‏ هو اليشكري بفتح التحتانية وسكون المعجمة وضم الكاف بصري سكن مرو ثم بخاري، وما له في البخاري سوى هذا الموضع، وقد زعم بعض المتأخرين أن الصواب منصور بن المعتمر والعلم عند الله‏.‏

قوله ‏(‏عن عكرمة عن ابن عباس‏:‏ وحرم بالحبشية وجب‏)‏ لم أقف على هذا التعليق موصولا، وقرأت بخط مغلطاي وتبعه شيخنا ابن الملقن وغيره فقالوا‏:‏ أخرجه أبو جعفر عن ابن قهزاد عن أبي عوانة عنه‏.‏

قلت‏:‏ ولم أقف على ذلك في تفسير أبي جعفر الطبري وإنما فيه وفي تفسير عبد بن حميد وابن أبي حاتم جميعا من طريق داود ابن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى ‏(‏وحرم على قرية أهلكناها‏)‏ قال‏:‏ وجب، ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ حرم عزم، ومن طريق عطاء عن عكرمة‏:‏ وحرم وجب بالحبشية، وبالسند الأول قال‏:‏ وقوله ‏(‏أنهم لا يرجعون‏)‏ أي لا يتوب منهم تائب، قال الطبري معناه أنهم أهلكوا بالطبع على قلوبهم فهم لا يرجعون عن الكفر، وقيل معناه يمتنع على الكفرة الهالكين أنهم لا يرجعون إلى عذاب الله، وقيل فيه أقوال أخر ليس هذا موضع استيعابها، والأول أقوى وهو مراد المصنف بالترجمة والمطابق لما ذكر معه من الآثار والحديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ وَقَالَ شَبَابَةُ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏معمر عن ابن طاوس‏)‏ هو عبد الله‏.‏

قوله ‏(‏عن ابن عباس‏:‏ ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة‏)‏ فذكر الحديث ثم قال‏:‏ وقال شبابة ‏"‏ حدثنا ورقاء هو ابن عمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فكأن طاوسا سمع القصة من ابن عباس عن أبي هريرة وكان سمع الحديث المرفوع من أبي هريرة أو سمعه من أبي هريرة بعد أن سمعه من ابن عباس، وقد أشرت إلى ذلك في أوائل كتاب الاستئذان وبينت الاختلاف في رفع الحديث ووقفه، ولم أقف على رواية شبابة هذه موصولة، وكنت قرأت بخط مغلطاي وتبعه شيخنا ابن الملقن أن الطبراني وصلها في المعجم الأوسط عن عمرو بن عثمان عن ابن المنادي عنه وقلدتهما في ذلك في تعليق التعليق ثم راجعت المعجم الأوسط فلم أجدها‏.‏

قوله ‏(‏باللمم‏)‏ بفتح اللام والميم هو ما يلم به الشخص من شهوات النفس، وقيل هو مقارفة الذنوب الصغار‏.‏

وقال الراغب‏:‏ اللمم مقارفة المعصية ويعبر به عن الصغيرة، ومحصل كلام ابن عباس تخصيصه ببعضها، ويحتمل أن يكون أراد أن ذلك من جملة اللمم أو في حكم اللمم‏.‏

قوله ‏(‏إن الله كتب على ابن آدم‏)‏ أي قدر ذلك عليه أو أمر الملك بكتابته كما تقدم بيانه في شرح حديث ابن مسعود الماضي قريبا‏.‏

قوله ‏(‏أدرك ذلك لا محالة‏)‏ بفتح الميم أي لا بد له من عمل ما قدر عليه أنه يعمله، وبهذا تظهر مطابقة الحديث للترجمة‏.‏

قال ابن بطال كل ما كتبه الله على الآدمي فهو قد سبق في علم الله وإلا فلا بد أن يدركه المكتوب عليه، وإن الإنسان لا يستطيع أن يدفع ذلك عن نفسه إلا أنه يلام إذا واقع ما نهى عنه بحجب ذلك عنه وتمكينه من التمسك بالطاعة، فبذلك يندفع قول القدرية والمجبرة‏.‏

ويؤيده قوله ‏"‏ والنفس تمني وتشتهي ‏"‏ لأن المشتهي بخلاف الملجأ‏.‏

قوله ‏(‏حظه من الزنا‏)‏ إطلاق الزنا على اللمس والنظر وغيرهما بطريق المجاز لأن كل ذلك من مقدماته‏.‏

قوله ‏(‏فزنا العين النظر‏)‏ أي إلى ما لا يحل للناظر ‏(‏وزنا اللسان المنطق‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ النطق ‏"‏ بضم النون بغير ميم في أوله‏.‏

قوله ‏(‏والنفس تمنى‏)‏ بفتح أوله على حذف إحدى التاءين والأصل تتمنى‏.‏

قوله ‏(‏والفرج يصدق ذلك أو يكذبه‏)‏ يشير إلى أن التصديق هو الحكم بمطابقة الخبر للواقع والتكذيب عكسه، فكان الفرج هو الموقع أو الواقع فيكون تشبيها، ويحتمل أن يريد أن الإيقاع يستلزم الحكم بها عادة فيكون كناية‏.‏

قال الخطابي‏:‏ المراد باللمم ما ذكره الله في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم‏)‏ وهو المعفو عنه‏.‏

وقال في الآية الأخرى‏:‏ ‏(‏إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم‏)‏ فيؤخذ من الآيتين أن اللمم من الصغائر وأنه يكفر باجتناب الكبائر، وقد تقدم بيان ذلك في الكلام على حديث‏:‏ ‏"‏ من هم بحسنة ومن هم بسيئة ‏"‏ في وسط كتاب الرقاق‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ تفضل الله على عباده بغفران اللمم إذا لم يكن للفرج تصديق بها فإذا صدقها الفرج كان ذلك كبيرة‏.‏

ونقل الفراء أن بعضهم زعم أن ‏"‏ إلا ‏"‏ في قوله‏:‏ ‏(‏إلا اللمم‏)‏ بمعنى الواو، وأنكره وقال‏:‏ إلا صغائر الذنوب فإنها تكفر باجتناب كبارها، إنما أطلق عليها زنا لأنها من دواعيه، فهو من إطلاق اسم المسبب على السبب مجازا‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏"‏ والنفس تشتهي والفرج يصدق أو يكذب ‏"‏ ما يستدل به على أن العبد لا يخلق فعل نفسه لأنه قد يريد الزنا مثلا ويشتهيه فلا يطاوعه العضو الذي يريد أن يزني به ويعجزه الحيلة فيه ولا يدري لذلك سببا، ولو كان خالقا لفعله لما عجز عن فعل ما يريده مع وجود الطواعية واستحكام الشهوة فدل على أن ذلك فعل مقدر يقدرها إذا شاء ويعطلها إذا شاء‏.‏

*3*باب وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس‏)‏ ذكر فيه حديث ابن عباس

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قَالَ هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ قَالَ هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس قد تقدم في تفسير سورة سبحان مستوفي، ووجه دخوله في أبواب القدر من ذكر الفتنة، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي جعلها وقد قال موسى عليه السلام ‏(‏إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء‏)‏ وأصل الفتنة الاختيار، ثم استعملت فيما أخرجه الاختيار إلى المكروه، ثم استعملت في المكروه‏:‏ فتارة في الكفر كقوله ‏(‏والفتنة أشد من القتل‏)‏ وتارة في الإثم كقوله ‏(‏ألا في الفتنة سقطوا‏)‏ وتارة في الإحراق كقوله ‏(‏إن الذين فتنوا المؤمنين‏)‏ وتارة في الإزالة عن الشيء كقوله ‏(‏وإن كادوا ليفتنونك‏)‏ وتارة في غير ذلك، والمراد بها في هذا الموضع الاختبار على بابها الأصلي والله أعلم‏.‏

قال ابن التين‏:‏ وجه دخول هذا الحديث في كتاب القدر الإشارة إلى أن الله قدر على المشركين التكذيب لرؤيا نبيه الصادق فكان ذلك زيادة في طغيانهم حيث قالوا‏:‏ كيف يسير إلى بيت المقدس في ليلة واحدة ثم يرجع فيها‏؟‏ وكذلك جعل الشجرة الملعونة زيادة في طغيانهم حيث قالوا كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر‏؟‏ وفيه خلق الله الكفر ودواعي الكفر من الفتنة، وسيأتي زيادة في تقرير ذلك في الكلام على خلق أفعال العباد في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى‏.‏

والجواب عن شبهتهم أن الله خلق الشجرة المذكورة من جوهر لا تأكله النار ومنها سلاسل أهل النار، وأغلالهم وخزنة النار من الملائكة وحياتها وعقاربها، وليس ذلك من جنس ما في الدنيا، وأكثر ما وقع الغلط لمن قاس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا، والله تعالى الموفق‏.‏

قال سفيان‏:‏ حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله‏.‏

*3*باب تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى عِنْدَ اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب تحاج آدم وموسى عند الله‏)‏ أما ‏"‏ تحاج ‏"‏ فهو بفتح أوله وتشديد آخره وأصله تحاجج بجيمين، لفظ قوله ‏"‏ عند الله ‏"‏ فزعم ببعض شيوخنا أنه أراد أن ذلك يقع منهما يوم القيامة، ثم رده بما وقع في بعض طرقه وذلك فيما أخرجه أبو داود من حديث عمر قال ‏"‏ قال موسى يا رب أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فأراه الله آدم فقال‏:‏ أنت أبونا ‏"‏ الحديث، قال‏:‏ وهذا ظاهره أنه وقع في الدنيا، انتهى‏.‏

وفيه نظر فليس قول البخاري ‏"‏ عند الله ‏"‏ صريحا في أن ذلك يقع يوم القيامة فإن العندية عندية اختصاص وتشريف لا عندية مكان، فيحتمل وقوع ذلك في كل من الدارين، وقد وردت العندية في القيامة بقوله تعالى ‏(‏في مقعد صدق عند مليك مقتدر ‏"‏ وفي الدنيا بقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ‏"‏ وقد بينت في كتاب الصيام أنه بهذا اللفظ في مسند أحمد بسند في صحيح مسلم لكن لم يسق لفظ المتن‏.‏

والذي ظهر لي أن البخاري لمح في الترجمة بما وقع في بعض طرق الحديث وهو ما أخرجه أحمد من طريق يزيد بن هرمز عن أبي هريرة بلفظ‏:‏ ‏"‏ احتج آدم وموسى عند ربهما ‏"‏ الحديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنْ الْجَنَّةِ قَالَ لَهُ آدَمُ يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ثَلَاثًا قَالَ سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏سفيان‏)‏ هو ابن عيينة‏.‏

قوله ‏(‏حفظناه من عمرو‏)‏ يعني ابن دينار، ووقع في مسند الحميدي عن سفيان ‏"‏ حدثنا عمرو بن دينار ‏"‏ وأخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق الحميدي‏.‏

قوله ‏(‏عن طاوس‏)‏ في رواية أحمد عن سفيان عن عمرو سمع طاوسا، وعند الإسماعيلي من طريق محمد بن منصور الخراز عن سفيان عن عمرو بن دينار ‏"‏ سمعت طاوسا ‏"‏ قوله في آخره ‏(‏وقال سفيان حدثنا أبو الزناد‏)‏ هو موصول عطفا على قوله‏:‏ ‏"‏ حفظناه من عمرو ‏"‏ ووقع في رواية الحميدي ‏"‏ قال وحدثنا أبو الزناد ‏"‏ بإثبات الواو وهي أظهر في المراد، وأخطأ من زعم أن هذه الطريق معلقة، وقد أخرجها الإسماعيلي منفردة بعد أن ساق طريق طاوس عن جماعة عن سفيان فقال‏:‏ ‏"‏ أخبرنيه القاسم - يعني ابن زكريا - حدثنا إسحاق بن حاتم العلاف حدثنا سفيان عن عمرو مثله سواء وزاد‏:‏ قال وحدثني سفيان عن أبي الزناد به ‏"‏ قال ابن عبد البر‏:‏ هذا الحديث ثابت بالاتفاق رواه عن أبي هريرة جماعة من التابعين، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخرى من رواية الأئمة الثقات الإثبات‏.‏

قلت‏:‏ وقع لنا من طريق عشرة عن أبي هريرة‏:‏ منهم طاوس في الصحيحين والأعرج كما ذكرته وهو عند مسلم من رواية الحارث بن أبي الذباب وعند النسائي عن عمرو بن أبي عمرو كلاهما عن الأعرج وأبو صالح السمان عند الترمذي والنسائي وابن خزيمة كلهم من طريق الأعمش عنه والنسائي أيضا من طريق القعقاع بن حكيم عنه، ومنهم أبو سلمة بن عبد الرحمن عند أحمد وأبي عوانة من رواية الزهري عنه وقيل عن الزهري عن سعيد بن المسيب وقيل عنه عن حميد بن عبد الرحمن ومن رواية أيوب بن النجار عن أبي سلمة في الصحيحين أيضا وقد تقدم في تفسير سورة طه ومن رواية محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عند ابن خزيمة وأبي عوانة وجعفر الفريابي في القدر ومن رواية يحيى بن أبي كثير عنه عند أبي عوانة، ومنهم حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة كما تقدم في قصة موسى من أحاديث الأنبياء ويأتي في التوحيد وأخرجه مسلم، ومنهم محمد بن سيرين كما مضى في تفسير طه وأخرجه مسلم، ومنهم الشعبي أخرجه أبو عوانة والنسائي، ومنهم همام بن منبه أخرجه مسلم، ومنهم عمار بن أبي عمار أخرجه أحمد، ومن رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عمر عند أبي داود وأبي عوانة وجندب بن عبد الله عند النسائي وأبو سعيد عند البزار وأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق والحارث من وجه آخر عنه، وقد أشار إلى هذه الثلاثة الترمذي‏.‏

قوله ‏(‏احتج آدم وموسى‏)‏ في رواية همام ومالك ‏"‏ تحاج ‏"‏ كما في الترجمة وهي أوضح‏.‏

وفي رواية أيوب ابن النجار ويحيى بن كثير ‏"‏ حج آدم وموسى ‏"‏ وعليها شرح الطيبي فقال‏:‏ معنى قوله حج آدم وموسى غلبه بالحجة وقوله بعد ذلك ‏"‏ قال موسى أنت آدم إلخ ‏"‏ توضيح لذلك وتفسير لما أجمل، وقوله في آخره ‏"‏ فحج آدم موسى ‏"‏ تقرير لما سبق وتأكيد له‏.‏

وفي رواية يزيد بن هرمز كما تقدمت الإشارة إليه ‏"‏ عند ربهما ‏"‏ وفي رواية محمد بن سيرين ‏"‏ التقى آدم وموسى ‏"‏ وفي رواية عمار والشعبي ‏"‏ لقي آدم موسى ‏"‏ وفي حديث عمر ‏"‏ لقي موسى آدم ‏"‏ كذا عند أبي عوانة، وأما أبو داود فلفظه كما تقدم ‏"‏ قال موسى يا رب أرني آدم ‏"‏ وقد اختلف العلماء في وقت هذا اللفظ فقيل يحتمل أنه في زمان موسى فأحيا الله له آدم معجزة له فكلمه أو كشف له عن قبره فتحدثا أو أراه الله روحه كما أرى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج أرواح الأنبياء أو أراه الله له في المنام ورؤيا الأنبياء وحي ولو كان يقع في بعضها ما يقبل التعبير كما في قصة الذبيح، أو كان ذلك بعد وفاة موسى فالتقيا في البرزخ أول ما مات موسى فالتقت أرواحهما في السماء، وبذلك جزم ابن عبد البر والقابسي، وقد وقع في حديث عمر لما قال موسى أنت آدم قال له من أنت قال أنا موسى وأن ذلك لم يقع بعد وإنما يقع في الآخرة‏:‏ والتعبير عنه في الحديث بلفظ الماضي لتحقق وقوعه‏.‏

وذكر ابن الجوزي احتمال التقائهما في البرزخ واحتمال أن يكون ذلك ضرب مثل والمعنى لو اجتمعا لقالا ذلك، وخص موسى بالذكر لكونه أول نبي بعث بالتكاليف الشديدة، قال‏:‏ وهذا وإن احتمل لكن الأول أولى، قال‏:‏ وهذا مما يجب الإيمان به لثبوته عن خبر الصادق وإن لم يطلع على كيفية الحال، وليس هو بأول ما يجب علينا الإيمان به وإن لم نقف على حقيقة معناه كعذاب القبر ونعيمه، ومتى ضاقت الحيل في كشف المشكلات لم يبق إلا التسليم‏.‏

وقال ابن عبد البر مثل هذا عندي يجب فيه التسليم ولا يوقف فيه على التحقيق لأنا لم نؤت من جنس هذا العلم إلا قليلا‏.‏

قوله ‏(‏أنت أبونا‏)‏ في رواية يحيى بن أبي كثير ‏"‏ أنت الناس ‏"‏ وكذا في حديث عمر‏.‏

وفي رواية الشعبي ‏"‏ أنت آدم أبو البشر ‏"‏ قوله ‏(‏خيبتنا وأخرجتنا من الجنة‏)‏ في رواية حميد بن عبد الرحمن ‏"‏ أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة ‏"‏ هكذا في أحاديث الأنبياء عنه، وفي التوحيد ‏"‏ أخرجت ذريتك ‏"‏ وفي رواية مالك ‏"‏ أنت الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة ‏"‏ ومثله في رواية همام وكذا في رواية أبي صالح‏.‏

وفي رواية محمد بن سيرين ‏"‏ أشقيت ‏"‏ بدل ‏"‏ أغويت ‏"‏ ومعنى أغويت كنت سببا لغواية من غوى منهم، وهو سبب بعيد إذ لو لم يقع الأكل من الشجرة لم يقع الإخراج من الجنة ولو لم يقع الإخراج ما تسلط عليهم الشهوات والشيطان المسبب عنهما الإغواء، والغي ضد الرشد وهو الانهماك في غير الطاعة، يطلق أيضا على مجرد الخطأ يقال غوى أي أخطا صواب ما أمر به‏.‏

وفي تفسير طه من رواية أبي سلمة ‏"‏ أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك ‏"‏ وعند أحمد من طريقه ‏"‏ أنت الذي أدخلت ذريتك النار ‏"‏ والقول فيه كالقول في أغويت، وزاد همام ‏"‏ إلى الأرض ‏"‏ وكذا في رواية يزيد بن هرمز ‏"‏ فأهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض ‏"‏ وأوله عنده ‏"‏ أنت الذي خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته ‏"‏ ومثله في رواية أبي صالح لكن قال ‏"‏ ونفخ فيك من روحه ‏"‏ ولم يقل ‏"‏ وأسجد لك ملائكته ‏"‏ ومثله في رواية محمد بن عمرو وزاد ‏"‏ وأسكنك جنته ‏"‏ ومثله في رواية محمد بن سيرين وزاد ‏"‏ ثم صنعت ما صنعت ‏"‏ وفي رواية عمرو بن أبي عمرو عن الأعرج ‏"‏ يا آدم خلقك الله بيده ثم نفخ فيك من روحه ثم قال لك كن فكنت ثم أمر الملائكة فسجدوا لك ثم قال لك ‏(‏اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة‏)‏ فنهاك عن شجرة واحدة فعصيت ‏"‏ وزاد الفريابي ‏"‏ وأكلت منها ‏"‏ وفي رواية عكرمة بن عمار عن أبي سلمة ‏"‏ أنت آدم الذي خلقك الله بيده ‏"‏ فأعاد الضمير في قوله خلقك إلى قوله أنت والأكثر عوده إلى الموصول، فكأنه يقول خلقه الله، ونحو ذلك ما وقع في رواية الأكثر ‏"‏ أنت الذي أخرجتك خطيئتك ‏"‏ وفي حديث عمر بعد قوله أنت آدم ‏"‏ قال نعم، قال أنت الذي نفخ الله فيك من روحه وعلمك الأسماء كلها، أمر الملائكة فسجدوا لك، قال نعم، قال فلم أخرجتنا ونفسك من الجنة ‏"‏ وفي لفظ لأبي عوانة ‏"‏ فوالله لو لا ما فعلت ما دخل أحد من ذريتك النار ‏"‏ ووقع في حديث أبي سعيد عند ابن أبي شيبة ‏"‏ فأهلكتنا وأغويتنا ‏"‏ وذكر ما شاء الله أن يذكر، من هذا وهذا يشعر بأن جميع ما ذكر في هذه الروايات محفوظ وأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وقوله ‏"‏أنت آدم ‏"‏ استفهام تقرير، وإضافة الله خلق آدم إلى يده في الآية إضافة تشريف وكذا إضافة روحه إلى الله، ومن في قوله من روحه زائدة على رأي، والنفخ بمعنى الخلق أي خلق فيك الروح، ومعنى قوله أخرجتنا كنت سببا لإخراجنا كما تقدم تقريره، وقوله أغويتنا وأهلكتنا من إطلاق الكل على البعض بخلاف أخرجتنا فهو على عمومه، ومعنى قوله أخطأت وعصيت ونحوهما فعلت خلاف ما أمرت به، وأما قوله خيبتنا بالخاء المعجمة ثم الموحدة من الخيبة فالمراد به الحرمان، وقيل هي كأغويتنا من إطلاق الكل على البعض، والمراد من يجوز منه وقوع المعصية، ولا مانع من حمله على عمومه والمعنى أنه لو استمر على ترك الأكل من الشجرة لم يخرج منها ولو استمر فيها لولد له فيها وكان ولده سكان الجنة على الدوام، فلما وقع الإخراج فات أهل الطاعة من ولده استمرار الدوام في الجنة وإن كانوا إليها ينتقلون، وفات أهل المعصية تأخر الكون في الجنة مدة الدنيا وما شاء الله من مدة العذاب في الآخرة إما مؤقتا في حق الموحدين وإما مستمرا في حق الكفار فهو حرمان نسبي‏.‏

قوله ‏(‏فقال له آدم‏:‏ يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده‏)‏ في رواية الأعرج ‏"‏ أنت موسى الذي أعطاك الله علم كل شيء واصطفاك على الناس برسالته ‏"‏ وفي رواية همام نحوه لكن بلفظ ‏"‏ اصطفاك وأعطاه ‏"‏ وزاد في رواية يزيد بن هرمز ‏"‏ وقربك نجيا وأعطاك الألواح فيها بيان كل شيء ‏"‏ وفي رواية ابن سيرين ‏"‏ اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه وأنزل عليك التوراة ‏"‏ وفي رواية أبي سلمة ‏"‏ اصطفاك الله برسالته وكلامه ‏"‏ ووقع في رواية الشعبي ‏"‏ فقال نعم ‏"‏ وفي حديث عمر ‏"‏ قال أنا موسى، قال نبي بني إسرائيل‏؟‏ قال نعم، قال أنت الذي كلمك الله من وراء حجاب ولم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه‏؟‏ قال نعم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أتلومني على أمر قدر الله علي‏)‏ كذا للسرخسي والمستملي بحذف المفعول وللباقين ‏"‏ قدره الله على‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قبل أن يخلقني بأربعين سنة‏)‏ في رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة ‏"‏ فكيف تلومني على أمر كتبه الله أو قدره الله على ‏"‏ ولم يذكر المدة وثبت ذكرها في رواية طاوس‏.‏

وفي رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة ولفظه ‏"‏ فكم تجد في التوراة أنه كتب على العمل الذي عملته قبل أن أخلق‏؟‏ قال‏:‏ بأربعين سنة‏.‏

قال‏:‏ فكيف تلومني عليه ‏"‏ وفي رواية يزيد بن هرمز نحوه وزاد ‏"‏ فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى‏؟‏ قال نعم ‏"‏ وكلام ابن عبد البر قد يوهم تفرد ابن عيينة عن أبي الزناد بزيادتها لكنه بالنسبة لأبي الزناد وإلا فقد ذكر التقييد بالأربعين غير ابن عيينة كما ترى‏.‏

وفي رواية الزهري عن أبي سلمة عند أحمد ‏"‏ فهل وجدت فيها - يعني الألواح أو التوراة - أني أهبط ‏"‏ وفي رواية الشعبي أفليس تجد فيما أنزل الله عليك أنه سيخرجني منها قبل أن يدخلنيها‏؟‏ قال بلى ‏"‏ وفي رواية عمار ابن أبي عمار ‏"‏ أنا أقدم أم الذكر‏؟‏ قال بل الذكر ‏"‏ وفي رواية عمرو بن أبي عمرو عن الأعرج ‏"‏ ألم تعلم أن الله قدر هذا على قبل أن يخلقني ‏"‏ وفي رواية ابن سيرين ‏"‏ فوجدته كتب على قبل أن يخلقني‏؟‏ قال نعم ‏"‏ وفي رواية أبي صالح ‏"‏ فتلومني في شيء كتبه الله على قبل خلقي ‏"‏ وفي حديث عمر قال ‏"‏ فلم تلومني على شيء سبق من الله تعالى فيه القضاء ‏"‏ ووقع في حديث أبي سعيد الخدري ‏"‏ أتلومني على أمر قدره على قبل أن يخلق السماوات والأرض ‏"‏ والجمع بينه وبين الرواية المقيدة بأربعين سنة حملها على ما يتعلق بالكتابة وحمل الأخرى على ما يتعلق بالعلم‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ يحتمل أن يكون المراد بالأربعين سنة ما بين قوله تعالى ‏(‏إني جاعل في الأرض خليفة‏)‏ إلى نفخ الروح في آدم، وأجاب غيره أن ابتداء المدة وقت الكتابة في الألواح وآخرها ابتداء خلق آدم‏.‏

وقال ابن الجوزي‏:‏ المعلومات كلها قد أحاط بها علم الله القديم قبل وجود المخلوقات كلها، ولكن كتابتها وقعت في أوقات متفاوتة، وقد ثبت في الصحيح يعني صحيح مسلم ‏"‏ أن الله قدر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ‏"‏ فيجوز أن تكون قصة آدم بخصوصها كتبت قبل خلقه بأربعين سنة، ويجوز أن يكون ذلك القدر مدة لبثه طينا إلى أن نفخت فيه الروح، فقد ثبت في صحيح مسلم أن بين تصويره طينا ونفخ الروح فيه كان مدة أربعين سنة، ولا يخالف ذلك كتابة المقادير عموما قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة‏.‏

وقال المازري‏:‏ الأظهر أن المراد أنه كتبه قبل خلق آدم بأربعين عاما، ويحتمل أن يكون المراد أظهره للملائكة أو فعل فعلا ما أضاف إليه هذا التاريخ وإلا فمشيئة الله وتقديره قديم، والأشبه أنه أراد بقوله ‏"‏ قدره الله على قبل أن أخلق ‏"‏ أي كتبه في التوراة لقوله في الرواية المشار إليها قبل ‏"‏ فكم وجدته كتب في التوراة قبل أن أخلق ‏"‏ وقال النووي‏:‏ المراد بتقديرها كتبه في اللوح المحفوظ أو في التوراة أو في الألواح، ولا يجوز أن يراد أصل القدر لأنه أزلي ولم يزل الله سبحانه تعالى مريدا لما يقع من خلقه‏.‏

وكان بعض شيوخنا يزعم أن المراد إظهار ذلك عند تصوير آدم طينا فإن آدم أقام في طينته أربعين سنة، والمراد على هذا بخلقه نفخ الروح فيه‏.‏

قلت‏:‏ وقد يعكر على هذا رواية الأعمش عن أبي صالح ‏"‏ كتبه الله على قبل أن يخلق السماوات والأرض ‏"‏ لكنه يحمل قوله فيه ‏"‏ كتبه الله على ‏"‏ قدره أو على تعدد الكتابة لتعدد المكتوب، والعلم عند الله تعالى‏.‏

قوله ‏(‏فحج آدم موسى، فحج آدم موسى ثلاثا‏)‏ كذا في هذه الطرق ولم يكرر في أكثر الطرق عن أبي هريرة، ففي رواية أيوب بن النجار كالذي هنا لكن بدون قوله ‏"‏ ثلاثا ‏"‏ وكذا لمسلم من رواية ابن سيرين، كذا في حديث جندب عند أبي عوانة، وثبت في حديث عمر بلفظ ‏"‏ فاحتجا إلى الله فحج آدم موسى، قالها ثلاث مرات ‏"‏ وفي رواية عمرو بن أبي عمرو عن الأعرج ‏"‏ لقد حج آدم موسى، لقد حج آدم موسى، لقد حج آدم موسى ‏"‏ وفي حديث أبي سعيد عند الحارث ‏"‏ فحج آدم موسى ثلاثا ‏"‏ وفي رواية الشعبي عند النسائي ‏"‏ فخصم آدم موسى، فخصم آدم موسى واتفق الرواة والنقلة والشراح على أن آدم بالرفع وهو الفاعل، وشذ بعض الناس فقرأه بالنصب على أنه المفعول وموسى في محل الرفع على أنه الفاعل نقله الحافظ أبو بكر بن الخاصية عن مسعود ابن ناصر السجزي الحافظ قال‏:‏ سمعته يقرأ ‏"‏ فحج آدم ‏"‏ بالنصب، قال وكان قدريا‏.‏

قلت‏:‏ هو محجوج بالاتفاق قبله على أن آدم بالرفع على أنه الفاعل، وقد أخرجه أحمد من رواية الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ فحجه آدم ‏"‏ وهذا يرفع الإشكال فإن رواته أئمة حفاظ، والزهري من كبار الفقهاء الحفاظ فروايته هي المعتمدة في ذلك، ومعني حجه غلبه بالحجة، يقال حاججت فلانا فحججته مثل خاصمته فخصمته، قال ابن عبد البر‏:‏ هذا الحديث أصل جسيم لأهل الحق في إثبات القدر وأن الله قضى أعمال العباد فكل أحد يصير لما قدر له بما سبق في علم الله، قال‏:‏ وليس فيه حجة للجبرية وإن كان في بادئ الرأي يساعدهم‏.‏

وقال الخطابي في ‏"‏ معالم السنن ‏"‏‏:‏ يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر يستلزم الجبر وقهر العبد ويتوهم أن غلبة آدم كانت من هذا الوجه، وليس كذلك وإنما معناه الأخبار عن إثبات علم الله بما يكون من أفعال العباد وصدورها عن تقدير سابق منه، فإن القدر اسم لما صدر عن فعل القادر، وإذا كان كذلك فقد نفي عنهم من وراء علم الله أفعالهم وأكسابهم ومباشرتهم تلك الأمور عن قصد وتعمد واختيار، فالحجة إنما نلزمهم بها واللائمة إنما تتوجه عليها، وجماع القول في ذلك أنهما أمران لا يبدل أحدهما عن الآخر‏:‏ أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء ونقضه وإنما جهة حجه آدم أن الله علم منهم أنه يتناول من الشجرة فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه، وإنما خلق للأرض وأنه لا يترك في الجنة بل ينقل منها إلى الأرض فكان تناوله من الشجرة سببا لإهباطه واستخلافه في الأرض كما قال تعالى قبل خلقه ‏(‏إني جاعل في الأرض خليفة‏)‏ قال فلما لامه موسى عن نفسه قال له‏:‏ أتلومني على أمر قدره الله على‏؟‏ فاللوم عليه من قبلك ساقط عني إذ ليس لأحد أن يعير أحدا بذنب كان منه، لأنه الخلق كلهم تحت العبودية سواء، وإنما يتجه اللوم من قبل الله سبحانه وتعالى إذ كان نهاه فباشر ما نهاه عنه، قال‏:‏ وقول موسى وإن كان في النفس منه شبهة وفي ظاهره تعلق لاحتجاجه بالسب لكن تعلق آدم بالقدر أرجح فلهذا غلبه‏.‏

والغلبة تقع مع المعارضة كما تقع مع البرهان انتهى ملخصا‏.‏

وقال في أعلام الحديث نحوه ملخصا وزاد‏:‏ ومعنى قوله ‏"‏ فحج آدم موسى ‏"‏ دفع حجته التي ألزمه اللوم بها‏.‏

قال‏:‏ ولم يقع من آدم إنكار لما صدر منه بل عارضه بأمر دفع به عنه اللوم‏.‏

قلت‏:‏ ولم يتلخص من كلامه مع تطويله في الموضعين دفع للشبهة إلا في دعواه أنه ليس للآدمي أن يلوم آخر مثله على فعل ما قدره الله عليه، وإنما يكون ذلك لله تعالى لأنه هو الذي أمره ونهاه‏.‏

وللمعترض أن يقول‏:‏ وما المانع إذا كان ذلك لله أن يباشره من تلقى عن الله من رسوله ومن تلقى عن رسله ممن أمر بالتبليغ عنهم‏؟‏ وقال القرطبي‏:‏ إنما غلبه بالحجة لأنه علم من التوراة أن الله تاب عليه فكان لومه له على ذلك نوع جفاء كما يقال ذكر الجفاء بعث حصول الصفاء جفاء، ولأن أثر المخالفة بعد الصفح ينمحي حتى كأنه لم يكن فلا يصادف اللوم من اللائم حينئذ محلا انتهى‏.‏

وهو محصل ما أجاب به المازري وغيره من المحققين، وهو المعتمد‏.‏

وقد أنكر القدرية هذا الحديث لأنه صريح في إثبات القدر السابق وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لآدم على الاحتجاج به وشهادته بأنه غلب موسى فقالوا‏:‏ لا يصح لأن موسى لا يلوم على أمر قد تاب منه صاحبه، وقد قتل هو نفسا لم يؤمر بقتلها، ثم قال‏:‏ رب اغفر لي، فغفر له، فكيف يلوم آدم على أمر قد غفر له‏؟‏ ثانيها لو ساغ اللوم على الذنب بالقدر الذي فرغ من كتابته على العبد لا يصح هذا لكان من عوتب على معصية قد ارتكبها فيحتج بالقدر السابق ولو ساغ ذلك لانسد باب القصاص والحدود ولاحتج به كل أحد على ما يرتكبه من الفواحش، وهذا يفضي إلى لوازم قطعية، فدل ذلك على أن هذا الحديث لا أصل له‏.‏

والجواب من أوجه‏:‏ أحدها أن آدم إنما احتج بالقدر على المعصية لا المخالفة، فإن محصل لوم موسى إنما هو على الإخراج فكأنه قال أنا لم أخرجكم وإنما أخرجكم الذي رتب الإخراج على الأكل من الشجر والذي رتب ذلك قدره قبل أن أخلق فكيف تلومني على أمر ليس لي فيه نسبة إلا الأكل من الشجرة والإخراج المرتب عليها ليس من فعلي‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الجواب لا يدفع شبهة الجبرية‏.‏

ثانيها إنما حكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم بالحجة في معنى خاص وذلك لأنه لو كانت في المعنى العام لما تقدم من الله تعالى لومه بقوله ‏(‏ألم أنهكما عن تلكما الشجرة‏)‏ ولا أخذه بذلك حتى أخرجه من الجنة وأهبطه إلى الأرض، ولكن لما أخذ موسى في لومه وقدم قوله له أنت الذي خلقك الله بيده وأنت وأنت لم فعلت كذا‏؟‏ عارضه آدم بقوله أنت الذي اصطفاك الله وأنت وأنت‏.‏

وحاصل جوابه إذا كنت بهذه المنزلة كيف يخفى عليك أنه لا محيد من القدر، وإنما وقعت الغلبة لآدم من وجهين‏:‏ أحدهما أنه ليس لمخلوق أن يلوم مخلوقا في وقوع ما قدر عليه إلا بإذن من الله تعالى فيكون الشارع هو اللائم، فلما أخذ موسى في لومه من غير أن يؤذن له في ذلك عارضه بالقدر فأسكته‏.‏

والثاني أن الذي فعله آدم اجتمع فيه القدر والكسب، والتوبة تمحو أثر الكسب، وقد كان الله تاب عليه فلم يبق إلا القدر، والقدر لا يتوجه عليه لوم لأنه فعل الله ولا يسأل عما يفعل‏.‏

ثالثها قال ابن عبد البر‏:‏ هذا عندي مخصوص بآدم لأن المناظرة بينهما وقعت بعد أن تاب الله على آدم قطعا كما قال تعالى ‏(‏فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه‏)‏ فحسن منه أن ينكر على موسى لومه على الأكل من الشجرة لأنه كان قد تيب عليه من ذلك وإلا فلا يجوز لأحد أن يقول لمن لامه على ارتكاب معصية كما لو قتل أو زنا أو سرق‏:‏ هذا سبق في علم الله وقدره علي قبل أن يخلقني فليس لك أن تلومني عليه، فإن الأمة أجمعت على جواز لوم من وقع منه ذلك بل على استحباب ذلك كما أجمعوا على استحباب محمدة من واظب على الطاعة‏.‏

قال‏:‏ وقد حكى ابن وهب في كتاب القدر عن مالك عن يحيى بن سعيد أن ذلك كان من آدم بعد أن تيب عليه‏.‏

رابعها إنما توجهت الحجة لآدم لأن موسى لامه بعد أن مات واللوم إنما يتوجه على المكلف ما دام في دار التكليف، فإن الأحكام حينئذ جارية عليهم، فيلام العاصي ويقام عليه الحد والقصاص وغير ذلك، وأما بعد أن يموت فقد ثبت النهي عن سبب الأموات ‏"‏ ولا تذكروا موتاكم إلا بخير ‏"‏ لأن مرجع أمرهم إلى الله، وقد ثبت أنه لا يثني العقوبة على من أقيم عليه الحد، بل ورد النهي عن التثريب على الأمة إذا زنت وأقيم عليها الحد، وإذا كان كذلك فلوم موسى لآدم إنما وقع بعد انتقاله عن دار التكليف، وثبت أن الله تاب عليه فسقط عنه اللوم، فلذلك عدل إلى الاحتجاج بالقدر السابق وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه غلب موسى بالحجة‏.‏

قال المازري‏:‏ لما تاب الله على آدم صار ذكر ما صدر منه إنما هو كالبحث عن السبب الذي دعاه إلى ذلك، فأخبر هو أن الأصل في ذلك القضاء السابق فلذلك غلب بالحجة‏.‏

قال الداودي فيما نقله ابن التين‏:‏ إنما قامت حجة آدم لأن الله خلقه ليجعله في الأرض خليفة، فلم يحتج آدم في أكله من الشجرة بسابق العلم لأنه كان عن اختيار منه، وإنما احتج بالقدر لخروجه لأنه لم يكن بد من ذلك‏.‏

وقيل إن آدم أب وموسى ابن وليس للابن أن يلوم أباه، حكاه القرطبي وغيره، ومنهم من عبر عنه بأن آدم أكبر منه، وتعقبه بأنه بعيد من معنى الحديث، ثم هو ليس على عمومه بل يجوز للابن أن يلوم أباه في عدة مواطن، وقيل إنما غلبه لأنهما شريعتين متغايرتين، وتعقب بأنها دعوى لا دليل عليها، ومن أين يعلم أنه كان في شريعة آدم أن المخالف يحتج بسابق القدر وفي شريعة موسى أنه لا يحتج أو أنه يتوجه له اللوم على المخالف، وفي الجملة فأصح الأجوبة الثاني والثالث، ولا تنافي بينهما فيمكن أن يمتزج منهما جواب واحد وهو أن التائب لا يلام على ما يتب عليه منه ولا سيما إذا انتقل عن دار التكليف‏.‏

وقد سلك النووي هذا المسلك فقال‏:‏ معنى كلام آدم أنك يا موسى تعلم أن هذا كتب على قبل أن أخلق فلا بد من وقوعه، ولو حرصت أنا والخلق أجمعون على رد مثقال ذر منه لم نقدر فلا تلمني فإن اللوم على المخالفة شرعي لا عقلي، وإذا تاب الله علي وغفر لي زال اللوم فمن لامني كان محجوجا بالشرع‏.‏

فإن قيل فالعاصي اليوم لو قال هذه المعصية قدرت على فينبغي أن يسقط عني اللوم قلنا الفرق أن هذا العاصي باق في دار التكليف جارية عليه الأحكام من العقوبة واللوم وفي ذلك له ولغيره زجر وعظة، فأما آدم فميت خارج عن دار التكليف مستغن عن الزجر فلم يكن للومه فائدة بل فيه إيذاء وتخجيل فلذلك كان الغلبة له‏.‏

وقال التوربشتي‏:‏ ليس معنى قوله كتبه الله علي ألزمني به وإنما معناه أثبته في أم الكتاب قبل أن يخلق آدم وحكم أن ذلك كائن‏.‏

ثم إن هذه المحاججة إنما وقعت في العالم العلوي عند ملتقى الأرواح ولم تقع في عالم الأسباب، والفرق بينهما أن عالم الأسباب لا يجوز قطع النظر فيه عن الوسائط والاكتساب، بخلاف العالم العلوي بعد انقطاع موجب الكسب وارتفاع الأحكام التكليفية، فلذلك احتج آدم بالقدر السابق‏.‏

قلت‏:‏ وهو محصل بعض الأجوبة المتقدم ذكرها، وفيه استعمال التعريض بصيغة المدح يؤخذ ذلك من قول آدم لموسى ‏"‏ أنت الذي اصطفاك الله برسالته ‏"‏ إلى آخر ما خاطبه به، وذلك أنه أشار بذلك إلى أنه اطلع على عذره وعرفه بالوحي فلو استحضر ذلك ما لامه مع وضوح عذره، وأيضا ففيه إشارة إلى شيء آخر أعم من ذلك وإن كان لموسى فيه اختصاص فكأنه قال‏:‏ لو لم يقع إخراجي الذي رتب على أكلي من الشجرة ما حصلت لك هذه المناقب لأني لو بقيت في الجنة واستمر نسلي فيها ما وجد من تجاهر بالكفر الشنيع بما جاهر به فرعون حتى أرسلت أنت إليه وأعطيت ما أعطيت، فإذا كنت أنا السبب في حصول هذه الفضائل لك فكيف يسوغ لك أن تلومني‏.‏

قال الطيبي مذهب الجبرية إثبات القدرة لله ونفيها عن العبد أصلا، ومذهب المعتزلة بخلافه، وكلاهما من الإفراط والتفريط على شفا جرف هار، والطريق المستقيم القصد، فلما كان سياق كلام موسى يؤول إلى الثاني بأن صدر الجملة بحرف الإنكار والتعجب وصرح باسم آدم ووصفه بالصفات التي كل واحدة منها مستقلة في علية عدم ارتكابه المخالفة ثم أسند الإهباط إليه ونفس الإهباط منزلة دون فكأنه قال‏:‏ ما أبعد هذا الانحطاط من تلك المناصب العالية، فأجاب آدم بما يقابلها بل أبلغ فصدر الجملة بهمزة الإنكار أيضا وصرح باسم موسى ووصفه بصفات كل واحدة مستقلة في علية عدم الإنكار عليه، ثم رتب العلم الأزلي على ذلك، ثم أتى بهمزة الإنكار بدل كلمة الاستبعاد فكأنه قال‏:‏ تجد في التوراة هذا ثم تلومني قال‏:‏ وفي هذا التقرير تنبيه على تحري قصد الأمور‏.‏

قال وختم النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بقوله ‏"‏ فحج آدم موسى ‏"‏ تنبيها على أن بعض أمته كالمعتزلة ينكرون القدر فاهتم لذلك وبالغ في الإرشاد‏.‏

قلت‏:‏ ويقرب من هذا ما تقدم في كتاب الإيمان في الرد على المرجئة بحديث ابن مسعود رفعه ‏"‏ سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ‏"‏ فلما كان المقام مقام الرد على المرجئة اكتفى به معرضا عما يقتضيه ظاهره من تقوية مذهب الخوارج المكفرين بالذنب اعتمادا على ما تقرر من دفعه في مكانه، فكذلك هنا لما كان المراد به الرد على القدرية الذين ينكرون سبق القدر اكتفى به معرضا عما يوهمه ظاهر من تقوية مذهب الجبرية لما تقرر من دفعه في مكانه والله أعلم‏.‏

وفي هذا الحديث عدة من الفوائد غير ما تقدم‏:‏ قال القاضي عياض ففيه حجة لأهل السنة في أن الجنة التي أخرج منها آدم هي جنة الخلد التي وعد المتقون ويدخلونها في الآخرة، خلافا لمن قال من المعتزلة وغيرهم إنها جنة أخرى، ومنهم من زاد على ذلك فزعم أنها كانت في الأرض، وقد سبق الكلام على ذلك في أواخر كتاب الرقاق‏.‏

وفيه إطلاق العموم وإرادة الخصوص في قوله ‏"‏ أعطاك علم كل شيء ‏"‏ والمراد به كتابه المنزل عليه وكل شيء يتعلق به؛ وليس المراد عمومه لأنه قد أقر الخضر على قوله ‏"‏ وإني على علم من علم الله لا تعلمه أنت ‏"‏ وقد مضى واضحا في تفسير سورة الكهف‏.‏

وفيه مشروعية الحجج في المناظرة لإظهار طلب الحق وإباحة التوبيخ والتعريض في أثناء الحجاج ليتوصل إلى ظهور الحجة وأن اللوم على من أيقن وعلم اشد من اللوم على من لم يحصل له ذلك‏.‏

وفيه مناظرة العالم من هو أكبر منه والابن أباه ومحل مشروعية ذلك إذا كان لإظهار الحق أو الازدياد من العلم والوقوف على حقائق الأمور‏.‏

وفيه حجة لأهل السنة في إثبات القدر وخلق أفعال العباد‏.‏

وفيه أنه يغتفر للشخص في بعض الأحوال ما لا يغتفر في بعض كحالة الغضب والأسف وخصوصا ممن طبع على حدة الخلق وشدة الغضب، فإن موسى عليه السلام لما غلبت عليه حالة الإنكار في المناظرة خاطب آدم مع كونه والده باسمه مجردا وخاطبه بأشياء لم يكن ليخاطب بها في غير تلك الحالة، ومع ذلك فأقره على ذلك وعدل إلى معارضته فيما أبداه من الحجة في دفع شبهته‏.‏

*3*باب لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى اللَّهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب لا مانع لما أعطى الله‏)‏ هذا اللفظ منتزع من معنى الحديث الذي أورده‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ اكْتُبْ إِلَيَّ مَا سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ خَلْفَ الصَّلَاةِ فَأَمْلَى عَلَيَّ الْمُغِيرَةُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ خَلْفَ الصَّلَاةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَبْدَةُ أَنَّ وَرَّادًا أَخْبَرَهُ بِهَذَا ثُمَّ وَفَدْتُ بَعْدُ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَسَمِعْتُهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ

الشرح‏:‏

الحديث طرف من حديث معاوية أخرجه مالك‏.‏

ولمح المصنف بذلك إلى أنه بعض حديث الباب كما قدمته عند شرحه في آخر صفة الصلاة، وأن معاوية استثبت المغيرة في ذلك، وقد تقدم شرح الحديث مستوفي هناك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ ولا معطي لما منعت ‏"‏ زاد فيه مسعر عن عبد الملك بن عمير عن وراد ‏"‏ ولا راد لما قضيت ‏"‏ أخرجه الطبراني بسند صحيح عنه، وذكرت لهذه الزيادة طريقا أخرى هناك، وكذا رويناها في ‏"‏ فوائد أبي سعد الكنجرودي‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وقال ابن جريج‏)‏ وصله أحمد ومسلم من طريق ابن جريج، والغرض التصريح بأن ورادا أخبر به عبدة لأنه وقع في الرواية الأولى بالعنعنة‏.‏

*3*باب مَنْ تَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنْ دَرَكِ الشَّقَاءِ وَسُوءِ الْقَضَاءِ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب من تعوذ بالله من درك الشقاء وسوء القضاء‏)‏ تقدم شرح ذلك في أوائل الدعوات‏.‏

قوله ‏(‏وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق‏)‏‏)‏ يشير بذكر الآية إلى الرد على من زعم أن العبد يخلق فعل نفسه، لأنه لو كان السوء المأمور بالاستعاذة بالله منه مخترعا لفاعله لما كان للاستعاذة بالله منه معنى، لأنه لا يصح التعوذ إلا بمن قدر على إزالة ما استعيذ به منه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وَسُوءِ الْقَضَاءِ وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة وهو يتضمن أن الله تعالى فاعل جميع ما ذكر، والمراد بسوء القضاء سوء المقضي كما تقدم تقريره مع شرح الحديث مستوفي في أوائل الدعوات‏.‏

*3*باب يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب يحول بين المرء وقلبه‏)‏ كأنه أشار إلى تفسير الحيلولة التي في الآية بالتقلب الذي في الخبر أشار إلى ذلك الراغب وقال‏:‏ المراد أنه يلقي في قلب الإنسان ما يصرفه عن مراده لحكمة تقتضي ذلك، وورد في تفسير الآية ما أخرجه ابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا‏:‏ ‏"‏ يحول بين المؤمن وبين الكفر ويحول بين الكافر وبين الهدي‏"‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَثِيرًا مِمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْلِفُ لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ

الشرح‏:‏

الحديث سيأتي شرحه في كتاب الأيمان والنذور قريبا، وقوله في السند‏:‏ ‏"‏ عن سالم ‏"‏ هو المحفوظ، وكذا قال سفيان الثوري عن موسى بن عقبة، وشذ النفيلي فقال عن ابن المبارك ‏"‏ عن موسى عن نافع ‏"‏ بدل ‏"‏ سالم ‏"‏ أخرجه أبو داود من رواية ابن داسة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ وَبِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ صَيَّادٍ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئَا قَالَ الدُّخُّ قَالَ اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ قَالَ عُمَرُ ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ قَالَ دَعْهُ إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَا تُطِيقُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ

الشرح‏:‏

الحديث مضى في أواخر الجنائز ويأتي مستوعبا في الفتن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ عبد الله ‏"‏ في حديثي الباب هو ابن المبارك، وقد ذكرت ترجمة على بن حفص في أوائل كتاب الجهاد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ وإن يكنه ‏"‏ بهاء ضمير للأكثر وكذا في ‏"‏ إن لم يكنه ‏"‏ ووقع فيهما للكشميهني بلفظ ‏"‏ إن لم يكن هو ‏"‏ بالفصل وهو المختار عند أهل العربية، وبالغ بعضهم فمنع الأول‏.‏

قال ابن بطال ما حاصله‏:‏ مناسبة حديث ابن عمر للترجمة أن الآية نص في أن الله خلق الكفر والإيمان، وأنه يحول بين قلب الكافر وبين الإيمان الذي أمره به فلا يكسبه إن لم يقدره عليه بل أقدره على ضده وهو الكفر، وكذا في المؤمن بعكسه، فتضمنت الآية أنه خالق جميع أفعال العباد خيرها وشرها وهو معنى قوله‏:‏ ‏"‏ مقلب القلوب ‏"‏ لأن معناه تقليب قلب عبده عن إيثار الإيمان إلى إيثار الكفر وعكسه، قال‏:‏ وكل فعل الله عدل فيمن أضله وخذله لأنه لم يمنعهم حقا وجب لهم عليه قال‏:‏ ومناسبة الثاني للترجمة قوله‏:‏ ‏"‏ إن يكن هو فلا تطيقه ‏"‏ يريد أنه إن كان سبق في علم الله أنه يخرج ويفعل فإنه لا يقدرك على قتل من سبق في علمه أنه سيجيء إلى أن يفعل ما يفعل، إذ لو أقدرك على ذلك لكان فيه انقلاب علمه، والله سبحانه منزه عن ذلك‏.‏

*3*باب قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا قَضَى

قَالَ مُجَاهِدٌ بِفَاتِنِينَ بِمُضِلِّينَ إِلَّا مَنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَصْلَى الْجَحِيمَ قَدَّرَ فَهَدَى قَدَّرَ الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ وَهَدَى الْأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، قضى‏)‏ فسر كتب بقضى وهو أحد معانيها، وبه جزم الطبري في تفسيرها‏.‏

وقال الراغب‏:‏ ويعبر بالكتابة عن القضاء الممضى كقوله ‏(‏لولا كتاب من الله سبق‏)‏ أي فيما قدره، ومنه ‏(‏كتب ربكم على نفسه الرحمة‏)‏ وقوله ‏(‏قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا‏)‏ يعني ما قدره وقضاه، قال‏:‏ وعبر بقوله لنا ولم يعبر بقوله علينا تنبيها على أن الذي يصيبنا نعده نعمة لا نقمة، قلت‏:‏ ويؤيد هذا الآية التي تليها حيث قال ‏(‏قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين‏)‏ وقد تقدم في تفسيره أن المراد الفتح أو الشهادة وكل منهما نعمة‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ وقد قيل إن هذه الآية وردت فيما أصاب العباد من أفعال الله التي اختص بها دون خلقه ولم يقدرهم على كسبها دون ما أصابوه مكتسبين له مختارين‏.‏

قلت‏:‏ والصواب التعميم وأن ما يصيبهم باكتسابهم واختيارهم هو مقدور لله تعالى وعن إرادته وقع، والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏قال مجاهد ‏(‏بفاتنين‏)‏ بمضلين، إلا من كتب الله أنه يصلى الجحيم‏)‏ وصله عبد بن حميد بمعناه من طريق إسرائيل عن منصور في قوله تعالى ‏(‏ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم‏)‏ قال لا يفتنون إلا من كتب عليه الضلالة، ووصله أيضا من طريق شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظه، وأخرجه الطبري من تفسير ابن عبا من رواية علي بن أبي طلحة عنه بلفظ ‏"‏ لا تضلون أنتم ولا أضل منكم إلا من قضيت عليه أنه صال الجحيم ‏"‏ ومن طريق حميد ‏"‏ سألت الحسن فقال‏:‏ ما أنتم عليه بمضلين إلا من كان في علم الله أنه سيصلى الجحيم ‏"‏ ومن طريق عمر بن عبد العزيز قال في تفسير هذه الآية ‏"‏ إنكم والآلهة التي تعبدونها لستم بالذي تفتنون عليها إلا من قضيت أنه من سيصلى الجحيم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قدر فهدى قدر الشقاء والسعادة، وهدى الأنعام لمراتعها‏)‏ وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى ‏(‏والذي قدر فهدى‏)‏ قدر للإنسان الشقوة والسعادة وهدى الأنعام لمراتعها، وتفسير مجاهد هذا للمعنى لا للفظ وهو كقوله تعالى ‏(‏ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى‏)‏ قال الراغب‏:‏ هداية الله للخلق على أربعة أضرب‏:‏ الأول العامة لكل أحد بحسب احتماله وإليها أشار بقوله ‏(‏الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى‏)‏ ، والثاني الدعاء على ألسنة الأنبياء وإليها أشار بقوله ‏(‏وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا‏)‏ والثالث التوفيق الذي يختص به من اهتدى وإليها أشار بقوله ‏(‏ومن يؤمن بالله يهد قلبه‏)‏ وقوله ‏(‏والذين اهتدوا زادهم هدى‏)‏ ، والرابع الهدايات في الآخرة إلى الجنة وإليها أشار بقوله ‏(‏وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله‏)‏ قال‏:‏ وهذه الهدايات الأربع مرتبة فإنه من لا يحصل له الأولى لا تحصل له الثانية ومن لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة ولا تحصل الرابعة إلا لمن حصلت له الثالثة ولا تحصل الثالثة إلا لمن حصلت له اللتان قبلها، وقد تحصل الأولى دون الثانية والثانية دون الثالثة، والإنسان لا يهدي أحدا إلا بالدعاء وتعريف الطرق دون بقية الأنواع المذكورة، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى ‏(‏وانك لتهدي إلى صراط مستقيم‏)‏ وإلى بقية الهدايات أشار بقوله ‏(‏إنك لا تهدي من أحببت‏)‏ ‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّاعُونِ فَقَالَ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مَا مِنْ عَبْدٍ يَكُونُ فِي بَلَدٍ يَكُونُ فِيهِ وَيَمْكُثُ فِيهِ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْبَلَدِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ

الشرح‏:‏

حديث عائشة في الطاعون وقد تقدم شرحه مستوفي في كتاب الطب، والغرض من قوله فيه‏:‏ يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ سند حديث عائشة هذا من ابتدائه إلى يحيى بن يعمر مراوزة، وقد سكن يحيى المذكور مرو مدة فلم يبق من رجال السند من ليس مروزيا إلا طرفاه البخاري وعائشة‏.‏

*3*باب وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله - لو أن الله هداني لكنت من المتقين‏)‏ كذا ذكر بعض كل من الآيتين، والهداية المذكورة أولا هي الرابعة على ما ذكر الراغب، والمذكورة ثانيا هي الثالثة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ هُوَ ابْنُ حَازِمٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا وَلَا صُمْنَا وَلَا صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا وَثَبِّتْ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا

الشرح‏:‏

حديث البراء في قوله ‏"‏ والله لولا الله ما اهتدينا ‏"‏ الأبيات وقد تقدم شرحها في غزوه الخندق، وقوله هنا ‏"‏ ولا صمنا ولا صلينا ‏"‏ كذا وقع مزحوفا، وتقدم هناك من طريق شعبة عن أبي إسحاق بلفظ ‏"‏ ولا تصدقنا ‏"‏ بدل ‏"‏ ولا صمنا ‏"‏ وبه يحصل الوزن وهو المحفوظ، والله أعلم‏.‏

‏(‏خاتمة‏)‏ ‏:‏ اشتمل كتاب القدر من الأحاديث المرفوعة على تسعة وعشرين حديثا، المعلق منها ثلاثة والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى اثنان وعشرون والخالص سبعة وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي سعيد ‏"‏ ما استخلف من خليفة ‏"‏ وحديث ابن عمر ‏"‏ لا ومقلب القلوب‏"‏‏.‏

وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين خمسة آثار‏.‏

والله أعلم‏.‏