فصل: باب صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ

وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ زِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ عَدْنٌ خُلْدٌ عَدَنْتُ بِأَرْضٍ أَقَمْتُ وَمِنْهُ الْمَعْدِنُ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ فِي مَنْبِتِ صِدْقٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب صفة الجنة والنار‏)‏ تقدم هذا في بدء الخلق في ترجمتين‏.‏

ووقع في كل منهما ‏"‏ وأنها مخلوقة ‏"‏ وأورد فيهما أحاديث في تثبيت كونهما موجودتين وأحاديث في صفتهما أعاد بعضها في هذا الباب كما سأنبه عليه‏.‏

قوله ‏(‏وقال أبو سعيد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أول طعام يأكله أهل الجنة زيادة كبد حوت‏)‏ في رواية أبي ذر ‏"‏ كبد الحوت ‏"‏ وقد تقدم هذا الحديث مطولا في ‏"‏ باب يقبض الله الأرض يوم القيامة ‏"‏ وهو مذكور هنا بالمعنى، وتقدم بلفظه في بدء الخلق لكن من حديث أنس في سؤال عبد الله بن سلام‏.‏

قوله ‏(‏عدن‏:‏ خلد، عدنت بأرض أقمت‏)‏ تقدم هذا في تفسير براءة وأنه من كلام أبي عبيدة‏.‏

وقال الراغب‏:‏ معنى قوله ‏"‏ جنات عدن ‏"‏ أي الاستقرار، وعدن بمكان كذا إذا استقر به، ومنه المعدن لكونه مستقر الجواهر‏.‏

قوله ‏(‏في مقعد صدق‏:‏ في منبت صدق‏)‏ كذا لأبي ذر، ولغيره ‏"‏ في معدن ‏"‏ بدل ‏"‏ مقعد ‏"‏ وهو الصواب، وكأن سبب الوهم أنه لما رأى أن الكلام في صفة الجنة وأن من أوصافها مقعد صدق كما في آخر سورة القمر ظنه هنا كذلك، وقد ذكره أبو عبيدة بلفظ ‏"‏ معدن صدق ‏"‏ وأنشد للأعشى قوله‏:‏ فإن يستضيفوا إلى حلمه يضافوا إلى راجح قد عدن أي أقام واستقر، نعم قوله ‏"‏ مقعد صدق ‏"‏ معناه مكان القعود وهو يرجع إلى معنى المعدن، ولمح المصنف هنا بأسماء الجنة وهي عشرة أو تزيد‏:‏ الفردوس وهو أعلاها ودار السلام ودار الخلد ودار المقامة وجنة المأوى والنعيم والمقام الأمين وعدن ومقعد صدق والحسنى، وكلها في القرآن‏.‏

وقال تعالى ‏(‏وإن الدار الآخرة لهي الحيوان‏)‏ فعد بعضهم في أسماء الجنة دار الحيوان وفيه نظر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ عِمْرَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن أبي رجاء‏)‏ هو العطاردي وعمران هو ابن حصين، والسند كله بصريون، وقد تقدم الحديث بهذا السند في آخر ‏"‏ باب كفران العشير ‏"‏ وفي أواخر كتاب النكاح وتقدم في ‏"‏ باب فضل الفقر ‏"‏ بيان الاختلاف على أيوب عن أبي رجاء في صحابيه، وتقدم بحث ابن بطال فيما يتعلق به من فضل الفقر، وقوله اطلعت بتشديد الطاء أي أشرفت، وفي حديث أسامة بن زيد الذي بعده ‏"‏ قمت على باب الجنة ‏"‏ وظاهره أنه رأى ذلك ليلة الإسراء أو مناما، وهو غير رؤيته النار وهو في صلاة الكسوف، ووهم من وحدهما‏.‏

وقال الداودي‏:‏ رأى ذلك ليلة الإسراء أو حين خسفت الشمس، كذا قال‏.‏

قوله ‏(‏فرأيت أكثر أهلها الفقراء‏)‏ في حديث أسامة ‏"‏ فإذا عامة من دخلها المساكين ‏"‏ وكل منهما يطلق على الآخر وقوله ‏"‏ فإذا أكثر ‏"‏ في حديث أسامة ‏"‏ فإذا عامة من دخلها‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏بكفرهن‏)‏ أي بسبب كفرهن تقدم شرحه مستوفى في ‏"‏ باب كفران العشير ‏"‏ قال القرطبي إنما كان النساء أقل ساكني الجنة لما يغلب عليهن من الهوى، والميل إلى عاجل زينة الدنيا، والإعراض عن الآخرة لنقص عقلهن وسرعة انخداعهن‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَكَانَ عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينَ وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏إسماعيل‏)‏ هو المعروف بابن علية، وأبو عثمان هو النهدي، وأسامة هو ابن زيد بن حارثة الصحابي ابن الصحابي‏.‏

قوله ‏(‏أصحاب الجد‏)‏ بفتح الجيم أي الغني‏.‏

قوله ‏(‏محبوسون‏)‏ أي ممنوعون من دخول الجنة مع الفقراء من أجل المحاسبة على المال، وكأن ذلك عند القنطرة التي يتقاصون فيها بعد الجواز على الصراط‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ سقط هذا الحديث والذي قبله من كثير من النسخ ومن مستخرجي الإسماعيلي وأبي نعيم، ولا ذكر المزي في ‏"‏ الأطراف ‏"‏ طريق عثمان بن الهيثم ولا طريق مسدد في كتاب الرقاق وهما ثابتان في رواية أبي ذر عن شيوخه الثلاثة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ يُذْبَحُ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عبد الله‏)‏ هو ابن المبارك وعمر بن محمد بن زيد أي ابن عبد الله بن عمر، قوله ‏(‏إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار‏)‏ في رواية ابن وهب عن عمران بن محمد عند مسلم ‏"‏ وصار أهل النار إلى النار‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏جيء بالموت‏)‏ تقدم في تفسير سورة مريم من حديث أبي سعيد ‏"‏ يؤتي بالموت كهيئة كبش أملح ‏"‏ وذكر مقاتل والكلبي في تفسيرهما في قوله تعالى ‏(‏الذي خلق الموت والحياة‏)‏ قال‏:‏ خلق الموت في صورة كبش لا يمر على أحد إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس لا يمر على شيء إلا حيى‏.‏

قال القرطبي‏:‏ الحكمة في الإتيان بالموت هكذا الإشارة إلى أنهم حصل لهم الفداء له كما فدى ولد إبراهيم بالكبش، وفي الأملح إشارة إلى صفتي أهل الجنة والنار لأن الأملح ما فيه بياض وسواد‏.‏

قوله ‏(‏حتى يجعل بين الجنة والنار‏)‏ وقع للترمذي من حديث أبي هريرة ‏"‏ فيوقف على السور الذي بين الجنة والنار‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ثم يذبح‏)‏ لم يسم من ذبحه، ونقل القرطبي عن بعض الصوفية أن الذي يذبحه يحيى بن زكريا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى دوام الحياة، وعن بعض التصانيف أنه جبريل‏.‏

قلت‏:‏ هو في تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشامي أحد الضعفاء في آخر حديث الصور الطويل فقال فيه ‏"‏ فيحيى الله تعالى ملك الموت وجبريل وميكائيل وإسرافيل ويجعل الموت في صورة كبش أملح فيذبح جبريل ‏"‏ الكبش وهو الموت‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ثم ينادي مناد‏)‏ لم أقف على تسميته، وتقدم في الباب الذي قبله من وجه آخر عن ابن عمر بلفظ ‏"‏ ثم يقوم مؤذن بينهم ‏"‏ وفي حديث أبي سعيد بعد قوله أملح ‏"‏ فينادي مناد ‏"‏ وظاهره أن الذبح يقع بعد النداء، والذي هنا يقتضي أن النداء بعد الذبح، ولا منافاة بينهما فإن النداء الذي قبل الذبح للتنبيه على رؤية الكبش والذي بعد الذبح للتنبيه على إعدامه وأنه لا يعود‏.‏

قوله ‏(‏يا أهل الجنة لا موت‏)‏ زاد في الباب الماضي ‏"‏ خلود ‏"‏ وقع في حديث أبي سعيد ‏"‏ فينادي مناد يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون فيقول‏:‏ هل تعرقون هذا‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم، وكلهم قد رآه وعرفه ‏"‏ وذكر في أهل النار مثله، قال ‏"‏ فيذبح ثم يقول - أي المنادي - يا أهل الجنة خلود فلا موت ‏"‏ الحديث، وفي آخره ‏"‏ ثم قرأ ‏(‏وأنذرهم يوم الحسرة‏)‏ إلى آخر الآية ‏"‏ وعند الترمذي في آخر حديث أبي سعيد ‏"‏ فلو أن أحدا مات فرحا لمات أهل الجنة، ولو أن أحدا مات حزنا لمات أهل النار ‏"‏ وقوله ‏"‏ فيشرئبون ‏"‏ بفتح أوله وسكون المعجمة وفتح الراء بعدها تحتانية مهموزة ثم موحدة ثقيلة أي يمدون أعناقهم ويرفعون رءوسهم للنظر‏.‏

ووقع عند ابن ماجه وفي صحيح ابن حبان من وجه آخر عن أبي هريرة ‏"‏ فيوقف على الصراط فيقال يا أهل الجنة فيطلعون خائفين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه، ثم يقال‏:‏ يا أهل النار، فيطلعون فرحين مستبشرين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه ‏"‏ وفي آخره ‏"‏ ثم يقال للفريقين كلاهما خلود فيما تجدون لا موت فيه أبدا ‏"‏ وفي رواية الترمذي ‏"‏ فيقال لأهل الجنة وأهل النار هل تعرفون هذا‏؟‏ فيقولون‏:‏ قد عرفناه هو الموت الذي وكل بنا، فيضجع فيذبح ذبحا على السور ‏"‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ استشكل هذا الحديث لكونه يخالف صريح العقل لأن الموت عرض والعرض لا ينقلب جسما فكيف يذبح‏؟‏ فأنكرت طائفة صحة هذا الحديث ودفعته، وتأولته طائفة فقالوا‏:‏ هذا تمثيل ولا ذبح هناك حقيقة‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ بل الذبح على حقيقته والمذبوح متولي الموت وكلهم يعرفه لأنه الذي تولى قبض أرواحهم‏.‏

قلت‏:‏ وارتضى هذا بعض المتأخرين وحمل قوله ‏"‏ هو الموت الذي وكل بنا ‏"‏ على أن المراد به ملك الموت لأنه هو الذي وكل بهم في الدنيا كما قال تعالى في سورة ألم السجدة واستشهد له من حيث المعنى بأن ملك الموت لو استمر حيا لنغص عيش أهل الجنة‏.‏

وأيده بقوله في حديث الباب ‏"‏ فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم ‏"‏ وتعقب بأن الجنة لا حزن فيها البتة، وما وقع في رواية ابن حبان أنهم يطلعون خائفين إنما هو توهم لا يستقر، ولا يلزم من زيادة الفرح ثبوت الحزن، بل التعبير بالزيادة إشارة إلى أن الفرح لم يزل، كما أن أهل النار يزداد حزنهم ولم يكن عندهم فرح إلا مجرد التوهم الذي لم يستقر، وقد تقدم في ‏"‏ باب نفخ الصور ‏"‏ عند نقل الخلاف في المراد بالمستثنى في قوله تعالى ‏(‏فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله‏)‏ قول من زعم أن ملك الموت منهم‏.‏

ووقع عند علي بن معبد من حديث أنس ‏"‏ ثم يأتي ملك الموت فيقول‏:‏ رب بقيت أنت الحي القيوم الذي لا يموت وبقيت أنا، فيقول أنت خلق من خلقي فمت ثم لا تحيا، فيموت ‏"‏ وأخرج ابن أبي الدنيا من طريق محمد بن كعب القرظي قال‏:‏ بلغني أن آخر من يموت من الخلائق ملك الموت، فيقال له‏:‏ يا ملك الموت مت موتا لا تحيا بعده أبدا‏.‏

فهذا لو كان ثابتا لكان حجة في الرد على من زعم أنه الذي يذبح لكونه مات قبل ذلك موتا لا حياة بعده، لكنه لم يثبت‏.‏

وقال المازري‏:‏ الموت عندنا عرض من الأعراض، وعند المعتزلة ليس بمعنى، وعلى المذهبين لا يصح أن يكون كبشا ولا جسما، وأن المراد بهذا التمثيل والتشبيه‏.‏

ثم قال‏:‏ وقد يخلق الله تعالى هذا الجسم ثم يذبح ثم يجعل مثالا لأن الموت لا يطرأ على أهل الجنة‏.‏

وقال القرطبي في التذكرة‏:‏ الموت معنى والمعاني لا تنقلب جوهرا، وإنما يخلق الله أشخاصا من ثواب الأعمال، وكذا الموت يخلق الله كبشا يسميه الموت ويلقى في قلوب الفريقين أن هذا الموت يكون ذبحه دليلا على الخلود في الدارين‏.‏

وقال غيره‏:‏ لا مانع أن ينشئ الله من الأعراض أجسادا يجعلها مادة لها كما ثبت في صحيح مسلم في حديث ‏"‏ إن البقرة وآل عمران يجيئان كأنهما غمامتان ‏"‏ ونحو ذلك من الأحاديث‏.‏

قال القرطبي‏:‏ وفي هذه الأحاديث التصريح بأن خلود أهل النار فيها لا إلى غاية أمد، وإقامتهم فيها على الدوام بلا موت ولا حياة نافعة ولا راحة، كما قال تعالى ‏(‏لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها‏)‏ وقال تعالى ‏(‏كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها‏)‏ قال فمن زعم أنهم يخرجون منها وأنها تبقى خالية أو أنها تفنى وتزول فهو خارج عن مقتضى ما جاء به الرسول وأجمع عليه أهل السنة‏.‏

قلت‏:‏ جمع بعض المتأخرين هذه المسألة سبعة أقوال‏:‏ أحدها هذا الذي نقل فيه الإجماع، والثاني يعذبون فيها إلى أن تنقلب طبيعتهم فتصير نارية حتى يتلذذوا بها لموافقة طبعهم وهذا قول بعض من ينسب إلى التصوف من الزنادقة، والثالث يدخلها قوم ويخلفهم آخرون كما ثبت في الصحيح عن اليهود وقد أكذبهم الله تعالى بقوله ‏(‏وما هم بخارجين من النار‏)‏ ، والرابع يخرجون منها وتستمر هي على حالها، الخامس تفنى لأنها حادثة وكل حادث يفنى وهو قول الجهمية، والسادس تفنى حركاتهم البتة وهو قول أبي الهذيل العلاف من المعتزلة، والسابع يزول عذابها ويخرج أهلها منها جاء ذلك عن بعض الصحابة أخرجه عبد بن حميد في تفسيره من رواية الحسن عن عمر قوله وهو منقطع ولفظه ‏"‏ لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه ‏"‏ وعن ابن مسعود ‏"‏ ليأتين عليها زمان ليس فيها أحد ‏"‏ قال عبيد الله بن معاذ راويه‏:‏ كان أصحابنا يقولون‏:‏ يعني به الموحدين‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الأثر عن عمر لو ثبت حمل على الموحدين، وقد مال بعض المتأخرين إلى هذا القول السابع ونصره بعدة أوجه من جهة النظر، وهو مذهب رديء مردود على قائله، وقد أطنب السبكي الكبير في بيان وهائه فأجاد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ فَيَقُولُ هَلْ رَضِيتُمْ فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ فَيَقُولُ أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالُوا يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عبد الله‏)‏ هو ابن المبارك‏.‏

قوله ‏(‏عن زيد بن أسلم‏)‏ كذا في جميع الروايات عن مالك بالعنعنة‏.‏

قوله ‏(‏إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة‏:‏ يا أهل الجنة‏)‏ في رواية الحبيبي عن مالك عن الإسماعيلي ‏"‏ يطلع الله على أهل الجنة فيقول‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فيقولون‏)‏ في رواية أبي ذر عن المستملى ‏"‏ يقولون ‏"‏ بحذف الفاء‏.‏

قوله ‏(‏وسعديك‏)‏ زاد سعيد بن داود وعبد العزيز بن يحيى كلاهما عن مالك عند الدار قطني في الغرائب ‏"‏ والخير في يديك‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فيقول هل رضيتم‏)‏ في حديث جابر عند البزار وصححه ابن حبان ‏"‏ هل تشتهون شيئا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا‏)‏ في حديث جابر ‏"‏ وهل شيء أفضل مما أعطيتنا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أنا أعطيكم أفضل من ذلك‏)‏ في رواية ابن وهب عن مالك كما سيأتي في التوحيد ‏"‏ ألا أعطيكم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أحل‏)‏ بضم أوله وكسر المهملة أي أنزل‏.‏

قوله ‏(‏رضواني‏)‏ بكسر أوله وضمه، وفي حديث جابر قال ‏"‏ رضواني أكبر ‏"‏ وفيه تلميح بقوله تعالى ‏(‏ورضوان من الله أكبر‏)‏ لأن رضاه سبب كل فوز وسعادة، وكل من علم أن سيده راض عنه كان أقر لعينه وأطيب لقلبه من كل نعيم لما في ذلك من التعظيم والتكريم‏.‏

وفي هذا الحديث أن النعيم الذي حصل لأهل الجنة لا مزيد عليه‏.‏

‏(‏تنبيهان‏)‏ ‏:‏ ‏(‏الأول‏)‏ حديث أبي سعيد هذا كأنه مختصر من الحديث الطويل الماضي في تفسير سورة النساء من طريق حفص بن ميسرة والآتي في التوحيد من طريق سعيد بن أبي هلال كلاهما عن زيد بن أسلم بهذا السند في صفة الجواز على الصراط، وفيه قصة الذين يخرجون من النار، وفي آخره أنه يقال لهم نحو هذا الكلام، لكن إذا ثبت أن ذلك يقال لهؤلاء لكونهم من أهل الجنة فهو للسابقين بطريق الأولى‏.‏

‏(‏الثاني‏)‏ هذا الخطاب غير الخطاب الذي لأهل الجنة كلهم، وهو فيما أخرجه مسلم وأحمد من حديث صهيب رفعه ‏"‏ إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد‏:‏ يا أهل الجنة إن لكم موعدا عند الله يريد أن ينجزكموه ‏"‏ الحديث، وفيه ‏"‏ فيكشف الحجاب فينظرون إليه ‏"‏ وفيه ‏"‏ فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ‏"‏ وله شاهد عند ابن المبارك في الزهد من حديث أبي موسى من قوله، وأخرجه ابن أبي حاتم من حديثه مرفوعا باختصار‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ أُصِيبَ حَارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ فَجَاءَتْ أُمُّهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي فَإِنْ يَكُ فِي الْجَنَّةِ أَصْبِرْ وَأَحْتَسِبْ وَإِنْ تَكُنْ الْأُخْرَى تَرَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ وَيْحَكِ أَوَهَبِلْتِ أَوَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ وَإِنَّهُ لَفِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عبد الله بن محمد‏)‏ هو الجعفي، ومعاوية بن عمرو هو الأزدي يعرف بابن الكرماني وهو من شيوخ البخاري، وقد أخرج عنه بغير واسطة كما في كتاب الجمعة وبواسطة كالذي هنا، وقد تقدم بسنده ومتنه في ‏"‏ باب فضل من شهد بدرا ‏"‏ من كتاب المغازي‏.‏

قوله ‏(‏أصيب حارثة‏)‏ بمهملة ومثلثة هو ابن سراقة بن الحارث الأنصاري له ولأبويه صحبة، وأمه هي الربيع بالتشديد بنت النضر عمة أنس، وقد ذكرت الاختلاف في اسمها في ‏"‏ باب من أتاه سهم غرب ‏"‏ من كتاب الجهاد، وذكرت شرح الحديث في غزوة بدر، وقولها هنا ‏"‏ وإن تكن الأخرى تر ما أصنع ‏"‏ كذا للكشميهني بالجزم جواب الشرط، ولغيره ‏"‏ ترى ‏"‏ بالإشباع أو بحذف شيء بتقديره سوف كما في الرواية الآتية في آخر هذا الباب ‏"‏ وإلا سوف ترى ‏"‏ والمعنى وإن لم يكن في الجنة صنعت شيئا من صنيع أهل الحزن مشهورا يراه كل أحد‏.‏

قوله ‏(‏وإنه لفي جنة الفردوس‏)‏ كذا للأكثر وحذف الكشميهني في روايته اللام، ووقع في الرواية الآتية ‏"‏ الفردوس الأعلى ‏"‏ قال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ الفردوس من الأودية ما ينبت ضروبا من النبات‏.‏

وقال ابن الأنباري وغيره‏:‏ بستان فيه كروم وثمرة وغيرها ويذكر ويؤنث‏.‏

وقال الفراء‏:‏ هو عربي مشتق من الفردسة وهي السعة، وقيل رومي نقلته العرب‏.‏

وقال غيره سرياني، والمراد به هنا مكان من الجنة من أفضلها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا الْفُضَيْلُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا بَيْنَ مَنْكِبَيْ الْكَافِرِ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ للرَّاكِبِ الْمُسْرِعِ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا قَالَ أَبُو حَازِمٍ فَحَدَّثْتُ بِهِ النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ فَقَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضَمَّرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ مَا يَقْطَعُهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏الفضل بن موسى‏)‏ هو السيناني بكسر المهملة وسكون التحتانية ونونين المروزي‏.‏

قوله ‏(‏أخبرنا الفضيل‏)‏ بالتصغير كذا للأكثر غير منسوب، ونسبه ابن السكن في روايته فقال الفضيل بن غزوان وهو المعتمد، ونسبه أبو الحسن القابسي في روايته عن أبي زيد المروزي فقال‏:‏ الفضيل بن عياض، ورده أبو علي الجياني فقال‏:‏ لا رواية للفضيل بن عياض في البخاري إلا في موضعين من كتاب التوحيد‏.‏

ولا رواية له عن أبي حازم راوي هذا الحديث ولا أدركه، وهو كما قال‏.‏

وقد أخرج مسلم هذا الحديث من رواية محمد بن فضيل بن غزوان عن أبيه بسنده ولكن لم يرفعه، وهو عند الإسماعيلي من هذا الوجه وقال رفعه، وهو يؤيد مقالة أبي على الجياني‏.‏

قوله ‏(‏منكبي الكافر‏)‏ كسر الكاف تثنية منكب وهو مجتمع العضد والكتف‏.‏

قوله ‏(‏مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع‏)‏ في رواية يوسف بن عيسى عن الفضل بن موسى بسند البخاري فيه ‏"‏ خمسة أيام ‏"‏ أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده عنه، وفي حديث ابن عمر عند أحمد من رواية مجاهد عنه مرفوعا ‏"‏ يعظم أهل النار في النار حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام ‏"‏ وللبيهقي في البعث من وجه آخر عن مجاهد عن ابن عباس ‏"‏ مسيرة سبعين خريفا ‏"‏ ولابن المبارك في الزهد عن أبي هريرة قال ‏"‏ ضرس الكافر يوم القيامة أعظم من أحد، يعظمون لتمتلئ منهم وليذوقوا العذاب ‏"‏ وسنده صحيح، ولم يصرح برفعه لكن له حكم الرفع لأنه لا مجال للرأي فيه، وقد أخرج أوله مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا وزاد ‏"‏ وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام ‏"‏ وأخرجه البزار من وجه ثالث عن أبي هريرة بسند صحيح بلفظ ‏"‏ غلظ جلد الكافر وكثافة جلده اثنان وأربعون ذراعا بذراع الجبار ‏"‏ وأخرجه البيهقي وقال ‏"‏ أراد بذلك التهويل يعني بلفظ الجبار، قال‏:‏ ويحتمل أن يريد جبارا من الجبابرة إشارة إلى عزم الذراع ‏"‏ وجزم ابن حبان لما أخرجه في صحيحه بأن الجبار ملك كان باليمين وفي مرسل عبيد بن عمير عند ابن المبارك في الزهد بسند صحيح ‏"‏ وكثافة جلده سبعون ذراعا ‏"‏ وهذا يؤيد الاحتمال الأول لأن السبعين تطلق للمبالغة‏.‏

وللبيهقي من طريق عطاء بن يسار عن أبي هريرة ‏"‏ وفخذه مثل ورقان ومقعده مثل ما بين المدينة والربذة ‏"‏ وأخرجه الترمذي ولفظه ‏"‏ بين مكة والمدينة ‏"‏ وورقان بفتح الواو وسكون الراء بعدها قاف جبل معروف بالحجاز، والربذة تقدم ضبطها قريبا في حديث أبي ذر وكأن اختلاف هذه المقادير محمول على اختلاف تعذيب الكفار في النار وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏‏:‏ إنما عظم خلقا الكافر في النار ليعظم عذابه ويضاعف ألمه ثم قال وهذا إنما هو في حق البعض بدليل الحديث الآخر ‏"‏ إن المتكبرين يحشرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يساقون إلى سجن في جهنم يقال له بولس ‏"‏ قال ولا شك في أن الكفار متفاوتون في العذاب علم من الكتاب والسنة ولأن نعلم على القطع أن عذاب من قتل الأنبياء وفتك في المسلمين وأفسد في الأرض ليس مساويا لعذاب من كفر فقط وأحسن معاملة المسلمين مثلا قلت‏:‏ أما الحديث المذكور فأخرجه الترمذي والنسائي بسند جيد عن عمرو بن شعيب على أبيه عن جده، ولا حجة فيه لمدعاه لأن ذلك إنما هو في أول الأمر عند الحشر، وأما الأحاديث الأخرى فمحمولة على ما بعد الاستقرار في النار وأما ما أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر رفعه ‏"‏ إن الكافر ليسحب لسانه الفرسخ والفرسخين يتوطؤه الناس ‏"‏ فسنده ضعيف وأما تفاوت الكفار في العذاب فلا شك فيه ويدل عليه قوله تعالى ‏(‏إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار‏)‏ وتقدم قريبا الحديث في أهون أهل النار عذابا‏.‏

قوله ‏(‏وقال إسحاق بن إبراهيم‏)‏ هو المعروف بابن راهويه كذا في جميع النسخ وأطلق المزي تبعا لأبي مسعود أن البخاري ومسلما أخرجاه جميعا عن إسحاق بن راهويه مع أن لفظ مسلم ‏"‏ حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ‏"‏ وهو ابن راهويه وليس من رأي المزي التسوية بين ‏"‏ حدثنا ‏"‏ و ‏"‏ قال ‏"‏ بل ولا ‏"‏ قال لي وقال لنا ‏"‏ بل يعلم على مثل ذلك كله علامة التعليق بخلاف ‏"‏ حدثنا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أنبأنا المغيرة بن سلمة‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ أنبأنا المخزومي ‏"‏ قلت‏:‏ وهو المغيرة المذكور وكنيته أبو هشام وهو مشهور بكنيته وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن بشار وقال‏:‏ حدثنا أبو هشام المغيرة بن سلمة المخزومي‏.‏

قوله ‏(‏عن أبي حازم‏)‏ هو سلمة بن دينار، بخلاف المذكور في الحديث الذي قبله فهو سلمان الأشجعي وهما مدنيان تابعيان ثقتان لكن سلمة أصغر من سلمان‏.‏

قوله ‏(‏لا يقطعها‏)‏ أي لا ينتهي إلى آخر ما يميل من أغصانها‏.‏

قوله ‏(‏قال أبو حازم‏)‏ هو موصول بالسند المذكور، والنعمان بن أبي عياش بتحتانية ثم معجمة هو الزرقي، ووقع منسوبا في رواية مسلم، وهو أيضا مدني تابعي ثقة يكنى أبا سلمة وهو أكبر من الراوي عنه‏.‏

قوله ‏(‏أخبرني أبو سعيد‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ حدثني‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏الجواد‏)‏ بفتح الجيم وتخفيف الواو هو الفرس، يقال حاد الفرس إذا صار فائقا والجمع جياد وأجواد، وسيجيء في صفة المرور على الصراط ‏"‏ أجاويد الخيل وهو جمع الجمع‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أو المضمر‏)‏ بفتح الضاد المعجمة وتشديد الميم تقدم تفسد في كتاب الجهاد، وقوله ‏"‏السريع ‏"‏ أي في جريه، وقع في رواية ابن وهب من وجه آخر عند الإسماعيلي ‏"‏ الجواد السريع ‏"‏ ولم يشك وفي رواية مسلم ‏"‏ الجواد المضمر السريع ‏"‏ بحذف أو، والجواد في روايتنا بالرفع وكذا ما بعده على أن الثلاثة ضفة للراكب، وضبط في صحيح مسلم بنصب الثلاثة على المفعولية، وقد تقدم هذا المتن في بدء الخلق من حديث أبي هريرة ومن حديث أنس بلفظ ‏"‏ يسير الراكب ‏"‏ وزاد في آخر حديث أبي هريرة ‏"‏ واقرؤوا إن شئتم‏:‏ وظل ممدود ‏"‏ والمراد بالظل الراحة والنعيم والجهة يقال عز ظليل وأنا في ظلك أي كنفك‏.‏

وقال الراغب‏:‏ الظل أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة ولكل موضع لا تصل إليه الشمس، ولا يقال الفيء إلا لما زالت عنه الشمس، قال ويعبر بالظل عن العز والمنعة والرفاهية والحراسة، ويقال عن غضارة العيش ظل ظليل‏.‏

قلت‏:‏ وقع التعبير في هذا الحديث بلفظ ‏"‏ الفيء ‏"‏ في حديث أسماء بنت يزيد عند الترمذي ولفظها ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وذكر سدرة المنتهى‏:‏ يسير الراكب في ظل الفيء منها مائة سنة أو يستظل بظلها الراكب مائة سنة ‏"‏ ويستفاد منه تعيين الشجرة المذكورة في حديث الباب‏.‏

وأخرج أحمد وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد رفعه ‏"‏ شجرة طوبي مائة سنة ‏"‏ وفي حديث عقبة بن عبد السلمي في عظم أصل شجرة طوبي ‏"‏ لو ارتحلت جذعة ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرما ‏"‏ أخرجه ابن حبان في صحيحه، والترقوة بفتح المثناة وسكون الراء بعدها قاف مضمومة وواو مفتوحة هي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق والجمع تراق، ولكل شخص ترقوتان، وقد تقدم بعض هذا في صفة الجنة من بدء الخلق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ الْغُرَفَ فِي الْجَنَّةِ كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ فِي السَّمَاءِ قَالَ أَبِي فَحَدَّثْتُ بِهِ النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ فَقَالَ أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ يُحَدِّثُ وَيَزِيدُ فِيهِ كَمَا تَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الْغَارِبَ فِي الْأُفُقِ الشَّرْقِيِّ وَالْغَرْبِيِّ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عبد الله بن مسلمة‏)‏ هو القعنبي، وعبد العزيز هو ابن أبي حازم المذكور قبل، وسهل هو ابن سعد‏.‏

قوله ‏(‏عبد العزيز‏)‏ هو ابن أبي حازم‏.‏

وقوله عن أبي حازم هو أبوه واسمه سلمة بن دينار المذكور قبل، ووقع في رواية أني نعيم في المستخرج من طريق محمد بن أبي يعقوب ‏"‏ حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه ‏"‏ وتقدم شرح المتن مستوفى في الباب الذي قبله‏.‏

قوله ‏(‏الغرف‏)‏ بضم المعجمة وفتح الراء جمع غرفة بضم أوله وبفتحه، جاء في صفتها من حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا ‏"‏ إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها ‏"‏ أخرجه الترمذي وابن حبان، وللطبراني وصححه الحاكم من حديث ابن عمر نحوه، وتقدم في صفة الجنة من بدء الخلق الإشارة إلى مثله من حديث علي، وعند البيهقي نحوه من حديث جابر وزاد ‏"‏ من أصناف الجوهر كله‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏الكوكب‏)‏ زاد في رواية الإسماعيلي ‏"‏ الدري‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قال أبي‏)‏ القائل هو عبد العزيز‏.‏

قوله ‏(‏أشهد لسمعت‏)‏ اللام جواب قسم محذوف، وأبو سعيد هو الخدري‏.‏

قوله ‏(‏يحدث‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ يحدثه ‏"‏ أي يحدث الحديث، يقال حدثت كذا وحدثت بكذا‏.‏

قوله ‏(‏الغارب‏)‏ في رواية الكشميهني الغابر بتقديم الموحدة على الراء، وضبطه بعضهم بتحتانية مهموزة قبل الراء قال الطيبي شبه رؤية الرائي في الجنة صاحب الغرفة برؤية الرائي الكوكب المضيء النائي في جانب المشرق والمغرب في الاستضاءة مع البعد، ومن رواه الغائر من الغور لم يصح لأن الإشراق يفوت إلا إن قدر المشرف على الغور، والمعنى إذا كان طالعا في الأفق من المشرق وغائرا في المغرب‏.‏

وفائدة ذكر المشرق والمغرب بيان الرفعة وشدة البعد، وقد تقدم حديث الباب بأتم من هذا السياق في بدء الخلق من حديث أبي سعيد، وتقدم شرحه هناك‏.‏

ووقع في رواية أيوب بن سويد عن مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد فيه شيء مدرج بينته هناك، وحكم الدار قطني عليه بالوهم، وأما ابن حبان فاغتر بثقة أيوب عنده فأخرجه في صحيحه، وهو معلول بما نبه عليه الدار قطني واستدل به على تفاوت درجات أهل الجنة‏.‏

وقد قسموا في سورة الواقعة إلى السابقين وأصحاب اليمين‏:‏ فالقسم الأول هم من ذكر في قوله تعالى ‏(‏فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم‏)‏ الآية، ومن عداهم أصحاب اليمين، وكل من الصنفين متفاوتون في الدرجات، وفيه تعقب على من خص المقربين بالأنبياء والشهداء لقوله في آخر الحديث ‏"‏ رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيَقُولُ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي

الشرح‏:‏

حديث أنس ‏"‏ يقال لأهل النار ‏"‏ الحديث الماضي في ‏"‏ باب من نوقش الحساب ‏"‏ وقد تقدم مشروحا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ كَأَنَّهُمْ الثَّعَارِيرُ قُلْتُ مَا الثَّعَارِيرُ قَالَ الضَّغَابِيسُ وَكَانَ قَدْ سَقَطَ فَمُهُ فَقُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَبَا مُحَمَّدٍ سَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَخْرُجُ بِالشَّفَاعَةِ مِنْ النَّارِ قَالَ نَعَمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏أبو النعمان‏)‏ هو محمد بن الفضل، وحماد هو ابن زيد، وعمرو هو ابن دينار، وجابر هو ابن عبد الله الأنصاري‏.‏

قوله ‏(‏يخرج من النار بالشفاعة‏)‏ كذا للأكثر من رواية البخاري بحذف الفاعل، وثبت في رواية أبي ذر عن السرخسي عن الفربري ‏"‏ يخرج قوم ‏"‏ وكذا للبيهقي في البعث من طريق يعقوب بن سفيان عن أبي النعمان شيخ البخاري فيه، وكذا لمسلم عن أبي الربيع الزهراني عن حماد بن زيد ولفظه ‏"‏ إن الله يخرج قوما من النار بالشفاعة ‏"‏ وله من رواية سفيان بن عيينة عن عمرو سمع جابر مثله لكن قال ‏"‏ ناس من النار فيدخلهم الجنة ‏"‏ وعند سعيد بن منصور وابن أبي عمر عن سفيان عن عمرو فيه سند آخر أخرجاه من رواية عمرو عن عبيد بن عمير فذكره مرسلا وزاد ‏"‏ فقال له رجل - يعني لعبيد بن عمير - وكان الرجل يتهم برأي الخوارج ويقال له هارون أبو موسى‏:‏ يا أبا عاصم ما هذا الذي تحدثه به‏؟‏ فقال‏:‏ إليك عني، لو لم أسمعه من ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم أحدث به ‏"‏‏:‏ قلت‏:‏ وقد جاء بيان هذه القصة من وجه آخر أخرجه مسلم من طريق يزيد الفقير بفاء ثم قاف وزن عظيم ولقب بذلك لأنه كان يشكو فقار ظهره لا أنه ضد الغنى قال ‏"‏ خرجنا في عصابة نريد أن نحج ثم نخرج على الناس، فمررنا بالمدينة فإذا رجل يحدث وإذا هو قد ذكر الجهنميين‏.‏

فقلت له‏:‏ ما هذا الذي تحدثون به، والله يقول ‏(‏إنك من تدخل النار فقد أخزيته‏)‏ و ‏(‏كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها‏)‏ قال‏.‏

أتقرأ القرآن‏؟‏ قلت‏:‏ نعم، قال‏:‏ أسمعت بمقام محمد الذي يبعثه الله‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فإنه مقام محمد المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار بعد أن يكونوا فيها‏.‏

ثم نعت وضع الصراط ومد الناس عليه، قال‏:‏ فرجعنا وقلنا‏:‏ أترون هذا الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فوالله ما خرج منا غير رجل واحد ‏"‏ وحاصله أن الخوارج الطائفة المشهورة المبتدعة كانوا ينكرون الشفاعة، وكان الصحابة ينكرون إنكارهم ويحدثون بما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأخرج البيهقي في البعث من طريق شبيب بن أبي فضالة‏:‏ ذكروا عند عمران بن حصين الشفاعة فقال رجل‏:‏ إنكم لتحدثوننا بأحاديث لا نجد لها في القرآن أصلا، فغضب وذكر له ما معناه‏:‏ أن الحديث يفسر القرآن‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن أنس قال‏:‏ من كذب بالشفاعة فلا نصيب له فيها‏.‏

وأخرج البيهقي في البعث من طريق يوسف بن مهران عن ابن عباس‏:‏ خطب عمر فقال‏:‏ إنه سيكون في هذه الأمة قوم يكذبون بالرجم، ويكذبون بالدجال، ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بالشفاعة، ويكذبون بقوم يخرجون من النار‏.‏

ومن طريق أبي هلال عن قتادة قال قال أنس‏:‏ يخرج قوم من النار، ولا نكذب بها كما يكذب بها أهل حروراء‏.‏

يعني الخوارج‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ أنكرت المعتزلة والخوارج الشفاعة في إخراج من أدخل النار من المذنبين وتمسكوا بقوله تعالى ‏(‏فما تنفعهم شفاعة الشافعين‏)‏ ‏.‏

وغير ذلك من الآيات‏.‏

وأجاب أهل السنة بأنها في الكفار، وجاءت الأحاديث في إثبات الشفاعة المحمدية متواترة ودل عليها قوله تعالى ‏(‏عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا‏)‏ والجمهور على أن المراد به الشفاعة، وبالغ الواحدي فنقل فيه الإجماع، ولكنه أشار إلى ما جاء عن مجاهد وزيفه‏.‏

وقال الطبري‏:‏ قال أكثر أهل التأويل المقام المحمود هو الذي يقومه النبي صلى الله عليه وسلم ليريحهم من كرب الموقف، ثم أخرج عدة أحاديث بعضها التصريح بذلك وفي بعضها مطلق الشفاعة، فمنها حديث سلمان قال ‏"‏ فيشفعه الله في أمته فهو المقام المحمود ‏"‏ ومن طريق رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس ‏"‏ المقام المحمود الشفاعة ‏"‏ ومن طريق داود بن يزيد الأودي عن أبيه عن أبي هريرة في قوله تعالى ‏(‏عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا‏)‏ قال ‏"‏ سئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ هي الشفاعة ‏"‏ ومن حديث كعب بن مالك رفعه ‏"‏ أكون أنا وأمتي على تل، فيكسوني ربي حلة خضراء، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول‏:‏ فذلك المقام المحمود ‏"‏ ومن طريق يزيد بن زريع قتادة ‏"‏ ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أول شافع، وكان أهل العلم يقولون إنه المقام المحمود ‏"‏ ومن حديث أبي مسعود رفعه‏:‏ إني لأقوم يوم القيامة المقام المحمود إذا جيء بكم حفاة عراة ‏"‏ وفيه ‏"‏ ثم يكسوني ربي حلة فألبسها فأقوم عن يمين العرش مقاما لا يقومه أحد يغبطني به الأولون والآخرون ‏"‏ ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد‏:‏ المقام المحمود الشفاعة‏.‏

ومن طريق الحسن البصري مثله، قال الطبري‏:‏ وقال ليث عن مجاهد في قوله تعالى ‏(‏مقاما محمودا‏)‏ ‏:‏ يجلسه معه على عرشه‏.‏

ثم أسنده وقال‏:‏ الأول أولى، على أن الثاني ليس بمدفوع لا من جهة النقل ولا من جهة النظر‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ هو كذلك إذا حمل على ما يليق به‏.‏

وبالغ الواحدي في رد هذا القول، وأما النقاش فنقل عن أبي داود صاحب السنن أنه قال‏:‏ من أنكر هذا فهو متهم‏.‏

وقد جاء عن ابن مسعود عند الثعلبي وعن ابن عباس عند أبي الشيخ وعن عبد الله بن سلام قال‏:‏ إن محمدا يوم القيامة على كرسي الرب بين يدي الرب أخرجه الطبري‏.‏

قلت‏:‏ فيحتمل أن تكون الإضافة إضافة تشريف، وعلى ذلك على ما جاء عن مجاهد وغيره، والراجح أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، لكن الشفاعة التي وردت في الأحاديث المذكورة في المقام المحمود نوعان‏:‏ الأول العامة في فصل القضاء، والثاني الشفاعة في إخراج المذنبين من النار وحديث سلمان الذي ذكره الطبري أخرجه ابن أبي شيبة أيضا، وحديث أبي هريرة أخرجه أحمد والترمذي، وحديث كعب أخرجه ابن حبان والحاكم وأصله في مسلم، وحديث ابن مسعود أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وجاء فيه أيضا عن أنس سيأتي في التوحيد، وعن ابن عمر كما مضى في الزكاة عن جابر عند الحاكم من رواية الزهري عن علي بن الحسين عنه، واختلف فيه على الزهري، فالمشهور عنه أنه مرسل علي بن الحسين، كذا أخرجه عبد الرزاق عن معمر‏.‏

وقال إبراهيم بن سعد عن الزهري عن علي عن رجال من أهل العلم أخرجه ابن أبي حاتم، وحديث جابر في ذلك عند مسلم من وجه آخر عنه، وفيه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ابن مردويه؛ وعنده أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص ولفظه ‏"‏ سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقام المحمود فقال‏:‏ هو الشفاعة ‏"‏ وعن أبي سعيد عند الترمذي وابن ماجه‏.‏

وقال الماوردي في تفسيره‏:‏ اختلف في المقام المحمود على ثلاثة أقوال، فذكر القولين‏:‏ الشفاعة والإجلاس، والثالث إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة‏.‏

قال القرطبي‏:‏ هذا لا يغاير القول الأول، وأثبت غيره رابعا وهو ما أخرجه بن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن أبي هلال أحد صغار التابعين أنه بلغه أن المقام المحمود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون يوم القيامة بين الجبار وبين جبريل، فيغبطه بمقامه ذلك أهل الجمع‏.‏

قلت‏:‏ وخامسا هو ما اقتضاه حديث حذيفة وهو ثناؤه على ربه، وسيأتي سياقه في شرح الحديث السابع عشر، ولكنه لا يغاير الأول أيضا‏.‏

وحكى القرطبي سادسا وهو ما اقتضاه حديث ابن مسعود الذي أخرجه أحمد والنسائي والحاكم قال ‏"‏ يشفع نبيكم رابع أربعة جبريل ثم إبراهيم ثم موسى أو عيسى ثم نبيكم لا يشفع أحد في أكثر مما يشفع فيه ‏"‏ الحديث، وهذا الحديث لم يصرح برفعه، وقد ضعفه البخاري وقال‏:‏ المشهور قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏أنا أول شافع‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وعلى تقدير ثبوته فليس في شيء من طرقه التصريح بأنه المقام لمحمود، مع أنه لا يغاير حديث الشفاعة في المذنبين، وجوز المحب الطبري سابعا وهو ما اقتضاه حديث كعب بن مالك الماضي ذكره فقال بعد أن أورده‏:‏ هذا يشعر بأن المقام المحمود غير الشفاعة، ثم قال‏:‏ ويجوز أن تكون الإشارة بقوله ‏"‏ فأقول ‏"‏ إلى المراجعة في الشفاعة‏.‏

قلت‏:‏ وهذا هو الذي يتجه، ويمكن رد الأقوال كلها إلى الشفاعة العامة، فإن إعطاءه لواء الحمد وثناءه على ربه وكلامه بين يديه وجلوسه على كرسيه وقيامه أقرب من جبريل كل ذلك صفات للمقام المحمود الذي يشفع فيه ليقضي بين الخلق، وأما شفاعته في إخراج المذنبين من النار فمن توابع ذلك، واختلف في فاعل الحمد من قوله ‏"‏ مقاما محمودا ‏"‏ فالأكثر على أن المراد به أهل الموقف، وقيل النبي صلى الله عليه وسلم أي أنه هو يحمد عاقبة ذلك المقام بتهجده في الليل، والأول أرجح لما ثبت من حديث ابن عمر الماضي في الزكاة بلفظ ‏"‏ مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم ‏"‏ ويجوز أن يحمل على أعم من ذلك أي مقاما يحمده القائم فيه وكل من عرفه، وهو مطلق في كل ما يجلب المد من أنواع الكرامات، واستحسن هذا أبو حيان وأيده بأنه نكرة فدل على أنه ليس المراد مقاما مخصوصا، قال ابن بطال‏:‏ سلم بعض المعتزلة وقوع الشفاعة لكن خصها بصاحب الكبيرة الذي تاب منها ويصاحب الصغيرة الذي مات مصرا عليها، وتعقب بأن من قاعدتهم أن التائب من الذنب لا يعذب، وأن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر، فيلزم قائله أن يخالف أصله‏.‏

وأجيب بأنه لا مغايرة بين القولين، إذ لا مانع من أن حصول ذلك للفريقين إنما حصل بالشفاعة، لكن يحتاج من قصرها على ذلك إلى دليل التخصيص، وقد تقدم في أول الدعوات الإشارة إلى حديث ‏"‏ شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ‏"‏ ولم يخص بذلك من تاب‏.‏

وقال عياض‏:‏ أثبتت المعتزلة الشفاعة العامة في الإراحة من كرب الموقف وهي الخاصة بنبينا والشفاعة في رفع الدرجات وأنكرت ما عداهما‏.‏

قلت‏:‏ وفي تسليم المعتزلة الثانية نظر‏.‏

قال النووي تبعا لعياض‏:‏ الشفاعة خمس في الإراحة من هول الموقف وفي إدخال قوم الجنة بغير حساب، وفي إدخال قوم حوسبوا فاستحقوا العذاب أن لا يعذبوا، وفي إخراج من أدخل النار من العصاة‏.‏

وفي رفع الدرجات‏.‏

ودليل الأولى سيأتي التنبيه عليه في شرح الحديث السابع عشر‏.‏

ودليل الثانية قوله تعالى في جواب قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏أمتي أمتي‏:‏ أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليهم ‏"‏ كذا قيل، ويظهر لي أن دليله سؤاله صلى الله عليه وسلم الزيادة على السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب فأجيب، وقد قدمت بيانه في شرح الحديث المذكور في الباب الذي قبله‏.‏

ودليل الثالثة قوله في حديث حذيفة عند مسلم ‏"‏ ونبيكم على الصراط يقول‏:‏ رب سلم ‏"‏ وله شواهد سأذكرها في شرح الحديث السابع عشر‏.‏

ودليل الرابعة ذكرته فيه أيضا مبسوطا‏.‏

ودليل الخامسة قوله في حديث أنس عند مسلم ‏"‏ أنا أول شفيع في الجنة ‏"‏ كذا قاله بعض من لقيناه وقال‏:‏ وجه الدلالة منه أنه جعل الجنة ظرفا لشفاعته‏.‏

قلت‏:‏ وفيه نظر، لأني سأبين أنها ظرف في شفاعته الأولى المختصة به، والذي يطلب هنا أن يشفع لمن لم يبلغ عمله درجة عالية أن يبلغها بشفاعته‏.‏

وأشار النووي في ‏"‏ الروضة ‏"‏ إلى أن هذه الشفاعة من خصائصه مع أنه لم يذكر مستندها، وأشار عياض إلى استدراك شفاعة سادسة وهي التخفيف عن أبي طالب في العذاب كما سيأتي بيانه في شرح الحديث الرابع عشر، وزاد بعضهم شفاعة سابعة وهي الشفاعة لأهل المدينة لحديث سعد رفعه ‏"‏ لا يثبت على ولأوائها أحد إلا كنت له شهيدا أو شفيعا ‏"‏ أخرجه مسلم، ولحديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ من استطاع أن يموت بالمدينة فليفعل، فإني أشفع لمن مات بها ‏"‏ أخرجه الترمذي قلت‏:‏ وهذه غير واردة لأن متعلقها لا يخرج عن واحدة من الخمس الأول، ولو عد مثل ذلك لعد حديث عبد الملك بن عباد ‏"‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ أول من أشفع له أهل المدينة ثم أهل مكة ثم أهل الطائف ‏"‏ أخرجه البزار والطبراني‏.‏

وأخرج الطبراني من حديث ابن عمر رفعه ‏"‏ أول من أشفع له أهل بيتي ثم الأقرب فالأقرب ثم سائر العرب ثم الأعاجم ‏"‏ وذكر القزويني في العروة الوثقى شفاعته لجماعة من الصلحاء في التجاوز عن تقصيرهم ولم يذكر مستندها، ويظهر لي أنها تندرج في الخامسة، وزاد القرطبي أنه أول شافع في دخول أمته الجنة قبل الناس، وهذه أفردها النقاش بالذكر وهي واردة ودليلها يأتي في حديث الشفاعة الطويل، وزاد النقاش أيضا شفاعته في أهل الكبائر من أمته وليست واردة لأنها تدخل في الثالثة أو الرابعة، وظهر لي بالتتبع شفاعة أخرى وهي الشفاعة فيمن استوت حسناته وسيئاته أن يدخل الجنة، ومستندها ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال‏:‏ السابق يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يرحمه الله، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلونها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد تقدم قريبا أن أرجح الأقوال في أصحاب الأعراف أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، وشفاعة أخرى وهي شفاعته فيمن قال لا إله إلا الله ولم يعمل خيرا فقط، ومستندها رواية الحسن عن أنس كما سيأتي بيانه في شرح الباب الذي يليه، ولا يمنع من عدها قول الله تعالى له ‏"‏ ليس ذلك إليك ‏"‏ لأن النفي يتعلق بمباشرة الإخراج، وإلا فنفس الشفاعة منه قد صدرت وقبولها قد وقع وترتب عليها أثرها، فالوارد على الخمسة أربعة وما عداها لا يرد كما ترد الشفاعة في التخفيف عن صاحبي القبرين وغير ذلك لكونه من جملة أحوال الدنيا‏.‏

قوله ‏(‏كأنهم الثعارير‏)‏ بمثلثة مفتوحة ثم مهملة واحدها ثعرور كعصفور‏.‏

قوله ‏(‏قلت وما الثعارير‏)‏ سقطت الواو لغير الكشميهني‏.‏

قوله ‏(‏قال الضغابيس‏)‏ بمعجمتين ثم موحدة بعدها مهملة‏.‏

أما الثعارير فقال ابن الأعرابي‏:‏ هي قثاء صغار‏.‏

وقال أبو عبيدة مثله وزاد ويقال بالشين المعجمة بدل المثلثة، وكأن هذا هو السبب في قول الراوي‏:‏ وكان عمرو ذهب فمه - أي سقطت أسنانه - فنطق بها ثاء مثلثة وهي شين معجمة‏.‏

وقيل هو نبت في أصول الثمام كالقطن ينبت في الرمل ينبسط عليه ولا يطول‏.‏

ووقع تشبيههم بالطراثيث في حديث حذيفة، وهي بالمهملة ثم المثلثة هي الثمام بضم المثلثة وتخفيف الميم، وقيل الثعرور الأقط الرطب‏.‏

وأغرب القابسي فقال‏:‏ هو الصدف الذي يخرج من البحر فيه الجوهر‏.‏

وكأنه أخذه من قوله في الرواية الأخرى ‏"‏ كأنهم اللؤلؤ ‏"‏ ولا حجة فيه لأن ألفاظ التشبيه تختلف، والمقصود الوصف بالبياض والدقة‏.‏

وأما الضغابيس فقال الأصمعي‏:‏ شيء ينبت في أصول التمام يشبه الهليون يسلق ثم يؤكل بالزيت والخل‏.‏

وقيل ينبت في أصول الشجر وفي الأذحر يخرج قدر شبر في دقة الأصابع لا ورق له وفيه حموضة‏.‏

وفي غريب الحديث للحربي‏:‏ الضغبوس شجرة على طول الإصبع، وشبه به الرجل الضعيف‏.‏

وأغرب الداودي فقال‏:‏ هي طيور صغار فوق الذباب‏.‏

ولا مستند له فيما قال ‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ هذا التشبيه لصفتهم بعد أن ينبتوا، وأما في أول خروجهم من النار فإنهم يكونون كالفحم كما سيأتي في الحديث الذي بعده‏.‏

ووقع في حديث يزيد الفقير عن جابر عند مسلم ‏"‏ فيخرجون كأنهم عيدان السماسم، فيدخلون نهرا فيغتسلون فيخرجون كأنهم القراطيس البيض ‏"‏ والمراد بعيدان السماسم ما ينبت فيه السمسم، فإنه إذا جمع ورميت العيدان تصير سودا دقاقا‏.‏

وزعم بعضهم أن اللفظة محرفة وأن الصواب الساسم بميم واحدة، وهو خشب أسود والثابت في جميع طرق الحديث بإثبات الميمين وتوجيه واضح‏.‏

قوله ‏(‏فقلت لعمرو‏)‏ القائل حماد‏.‏

قوله ‏(‏أبا محمد‏)‏ بحذف أداة النداء وثبت بلفظ ‏"‏ يا أبا محمد ‏"‏ في رواية الكشميهني وعمرو هو ابن دينار، وأراد الاستثبات في سماعه له من جابر وسماع جابر له، ولعل سبب ذلك رواية عمرو له عن عبيد بن عمير مرسلا، وقد حدث سفيان بن عيينة بالطريقين كما نبهت عليه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ النَّارِ بَعْدَ مَا مَسَّهُمْ مِنْهَا سَفْعٌ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَيُسَمِّيهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَهَنَّمِيِّينَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن أنس‏)‏ سيأتي في التوحيد نحو هذا في الحديث الطويل في الشفاعة بلفظ ‏"‏ حدثنا أنس ‏"‏ وقوله ‏"‏ سفع ‏"‏ بفتح المهملة وسكون الفاء ثم عين مهملة أي سواد فيه زرقة أو صفرة، يقال سفعته النار إذا لفحته فغيرت لون بشرته وقد وقع حديث أبي سعيد في الباب الذي يليه بلفظ ‏"‏ قد امتحشوا ‏"‏ ويأتي ضبطه، وفي حديثه عند مسلم ‏"‏ إنهم يصيرون فحما ‏"‏ وفي حديث جابر ‏"‏ حمما ‏"‏ ومعانيها متقاربة‏.‏

قوله ‏(‏فيسميهم أهل الجنة الجهنميين‏)‏ سيأتي في الثامن عشر من هذا الباب من حديث عمران بن حصين بلفظ ‏"‏ يخرج قوم من النار بشفاعة محمد فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميين، وثبتت هذه الزيادة في رواية حميد عن أنس عند المصنف في التوحيد، وزاد جابر في حديثه ‏"‏ فيكتب في رقابهم‏:‏ عتقاء الله، فيسمون فيها الجهنميين ‏"‏ أخرجه ابن حبان والبيهقي وأصله في مسلم‏.‏

والنسائي من رواية عمرو بن عمرو عن أنس ‏"‏ فيقول لهم أهل الجنة‏:‏ هؤلاء الجهنميون، فيقول الله هؤلاء عتقاء الله ‏"‏ وأخرجه مسلم من وجه آخر عن أبي سعيد وزاد ‏"‏ فيدعون الله فيذهب عنهم هذا الاسم ‏"‏ وفي حديث حذيفة عند البيهقي في ‏"‏ البعث ‏"‏ من رواية حماد بن أبي سليمان عن ربعي عنه ‏"‏ قال لهم الجهنميون، فذكر لي أنهم استعفوا الله من ذلك الاسم فأعفاهم‏.‏

وزعم بعض الشراح أن هذه التسمية ليست تنقيصا لهم بل للاستذكار لنعمة الله ليزدادوا بذلك شكرا، كذا قال، وسؤالهم إذهاب ذلك الاسم عنهم يخدش في ذلك‏.‏