فصل: تفسير الآيات رقم (12- 15)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 15‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏12‏)‏ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ‏(‏13‏)‏ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏14‏)‏ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات‏}‏ العامل في الظرف مضمر وهو اذكر، أو كريم، أو فيضاعفه، أو العامل في لهم، وهو الاستقرار، والخطاب لكل من يصلح له، وقوله ‏{‏يسعى نُورُهُم‏}‏ في محل نصب على الحال من مفعول ترى، والنور هو الضياء الذي يرى ‏{‏بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم‏}‏ وذلك على الصراط يوم القيامة، وهو دليلهم إلى الجنة‏.‏ قال قتادة‏:‏ إن المؤمن يضيء له نور كما بين عدن إلى صنعاء، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء له نوره إلاّ موضع قدميه‏.‏ وقال الضحاك، ومقاتل‏:‏ وبأيمانهم‏:‏ كتبهم التي أعطوها، فكتبهم بأيمانهم، ونورهم بين أيديهم، قال الفراء‏:‏ الباء بمعنى «في»‏:‏ أي في أيمانهم، أو بمعنى «عن»، قال الضحاك أيضاً‏:‏ نورهم‏:‏ هداهم، وبأيمانهم‏:‏ كتبهم، واختار هذا ابن جرير الطبري، أي‏:‏ يسعى أيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم، وفي أيمانهم كتب أعمالهم‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏بأيمانهم‏}‏ جمع يمين‏.‏ وقرأ سهل بن سعد الساعديّ، وأبو حيوة‏:‏ ‏(‏بإيمانهم‏)‏ بكسر الهمزة على أن المراد بالإيمان ضدّ الكفر، وقيل‏:‏ هو القرآن، والجار والمجرور في الموضعين في محل نصب على الحال من نورهم، أي‏:‏ كائناً بين أيديهم وبأيمانهم ‏{‏بُشْرَاكُمُ اليوم جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا‏}‏ بشراكم مبتدأ، وخبره جنات على تقدير مضاف، أي‏:‏ دخول جنات، والجملة مقول قول مقدّر، أي‏:‏ يقال لهم هذا، والقائل لهم هم الملائكة‏.‏ قال مكيّ‏:‏ وأجاز الفراء نصب جنات على الحال، ويكون اليوم خبر بشراكم، وهذا بعيد جداً ‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ حال مقدّرة، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى النور والبشرى، وهو مبتدأ، وخبره ‏{‏هُوَ الفوز العظيم‏}‏ أي‏:‏ لا يقادر قدره حتى كأنه لا فوز غيره، ولا اعتداد بما سواه‏.‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات‏}‏ ‏{‏يوم‏}‏ بدل من ‏{‏يوم‏}‏ الأوّل، ويجوز أن يكون العامل فيه‏:‏ ‏{‏الفوز العظيم‏}‏، ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مقدّر، أي‏:‏ اذكر ‏{‏لِلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏ اللام للتبليغ كنظائرها‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏انظرونا‏}‏ أمراً بوصل الهمزة وضم الظاء من النظر بمعنى الانتظار، أيّ‏:‏ انتظرونا‏.‏ يقولون ذلك لما رأوا المؤمنين يسرع بهم إلى الجنة‏.‏ وقرأ الأعمش، وحمزة، ويحيى بن وثاب بقطع الهمزة وكسر الظاء من الإنظار، أي‏:‏ أمهلونا، وأخرونا، يقال‏:‏ أنظرته واستنظرته، أي‏:‏ أمهلته واستمهلته‏.‏ قال الفراء‏:‏ تقول العرب أنظرني، أي‏:‏ انتظرني، وأنشد قول عمرو بن كلثوم‏:‏

أبا هند فلا تعجل علينا *** وأنظرنا نخبرك اليقينا

وقيل‏:‏ معنى انظرونا‏:‏ انظروا إلينا؛ لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم، فيستضيئون بنورهم ‏{‏نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ نستضيء منه، والقبس‏:‏ الشعلة من النار والسراج، فلما قالوا ذلك ‏{‏قِيلَ ارجعوا وَرَاءكُمْ‏}‏ أي‏:‏ قال لهم المؤمنون، أو الملائكة زجراً لهم، وتهكماً بهم، أي‏:‏ ارجعوا وراءكم إلى الموضع الذي أخذنا منه النور ‏{‏فالتمسوا نُوراً‏}‏ أي‏:‏ اطلبوا هنالك نوراً لأنفسكم، فإنه من هنالك يقتبس، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ ارجعوا إلى الدنيا، فالتمسوا النور بما التمسناه به من الإيمان، والأعمال الصالحة، وقيل‏:‏ أرادوا بالنور ما وراءهم من الظلمة تهكماً بهم‏:‏ ‏{‏فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ‏}‏ السور‏:‏ هو الحاجز بين الشيئين، والمراد به هنا الحاجز بين الجنة والنار، أو بين أهل الجنة وأهل النار‏.‏

قال الكسائي‏:‏ والباء في بسور زائدة‏.‏ ثم وصف سبحانه السور المذكور فقال‏:‏ ‏{‏لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة‏}‏ أي‏:‏ باطن ذلك السور؛ وهو الجانب الذي يلي أهل الجنة فيه الرّحمة‏:‏ وهي الجنة ‏{‏وظاهره‏}‏ وهو الجانب الذي يلي أهل النار ‏{‏مِن قِبَلِهِ العذاب‏}‏ أي‏:‏ من جهته عذاب جهنم، وقيل‏:‏ إن المؤمنين يسبقونهم فيدخلون الجنة، والمنافقون يحصلون في العذاب وبينهم السور، وقيل‏:‏ إن الرّحمة التي في باطنه‏:‏ نور المؤمنين، والعذاب الذي في ظاهره‏:‏ ظلمة المنافقين‏.‏ ولما ضرب بالسور بين المؤمنين والمنافقين أخبر الله سبحانه عما قاله المنافقون إذ ذاك، فقال‏:‏ ‏{‏ينادونهم أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ موافقين لكم في الظاهر نصلي بصلاتكم في مساجدكم، ونعمل بأعمال الإسلام مثلكم، والجملة مستأنفة كأنه قيل‏:‏ فماذا قال المنافقون بعد ضرب السور بينهم وبين المؤمنين‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏ينادونهم‏}‏، ثم أخبر سبحانه عما أجابهم به المؤمنون فقال‏:‏ ‏{‏قَالُواْ بلى‏}‏ أي‏:‏ كنتم معنا في الظاهر ‏{‏ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ بالنفاق وإبطان الكفر، قال مجاهد‏:‏ أهلكتموها بالنفاق، وقيل‏:‏ بالشهوات واللذات ‏{‏وَتَرَبَّصْتُمْ‏}‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبمن معه من المؤمنين حوادث الدّهر، وقيل‏:‏ تربصتم بالتوبة، والأوّل أولى ‏{‏وارتبتم‏}‏ أي‏:‏ شككتم في أمر الدين ولم تصدّقوا ما نزل من القرآن، ولا بالمعجزات الظاهرة ‏{‏وَغرَّتْكُمُ الأمانى‏}‏ الباطلة التي من جملتها ما كنتم فيه من التربص، وقيل‏:‏ هو طول الأمل، وقيل‏:‏ ما كانوا يتمنونه من ضعف المؤمنين، وقال قتادة‏:‏ الأمانيّ هنا‏:‏ غرور الشيطان، وقيل‏:‏ الدنيا، وقيل‏:‏ هو طمعهم في المغفرة، وكل هذه الأشياء تدخل في مسمى الأمانيّ ‏{‏حتى جَاء أَمْرُ الله‏}‏ وهو الموت، وقيل‏:‏ نصره سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو إلقاؤهم في النار ‏{‏وَغَرَّكُم بالله الغرور‏}‏ قرأ الجمهور ‏{‏الغرور‏}‏ بفتح الغين، وهو صفة على فعول، والمراد به‏:‏ الشيطان‏:‏ أي خدعكم بحلم الله، وإمهاله الشيطان‏.‏ وقرأ أبو حيوة، ومحمد بن السميفع، وسماك بن حرب بضمها، وهو مصدر‏.‏ ‏{‏فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ‏}‏ تفدون بها أنفسكم من النار أيها المنافقون ‏{‏وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ بالله ظاهراً وباطناً ‏{‏مَأْوَاكُمُ النار‏}‏ أي‏:‏ منزلكم الذي تأوون إليه النار ‏{‏هِىَ مولاكم‏}‏ أي‏:‏ هي أولى بكم، والمولى في الأصل من يتولى مصالح الإنسان، ثم استعمل فيمن يلازمه، وقيل‏:‏ معنى ‏{‏مولاكم‏}‏‏:‏ مكانكم عن قرب، من الولي، وهو القرب‏.‏

وقيل‏:‏ إن الله يركب في النار الحياة والعقل، فهي تتميز غيظاً على الكفار، وقيل المعنى‏:‏ هي ناصركم على طريقة قول الشاعر‏:‏

تحية بينهم ضرب وجيع *** ‏{‏وَبِئْسَ المصير‏}‏ الذي تصيرون إليه وهو النار‏.‏

وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن مسعود ‏{‏يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ قال‏:‏ يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرّون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نوراً من نوره على إبهامه يطفأ مرّة، ويوقد أخرى‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال‏:‏ بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نوراً، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه، وكان النور دليلهم من الله إلى الجنة، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا إلى النور تبعوهم، فأظلم الله على المنافقين، فقالوا حينئذ‏:‏ ‏{‏انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ‏}‏ فإنا كنا معكم في الدنيا، قال المؤمنون‏:‏ ‏{‏ارجعوا وَرَاءكُمْ‏}‏ من حيث جئتم من الظلمة ‏{‏فالتمسوا‏}‏ هنالك النور‏.‏ وأخرج الطبراني، وابن مردويه عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم ستراً منه على عباده، وأما عند الصراط، فإن الله يعطى كل مؤمن نوراً، وكل منافق نوراً، فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات، فقال المنافقون‏:‏ ‏{‏انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ‏}‏ وقال المؤمنون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 8‏]‏ فلا يذكر عند ذلك أحد أحداً» وفي الباب أحاديث وآثار‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن عبادة بن الصامت‏:‏ أنه كان على سور بيت المقدس، فبكى، فقيل له‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ فقال‏:‏ هاهنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ إن السور الذي ذكره الله في القرآن ‏{‏فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ‏}‏ هو‏:‏ السور الذي ببيت المقدس الشرقي ‏{‏بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة‏}‏ المسجد ‏{‏وظاهره مِن قِبَلِهِ العذاب‏}‏ يعني‏:‏ وادي جهنم، وما يليه‏.‏

ولا يخفاك أن تفسير السور المذكور في القرآن في هذه الآية بهذا السور الكائن ببيت المقدس فيه من الإشكال ما لا يدفعه مقال، ولا سيما بعد زيادة قوله‏:‏ ‏{‏باطنة فيه الرّحمة‏}‏ المسجد، فإن هذا غير ما سيقت له الآية، وغير ما دلت عليه، وأين يقع بيت المقدس أو سوره بالنسبة إلى السور الحاجز بين فريقي المؤمنين والمنافقين، وأيّ معنى لذكر مسجد بيت المقدس هاهنا، فإن كان المراد أن الله سبحانه ينزع سور بيت المقدس، ويجعله في الدار الآخرة سوراً مضروباً بين المؤمنين والمنافقين، فما معنى تفسير باطن السور، وما فيه من الرّحمة بالمسجد، وإن كان المراد‏:‏ أن الله يسوق فريقي المؤمنين والمنافقين إلى بيت المقدس، فيجعل المؤمنين داخل السور في المسجد، ويجعل المنافقين خارجه، فهم إذ ذاك على الصراط وفي طريق الجنة، وليسوا ببيت المقدس، فإن كان مثل هذا التفسير ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلناه، وآمنا به، وإلاّ فلا كرامة ولا قبول‏.‏

وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ قال‏:‏ بالشهوات واللذات ‏{‏وَتَرَبَّصْتُمْ‏}‏ قال‏:‏ بالتوبة ‏{‏وَغرَّتْكُمُ الأمانى حتى جَاء أَمْرُ الله‏}‏ قال‏:‏ الموت ‏{‏وَغَرَّكُم بالله الغرور‏}‏ قال‏:‏ الشيطان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 19‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏16‏)‏ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏17‏)‏ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ‏(‏18‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏ يقال‏:‏ أنى لك يأني أنى‏:‏ إذا حان‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏ألم يأن‏}‏ وقرأ الحسن، وأبو السماك‏:‏ ‏(‏ألما يأن‏)‏، وأنشد ابن السكيت‏:‏

ألما يأن لي أن تجلى عمايتي *** وأقصر عن ليلى‏؟‏ بلى قد أنى ليا

و ‏{‏أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ‏}‏ فاعل يأن، أي‏:‏ ألم يحضر خشوع قلوبهم ويجيء وقته، ومنه قول الشاعر‏:‏

ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا *** وأن يحدث الشيب المنير لنا عقلا‏؟‏

هذه الآية نزلت في المؤمنين‏.‏ قال الحسن‏:‏ يستبطئهم، وهم أحبّ خلقه إليه‏.‏ وقيل‏:‏ إن الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ نزلت في طائفة من المؤمنين، حثوا على الرّقة والخشوع، فأما من وصفهم الله بالرّقة والخشوع، فطبقة فوق هؤلاء‏.‏ وقال السديّ وغيره‏:‏ المعنى‏:‏ ألم يأن للذين آمنوا في الظاهر، وأسرّوا الكفر أن تخشع قلوبهم ‏{‏لِذِكْرِ الله‏}‏، وسيأتي في آخر البحث ما يقوّي قول من قال إنها نزلت في المسلمين، والخشوع‏:‏ لين القلب ورقته‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه ينبغي أن يورثهم الذكر خشوعاً ورقة، ولا يكونوا كمن لا يلين قلبه للذكر ولا يخضع له ‏{‏وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق‏}‏ معطوف على ذكر الله، والمراد بما نزل من الحقّ‏:‏ القرآن، فيحمل الذكر المعطوف عليه على ما عداه مما فيه ذكر الله سبحانه باللسان، أو خطور بالقلب، وقيل‏:‏ المراد بالذكر هو القرآن، فيكون هذا العطف من باب عطف التفسير، أو باعتبار تغاير المفهومين‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏نزل‏}‏ مشدّداً مبنياً للفاعل‏.‏ وقرأ نافع، وحفص بالتخفيف مبنياً للفاعل‏.‏ وقرأ الجحدري، وأبو جعفر، والأعمش، وأبو عمرو في رواية عنه مشدّداً مبنياً للمفعول‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ ‏(‏أنزل‏)‏ مبنياً للفاعل ‏{‏وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ‏}‏ قرأ الجمهور بالتحتية على الغيبة جرياً على ما تقدّم‏.‏ وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة بالفوقية على الخطاب التفاتاً، وبها قرأ عيسى، وابن إسحاق، والجملة معطوفة على تخشع أي‏:‏ ألم يأن لهم أن تخشع، قلوبهم، ولا يكونوا‏؟‏ والمعنى‏:‏ النهي لهم عن أن يسلكوا سبيل اليهود والنصارى الذين أوتوا التوراة والإنجيل من قبل نزول القرآن ‏{‏فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد‏}‏ أي‏:‏ طال عليهم الزمان بينهم وبين أنبيائهم‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏الأمد‏}‏ بتخفيف الدال، وقرأ ابن كثير في رواية عنه بتشديدها، أي‏:‏ الزّمن الطويل، وقيل‏:‏ المراد بالأمد على القراءة الأولى‏:‏ الأجل والغاية، يقال أمد فلان كذا، أي‏:‏ غايته ‏{‏فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ بذلك السبب، فلذلك حرّفوا وبدّلوا، فنهى الله سبحانه أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يكونوا مثلهم ‏{‏وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون‏}‏ أي‏:‏ خارجون عن طاعة الله؛ لأنهم تركوا العمل بما أنزل إليهم، وحرّفوا وبدّلوا، ولم يؤمنوا بما نزل على محمد، وقيل‏:‏ هم الذين تركوا الإيمان بعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ هم الذين ابتدعوا الرهبانية، وهم أصحاب الصوامع‏.‏

‏{‏اعلموا أَنَّ الله يُحْىِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ فهو قادر على أن يبعث الأجسام بعد موتها، ويلين القلوب بعد قسوتها ‏{‏قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات‏}‏ التي من جملتها هذه الآيات ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ أي‏:‏ كي تعقلوا ما تضمنته من المواعظ، وتعملوا بموجب ذلك‏.‏ ‏{‏إِنَّ المصدقين والمصدقات‏}‏ قرأ الجمهور بتشديد الصاد في الموضعين من الصدقة، وأصله المتصدّقين والمتصدّقات، فأدغمت التاء في الصاد‏.‏ وقرأ أبيّ ‏(‏المتصدّقين والمتصدّقات‏)‏ بإثبات التاء على الأصل‏.‏ وقرأ ابن كثير بتخفيف الصاد فيهما من التصديق، أي‏:‏ صدّقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ‏{‏وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً‏}‏ معطوف على اسم الفاعل في المصدّقين؛ لأنه لما وقع صلة للألف واللام الموصولة حلّ محلّ الفعل، فكأنه قال‏:‏ إن الذين تصدّقوا وأقرضوا، كذا قال أبو علي الفارسي وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ جملة‏:‏ ‏{‏وأقرضوا‏}‏ معترضة بين اسم إن وخبرها، وهو ‏{‏يضاعف‏}‏ وقيل‏:‏ هي صلة لموصول محذوف، أي‏:‏ والذين أقرضوا، والقرض الحسن عبارة عن التصدق والإنفاق في سبيل الله مع خلوص نية، وصحة قصد، واحتساب أجر‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يضاعف لهم‏}‏ بفتح العين على البناء للمفعول، والقائم مقام الفاعل إما الجار والمجرور، أو ضمير يرجع إلى المصدّقين على حذف مضاف أي‏:‏ ثوابهم، وقرأ الأعمش‏:‏ ‏(‏يضاعفه‏)‏ بكسر العين وزيادة الهاء‏.‏ وقرأ ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب‏:‏ ‏(‏يضعف‏)‏ بتشديد العين وفتحها ‏{‏وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ‏}‏ وهو الجنة، والمضاعفة هنا أن الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف‏.‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ‏}‏ جميعاً، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إلى الموصول، وخبره قوله‏:‏ ‏{‏هُمُ الصديقون والشهداء‏}‏ الجملة خبر الموصول‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كل من آمن بالله ورسله فهو صدّيق‏.‏ قال المقاتلان‏:‏ هم الذين لم يشكوا في الرسل حين أخبروهم ولم يكذّبوهم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هذه الآية للشهداء خاصة، وهم الأنبياء الذين يشهدون للأمم وعليهم، واختار هذا الفراء، والزجاج‏.‏ وقال مقاتل بن سليمان‏:‏ هم الذين استشهدوا في سبيل الله، وكذا قال ابن جرير، وقيل‏:‏ هم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة لأنبيائهم بالتبليغ، والظاهر أن معنى الآية‏:‏ إن الذين آمنوا بالله ورسله جميعاً بمنزلة الصدّيقين والشهداء المشهورين بعلوّ الدرجة عند الله، وقيل‏:‏ إن الصدّيقين هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا بالله، وصدّقوا جميع رسله، والقائمون لله سبحانه بالتوحيد‏.‏ ثم بيّن سبحانه ما لهم من الخير بسبب ما اتصفوا به من الإيمان بالله ورسله فقال‏:‏ ‏{‏لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ‏}‏ والضمير الأوّل راجع إلى الموصول، والضميران الأخيران راجعان إلى الصدّيقين والشهداء، أي‏:‏ لهم مثل أجرهم ونورهم، وأما على قول من قال‏:‏ إن الذين آمنوا بالله ورسله هم نفس الصديقين والشهداء، فالضمائر الثلاثة كلها راجعة إلى شيء واحد، والمعنى‏:‏ لهم الأجر والنور الموعودان لهم‏.‏

ثم لما ذكر حال المؤمنين وثوابهم، ذكر حال الكافرين وعقابهم، فقال‏:‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا‏}‏ أي‏:‏ جمعوا بين الكفر وتكذيب الآيات، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إلى الموصول باعتبار ما في صلته من اتصافهم بالكفر والتكذيب، وهذا مبتدأ، وخبره ‏{‏أصحاب الجحيم‏}‏ يعذبون بها، ولا أجر لهم ولا نور، بل عذاب مقيم وظلمة دائمة‏.‏

وقد أخرج ابن مردويه عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «استبطأ الله قلوب المهاجرين بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن، فأنزل الله ‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏» الآية‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من أصحابه في المسجد، وهم يضحكون، فسحب رداءه محمراً وجهه فقال‏:‏ «أتضحكون، ولم يأتكم أمان من ربكم بأنه قد غفر لكم، ولقد أنزل عليّ في ضحككم آية‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله‏}‏» قالوا‏:‏ يا رسول الله، فما كفارة ذلك‏؟‏ قال‏:‏ «تبكون بقدر ما ضحكتم» وأخرج مسلم، والنسائي، وابن ماجه، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن مسعود قال‏:‏ ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية ‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏ إلاّ أربع سنين‏.‏ وأخرج نحوه عنه ابن المنذر، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه من طريق أخرى‏.‏ وأخرج أبو يعلى، وابن مردويه عنه أيضاً قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية أقبل بعضنا على بعض‏:‏ أيّ شيء أحدثنا‏:‏ أيّ شيء صنعنا‏؟‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ إن الله استبطأ قلوب المهاجرين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عبد العزيز بن أبي روّاد أن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ظهر فيهم المزاح والضحك، فنزلت هذه الآية ‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن المبارك عن ابن عباس ‏{‏اعلموا أَنَّ الله يُحْىِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ قال‏:‏ يعني‏:‏ أنه يلين القلوب بعد قسوتها‏.‏ وأخرج ابن جرير عن البراء بن عازب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «مؤمنو أمتي شهداء» ثم تلا النبيّ صلى الله عليه وسلم ‏{‏والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون والشهداء عِندَ رَبّهِمْ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود قال‏:‏ كل مؤمن صديق وشهيد‏.‏ وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال‏:‏ إن الرجل ليموت على فراشه، وهو شهيد، ثم تلا هذه الآية‏:‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ‏{‏والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون‏}‏ قال‏:‏ هذه مفصولة ‏{‏والشهداء عِندَ رَبّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن حبان عن عمرو بن مرة الجهني قال‏:‏ جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلاّ الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأدّيت الزكاة، وصمت رمضان، وقمته فممن أنا‏؟‏ قال‏:‏ «من الصدّيقين والشهداء»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 24‏]‏

‏{‏اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ‏(‏20‏)‏ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏21‏)‏ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏22‏)‏ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ‏(‏23‏)‏ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ‏}‏ لما ذكر سبحانه حال الفريق الثاني، وما وقع منهم من الكفر والتكذيب، وذلك بسبب ميلهم إلى الدنيا وتأثيرها، بيّن لهم حقارتها وأنها أحقر من أن تؤثر على الدار الآخرة، واللعب‏:‏ هو الباطل، واللهو‏:‏ كل شيء يتلهى به ثم يذهب‏.‏ قال قتادة‏:‏ لعب ولهو‏:‏ أكل وشرب‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كلّ لعب لهو، وقيل‏:‏ اللعب ما رغب في الدنيا، واللهو‏:‏ ما ألهى عن الآخرة وشغل عنها، وقيل‏:‏ اللعب‏:‏ الاقتناء، واللهو‏:‏ النساء، وقد تقدّم تحقيق هذا في سورة الأنعام، والزينة‏:‏ التزين بمتاع الدنيا من دون عمل للآخرة ‏{‏وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ‏}‏ قرأ الجمهور بتنوين ‏{‏تفاخر‏}‏ والظرف صفة له، أو معمول له، وقرأ السلمي بالإضافة، أي‏:‏ يفتخر به بعضكم على بعض، وقيل‏:‏ يتفاخرون بالخلقة والقوّة، وقيل‏:‏ بالأنساب والأحساب، كما كانت عليه العرب ‏{‏وَتَكَاثُرٌ فِى الأموال والأولاد‏}‏ أي‏:‏ يتكاثرون بأموالهم وأولادهم، ويتطاولون بذلك على الفقراء‏.‏ ثم بيّن سبحانه لهذه الحياة شبهاً، وضرب لها مثلاً فقال‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ‏}‏ أي‏:‏ كمثل مطر أعجب الزراع نباته، والمراد بالكفار هنا‏:‏ الزراع لأنهم يكفرون البذر، أي‏:‏ يغطونه بالتراب، ومعنى نَبَاتُهُ‏:‏ النبات الحاصل به ‏{‏ثُمَّ يَهِيجُ‏}‏ أي‏:‏ يجفّ بعد خضرته وييبس ‏{‏فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً‏}‏ أي‏:‏ متغيراً عما كان عليه من الخضرة والرّونق إلى لون الصفرة والذبول ‏{‏ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً‏}‏ أي‏:‏ فتاتاً هشيماً متكسراً متحطماً بعد يبسه، وقد تقدّم تفسير هذا المثل في سورة يونس والكهف، والمعنى‏:‏ أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إليه، لخضرته وكثرة نضارته‏.‏ ثم لا يلبث أن يصير هشيماً تبناً كأن لم يكن‏.‏ وقرئ‏:‏ ‏(‏مصفارّاً‏)‏ والكاف في محل نصب على الحال، أو في محل رفع على أنها خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف‏.‏ ثم لما ذكر سبحانه حقارة الدنيا، وسرعة زوالها، ذكر ما أعدّه للعصاة في الدار الآخرة فقال‏:‏ ‏{‏وَفِى الأخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏ وأتبعه بما أعدّه لأهل الطاعة، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله ورضوان‏}‏، والتنكير فيهما للتعظيم‏.‏ قال قتادة‏:‏ عذاب شديد لأعداء الله، ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته‏.‏ قال الفراء‏:‏ التقدير في الآية إما عذاب شديد وإما مغفرة، قلا يوقف على شديد‏.‏ ثم ذكر سبحانه بعد الترهيب والترغيب حقارة الدنيا، فقال‏:‏ ‏{‏وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور‏}‏ لمن اغترّ بها ولم يعمل لآخرته‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة، ومن اشتغل بطلبها فله متاع بلاغ إلى ما هو خير منه‏.‏ وهذه الجملة مقرّرة للمثل المتقدّم ومؤكدة له‏.‏ ثم ندب عباده إلى المسابقة إلى ما يوجب المغفرة من التوبة والعمل الصالح، فإن ذلك سبب إلى الجنة، فقال‏:‏ ‏{‏سَابِقُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ سارعوا مسارعة السابقين بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم، وتوبوا مما وقع منكم من المعاصي، وقيل‏:‏ المراد بالآية التكبيرة الأولى مع الإمام، قاله مكحول، وقيل‏:‏ المراد الصفّ الأوّل، ولا وجه لتخصيص ما في الآية بمثل هذا، بل هو من جملة ما تصدّق عليه صدقاً شمولياً أو بدلياً ‏{‏وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض‏}‏ أي‏:‏ كعرضهما، وإذا كان هذا قدر عرضها، فما ظنك بطولها‏.‏

قال الحسن‏:‏ يعني جميع السموات والأرضين مبسوطات كل واحدة إلى صاحبتها، وقيل‏:‏ المراد بالجنة التي عرضها هذا العرض هي جنة كل واحد من أهل الجنة‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ عنى به جنة واحدة من الجنات، والعرض أقل من الطول، ومن عادة العرب أنها تعبر عن الشيء بعرضه دون طوله، ومن ذلك قول الشاعر‏:‏

كأن بلاد الله وهي عريضة *** على الخائف المطلوب كفة حابل

وقد مضى تفسير هذا في سورة آل عمران‏.‏ ثم وصف سبحانه تلك الجنة بصفة أخرى، فقال‏:‏ ‏{‏سَابِقُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة‏.‏ وفي هذا دليل على أن استحقاق الجنة يكون بمجرّد الإيمان بالله ورسله، ولكن هذا مقيد بالأدلة الدالة على أنه لا يستحقها إلاّ من عمل بما فرض الله عليه، واجتنب ما نهاه الله عنه، وهي أدلة كثيرة في الكتاب والسنة، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما وعد به سبحانه من المغفرة والجنة، وهو مبتدأ وخبره ‏{‏فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء‏}‏ أي‏:‏ يعطيه من يشاء إعطاءه إياه تفضلاً وإحساناً ‏{‏والله ذُو الفضل العظيم‏}‏ فهو يتفضل على من يشاء بما يشاء، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، والخير كله بيده، وهو الكريم المطلق، والجواد الذي لا يبخل‏.‏ ثم بيّن سبحانه أن ما يصاب به العباد من المصائب قد سبق بذلك قضاؤه وقدره، وثبت في أمّ الكتاب، فقال‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأرض‏}‏ من قحط مطر، وضعف نبات، ونقص ثمار‏.‏ قال مقاتل‏:‏ القحط وقلة النبات والثمار، وقيل‏:‏ الجوائح في الزرع ‏{‏وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ‏}‏ قال قتادة‏:‏ بالأوصاب والأسقام‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ إقامة الحدود‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ ضيق المعاش ‏{‏إِلاَّ فِى كتاب‏}‏ في محل نصب على الحال من مصيبة، أي‏:‏ إلاّ حال كونها مكتوبة في كتاب، وهو اللوح المحفوظ، وجملة‏:‏ ‏{‏مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا‏}‏ في محل جر صفة لكتاب، والضمير في نبرأها عائد إلى المصيبة، أو إلى الأنفس، أو إلى الأرض، أو إلى جميع ذلك، ومعنى ‏{‏نَّبْرَأَهَا‏}‏‏:‏ نخلقها ‏{‏إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ أن إثباتها في الكتاب على كثرته على الله يسير غير عسير‏.‏

‏{‏لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ اختبرناكم بذلك، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا ‏{‏وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم‏}‏ منها أي‏:‏ أعطاكم منها، فإن ذلك يزول عن قريب، وكلّ زائل عن قريب لا يستحق أن يفرح بحصوله، ولا يحزن على فواته، ومع أن الكل بقضاء الله وقدره، فلن يعدو امرأ ما كتب له، وما كان حصوله كائناً لا محالة، فليس بمستحقّ للفرح بحصوله، ولا للحزن على فوته، قيل‏:‏ والحزن والفرح المنهيّ عنهما هما اللذان يتعدّى فيهما إلى ما لا يجوز، وإلاّ فليس من أحد إلاّ وهو يحزن ويفرح‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏بما آتاكم‏}‏ بالمدّ، أي‏:‏ أعطاكم، وقرأ أبو العالية، ونصر بن عاصم، وأبو عمرو بالقصر، أي‏:‏ جاءكم، واختار القراءة الأولى أبو حاتم، واختار القراءة الثانية أبو عبيد ‏{‏والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ‏}‏ أي‏:‏ لا يحبّ من اتصف بهاتين الصفتين، وهما الاختيال والافتخار، قيل‏:‏ هو ذمّ للفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر، وقيل‏:‏ إن من فرح بالحظوظ الدنيوية، وعظمت في نفسه اختال وافتخر بها، وقيل‏:‏ المختال الذي ينظر إلى نفسه، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاستحقار‏.‏ والأولى تفسير هاتين الصفتين بمعناهما الشرعي ثم اللغوي، فمن حصلتا فيه فهو الذي لا يحبه الله‏.‏ ‏{‏الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل‏}‏ الموصول في محل رفع بالابتداء، وهو كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله، والخبر مقدّر، أي‏:‏ الذين يبخلون فالله غنيّ عنهم، ويدل على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ الموصول في محل جرّ بدل من مختال، وهو بعيد، فإن هذا البخل بما في اليد، وأمر الناس بالبخل ليس هو معنى المختال الفخور، لا لغة ولا شرعاً‏.‏ وقيل‏:‏ هو في محل جرّ نعت له، وهو أيضاً بعيد‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ الذين يبخلون بالعلم، ويأمرون الناس بالبخل به لئلا يعلموا الناس شيئًا‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ إنه البخل بأداء حق الله، وقيل‏:‏ إنه البخل بالصدقة، وقال طاووس‏:‏ إنه البخل بما في يديه، وقيل‏:‏ أراد رؤساء اليهود الذين بخلوا ببيان صفة محمد في كتبهم لئلا يؤمن به الناس، فتذهب مآكلهم، قاله السدّي والكلبي، قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏بالبخل‏}‏ بضم الباء وسكون الخاء‏.‏ وقرأ أنس، وعبيد بن عمير، ويحيى بن يعمر، ومجاهد، وحميد، وابن محيصن، وحمزة، والكسائي بفتحتين، وهي لغة الأنصار‏.‏ وقرأ أبو العالية، وابن السميفع بفتح الباء وإسكان الخاء‏.‏ وقرأ نصر بن عاصم بضمهما، وكلها لغات ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد‏}‏ أي‏:‏ ومن يعرض عن الإنفاق، فإن الله غنيّ عنه محمود عند خلقه لا يضره ذلك‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏هو الغني‏}‏ بإثبات ضمير الفصل‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر‏:‏ ‏(‏فإن الله الغني الحميد‏)‏ بحذف الضمير‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأرض وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ في الدين والدنيا ‏{‏إِلاَّ فِى كتاب مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا‏}‏ قال‏:‏ نخلقها ‏{‏لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ‏}‏ من الدنيا ‏{‏وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم‏}‏ منها‏.‏

وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال‏:‏ هو شيء قد فرغ منه من قبل أن تبرأ الأنفس‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ‏}‏ الآية قال‏:‏ ليس أحد إلاّ وهو يحزن ويفرح، ولكن من أصابته مصيبة جعلها صبراً، ومن أصابه خير جعله شكراً‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه في الآية قال‏:‏ يريد مصائب المعاش، ولا يريد مصائب الدين، إنه قال‏:‏ ‏{‏لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم‏}‏ وليس هذا من مصائب الدين، أمرهم أن يأسوا على السيئة ويفرحوا بالحسنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 29‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏25‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏27‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏28‏)‏ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات‏}‏ أي‏:‏ بالمعجزات البينة، والشرائع الظاهرة ‏{‏وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب‏}‏ المراد الجنس، فيدخل فيه كتاب كلّ رسول ‏{‏والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط‏}‏ قال قتادة، ومقاتل بن حيان‏:‏ الميزان‏:‏ العدل‏:‏ أمرناهم بالعدل، كما في قوله‏:‏ ‏{‏والسماء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 7‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الله الذى أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 17‏]‏ وقال ابن زيد‏:‏ هو ما يوزن به ويتعامل به، ومعنى‏:‏ ‏{‏لِيَقُومَ الناس بالقسط‏}‏؛ ليتبعوا ما أمروا به من العدل، فيتعاملوا فيما بينهم بالنصفة، والقسط‏:‏ العدل، وهو يدل على أن المراد بالميزان العدل، ومعنى إنزاله‏:‏ إنزال أسبابه وموجباته‏.‏ وعلى القول بأن المراد به الآلة التي يوزن بها، فيكون إنزاله بمعنى‏:‏ إرشاد الناس إليه، وإلهامهم الوزن به، ويكون الكلام من باب‏:‏

علفتها تبناً وماء بارداً *** ‏{‏وَأَنزْلْنَا الحديد‏}‏ أي‏:‏ خلقناه، كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعام ثمانية أزواج‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 6‏]‏ والمعنى‏:‏ أنه خلقه من المعادن، وعلم الناس صنعته، وقيل‏:‏ إنه نزل مع آدم ‏{‏فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ‏}‏ لأنه تتخذ منه آلات الحرب‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يمتنع به ويحارب، والمعنى‏:‏ أنه تتخذ منه آلة للدفع، وآلة للضرب‏.‏ قال مجاهد‏:‏ فيه جنة وسلاح، ومعنى ‏{‏ومنافع لِلنَّاسِ‏}‏‏:‏ أنهم ينتفعون به في كثير مما يحتاجون إليه مثل السكين، والفأس، والإبرة، وآلات الزراعة، والنجارة، والعمارة ‏{‏وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب‏}‏ معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏ليقوم الناس‏}‏ أي‏:‏ لقد أرسلنا رسلنا، وفعلنا كيت وكيت، ليقوم الناس وليعلم، وقيل‏:‏ معطوف على علة مقدّرة، كأنه قيل‏:‏ ليستعملوه وليعلم الله، والأوّل أولى‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الله أمر في الكتاب الذي أنزل بنصره دينه ورسله، فمن نصر دينه ورسله علمه ناصراً، ومن عصى علمه بخلاف ذلك، و‏{‏بالغيب‏}‏ في محلّ نصب على الحال من فاعل ينصره، أو من مفعوله أي‏:‏ غائباً عنهم، أو غائبين عنه ‏{‏إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ‏}‏ أي‏:‏ قادر على كل شيء غالب لكل شيء، وليس له حاجة في أن ينصره أحد من عباده وينصر رسله، بل كلفهم بذلك؛ لينتفعوا به إذا امتثلوا، ويحصل لهم ما وعد به عباده المطيعين‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وإبراهيم‏}‏ لما ذكر سبحانه إرسال الرسل إجمالاً أشار هنا إلى نوع تفصيل، فذكر رسالته لنوح وإبراهيم، وكرّر القسم للتوكيد ‏{‏وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب‏}‏ أي‏:‏ جعلنا فيهم النبوّة والكتب المنزلة على الأنبياء منهم، وقيل‏:‏ جعل بعضهم أنبياء، وبعضهم يتلون الكتاب ‏{‏فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ‏}‏ أي‏:‏ فمن الذرية من اهتدى بهدي نوح وإبراهيم، وقيل‏:‏ المعنى فمن المرسل إليهم من قوم الأنبياء مهتد بما جاء به الأنبياء من الهدى ‏{‏وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون‏}‏ خارجون عن الطاعة‏.‏ ‏{‏ثُمَّ قَفَّيْنَا على ءاثارهم بِرُسُلِنَا‏}‏ أي‏:‏ اتبعنا على آثار الذرية، أو على آثار نوح وإبراهيم برسلنا الذين أرسلناهم إلى الأمم كموسى، وإلياس، وداود، وسليمان، وغيرهم ‏{‏وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ‏}‏ أي‏:‏ أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم، وهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه ‏{‏وآتيناه الإنجيل‏}‏ وهو الكتاب الذي أنزله الله عليه، وقد تقدّم ذكر اشتقاقه في سورة آل عمران‏.‏

قرأ الجمهور ‏{‏الإنجيل‏}‏ بكسر الهمزة، وقرأ الحسن بفتحها ‏{‏وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً‏}‏ الذين اتبعوه هم الحواريون جعل الله في قلوبهم مودّة لبعضهم البعض، ورحمة يتراحمون بها، بخلاف اليهود، فإنهم ليسوا كذلك، وأصل الرأفة‏:‏ اللين، والرحمة‏:‏ الشفقة، وقيل‏:‏ الرأفة‏:‏ أشدّ الرحمة ‏{‏وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها‏}‏ انتصاب ‏{‏رهبانية‏}‏ على الاشتغال، أي‏:‏ وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، وليس بمعطوفة على ما قبلها، وقيل‏:‏ معطوفة على ما قبلها، أي‏:‏ وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة، ورهبانية مبتدعة من عند أنفسهم‏.‏ والأوّل أولى، ورجحه أبو علي الفارسي وغيره، وجملة‏:‏ ‏{‏مَا كتبناها عَلَيْهِمْ‏}‏ صفة ثانية لرهبانية، أو مستأنفة مقرّرة؛ لكونها مبتدعة من جهة أنفسهم، والمعنى‏:‏ ما فرضناها عليهم، والرهبانية بفتح الراء وضمها، وقد قرئ بهما، وهي بالفتح‏:‏ الخوف من الرهب، وبالضم منسوبة إلى الرهبان، وذلك لأنهم غلوا في العبادة، وحملوا على أنفسهم المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والمنكح، وتعلقوا بالكهوف والصوامع؛ لأن ملوكهم غيروا وبدلوا، وبقي منهم نفر قليل، فترهبوا وتبتلوا، ذكر معناه الضحاك، وقتادة، وغيرهما ‏{‏إِلاَّ ابتغاء رضوان الله‏}‏ الاستثناء منقطع، أي‏:‏ ما كتبناها نحن عليهم رأساً، ولكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ما كتبناها عليهم معناه لم نكتب عليهم شيئًا ألبتة، قال‏:‏ ويكون ‏{‏إِلاَّ ابتغاء رضوان الله‏}‏ بدلاً من الهاء والألف في كتبناها، والمعنى‏:‏ ما كتبنا عليهم إلاّ ابتغاء رضوان الله ‏{‏فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا‏}‏ أي‏:‏ لم يرعوا هذه الرهبانية التي ابتدعوها من جهة أنفسهم، بل صنعوها وكفروا بدين عيسى، ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا وبدّلوا، وتركوا الترهب، ولم يبق على دين عيسى إلاّ قليل منهم، وهم المرادون بقوله‏:‏ ‏{‏فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم‏}‏ الذي يستحقونه بالإيمان، وذلك لأنهم آمنوا بعيسى، وثبتوا على دينه حتى آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله ‏{‏وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون‏}‏‏:‏ خارجون عن الإيمان بما أمروا أن يؤمنوا به، ووجه الذمّ لهم على تقدير أن الاستثناء منقطع أنهم قد كانوا ألزموا أنفسهم الرهبانية معتقدين أنها طاعة، وأن الله يرضاها، فكان تركها وعدم رعايتها حق الرعاية يدل على عدم مبالاتهم بما يعتقدونه ديناً‏.‏ وأما على القول بأن الاستثناء متصل، وأن التقدير‏:‏ ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلاّ ليبتغوا بها رضوان الله بعد أن وفقناهم لابتداعها، فوجه الذم ظاهر‏.‏

ثم أمر سبحانه المؤمنين بالرسل المتقدّمين بالتقوى والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله‏}‏ بترك ما نهاكم عنه ‏{‏وآمنوا برسوله‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ‏}‏ أي‏:‏ نصيبين من رحمته بسبب إيمانكم برسوله بعد إيمانكم بمن قبله من الرسل، وأصل الكفل‏:‏ الحظ والنصيب، وقد تقدّم الكلام على تفسيره في سورة النساء ‏{‏وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ على الصراط كما قال‏:‏ ‏{‏نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 8‏]‏ وقيل‏:‏ المعنى ويجعل لكم سبيلاً واضحاً في الدين تهتدون به ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ ما سلف من ذنوبكم ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ بليغ المغفرة والرحمة ‏{‏لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب‏}‏ اللام متعلقة بما تقدّم من الأمر بالإيمان والتقوى، والتقدير‏:‏ اتقوا وآمنوا يؤتكم كذا وكذا؛ ليعلم الذين لم يتقوا ولا آمنوا من أهل الكتاب ‏{‏أَن لا يَقْدِرُونَ على شَئ مّن فَضْلِ الله‏}‏ و‏"‏ لا ‏"‏ في قوله‏:‏ ‏{‏لّئَلاَّ‏}‏ زائدة للتوكيد، قاله الفراء، والأخفش، وغيرهما، و‏"‏ أن ‏"‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أَن لا يَقْدِرُونَ‏}‏ هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف، وخبرها ما بعدها، والجملة في محل نصب على أنها مفعول يعلم، والمعنى‏:‏ ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على أن ينالوا شيئًا من فضل الله الذي تفضل به على من آمن بمحمد، ولا يقدرون على دفع ذلك الفضل الذي تفضل الله به على المستحقين له، وجملة‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله‏}‏ معطوفة على الجملة التي قبلها، أي‏:‏ ليعلموا أنهم لا يقدرون، وليعلموا أن الفضل بيد الله سبحانه، وقوله‏:‏ ‏{‏يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء‏}‏ خبر ثان لأنّ، أو هو الخبر، والجارّ والمجرور في محل نصب على الحال ‏{‏والله ذُو الفضل العظيم‏}‏ هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها، والمراد بالفضل هنا‏:‏ ما تفضل به على الذين اتقوا وآمنوا برسوله من الأجر المضاعف‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ هو رزق الله، وقيل‏:‏ نعم الله التي لا تحصى، وقيل‏:‏ هو الإسلام، وقد قيل‏:‏ إن «لا» في ‏{‏لئلا‏}‏ غير مزيدة، وضمير ‏{‏لا يقدرون‏}‏ للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏ والمعنى‏:‏ لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبيّ والمؤمنون على شيء من فضل الله الذي هو عبارة عما أوتوه، والأوّل أولى‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ ‏(‏لكيلا يعلم‏)‏ وقرأ خطاب بن عبد الله‏:‏ ‏(‏لأن يعلم‏)‏ وقرأ عكرمة‏:‏ ‏(‏ليعلم‏)‏ وقرئ‏:‏ ‏(‏ليلا‏)‏ بقلب الهمزة ياء، وقرئ بفتح اللام‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب من طرق ‏[‏عن‏]‏ ابن مسعود قال‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يا عبد الله ‏"‏

، قلت‏:‏ لبيك يا رسول الله ثلاث مرات، قال‏:‏ ‏"‏ هل تدري أيّ عرى الإسلام أوثق‏؟‏ ‏"‏ قلت‏:‏ الله، ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏"‏ أفضل الناس أفضلهم عملاً إذ فقهوا في دينهم؛ يا عبد الله هل تدري أيّ الناس أعلم‏؟‏ ‏"‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس، وإن كان مقصراً بالعمل، وإن كان يزحف على استه، واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها‏:‏ فرقة وازرت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك، فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى، فقتلهم الملوك ونشرتهم بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك ولا بالمقام معهم، فساحوا في الجبال وترهبوا فيها، وهم الذين قال الله‏:‏ ‏{‏وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغاء رضوان الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَئَاتَيْنَا الذين ءامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ‏}‏ هم الذين آمنوا بي وصدقوني ‏{‏وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون‏}‏ الذين جحدوني وكفروا بي»‏.‏ وأخرج النسائي، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ كانت ملوك بعد عيسى بدلت التوراة والإنجيل، فكان منهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل، فقيل لملوكهم‏:‏ ما نجد شيئًا أشدّ من شتم يشتمناه هؤلاء، إنهم يقرءون ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 47‏]‏ مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم، فادعوهم فليقرؤوا كما نقرأ، وليؤمنوا كما آمنا، فدعاهم فجمعهم، وعرض عليهم القتل، أو ليتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلاّ ما بدلوا منهما، فقالوا‏:‏ ما تريدون إلى ذلك‏؟‏ دعونا، فقالت طائفة منهم‏:‏ ابنوا لنا أسطوانة، ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا، ولا نرد عليكم، وقالت طائفة‏:‏ دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونأكل مما تأكل منه الوحوش، ونشرب مما تشرب، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا، وقالت طائفة‏:‏ ابنوا لنا دوراً في الفيافي، ونحتفر الآبار، ونحرث البقول، فلا نرد عليكم ولا نمرّ بكم، وليس أحد من القبائل إلاّ له حميم فيهم، ففعلوا ذلك، فأنزل الله ‏{‏وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغاء رضوان الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا‏}‏ وقال الآخرون ممن تعبد من أهل الشرك، وفني من فني منهم قالوا‏:‏ نتعبد كما تعبد فلان، ونسيح كما ساح فلان، ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم، فلما بعث النبي، ولم يبق منهم إلاّ القليل انحط صاحب الصومعة من صومعته، وجاء السياح من سياحته، وصاحب الدير من ديره، فآمنوا به وصدّقوه، فقال الله‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ‏}‏ أجرين‏:‏ بإيمانهم بعيسى وتصديقهم والتوراة والإنجيل، وبإيمانهم بمحمد وتصديقهم به ‏{‏وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ‏}‏ القرآن واتباعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأخرج أحمد، والحكيم الترمذي، وأبو يعلى، والبيهقي في الشعب عن أنس أن النبيّ قال‏:‏ «إن لكل أمة رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله» وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعريّ في قوله‏:‏ ‏{‏كِفْلَيْنِ‏}‏ قال‏:‏ ضعفين وهي بلسان الحبشة‏.‏ وأخرج الفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عمر في قوله‏:‏ ‏{‏يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ‏}‏ قال‏:‏ الكفل ثلثمائة جزء وخمسون جزءاً من رحمة الله‏.‏

سورة المجادلة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏1‏)‏ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ‏(‏2‏)‏ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏3‏)‏ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ سَمِعَ الله‏}‏ قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي بإدغام الدال في السين، وقرأ الباقون بالإظهار‏.‏ قال الكسائي‏:‏ من بيَّن الدال عند السين، فلسانه أعجميّ وليس بعربيّ ‏{‏قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا‏}‏ أي‏:‏ تراجعك الكلام في شأنه ‏{‏وَتَشْتَكِى إِلَى الله‏}‏ معطوف على تجادلك‏.‏ والمجادلة هذه الكائنة منها مع رسول الله أنه كان كلما قال لها‏:‏ «قد حرمت عليه»، قالت‏:‏ والله ما ذكر طلاقاً، ثم تقول‏:‏ أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، وإن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء، وتقول‏:‏ اللَّهم إني أشكو إليك، فهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏وَتَشْتَكِى إِلَى الله‏}‏ قال الواحدي‏:‏ قال المفسرون‏:‏ نزلت هذه الآية في خولة بنت ثعلبة، وزوجها أوس بن الصامت، وكان به لمم، فاشتد به لممه ذات يوم، فظاهر منها، ثم ندم على ذلك، وكان الظهار طلاقاً في الجاهلية، وقيل‏:‏ هي خولة بنت حكيم، وقيل‏:‏ اسمها جميلة، والأوّل أصح، وقيل‏:‏ هي بنت خويلد، وقال الماوردي‏:‏ إنها نسبت تارة إلى أبيها، وتارة إلى جدّها، وأحدهما أبوها، والآخر جدّها، فهي‏:‏ خولة بنت ثعلبة بن خويلد، وجملة ‏{‏والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما‏}‏ في محل نصب على الحال، أو مستأنفة جارية مجرى التعليل لما قبلها أي‏:‏ والله يعلم تراجعكما في الكلام ‏{‏إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏ يسمع كل مسموع، ويبصر كل مبصر، ومن جملة ذلك ما جادلتك به هذه المرأة‏.‏ ثم بيّن سبحانه شأن الظهار في نفسه، وذكر حكمه، فقال‏:‏ ‏{‏الذين يظاهرون مِنكُمْ مّن نّسَائِهِمْ‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يظهرون‏}‏ بالتشديد مع فتح حرف المضارعة‏.‏ وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏(‏يظاهرون‏)‏ بفتح الياء، وتشديد الظاء، وزيادة ألف، وقرأ أبو العالية، وعاصم، وزرّ بن حبيش‏:‏ ‏(‏يظاهرون‏)‏ بفك الإدغام، ومعنى الظهار‏:‏ أن يقول لامرأته‏:‏ أنت عليّ كظهر أمي، ولا خلاف في كون هذا ظهاراً‏.‏ واختلفوا إذا قال‏:‏ أنت عليّ كظهر ابنتي، أو أختي، أو غير ذلك من ذوات المحارم، فذهب جماعة منهم أبو حنيفة ومالك إلى أنه ظهار، وبه قال الحسن، والنخعي، والزهري، والأوزاعي، والثوري‏.‏ وقال جماعة منهم قتادة والشعبي‏:‏ إنه لا يكون ظهاراً بل يختصّ الظهار بالأمّ وحدها‏.‏ واختلفت الرواية عن الشافعي، فروي عنه كالقول الأوّل، وروي عنه كالقول الثاني، وأصل الظهار مشتق من الظهر‏.‏

واختلفوا إذا قال لامرأته‏:‏ أنت عليّ كرأس أمي، أو يدها، أو رجلها، أو نحو ذلك‏؟‏ هل يكون ظهاراً أم لا وهكذا إذا قال‏:‏ أنت عليّ كأمي ولم يذكر الظهر، والظاهر أنه إذا قصد بذلك الظهار كان ظهاراً‏.‏ وروي عن أبي حنيفة أنه إذا شبهها بعضو من أمه يحلّ له النظر إليه لم يكن ظهاراً، وروي عن الشافعي أنه لا يكون الظهار إلاّ في الظهر وحده‏.‏

واختلفوا إذا شبّه امرأته بأجنبية فقيل‏:‏ يكون ظهاراً وقيل‏:‏ لا، والكلام في هذا مبسوط في كتب الفروع‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏مَّا هُنَّ أمهاتهم‏}‏ في محل رفع على أنها خبر الموصول، أي‏:‏ ما نساؤهم بأمهاتهم، فذلك كذب منهم، وفي هذا توبيخ للمظاهرين وتبكيت لهم‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏أمهاتهم‏}‏ بالنصب على اللغة الحجازية في إعمال «ما» عمل ليس‏.‏ وقرأ أبو عمرو، والسلمي بالرّفع على عدم الإعمال، وهي لغة نجد، وبني أسد‏.‏ ثم بيّن سبحانه لهم أمهاتهم على الحقيقة فقال‏:‏ ‏{‏إِنْ أمهاتهم إِلاَّ اللائى وَلَدْنَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ما أمهاتهم إلاّ النساء اللائي ولدنهم، ثم زاد سبحانه في توبيخهم وتقريعهم، فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ القول وَزُوراً‏}‏ أي‏:‏ وإن المظاهرين ليقولون بقولهم هذا منكراً من القول، أي‏:‏ فظيعاً من القول ينكره الشرع، والزور‏:‏ الكذب، وانتصاب ‏{‏منكراً‏}‏، و‏{‏زوراً‏}‏ على أنهما صفة لمصدر محذوف، أي‏:‏ قولاً منكراً وزوراً ‏{‏وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ‏}‏ أي‏:‏ بليغ العفو والمغفرة إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم عن هذا القول المنكر‏.‏ ‏{‏والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ‏}‏ لما ذكر سبحانه الظهار إجمالاً ووبخ فاعليه شرع في تفصيل أحكامه، والمعنى‏:‏ والذين يقولون ذلك القول المنكر الزور، ثم يعودون لما قالوا، أي‏:‏ إلى ما قالوا بالتدارك والتلافي، كما في قوله‏:‏ ‏{‏أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 17‏]‏ أي‏:‏ إلى مثله، قال الأخفش‏:‏ ‏{‏لِمَا قَالُواْ‏}‏ وإلى ما قالوا يتعاقبان‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 43‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فاهدوهم إلى صراط الجحيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 23‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 5‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 36‏]‏ وقال الفرّاء‏:‏ اللام بمعنى عن، والمعنى‏:‏ ثم يرجعون عما قالوا، ويريدون الوطء‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا‏.‏ قال الأخفش أيضاً‏:‏ الآية فيها تقديم وتأخير، والمعنى‏:‏ والذين يظهرون من نسائهم، ثم يعودون لما كانوا عليه من الجماع ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ لما قالوا، أي‏:‏ فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا‏.‏ فالجار في قوله‏:‏ ‏{‏لِمَا قَالُواْ‏}‏ متعلق بالمحذوف الذي هو خبر المبتدأ، وهو فعليهم‏.‏

واختلف أهل العلم في تفسير العود المذكور على أقوال‏:‏ الأوّل‏:‏ أنه العزم على الوطء، وبه قال العراقيون أبو حنيفة وأصحابه، وروي عن مالك‏.‏ وقيل‏:‏ هو الوطء نفسه، وبه قال الحسن، وروي أيضاً عن مالك‏.‏ وقيل‏:‏ هو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق، وبه قال الشافعي‏.‏ وقيل‏:‏ هو الكفارة، والمعنى‏:‏ أنه لا يستبيح وطأها إلاّ بكفارة، وبه قال الليث بن سعد، وروي عن أبي حنيفة‏.‏ وقيل‏:‏ هو تكرير الظهار بلفظه، وبه قال أهل الظاهر‏.‏ وروي عن بكير بن الأشبح، وأبي العالية، والفراء‏.‏

والمعنى‏:‏ ثم يعودون إلى قول ما قالوا‏.‏ والموصول مبتدأ، وخبره‏:‏ ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ على تقدير، فعليهم تحرير رقبة، كما تقدّم، أو قالوا وجب عليهم إعتاق رقبة، يقال‏:‏ حررته، أي‏:‏ جعلته حرّاً، والظاهر أنها تجزئ أيّ رقبة كانت، وقيل‏:‏ يشترط أن تكون مؤمنة كالرقبة في كفارة القتل؛ وبالأول‏:‏ قال أبو حنيفة وأصحابه، وبالثاني‏:‏ قال مالك، والشافعي، واشترطا أيضاً سلامتها من كل عيب ‏{‏مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا‏}‏ المراد بالتماس هنا‏:‏ الجماع، وبه قال الجمهور، فلا يجوز للمظاهر الوطء حتى يُكَفّر، وقيل‏:‏ إن المراد به الاستمتاع بالجماع، أو اللمس، أو النظر إلى الفرج بشهوة، وبه قال مالك، وهو أحد قولي الشافعي، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ إلى الحكم المذكور وهو مبتدأ، وخبره‏:‏ ‏{‏تُوعَظُونَ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ تؤمرون به، أو تزجرون به عن ارتكاب الظهار، وفيه بيان لما هو المقصود من شرع الكفارة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ معنى الآية ذلكم التغليظ في الكفارة توعظون به أي‏:‏ إن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، فهو مجازيكم عليها‏.‏ ثم ذكر سبحانه حكم العاجز عن الكفارة، فقال‏:‏ ‏{‏فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا‏}‏ أي‏:‏ فمن لم يجد الرّقبة في ملكه، ولا تمكن من قيمتها، فعليه صيام شهرين متتابعين متواليين لا يفطر فيهما، فإن أفطر استأنف إن كان الإفطار لغير عذر، وإن كان لعذر من سفر أو مرض، فقال سعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، والشعبي، والشافعي، ومالك‏:‏ إنه يبني، ولا يستأنف‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إنه يستأنف، وهو مرويّ عن الشافعي؛ ومعنى ‏{‏مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا‏}‏‏:‏ هو ما تقدّم قريباً، فلو وطئ ليلاً أو نهاراً عمداً أو خطأ استأنف، وبه قال أبو حنيفة، ومالك‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا يستأنف إذا وطئ ليلاً؛ لأنه ليس محلاً للصوم، والأول أولى ‏{‏فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ‏}‏ يعني‏:‏ صيام شهرين متتابعين ‏{‏فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً‏}‏ أي‏:‏ فعليه أن يطعم ستين مسكيناً، لكل مسكين مدّان، وهما نصف صاع، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه‏.‏ وقال الشافعي وغيره‏:‏ لكل مسكين مدّ واحد، والظاهر من الآية أن يطعمهم حتى يشبعوا مرّة واحدة، أو يدفع إليهم ما يشبعهم، ولا يلزمه أن يجمعهم مرّة واحدة، بل يجوز له أن يطعم بعض الستين في يوم، وبعضهم في يوم آخر، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما تقدّم ذكره من الأحكام، وهو مبتدأ، وخبره مقدّر، أي‏:‏ ذلك واقع ‏{‏لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ ويجوز أن يكون اسم الإشارة في محل نصب، والتقدير‏:‏ فعلنا ذلك لتؤمنوا، أي‏:‏ لتصدّقوا أن الله أمر به وشرعه، أو لتطيعوا الله ورسوله في الأوامر والنواهي، وتقفوا عند حدود الشرع ولا تتعدّوها، ولا تعودوا إلى الظهار الذي هو منكر من القول وزور، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ‏}‏ إلى الأحكام المذكورة، وهو مبتدأ، وخبره‏:‏ ‏{‏حُدُود الله‏}‏ فلا تجاوزوا حدوده التي حدّها لكم، فإنه قد بيّن لكم أن الظهار معصية، وأن كفارته المذكورة توجب العفو والمغفرة ‏{‏وللكافرين‏}‏ الذين لا يقفون عند حدود الله، ولا يعملون بما حدّه الله لعباده ‏{‏عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ وهو عذاب جهنم، وسماه كفراً تغليظاً وتشديداً‏.‏

وقد أخرج ابن ماجه، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي عن عائشة قالت‏:‏ تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى عليّ بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تقول‏:‏ يا رسول الله أكل شبابي، ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني، اللَّهمّ إني أشكو إليك، قالت‏:‏ فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات‏:‏ ‏{‏قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا‏}‏ وهو أوس بن الصامت‏.‏ وأخرج النحاس، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس قال‏:‏ كان أوّل من ظاهر في الإسلام أوس، وكانت تحته ابنة عمّ له يقال لها‏:‏ خولة بنت خويلد، فظاهر منها، فأسقط في يده وقال‏:‏ ما أراك إلاّ قد حرمت عليّ، فانطلقي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاسأليه، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه، فأخبرته، فقال‏:‏ ‏"‏ يا خولة ما أمرنا في أمرك بشيء ‏"‏، فأنزل الله على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ يا خولة أبشري ‏"‏ قالت‏:‏ خيراً‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ خيراً ‏"‏، فقرأ عليها ‏{‏قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا‏}‏ الآيات‏.‏ وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقيّ من طريق يوسف بن عبد الله بن سلام قال‏:‏ حدّثتني خولة بنت ثعلبة قالت‏:‏ فيّ، والله، وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة، قالت‏:‏ كنت عنده، وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه، فدخل عليّ يوماً فراجعته بشيء، فغضب فقال‏:‏ أنت عليّ كظهر أمي، ثم رجع، فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل عليّ، فإذا هو يريدني عن نفسي، قلت‏:‏ كلا والذي نفس خولة بيده لا تصل إليّ، وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فما برحت حتى نزل القرآن، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه، ثم سري عنه، فقال لي‏:‏ ‏"‏ يا خولة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك ‏"‏، ثم قرأ عليّ‏:‏ ‏{‏قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مريه، فليعتق رقبة»، قلت‏:‏ يا رسول الله ما عنده ما يعتق، قال‏:‏

«فليصم شهرين متتابعين»، قلت‏:‏ والله إنه لشيخ كبير ما به من صيام، قال‏:‏ «فليطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر»، قلت‏:‏ والله ما ذاك عنده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فأنا سأعينه بعرق من تمر»، فقلت‏:‏ وأنا يا رسول الله سأعينه بعرق آخر، فقال‏:‏ «قد أصبت، وأحسنت، فاذهبي، فتصدّقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيراً،» قالت، ففعلت وفي الباب أحاديث‏.‏ وأخرج ابن المنذر، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ‏}‏ قال‏:‏ هو الرجل يقول لامرأته‏:‏ أنت عليّ كظهر أمي، فإذا قال ذلك فليس يحلّ له أن يقربها بنكاح، ولا غيره حتى يُكَفر بعتق رقبة ‏{‏فَمَنْ‏}‏ فإن ‏{‏لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا‏}‏ والمسّ‏:‏ النكاح ‏{‏فَمَنْ‏}‏ فإن ‏{‏لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً‏}‏ وإن هو قال لها‏:‏ أنت عليّ كظهر أمي إن فعلت كذا، فليس يقع في ذلك ظهار حتى يحنث، فإن حنث، فلا يقربها حتى يُكَفّر، ولا يقع في الظهار طلاق‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن أبي هريرة قال‏:‏ ثلاث فيه مدّ‏:‏ كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة الصيام‏.‏ وأخرج البزار، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس قال‏:‏ أتى رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني ظاهرت من امرأتي، فرأيت بياض خلخالها في ضوء القمر، فوقعت عليها قبل أن أُكفر، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ألم يقل الله‏:‏ ‏{‏مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا‏}‏»، قال‏:‏ قد فعلت يا رسول الله، قال‏:‏ «أمسك عنها حتى تُكَفر» وأخرج عبد الرزاق، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقيّ عن ابن عباس أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي، فوقعت عليها من قبل أن أُكفر، فقال‏:‏ «وما حملك على ذلك»‏؟‏ قال‏:‏ رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال‏:‏ «فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله» وأخرج عبد الرّزاق، وأحمد، وعبد بن حميد، وأبو داود، والترمذيّ وحسنه، وابن ماجه، والطبراني، والبغوي في معجمه، والحاكم وصححه عن سلمة بن صخر الأنصاريّ قال‏:‏ كنت رجلاً قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري، فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان، فرقا من أن أصيب منها في ليلي، فأتتابع في ذلك، ولا أستطيع أن أنزع حتى يدركني الصبح، فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء، فوثبت عليها، فلما أصبحت غدوت على قومي، فأخبرتهم خبري، فقلت‏:‏ انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بأمري، فقالوا‏:‏ لا، والله لا نفعل نتخوّف أن ينزل فينا القرآن، أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة يبقى علينا عارها؛ ولكن اذهب أنت، فاصنع ما بدا لك قال‏:‏ فخرجت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته خبري، فقال‏:‏

«أنت بذاك‏؟‏» قلت‏:‏ أنا بذاك، قال‏:‏ «أنت بذاك‏؟‏» قلت‏:‏ أنا بذاك، قال‏:‏ «أنت بذاك‏؟‏» قلت‏:‏ أنا بذاك، وها أنا ذا، فأمض فيّ حكم الله، فإني صابر لذلك، قال‏:‏ «أعتق رقبة»، فضربت عنقي بيدي، فقلت‏:‏ لا والذي بعثك بالحقّ ما أصبحت أملك غيرها، قال‏:‏ «فصم شهرين متتابعين»، فقلت‏:‏ هل أصابني ما أصابني إلاّ في الصيام‏؟‏ قال‏:‏ «فأطعم ستين مسكيناً»، قلت‏:‏ والذي بعثك بالحقّ لقد بتنا ليلتنا هذه وحشاً ما لنا عشاء، قال‏:‏ «اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق، فقل له، فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقاً ستين مسكيناً، ثم استعن بسائرها عليك، وعلى عيالك» فرجعت إلى قومي فقلت‏:‏ وجدت عندكم الضيق، وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة والبركة، أمر لي بصدقتكم، فادفعوها إليّ، فدفعوها إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 10‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏6‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏7‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏8‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏9‏)‏ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ لما ذكر سبحانه المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادّين، والمحادّة‏:‏ المشاقة، والمعاداة، والمخالفة، ومثله قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 20‏]‏ قال الزجاج‏:‏ المحادّة أن تكون في حدّ يخالف صاحبك، وأصلها الممانعة، ومنه الحديد، ومنه الحدّاد للبوّاب ‏{‏كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ أذلوا وأخزوا، يقال‏:‏ كبت الله فلاناً‏:‏ إذا أذله، والمردود بالذلّ يقال له‏:‏ مكبوت‏.‏ قال المقاتلان‏:‏ أخزوا، كما أخزي الذين من قبلهم من أهل الشرك، وكذا قال قتادة، وقال أبو عبيدة، والأخفش‏:‏ أهلكوا‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ عذبوا‏.‏ وقال السديّ‏:‏ لعنوا‏.‏ وقال الفرّاء‏:‏ أغيظوا، والمراد بمن قبلهم‏:‏ كفار الأمم الماضية المعادين لرسل الله، وعبّر عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه، وقيل المعنى‏:‏ على المضيّ، وذلك ما وقع للمشركين يوم بدر، فإن الله كبتهم بالقتل والأسر، والقهر، وجملة ‏{‏وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايات بينات‏}‏ في محل نصب على الحال من الواو في كبتوا، أي‏:‏ والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حادّ الله ورسله من الأمم المتقدّمة، وقيل‏:‏ المراد الفرائض التي أنزلها الله سبحانه، وقيل‏:‏ هي المعجزات ‏{‏وللكافرين عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ أي‏:‏ للكافرين بكل ما يجب الإيمان به‏.‏ فتدخل الآيات المذكورة هنا دخولاً أوّلياً، والعذاب المهين‏:‏ الذي يهين صاحبه، ويذله، ويذهب بعزّه ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً‏}‏ الظرف منتصب بإضمار اذكر، أو بمهين، أو بما تعلق به اللام من الاستقرار، أو بأحصاه المذكور بعده، وانتصاب ‏{‏جميعاً‏}‏ على الحال، أي‏:‏ مجتمعين في حالة واحدة، أو يبعثهم كلهم لا يبقي منهم أحد غير مبعوث ‏{‏فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ‏}‏ أي‏:‏ يخبرهم بما عملوه في الدنيا من الأعمال القبيحة توبيخاً لهم وتبكيتاً، ولتكميل الحجة عليهم، وجملة ‏{‏أحصاه الله وَنَسُوهُ‏}‏ مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل كيف ينبئهم بذلك على كثرته واختلاف أنواعه، فقيل‏:‏ أحصاه الله جميعاً، ولم يفته منه شيء، والحال أنهم قد نسوه ولم يحفظوه، بل وجدوه حاضراً مكتوباً في صحائفهم ‏{‏والله على كُلّ شَئ شَهِيدٌ‏}‏ لا يخفى عليه شيء من الأشياء، بل هو مطلع وناظر‏.‏ ثم أكّد سبحانه بيان كونه عالماً بكل شيء، فقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ أي‏:‏ ألم تعلم أن علمه محيط بما فيهما بحيث لا يخفى عليه شيء مما فيهما، وجملة‏:‏ ‏{‏مَا يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة‏}‏ إلخ مستأنفة؛ لتقرير شمول علمه وإحاطته بكل المعلومات‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يكون‏}‏ بالتحتية‏.‏ وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، والأعرج، وأبو حيوة بالفوقية، وكان على القراءتين تامة، و«من» مزيدة للتأكيد، ونجوى فاعل كان، والنجوى‏:‏ السرار، يقال‏:‏ قوم نجوى، أي‏:‏ ذو نجوى، وهي مصدر‏.‏

والمعنى‏:‏ ما يوجد من تناجي ثلاثة، أو من ذوي نجوى، ويجوز أن تطلق النجوى على الأشخاص المتناجين، فعلى الوجه الأوّل انخفاض ثلاثة بإضافة نجوى إليه، وعلى الوجهين الآخرين يكون انخفاضها على البدل من نجوى، أو الصفة لها‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ ثلاثة نعت للنجوى، فانخفضت، وإن شئت أضفت نجوى إليها، ولو نصبت على إضمار فعل جاز، وهي قراءة ابن أبي عبلة، ويجوز رفع ثلاثة على البدل من موضع نجوى ‏{‏إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ‏}‏ هذه الجملة في موضع نصب على الحال، وكذا قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ‏}‏ ‏{‏إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ما يوجد شيء من هذه الأشياء إلاّ في حال من هذه الأحوال، فالاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال، ومعنى رابعهم جاعلهم أربعة، وكذا سادسهم‏:‏ جاعلهم ستة من حيث إنه يشاركهم في الاطلاع على تلك النجوى ‏{‏وَلاَ خَمْسَةٍ‏}‏ أي‏:‏ ولا نجوى خمسة، وتخصيص العددين بالذكر؛ لأن أغلب عادات المتناجين أن يكونوا ثلاثة، أو خمسة؛ أو كانت الواقعة التي هي سبب النزول في متناجين كانوا ثلاثة في موضع، وخمسة في موضع‏.‏ قال الفراء‏:‏ العدد غير مقصود؛ لأنه سبحانه مع كل عدد قلّ أو كثر، يعلم السر والجهر، لا تخفى عليه خافية ‏{‏وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ولا أقلّ من العدد المذكور‏:‏ كالواحد والاثنين، ولا أكثر منه كالستة والسبعة إلاّ هو معهم يعلم ما يتناجون به لا يخفى عليه منه شيء‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ولا أكثر‏}‏ بالجرّ بالفتحة عطفاً على لفظ نجوى‏.‏ وقرأ الحسن، والأعمش، وابن أبي إسحاق، وأبو حيوة، ويعقوب، وأبو العالية، ونصر، وعيسى بن عمر، وسلام بالرفع عطفاً على محل نجوى‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ولا أكثر‏}‏ بالمثلثة‏.‏ وقرأ الزهري، وعكرمة بالموحدة‏.‏ قال الواحدي‏:‏ قال المفسرون‏:‏ إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم، ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم، فيحزنون لذلك، فلما طال ذلك وكثر شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك، وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله هذه الآيات، ومعنى ‏{‏أَيْنَمَا كَانُواْ‏}‏ إحاطة علمه بكل تناج يكون منهم في أيّ مكان من الأمكنة ‏{‏ثُمَّ يُنَبّئُهُم‏}‏ أي‏:‏ يخبرهم ‏{‏بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة‏}‏ توبيخاً لهم، وتبكيتاً، وإلزاماً للحجة ‏{‏أَنَّ الله بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ‏}‏ لا يخفى عليه شيء كائناً ما كان‏.‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ‏}‏ هؤلاء الذين نهوا، ثم عادوا لما نهوا عنه، هم من تقدّم ذكره من المنافقين واليهود‏.‏ قال مقاتل‏:‏ كان بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين اليهود مواعدة، فإذا مرّ بهم الرجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظنّ المؤمن شرّاً، فنهاهم الله، فلم ينتهوا، فنزلت‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ كان الرجل يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيسأله الحاجة، ويناجيه، والأرض يومئذٍ حرب، فيتوهمون أنه يناجيه في حرب، أو بلية، أو أمر مهمّ، فيفزعون لذلك ‏{‏ويتناجون بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يتناجون‏}‏ بوزن يتفاعلون، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم، لقوله فيما بعد‏:‏ ‏{‏إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تتناجوا‏}‏‏.‏ وقرأ حمزة، وخلف، وورش عن يعقوب‏:‏ ‏(‏وينتجون‏)‏ بوزن يفتعلون، وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه، وحكى سيبويه أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد نحو تخاصموا واختصموا، وتقاتلوا واقتتلوا، ومعنى الإثم‏:‏ ما هو إثم في نفسه كالكذب والظلم، والعدوان‏:‏ ما فيه عدوان على المؤمنين، ومعصية الرسول‏:‏ مخالفته‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ومعصية‏}‏ بالإفراد‏.‏ وقرأ الضحاك، وحميد، ومجاهد‏:‏ ‏(‏ومعصيات‏)‏ بالجمع ‏{‏وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله‏}‏ قال القرطبي‏:‏ إن المراد بها اليهود كانوا يأتون النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيقولون‏:‏ السام عليك يريدون بذلك السلام ظاهراً، وهم يعنون الموت باطناً، فيقول النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عليكم» وفي رواية أخرى‏:‏ «وعليكم» ‏{‏وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ فيما بينهم ‏{‏لَوْلاَ يُعَذّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ‏}‏ أي‏:‏ هلا يعذبنا بذلك، ولو كان محمد نبياً لعذبنا بما يتضمنه قولنا من الاستخفاف به‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ لو كان نبياً لاستجيب له فينا حيث يقول‏:‏ وعليكم، ووقع علينا الموت عند ذلك ‏{‏حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ‏}‏ عذاباً ‏{‏يَصْلَوْنَهَا‏}‏ يدخلونها ‏{‏فَبِئْسَ المصير‏}‏ أي‏:‏ المرجع، وهو جهنم‏.‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تتناجوا بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول‏}‏ لما فرغ سبحانه عن نهي اليهود والمنافقين عن النجوى أرشد المؤمنين إذا تناجوا فيما بينهم أن لا يتناجوا بما فيه إثم وعدوان، ومعصية لرسول الله، كما يفعله اليهود والمنافقون‏.‏ ثم بيّن لهم ما يتناجون به في أنديتهم وخلواتهم، فقال‏:‏ ‏{‏وتناجوا بالبر والتقوى‏}‏ أي‏:‏ بالطاعة وترك المعصية، وقيل‏:‏ الخطاب للمنافقين، والمعنى‏:‏ يا أيها الذين آمنوا ظاهراً، أو بزعمهم، واختار هذا الزجاج‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب لليهود‏.‏ والمعنى‏:‏ يا أيها الذين آمنوا بموسى، والأوّل أولى، ثم خوفهم سبحانه، فقال‏:‏ ‏{‏واتقوا الله الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏، فيجزيكم بأعمالكم‏.‏ ثم بيّن سبحانه أن ما يفعله اليهود والمنافقون من التناجي هو من جهة الشيطان، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا النجوى‏}‏ يعني‏:‏ بالإثم والعدوان، ومعصية الرسول ‏{‏مِنَ الشيطان‏}‏ لا من غيره، أي‏:‏ من تزيينه وتسويله ‏{‏لِيَحْزُنَ الذين ءامَنُواْ‏}‏ أي‏:‏ لأجل أن يوقعهم في الحزن بما يحصل لهم من التوهم أنها في مكيدة يكادون بها ‏{‏وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ شَيْئاً‏}‏ أو، وليس الشيطان، أو التناجي الذي يزينه الشيطان بضارّ المؤمنين شيئًا من الضرر ‏{‏إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ أي‏:‏ بمشيئته، وقيل‏:‏ بعلمه ‏{‏وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون‏}‏ أي‏:‏ يكلون أمرهم إليه، ويفوّضونه في جميع شؤونهم، ويستعيذون بالله من الشيطان، ولا يبالون بما يزينه من النجوى‏.‏

وقد أخرج أحمد، وعبد بن حميد، والبزار، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب‏.‏ قال السيوطي بسندٍ جيد عن ابن عمر‏:‏ إن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ السام عليك، يريدون بذلك شتمه، ثم يقولون في أنفسهم‏:‏ ‏{‏لولا يعذبنا الله بما نقول‏}‏، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله‏}‏‏.‏ وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، والترمذي وصححه عن أنس‏:‏ أن يهودياً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال‏:‏ السام عليكم، فردّ عليه القوم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هل تدرون ما قال هذا»‏؟‏ قالوا‏:‏ الله أعلم، سلم يا نبيّ الله، قال‏:‏ «لا، ولكنه قال كذا، وكذا، ردّوه عليّ» فردّوه، قال‏:‏ «قلت‏:‏ السام عليكم‏؟‏» قال‏:‏ نعم، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم عند ذلك‏:‏ «إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب، فقولوا‏:‏ عليك، ما قلت» قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله‏}‏‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن عائشة قالت‏:‏ دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود، فقالوا‏:‏ السام عليك يا أبا القاسم، فقالت عائشة‏:‏ عليكم السام واللعنة، فقال‏:‏ «يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا المتفحش»، قلت‏:‏ ألا تسمعهم يقولون السام‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أو ما سمعتني أقول‏:‏ وعليكم» فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال‏:‏ كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حيوه‏:‏ سام عليك، فنزلت‏.‏ وأخرج ابن مردويه عنه قال‏:‏ كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية وأغزاها، التقى المنافقون، فأنغضوا رءوسهم إلى المسلمين، ويقولون‏:‏ قتل القوم، وإذا رأوا رسول الله تناجوا وأظهروا الحزن، فبلغ ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن المسلمين، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تتناجوا بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الثالث، فإن ذلك يحزنه» وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي سعيد قال‏:‏ كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرقه أمر، أو يأمر بشيء، فكثر أهل النوب والمحتسبون ليلة حتى إذا كنا أنداء نتحدّث، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فقال‏:‏ «ما هذه النجوى‏؟‏ ألم تنهوا عن النجوى»‏؟‏ قلنا‏:‏ يا رسول الله إنا كنا في ذكر المسيح فرقاً منه، فقال‏:‏ «ألا أخبركم مما هو أخوف عليكم عندي منه»‏؟‏ قلنا‏:‏ بلى يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ «الشرك الخفيّ أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل» قال ابن كثير‏:‏ هذا إسناد غريب، وفيه بعض الضعفاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 13‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى المجالس‏}‏ يقال‏:‏ فسح له يفسح فسحاً أي‏:‏ وسع له، ومنه قولهم بلد فسيح‏.‏ أمر الله سبحانه بحسن الأدب مع بعضهم بعضاً بالتوسعة في المجلس، وعدم التضايق فيه‏.‏ قال قتادة، ومجاهد، والضحاك‏:‏ كانوا يتنافسون في مجلس النبيّ، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض‏.‏ وقال الحسن، ويزيد بن أبي حبيب‏:‏ هو مجلس القتال إذا اصطفوا للحرب كانوا يتشاحون على الصفّ الأوّل، فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال؛ لتحصيل الشهادة ‏{‏فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ فوسعوا يوسع الله لكم في الجنة، أو في كلّ ما تريدون التفسح فيه من المكان والرزق وغيرهما‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تفسحوا في المجلس‏}‏ وقرأ السلمي، وزرّ بن حبيش، وعاصم‏:‏ ‏(‏في المجالس‏)‏ على الجمع؛ لأن لكلّ واحد منهم مجلساً، وقرأ قتادة، والحسن، وداود بن أبي هند، وعيسى بن عمر‏:‏ ‏(‏تفاسحوا‏)‏ قال الواحدي‏:‏ والوجه التوحيد في المجلس؛ لأنه يعني به مجلس النبيّ‏.‏ وقال القرطبي‏:‏ الصحيح في الآية أنها عامة في كلّ مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب، أو ذكر، أو يوم الجمعة، وأن كلّ واحد أحقّ بمكانه الذي سبق إليه، ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذّ بذلك، فيخرجه الضيق عن موضعه، ويؤيد هذا حديث ابن عمر عند البخاري، ومسلم، وغيرهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «لا يقم الرجل الرجل من مجلسه، ثم يجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا» ‏{‏وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ‏}‏ قرأ الجمهور بكسر الشين فيها، وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم بضمها فيهما، وهما لغتان بمعنى واحد، يقال‏:‏ نشز، أي‏:‏ ارتفع، ينشز وينشز كعكف يعكف ويعكف، والمعنى‏:‏ إذا قيل لكم‏:‏ انهضوا، فانهضوا‏.‏ قال جمهور المفسرين‏:‏ أي انهضوا إلى الصلاة، والجهاد، وعمل الخير‏.‏ وقال مجاهد، والضحاك، وعكرمة‏:‏ كان رجال يتثاقلون عن الصلاة، فقيل لهم‏:‏ إذا نودي للصلاة، فانهضوا‏.‏ وقال الحسن‏:‏ انهضوا إلى الحرب‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ هذا في بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ انشزوا‏}‏ عن النبيّ ‏{‏فَانشُزُواْ‏}‏ فإن له حوائج، فلا تمكثوا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ المعنى أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف، والظاهر حمل الآية على العموم؛ والمعنى‏:‏ إذا قيل لكم‏:‏ انهضوا إلى أمر من الأمور الدينية، فانهضوا ولا تتثاقلوا، ولا يمنع من حملها على العموم كون السبب خاصاً، فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو الحق، ويندرج ما هو سبب النزول فيها اندراجاً أوّلياً، وهكذا يندرج ما فيه السياق، وهو التفسيح في المجلس اندراجاً أوّلياً، وقد قدّمنا أن معنى نشز‏:‏ ارتفع، وهكذا يقال‏:‏ نشز ينشز‏:‏ إذا تنحى عن موضعه، ومنه امرأة ناشز، أي‏:‏ متنحية عن زوجها، وأصله مأخوذ من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض وتنحى، ذكر معناه النحاس ‏{‏يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ‏}‏ في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيهما ‏{‏والذين أُوتُواْ العلم درجات‏}‏ أي‏:‏ ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات عالية في الكرامة في الدنيا، والثواب في الآخرة، ومعنى الآية‏:‏ أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمن درجات، ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات، فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات، ثم رفعه بعلمه درجات، وقيل‏:‏ المراد بالذين آمنوا من الصحابة، وكذلك الذين أوتوا العلم، وقيل‏:‏ المراد بالذين أوتوا العلم الذين قرءوا القرآن‏.‏

والأولى حمل الآية على العموم في كل مؤمن، وكل صاحب علم من علوم الدين من جميع أهل هذه الملة، ولا دليل يدلّ على تخصيص الآية بالبعض دون البعض، وفي هذه الآية فضيلة عظيمة للعلم وأهله، وقد دلّ على فضله وفضلهم آيات قرآنية وأحاديث نبوية ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ لا يخفى عليه شيء من أعمالكم من خير وشرّ، فهو مجازيكم بالخير خيراً وبالشرّ شراً‏.‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً‏}‏ المناجاة المساررة، والمعنى‏:‏ إذا أردتم مساررة الرسول في أمر من أموركم، فقدّموا بين يدي مساررتكم له صدقة‏.‏ قال الحسن‏:‏ نزلت بسبب أن قوماً من المسلمين كانوا يستخلون النبيّ صلى الله عليه وسلم يناجونه، فظنّ بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى، فشقّ عليهم ذلك، فأمرهم الله بالصدقة عند النجوى؛ لتقطعهم عن استخلائه‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويقولون‏:‏ إنه أذن يسمع كل ما قيل له، وكان لا يمنع أحداً من مناجاته، وكان ذلك يشقّ على المسلمين؛ لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعاً اجتمعت لقتاله، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول‏}‏، فلم ينتهوا، فأنزل الله هذه الآية، فانتهى أهل الباطل عن النجوى؛ لأنهم لم يقدّموا بين يدي نجواهم صدقة، وشقّ ذلك على أهل الإيمان، وامتنعوا عن النجوى لضعف كثير منهم عن الصدقة، فخفف الله عنهم بالآية التي بعد هذه، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما تقدّم من تقديم الصدقة بين يدي النجوى، وهو مبتدأ وخبره‏:‏ ‏{‏خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ‏}‏ لما فيه من طاعة الله، وتقييد الأمر بكون امتثاله خيراً لهم من عدم الامتثال، وأطهر لنفوسهم يدل على أنه أمر ندب لا أمر وجوب ‏{‏فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ من كان منهم لا يجد تلك الصدقة المأمور بها بين يدي النجوى، فلا حرج عليه في النجوى بدون صدقة‏.‏

‏{‏أَءشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات‏}‏ أي‏:‏ أخفتم الفقر والعيلة؛ لأن تقدّموا ذلك، والإشفاق‏:‏ الخوف من المكروه، والاستفهام للتقرير‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ أبخلتم، وجمع الصدقات هنا باعتبار المخاطبين‏.‏ قال مقاتل بن حيان‏:‏ إنما كان ذلك عشر ليالٍ، ثم نسخ‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ ما كان ذلك إلاّ ليلة واحدة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ما كان إلاّ ساعة من النهار ‏{‏فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ‏}‏ ما أمرتم به من الصدقة بين يدي النجوى، وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به، ولم يفعل، وأما من لم يجد، فقد تقدّم الترخيص له بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏{‏وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ بأن رخص لكم في الترك، «وإذ» على بابها في الدلالة على المضيّ، وقيل‏:‏ هي بمعنى إذا، وقيل‏:‏ بمعنى إن، وتاب معطوف على لم تفعلوا، أي‏:‏ وإذا لم تفعلوا، وإذ تاب عليكم ‏{‏فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏ والمعنى‏:‏ إذا وقع منكم التثاقل عن امتثال الأمر بتقديم الصدقة بين يدي النجوى، فاثبتوا على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله، فيما تؤمرون به وتنهون عنه ‏{‏والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ لا يخفى عليه من ذلك شيء، فهو مجازيكم، وليس في الآية ما يدلّ على تقصير المؤمنين في امتثال هذا الأمر، أما الفقراء منهم، فالأمر واضح، وأما من عداهم من المؤمنين، فإنهم لم يكلفوا بالمناجاة حتى تجب عليهم الصدقة بل أمروا بالصدقة إذا أرادوا المناجاة فمن ترك المناجاة، فلا يكون مقصراً في امتثال الأمر بالصدقة، على أن في الآية ما يدل على أن الأمر للندب، كما قدّمنا‏.‏ وقد استدلّ بهذه الآية من قال بأنه يجوز النسخ قبل إمكان الفعل، وليس هذا الاستدلال بصحيح، فإن النسخ لم يقع إلاّ بعد إمكان الفعل، وأيضاً قد فعل ذلك البعض، فتصدّق بين يدي نجواه، كما سيأتي‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال‏:‏ أنزلت هذه الآية ‏{‏إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى المجالس‏}‏ يوم جمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ في الصفة، وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر، وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، فردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهم، ثم سلموا على القوم بعد ذلك، فردّوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف النبيّ ما يحملهم على القيام، فلم يفسح لهم، فشق ذلك عليه، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر‏:‏ «قم يا فلان، وأنت يا فلان»، فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام من أهل بدر، فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه، فنزلت هذه الآية‏.‏

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ ذلك في مجلس القتال ‏{‏وَإِذَا قِيلَ انشزوا‏}‏ قال‏:‏ إلى الخير والصلاة‏.‏ وأخرج ابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في المدخل عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم درجات‏}‏ قال‏:‏ يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤمنوا درجات‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في تفسير هذه الآية قال‏:‏ يرفع الله الذين آمنوا منكم، وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه قال‏:‏ ما خصّ الله العلماء في شيء من القرآن ما خصهم في هذه الآية، فضل الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا ناجيتم الرسول‏}‏ الآية، قال‏:‏ إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه، فلما قال ذلك ظنّ كثير من الناس، وكفوا عن المسئلة، فأنزل الله بعد هذا‏:‏ ‏{‏أَءشْفَقْتُمْ‏}‏ الآية، فوسع الله عليهم ولم يضيق‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والترمذي وحسنه، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، والنحاس، وابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً‏}‏ قال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما ترى، دينار‏؟‏» قلت‏:‏ لا يطيقونه‏.‏ قال‏:‏ «فنصف دينار‏؟‏» قلت لا يطيقونه، قال، «فكم‏؟‏» قلت‏:‏ شعيرة، قال‏:‏ «إنك لزهيد»، قال‏:‏ فنزلت ‏{‏أأشفقتم أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات‏}‏ الآية، فبي خفف الله عن هذه الآمة، والمراد بالشعيرة هنا‏:‏ وزن شعيرة من ذهب، وليس المراد‏:‏ واحدة من حبّ الشعير‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه قال‏:‏ ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت، وما كانت إلاّ ساعة، يعني‏:‏ آية النجوى‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن راهويه، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه أيضاً قال‏:‏ إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، آية النجوى ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً‏}‏ كان عندي دينار، فبعته بعشرة دراهم، فكنت كلما ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّمت بين يدي نجواي درهماً، ثم نسخت، فلم يعمل بها أحد، فنزلت‏:‏ ‏{‏أأشفقتم أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج الطبراني، وابن مردويه‏.‏ قال السيوطي‏:‏ بسندٍ ضعيف عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ نزلت ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً‏}‏، فقدمت شعيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنك لزهيد»، فنزلت الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏أأشفقتم أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات‏}‏‏.‏