فصل: تفسير الآيات رقم (4- 9)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 9‏]‏

‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏(‏4‏)‏ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏5‏)‏ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏6‏)‏ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏7‏)‏ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏8‏)‏ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

لما فرغ سبحانه من النهي عن موالاة المشركين، والذمّ لمن وقع منه ذلك ضرب لهم إبراهيم مثلاً حين تبرأ من قومه، فقال‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ أي‏:‏ خصلة حميدة تقتدون بها، يقال‏:‏ لي به أسوة في هذا الأمر، أي‏:‏ اقتداء، فأرشدهم سبحانه إلى الاقتداء به في ذلك إلاّ في استغفاره لأبيه‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏إسوة‏}‏ بكسر الهمزة‏:‏ وقرأ عاصم بضمها وهما لغتان، وأصل الأسوة بالضم والكسر‏:‏ القدوة، ويقال‏:‏ هو أسوتك، أي‏:‏ مثلك، وأنت مثله، وقوله‏:‏ ‏{‏فِى إبراهيم والذين مَعَهُ‏}‏ متعلق بأسوة، أو بحسنة، أو هو نعت لأسوة، أو حال من الضمير المستتر من حسنة، أو خبر «كان»، و«لكم» للبيان، و‏{‏الذين معه‏}‏ هم أصحابه المؤمنون‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ هم الأنبياء‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ يقول‏:‏ أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم، فتتبرأ من أهلك، كما تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه، والظرف في قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ‏}‏ هو خبر كان، أو متعلق به، أي‏:‏ وقت قولهم لقومهم الكفار‏:‏ ‏{‏بَرَآء مّنكُمْ‏}‏ جمع بريء، مثل شركاء وشريك، وظرفاء وظريف‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏برآء‏}‏ بضم الباء وفتح الراء وألف بين همزتين، ككرماء في كريم‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر، وابن أبي إسحاق بكسر الباء وهمزة واحدة بعد ألف، ككرام في جمع كريم‏.‏ وقرأ أبو جعفر بضم الباء وهمزة بعد ألف ‏{‏وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ وهي الأصنام ‏{‏كَفَرْنَا بِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ بما آمنتم به من الأوثان أو بدينكم أو بأفعالكم‏.‏ ‏{‏وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء أَبَداً‏}‏ أي‏:‏ هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم ‏{‏حتى تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ‏}‏ وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك، فإذا فعلتم ذلك صارت تلك العداوة موالاة، والبغضاء محبة ‏{‏إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لاِبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ‏}‏ هو استثناء متصل من قوله‏:‏ ‏{‏فِى إبراهيم‏}‏ بتقدير مضاف محذوف؛ ليصح الاستثناء، أي‏:‏ قد كانت لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم إلاّ قوله لأبيه، أو من أسوة حسنة، وصح ذلك؛ لأن القول من جملة الأسوة، كأنه قيل‏:‏ قد كانت أسوة حسنة في إبراهيم في جميع أقواله، وأفعاله إلاّ قوله لأبيه، أو من التبرّي والقطيعة التي ذكرت، أي‏:‏ لم يواصله إلاّ قوله، ذكر هذا ابن عطية، أو هو منقطع، أي‏:‏ لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك، فلا تأتسوا به، فتستغفرون للمشركين، فإنه كان عن موعدة وعدها إياه، أو أن ذلك إنما وقع منه؛ لأنه ظنّ أنه قد أسلم ‏{‏فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏ وقد تقدّم تحقيق هذا في سورة براءة ‏{‏وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَئ‏}‏ هذا من تمام القول المستثنى، يعني‏:‏ ما أغني عنك، وما أدفع عنك من عذاب الله شيئًا، والجملة في محل نصب على الحال من فاعل لأستغفرنّ، فالاستثناء متوجه إلى الاستغفار لا إلى هذا القيد، فإنه إظهار للعجز، وتفويض للأمر إلى الله، وذلك من خصال الخير ‏{‏رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير‏}‏ هذا من دعاء إبراهيم وأصحابه، ومما فيه أسوة حسنة يقتدى به فيها، وقيل‏:‏ هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا هذا القول، والتوكل هو تفويض الأمور إلى الله، والإنابة‏:‏ الرجوع، والمصير‏:‏ المرجع، وتقديم الجارّ والمجرور لقصر التوكل والإنابة، والمصير على الله‏.‏

‏{‏رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ لا تظهرهم علينا، فيظنوا أنهم على حقّ، فيفتنوا بذلك‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك، فيقولوا‏:‏ لو كان هؤلاء على حقّ ما أصابهم هذا ‏{‏واغفر لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ العزيز‏}‏ أي‏:‏ الغالب الذي لا يغالب ‏{‏الحكيم‏}‏ ذو الحكمة البالغة‏.‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ أي‏:‏ لقد كان لكم في إبراهيم والذين معه قدوة حسنة، وكرّر هذا للمبالغة والتأكيد، وقيل‏:‏ إن هذا نزل بعد الأوّل بمدّة ‏{‏لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر‏}‏ بدل من قوله‏:‏ ‏{‏لَكُمْ‏}‏ بدل بعض من كلّ، والمعنى‏:‏ أن هذه الأسوة إنما تكون لمن يخاف الله، ويخاف عقاب الآخرة، أو يطمع في الخير من الله في الدنيا وفي الآخرة ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد‏}‏ أي‏:‏ يعرض عن ذلك، فإن الله هو الغنيّ عن خلقه الحميد إلى أوليائه‏.‏ ‏{‏عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم مَّوَدَّةً‏}‏ وذلك بأن يسلموا، فيصيروا من أهل دينكم، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة وحسن إسلامهم، ووقعت بينهم وبين من تقدّمهم في الإسلام مودّة، وجاهدوا، وفعلوا الأفعال المقرّبة إلى الله‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالمودّة هنا‏:‏ تزويج النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمّ حبيبة بنت أبي سفيان‏.‏ ولا وجه لهذا التخصيص، وإن كان من جملة ما صار سبباً إلى المودّة، فإن أبا سفيان بعد ذلك ترك ما كان عليه من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنها لم تحصل المودّة إلاّ بإسلامه يوم الفتح وما بعده ‏{‏والله قَدِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ بليغ القدرة كثيرها ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ بليغهما كثيرهما‏.‏ ثم لما ذكر سبحانه ما ينبغي للمؤمنين من معاداة الكفار وترك موادّتهم، فصل القول فيمن يجوز برّه منهم ومن لا يجوز، فقال‏:‏ ‏{‏لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم فِى الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دياركم‏}‏ أي‏:‏ لا ينهاكم عن هؤلاء ‏{‏أَن تَبَرُّوهُمْ‏}‏ هذا بدل من الموصول بدل اشتمال، وكذا قوله‏:‏ ‏{‏وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ‏}‏ يقال‏:‏ أقسطت إلى الرّجل‏:‏ إذا عاملته بالعدل‏.‏

قال الزجاج‏:‏ المعنى، وتعدلوا فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين‏}‏ أي‏:‏ العادلين؛ ومعنى الآية‏:‏ أن الله سبحانه لا ينهى عن برّ أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال، وعلى أن لا يظاهروا الكفار عليهم، ولا ينهى عن معاملتهم بالعدل‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ كان هذا في أوّل الإسلام عند الموادعة؛ وترك الأمر بالقتال، ثم نسخ‏.‏ قال قتادة‏:‏ نسختها ‏{‏فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ وقيل‏:‏ هذا الحكم كان ثابتاً في الصلح بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم‏.‏ وقيل‏:‏ هي خاصة في حلفاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن بينه وبينه عهد، قاله الحسن‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ هم خزاعة، وبنو الحارث بن عبد مناف‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هي خاصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا، وقيل‏:‏ هي خاصة بالنساء والصبيان‏.‏ وحكى القرطبي عن أكثر أهل التأويل أنها محكمة‏.‏ ثم بيّن سبحانه من لا يحلّ برّه، ولا العدل في معاملته فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا ينهاكم الله عَنِ الذين قاتلوكم فِى الدين وَأَخْرَجُوكُم مّن دياركم‏}‏ وهم صناديد الكفر من قريش ‏{‏وظاهروا على إخراجكم‏}‏ أي‏:‏ عاونوا الذين قاتلوكم على ذلك، وهم سائر أهل مكة، ومن دخل معهم في عهدهم، وقوله‏:‏ ‏{‏أَن تَوَلَّوْهُمْ‏}‏ بدل اشتمال من الموصول، كما سلف ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون‏}‏ أي‏:‏ الكاملون في الظلم؛ لأنهم تولوا من يستحق العداوة لكونه عدوّاً لله ولرسوله ولكتابه، وجعلوهم أولياء لهم‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر، والحاكم وصححه عن ابن عباس ‏{‏إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأبِيهِ‏}‏ قال‏:‏ نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم لأبيه، وقوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندكم، فيقولون لو كان هؤلاء على الحقّ ما أصابهم هذا‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عنه‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ قال‏:‏ في صنيع إبراهيم كله إلاّ في الاستغفار لأبيه، وهو مشرك‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ قال‏:‏ لا تسلطهم علينا، فيفتنونا‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال‏:‏ أوّل من قاتل أهل الردّة على إقامة دين الله أبو سفيان بن حرب، وفيه نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم مَّوَدَّةً‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان بن حرب على بعض اليمن، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل، فلقي «ذا الخمار» مرتدّاً، فكان أوّل من قاتل في الردّة، وجاهد عن الدّين‏.‏

قال‏:‏ وهو فيمن قال الله فيه‏:‏ ‏{‏عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم مَّوَدَّةً‏}‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن عديّ، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ كانت المودّة التي جعل بينهم تزويج النبيّ صلى الله عليه وسلم أمّ حبيبة بنت أبي سفيان، فصارت أمّ المؤمنين، فصار معاوية خال المؤمنين‏.‏ وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن أبا سفيان قال‏:‏ يا رسول الله ثلاث أعطنيهنّ، قال‏:‏ «نعم»، قال‏:‏ تؤمرني حتى أقاتل الكفار، كما كنت أقاتل المسلمين، قال‏:‏ «نعم»، قال‏:‏ ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال‏:‏ «نعم»، قال‏:‏ وعندي أحسن العرب وأجمله أمّ حبيبة بنت أبي سفيان أزوّجكها الحديث‏.‏ وأخرج الطيالسي، وأحمد، والبزار، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في ناسخه، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال‏:‏ قدمت قتيلة بنت عبد العزّى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا‏:‏ ضباب، وأقط، وسمن، وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها، أو تدخلها بيتها حتى أرسلت إلى عائشة أن سلي عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته، فأنزل الله ‏{‏لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم فِى الدين‏}‏ الآية، فأمرها أن تقبل هديتها، وتدخلها بيتها، وزاد ابن أبي حاتم في المدّة التي كانت بين قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي البخاري وغيره، عن أسماء بنت أبي بكر قالت‏:‏ أتتني أمي راغبة، وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أأصلها‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لاَّ ينهاكم الله‏}‏ الآية، فقال‏:‏ «نعم صلي أمك»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 13‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏ وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

لما ذكر سبحانه حكم فريقي الكافرين في جواز البرّ، والإقساط للفريق الأوّل دون الفريق الثاني ذكر حكم من يظهر الإيمان، فقال‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات مهاجرات‏}‏ من بين الكفار، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما صالح قريشاً يوم الحديبية على أن يردّ عليهم من جاءهم من المسلمين، فلما هاجر إليه النساء أبى الله أن يرددن إلى المشركين، وأمر بامتحانهنّ فقال‏:‏ ‏{‏فامتحنوهن‏}‏ أي‏:‏ فاختبروهنّ‏.‏ وقد اختلف فيما كان يمتحنّ به، فقيل‏:‏ كان يستحلفهن بالله ما خرجن من بغض زوج، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا لالتماس دنيا بل حباً لله ولرسوله، ورغبة في دينه، فإذا حلفت كذلك أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها، وما أنفق عليها، ولم يردّها إليه، وقيل‏:‏ الامتحان هو أن تشهد أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله، وقيل‏:‏ ما كان الامتحان إلاّ بأن يتلو عليهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية، وهي ‏{‏يأَيُّهَا النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات‏}‏ إلى آخرها‏.‏

واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عهد الهدنة أم لا‏؟‏ على قولين، فعلى القول بالدخول تكون هذه الآية مخصصة لذلك العهد، وبه قال الأكثر‏.‏ وعلى القول بعدمه لا نسخ، ولا تخصيص‏.‏ ‏{‏الله أَعْلَمُ بإيمانهن‏}‏ هذه الجملة معترضة لبيان أن حقيقة حالهنّ لا يعلمها إلاّ الله سبحانه، ولم يتعبدكم بذلك، وإنما تعبدكم بامتحانهنّ حتى يظهر لكم ما يدلّ على صدق دعواهنّ في الرغوب في الإسلام ‏{‏فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات‏}‏ أي‏:‏ علمتم ذلك بحسب الظاهر بعد الامتحان الذي أمرتم به ‏{‏فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار‏}‏ أي‏:‏ إلى أزواجهنّ الكافرين، وجملة ‏{‏لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ‏}‏ تعليل للنهي عن إرجاعهنّ‏.‏ وفيه دليل على أن المؤمنة لا تحلّ لكافر، وأن إسلام المرأة يوجب فرقتها من زوجها لا مجرّد هجرتها، والتكرير لتأكيد الحرمة، أو الأوّل لبيان زوال النكاح، والثاني لامتناع النكاح الجديد ‏{‏وآتوهم ما أنفقوا‏}‏ أي‏:‏ وأعطوا أزواج هؤلاء اللاتي هاجرن وأسلمن مثل ما أنفقوا عليهنّ من المهور‏.‏ قال الشافعي‏:‏ وإذا طلبها غير الزوج من قراباتها منع منها بلا عوض‏.‏ ‏{‏وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ‏}‏ لأنهنّ قد صرن من أهل دينكم ‏{‏إذا آتيتموهنّ أجورهنّ‏}‏ أي‏:‏ مهورهنّ، وذلك بعد انقضاء عدّتهنّ، كما تدلّ عليه أدلة وجوب العدة ‏{‏وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تمسكوا‏}‏ بالتخفيف من الإمساك، واختار هذه القراءة أبو عبيد، لقوله‏:‏ ‏{‏فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏، وقرأ الحسن، وأبو العالية، وأبو عمرو بالتشديد من التمسك، والعصم جمع عصمة، وهي ما يعتصم به، والمراد هنا عصمة عقد النكاح‏.‏

والمعنى أن من كانت له امرأة كافرة، فليست له بامرأة لانقطاع عصمتها باختلاف الدين‏.‏ قال النخعي‏:‏ هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر، وكان الكفار يزوّجون المسلمين، والمسلمون يتزوّجون المشركات، ثم نسخ ذلك بهذه الآية، وهذا خاص بالكوافر المشركات دون الكوافر من أهل الكتاب‏.‏ وقيل‏:‏ عامة في جميع الكوافر مخصصة بإخراج الكتابيات منها‏.‏ وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه إذا أسلم وثنيّ أو كتابيّ لا يفرق بينهما إلاّ بعد انقضاء العدّة‏.‏ وقال بعض أهل العلم‏:‏ يفرق بينهما بمجرّد إسلام الزوج، وهذا إنما هو إذا كانت المرأة مدخولاً بها، وأما إذا كانت غير مدخول بها، فلا خلاف بين أهل العلم في انقطاع العصمة بينهما بالإسلام إذ لا عدّة عليها ‏{‏واسألوا ما أنفقتم‏}‏ أي‏:‏ اطلبوا مهور نسائكم اللاحقات بالكفار ‏{‏وليسألوا ما أنفقوا‏}‏ قال المفسرون‏:‏ كان من ذهب من المسلمات مرتدّة إلى الكفار من أهل العهد، يقال للكفار‏:‏ هاتوا مهرها، ويقال للمسلمين إذا جاءت امرأة من الكفار إلى المسلمين، وأسلمت‏:‏ ردّوا مهرها على زوجها الكافر ‏{‏ذَلِكُمْ حُكْمُ الله‏}‏ أي‏:‏ ذلكم المذكور من إرجاع المهور من الجهتين حكم الله، وقوله‏:‏ ‏{‏يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ‏}‏ في محل نصب على الحال‏.‏ أو مستأنفة ‏{‏والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ بليغ العلم لا تخفى عليه خافية، بليغ الحكمة في أقواله وأفعاله، قال القرطبي‏:‏ وكان هذا مخصوصاً بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع المسلمين ‏{‏وَإِن فَاتَكُمْ شَئ مّنْ أزواجكم إِلَى الكفار‏}‏ لما نزلت الآية المتقدّمة، قال المسلمون‏:‏ رضينا بحكم الله، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا، فنزل قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن فَاتَكُمْ شَئ مّنْ أزواجكم إِلَى الكفار‏}‏ مما دفعتم إليهم من مهور النساء المسلمات، وقيل المعنى‏:‏ وإن انفلت منكم أحد من نسائكم إلى الكفار بأن ارتدت المسلمة ‏{‏فعاقبتم‏}‏ قال الواحدي‏:‏ قال المفسرون‏:‏ ‏{‏فعاقبتم‏}‏ فغنمتم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ تأويله، وكانت العقبى لكم، أي‏:‏ كانت الغنيمة لكم حتى غنمتم ‏{‏فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ‏}‏ من مهر المهاجرة التي تزوّجوها، ودفعوه إلى الكفار، ولا تؤتوه زوجها الكافر‏.‏ قال قتادة، ومجاهد‏:‏ إنما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة، وهذه الآية منسوخة قد انقطع حكمها بعد الفتح‏.‏ وحاصل معناها‏:‏ أن ‏{‏مّنْ أزواجكم‏}‏ يجوز أن يتعلق بفاتكم، أي‏:‏ من جهة أزواجكم، ويراد بالشيء‏:‏ المهر الذي غرمه الزوج، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لشيء‏.‏ ثم يجوز في شيء أن يراد به المهر، ولكن لا بدّ على هذا من مضاف محذوف، أي‏:‏ من مهر أزواجكم؛ ليتطابق الموصوف وصفته، ويجوز أن يراد بشيء‏:‏ النساء أي نوع وصنف منهنّ، وهو ظاهر قوله‏:‏ ‏{‏مّنْ أزواجكم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم‏}‏ والمعنى‏:‏ أنهم يعطون من ذهبت زوجته إلى المشركين، فكفرت، ولم يردّ عليه المشركون مهرها، كما حكم الله مثل ذلك المهر الذي أنفقه عليها من الغنيمة ‏{‏واتقوا الله الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ احذروا أن تتعرضوا لشيء مما يوجب العقوبة عليكم، فإن الإيمان الذي أنتم متصفون به يوجب على صاحبه ذلك ‏{‏يأَيُّهَا النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ‏}‏ أي‏:‏ قاصدات لمبايعتك على الإسلام، و‏{‏على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً‏}‏ من الأشياء كائناً ما كان، هذا كان يوم فتح مكة، فإن نساء أهل مكة أتين رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعنه، فأمره الله أن يأخذ عليهنّ ‏{‏أَن لاَّ يُشْرِكْنَ وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن‏}‏ وهو ما كانت تفعله الجاهلية من وأد البنات ‏{‏وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ‏}‏ أي‏:‏ لا يلحقن بأزواجهنّ ولداً ليس منهم‏.‏

قال الفراء‏:‏ كانت المرأة تلتقط المولود، فتقول لزوجها‏:‏ هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفترى بين أيديهنّ وأرجلهنّ، وذلك أن الولد إذا وضعته الأمّ سقط بين يديها ورجليها، وليس المراد هنا أنها تنسب ولدها من الزنا إلى زوجها، لأن ذلك قد دخل تحت النهي عن الزنا ‏{‏وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ‏}‏ أي‏:‏ في كل أمر هو طاعة لله‏.‏ قال عطاء‏:‏ في كل برّ وتقوى، وقال المقاتلان‏:‏ عنى بالمعروف‏:‏ النهي عن النوح وتمزيق الثياب، وجزّ الشعر، وشقّ الجيب، وخمش الوجوه، والدعاء بالويل، وكذا قال قتادة، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن السائب، وزيد بن أسلم، ومعنى القرآن أوسع مما قالوه‏.‏ قيل‏:‏ ووجه التقييد بالمعروف، مع كونه صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلاّ به التنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق ‏{‏فَبَايِعْهُنَّ‏}‏ هذا جواب «إذا»، والمعنى‏:‏ إذا بايعنك على هذه الأمور، فبايعهنّ، ولم يذكر في بيعتهنّ الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج لوضوح كون هذه الأمور، ونحوها من أركان الدين، وشعائر الإسلام، وإنما خصّ الأمور المذكورة لكثرة وقوعها من النساء ‏{‏واستغفر لَهُنَّ الله‏}‏ أي‏:‏ اطلب من الله المغفرة لهنّ بعد هذه المبايعة لهنّ منك ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ بليغ المغفرة والرحمة لعباده‏.‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ‏}‏ هم جميع طوائف الكفر، وقيل‏:‏ اليهود خاصة، وقيل‏:‏ المنافقون خاصة وقال الحسن‏:‏ اليهود والنصارى‏.‏ والأوّل أولى؛ لأن جميع طوائف الكفر تتصف بأن الله سبحانه غضب عليها ‏{‏قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة‏}‏ «من» لابتداء الغاية، أي‏:‏ أنهم لا يوقنون بالآخرة ألبتة بسبب كفرهم ‏{‏كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أصحاب القبور‏}‏ أي‏:‏ كيأسهم من بعث موتاهم لاعتقادهم عدم البعث، وقيل‏:‏ كما يئس الكفار الذين قد ماتوا منهم من الآخرة، لأنه قد وقفوا على الحقيقة، وعلموا أنه لا نصيب لهم في الآخرة، فتكون «من» على الوجه الأوّل ابتدائية، وعلى الثاني بيانية، والأوّل أولى‏.‏

وقد أخرج البخاري عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءه نساء مسلمات، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات مهاجرات‏}‏ حتى بلغ ‏{‏وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر‏}‏ فطلق عمر يومئذٍ امرأتين كانتا له في الشرك‏.‏ وأخرجه أيضاً من حديثهما بأطول من هذا، وفيه، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي عانق، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجعها إليهم حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فامتحنوهن‏}‏ قال‏:‏ كان امتحانهنّ أن يشهدن أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً عبده ورسوله، فإذا علموا أن ذلك حقاً منهنّ لم يرجعن إلى الكفار، وأعطى بعلها في الكفار الذين عقد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صداقها الذي أصدقها، وأحلهنّ للمؤمنين إذا آتوهنّ أجورهنّ‏.‏ وأخرج ابن مردويه عنه قال‏:‏ نزلت سورة الممتحنة بعد ذلك الصلح، فكان من أسلم من نسائهم، فسئلت‏:‏ ما أخرجك‏؟‏ فإن كانت خرجت فراراً من زوجها، ورغبة عنه ردّت، وإن كانت خرجت رغبة في الإسلام أمسكت، وردّ على زوجها مثل ما أنفق‏.‏ وأخرج ابن أبي أسامة، والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الكبير، وابن مردويه بسندٍ حسن، كما قال السيوطي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن‏}‏ قال‏:‏ كان إذا جاءت المرأة النبيّ صلى الله عليه وسلم حلفها عمر بن الخطاب بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض، وبالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلاّ حباً لله ورسوله‏.‏ وأخرج ابن منيع من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس قال‏:‏ أسلم عمر بن الخطاب، وتأخرت امرأته في المشركين، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر‏}‏‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، والبخاري، والترمذي، وابن المنذر، وابن مردويه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية ‏{‏يأَيُّهَا النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قد بايعتك كلاماً»، والله ما مسّت يده يد امرأة قط من المبايعات، ما بايعهنّ إلاّ بقوله‏:‏ «قد بايعتك على ذلك» وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن سعد، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن أميمة بنت رقيقة قالت‏:‏ أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله شيئًا حتى بلغ‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ‏}‏ فقال‏:‏

‏"‏ فيما استطعتن، وأطقتن ‏"‏، فقلنا‏:‏ الله، ورسوله أرحم بنا من أنفسنا يا رسول الله ألا تصافحنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة ‏"‏ وفي الباب أحاديث‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ كنا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، وقرأ آية النساء، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله، فهو إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ‏"‏ وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ‏}‏ قال‏:‏ كانت الحرة تولد لها الجارية، فتجعل مكانها غلاماً‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه في الآية‏.‏ قال‏:‏ لا يلحقن بأزواجهنّ غير أولادهم ‏{‏وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ‏}‏ قال‏:‏ إنما هو شرط شرطه الله للنساء‏.‏ وأخرج ابن سعد، وابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أم سلمة الأنصارية قالت‏:‏ قالت امرأة من النسوة ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه‏؟‏ قال‏:‏ «لا تنحن»، قلت‏:‏ يا رسول الله إن بني فلان أسعدوني على عمي، لا بدّ لي من قضائهن، فأبى عليّ فعاودته مراراً، فأذن لي في قضائهنّ، فلم أنحِ بعد، ولم يبق من النسوة امرأة إلاّ وقد ناحت غيري‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أمّ عطية قالت‏:‏ بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ علينا أن لا نشرك بالله شيئًا، ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة منا يدها، فقالت‏:‏ يا رسول الله إن فلانة أسعدتني وأنا أريد أن أجزيها، فلم يقل لها شيئًا‏.‏ فذهبت، ثم رجعت، فقالت‏:‏ ما وفت منا امرأة إلاّ أم سليم، وأمّ العلاء، وبنت أبي سبرة امرأة معاذ، أو بنت أبي سبرة، وامرأة معاذ‏.‏ وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن النوح‏.‏ وأخرج أبو إسحاق، وابن المنذر عن ابن عباس قال‏:‏ كان عبد الله بن عمرو، وزيد بن الحارث يودّان رجلاً من اليهود، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج الفريابي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة‏}‏ قال‏:‏ فلا يؤمنون بها، ولا يرجونها، كما يئس الكافر إذا مات، وعاين ثوابه واطلع عليه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ هم الكفار أصحاب القبور الذين يئسوا من الآخرة‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال‏:‏ من مات من الذين كفروا، فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم، أو يبعثهم الله‏.‏

سورة الصف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏2‏)‏ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ‏(‏4‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏6‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏8‏)‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ قد تقدّم الكلام على هذا، ووجه التعبير في بعض السور بلفظ الماضي كهذه السورة، وفي بعضها بلفظ المضارع، وفي بعضها بلفظ الأمر الإرشاد إلى مشروعية التسبيح في كل الأوقات ماضيها ومستقبلها وحالها، وقد قدّمنا نحو هذا في أوّل سورة الحديد ‏{‏وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ أي‏:‏ الغالب الذي لا يغالب الحكيم في أفعاله وأقواله‏.‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ‏}‏ هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ، أي‏:‏ لم تقولون من الخير ما لا تفعلونه، و‏"‏ لم ‏"‏ مركبة من اللام الجارّة، وما الاستفهامية، وحذفت ألفها تخفيفاً لكثرة استعمالها، كما في نظائرها‏.‏ ثم ذمهم سبحانه على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ عظم ذلك في المقت، وهو البغض، والمقت والمقاتة مصدران، يقال رجل مقيت، وممقوت‏:‏ إذا لم يحبه الناس، قال الكسائي ‏{‏أَن تَقُولُواْ‏}‏ في موضع رفع؛ لأن ‏{‏كبر‏}‏ فعل بمعنى بئس، و‏{‏مقتاً‏}‏ منتصب على التمييز، وعلى هذا فيكون في ‏{‏كبر‏}‏ ضمير مبهم مفسر بالنكرة، وأن ‏{‏تقولوا‏}‏ هو المخصوص بالذمّ، ويجيء فيه الخلاف هل رفعه بالابتداء، وخبره الجملة المتقدّمة عليه، أو خبره محذوف، أو هو خبر مبتدأ محذوف‏.‏ وقيل‏:‏ إنه قصد بقوله‏:‏ ‏{‏كَبُرَ‏}‏ التعجب، وقد عدّه ابن عصفور من أفعال التعجب‏.‏ وقيل‏:‏ إنه ليس من أفعال الذم، ولا من أفعال التعجب، بل هو مسند إلى ‏{‏أن تقولوا‏}‏، و‏{‏مقتاً‏}‏ تمييز محوّل عن الفاعل‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون فِى سَبِيلِهِ صَفّاً‏}‏ قال المفسرون‏:‏ إن المؤمنين قالوا‏:‏ وددنا أن الله يخبرنا بأحبّ الأعمال إليه حتى نعمله، ولو ذهبت فيه أموالنا وأنفسنا‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون‏}‏ الآية، وانتصاب ‏{‏صفاً‏}‏ على المصدرية، والمفعول محذوف، أي‏:‏ يصفون أنفسهم صفا، وقيل‏:‏ هو‏:‏ مصدر في موضع الحال أي‏:‏ صافين، أو مصفوفين‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يقاتلون‏}‏ على البناء للفاعل‏.‏ وقرأ زيد بن عليّ على البناء للمفعول، وقرئ ‏(‏يقتلون‏)‏ بالتشديد، وجملة‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ‏}‏ في محل نصب على الحال من فاعل ‏{‏يقاتلون‏}‏، أو من الضمير في ‏{‏صفاً‏}‏ على تقدير أنه مؤوّل بصافين، أو مصفوفين، ومعنى ‏{‏مَّرْصُوصٌ‏}‏‏:‏ ملتزق بعضه ببعض، يقال‏:‏ رصصت البناء أرصه رصاً‏:‏ إذا ضممت بعضه إلى بعض‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ مرصوص بالرصاص‏.‏ قال المبرد‏:‏ هو مأخوذ من رصصت البناء‏:‏ إذا لايمت بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة، وقيل‏:‏ هو من الرصيص، وهو ضمّ الأشياء بعضها إلى بعض، والتراصّ‏:‏ التلاصق‏.‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ‏}‏ لما ذكر سبحانه أنه يحبّ المقاتلين في سبيله بيّن أن موسى وعيسى أمرا بالتوحيد، وجاهدا في سبيل الله، وحلّ العقاب بمن خالفهما، والظرف متعلق بمحذوف هو اذكر، أي‏:‏ اذكر يا محمد لهؤلاء المعرضين وقت قول موسى، ويجوز أن يكون وجه ذكر قصة موسى وعيسى بعد محبة المجاهدين في سبيل الله التحذير لأمة محمد أن يفعلوا مع نبيهم ما فعله قوم موسى وعيسى معهما ‏{‏لِقَوْمِهِ ياقوم لِمَ تُؤْذُونَنِى‏}‏ هذا مقول القول، أي‏:‏ لم تؤذونني بمخالفة ما أمركم به من الشرائع التي افترضها الله عليكم، أو لم تؤذونني بالشتم والانتقاص، ومن ذلك رميه بالأدرة، وقد تقدّم بيان هذا في سورة الأحزاب، وجملة‏:‏ ‏{‏وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ‏}‏ في محلّ نصب على الحال، «وقد» لتحقق العلم، أو لتأكيده، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار، والمعنى‏:‏ كيف تؤذونني مع علمكم بأني رسول الله، والرسول يحترم ويعظم، ولم يبق معكم شك في الرسالة لما قد شاهدتم من المعجزات التي توجب عليكم الاعتراف برسالتي، وتفيدكم العلم بها علماً يقينياً ‏{‏فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ لما أصرّوا على الزيغ، واستمرّوا عليه أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وصرفها عن قبول الحقّ، وقيل‏:‏ فلما زاغوا عن الإيمان أزاغ الله قلوبهم عن الثواب‏.‏

قال مقاتل‏:‏ لما عدلوا عن الحق أمال الله قلوبهم عنه، يعني‏:‏ أنهم لما تركوا الحقّ بإيذاء نبيهم أمال الله قلوبهم عن الحق جزاء بما ارتكبوا ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين‏}‏ هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق، والمعنى‏:‏ أنه لا يهدي كل متصف بالفسق، وهؤلاء من جملتهم‏.‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ‏}‏ معطوف على ‏{‏وَإِذْ قَالَ موسى‏}‏ معمول لعامله، أو معمول لعامل مقدّر معطوف على عامل الظرف الأوّل ‏{‏مَرْيَمَ يابنى إسراءيل إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التوراة‏}‏ أي‏:‏ إني رسول الله إليكم بالإنجيل مصدّقاً لما بين يديّ من التوراة لأني لم آتكم بشيء يخالف التوراة، بل هي مشتملة على التبشير بي، فكيف تنفرون عني وتخالفونني، وانتصاب ‏{‏مصدّقاً‏}‏ على الحال، وكذا ‏{‏مُبَشّرًا‏}‏، والعامل فيهما ما في الرسول من معنى الإرسال، والمعنى‏:‏ أني أرسلت إليكم حال كوني مصدّقاً لما بين يدي من التوراة، ومبشراً بمن يأتي بعدي، وإذا كنت كذلك في التصديق والتبشير، فلا مقتضى لتكذيبي، وأحمد اسم نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو علم منقول من الصفة، وهي تحتمل أن تكون مبالغة من الفاعل، فيكون معناها أنه أكثر حمداً لله من غيره، أو من المفعول، فيكون معناها أنه يحمد بما فيه من خصال الخير أكثر مما يحمد غيره‏.‏ قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، والسلمي، وزرّ بن حبيش، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏(‏من بعدي‏)‏ بفتح الياء‏.‏ وقرأ الباقون بإسكانها ‏{‏فَلَمَّا جَاءهُم بالبينات قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ أي‏:‏ لما جاءهم عيسى بالمعجزات قالوا هذا الذي جاءنا به سحر واضح ظاهر، وقيل‏:‏ المراد‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم، أي‏:‏ لما جاءهم بذلك قالوا هذه المقالة، والأوّل أولى‏.‏

قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏سحر‏}‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ ‏(‏ساحر‏)‏‏.‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام‏}‏ أي‏:‏ لا أحد أكثر ظلماً منه حيث يفتري على الله الكذب، والحال أنه يدعى إلى دين الإسلام الذي هو خير الأديان وأشرفها؛ لأن من كان كذلك، فحقه أن لا يفتري على غيره الكذب، فكيف يفتريه على ربه‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وهو يدعى‏}‏ من الدعاء مبنياً للمفعول‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف‏:‏ ‏(‏يدعي‏)‏ بفتح الياء وتشديد الدال من الادّعاء مبنياً للفاعل، وإنما عدّي بإلى لأنه ضمن معنى الانتماء والانتساب ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يهدي من اتصف بالظلم، والمذكورون من جملتهم ‏{‏يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم‏}‏ الإطفاء‏:‏ الإخماد، وأصله في النار، واستعير لما يجري مجراها من الظهور‏.‏ والمراد بنور الله‏:‏ القرآن، أي‏:‏ يريدون إبطاله، وتكذيبه بالقول، أو الإسلام، أو محمد، أو الحجج والدلائل، أو جميع ما ذكر، ومعنى ‏{‏بأفواههم‏}‏‏:‏ بأقوالهم الخارجة من أفواههم المتضمنة للطعن ‏{‏والله مُتِمُّ نُورِهِ‏}‏ بإظهاره في الآفاق وإعلائه على غيره‏.‏ قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم‏:‏ ‏{‏متمّ نوره‏}‏ بالإضافة، والباقون بتنوين «متمّ» ‏{‏وَلَوْ كَرِهَ الكافرون‏}‏ ذلك، فإنه كائن لا محالة، والجملة في محل نصب على الحال‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ واللام في ‏{‏ليطفئوا‏}‏ لام مؤكدة دخلت على المفعول؛ لأن التقدير‏:‏ يريدون أن يطفئوا، وأكثر ما تلزم هذه اللام المفعول إذا تقدّم، كقولك‏:‏ لزيد ضربت، ولرؤيتك قصدت، وقيل‏:‏ هي لام العلة، والمفعول محذوف، أي‏:‏ يريدون إبطال القرآن، أو دفع الإسلام، أو هلاك الرسول؛ ليطفئوا، وقيل‏:‏ إنها بمعنى أن الناصبة، وأنها ناصبة بنفسها‏.‏ قال الفراء‏:‏ العرب تجعل لام كي في موضع أن في أراد وأمر، وإليه ذهب الكسائي، ومثل هذا قوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون‏}‏ مستأنفة مقرّرة لما قبلها، والهدى‏:‏ القرآن، أو المعجزات، ومعنى ‏{‏دِينَ الحق‏}‏‏:‏ الملة الحقة، وهي ملة الإسلام؛ ومعنى ‏{‏لِيُظْهِرَهُ‏}‏‏:‏ ليجعله ظاهراً على جميع الأديان عالياً عليها غالباً لها، ولو كره المشركون ذلك، فإنه كائن لا محالة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ذلك إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض دين إلاّ دين الإسلام، والدّين مصدر يعبر به عن الأديان المتعدّدة، وجواب «لو» في الموضعين محذوف، والتقدير‏:‏ أتمه وأظهره‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون‏:‏ وددنا لو أن الله أخبرنا بأحبّ الأعمال فنعمل به، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن أحبّ الأعمال إيمان بالله لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان، ولم يقرّوا به، فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين، وشقّ عليهم أمره، فقال الله‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ‏}‏‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه في قوله‏:‏ ‏{‏كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ‏}‏ قال‏:‏ هذه الآية في القتال وحده، وهم قوم كانوا يأتون النبيّ، فيقول الرجل‏:‏ قاتلت وضربت بسيفي، ولم يفعلوا، فنزلت‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن مردويه عنه أيضاً قال‏:‏ قالوا‏:‏ لو نعلم أحبّ الأعمال إلى الله لفعلناه، فأخبرهم الله، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ‏}‏ فكرهوا ذلك، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ‏}‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً ‏{‏كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ‏}‏ قال‏:‏ مثبت لا يزول ملصق بعضه على بعض‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن جبير بن مطعم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن لي أسماء‏:‏ أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر الذي يحشر الله الناس على قدمي، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا العاقب‏:‏ والعاقب الذي ليس بعده نبيّ»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 14‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏10‏)‏ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏11‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏12‏)‏ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏13‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ جعل العمل المذكور بمنزلة التجارة؛ لأنهم يربحون فيه، كما يربحون فيها، وذلك بدخولهم الجنة، ونجاتهم من النار‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏تنجيكم‏}‏ بالتخفيف من الإنجاء‏.‏ وقرأ الحسن، وابن عامر، وأبو حيوة بالتشديد من التنجية‏.‏ ثم بيّن سبحانه هذه التجارة التي دلّ عليها فقال‏:‏ ‏{‏تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وتجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ‏}‏ وهو خبر في معنى الأمر للإيذان بوجوب الامتثال، فكأنه قد وقع، فأخبر بوقوعه، وقدّم ذكر الأموال على الأنفس؛ لأنها هي التي يبدأ بها في الإنفاق والتجهز إلى الجهاد‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تؤمنون‏}‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ ‏(‏آمنوا، وجاهدوا‏)‏ على الأمر‏.‏ قال الأخفش‏:‏ ‏{‏تؤمنون‏}‏ عطف بيان ل ‏{‏تجارة‏}‏، والأولى أن تكون الجملة مستأنفة مبينة لما قبلها، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ إلى ما ذكر من الإيمان والجهاد، وهو مبتدأ، وخبره‏:‏ ‏{‏خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ هذا الفعل خير لكم من أموالكم وأنفسكم ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ إن كنتم ممن يعلم، فإنكم تعلمون أنه خير لكم، لا إذا كنتم من أهل الجهل، فإنكم لا تعلمون ذلك‏.‏ ‏{‏يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ‏}‏ هذا جواب الأمر المدلول عليه بلفظ الخبر، ولهذا جزم‏.‏ قال الزجاج، والمبرد‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏تُؤْمِنُونَ‏}‏ في معنى آمنوا، ولذلك جاء ‏{‏يغفر لكم‏}‏ مجزوماً‏.‏ وقال الفرّاء‏:‏ ‏{‏يغفر لكم‏}‏ جواب الاستفهام، فجعله مجزوماً لكونه جواب الاستفهام، وقد غلطه بعض أهل العلم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ليسوا إذا دلّهم على ما ينفعهم يغفر لهم إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا‏.‏ وقال الرازي في توجيه قول الفراء‏:‏ إن ‏{‏هَلْ أَدُلُّكُمْ‏}‏ في معنى الأمر عنده، يقال‏:‏ هل أنت ساكت، أي‏:‏ اسكت، وبيانه أن «هل» بمعنى الاستفهام، ثم يتدرّج إلى أن يصير عرضاً وحثاً، والحثّ كالإغراء، والإغراء أمر‏.‏ وقرأ زيد بن عليّ‏:‏ ‏(‏تؤمنوا، وتجاهدوا‏)‏ على إضمار لام الأمر‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏{‏يغفر لكم‏}‏ مجزوم بشرط مقدّر، أي‏:‏ إن تؤمنوا يغفر لكم، وقرأ بعضهم بالإدغام في يغفر لكم، والأولى ترك الإدغام؛ لأن الراء حرف متكرّر، فلا يحسن إدغامه في اللام ‏{‏وَيُدْخِلْكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار‏}‏ قد تقدّم بيان كيفية جري الأنهار من تحت الجنات ‏{‏ومساكن طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ‏}‏ أي‏:‏ في جنات إقامة ‏{‏ذلك الفوز العظيم‏}‏ أي‏:‏ ذلك المذكور من المغفرة، وإدخال الجنات الموصوفة بما ذكر هو الفوز الذي لا فوز بعده، والظفر الذي لا ظفر يماثله‏.‏ ‏{‏وأخرى تُحِبُّونَهَا‏}‏ قال الأخفش، والفرّاء‏:‏ ‏{‏أخرى‏}‏ معطوفة على ‏{‏تجارة‏}‏ فهي في محل خفض، أي‏:‏ وهل أدلكم على خصلة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة، وقيل‏:‏ هي في محل رفع، أي‏:‏ ولكم خصلة أخرى، وقيل‏:‏ في محل نصب، أي‏:‏ ويعطيكم خصلة أخرى‏.‏

ثم بيّن سبحانه هذه الأخرى فقال‏:‏ ‏{‏نَصْرٌ مّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ‏}‏ أي‏:‏ هي نصر من الله لكم، وفتح قريب يفتحه عليكم، وقيل‏:‏ ‏{‏نصر‏}‏ بدل من ‏{‏أخرى‏}‏ على تقدير كونها في محلّ رفع، وقيل‏:‏ التقدير ولكم نصر وفتح قريب‏.‏ قال الكلبي‏:‏ يعني النصر على قريش وفتح مكة‏.‏ وقال عطاء‏:‏ يريد فتح فارس والروم ‏{‏وَبَشّرِ المؤمنين‏}‏ معطوف على محذوف، أي‏:‏ قل يا أيها الذين آمنوا، وبشر، أو على ‏{‏تؤمنون‏}‏؛ لأنه في معنى الأمر، والمعنى‏:‏ وبشّر يا محمد المؤمنين بالنصر والفتح، أو، وبشّرهم بالنصر في الدنيا والفتح، وبالجنة في الآخرة، أو وبشّرهم بالجنة في الآخرة‏.‏ ثم حضّ سبحانه المؤمنين على نصرة دينه فقال‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أنصار الله‏}‏ أي‏:‏ دوموا على ما أنتم عليه من نصرة الدين‏.‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع‏:‏ ‏(‏أنصاراً لله‏)‏ بالتنوين، وترك الإضافة‏.‏ وقرأ الباقون بالإضافة، والرسم يحتمل القراءتين معاً، واختار أبو عبيدة قراءة الإضافة لقوله‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَنْصَارُ الله‏}‏ بالإضافة ‏{‏كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أنصارى إِلَى الله‏}‏ أي‏:‏ انصروا دين الله مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى‏:‏ ‏{‏مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله‏}‏ فقالوا‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَنْصَارُ الله‏}‏ والكاف في ‏{‏كَمَا قَالَ‏}‏ نعت مصدر محذوف تقديره‏:‏ كونوا كوناً، كما قال، وقيل‏:‏ الكاف في محل نصب على إضمار الفعل، وقيل‏:‏ هو كلام محمول على معناه دون لفظه، والمعنى‏:‏ كونوا أنصار الله، كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم من أنصاري إلى الله، وقوله‏:‏ ‏{‏إِلَى الله‏}‏ قيل‏:‏ إلى بمعنى‏:‏ مع، أي‏:‏ من أنصاري مع الله، وقيل‏:‏ التقدير‏:‏ من أنصاري فيما يقرّب إلى الله، وقيل التقدير‏:‏ من أنصاري متوجهاً إلى نصرة الله، وقد تقدّم الكلام على هذا في سورة آل عمران‏.‏ والحواريون هم أنصار المسيح وخلص أصحابه، وأوّل من آمن به، وقد تقدّم بيانهم ‏{‏فآمنت طائفة من بني اسرائيل وكفرت طائفة‏}‏ أي‏:‏ آمنت طائفة بعيسى وكفرت به طائفة، وذلك لأنهم لما اختلفوا بعد رفعه تفرّقوا وتقاتلوا ‏{‏فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم‏}‏ أي‏:‏ قوينا المحقين منهم على المبطلين ‏{‏فَأَصْبَحُواْ ظاهرين‏}‏ أي‏:‏ عالين غالبين، وقيل المعنى‏:‏ فأيدنا الآن المسلمين على الفرقتين جميعاً‏.‏

وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال‏:‏ قالوا‏:‏ لو كنا نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله‏؟‏ فنزلت ‏{‏المشركون يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ فكرهوا، فنزلت‏:‏ ‏{‏الحكيم يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بنيان مَّرْصُوصٌ‏}‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أنصار الله‏}‏ قال‏:‏ قد كان ذلك بحمد الله جاءه سبعون رجلاً، فبايعوه عند العقبة وآووه ونصروه حتى أظهر الله دينه‏.‏

وأخرج ابن إسحاق، وابن سعد عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنفر الذين لقوه بالعقبة‏:‏ «أخرجوا إليّ اثني عشر منكم يكونون كفلاء على قومهم، كما كفلت الحواريون لعيسى ابن مريم» وأخرج ابن سعد عن محمود بن لبيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنقباء‏:‏ «إنكم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل قومي»، قالوا‏:‏ نعم‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس ‏{‏فأيدنا الذين ءامنوا‏}‏ قال‏:‏ فقوينا الذين آمنوا‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه، فأيدنا الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته على عدوّهم، فأصبحوا اليوم ظاهرين‏.‏

سورة الجمعة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏2‏)‏ وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏3‏)‏ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏4‏)‏ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏5‏)‏ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏6‏)‏ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ قد تقدم تفسير هذا في أوّل سورة الحديد، وما بعدها من المسبحات ‏{‏الملك القدوس العزيز الحكيم‏}‏ قرأ الجمهور بالجرّ في هذه الصفات الأربع على أنها نعت ل ‏{‏لله‏}‏، وقيل‏:‏ على البدل، والأوّل أولى‏.‏ وقرأ أبو وائل بن محارب، وأبو العالية، ونصر بن عاصم، ورؤبة بالرفع على إضمار مبتدأ‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏القدوس‏}‏ بضم القاف، وقرأ زيد بن علي بفتحها، وقد تقدم تفسيره‏.‏ ‏{‏هُوَ الذى بَعَثَ فِى الأميين رَسُولاً مّنْهُمْ‏}‏ المراد بالأميين‏:‏ العرب، من كان يحسن الكتابة منهم ومن لا يحسنها؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب، والأميّ في الأصل‏:‏ الذي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وكان غالب العرب كذلك، وقد مضى بيان معنى الأميّ في سورة البقرة، ومعنى ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏‏:‏ من أنفسهم، ومن جنسهم، ومن جملتهم، وما كان حيّ من أحياء العرب إلاّ ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة، ووجه الامتنان بكونه منهم أن ذلك أقرب إلى الموافقة؛ لأن الجنس أميل إلى جنسه وأقرب إليه ‏{‏يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءاياته‏}‏ يعني‏:‏ القرآن مع كونه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولا تعلم ذلك من أحد، والجملة صفة ل ‏{‏رسولاً‏}‏، وكذا قوله‏:‏ ‏{‏وَيُزَكّيهِمْ‏}‏ قال ابن جريج، ومقاتل‏:‏ أي‏:‏ يطهرهم من دنس الكفر والذنوب، وقال السديّ‏:‏ يأخذ زكاة أموالهم، وقيل‏:‏ يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان ‏{‏وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة‏}‏ هذه صفة ثالثة ل ‏{‏رسولاً‏}‏، والمراد بالكتاب‏:‏ القرآن، وبالحكمة‏:‏ السنة، كذا قال الحسن‏.‏ وقيل‏:‏ الكتاب‏:‏ الخط بالقلم، والحكمة‏:‏ الفقه في الدين، كذا قال مالك بن أنس ‏{‏وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ أي‏:‏ وإن كانوا من قبل بعثته فيهم في شرك وذهاب عن الحق‏.‏ ‏{‏وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ‏}‏ معطوف على الأميين أي‏:‏ بعث في الأميين، وبعث في آخرين منهم ‏{‏لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ‏}‏ ذلك الوقت، وسيلحقون بهم من بعد، أو هو معطوف على المفعول الأوّل في ‏{‏يعلمهم‏}‏، أي‏:‏ ويعلم آخرين، أو على مفعول ‏{‏يزكيهم‏}‏، أي‏:‏ يزكيهم ويزكي آخرين منهم، والمراد بالآخرين‏:‏ من جاء بعد الصحابة إلى يوم القيامة، وقيل‏:‏ المراد بهم من أسلم من غير العرب‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ هم التابعون‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هم الناس كلهم، وكذا قال ابن زيد، والسديّ، وجملة‏:‏ ‏{‏لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ‏}‏ صفة ل ‏{‏آخرين‏}‏، والضمير في «منهم» و«لهم» راجع إلى الأميين، وهذا يؤيد أن المراد بالآخرين هم من يأتي بعد الصحابة من العرب خاصة إلى يوم القيامة، وهو صلى الله عليه وسلم، وإن كان مرسلاً إلى جميع الثقلين، فتخصيص العرب ها هنا لقصد الامتنان عليهم، وذلك لا ينافي عموم الرسالة، ويجوز أن يراد بالآخرين‏:‏ العجم؛ لأنهم وإن لم يكونوا من العرب فقد صاروا بالإسلام منهم، والمسلمون كلهم أمة واحدة وإن اختلفت أجناسهم ‏{‏وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ أي‏:‏ بليغ العزة والحكمة، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما تقدّم ذكره‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ يعني‏:‏ الإسلام‏.‏ وقال قتادة‏:‏ يعني‏:‏ الوحي والنبوّة‏.‏ وقيل‏:‏ إلحاق العجم بالعرب، وهو مبتدأ، وخبره ‏{‏فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء‏}‏ أي‏:‏ يعطيه من يشاء من عباده ‏{‏والله ذُو الفضل العظيم‏}‏ الذي لا يساويه فضل ولا يدانيه‏.‏ ‏{‏مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا‏}‏ ضرب سبحانه لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلاً فقال‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة‏}‏ أي‏:‏ كلفوا القيام بها والعمل بما فيها ‏{‏ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا‏}‏ أي‏:‏ لم يعملوا بموجبها، ولا أطاعوا ما أمروا به فيها ‏{‏كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً‏}‏ هي جمع سفر، وهو الكتاب الكبير؛ لأنه يسفر عن المعنى إذا قرئ‏.‏ قال ميمون بن مهران‏:‏ الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زبل‏؟‏ فهكذا اليهود‏.‏ وقال الجرجاني‏:‏ هو يعني‏:‏ حملوا من الحمالة بمعنى الكفالة أي‏:‏ ضمنوا أحكام التوراة، وقوله‏:‏ ‏{‏يَحْمِلُ‏}‏ في محلّ نصب على الحال، أو صفة للحمار، إذ ليس المراد به حماراً معيناً، فهو في حكم النكرة، كما في قول الشاعر‏:‏

ولقد أمر على اللئيم يسبني *** فمضيت ثم وقلت لا يعنيني

‏{‏بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئايات الله‏}‏ أي‏:‏ بئس مثلاً مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، على أن التمييز محذوف، والفاعل المفسر به مضمر، و‏{‏مثل القوم‏}‏ هو المخصوص بالذم، أو ‏{‏مثل القوم‏}‏ فاعل ‏{‏بئس‏}‏، والمخصوص بالذمّ الموصول بعده على حذف مضاف، أي‏:‏ مثل الذين كذبوا، ويجوز أن يكون الموصول صفة للقوم، فيكون في محل جرّ، والمخصوص بالذمّ محذوف، والتقدير‏:‏ بئس مثل القوم المكذبين مثل هؤلاء ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ يعني‏:‏ على العموم، فيدخل فيهم اليهود دخولاً أوّلياً‏.‏ ‏{‏قُلْ يأيها الذين هَادُواْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ الناس‏}‏ المراد‏:‏ بالذين هادوا الذين تهوّدوا، وذلك أن اليهود ادّعوا الفضيلة على الناس، وأنهم أولياء الله من دون الناس، كما في قولهم‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 111‏]‏ فأمر الله سبحانه رسوله أن يقول لهم لما ادّعوا هذه الدعوى الباطلة ‏{‏فَتَمَنَّوُاْ الموت‏}‏ لتصيروا إلى ما تصيرون إليه من الكرامة في زعمكم ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ في هذا الزعم، فإن من علم أنه من أهل الجنة أحبّ الخلوص من هذه الدار‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فتمنوا‏}‏ بضم الواو، وقرأ ابن السميفع بفتحها تخفيفاً، وحكى الكسائي إبدال الواو همزة، ثم أخبر الله سبحانه أنهم لا يفعلون ذلك أبداً بسبب ذنوبهم فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ‏}‏ أي‏:‏ بسبب ما عملوا من الكفر والمعاصي، والتحريف والتبديل ‏{‏والله عَلِيمٌ بالظالمين‏}‏ يعني‏:‏ على العموم، وهؤلاء اليهود داخلون فيهم دخولاً أوّلياً‏.‏

ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يقول لهم بأن الفرار من الموت لا ينجيهم، وأنه نازل بهم، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الموت الذى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ ملاقيكم‏}‏ لا محالة، ونازل بكم بلا شك، والفاء في قوله‏:‏ «فَإِنَّهُ» داخلة لتضمن الاسم معنى الشرط، قال الزجاج‏:‏ لا يقال‏:‏ إن زيداً فمنطلق، وها هنا قال‏:‏ فإنه ملاقيكم لما في معنى الذي من الشرط والجزاء، أي‏:‏ إن فررتم منه، فإنه ملاقيكم، ويكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه، وقيل‏:‏ إنها مزيدة، وقيل‏:‏ إن الكلام قد تمّ عند قوله ‏{‏تَفِرُّونَ مِنْهُ‏}‏ ثم ابتدأ فقال ‏{‏فَإِنَّهُ ملاقيكم ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة‏}‏ وذلك يوم القيامة ‏{‏فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ من الأعمال القبيحة، ويجازيكم عليها‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر، والحاكم، والبيهقي في الشعب عن عطاء بن السائب عن ميسرة أن هذه الآية مكتوبة في التوراة بسبعمائة آية‏:‏ ‏{‏يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم‏}‏ أوّل سورة الجمعة‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنّا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» وأخرج البخاري، وغيره عن أبي هريرة قال‏:‏ كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت سورة الجمعة، فتلاها، فلما بلغ ‏{‏وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ‏}‏ قال له رجل‏:‏ يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا‏؟‏ فوضع يده على سلمان الفارسي، وقال‏:‏ «والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء» وأخرجه أيضاً مسلم من حديثه مرفوعاً بلفظ‏:‏ «لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به رجال من فارس،- أو قال-‏:‏ من أبناء فارس» وأخرج سعيد بن منصور، وابن مردويه عن قيس بن سعد بن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لو كان الإيمان بالثريا لناله ناس من أهل فارس» وأخرج الطبراني، وابن مردويه، والضياء عن سهل بن سعد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال من أصحابي رجالاً ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب»، ثم قرأ ‏{‏وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء‏}‏ قال‏:‏ الدين‏.‏ وأخرج عبد بن حميد من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه ‏{‏مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا‏}‏ قال‏:‏ اليهود‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏أَسْفَاراً‏}‏ قال‏:‏ كتباً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏9‏)‏ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة‏}‏ أي‏:‏ وقع النداء لها، والمراد به‏:‏ الأذان إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة؛ لأنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواه، وقوله‏:‏ ‏{‏مِن يَوْمِ الجمعة‏}‏ بيان لإذا وتفسير لها‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ إن «من» بمعنى‏:‏ في، كما في قوله‏:‏ ‏{‏أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض‏}‏ ‏(‏فاطر 40‏)‏ أي‏:‏ في الأرض‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏الجمعة‏}‏ بضم الميم‏.‏ وقرأ عبد الله بن الزبير، والأعمش بإسكانها تخفيفاً‏.‏ وهما لغتان، وجمعها جمع وجمعات‏.‏ قال الفراء‏:‏ يقال‏:‏ الجمعة بسكون الميم وبفتحها وبضمها‏.‏ وهي صفة لليوم، أي‏:‏ يوم يجمع الناس‏.‏ قال الفراء أيضاً، وأبو عبيد‏:‏ والتخفيف أخفّ وأقيس، نحو غرفة وغرف، وطرفة وطرف، وحجرة وحجر‏.‏ وفتح الميم لغة عقيل‏.‏ وقيل‏:‏ إنما سميت جمعة؛ لأن الله جمع فيها خلق آدم، وقيل‏:‏ لأن الله فرغ فيها من خلق كلّ شيء، فاجتمعت فيها جميع المخلوقات، وقيل‏:‏ لاجتماع الناس فيها للصلاة ‏{‏فاسعوا إلى ذِكْرِ الله‏}‏ قال عطاء‏:‏ يعني الذهاب والمشي إلى الصلاة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ المضيّ والسعي والذهاب في معنى واحد، ويدلّ على ذلك قراءة عمر بن الخطاب، وابن مسعود‏:‏ ‏(‏فامضوا إلى ذكر الله‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ المراد القصد‏.‏ قال الحسن‏:‏ والله ما هو سعي على الأقدام ولكنه قصد بالقلوب والنيات، وقيل‏:‏ هو العمل كقوله‏:‏ ‏{‏ومَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 19‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 4‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 39‏]‏ قال القرطبي‏:‏ وهذا قول الجمهور، ومنه قول زهير‏:‏

سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم *** وقال أيضاً‏:‏

سعى ساعياً غيظ بن مرة بعد ما *** تنزل ما بين العشيرة بالدم

أي‏:‏ فاعملوا على المضيّ إلى ذكر الله، واشتغلوا بأسبابه من الغسل والوضوء والتوجه إليه، ويؤيد هذا القول قول الشاعر‏:‏

أسعى على جل بني مالك *** كلّ امرئ في شأنه ساعي

‏{‏وَذَرُواْ البيع‏}‏ أي‏:‏ اتركوا المعاملة به، ويلحق به سائر المعاملات‏.‏ قال الحسن‏:‏ إذا أذن المؤذن يوم الجمعة لم يحلّ الشراء والبيع، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ إلى السعي إلى ذكر الله، وترك البيع، وهو مبتدأ، وخبره ‏{‏خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ خير لكم من فعل البيع، وترك السعي لما في الامتثال من الأجر والجزاء‏.‏ وفي عدمه من عدم ذلك إذا لم يكن موجباً للعقوبة ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ إن كنتم من أهل العلم، فإنه لا يخفى عليكم أن ذلكم خير لكم ‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة‏}‏ أي‏:‏ إذا فعلتم الصلاة وأدّيتموها وفرغتم منها ‏{‏فانتشروا فِى الأرض‏}‏ للتجارة والتصرّف فيما تحتاجون إليه من أمر معاشكم ‏{‏وابتغوا مِن فَضْلِ الله‏}‏ أي‏:‏ من رزقه الذي يتفضل به على عباده بما يحصل لهم من الأرباح في المعاملات والمكاسب، وقيل‏:‏ المراد به ابتغاء ما عند الله من الأجر بعمل الطاعات، واجتناب ما لا يحلّ ‏{‏واذكروا الله كَثِيراً‏}‏ أي ذكراً كثيراً بالشكر له على ما هداكم إليه من الخير الأخروي والدنيويّ، وكذا اذكروه بما يقرّبكم إليه من الأذكار، كالحمد، والتسبيح، والتكبير، والاستغفار، ونحو ذلك ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ أي‏:‏ كي تفوزوا بخير الدارين وتظفروا به‏.‏

‏{‏وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً‏}‏ سبب نزول هذه الآية أنه كان بأهل المدينة فاقة وحاجة، فأقبلت عير من الشام، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلاّ اثنا عشر رجلاً في المسجد‏.‏ ومعنى ‏{‏انفضوا إِلَيْهَا‏}‏‏:‏ تفرّقوا خارجين إليها‏.‏ وقال المبرد‏:‏ مالوا إليها، والضمير للتجارة، وخصت بإرجاع الضمير إليها دون اللهو؛ لأنها كانت أهمّ عندهم، وقيل التقدير‏:‏ وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهواً انفضوا إليه، فحذف الثاني لدلالة الأوّل عليه، كما في قول الشاعر‏:‏

نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك راضٍ والرأي مختلف

وقيل‏:‏ إنه اقتصر على ضمير التجارة؛ لأن الانفضاض إليها إذا كان مذموماً مع الحاجة إليها، فكيف بالانفضاض إلى اللهو، وقيل‏:‏ غير ذلك ‏{‏وَتَرَكُوكَ قَائِماً‏}‏ أي‏:‏ على المنبر‏:‏ ثم أمره الله سبحانه أن يخبرهم بأن العمل للآخرة خير من العمل للدنيا، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا عِندَ الله‏}‏ يعني‏:‏ من الجزاء العظيم وهو الجنة ‏{‏خَيْرٌ مّنَ اللهو وَمِنَ التجارة‏}‏ اللذين ذهبتم إليهما، وتركتم البقاء في المسجد، وسماع خطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم لأجلها ‏{‏والله خَيْرُ الرازقين‏}‏ فمنه اطلبوا الرزق، وإليه توسلوا بعمل الطاعة، فإن ذلك من أسباب تحصيل الرزق وأعظم ما يجلبه‏.‏

وقد أخرج سعيد بن منصور، وابن مردويه عن أبي هريرة قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله لأيّ شيء سمي يوم الجمعة‏؟‏ قال‏:‏ «لأن فيه جمعت طينة أبيكم آدم، وفيه الصعقة والبعثة، وفي آخره ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها بدعوة استجاب له» وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، والنسائي، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن سلمان قال‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أتدري ما يوم الجمعة»‏؟‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم، قالها ثلاث مرات، ثم قال في الثالثة‏:‏ «هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم آدم أفلا أحدّثكم عن يوم الجمعة»، الحديث‏.‏ وأخرج أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن مردويه عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلاّ في يوم الجمعة»

وفي الباب أحاديث مصرحة بأنه خلق فيه آدم‏.‏

وورد في فضل يوم الجمعة أحاديث كثيرة، وكذلك في فضل صلاة الجمعة وعظيم أجرها، وفي الساعة التي فيها، وأنه يستجاب الدعاء فيها، وقد أوضحت ذلك في شرحي للمنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره‏.‏ وأخرج أبو عبيد في فضائله، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف عن خرشة بن الحرّ قال‏:‏ رأى معي عمر بن الخطاب لوحاً مكتوباً فيه ‏{‏إِذَا نُودِىَ للصلاة مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله‏}‏ فقال‏:‏ من أملى عليك هذا‏؟‏ قلت أبيّ بن كعب، قال‏:‏ إن أبياً أقرأنا للمنسوخ اقرأها‏:‏ ‏(‏فامضوا إلى ذكر الله‏)‏ وروى هؤلاء ما عدا أبا عبيد عن ابن عمر قال‏:‏ لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نقرأ هذه الآية التي في سورة الجمعة إلاّ‏:‏ ‏(‏فامضوا إلى ذكر الله‏)‏ وأخرجه عنه أيضاً الشافعي في الأمّ، وعبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن أبي حاتم‏.‏ وأخرجوا كلهم أيضاً عن ابن مسعود أنه كان يقرأ‏:‏ ‏(‏فامضوا إلى ذكر الله‏)‏ قال‏:‏ ولو كان فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن أبيّ بن كعب أنه قرأ كذلك‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فاسعوا إلى ذِكْرِ الله‏}‏ قال‏:‏ فامضوا‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عنه أن السعي‏:‏ العمل‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن محمد بن كعب‏:‏ أن رجلين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كانا يختلفان في تجارتهما إلى الشام، فربما قدما يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فيدعونه ويقومون، فنزلت الآية‏:‏ ‏{‏وَذَرُواْ البيع‏}‏ فحرم عليهم ما كان قبل ذلك‏.‏ وأخرج ابن جرير عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِى الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله‏}‏ قال‏:‏ «ليس لطلب دنيا، ولكن عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله» وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ لم تؤمروا بشيء من طلب الدنيا إنما هو‏:‏ عيادة مريض، وحضور جنازة، وزيارة أخ في الله‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ بينما النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماً إذ قدمت عير المدينة، فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلاّ اثنا عشر رجلاً، أنا فيهم وأبو بكر وعمر، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ جاءت عير عبد الرحمن بن عوف تحمل الطعام، فخرجوا من الجمعة بعضهم يريد أن يشتري، وبعضهم يريد أن ينظر إلى دحية، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر، وبقي في المسجد اثنا عشر رجلاً وسبع نسوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم ناراً» وفي الباب روايات متضمنة لهذا المعنى عن جماعة من الصحابة وغيرهم‏.‏

سورة المنافقون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ‏(‏1‏)‏ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏2‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏4‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏5‏)‏ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏6‏)‏ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏7‏)‏ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاءكَ المنافقون‏}‏ أي‏:‏ إذا وصلوا إليك وحضروا مجلسك، وجواب الشرط‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏، وقيل‏:‏ محذوف، و‏{‏قالوا‏}‏‏:‏ حال، والتقدير‏:‏ جاءوك قائلين كيت وكيت، فلا تقبل منهم، وقيل‏:‏ الجواب ‏{‏اتخذوا أيمانهم جُنَّةً‏}‏ وهو بعيد ‏{‏قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله‏}‏ أكدوا شهادتهم بإنّ واللام، للإشعار بأنها صادرة من صميم قلوبهم مع خلوص اعتقادهم، والمراد بالمنافقين‏:‏ عبد الله بن أبيّ وأصحابه، ومعنى ‏{‏نشهد‏}‏‏:‏ نحلف، فهو يجري مجرى القسم، ولذلك يتلقى بما يتلقى به القسم، ومن هذا قول قيس بن ذَريح‏:‏

وأشهد عند الله أني أحبها *** فهذا لها عندي فما عندها ليا

ومثل نشهد نعلم، فإنه يجري مجرى القسم، كما في قول الشاعر‏:‏

ولقد علمت لتأتينّ منيتي *** إن المنايا لا تطيش سهامها

وجملة‏:‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ‏}‏ معترضة مقرّرة لمضمون ما قبلها، وهو ما أظهروه من الشهادة، وإن كانت بواطنهم على خلاف ذلك ‏{‏والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون‏}‏ أي‏:‏ في شهادتهم التي زعموا أنها من صميم القلب وخلوص الاعتقاد؛ لا إلى منطوق كلامهم، وهو الشهادة بالرسالة، فإنه حقّ، والمعنى‏:‏ والله يشهد إنهم لكاذبون فيما تضمنه كلامهم من التأكيد الدالّ على أن شهادتهم بذلك صادرة عن خلوص اعتقاد وطمأنينة قلب، وموافقة باطن لظاهر‏.‏ ‏{‏اتخذوا أيمانهم جُنَّةً‏}‏ أي‏:‏ جعلوا حلفهم الذي حلفوا لكم به إنهم لمنكم، وإن محمداً لرسول الله وقاية تقيهم منكم، وسترة يستترون بها من القتل والأسر، والجملة مستأنفة لبيان كذبهم وحلفهم عليه، وقد تقدّم قول من قال‏:‏ إنها جواب الشرط‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أيمانهم‏}‏ بفتح الهمزة، وقرأ الحسن بكسرها، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة المجادلة، ‏{‏فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ أي‏:‏ منعوا الناس عن الإيمان والجهاد، وأعمال الطاعة بسبب ما يصدر منهم من التشكيك والقدح في النبوّة‏.‏ هذا معنى الصدّ الذي بمعنى الصرف، ويجوز أن يكون من الصدود، أي‏:‏ أعرضوا عن الدخول في سبيل الله وإقامة أحكامه ‏{‏إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ من النفاق والصدّ، وفي ساء معنى التعجب، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما تقدّم ذكره من الكذب، والصدّ، وقبح الأعمال، وهو مبتدأ، وخبره‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ‏}‏ أي‏:‏ بسبب أنهم آمنوا في الظاهر نفاقاً ‏{‏ثُمَّ كَفَرُواْ‏}‏ في الباطن، أو أظهروا الإيمان للمؤمنين، وأظهروا الكفر للكافرين، وهذا صريح في كفر المنافقين، وقيل‏:‏ نزلت الآية في قوم آمنوا ثم ارتدّوا، والأوّل أولى، كما يفيده السياق‏.‏ ‏{‏فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ ختم عليها بسبب كفرهم‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فطبع‏}‏ على البناء للمفعول، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور بعده، وقرأ زيد بن عليّ على البناء للفاعل، والفاعل ضمير يعود إلى الله سبحانه، ويدل على هذا قراءة الأعمش‏:‏ ‏(‏فطبع الله على قلوبهم‏)‏‏.‏

‏{‏فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ‏}‏ ما فيه من صلاحهم ورشادهم، وهو الإيمان‏.‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم‏}‏ أي‏:‏ هيئاتهم ومناظرهم، يعني‏:‏ أن لهم أجساماً تعجب من يراها لما فيها من النضارة والرونق ‏{‏وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ‏}‏ فتحسب أن قولهم حقّ وصدق لفصاحتهم، وذلاقة ألسنتهم، وقد كان عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين فصيحاً جسيماً جميلاً، وكان يحضر مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا قال سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم مقالته‏.‏ قال الكلبي‏:‏ المراد عبد الله بن أبيّ، وجدّ بن قيس، ومعتب بن قيس كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ لكلّ من يصلح له، ويدلّ عليه قراءة من قرأ‏:‏ ‏(‏يسمع‏)‏ على البناء للمفعول، وجملة‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ‏}‏ مستأنفة لتقرير ما تقدّم من أن أجسامهم تعجب الرائي وتروق الناظر، ويجوز أن تكون في محل رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، شبّهوا في جلوسهم في مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستندين بها بالخشب المنصوبة المسندة إلى الحائط التي لا تفهم ولا تعلم، وهم كذلك لخلوّهم عن الفهم النافع، والعلم الذي ينتفع به صاحبه، قال الزجاج‏:‏ وصفهم بتمام الصور، ثم أعلم أنهم في ترك الفهم والاستبصار بمنزلة الخشب‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏خشب‏}‏ بضمتين، وقرأ أبو عمرو، والكسائي، وقنبل بإسكان الشين، وبها قرأ البراء بن عازب، واختارها أبو عبيد؛ لأن واحدتها خشبة كبدنة وبدن، واختار القراءة الأولى أبو حاتم‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب بفتحتين، ومعنى ‏{‏مُّسَنَّدَةٌ‏}‏‏:‏ أنها أسندت إلى غيرها، من قولهم‏:‏ أسندت كذا إلى كذا، والتشديد للتكثير‏.‏ ثم عابهم الله سبحانه بالجبن، فقال‏:‏ ‏{‏يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ يحسبون كل صيحة يسمعونها واقعة عليهم، نازلة بهم لفرط جبنهم ورعب قلوبهم، وفي المفعول الثاني للحسبان وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه عليهم، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏هُمُ العدو‏}‏ جملة مستأنفة؛ لبيان أنهم الكاملون في العداوة لكونهم يظهرون غير ما يبطنون، والوجه الثاني‏:‏ أن المفعول الثاني للحسبان هو قوله‏:‏ ‏{‏هُمُ العدو‏}‏، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ متعلقاً ب ‏{‏صيحة‏}‏، وإنما جاء بضمير الجماعة باعتبار الخبر، وكان حقه أن يقال‏:‏ هو العدوّ، والوجه الأوّل أولى‏.‏ قال مقاتل، والسديّ‏:‏ أي إذا نادى منادٍ في العسكر، أو انفلتت دابة، أو أنشدت ضالة ظنوا أنهم المرادون لما في قلوبهم من الرعب، ومن هذا قول الشاعر‏:‏

ما زلت تحسب كلّ شيء بعدهم *** خيلا تكرّ عليهم ورجالا

وقيل‏:‏ كان المنافقون على وجل من أن ينزل فيهم ما يهتك أستارهم، ويبيح دماءهم وأموالهم‏.‏ ثم أمر الله سبحانه رسوله بأن يأخذ حذره منهم فقال‏:‏ ‏{‏فاحذرهم‏}‏ أن يتمكنوا من فرصة منك، أو يطلعوا على شيء من أسرارك؛ لأنهم عيون لأعدائك من الكفار‏.‏

ثم دعا عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏قاتلهم الله أنى يُؤْفَكُونَ‏}‏ أي‏:‏ لعنهم الله، وقد تقول العرب هذه الكلمة على طريقة التعجب، كقولهم‏:‏ قاتله الله من شاعر، أو ما أشعره، وليس بمراد هنا، بل المراد ذمهم وتوبيخهم، وهو طلب من الله سبحانه طلبه من ذاته- عزّ وجلّ- أن يلعنهم ويخزيهم، أو هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا ذلك؛ ومعنى ‏{‏أنى يُؤْفَكُونَ‏}‏‏:‏ كيف يصرفون عن الحق، ويميلون عنه إلى الكفر‏.‏ قال قتادة‏:‏ معناه يعدلون عن الحق‏.‏ وقال الحسن معناه يصرفون عن الرشد‏.‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله‏}‏ أي‏:‏ إذا قال لهم القائل من المؤمنين قد نزل فيكم ما نزل من القرآن، فتوبوا إلى الله ورسوله، وتعالوا يستغفر لكم رسول الله ‏{‏لَوَّوْاْ رُءوسَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ حركوها استهزاء بذلك‏.‏ قال مقاتل‏:‏ عطفوا رءوسهم رغبة عن الاستغفار‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لوّوا‏}‏ بالتشديد‏.‏ وقرأ نافع بالتخفيف، واختار القراءة الأولى أبو عبيد ‏{‏وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ‏}‏ أي‏:‏ يعرضون عن قول من قال لهم‏:‏ تعالوا يستغفر لكم رسول الله، أو يعرضون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجملة‏:‏ ‏{‏وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ‏}‏ في محل نصب على الحال من فاعل الحال الأولى، وهي يصدّون؛ لأن الرؤية بصرية، ف ‏{‏يصدّون‏}‏ في محل نصب على الحال، والمعنى‏:‏ ورأيتهم صادّين مستكبرين ‏{‏سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ الاستغفار وعدمه سواء لا ينفعهم ذلك لإصرارهم على النفاق، واستمرارهم على الكفر‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أستغفرت‏}‏ بهمزة مفتوحة من غير مدّ، وحذف همزة الاستفهام ثقة بدلالة «أم» عليها‏.‏ وقرأ يزيد بن القعقاع بهمزة ثم ألف ‏{‏لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ما داموا على النفاق ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين‏}‏ أي‏:‏ الكاملين في الخروج عن الطاعة، والانهماك في معاصي الله، ويدخل فيهم المنافقون دخولاً أوّلياً‏.‏ ثم ذكر سبحانه بعض قبائحهم فقال‏:‏ ‏{‏هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ‏}‏ أي‏:‏ حتى يتفرّقوا عنه، يعنون بذلك فقراء المهاجرين، والجملة مستأنفة جارية مجرى التعليل لفسقهم، أو لعدم مغفرة الله لهم‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ينفضوا‏}‏ من الانفضاض، وهو التفرّق، وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي‏:‏ ‏(‏ينفضوا‏)‏ من أنفض القوم‏:‏ إذا فنيت أزوادهم، يقال‏:‏ نفض الرجل وعاءه من الزاد فانفضّ‏.‏ ثم أخبر سبحانه بسعة ملكه فقال‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السموات والأرض‏}‏ أي‏:‏ إنه هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين؛ لأن خزائن الرزق له فيعطي من شاء ما شاء، ويمنع من شاء ما شاء ‏{‏ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ‏}‏ ذلك، ولا يعلمون أن خزائن الأرزاق بيد الله عزّ وجلّ، وأنه الباسط القابض المعطي المانع‏.‏ ثم ذكر سبحانه مقالة شنعاء قالوها فقال‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل‏}‏ القائل لهذه المقالة هو عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين، وعنى بالأعزّ‏:‏ نفسه ومن معه، وبالأذلّ‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، ومراده بالرجوع‏:‏ رجوعهم من تلك الغزوة، وإنما أسند القول إلى المنافقين مع كون القائل هو فرد من أفرادهم، وهو عبد الله بن أبيّ، لكونه كان رئيسهم وصاحب أمرهم، وهم راضون بما يقوله سامعون له مطيعون‏.‏

ثم ردّ الله سبحانه على قائل تلك المقالة فقال‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ القوّة والغلبة لله وحده ولمن أفاضها عليه من رسله وصالحي عباده لا لغيرهم‏.‏ اللَّهم كما جعلت العزّة للمؤمنين على المنافقين، فاجعل العزّة للعادلين من عبادك، وأنزل الذلة على الجائرين الظالمين ‏{‏ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ بما فيه النفع فيفعلونه، وبما فيه الضرّ فيجتنبونه، بل هم كالأنعام لفرط جهلهم ومزيد حيرتهم، والطبع على قلوبهم‏.‏

وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن زيد بن أرقم قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصاب الناس شدّة، فقال عبد الله بن أبيّ لأصحابه‏:‏ ‏{‏لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ‏}‏ من حوله، وقال‏:‏ ‏{‏لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل‏}‏ فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بذلك، فأرسل إلى عبد الله بن أبيّ، فسأله، فاجتهد يمينه ما فعل، فقالوا‏:‏ كذب زيد رسول الله، فوقع في نفسي مما قالوا شدّة حتى أنزل الله تصديقي في ‏{‏إِذَا جَاءكَ المنافقون‏}‏، فدعاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم، فلوّوا رءوسهم، وهو قوله‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ‏}‏ قال‏:‏ كانوا رجالاً أجمل شيء‏.‏ وأخرجه عنه بأطول من هذا ابن سعد، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ إنما سماهم الله منافقين، لأنهم كتموا الشرك وأظهروا الإيمان‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه‏:‏ ‏{‏اتخذوا أيمانهم جُنَّةً‏}‏ قال‏:‏ حلفهم بالله إنهم لمنكم اجتنوا بأيمانهم من القتل والحرب‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ‏}‏ قال‏:‏ نخل قيام‏.‏ وأخرج ابن مردويه، والضياء في المختارة عنه أيضاً‏.‏ قال‏:‏ نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ‏}‏ في عسيف لعمر بن الخطاب‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم، وابن مسعود أنهما قرآ‏:‏ ‏(‏لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله‏)‏‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزاة‏.‏ قال سفيان‏:‏ يرون أنها غزوة بني المصطلق، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال المهاجريّ يا للمهاجرين، وقال الأنصاريّ يا للأنصار، فسمع ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

«ما بال دعوة الجاهلية»‏؟‏ قالوا‏:‏ رجل من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «دعوها، فإنها منتنة»، فسمع ذلك عبد الله بن أبيّ، فقال‏:‏ أو قد فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منه الأذلّ، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال‏:‏ يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «دعه، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه»، زاد الترمذي فقال له ابنه عبد الله‏:‏ والله لا تنفلت حتى تقر أنك الذليل، ورسول الله العزيز، ففعل‏.‏