فصل: تفسير الآيات رقم (19- 52)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 52‏]‏

‏{‏فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ‏(‏19‏)‏ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ‏(‏20‏)‏ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ‏(‏21‏)‏ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ‏(‏22‏)‏ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ‏(‏23‏)‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ‏(‏24‏)‏ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ‏(‏25‏)‏ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ‏(‏26‏)‏ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ‏(‏27‏)‏ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ‏(‏28‏)‏ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ‏(‏29‏)‏ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ‏(‏30‏)‏ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ‏(‏31‏)‏ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ‏(‏32‏)‏ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ‏(‏33‏)‏ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏34‏)‏ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ‏(‏35‏)‏ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ‏(‏36‏)‏ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ ‏(‏37‏)‏ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ‏(‏38‏)‏ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ‏(‏40‏)‏ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ‏(‏41‏)‏ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏42‏)‏ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏43‏)‏ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ‏(‏44‏)‏ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ‏(‏45‏)‏ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ‏(‏46‏)‏ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ‏(‏49‏)‏ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏50‏)‏ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ‏(‏51‏)‏ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

لما ذكر سبحانه العرض ذكر ما يكون فيه، فقال‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ‏}‏ أي‏:‏ أعطي كتابه الذي كتبته الحفظة عليه من أعماله ‏{‏فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقرؤا كتابيه‏}‏ يقول ذلك سروراً وابتهاجاً‏.‏ قال ابن السكيت، والكسائي‏:‏ العرب تقول‏:‏ ها يا رجل، وللاثنين هاؤما يا رجلان، وللجمع هاؤم يا رجال‏.‏ قيل‏:‏ والأصل هاؤكم، فأبدلت الهمزة من الكاف، قال ابن زيد‏:‏ ومعنى ‏{‏هاؤم‏}‏‏:‏ تعالوا‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هلم‏.‏ وقيل‏:‏ خذوا؛ والذي صرح به النحاة أنها بمعنى خذ، يقول‏:‏ ها بمعنى خذ، وهاؤما بمعنى خذا، وهاؤم بمعنى خذوا، فهي اسم فعل، وقد يكون فعلاً صريحاً لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها، وفيها ثلاث لغات، كما هو معروف في علم الإعراب، وقوله‏:‏ ‏{‏كتابيه‏}‏ معمول لقوله‏:‏ ‏{‏اقرءوا‏}‏ لأنه أقرب الفعلين، ومعمول ‏{‏هَاؤُمُ‏}‏ محذوف يدل عليه معمول ‏{‏اقرءوا‏}‏ والتقدير‏:‏ هاؤم كتابيه اقرءوا كتابيه، والهاء في كتابيه وحسابيه وسلطانيه وماليه، هي هاء السكت‏.‏ قرأ الجمهور في هذه بإثبات الهاء وقفاً ووصلاً مطابقة لرسم المصحف، ولولا ذلك لحذفت في الوصل، كما هو شأن هاء السكت، واختار أبو عبيد أن يتعمد الوقف عليها ليوافق اللغة في إلحاق الهاء في السكت، ويوافق الخط، يعني‏:‏ خط المصحف‏.‏ قرأ ابن محيصن، وابن أبي إسحاق، وحميد، ومجاهد، والأعمش، ويعقوب بحذفها وصلاً، وإثباتها وقفاً في جميع هذه الألفاظ‏.‏ ورويت هذه القراءة عن حمزة، واختار أبو حاتم هذه القراءة اتباعاً للغة‏.‏ وروي عن ابن محيصن أنه قرأ بحذفها وصلاً ووقفاً‏.‏

‏{‏إِنّى ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ‏}‏ أي‏:‏ علمت وأيقنت في الدنيا أني أحاسب في الآخرة‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ إني ظننت أن يأخذني الله بسيئاتي، فقد تفضل عليّ بعفوه ولم يؤاخذني‏.‏ قال الضحاك‏:‏ كل ظنّ في القرآن من المؤمن فهو يقين، ومن الكافر فهو شك‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ظن الآخرة يقين وظنّ الدنيا شك‏.‏ قال الحسن في هذه الآية‏:‏ إن المؤمن أحسن الظنّ بربه فأحسن العمل للآخرة، وإن الكافر أساء الظنّ بربه فأساء العمل‏.‏ قيل‏:‏ والتعبير بالظنّ هنا للإشعار بأنه لا يقدح في الاعتقاد ما يهجس في النفس من الخطرات التي لا تنفك عنها العلوم النظرية غالباً ‏{‏فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ‏}‏ أي‏:‏ في عيشة مرضية لا مكروهة، أو ذات رضى أي‏:‏ يرضى بها صاحبها‏.‏ قال أبو عبيدة، والفراء‏:‏ راضية أي‏:‏ مرضية كقوله‏:‏ ‏{‏مَّاء دَافِقٍ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 6‏]‏ أي‏:‏ مدفوق، فقد أسند إلى العيشة ما هو لصاحبها، فكان ذلك من المجاز في الإسناد ‏{‏فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ‏}‏ أي‏:‏ مرتفعة المكان لأنها في السماء، أو مرتفعة المنازل، أو عظيمة في النفوس‏.‏ ‏{‏قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ‏}‏ القطوف‏:‏ جمع قطف بكسر القاف، ما يقطف من الثمار، والقطف بالفتح المصدر، والقطاف بالفتح والكسر وقت القطف، والمعنى‏:‏ أن ثمارها قريبة ممن يتناولها من قائم أو قاعد أو مضطجع‏.‏

‏{‏كُلُواْ واشربوا‏}‏ أي‏:‏ يقال لهم‏:‏ كلوا واشربوا في الجنة ‏{‏هَنِيئَاً‏}‏ أي‏:‏ أكلاً وشرباً هنيئاً لا تكدير فيه ولا تنغيص ‏{‏بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الأيام الخالية‏}‏ أي‏:‏ بسبب ما قدمتم من الأعمال الصالحة في الدنيا‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هي أيام الصيام‏.‏

‏{‏وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ‏}‏ حزناً وكرباً لما رأى فيه من سيئاته ‏{‏فَيَقُولُ ياليتنى لَمْ أُوتَ كتابيه‏}‏ أي‏:‏ لم أعط كتابيه ‏{‏وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ‏}‏ أي‏:‏ لم أدر أيّ شيء حسابي‏.‏ لأن كله عليه‏.‏ ‏{‏ياليتها كَانَتِ القاضية‏}‏ أي‏:‏ ليت الموتة التي متّها كانت القاضية، ولم أحي بعدها، ومعنى القاضية‏:‏ القاطعة للحياة، والمعنى‏:‏ أنه تمنى دوام الموت، وعدم البعث لما شاهد من سوء عمله وما يصير إليه من العذاب، فالضمير في ليتها يعود إلى الموتة التي قد كان ماتها، وإن لم تكن مذكورة؛ لأنها لظهورها كانت كالمذكورة‏.‏ قال قتادة‏:‏ تمنى الموت ولم يكن في الدنيا شيء عنده أكره منه، وشرّ من الموت ما يطلب منه الموت‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير يعود إلى الحالة التي شاهدها عند مطالعة الكتاب، والمعنى‏:‏ يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت عليّ‏.‏ ‏{‏مَا أغنى عَنّى مَالِيَهْ‏}‏ أي‏:‏ لم يدفع عني من عذاب الله شيئًا على أن ما نافية، أو استفهامية، والمعنى‏:‏ أيّ شيء أغنى عني مالي‏.‏ ‏{‏هَلَكَ عَنّى سلطانيه‏}‏ أي‏:‏ هلكت عني حجتي وضلت عني، كذا قال مجاهد، وعكرمة، والسديّ، والضحاك‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ يعني‏:‏ سلطاني الذي في الدنيا، وهو الملك، وقيل‏:‏ تسلطي على جوارحي‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ حين شهدت عليه الجوارح بالشرك، وحينئذٍ يقول الله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏خُذُوهُ فَغُلُّوهُ‏}‏ أي‏:‏ اجمعوا يده إلى عنقه بالأغلال‏.‏ ‏{‏ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ‏}‏ أي‏:‏ أدخلوه الجحيم، والمعنى‏:‏ لا تصلوه إلاّ الجحيم، وهي النار العظيمة ‏{‏ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ‏}‏ السلسلة حلق منتظمة، وذرعها طولها‏.‏ قال الحسن‏:‏ الله أعلم بأيّ ذراع هو‏.‏ قال نوف الشامي‏:‏ كل ذراع سبعون باعاً كل باع أبعد مما بينك وبين مكة، وكان نوف في رحبة الكوفة‏.‏ قال مقاتل‏:‏ لو أن حلقة منها وضعت على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص، ومعنى ‏{‏فَاْسْلُكُوهُ‏}‏‏:‏ فاجعلوه فيها، يقال‏:‏ سلكته الطريق إذا أدخلته فيه‏.‏ قال سفيان‏:‏ بلغنا أنها تدخل في دبره حتى تخرج من فيه‏.‏ قال الكلبي‏:‏ تسلك سلك الخيط في اللؤلؤ‏.‏ وقال سويد بن أبي نجيح‏:‏ بلغني أن جميع أهل النار في تلك السلسلة، وتقديم السلسلة للدلالة على الاختصاص كتقديم الجحيم، وجملة‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم‏}‏ تعليل لما قبلها‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين‏}‏ أي‏:‏ لا يحث على إطعام المسكين من ماله، أو لا يحث الغير على إطعامه، ووضع الطعام موضع الإطعام، كما يوضع العطاء موضع الإعطاء، كما قال الشاعر‏:‏

أكفراً بعد ردّ موتي عني *** وبعد عطائك المال الرعابا

أي‏:‏ بعد إعطائك، ويجوز أن يكون الطعام على معناه غير موضوع موضع المصدر، والمعنى‏:‏ أنه لا يحث نفسه أو غيره على بذل نفس طعام المسكين، وفي جعل هذا قريناً لترك الإيمان بالله من الترغيب في التصدّق على المساكين وسدّ فاقتهم، وحثّ النفس والناس على ذلك ما يدلّ أبلغ دلالة، ويفيد أكمل فائدة على أن منعهم من أعظم الجرائم وأشدّ المآثم‏.‏ ‏{‏فَلَيْسَ لَهُ اليوم هاهنا حَمِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ ليس له يوم القيامة في الآخرة قريب ينفعه أو يشفع له؛ لأنه يوم يفرّ فيه القريب من قريبه، ويهرب عنده الحبيب من حبيبه‏.‏ ‏{‏وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ‏}‏ أي‏:‏ وليس له طعام يأكله إلاّ من صديد أهل النار، وما ينغسل من أبدانهم من القيح والصديد، وغسلين فعلين من الغسل‏.‏ وقال الضحاك، والربيع بن أنس‏:‏ هو شجر يأكله أهل النار‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو شرّ الطعام‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ لا يعلم ما هو ولا ما الزقوم إلاّ الله تعالى‏.‏ وقال سبحانه في موضع آخر ‏{‏لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 6‏]‏، فيجوز أن يكون الضريع هو الغسلين‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى فليس له اليوم ها هنا حميم إلاّ من غسلين على أن الحميم هو الماء الحار‏.‏ ‏{‏وَلاَ طَعَامٌ‏}‏ أي‏:‏ ليس لهم طعام يأكلونه، ولا ملجئ لهذا التقديم والتأخير، وجملة‏:‏ ‏{‏لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون‏}‏ صفة لغسلين، والمراد أصحاب الخطايا وأرباب الذنوب‏.‏ قال الكلبي‏:‏ المراد الشرك‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏الخاطئون‏}‏ مهموزاً، وهو اسم فاعل من خطئ إذا فعل غير الصواب متعمداً، والمخطئ من يفعله غير متعمد‏.‏ وقرأ الزهري، وطلحة بن مصرف، والحسن‏:‏ ‏"‏ الخاطيون ‏"‏ بياء مضمومة بدل الهمزة‏.‏ وقرأ نافع في رواية عنه بضم الطاء بدون همزة‏.‏

‏{‏فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ هذا ردّ لكلام المشركين كأنه قال‏:‏ ليس الأمر كما تقولون، ولا زائدة، والتقدير‏:‏ فأقسم بما تشاهدونه وما لا تشاهدونه‏.‏ قال قتادة‏:‏ أقسم بالأشياء كلها ما يبصر منها وما لا يبصر، فيدخل في هذا جميع المخلوقات‏.‏ وقيل‏:‏ إن «لا» ليست زائدة، بل هي لنفي القسم، أي‏:‏ لا أحتاج إلى قسم لوضوح الحقّ في ذلك، والأوّل أولى‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ إن القرآن لتلاوة رسول كريم، على أن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، أو إنه لقول يبلغه رسول كريم‏.‏ قال الحسن، والكلبي، ومقاتل‏:‏ يريد به جبريل، دليله قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ‏}‏

‏[‏التكوير‏:‏ 19 20‏]‏ وعلى كل حال، فالقرآن ليس من قول محمد، ولا من قول جبريل عليه السلام، بل هو قول الله، فلا بدّ من تقدير التلاوة أو التبليغ‏.‏ ‏{‏وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ‏}‏ كما تزعمون؛ لأنه ليس من أصناف الشعر ولا مشابه لها ‏{‏قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ إيماناً قليلاً تؤمنون، وتصديقاً يسيراً تصدقون، و«ما» زائدة ‏{‏وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ‏}‏ كما تزعمون، فإن الكهانة أمر آخر لا جامع بينها وبين هذا ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ‏}‏ أي‏:‏ تذكراً قليلاً، أو زماناً قليلاً تتذكرون، وما زائدة، والقلة في الموضعين بمعنى النفي أي‏:‏ لا تؤمنون ولا تتذكرون أصلاً ‏{‏تَنزِيلٌ مّن رَّبّ العالمين‏}‏ قرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي‏:‏ هو تنزيل‏.‏ وقرأ أبو السماك بالنصب على المصدرية بإضمار فعل أي‏:‏ نزل تنزيلاً، والمعنى‏:‏ إنه لقول رسول كريم، وهو تنزيل من ربّ العالمين على لسانه‏.‏

‏{‏وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل‏}‏ أي‏:‏ ولو تقوّل ذلك الرسول، وهو محمد أو جبريل على ما تقدّم، والتقوّل تكلف القول، والمعنى‏:‏ أو تكلف ذلك وجاء به من جهة نفسه، وسمي الافتراء تقوّلاً لأنه قول متكلف، وكلّ كاذب يتكلف ما يكذب به‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تقوّل‏}‏ مبنياً للفاعل‏.‏ وقرئ مبنياً للمفعول مع رفع بعض‏.‏ وقرأ ابن ذكوان «ولو يقول» على صيغة المضارع، والأقاويل جمع أقوال، والأقوال جمع قول‏.‏ ‏{‏لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين‏}‏ أي‏:‏ بيده اليمين‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ إن هذا الكلام خرج مخرج الإذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب‏.‏ وقال الفراء، والمبرد، والزجاج، وابن قتيبة‏:‏ ‏{‏لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين‏}‏ أي‏:‏ بالقوّة والقدرة‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وإنما أقام اليمين مقام القوّة؛ لأن قوّة كل شيء في ميامنه، ومن هذا قول الشاعر‏:‏

إذا ما راية نصبت لمجد *** تلقاها عرابة باليمين

وقول الآخر‏:‏

ولما رأيت الشمس أشرق نورها *** تناولت منها حاجتي بيميني

‏{‏ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين‏}‏ الوتين عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب، وهو تصوير لإهلاكه بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه‏.‏ قال الواحدي‏:‏ والمفسرون يقولون‏:‏ إنه نياط القلب‏.‏ انتهى‏.‏ ومن هذا قول الشاعر‏:‏

إذا بلغتني وحملت رحلي *** عرابة فاشرقي بدم الوتين

‏{‏فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين‏}‏ أي‏:‏ ليس منكم أحد يحجزنا عنه ويدفعنا منه، فكيف يتكلف الكذب على الله لأجلكم، مع علمه أنه لو تكلف ذلك لعاقبناه، ولا تقدرون على الدفع منه، والحجز‏:‏ المنع ‏{‏وحاجزين‏}‏ صفة لأحد، أو خبر لما الحجازية‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ أي‏:‏ إن القرآن لتذكرة لأهل التقوى لأنهم المنتفعون به‏.‏ ‏{‏وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ‏}‏ أي‏:‏ أن بعضكم يكذب بالقرآن، فنحن نجازيهم على ذلك، وفي هذا وعيد شديد ‏{‏وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الكافرين‏}‏ أي‏:‏ وإن القرآن لحسرة وندامة على الكافرين يوم القيامة عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين، وقيل‏:‏ هي حسرتهم في الدنيا حين لم يقدروا على معارضته عند تحدّيهم بأن يأتوا بسورة من مثله‏.‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين‏}‏ أي‏:‏ وإن القرآن لكونه من عند الله حقّ، فلا يحول حوله ريب ولا يتطرّق إليه شك‏.‏ ‏{‏فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم‏}‏ أي‏:‏ نزهه عما لا يليق به‏.‏ وقيل‏:‏ فصلّ لربك، والأوّل أولى‏.‏

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِنّى ظَنَنتُ‏}‏ قال‏:‏ أيقنت‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي حاتم عن البراء بن عازب ‏{‏قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ‏}‏ قال‏:‏ قريبة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن البراء في الآية قال‏:‏ يتناول الرجل من فواكهها وهو قائم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَاْسْلُكُوهُ‏}‏ قال‏:‏ السلسلة تدخل في استه ثم تخرج من فيه، ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود، ثم يشوى‏.‏ وأخرج أبو عبيد، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن أبي الدرداء قال‏:‏ إن لله سلسلة لم تزل تغلي منها مراجل النار منذ خلق الله جهنم إلى يوم تلقى في أعناق الناس، وقد نجانا الله من نصفها بإيماننا بالله العظيم، فحضي على طعام المسكين يا أمّ الدرداء‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ الغسلين الدّم والماء والصديد الذي يسيل من لحومهم‏.‏ وأخرج الحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري‏:‏ عن النبيّ قال‏:‏ «لو أن دلواً من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا» وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال‏:‏ الغسلين اسم طعام من أطعمة أهل النار‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه ‏{‏فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ يقول‏:‏ بما ترون وما لا ترون‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين‏}‏ قال‏:‏ بقدرة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عنه قال‏:‏ ‏{‏الوتين‏}‏ عرق القلب‏.‏ وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والحاكم عنه أيضاً قال‏:‏ ‏{‏الوتين‏}‏ نياط القلب‏.‏ وأخرج ابن المنذر، والحاكم، وصححه عنه أيضاً قال‏:‏ هو حبل القلب الذي في الظهر‏.‏

سورة المعارج

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 18‏]‏

‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ‏(‏1‏)‏ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ‏(‏2‏)‏ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ‏(‏3‏)‏ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ‏(‏4‏)‏ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ‏(‏6‏)‏ وَنَرَاهُ قَرِيبًا ‏(‏7‏)‏ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ‏(‏8‏)‏ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ‏(‏9‏)‏ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ‏(‏10‏)‏ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ‏(‏11‏)‏ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ‏(‏12‏)‏ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ‏(‏13‏)‏ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ ‏(‏14‏)‏ كَلَّا إِنَّهَا لَظَى ‏(‏15‏)‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ‏(‏16‏)‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ‏(‏17‏)‏ وَجَمَعَ فَأَوْعَى ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏سأل‏}‏ بالهمزة، وقرأ نافع، وابن عامر، بغير همزة، فمن همز، فهو من السؤال وهي اللغة الفاشية، وهو إما مضمن معنى الدعاء، فلذلك عدّي بالباء، كما تقول دعوت كذا، والمعنى‏:‏ دعا داع على نفسه بعذاب واقع، ويجوز أن يكون على أصله، والباء بمعنى عن كقوله‏:‏ ‏{‏فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 59‏]‏ ومن لم يهمز، فهو إما من باب التخفيف بقلب الهمزة ألفاً، فيكون معناها معنى قراءة من همز، أو يكون من السيلان، والمعنى‏:‏ سال وادٍ في جهنم، يقال له‏:‏ سائل، كما قال زيد بن ثابت‏.‏ ويؤيده قراءة ابن عباس ‏(‏سال سيل‏)‏ وقيل‏:‏ إن سال بمعنى التمس، والمعنى‏:‏ التمس ملتمس عذاباً للكفار، فتكون الباء زائدة كقوله‏:‏ ‏{‏تَنبُتُ بالدهن‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 20‏]‏ والوجه الأوّل هو الظاهر‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ يقال‏:‏ خرجنا نسأل عن فلان وبفلان‏.‏ قال أبو عليّ الفارسي‏:‏ وإذا كان من السؤال، فأصله أن يتعدّى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما ويتعدى إليه بحرف الجر، وهذا السائل هو النضر بن الحارث حين قال‏:‏ ‏{‏اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ وهو ممن قتل يوم بدر صبراً‏.‏ وقيل‏:‏ هو أبو جهل، وقيل‏:‏ هو الحارث بن النعمان الفهري، والأوّل أولى لما سيأتي‏.‏ وقرأ أبيّ، وابن مسعود «سال سال» مثل مال مال على أن الأصل سائل، فحذفت العين تخفيفاً، كما قيل‏:‏ شاك في شائك السلاح‏.‏ وقيل‏:‏ السائل هو نوح عليه السلام، سأل العذاب للكافرين، وقيل‏:‏ هو رسول الله دعا بالعقاب عليهم، وقوله‏:‏ ‏{‏بِعَذَابٍ وَاقِعٍ‏}‏ يعني‏:‏ إما في الدنيا كيوم بدر، أو في الآخرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏للكافرين‏}‏ صفة أخرى لعذاب أي‏:‏ كائن للكافرين، أو متعلق بواقع، واللام للعلة، أو يسأل على تضمينه معنى دعا، أو في محل رفع على تقدير‏:‏ هو للكافرين، أو تكون اللام بمعنى على، ويؤيده قراءة أبيّ‏:‏ «بعذاب واقع على الكافرين»‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ التقدير بعذاب للكافرين واقع بهم، فالواقع من نعت العذاب، وجملة‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ‏}‏ صفة أخرى لعذاب، أو حال منه، أو مستأنفة، والمعنى‏:‏ أنه لا يدفع ذلك العذاب الواقع به أحد، وقوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الله‏}‏ متعلق بواقع أي‏:‏ واقع من جهته سبحانه، أو بدافع، أي‏:‏ ليس له دافع من جهته تعالى ‏{‏ذِي المعارج‏}‏ أي‏:‏ ذي الدرجات التي تصعد فيها الملائكة، وقال الكلبي‏:‏ هي السموات، وسماها معارج لأن الملائكة تعرج فيها‏.‏ وقيل‏:‏ المعارج مراتب نعم الله سبحانه على الخلق‏.‏ وقيل‏:‏ المعارج العظمة‏.‏ وقيل‏:‏ هي الغرف‏.‏ وقرأ ابن مسعود «ذي المعاريج» بزيادة الياء، يقال‏:‏ معارج ومعاريج مثل مفاتح ومفاتيح‏.‏

‏{‏تَعْرُجُ الملئكة والروح إِلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ تصعد في تلك المعارج التي جعلها الله لهم، وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تعرج‏}‏ بالفوقية‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأصحابه، والكسائي، والسلمي بالتحتية، والروح جبريل، أفرد بالذكر بعد الملائكة لشرفه، ويؤيد هذا قوله‏:‏ ‏{‏نَزَلَ بِهِ الروح الأمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 193‏]‏، وقيل‏:‏ الروح هنا ملك آخر عظيم غير جبريل‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ إنه خلق من خلق الله سبحانه كهيئة الناس، وليسوا من الناس‏.‏ وقال قبيصة بن ذؤيب‏:‏ إنه روح الميت حين تقبض، والأوّل أولى‏.‏ ومعنى ‏{‏إِلَيْهِ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ إلى المكان الذي ينتهون إليه‏.‏ وقيل‏:‏ إلى عرشه‏.‏ وقيل‏:‏ هو كقول إبراهيم‏:‏ ‏{‏إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 99‏]‏ أي‏:‏ إلى حيث أمرني ربي ‏{‏فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ قال ابن إسحاق، والكلبي، ووهب بن منبه‏:‏ أي عرج الملائكة إلى المكان الذي هو محلها في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة، وبه قال مجاهد‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ وروي عن مجاهد أن مدة عمر الدنيا هذا المقدار لا يدري أحدٌ كم مضى، ولا كم بقي، ولا يعلم ذلك إلاّ الله‏.‏ وقال قتادة، والكلبي، ومحمد بن كعب‏:‏ إن المراد يوم القيامة، يعني‏:‏ أن مقدار الأمر فيه لو تولاه غيره سبحانه خمسون ألف سنة، وهو سبحانه يفرغ منه في ساعة، وقيل‏:‏ إن مدّة موقف العباد للحساب، هي هذا المقدار، ثم يستقرّ بعد ذلك أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار‏.‏ وقيل‏:‏ إن مقدار يوم القيامة على الكافرين خمسون ألف سنة، وعلى المؤمنين مقدار ما بين الظهر والعصر، وقيل‏:‏ ذكر هذا المقدار لمجرد التمثيل والتخييل لغاية ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها، أو لطول يوم القيامة باعتبار ما فيه من الشدائد والمكاره، كما تصف العرب أيام الشدّة بالطول وأيام الفرح بالقصر، ويشبهون اليوم القصير بإبهام القطاة والطويل بظل الرمح، ومنه قول الشاعر‏:‏

ويوم كظل الرمح قصر طوله *** دم الزق عنا واصطفاف المزاهر

وقيل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، أي‏:‏ ليس له دافع من الله ذي المعارج في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه، وقد قدّمنا الجمع بين هذه الآية وبين قوله في سورة السجدة ‏{‏فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 5‏]‏ فارجع إليه‏.‏ وقد قيل في الجمع‏:‏ إن من أسفل العالم إلى العرش خمسين ألف سنة، ومن أعلى سماء الدنيا إلى الأرض ألف سنة؛ لأن غلظ كل سماء خمسمائة عام، وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة عام، فالمعنى‏:‏ أن الملائكة إذا عرجت من أسفل العالم إلى العرش كان مسافة ذلك خمسين ألف سنة، وإن عرجوا من هذه الأرض التي نحن فيها إلى باطن هذه السماء التي هي سماء الدنيا كان مسافة ذلك ألف سنة، وسيأتي في آخر البحث ما يؤيد هذا عن ابن عباس‏.‏

ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر فقال‏:‏ ‏{‏فاصبر صَبْراً جَمِيلاً‏}‏، أي‏:‏ اصبر يا محمد على تكذيبهم لك وكفرهم بما جئت به صبراً جميلاً لا جزع فيه ولا شكوى إلى غير الله، وهذا معنى الصبر الجميل‏.‏ وقيل‏:‏ هو أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدري بأنه مصاب‏.‏ قال ابن زيد، وغيره‏:‏ هي منسوخة بآية السيف ‏{‏إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً‏}‏ أي‏:‏ يرون العذاب الواقع بهم، أو يرون يوم القيامة بعيداً أي‏:‏ غير كائن لأنهم لا يؤمنون به، فمعنى ‏{‏بَعِيداً‏}‏ أي‏:‏ مستبعداً محالاً، وليس المراد أنهم يرونه بعيداً غير قريب‏.‏ قال الأعمش‏:‏ يرون البعث بعيداً؛ لأنهم لا يؤمنون به كأنهم يستبعدونه على جهة الاستحالة، كما تقول لمن تناظره هذا بعيد، أي‏:‏ لا يكون ‏{‏وَنَرَاهُ قَرِيباً‏}‏ أي‏:‏ نعلمه كائناً قريباً؛ لأن ما هو آت قريب‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ ونراه هيناً في قدرتنا غير متعسر ولا متعذر، والجملة تعليل للأمر بالصبر‏.‏

ثم أخبر سبحانه متى يقع بهم العذاب فقال‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَكُونُ السماء كالمهل‏}‏ والظرف متعلق بمضمر دلّ عليه واقع، أو بدل من قوله‏:‏ ‏{‏فِى يَوْمٍ‏}‏ على تقدير تعلقه بواقع، أو متعلق بقريباً، أو مقدّر بعده، أي‏:‏ يوم تكون إلخ، كان كيت وكيت، أو بدل من الضمير في نراه، والأوّل أولى‏.‏ والتقدير يقع بهم العذاب ‏{‏يَوْمَ تَكُونُ السماء كالمهل‏}‏ والمهل‏:‏ ما أذيب من النحاس والرصاص والفضة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو القيح من الصديد والدم‏.‏ وقال عكرمة، وغيره‏:‏ هو درديّ الزيت، وقد تقدّم تفسيره في سورة الكهف والدخان‏.‏ ‏{‏وَتَكُونُ الجبال كالعهن‏}‏ أي‏:‏ كالصوف المصبوغ، ولا يقال للصوف عهن إلاّ إذا كان مصبوغاً‏.‏ قال الحسن‏:‏ تكون الجبال كالعهن، وهو الصوف الأحمر، وهو أضعف الصوف‏.‏ وقيل‏:‏ العهن الصوف ذو الألوان، فشبّه الجبال به في تكوّنها ألواناً، كما في قوله‏:‏ ‏{‏جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ‏.‏‏.‏‏.‏ وَغَرَابِيبُ سُودٌ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 27‏]‏ فإذا بست وطيرت في الهواء أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح‏.‏

‏{‏وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً‏}‏ أي‏:‏ لا يسأل قريب قريبه عن شأنه في ذلك اليوم لما نزل بهم من شدّة الأهوال التي أذهلت القريب عن قريبه، والخليل عن خليله، كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏لِكُلّ امرئ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 37‏]‏‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ لا يسأل حميم عن حميم، فحذف الحرف ووصل الفعل‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لا يسأل‏}‏ مبنياً للفاعل‏.‏ قيل‏:‏ والمفعول الثاني محذوف، والتقدير‏:‏ لا يسأله نصره ولا شفاعته، وقرأ أبو جعفر، وأبو حيوة، وشيبة، وابن كثير في رواية عنه على البناء للمفعول‏.‏ وروى هذه القراءة البزّي عن عاصم‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يسأل حميم إحضار حميمه‏.‏ وقيل‏:‏ هذه القراءة على إسقاط حرف الجرّ، أي‏:‏ لا يسأل حميم عن حميم، بل كلّ إنسان يسأل عن نفسه وعن عمله، وجملة‏:‏ ‏{‏يُبَصَّرُونَهُمْ‏}‏ مستأنفة، أو صفة لقوله‏:‏ ‏{‏حَمِيماً‏}‏ أي‏:‏ يبصر كلّ حميم حميمه، لا يخفى منهم أحد عن أحد‏.‏

وليس في القيامة مخلوق وإلاّ وهو نصب عين صاحبه، ولا يتساءلون ولا يكلم بعضهم بعضاً لاشتغال كل أحد منهم بنفسه، وقال ابن زيد‏:‏ يبصر الله الكفار في النار الذين أضلوهم في الدنيا، وهم الرؤساء المتبوعون‏.‏ وقيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏يُبَصَّرُونَهُمْ‏}‏ يرجع إلى الملائكة أي‏:‏ يعرفون أحوال الناس لا يخفون عليهم، وإنما جمع الضمير في يبصرونهم، وهما للحميمين حملاً على معنى العموم؛ لأنهما نكرتان في سياق النفي، قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يبصرونهم‏}‏ بالتشديد، وقرأ قتادة بالتخفيف‏.‏

ثم ابتدأ سبحانه الكلام فقال‏:‏ ‏{‏يَوَدُّ المجرم لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ‏}‏ المراد بالمجرم‏:‏ الكافر، أو كلّ مذنب ذنباً يستحق به النار لو يفتدي من عذاب يوم القيامة الذي نزل به‏.‏ ‏{‏بِبَنِيهِ وصاحبته وَأَخِيهِ‏}‏ فإن هؤلاء أعزّ الناس عليه وأكرمهم لديه، فلو قبل منه الفداء لفدى بهم نفسه، وخلص مما نزل به من العذاب، والجملة مستأنفة لبيان أن اشتغال كل مجرم بنفسه بلغ إلى حدّ يودّ الافتداء من العذاب بمن ذكر‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏من عذاب يومئذٍ‏}‏ بإضافة عذاب إلى يومئذٍ‏.‏ وقرأ أبو حيوة بتنوين ‏"‏ عذاب ‏"‏ وقطع الإضافة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏"‏ يومئذ ‏"‏ بكسر الميم‏.‏ وقرأ نافع، والكسائي، والأعرج، وأبو حيوة بفتحها ‏{‏وَفَصِيلَتِهِ التى تُوِيهِ‏}‏ أي‏:‏ عشيرته الأقربين الذين يضمونه في النسب، أو عند الشدائد، ويأوي إليهم‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ الفصيلة دون القبيلة‏.‏ وقال ثعلب‏:‏ هم آباؤهم الأدنون‏.‏ قال المبرّد‏:‏ الفصيلة القطعة من أعضاء الجسد‏.‏ وسميت عشيرة الرجل فصيلة تشبيهاً لها بالبعض منه‏.‏ وقال مالك‏:‏ إن الفصيلة هي التي تربيه ‏{‏وَمَن فِى الأرض جَمِيعاً‏}‏ أي‏:‏ ويودّ المجرم لو افتدى بمن في الأرض جميعاً من الثقلين وغيرهما من الخلائق‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يُنجِيهِ‏}‏ معطوف على يفتدي، أي‏:‏ يودّ لو يفتدي، ثم ينجيه الافتداء، وكان العطف بثم لدلالتها على استبعاد النجاة‏.‏ وقيل‏:‏ إن يودّ تقتضي جواباً، كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 9‏]‏ والجواب‏.‏ ‏{‏ثم ينجيه‏}‏، والأوّل أولى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع للمجرم عن تلك الودادة، وبيان امتناع ما ودّه من الافتداء، و«كلا» يأتي بمعنى حقاً، وبمعنى لا مع تضمنها لمعنى الزجر والردع، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا لظى‏}‏ عائد إلى النار المدلول عليها بذكر العذاب، أو هو ضمير مبهم يفسره ما بعده، ولظى علم لجهنم، واشتقاقها من التلظي في النار، وهو التلهب‏.‏ وقيل‏:‏ أصله لظظ بمعنى دوام العذاب، فقلبت إحدى الظاءين ألفاً‏.‏ وقيل لظى‏:‏ هي الدركة الثانية من طباق جهنم ‏{‏نَزَّاعَةً للشوى‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏نزاعة‏}‏ بالرفع على أنه خبر ثانٍ لإنّ، أو خبر مبتدأ محذوف، أو تكون لظى بدلاً من الضمير المنصوب، ونزاعة خبر إنّ، أو على أن نزاعة صفة للظى على تقدير عدم كونها علماً، أو يكون الضمير في إنها للقصة، ويكون لظى مبتدأ، ونزاعة خبره، والجملة خبر إنّ، وقرأ حفص عن عاصم، وأبو عمر، وفي رواية عنه، وأبو حيوة، والزعفراني، والترمذي، وابن مقسم ‏(‏نزاعة‏)‏ بالنصب على الحال‏.‏

وقال أبو علي الفارسي‏:‏ حمله على الحال بعيد؛ لأنه ليس في الكلام ما يعمل في الحال‏.‏ وقيل‏:‏ العامل فيها ما دلّ عليه الكلام من معنى التلظي، أو النصب على الاختصاص، والشوى‏:‏ الأطراف، أو جمع شواة، وهي جلدة الرأس، ومنه قول الأعشى‏:‏

قالت قتيلة ما له *** قد جللت شيباً شواته

وقال الحسن، وثابت البناني‏:‏ ‏{‏نَزَّاعَةً للشوى‏}‏‏:‏ أي‏:‏ لمكارم الوجه وحسنه، وكذا قال أبو العالية، وقتادة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ تبري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك فيه شيئًا‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ هي المفاصل‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ هي أطراف اليدين والرجلين ‏{‏تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ‏}‏ أي‏:‏ تدعو لظى من أدبر عن الحقّ في الدنيا ‏{‏وتولى‏}‏ أي‏:‏ أعرض عنه ‏{‏وَجَمَعَ فَأَوْعَى‏}‏ أي‏:‏ جمع المال فجعله في وعائه‏.‏ وقيل‏:‏ إنها تقول‏:‏ إليّ يا مشرك، إلي يا منافق، وقيل‏:‏ معنى تدعو تهلك، تقول العرب‏:‏ دعاك الله أي‏:‏ أهلكك، وقيل‏:‏ ليس هو الدعاء باللسان، ولكن دعاؤها إياهم تمكنها من عذابهم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد أن خزنة جهنم تدعو الكافرين والمنافقين، فأسند الدعاء إلى النار، من باب إسناد ما هو للحال إلى المحلّ‏.‏ وقيل‏:‏ هو تمثيل وتخييل، ولا دعاء في الحقيقة، والمعنى‏:‏ أن مصيرهم إليها، كما قال الشاعر‏:‏

ولقد هبطنا الواد بين قوادنا *** ندعو الأنيس به الغصيص الأبكم

والغصيص الأبكم‏:‏ الذباب، وهي لا تدعو، وفي هذا ذمّ لمن جمع المال فأوعاه، وكنزه ولم ينفقه في سبل الخير، أو لم يؤدّ زكاته‏.‏

وقد أخرج الفريابي، وعبد بن حميد، والنسائي، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ‏}‏ قال‏:‏ هو النضر بن الحارث قال‏:‏ ‏{‏اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏بِعَذَابٍ وَاقِعٍ‏}‏ قال‏:‏ كائن ‏{‏للكافرين لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ الله ذِي المعارج‏}‏ قال‏:‏ ذي الدرجات‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عنه في قوله‏:‏ ‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ‏}‏ قال‏:‏ سال‏:‏ وادٍ في جهنم‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏ذِي المعارج‏}‏ قال‏:‏ ذي العلوّ والفواضل‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ قال‏:‏ منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق سبع سماوات مقدار خمسين ألف سنة، ويَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ قال‏:‏ يعني بذلك، ينزل الأمر من السماء إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد، فذلك مقدار ألف سنة؛ لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال‏:‏ غلظ كل أرض خمسمائة عام، وغلظ كل سماء خمسمائة عام، وبين كل أرض إلى أرض خمسمائة عام، ومن السماء إلى السماء خمسمائة عام، فذلك أربعة عشر ألف عام، وبين السماء السابعة وبين العرش مسيرة ستة وثلاثين ألف عام، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في البعث عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ قال‏:‏ هذا في الدنيا تعرج الملائكة في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدّون، وفي قوله‏:‏ ‏{‏فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ فهذا يوم القيامة جعله الله على الكافر مقدار خمسين ألف سنة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، والبيهقي عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 5‏]‏ قال‏:‏ لو قدّرتموه لكان خمسين ألف سنة من أيامكم‏.‏ قال‏:‏ يعني يوم القيامة‏.‏ وقد قدّمنا عن ابن عباس الوقف في الجمع بين الآيتين في سورة السجدة‏.‏

وأخرج أحمد، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قيل يا رسول الله يَوْمٍ كَانَ يَوْمٍ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ما أطول هذا اليوم‏؟‏ فقال‏:‏ «والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أهون عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا» وفي إسناده دراج عن أبي الهيثم، وهما ضعيفان‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم، والبيهقي في البعث عن أبي هريرة مرفوعاً قال‏:‏ ما قدر طول يوم القيامة على المؤمنين إلاّ كقدر ما بين الظهر إلى العصر‏.‏ وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فاصبر صَبْراً جَمِيلاً‏}‏ قال‏:‏ لا تشكو إلى أحد غيري‏.‏ وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والخطيب في المتفق والمفترق، والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَكُونُ السماء كالمهل‏}‏ قال‏:‏ كدرديّ الزيت‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه قال‏:‏ ‏{‏يُبَصَّرُونَهُمْ‏}‏ يعرف بعضهم بعضاً ويتعارفون، ثم يفرّ بعضهم من بعض‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏نَزَّاعَةً للشوى‏}‏ قال‏:‏ تنزع أمّ الرأس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 39‏]‏

‏{‏إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ‏(‏19‏)‏ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ‏(‏21‏)‏ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ‏(‏22‏)‏ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ‏(‏23‏)‏ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ‏(‏24‏)‏ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ‏(‏25‏)‏ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏26‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ‏(‏27‏)‏ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ‏(‏28‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‏(‏29‏)‏ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ‏(‏30‏)‏ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ‏(‏31‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ‏(‏32‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ‏(‏33‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏34‏)‏ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ‏(‏35‏)‏ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ‏(‏36‏)‏ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ‏(‏37‏)‏ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ‏(‏38‏)‏ كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً‏}‏ قال في الصحاح‏:‏ الهلع في اللغة‏:‏ أشدّ الحرص، وأسوأ الجزع وأفحشه‏.‏ يقال‏:‏ هلع بالكسر، فهو هلع وهلوع على التكثير‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ هو الضجور‏.‏ قال‏:‏ الواحدي، والمفسرون يقولون تفسير الهلع ما بعده يعني قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً‏}‏ أي‏:‏ إذا أصابه الفقر والحاجة، أو المرض، أو نحو ذلك، فهو جزوع، أي‏:‏ كثير الجزع، وإذا أصابه الخير من الغنى والخصب والسعة، ونحو ذلك، فهو كثير المنع والإمساك‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الهلوع هو الذي إذا مسه الخير لم يشكر، وإذا مسه الشرّ لم يصبر‏.‏ قال ثعلب‏:‏ قد فسّر الله الهلوع‏:‏ هو الذي إذا أصابه الشرّ أظهر شدّة الجزع، وإذا أصابه الخير بخل به ومنعه الناس، والعرب تقول‏:‏ ناقة هلوع، وهلواع‏:‏ إذا كانت سريعة السير خفيفته، ومنه قول الشاعر‏:‏

شكاء ذعلبة إذا استدبرتها *** جرح إذا استقبلتها هلواع

والذعلبة‏:‏ الناقة السريعة، وانتصاب هلوعاً وجزوعاً ومنوعاً على أنها أحوال مقدّرة، أو محققة؛ لكونها طبائع جبل الإنسان عليها، والظرفان معمولان لجزوعاً ومنوعاً‏.‏ ‏{‏إِلاَّ المصلين‏}‏ أي‏:‏ المقيمين للصلاة وقيل‏:‏ المراد بهم أهل التوحيد يعني‏:‏ أنهم ليسوا على تلك الصفات من الهلع والجزع والمنع؛ وأنهم على صفات محمودة وخلال مرضية؛ لأن إيمانهم وما تمسكوا به من التوحيد ودين الحق يزجرهم عن الاتصاف بتلك الصفات، ويحملهم على الاتصاف بصفات الخير‏.‏

ثم بيّنهم سبحانه فقال‏:‏ ‏{‏الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يشغلهم عنها شاغل، ولا يصرفهم عنها صارف، وليس المراد بالدوام أنهم يصلون أبداً‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هم الذين لا يزيلون وجوههم عن سمت القبلة، وقال الحسن، وابن جريج‏:‏ هو التطوع منها‏.‏ قال النخعي‏:‏ المراد بالمصلين الذين يؤدّون الصلاة المكتوبة‏.‏ وقيل‏:‏ الذين يصلونها لوقتها، والمراد بالآية جميع المؤمنين، وقيل‏:‏ الصحابة خاصة، ولا وجه لهذا التخصيص لاتصاف كل مؤمن بأنه من المصلين‏.‏ ‏{‏والذين فِى أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ‏}‏ قال قتادة، ومحمد بن سيرين‏:‏ المراد الزكاة المفروضة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ سوى الزكاة‏.‏ وقيل‏:‏ صلة الرحم، والظاهر أنه الزكاة لوصفه بكونه معلوماً، ولجعله قريناً للصلاة، وقد تقدّم تفسير السائل والمحروم في سورة الذاريات مستوفى‏.‏ ‏{‏والذين يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدين‏}‏ أي‏:‏ بيوم الجزاء، وهو يوم القيامة لا يشكون فيه ولا يجحدونه‏.‏ وقيل‏:‏ يصدّقونه بأعمالهم، فيتعبون أنفسهم في الطاعات ‏{‏والذين هُم مّنْ عَذَابِ رَبّهِم مُّشْفِقُونَ‏}‏ أي‏:‏ خائفون وجلون مع ما لهم من أعمال الطاعة استحقاراً لأعمالهم، واعترافاً بما يجب لله سبحانه عليهم‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ‏}‏ مقرّرة لمضمون ما قبلها مبينة أن ذلك مما لا ينبغي أن يأمنه أحد، وأن حق كل أحد أن يخافه‏.‏

‏{‏والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ العادون‏}‏ قد تقدم تفسيره في سورة المؤمنين مستوفى‏.‏

‏{‏والذين هُمْ لاماناتهم وَعَهْدِهِمْ راعون‏}‏ أي‏:‏ لا يخلون بشيء من الأمانات التي يؤتمنون عليها، ولا ينقضون شيئًا من العهود التي يعقدونها على أنفسهم‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لأماناتهم‏}‏ بالجمع، وقرأ ابن كثير، وابن محيصن «لأمانتهم» بالإفراد، والمراد‏:‏ الجنس‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ بشهاداتهم قَائِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ يقيمونها على من كانت عليه من قريب أو بعيد، أو رفيع أو وضيع، ولا يكتمونها ولا يغيرونها، وقد تقدّم القول في الشهادة في سورة البقرة، قرأ الجمهور‏:‏ «بشهادتهم» بالإفراد‏.‏ وقرأ حفص، ويعقوب وهي رواية عن ابن كثير بالجمع‏.‏ قال الواحدي‏:‏ والإفراد أولى لأنه مصدر، ومن جمع ذهب إلى اختلاف الشهادات‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ ويدل على قراءة التوحيد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏‏.‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ‏}‏ أي‏:‏ على أذكارها وأركانها وشرائطها، لا يخلون بشيء من ذلك‏.‏ قال قتادة‏:‏ على وضوئها وركوعها وسجودها‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ المراد التطوّع، وكرر ذكر الصلاة لاختلاف ما وصفهم به أوّلاً، وما وصفهم به ثانياً، فإن معنى الدوام‏:‏ هو أن لا يشتغل عنها بشيء من الشواغل، كما سلف؛ ومعنى المحافظة‏:‏ أن يراعي الأمور التي لا تكون صلاة بدونها وقيل‏:‏ المراد يحافظون عليها بعد فعلها من أن يفعلوا ما يحبطها ويبطل ثوابها، وكرّر الموصولات للدلالة على أن كل وصف من تلك الأوصاف لجلالته يستحقّ أن يستقلّ بموصوف منفرد، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إلى الموصوفين بتلك الصفات ‏{‏فِى جنات مُّكْرَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ مستقرّون فيها، مكرمون بأنواع الكرامات، وخبر المبتدأ قوله‏:‏ ‏{‏فِي جنات‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مُّكْرَمُونَ‏}‏ خبر آخر، ويجوز أن يكون الخبر مكرمون، وفي جنات متعلق به‏.‏ ‏{‏فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ‏}‏ أي‏:‏ أيّ شيء لهم حواليك مسرعين، قال الأخفش‏:‏ مهطعين مسرعين، ومنه قول الشاعر‏:‏

بمكة أهلها ولقد أراهم *** إليهم مهطعين إلى السماع

وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ ما بالهم يسرعون إليك يجلسون حواليك، ولا يعملون بما تأمرهم‏؟‏ وقيل‏:‏ ما بالهم مسرعين إلى التكذيب‏.‏ وقيل‏:‏ ما بال الذين كفروا يسرعون إلى السماع إليك، فيكذبونك ويستهزئون بك‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ إن معنى ‏{‏مُهْطِعِينَ‏}‏‏:‏ ناظرين إليك‏.‏ وقال قتادة‏:‏ عامدين‏.‏ وقيل‏:‏ مسرعين إليك مادّي أعناقهم مديمي النظر إليك‏.‏ ‏{‏عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ‏}‏ أي‏:‏ عن يمين النبيّ صلى الله عليه وسلم وعن شماله جماعات متفرقة، وعزين جمع عزة، وهي العصبة من الناس، ومنه قول الشاعر‏:‏

ترانا عنده والليل داج *** على أبوابه حلقاً عزينا

وقال الراعي‏:‏

أخليفة الرحمن إن عشيرتي *** أمسى سراتهم إليك عزينا

وقال عنترة‏:‏

وقرن قد تركت لدي ولي *** عليه الطير كالعصب العزينا

وقيل‏:‏ أصلها عزوة من العزو؛ كأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الأخرى‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ والعزة‏:‏ الفرقة من الناس، والهاء عوض من التاء، والجمع عزى وعزون، وقوله‏:‏ ‏{‏عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال‏}‏ متعلق بعزين، أو بمهطعين‏.‏ ‏{‏أَيَطْمَعُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ‏}‏ قال المفسرون‏:‏ كان المشركون يقولون‏:‏ لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنّ قبلهم، فنزلت الآية‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أن يدخل‏}‏ مبنياً للمفعول، وقرأ الحسن، وزيد بن عليّ، وطلحة بن مصرف، والأعرج، ويحيى بن يعمر، وأبو رجاء، وعاصم في رواية عنه على البناء للفاعل‏.‏ ثم ردّ الله سبحانه عليهم فقال‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّا خلقناهم مّمَّا يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ من القذر الذين يعلمون به، فلا ينبغي لهم هذا التكبر‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون، وهو امتثال الأمر والنهي، وتعريضهم للثواب والعقاب، كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 59‏]‏، ومنه قول الأعشى‏:‏

وأزمعت من آل ليلى ابتكارا *** وشطت على ذي هوى أن يزارا

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال‏:‏ سئل ابن عباس عن الهلوع، فقال‏:‏ هو كما قال الله‏:‏ ‏{‏إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً‏}‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه‏:‏ ‏{‏هَلُوعاً‏}‏ قال‏:‏ الشره‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن مسعود‏:‏ ‏{‏الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ‏}‏ قال‏:‏ على مواقيتها‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن عمران بن حصين‏:‏ ‏{‏الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ‏}‏ قال‏:‏ الذي لا يلتفت في صلاته‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن عقبة بن عامر ‏{‏الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ‏}‏ قال‏:‏ هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا‏.‏ وأخرج ابن المنذر من طريق أخرى عنه نحوه‏.‏

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ‏{‏فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ‏}‏ قال‏:‏ ينظرون ‏{‏عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ‏}‏ قال‏:‏ العصب من الناس عن يمين وشمال معرضين يستهزئون به‏.‏ وأخرج مسلم، وغيره عن جابر قال‏:‏ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، ونحن حلق متفرقون فقال‏:‏ «ما لي أراكم عزين» وأخرج أحمد، وابن ماجه، وابن سعد، وابن أبي عاصم، والباوردي، وابن قانع، والحاكم، والبيهقي في الشعب، والضياء عن بشر بن جحاش قال‏:‏ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّا خلقناهم مّمَّا يَعْلَمُونَ‏}‏، ثم بزق رسول الله صلى الله عليه وسلم على كفه، ووضع عليها أصبعه، وقال‏:‏ «يقول الله‏:‏ ابن آدم، أنى تعجزني، وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سوّيتك وعدّلتك مشيت بين بردين، وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أو أتى أوان الصدقة»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 44‏]‏

‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ‏(‏40‏)‏ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ‏(‏41‏)‏ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏42‏)‏ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ‏(‏43‏)‏ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ أُقْسِمُ‏}‏ «لا» زائدة كما تقدّم قريباً، والمعنى‏:‏ فأقسم ‏{‏بِرَبّ المشارق والمغارب‏}‏ يعني‏:‏ مشرق كل يوم من أيام السنة ومغربه‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏المشارق والمغارب‏}‏ بالجمع، وقرأ أبو حيوة، وابن محيصن، وحميد بالإفراد‏.‏ ‏{‏إِنَّا لقادرون * على أَن نُّبَدّلَ خَيْراً مّنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ على أن نخلق أمثل منهم، وأطوع لله حين عصوه ونهلك هؤلاء‏.‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ‏}‏ أي‏:‏ بمغلوبين إن أردنا ذلك بل نفعل ما أردنا لا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر؛ ولكن مشيئتنا وسابق علمنا اقتضيا تأخير عقوبة هؤلاء، وعدم تبديلهم بخلق آخر‏.‏ ‏{‏فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ‏}‏ أي‏:‏ اتركهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم، واشتغل بما أمرت به ولا يعظمنّ عليك ما هم فيه، فليس عليك إلاّ البلاغ ‏{‏حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذى يُوعَدُونَ‏}‏ وهو يوم القيامة، وهذه الآية منسوخة بآية السيف‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يلاقوا‏}‏‏.‏ وقرأ أبو جعفر، وابن محيصن، وحميد، ومجاهد‏:‏ ‏"‏ حتى يلقوا ‏"‏ ‏{‏يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً‏}‏ يوم بدل من يومهم، وسراعاً منتصب على الحال من ضمير يخرجون، قرأ الجمهور ‏{‏يخرجون‏}‏ على البناء للفاعل‏.‏ وقرأ السلمي، والأعمش، والمغيرة، وعاصم في رواية على البناء للمفعول، والأجداث جمع جدث، وهو القبر ‏{‏كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏نصب‏}‏ بفتح النون وسكون الصاد‏.‏ وقرأ ابن عامر، وحفص بضم النون والصاد، وقرأ عمرو بن ميمون، وأبو رجاء بضم النون وإسكان الصاد‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ والنصب ما نصب فعبد من دون الله، وكذا النصب بالضم، وقد يحرّك‏.‏ قال الأعشى‏:‏

وذا النصب المنصوب لا تعبدنه *** ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

والجمع الأنصاب‏.‏ وقال الأخفش، والفراء‏:‏ النصب جمع النصب، مثل رهن ورهن، والأنصاب جمع النصب فهو جمع الجمع‏.‏ وقيل‏:‏ النصب جمع نصاب، وهو حجر أو صنم يذبح عليه، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وقال النحاس‏:‏ نصب ونصب بمعنى واحد‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏إلى نُصُبٍ‏}‏‏:‏ إلى غاية، وهي التي تنصب إليها بصرك، وقال الكلبي‏:‏ إلى شيء منصوب علم أو راية أي‏:‏ كأنهم إلى علم يدعون إليه، أو راية تنصب لهم يوفضون، قال الحسن‏:‏ كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أوّلهم على آخرهم‏.‏ وقال أبو عمرو‏:‏ النصب شبكة الصائد يسرع إليها عند وقوع الصيد فيها مخافة انفلاته‏.‏ ومعنى يوفضون‏:‏ يسرعون، والإيفاض الإسراع‏.‏ يقال‏:‏ أوفض إيفاضاً، أي‏:‏ أسرع إسراعاً، ومنه قول الشاعر‏:‏

فوارس ذبيان تحت الحديد *** كالجنّ يوفض من عبقر

وعبقر‏:‏ قرية من قرى الجن، كما تزعم العرب، ومنه قول لبيد‏:‏

كهول وشبان كجنة عبقر *** وانتصاب ‏{‏خاشعة أبصارهم‏}‏ على الحال من ضمير يوفضون، وأبصارهم مرتفعة به، والخشوع الذلة والخضوع، أي‏:‏ لا يرفعونها لما يتوقعونه من العذاب ‏{‏تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ‏}‏ أي‏:‏ تغشاهم ذلة شديدة‏.‏

قال قتادة هي‏:‏ سواد الوجوه، ومنه غلام مراهق‏:‏ إذا غشيه الاحتلام، يقال‏:‏ رهقه بالكسر يرهقه رهقاً، أي‏:‏ غشيه، ومثل هذا قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏ والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما تقدّم ذكره‏.‏ وهو مبتدأ وخبره‏:‏ ‏{‏اليوم الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ‏}‏ أي‏:‏ الذي كانوا يوعدونه في الدنيا على ألسنة الرسل قد حاق بهم وحضر، ووقع بهم من عذابه ما وعدهم الله به، وإن كان مستقبلاً، فهو في حكم الذي قد وقع لتحقق وقوعه‏.‏

وقد أخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبّ المشارق والمغارب‏}‏ قال‏:‏ للشمس كل يوم مطلع تطلع فيه، ومغرب تغرب فيه غير مطلعها بالأمس وغير مغربها بالأمس‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه‏:‏ ‏{‏إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ‏}‏ قال‏:‏ إلى علم يستبقون‏.‏

سورة نوح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 20‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏1‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏2‏)‏ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ‏(‏3‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ‏(‏5‏)‏ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ‏(‏6‏)‏ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ‏(‏9‏)‏ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ‏(‏10‏)‏ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ‏(‏11‏)‏ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ‏(‏12‏)‏ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ‏(‏13‏)‏ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ‏(‏14‏)‏ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا ‏(‏15‏)‏ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ‏(‏16‏)‏ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ‏(‏18‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ‏(‏19‏)‏ لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ‏}‏ قد تقدّم أن نوحاً أوّل رسول أرسله الله، وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ بن قينان بن شيث بن آدم، وقد تقدّم مدّة لبثه في قومه، وبيان جميع عمره، وبيان السنّ التي أرسل وهو فيها في سورة العنكبوت‏.‏ ‏{‏أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ‏}‏ أي‏:‏ بأن أنذر على أنها مصدرية‏.‏ ويجوز أن تكون هي المفسرة؛ لأن في الإرسال معنى القول‏.‏ وقرأ ابن مسعود ‏{‏أنذر‏}‏ بدون أن، وذلك على تقدير القول، أي فقلنا له‏:‏ أنذر ‏{‏مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ عذاب شديد الألم، وهو عذاب النار‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ هو ما نزل بهم من الطوفان‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏قَالَ يَا قَوْمٌ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً على تقدير سؤال، كأنه قيل‏:‏ فماذا قال نوح‏؟‏ فقال‏:‏ قال لهم إلخ‏.‏ والمعنى‏:‏ إني لكم منذر من عقاب الله ومخوّف لكم، ومبين لما فيه نجاتكم‏.‏ ‏{‏أَنِ اعبدوا الله واتقوه وَأَطِيعُونِ‏}‏ «أن» هي التفسيرية لنذير، أو هي المصدرية أي‏:‏ بأن اعبدوا الله ولا تشركوا به غيره، ‏{‏واتقوه‏}‏ أي‏:‏ اجتنبوا ما يوقعكم في عذابه، ‏{‏وأطيعون‏}‏ فيما آمركم به فإني رسول إليكم من عند الله‏.‏

‏{‏يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ‏}‏ هذا جواب الأمر، و«من» للتبعيض، أي‏:‏ بعض ذنوبكم، وهو ما سلف منها قبل طاعة الرسول وإجابة دعوته‏.‏ وقال السديّ‏:‏ المعنى يغفر لكم ذنوبكم، فتكون «من» على هذا زائدة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالبعض‏:‏ ما لا يتعلق بحقوق العباد‏.‏ وقيل‏:‏ هي لبيان الجنس‏.‏ وقيل‏:‏ يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها ‏{‏وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ أي‏:‏ يؤخر موتكم إلى الأمد الأقصى الذي قدّره الله لكم بشرط الإيمان والطاعة فوق ما قدّره لكم، على تقدير بقائكم على الكفر والعصيان‏.‏ وقيل‏:‏ التأخير بمعنى البركة في أعمارهم أن آمنوا، وعدم البركة فيها إن لم يؤمنوا‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يؤخركم إلى منتهى آجالكم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أي يؤخركم عن العذاب فتموتوا غير ميتة المستأصلين بالعذاب‏.‏ وقال الفراء‏:‏ المعنى لا يميتكم غرقاً ولا حرقاً ولا قتلاً ‏{‏إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ‏}‏ أي‏:‏ ما قدّره لكم على تقدير بقائكم على الكفر من العذاب إذا جاء، وأنتم باقون على الكفر لا يؤخر بل يقع لا محالة، فبادروا إلى الإيمان والطاعة‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ إن أجل الله، وهو الموت إذا جاء لا يمكنكم الإيمان‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ إذا جاء الموت لا يؤخر سواء كان بعذاب أو بغير عذاب ‏{‏لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ شيئًا من العلم لسارعتم إلى ما أمرتكم به، أو لعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر‏.‏

‏{‏قَالَ رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً‏}‏ أي‏:‏ قال نوح منادياً لربه، وحاكياً له ما جرى بينه وبين قومه، وهو أعلم به منه إني دعوت قومي إلى ما أمرتني بأن أدعوهم إليه من الإيمان دعاء دائماً في الليل والنهار من غير تقصير‏.‏ ‏{‏فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً‏}‏ عما دعوتهم إليه وبعداً عنه‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يعني تباعداً من الإيمان، وإسناد الزيادة إلى الدعاء؛ لكونه سببها، كما في قوله‏:‏ ‏{‏زَادَتْهُمْ إيمانا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ «دعائي» بفتح الياء، وقرأ الكوفيون، ويعقوب، والدوري عن أبي عمرو بإسكانها، والاستثناء مفرّغ‏.‏ ‏{‏وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ كلما دعوتهم إلى سبب المغفرة، وهو الإيمان بك، والطاعة لك ‏{‏جَعَلُواْ أصابعهم فِى ءاذانهم‏}‏ لئلا يسمعوا صوتي ‏{‏واستغشوا ثِيَابَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ غطوا بها وجوههم لئلا يروني‏.‏ وقيل‏:‏ جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامي، فيكون استغشاء الثياب على هذا زيادة في سدّ الآذان‏.‏ وقيل‏:‏ هو كناية عن العداوة‏.‏ يقال‏:‏ لبس فلان ثياب العداوة‏.‏ وقيل‏:‏ استغشوا ثيابهم لئلا يعرفهم فيدعوهم ‏{‏وَأَصَرُّواْ‏}‏ أي‏:‏ استمروا على الكفر، ولم يقلعوا عنه ولا تابوا منه ‏{‏واستكبروا‏}‏ عن قبول الحق، وعن امتثال ما أمرهم به ‏{‏استكبارا‏}‏ شديداً‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِنّى دَعَوْتُهُمْ جهارا‏}‏ أي‏:‏ مظهراً لهم الدعوة مجاهراً لهم بها‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إِنّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ دعوتهم معلناً لهم بالدعاء ‏{‏وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً‏}‏ أي‏:‏ وأسررت لهم الدعوة إسراراً كثيراً‏.‏ قيل المعنى‏:‏ أن يدعو الرجل بعد الرجل يكلمه سراً فيما بينه وبينه، والمقصود أنه دعاهم على وجوه متخالفة وأساليب متفاوتة، فلم ينجع ذلك فيهم‏.‏ قال مجاهد‏:‏ معنى أعلنت صحت‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏أسررت‏}‏‏:‏ أتيتهم في منازلهم فدعوتهم فيها‏.‏ وانتصاب ‏{‏جهاراً‏}‏ على المصدرية؛ لأن الدعاء يكون جهاراً ويكون غير جهار، فالجهار نوع من الدعاء كقولهم‏:‏ قعد القرفصاء، ويجوز أن يكون نعت مصدر محذوف، أي‏:‏ دعاء جهاراً، وأن يكون مصدراً في موضع الحال أي‏:‏ مجاهراً، ومعنى «ثم»‏:‏ الدلالة على تباعد الأحوال؛ لأن الجهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ من أحدهما‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏إني‏}‏ بسكون الياء، وقرأ أبو عمرو والحرميون بفتحها‏.‏ ‏{‏فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً‏}‏ أي‏:‏ سلوه المغفرة من ذنوبكم السابقة بإخلاص النية ‏{‏إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً‏}‏ أي‏:‏ كثير المغفرة للمذنبين‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏استغفروا‏}‏‏:‏ توبوا عن الكفر إنه كان غفاراً للتائبين ‏{‏يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً‏}‏ أي‏:‏ يرسل ماء السماء عليكم، ففيه إضمار‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالسماء المطر، كما في قول الشاعر‏:‏

إذا نزل السماء بأرض قوم *** رعيناه وإن كانوا غضابا

والمدرار‏:‏ الدرور، وهو التحلب بالمطر، وانتصابه إما على الحال من السماء، ولم يؤنث، لأن مفعالاً لا يؤنث؛ تقول امرأة مئناث ومذكار، أو على أنه نعت لمصدر محذوف، أي‏:‏ إرسالاً مدراراً، وقد تقدّم الكلام عليه في سورة الأنعام، وجزم يرسل لكونه جواب الأمر‏.‏

وفي هذه الآية دليل على أن الاستغفار من أعظم أسباب المطر وحصول أنواع الأرزاق، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جنات‏}‏ يعني‏:‏ بساتين ‏{‏وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً‏}‏ جارية‏.‏ قال عطاء‏:‏ المعنى يكثر أموالكم وأولادكم‏.‏ أعلمهم نوح عليه السلام أن إيمانهم بالله يجمع لهم مع الحظ الوافر في الآخرة الخصب والغنى في الدنيا ‏{‏مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً‏}‏ أي‏:‏ أيّ عذر لكم في ترك الرجاء، والرجاء هنا بمعنى الخوف، أي‏:‏ ما لكم لا تخافون الله، والوقار العظمة من التوقير، وهو التعظيم، والمعنى لا تخافون حقّ عظمته، فتوحدونه وتطيعونه، و‏{‏لاَ تَرْجُونَ‏}‏ في محل نصب على الحال من ضمير المخاطبين، والعامل فيه معنى الاستقرار في لكم، ومن إطلاق الرجاء على الخوف قول الهذلي‏:‏

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها *** وقال سعيد بن جبير، وأبو العالية، وعطاء بن أبي رباح‏:‏ ما لكم لا ترجون لله ثواباً، ولا تخافون منه عقاباً‏.‏ وقال مجاهد، والضحاك‏:‏ ما لكم لا تبالون لله عظمة‏.‏ قال قطرب‏:‏ هذه لغة حجازية‏.‏ وهذيل، وخزاعة، ومضر يقولون‏:‏ لم أرج‏:‏ لم أبل‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ما لكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ ما لكم لا ترجون في عبادة الله وطاعته أن يثيبكم على توقيركم خيراً‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ ما لكم لا تؤدّون لله طاعة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ما لكم لا تعرفون لله حقاً، ولا تشكرون له نعمة، وجملة‏:‏ ‏{‏وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً‏}‏ في محل نصب على الحال، أي‏:‏ والحال أنه سبحانه قد خلقكم على أطوار مختلفة‏:‏ نطفة، ثم مضغة، ثم علقة إلى تمام الخلق، كما تقدّم بيانه في سورة المؤمنين، والطور في اللغة المرّة، وقال ابن الأنباري‏:‏ الطور الحال، وجمعه أطوار‏.‏ وقيل‏:‏ أطواراً صبياناً، ثم شباناً، ثم شيوخاً‏.‏ وقيل‏:‏ الأطوار اختلافهم في الأفعال والأقوال والأخلاق، والمعنى‏:‏ كيف تقصرون في توقير من خلقكم على هذه الأطوار البديعة‏؟‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سموات طِبَاقاً‏}‏ الخطاب لمن يصلح له، والمراد‏:‏ الاستدلال بخلق السموات على كمال قدرته وبديع صنعه، وأنه الحقيق بالعبادة، والطباق المتطابقة بعضها فوق بعض كل سماء مطبقة على الأخرى كالقباب قال الحسن‏:‏ خلق الله سبع سموات على سبع أرضين بين كل سماء وسماء، وأرض وأرض خلق وأمر، وقد تقدّم تحقيق هذا في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 12‏]‏ وانتصاب ‏{‏طباقاً‏}‏ على المصدرية، تقول‏:‏ طابقه مطابقة، وطباقاً، أو حال بمعنى ذات طباق، فحذف ذات وأقام طباقاً مقامه، وأجاز الفراء في غير القرآن جرّ ‏{‏طباقاً‏}‏ على النعت ‏{‏وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً‏}‏ أي‏:‏ منوّراً لوجه الأرض، وجعل القمر في السموات مع كونها في سماء الدنيا؛ لأنها إذا كانت في إحداهنّ فهي فيهنّ، كذا قال ابن كيسان‏.‏

قال الأخفش‏:‏ كما تقول‏:‏ أتاني بنو تميم، والمراد بعضهم‏.‏ وقال قطرب‏:‏ فيهنّ بمعنى معهنّ، أي‏:‏ خلق القمر والشمس مع خلق السموات والأرض، كما في قول امرئ القيس‏:‏

وهل ينعمن من كان آخر عهده *** ثلاثين شهراً في ثلاثة أحوال

أي‏:‏ مع ثلاثة أحوال ‏{‏وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً‏}‏ أي‏:‏ كالمصباح لأهل الأرض؛ ليتوصلوا بذلك إلى التصرّف فيما يحتاجون إليه من المعاش‏.‏ ‏{‏والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً‏}‏ يعني‏:‏ آدم خلقه الله من أديم الأرض، والمعنى‏:‏ أنشأكم منها إنشاء، فاستعير الإنبات للإنشاء لكونه أدل على الحدوث والتكوين، و‏{‏نباتاً‏}‏ إما مصدر لأنبت على حذف الزوائد، أو مصدر لفعل محذوف، أي‏:‏ أنبتكم من الأرض، فنبتم نباتاً‏.‏ وقال الخليل، والزجاج‏:‏ هو مصدر محمول على المعنى؛ لأن معنى ‏{‏أنبتكم‏}‏‏:‏ جعلكم تنبتون نباتاً‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ والله أنبت لكم من الأرض النبات، فنباتاً على هذا مفعول به‏.‏ قال ابن بحر‏:‏ أنبتهم في الأرض بالكبر بعد الصغر، وبالطول بعد القصر‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ في الأرض ‏{‏وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً‏}‏ يعني‏:‏ يخرجكم منها بالبعث يوم القيامة‏.‏ ‏{‏والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً‏}‏ أي‏:‏ فرشها وبسطها لكم تتقلبون عليها تقلبكم على بسطكم في بيوتكم‏.‏ ‏{‏لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً‏}‏ أي‏:‏ طرقاً واسعة، والفجاج جمع فج، وهو الطريق الواسع، كذا قال الفراء، وغيره‏.‏ وقيل الفج‏:‏ المسلك بين الجبلين، وقد مضى تحقيق هذا في سورة الأنبياء وفي سورة الحج مستوفى‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏جعلوا أصابعهم في آذانهم‏}‏ قال‏:‏ لئلا يسمعوا ما يقول ‏{‏واستغشوا ثِيَابَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ ليتنكروا، فلا يعرفهم ‏{‏واستكبروا استكبارا‏}‏ قال‏:‏ تركوا التوبة‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عنه ‏{‏واستغشوا ثِيَابَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ غطوا وجوههم لئلا يروا نوحاً ولا يسمعوا كلامه‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والبيهقي في الشعب عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً‏}‏ قال‏:‏ لا تعلمون لله عظمة‏.‏ وأخرج ابن جرير، والبيهقي عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏وَقَاراً‏}‏ قال‏:‏ عظمة‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً‏}‏ قال‏:‏ نطفة، ثم علقة، ثم مضغة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال‏:‏ لا تخافون لله عظمة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال‏:‏ لا تخشون له عقاباً ولا ترجون له ثواباً‏.‏ وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن عليّ بن أبي طالب‏:‏ «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى ناساً يغتسلون عراة ليس عليهم أزر، فوقف، فنادى بأعلى صوته ‏{‏مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً‏}‏»‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ الشمس والقمر، وجوههما قبل السماء وأقفيتهما قبل الأرض، وأنا أقرأ بذلك عليكم أنه من كتاب الله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً‏}‏‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ تضيء لأهل السموات، كما تضيء لأهل الأرض‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن شهر بن حوشب قال‏:‏ اجتمع عبد الله بن عمرو بن العاص وكعب الأحبار وقد كان بينهما بعض العتب، فتعاتبا فذهب ذلك، فقال عبد الله بن عمرو لكعب‏:‏ سلني عما شئت، فلا تسألني عن شيء إلاّ أخبرتك بتصديق قولي من القرآن، فقال له‏:‏ أرأيت ضوء الشمس والقمر أهو في السموات السبع، كما هو في الأرض‏؟‏ قال‏:‏ نعم ألم تروا إلى قول الله ‏{‏خَلَقَ سَبْعَ سموات طِبَاقاً وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً‏}‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً‏}‏ قال‏:‏ وجهه في السماء إلى العرش وقفاه إلى الأرض‏.‏ وأخرج عبد بن حميد من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً‏}‏ قال‏:‏ خلق فيهنّ حين خلقهنّ ضياء لأهل الأرض، وليس في السماء من ضوئه شيء، وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏سُبُلاً فِجَاجاً‏}‏ قال‏:‏ طرقاً مختلفة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 28‏]‏

‏{‏قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏21‏)‏ وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ‏(‏22‏)‏ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ‏(‏23‏)‏ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا ‏(‏24‏)‏ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا ‏(‏25‏)‏ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ‏(‏27‏)‏ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى‏}‏ أي‏:‏ استمرّوا على عصياني ولم يجيبوا دعوتي، شكاهم إلى الله عزّ وجلّ، وأخبره بأنهم عصوه ولم يتبعوه، وهو أعلم بذلك ‏{‏واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً‏}‏ أي‏:‏ اتبع الأصاغر رؤساءهم؛ وأهل الثروة منهم الذين لم يزدهم كثرة المال والولد إلاّ ضلالاً في الدنيا وعقوبة في الآخرة‏.‏ قرأ أهل المدينة، والشام، وعاصم، وولده بفتح الواو واللام‏.‏ وقرأ الباقون بسكون اللام، وهي لغة في الولد، ويجوز أن يكون جمعاً، وقد تقدّم تحقيقه، ومعنى ‏{‏واتبعوا‏}‏‏:‏ أنهم استمرّوا على اتباعهم لا أنهم أحدثوا الاتباع ‏{‏وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً‏}‏ أي‏:‏ مكراً كبيراً عظيماً، يقال‏:‏ كبير وكبار، وكبار مثل عجيب وعجاب وعجاب، وجميل وجمال وجمال‏.‏ قال المبرد‏:‏ كباراً بالتشديد للمبالغة، ومثل ‏{‏كباراً‏}‏ قرّاء لكثير القراءة، وأنشد ابن السكيت‏:‏

بيضاء تصطاد القلوب وتستبي *** بالحسن قلب المسلم القرّاء

قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏كباراً‏}‏ بالتشديد‏.‏ وقرأ ابن محيصن، وحميد، ومجاهد بالتخفيف‏.‏ قال أبو بكر‏:‏ هو جمع كبير كأنه جعل مكراً مكان ذنوب أو أفاعيل، فلذلك وصفه بالجمع‏.‏ وقال عيسى بن عمر‏:‏ هي لغة يمانية‏.‏

واختلف في مكرهم هذا ما هو‏؟‏ فقيل‏:‏ هو تحريشهم سفلتهم على قتل نوح، وقيل‏:‏ هو تغريرهم على الناس بما أوتوا من المال والولد حتى قال الضعفة‏:‏ لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النعم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ هو ما جعلوه لله من الصاحبة والولد‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هو قول كبرائهم لأتباعهم لا تذرنّ إلهتكم وقيل‏:‏ مكرهم كفرهم‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا تتركوا عبادة إلهتكم، وهي الأصنام والصور التي كانت لهم، ثم عبدتها العرب من بعدهم، وبهذا قال الجمهور‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً‏}‏ أي‏:‏ لا تتركوا عبادة هذه‏.‏ قال محمد بن كعب‏:‏ هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح، فنشأ بعدهم قوم يقتدون بهم في العبادة، فقال لهم إبليس‏:‏ لو صوّرتم صورهم كان أنشط لكم وأسوق إلى العبادة، ففعلوا، ثم نشأ قوم من بعدهم، فقال لهم إبليس‏:‏ إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم فاعبدوهم، فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك الوقت، وسميت هذه الصور بهذه الأسماء، لأنهم صوّروها على صورة أولئك القوم‏.‏ وقال عروة بن الزبير وغيره‏:‏ إن هذه كانت أسماء لأولاد آدم، وكان ودّ أكبرهم‏.‏ قال الماوردي‏:‏ فأما ودّ، فهو أوّل صنم معبود، سمي ودّاً لودّهم له، وكان بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل في قول ابن عباس، وعطاء، ومقاتل، وفيه يقول شاعرهم‏:‏

حياك ودّ فإنا لا يحل لنا *** لهو النساء وإن الدين قد غربا

وأما سواع فكان لهذيل بساحل البحر، وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجرف من سبأ في قول قتادة‏.‏

وقال المهدوي‏:‏ لمراد ثم لغطفان؛ وأما يعوق فكان لهمدان في قول قتادة، وعكرمة، وعطاء‏.‏ وقال الثعلبي‏:‏ كان لكهلان بن سبأ، ثم توارثوه حتى صار في همدان، وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني‏:‏

يريش الله في الدنيا ويبري *** ولا يبري يعوق ولا يريش

وأما نسر فكان لذي الكلاع من حمير في قول قتادة، ومقاتل‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ودّاً‏}‏ بفتح الواو‏.‏ وقرأ نافع بضمها‏.‏ قال الليث‏:‏ ودّ بضم الواو صنم لقريش، وبفتحها صنم كان لقوم نوح، وبه سمي عمرو بن ودّ‏.‏ قال في الصحاح‏.‏ والودّ بالفتح‏:‏ الوتد في لغة أهل نجد كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ولا يغوث ويعقوق‏}‏ بغير تنوين، فإن كانا عربيين، فالمنع من الصرف للعلمية ووزن الفعل، وإن كانا عجميين، فللعجمة والعلمية‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ ‏{‏ولا يغوثا ويعوقا‏}‏ بالصرف‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وذلك وهم‏.‏ ووجه تخصيص هذه الأصنام بالذكر مع دخولها تحت الإلهة؛ لأنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها ‏{‏وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً‏}‏ أي‏:‏ أضلّ كبراؤهم ورؤساؤهم كثيراً من الناس‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير راجع إلى الأصنام‏:‏ أي‏:‏ ضلّ بسببها كثير من الناس كقول إبراهيم‏:‏ ‏{‏رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 36‏]‏ وأجرى عليهم ضمير من يعقل لاعتقاد الكفار الذين يعبدونها أنها تعقل‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً‏}‏ معطوف على ‏{‏رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى‏}‏ ووضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم‏.‏ وقال أبو حيان‏:‏ إنه معطوف على قد أضلوا، ومعنى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ ضَلاَلاً‏}‏ إلاّ عذاباً‏:‏ كذا قال ابن بحر، واستدلّ على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ المجرمين فِى ضلال وَسُعُرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 47‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ إلاّ خسراناً‏.‏ وقيل‏:‏ إلاّ فتنة بالمال والولد‏.‏ وقيل‏:‏ الضياع‏.‏ وقيل‏:‏ ضلالاً في مكرهم‏.‏

‏{‏مّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ‏}‏ «ما» مزيدة للتأكيد، والمعنى‏:‏ من خطيئاتهم، أي من أجلها وبسببها أغرقوا بالطوفان ‏{‏فَأُدْخِلُواْ نَاراً‏}‏ عقب ذلك، وهي نار الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ عذاب القبر‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏خطيئاتهم‏}‏ على جمع السلامة، وقرأ أبو عمرو‏:‏ «خطاياهم» على جمع التكسير، وقرأ الجحدري، وعمرو بن عبيد، والأعمش، وأبو حيوة، وأشهب العقيلي‏:‏ ‏"‏ خطيئتهم ‏"‏ على الإفراد، قال الضحاك عذبوا بالنار في الدنيا مع الغرق في حالة واحدة كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في جانب‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أغرقوا‏}‏ من أغرق، وقرأ زيد بن عليّ‏:‏ ‏"‏ غرقوا ‏"‏ بالتشديد‏.‏ ‏{‏فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ الله أَنصَاراً‏}‏ أي‏:‏ لم يجدوا أحداً يمنعهم من عذاب الله ويدفعه عنهم‏.‏

‏{‏وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الارض مِنَ الكافرين دَيَّاراً‏}‏ معطوف على ‏{‏قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى‏}‏ لما أيس نوح عليه السلام من إيمانهم وإقلاعهم عن الكفر دعا عليهم بالهلاك‏.‏ قال قتادة‏:‏ دعا عليهم بعد أن أوحي إليه‏:‏

‏{‏إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 36‏]‏ فأجاب الله دعوته وأغرقهم‏.‏ وقال محمد بن كعب، ومقاتل، والربيع بن أنس، وابن زيد، وعطية‏:‏ إنما قال هذا حين أخرج الله كلّ مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم، وأعقم أرحام النساء وأصلاب الآباء قبل العذاب بسبعين سنة‏.‏ وقيل‏:‏ بأربعين‏.‏ قال قتادة‏:‏ لم يكن فيهم صبيّ وقت العذاب‏.‏ وقال الحسن، وأبو العالية‏:‏ لو أهلك الله أطفالهم معهم كان عذاباً من الله لهم، وعدلاً فيهم، ولكن أهلك ذرّيتهم وأطفالهم بغير عذاب، ثم أهلكهم بالعذاب، ومعنى ‏{‏دَيَّاراً‏}‏‏:‏ من يسكن الديار، وأصله ديوار على فيعال، من دار يدور، فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى، مثل القيام أصله قيوام، وقال القتيبي‏:‏ أصله من الدار أي‏:‏ نازل بالدار‏.‏ يقال‏:‏ ما بالدار ديار أي‏:‏ أحد‏.‏ وقيل الديار‏:‏ صاحب الديار، والمعنى‏:‏ لا تدع أحداً منهم إلاّ أهلكته ‏{‏إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ‏}‏ أي‏:‏ إن تتركهم على الأرض يضلوا عبادك عن طريق الحقّ ‏{‏وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً‏}‏ أي‏:‏ إلاّ فاجراً بترك طاعتك كفاراً لنعمتك أي‏:‏ كثير الكفران لها، والمعنى‏:‏ إلاّ من سيفجر ويكفر‏.‏

ثم لما دعا على الكافرين أتبعه بالدعاء لنفسه ووالديه والمؤمنين، فقال‏:‏ ‏{‏رَّبّ اغفر لِى ولوالدى‏}‏ وكانا مؤمنين، وأبوه لامك بن متوشلخ، كما تقدّم، وأمه سمحاء بنت أنوش، وقيل‏:‏ أراد آدم وحواء‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ أراد بوالديه أباه وجدّه‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير‏:‏ «ولوالدي» بكسر الدال على الإِفراد‏.‏ ‏{‏وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ‏}‏ قال الضحاك، والكلبي‏:‏ يعني مسجده، وقيل‏:‏ منزله الذي هو ساكن فيه، وقيل‏:‏ سفينته‏.‏ وقيل‏:‏ لمن دخل في دينه، وانتصاب ‏{‏مُؤْمِناً‏}‏ على الحال، أي‏:‏ لمن دخل بيتي متصفاً بصفة الإيمان، فيخرج من دخله غير متصف بهذه الصفة كامرأته وولده الذي قال‏:‏ ‏{‏سَآوِى إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الماء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 43‏]‏ ثم عمم الدعوة، فقال‏:‏ ‏{‏وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات‏}‏ أي‏:‏ واغفر لكل متصف بالإيمان من الذكور والإناث‏.‏ ثم عاد إلى الدعاء على الكافرين، فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً‏}‏ أي‏:‏ لا تزد المتصفين بالظلم إلاّ هلاكاً، وخسراناً ودماراً وقد شمل دعاؤه هذا كل ظالم إلى يوم القيامة، كما شمل دعاؤه للمؤمنين والمؤمنات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً‏}‏ قال‏:‏ هذه الأصنام كانت تعبد في زمن نوح‏.‏ وأخرج البخاري، وابن المنذر، وابن مردويه عنه قال‏:‏ صارت الأوثان التي كانت تعبد في قوم نوح في العرب‏:‏ أما ودّ فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجلسهم الذي كانوا يجلسون فيه أنصاباً، وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد حتى هلك أولئك ونسخ العلم فعبدت‏.‏