فصل: تفسير الآيات رقم (224- 225)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏224- 225‏]‏

‏{‏وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏224‏)‏ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏225‏)‏‏}‏

العرضة‏:‏ النصبة، قاله الجوهري‏.‏ يقال جعلت فلاناً عرضة لكذا‏:‏ أي‏:‏ نصبة‏.‏ وقيل‏:‏ العرضة من الشدة، والقوّة، ومنه قولهم للمرأة‏:‏ عرضة للنكاح‏:‏ إذا صلحت له، وقويت عليه، ولفلان عرضة‏:‏ أي‏:‏ قوّة، ومنه قول كعب بن زهير‏:‏

مِنْ كُلَّ نَضَّاحِة الدِّفرى إذا عَرِقَتْ *** عُرْضَتُها طَامِسُ الأعْلامِ مَجْهُولُ

ومثله قول أوس بن حجر‏:‏

وأدْمَاءُ مِثل العجل يوماً عَرَضتُها *** لِرَحْلي وفيها هِزَّة وَتَقَاذُفُ

ويطلق العرضة على الهمة، ومنه قول الشاعر‏:‏

هم الأنصار عرضتها اللقاء *** أي‏:‏ همتها، ويقال‏:‏ فلان عرضة للناس لا يزالون يقعون فيه، فعلى المعنى الذي ذكره الجوهري أن العرضة‏:‏ النصبة كالقبضة، والغرفة يكون ذلك اسماً لما تعرضه دون الشيء، أي تجعله حاجزاً له، ومانعاً منه، أي‏:‏ لا تجعلوا الله حاجزاً، ومانعاً لما حلفتم عليه، وذلك؛ لأن الرجل كان يحلف على بعض الخير من صلة رحم، أو إحسان إلى الغير، أو إصلاح بين الناس بأن لا يفعل ذلك، ثم يمتنع من فعله معللاً لذلك الامتناع بأنه قد حلف أن لا يفعله، وهذا المعنى هو الذي ذكره الجمهور في تفسير الآية، ينهاهم الله أن يجعلوه عرضة لأيمانهم، أي‏:‏ حاجزاً لما حلفوا عليه، ومانعاً منه، وسمى المحلوف عليه يميناً لتلبسه باليمين، وعلى هذا يكون قوله‏:‏ ‏{‏أَن تَبَرُّواْ‏}‏ عطف بيان ‏{‏لأيمانكم‏}‏ أي‏:‏ لا تجعلوا الله مانعاً للأيمان التي هي بركم، وتقواكم، وإصلاحكم بين الناس، ويتعلق قوله‏:‏ ‏{‏لايمانكم‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏لا تجعلوا‏}‏ أي‏:‏ لا تجعلوا الله لأيمانكم مانعاً، وحاجزاً، ويجوز أن يتعلق بعرضة، أي‏:‏ لا تجعلوه شيئاً معترضاً بينكم، وبين البرّ، وما بعده، وعلى المعنى الثاني، وهو أن العرضة‏:‏ الشدة، والقوّة يكون معنى الآية‏:‏ لا تجعلوا اليمين بالله قوة لأنفسكم، وعدّة في الامتناع من الخير، ولا يصح تفسير الآية على المعنى الثالث، وهو‏:‏ تفسير العرضة بالهمة، وأما على المعنى الرابع، وهو من قولهم‏:‏ فلان لا يزال عرضة للناس، أي‏:‏ يقعون فيه، فيكون معنى الآية عليه‏:‏ ولا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم، فتبتذلونه بكثرة الحلف به، ومنه ‏{‏واحفظوا أيمانكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏ وقد ذمّ الله المكثرين للحلف فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 10‏]‏ وقد كانت العرب تتمادح بقلة الأيمان حتى قال قائلهم‏:‏

قَلِيلُ الألايَا حَافِظُ ليمينه *** وإن سبقت منه الألية بَرّت

وعلى هذا، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏أَن تَبَرُّواْ‏}‏ علة للنهي، أي‏:‏ لا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم إرادة أن تبروا، وتتقوا، وتصلحوا؛ لأن من يكثر الحلف بالله يجتريء على الحنث، ويفجر في يمينه‏.‏ وقد قيل في تفسير الآية أقوال هي راجعة إلى هذه الوجوه التي ذكرناها، فمن ذلك قول الزجاج‏:‏ معنى الآية‏:‏ أن يكون الرجل إذا طلب منه الفعل الذي فيه خير اعتلّ بالله، فقال عليَّ يمين، وهو لم يحلف‏.‏

وقيل‏:‏ معناها‏:‏ لا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البرّ، والتقوى، والإصلاح‏.‏ وقيل‏:‏ معناها‏:‏ إذا حلفتم على أن لا تصلوا أرحامكم، ولا تتصدقوا، ولا تصلحوا، وعلى أشباه ذلك من أبواب البر، فكفروا عن اليمين، وقد قيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏أَن تَبَرُّواْ‏}‏ مبتدأ خبره محذوف أي‏:‏ البرّ، والتقوى، والإصلاح أولى‏.‏ قاله الزجاج، وقيل‏:‏ إنه منصوب أي‏:‏ لا تمنعكم اليمين بالله البرّ، والتقوى، والإصلاح‏.‏ وروى ذلك عن الزجاج أيضاً‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ أن لا تبروا، فحذف لا، كقوله‏:‏ ‏{‏يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏ أي‏:‏ لا تضلوا‏.‏ قاله ابن جرير الطبري‏.‏ وقيل‏:‏ هو في موضع جرّ على قول الخليل، والكسائي، والتقدير‏:‏ في ‏{‏أَن تَبَرُّواْ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏سَمِيعُ‏}‏ أي‏:‏ لأقوال العباد‏:‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بما يصدر منهم‏.‏ واللغو‏:‏ مصدر لغا يلغو لغواً، ولغى يلغي لغياً‏:‏ إذا أتى بما لا يحتاج إليه في الكلام، أو بما لا خير فيه، وهو الساقط الذي لا يعتدّ به، فاللغو من اليمين‏:‏ هو الساقط الذي لا يعتدّ به، ومنه اللغو في الدية، وهو الساقط الذي لا يعتد به من أولاد الإبل، قال جرير‏:‏

ويذهب بينها المرى لغوا كما *** ألغيت في الدية الحوارا

وقال آخر‏:‏

وَرَب أسْرَاب حَجيجٍ كُظَّم *** عَنِ اللَّغا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ

أي‏:‏ لا يتكلمن بالساقط والرفث، ومعنى الآية‏:‏ لا يعاقبكم الله بالساقط من أيمانكم، ولكن يعاقبكم بما كسبت قلوبكم، أي‏:‏ اقترفته بالقصد إليه، وهي اليمين المعقودة، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏ ومثله قول الشاعر‏:‏

ولستَ بمأخوذ بِلَغوِ يقولُه *** إذا لم تَعَمدَّ عاقداتِ العزائِمِ

وقد اختلف أهل العلم في تفسير اللغو، فذهب ابن عباس، وعائشة، وجمهور العلماء أيضاً‏:‏ أنه قول الرجل‏:‏ لا والله، وبلى والله في حديثه، وكلامه، غير معتقد لليمين، ولا مريد لها‏.‏ قال المروزي‏:‏ هذا معنى لغو اليمين الذي اتفق عليه عامة العلماء‏.‏ وقال أبو هريرة، وجماعة من السلف‏:‏ هو أن يحلف الرجل على الشيء لا يظن إلا أنه إياه فإذا ليس هو ما ظنه، وإلى هذا ذهبت الحنفية، والزيدية، وبه قال مالك في الموطأ‏.‏ وروي عن ابن عباس‏:‏ أنه قال‏:‏ لغو اليمين أن تحلف، وأنت غضبان، وبه قال طاوس، ومكحول‏.‏ وروى عن مالك، وقيل‏:‏ إن اللغو هو يمين المعصية، قاله سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وعبد الله بن الزبير، وأخوه عروة كالذي يقسم ليشربنَّ الخمر، أو ليقطعنَّ الرحم، وقيل‏:‏ لغو اليمين‏:‏ هو دعاء الرجل على نفسه، كأن يقول‏:‏ أعمى الله بصره، أذهب الله ماله، هو يهودي، هو مشرك‏.‏ قاله زيد بن أسلم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لغو اليمين أن يتبايع الرجلان، فيقول أحدهما‏:‏ والله لا أبيعك بكذا، ويقول الآخر‏:‏ والله لا أشتريه بكذا‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ لغو اليمين‏:‏ هي المكفرة‏.‏ أي‏:‏ إذا كفرت سقطت، وصارت لغواً‏.‏ والراجح القول الأول لمطابقته للمعنى اللغوي، ولدلالة الأدلة عليه كما سيأتي‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والله غَفُورٌ حَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ حيث لم يؤاخذكم بما تقولونه بألسنتكم من دون عمد أو قصد، وآخذكم بما تعمدته قلوبكم، وتكلمت به ألسنتكم، وتلك هي اليمين المعقودة المقصودة‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم‏}‏ يقول‏:‏ لا تجعلني عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك، واصنع الخير‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عنه هو‏:‏ أن يحلف الرجل أن لا يكلِّم قرابته أولا يتصدق، ويكون بين رجلين مغاضبة، فيحلف لا يصلح بينهما، ويقول قد حلفت، قال‏:‏ يكفر عن يمينه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطاء قال‏:‏ جاء رجل إلى عائشة، فقال‏:‏ إني نذرت إن كلمت فلاناً، فإن كل مملوك لي عتيق، وكل مال لي ستر للبيت، فقالت‏:‏ لا تجعل مملوكيك عتقاء، ولا تجعل مالك ستراً للبيت، فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم‏}‏ فكفر عن يمينك، وقد ورد أن هذه الآية نزلت في أبي بكر في شأن مسطح‏.‏ رواه ابن جرير، عن ابن جريج، والقصة مشهورة،

وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة في الصحيحين، وغيرهما؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه» وثبت أيضاً في الصحيحين، وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «والله إن شاء الله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير، وكفَّرتُ عن يميني» وأخرج ابن ماجه، وابن جرير عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من حلف على يمين قطيعة رحم، أو معصية، فبرُّه أن يحنث فيها، ويرجع عن يمينه» وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا نذَر، ولا يمينَ، فيما لا يملك ابن آدم، ولا في معصية الله، ولا في قطيعة رحم» وأخرج أبو داود، والحاكم، وصححه عن عمر مرفوعاً مثله‏.‏ وأخرج النسائي، وابن ماجه، عن مالك الجُشَمي قال‏:‏ قلت يا رسول الله يأتيني ابن عمي، فأحلف أن لا أعطيه، ولا أصله، فقال‏:‏ «كفر عن يمينك»‏.‏ وأخرج مالك في الموطأ، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، والبخاري، وغيرهم عن عائشة قالت‏:‏ أنزلت هذه الآية ‏{‏لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم‏}‏ في قول الرجل لا والله، وبلى والله، وكلا والله‏.‏

وأخرج أبو داود، وابن جرير، وابن حبان، وابن مردويه، والبيهقي من طريق عطاء بن أبي رباح؛ أنه سئل عن اللغو في اليمين، فقال‏:‏ قالت عائشة‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «هو كلام الرجل في بيته كلا والله، وبلى والله» وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن عائشة، أنها قالت في تفسيره الآية‏:‏ إن اللغو هو القوم يتدارؤون في الأمر يقول هذا‏:‏ لا والله، ويقول هذا‏:‏ كلا والله، يتدارون في الأمر لا تعقد عليه قلوبهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عائشة أنها قالت‏:‏ هو اللغو في المزاحة والهزل، وهو‏:‏ قول الرجل لا والله، وبلى والله، فذاك لا كفارة فيه، وإنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله، ثم لا يفعله‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الحسن‏:‏ قال‏:‏ مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينتضلون، ومع النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه، فرمى رجل من القوم، فقال‏:‏ أصبت والله، وأخطأت والله، فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ حنث الرجل يا رسول الله، فقال‏:‏ «كلا، أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها، ولا عقوبة»‏.‏ وقد روى أبو الشيخ عن عائشة، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو أن اللغو لا والله، وبلى والله‏.‏ أخرجه سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد عن ابن عباس؛ أنه قال‏:‏ لغو اليمين أن تحلف، وأنت غضبان‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أبي هريرة قال‏:‏ لغو اليمين حلف الإنسان على الشيء يظن أنه الذي حلف عليه، فإذا هو غير ذلك‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، والبيهقي عن عائشة نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ أنها أن يحلف الرجل على تحريم ما أحلّ الله له‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ هو الرجل يحلف على المعصية، وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن النخعي‏:‏ هو أن يحلف الرجل على الشيء ثم ينسى‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏والله غَفُورٌ‏}‏ يعني إذ تجاوز عن اليمين التي حلف عليها ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ إذ لم يجعل فيها الكفارة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏226- 227‏]‏

‏{‏لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏226‏)‏ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏227‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏يُؤْلُونَ‏}‏ أي‏:‏ يحلفون‏:‏ والمصدر إيلاء، وألية، وألوة، وقرأ ابن عباس‏:‏ «الذين آلوا» يقال آلى يؤالي إيلاً، ويأتلي بالتاء ائتلاء‏:‏ أي‏:‏ حلف، ومنه‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 22‏]‏ ومنه‏:‏ قليل الألايا حافظ ليمينه البيت‏.‏

وقد اختلف أهل العلم في الإيلاء، فقال الجمهور‏:‏ إن الإيلاء هو أن يحلف أن لا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر، فإن حلف على أربعة أشهر، فما دونها لم يكن مولياً، وكانت عندهم يميناً محضاً، وبهذا قال مالك والشافعي، وأحمد، وأبو ثور‏.‏ وقال الثوري، والكوفيون‏:‏ الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعداً، وهو قول عطاء‏.‏ وروي عن ابن عباس‏:‏ أنه لا يكون مولياً حتى يحلف أن لا يمسها أبداً‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ إذا حلف أن لا يقرب امرأته يوماً، أو أقل، أو أكثر ثم لم يطأ أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء‏.‏ وبه قال ابن مسعود، والنخعي، وابن أبي ليلى، والحكم، وحماد بن أبي سليمان، وقتادة، وإسحاق‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مِن نّسَائِهِمْ‏}‏ يشمل الحرائر، والإماء، إذا كنّ زوجات، وكذلك يدخل تحت قوله‏:‏ ‏{‏لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ‏}‏ العبد إذا حلف من زوجته، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور قالوا‏:‏ وإيلاؤه كالحر؛ وقال مالك، والزهري، وعطاء، وأبو حنيفة، وإسحاق‏:‏ إن أجله شهران‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ إيلاء الأمة نصف إيلاء الحرة‏.‏ والتربص‏:‏ التأني والتأخر، قال الشاعر‏:‏

تَرَبَّصْ بِها رَيْبَ المنُون لَعَلَّها *** تطلَّق يَوْماً أو يموتُ حَلِيلُها

وقت الله سبحانه بهذه المدة دفعاً للضرار عن الزوجة، وقد كان أهل الجاهلية يؤلون السنة، والسنتين، وأكثر من ذلك، يقصدون بذلك ضرار النساء، وقد قيل‏:‏ إن الأربعة الأشهر هي التي لا تطيق المرأة الصبر عن زوجها زيادة عليها‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن فَآءوا‏}‏ أي‏:‏ رجعوا ومنه ‏{‏حتى تَفِئ إلى أَمْرِ الله‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏ أي‏:‏ ترجع، ومنه قيل‏:‏ للظل بعد الزوال فيء؛ لأنه رجع عن جانب المشرق إلى جانب المغرب، يقال فاء يفيء فيئة، وفيوءاً، وإنه لسريع الفيئة‏:‏ أي‏:‏ الرجعة، ومنه قول الشاعر‏:‏

فَفاءَت وَلَمَ تقض الَّذي أقبلَتْ له *** وَمِن حَاجَة الإنسان مَا لَيس قَاضِيا

قال ابن المنذر‏:‏ وأجمع كل من يحفظ عنه العلم على أن الفيء‏:‏ الجماع لمن لا عذر له، فإن كان له عذر مرض أو سجن فهي امرأته، فإذا زال العذر فأبى الوطء فرّق بينهما إن كانت المدة قد انقضت، قاله مالك؛ وقالت طائفة‏:‏ إذا أشهد على فيئته بقلبه في حال العذر أجزأه‏.‏ وبه قال الحسن، وعكرمة، والنخعي، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل‏.‏ وقد أوجب الجمهور على المولى إذا فاء بجماع امرأته الكفارة‏.‏ وقال الحسن، والنخعي‏:‏ لا كفارة عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق‏}‏ العزم‏:‏ العقد على الشيء ويقال عزم يعزم عزماً وعزيمة وعزماناً واعتزم اعتزاماً، فمعنى عزموا الطلاق‏:‏ عقدوا عليه قلوبهم‏.‏ والطلاق‏:‏ من طلقت المرأة تطلق- كنصر ينصر طلاقاً فهي طالق وطالقة أيضاً، ويجوز طلقت بضم اللام، مثل عظم يعظم، وأنكره الأخفش‏.‏ والطلاق‏:‏ حلّ عقد النكاح، وفي ذلك دليل على أنها لا تطلق بمضيّ أربعة أشهر كما قال مالك ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة، وأيضاً، فإنه قال‏:‏ ‏{‏سَمِيعُ‏}‏، وسميع يقتضي مسموعاً بعد المضيّ‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ ‏{‏سَمِيعُ‏}‏ لإيلائه ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بعزمه الذي دل عليه مضيّ أربعة أشهر‏.‏

واعلم أن أهل كل مذهب قد فسروا هذه الآية بما يطابق مذهبهم، وتكلفوا بما لم يدل عليه اللفظ، ولا دليل آخر، ومعناها ظاهر واضح، وهو أن الله جعل الأجل لمن يوليَ- أي يحلف من امرأته أربعة أشهر‏.‏ ثم قال مخبراً لعباده بحكم هذا المُولى بعد هذه المدّة‏:‏ ‏{‏فَإِن فَآءوا‏}‏ رجعوا إلى بقاء الزوجية، واستدامة النكاح ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ لا يؤاخذهم بتلك اليمين بل يغفر لهم، ويرحمهم ‏{‏وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق‏}‏ أي‏:‏ وقع العزم منهم عليه، والقصد له ‏{‏فَإِنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ لذلك منهم ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ به، فهذا معنى الآية الذي لا شك فيه، ولا شبهة، فمن حلف أن لا يطأ امرأته، ولم يقيد بمدّة، أو قيد بزيادة على أربعة أشهر كان علينا إمهاله أربعة أشهر، فإذا مضت، فهو بالخيار، إما رجع إلى نكاح امرأته، وكانت زوجته بعد مضيّ المدة كما كانت زوجته قبلها، أو طلقها، وكان له حكم المطلق لامرأته ابتداء، وأما إذا وقت بدون أربعة أشهر، فإن أراد أن يبرّ في يمينه اعتزل امرأته التي حلف منها حتى تنقضي المدة، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آلى من نسائه شهراً، فإنه اعتزلهنّ حتى مضى الشهر، وإن أراد أن يطأ امرأته قبل مضي تلك المدّة التي هي دون أربعة أشهر حنث في يمينه، ولزمته الكفارة، وكان ممتثلاً لما صح عنه من قوله‏:‏ «من حلف على شيء، فرأى غيره خيراً منه فليأت الذي هو خير منه، وليكفر عن يمينه»

وقد أخرج الشافعي، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال‏:‏ الإيلاء أن يحلف أنه لا يجامعها أبداً‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عنه في قوله‏:‏ ‏{‏لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ هو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها، فتتربص أربعة أشهر، فإن هو نكحها كفَّر عن يمينه، فإن مضت أربعة أشهر قبل أن ينكحها خيَّره السلطان إما أن يفئ، وإما أن يعزم، فيطلق كما قال الله سبحانه‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والطبراني، والبيهقي عنه؛ قال‏:‏ كان إيلاء الجاهلية السنة، والسنتين، وأكثر من ذلك، فوقت الله لهم أربعة أشهر، فإن كان إيلاؤه أقلّ من أربعة أشهر، فليس بإيلاء‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن علي قال‏:‏ الإيلاء إيلاءان‏:‏ إيلاء في الغضب، وإيلاء في الرضا، فأما الإيلاء في الغضب‏:‏ فإذا مضت أربعة أشهر، فقد بانت منه، وأما ما كان في الرضا، فلا يؤاخذ به، وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال‏:‏ لا إيلاء إلا بغضب‏.‏ وأخرج أبو عبيد في فضائله، وابن المنذر عن أبيّ بن كعب؛ أنه قرأ‏:‏ «فإن فاءوا فيهنّ فإن الله غفور رحيم»‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، عن علي قال‏:‏ الفيء‏:‏ الجماع‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه من طرق، عن ابن عباس مثله‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن مسعود مثله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن الحسن، قال‏:‏ الفيء الإشهاد، وأخرج عبد الرزاق عنه قال‏:‏ الفيء الجماع، فإن كان له عذر أجزأه أن يفيء بلسانه‏.‏ أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن مسعود قال‏:‏ إذا حال بينه، وبينها مرض، أو سفر، أو حبس، أو شيء يعذر به، فإشهاده فيء‏.‏ وللسلف في الفيء أقوال مختلفة، فينبغي الرجوع إلى معنى الفيء لغة، وقد بيناه‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن عمر بن الخطاب‏:‏ أنه قال في الإيلاء‏:‏ إذا مضت أربعة أشهر لا شيء عليه حتى يوقف، فيطلق، أو يمسك‏.‏ وأخرج الشافعي، وابن جرير، والبيهقي، عن عثمان بن عفان نحوه‏.‏ وأخرج مالك، والشافعي، وعبد بن حميد، وابن جرير، والبيهقي عن عليّ نحوه‏.‏ وأخرج البخاري، وعبد بن حميد، عن ابن عمر نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج ابن جرير، والبيهقي، عن عائشة نحوه‏.‏

وأخرج ابن جرير، والدارقطني، والبيهقي من طرق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه قال‏:‏ سألت اثني عشر رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يولي من امرأته، فكلهم يقول‏:‏ ليس عليه شيء حتى تمضي الأربعة الأشهر، فتوقف، فإن فاء، وإلا طلق‏.‏ وأخرج البيهقي، عن ثابت بن عبيدة مولى زيد بن ثابت، عن اثني عشر رجلاً من الصحابة نحوه‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن عمر، وعثمان، وعليّ، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس قالوا‏:‏ الإيلاء تطليقة بائنة إذا مرت أربعة أشهر، قيل أن يفيء، فهي أملك بنفسها، وللصحابة، والتابعين في هذا أقوال مختلفة متناقضة، والمتعين الرجوع إلى ما في الآية الكريمة، وهو ما عرفناك، فاشدد عليه يديك‏.‏ وأخرج عبد الرزاق عن عمر قال‏:‏ إيلاء العبد شهران‏.‏ وأخرج مالك عن ابن شهاب قال‏:‏ إيلاء العبد نحو إيلاء الحرّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏228‏]‏

‏{‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏228‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏والمطلقات‏}‏ يدخل تحت عمومه المطلقة قبل الدخول، ثم خصص بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏ فوجب بناء العام على الخاص، وخرجت من هذا العموم المطلَّقة قبل الدخول، وكذلك خرجت الحامل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏ وكذلك خرجت الآيسة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏ والتربص‏:‏ الانتظار، قيل‏:‏ هو خبر في معنى الأمر أي‏:‏ ليتربصن قصد بإخراجه مخرج الخبر تأكيد وقوعه، وزاده تأكيداً وقوعه خبراً للمبتدأ‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا باطل، وإنما هو‏:‏ خبر عن حكم الشرع، فإن وجدت مطلقة لا تتربص، فليس ذلك من الشرع، ولا يلزم من ذلك، وقوع خبر الله سبحانه على خلاف مخبره‏.‏ والقروء‏:‏ جمع قرء‏.‏ وروي عن نافع أنه قرأ‏:‏ «قرو» بتشديد الواو‏.‏ وقرأه الجمهور بالهمز‏.‏ وقرأ الحسن بفتح القاف، وسكون الراء، والتنوين‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ الواحد قرء بضم القاف‏.‏ وقال أبو زيد بالفتح‏:‏ وكلاهما قال‏:‏ أقرأت المرأة‏:‏ حاضت، وأقرأت‏:‏ ظهرت‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ أقرأت المرأة‏:‏ إذا صارت صاحبة حيض، فإذا حاضت قلت‏:‏ قرأت بلا ألف‏.‏ وقال أبو عمرو بن العلاء من العرب من يسمي الحيض قرءاً، ومنهم من يسمي الطهر قرءاً، ومنهم من يجمعهما جميعاً، فيسمي الحيض مع الطهر قرءاً، وينبغي أن يعلم أن القرء في الأصل‏:‏ الوقت؛ يقال‏:‏ هبت الرياح لقرئها، ولقارئها‏:‏ أي‏:‏ لوقتها، ومنه قول الشاعر‏:‏

كَرهتُ العَقْر عقربني شَليل *** إذَا هَبَّتْ لقارئها الرَّياحُ

فيقال للحيض‏:‏ قرء، وللطهر‏:‏ قرء؛ لأن كل واحد منهما له وقت معلوم‏.‏ وقد أطلقته العرب تارة على الأطهار، وتارة على الحيض، فمن إطلاقه على الأطهار قول الأعشى‏:‏

أفِي كلٍ عَامٍ أنتَ جَاشِمُ غَزْوةٍ *** تَشُدّ لأقصَاهَا عزيم عَزَائكا

موِّرثة مَالاً وفي الحي رفعة *** لِما ضَاعَ فِيها من قُرُوءِ نِسائكا

أي أطهارهن، ومن إطلاقه على الحيض قول الشاعر‏:‏

يَا ربَّ ذي حِنْق عليّ قَارضٍ *** له قُرُوّ كقُروُّ الحائِض

يعني أنه طعنه، فكان له دم كدم الحائض‏.‏ وقال قوم‏:‏ هو مأخوذ من قري الماء في الحوض، وهو جمعه، ومنه القرآن لاجتماع المعاني فيه‏.‏ قال عمرو بن كلثوم‏:‏

ذِراعَي عَيْطَلٍ أدْمَاء بِكرٍ *** هِجَانِ اللونِ لِم تَقْرَأ جنينا

أي‏:‏ لم تجمعه في بطنها‏.‏ والحاصل أن القروء في لغة العرب مشترك بين الحيض، والطهر، ولأجل هذا الاشتراك، اختلف أهل العلم في تعيين ما هو المراد بالقروء المذكورة في الآية، فقال أهل الكوفة‏:‏ هي الحيض، وهو قول عمر، وعليّ، وابن مسعود، وأبي موسى، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وعكرمة، والسدي، وأحمد بن حنبل‏.‏ وقال أهل الحجاز‏:‏ هي‏:‏ الأطهار، وهو قول عائشة، وابن عمر، وزيد بن ثابت، والزهري، وأبان بن عثمان، والشافعي‏.‏

واعلم أنه قد وقع الاتفاق بينهم على أن القرء الوقت، فصار معنى الآية عند الجميع‏:‏ والمطلقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة أوقات، فهي على هذا مفسرة في العدد مجملة في المعدود، فوجب طلب البيان للمعدود من غيرها، فأهل القول الأول استدلوا على أن المراد في هذه الآية الحيض بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «دعي الصلاة أيام أقرائك» وبقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «طلاق الأمة تطليقتان، وعدّتها حيضتان» وبأن المقصود من العدّة استبراء الرحم، وهو يحصل بالحيض لا بالطهر‏.‏ واستدل أهل القول الثاني بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ ولا خلاف أنه يؤمر بالطلاق، وقت الطهر، ولقوله صلى الله عليه وسلم لعمر‏:‏ «مُرْه فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء» وذلك؛ لأن زمن الطهر هو الذي تطلق فيه النساء‏.‏ قال أبو بكر بن عبد الرحمن‏:‏ ما أدركنا أحداً من فقهائنا إلا يقول بأن الأقراء هي‏:‏ الأطهار، فإذا طلق الرجل في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه، ولو ساعة، ولو لحظة، ثم استقبلت طهراً ثانياً بعد حيضة، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة خرجت من العدّة‏.‏ انتهى‏.‏

وعندي أن لا حجة في بعض ما احتج به أهل القولين جميعاً‏.‏ أما قول الأولين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «دعي الصلاة أيام أقرائك» فغاية ما في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الأقراء على الحيض، ولا نزاع في جواز ذلك كما هو شأن اللفظ المشترك، فإنه يطلق تارة على هذا، وتارة على هذا، وإنما النزاع في الأقراء المذكورة في هذه الآية، وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الأمة‏:‏ «وعدّتها حيضتان» فهو حديث أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني، والحاكم وصححه، من حديث عائشة مرفوعاً‏.‏ وأخرجه ابن ماجه، والبيهقي من حديث ابن عمر مرفوعاً أيضاً، ودلالته على ما قاله الأولون قوية‏.‏ وأما قولهم‏:‏ إن المقصود من العدّة استبراء الرحم، وهو يحصل بالحيض لا بالطهر، فيجاب عنه بأنه إنما يتم لو لم يكن في هذه العدّة شيء من الحيض على فرض تفسير الأقراء بالأطهار، وليس كذلك بل هي مشتملة على الحيض، كما هي مشتملة على الأطهار، وأما استدلال أهل القول الثاني بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ فيجاب عنه بأن التنازع في اللام في قوله‏:‏ ‏{‏لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ يصير ذلك محتملاً، ولا تقوم الحجة بمحتمل‏.‏ وأما استدلالهم بقوله لعمر‏:‏ «مُرْه فليراجعها» الحديث، فهو في الصحيح، ودلالته قوية على ما ذهبوا إليه، ويمكن أن يقال إنها تنقضي العدّة بثلاثة أطهار، أو بثلاث حِيَض، ولا مانع من ذلك، فقد جوز جمع من أهل العلم حمل المشترك على معنييه، وبذلك يجمع بين الأدلة، ويرتفع الخلاف، ويندفع النزاع‏.‏

وقد استشكل الزمخشري تمييز الثلاثة بقوله‏:‏ قروء، وهي جمع كثرة دون أقراء التي هي من جموع القلة‏.‏ وأجاب بأنهم يتسعون في ذلك، فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في الجمعية‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ‏}‏ قيل‏:‏ المراد به‏:‏ الحيض، وقيل‏:‏ الحمل‏.‏ وقيل كلاهما، ووجه النهي عن الكتمان ما فيه في بعض الأحوال من الإضرار بالزوج، وإذهاب حقه؛ فإذا قالت المرأة‏:‏ حضت، وهي لم تحض ذهبت بحقه من الارتجاع؛ وإذا قالت لم تحض، وهي قد حاضت ألزمته من النفقة ما لم يلزمه، فاضرّت به، وكذلك الحمل ربما تكتمه التقطع حقه من الارتجاع، وربما تدّعيه لتوجب عليه النفقة، ونحو ذلك من المقاصد المستلزمة للإضرار بالزوج‏.‏ وقد اختلفت الأقوال في المدّة التي تصدَّق فيها المرأة إذا ادّعت انقضاء عدّتها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الأخر‏}‏ فيه، وعيد شديد للكاتمات، وبيان أن من كتمت ذلك منهنّ لم تستحق اسم الإيمان‏.‏ والبعولة جمع بعل، وهو الزوج، سمي بعلاً لعلوّه على الزوجة؛ لأنهم يطلقونه على الرب، ومنه قوله‏:‏ تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَدْعُونَ بَعْلاً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 125‏]‏ أي‏:‏ رباً‏.‏ ويقال‏:‏ بعول، وبعولة، كما يقال في جمع الذكر ذكور، وذكورة، وهذه التاء لتأنيث الجمع، وهو شاذ لا يقاس عليه بل يعتبر فيه السماع، والبعولة أيضاً تكون مصدراً من بعل الرجل يبعل، مثل منع يمنع‏.‏ أي‏:‏ صار بعلاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ‏}‏ أي‏:‏ برجعتهنّ، وذلك يختص بمن كان يجوز للزوج مراجعتها، فيكون في حكم التخصيص لعموم قوله‏:‏ ‏{‏والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ‏}‏ لأنه يعم المثلثات، وغيرهنّ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فِي ذلك‏}‏ يعني في مدة التربص، فإن انقضت مدّة التربص، فهي أحق بنفسها، ولا تحلّ له إلا بنكاح مستأنف بوليّ، وشهود، ومهر جديد، ولا خلاف في ذلك، والرجعة تكون باللفظ، وتكون بالوطء، ولا يلزم المراجع شيء من أحكام النكاح بلا خلاف‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ أَرَادُواْ إصلاحا‏}‏ أي‏:‏ بالمراجعة، أي‏:‏ إصلاح حاله معها، وحالها معه، فإن قصد الإضرار بها، فهي محرّمة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ‏}‏ قيل‏:‏ وإذا قصد بالرجعة الضرار، فهي صحيحة، وإن ارتكب بذلك محرّماً، وظلم نفسه، وعلى هذا، فيكون الشرط المذكور في الآية للحث للأزواج على قصد الصلاح، والزجر لهم عن قصد الضرار، وليس المراد به جعل قصد الإصلاح شرطاً لصحة الرجعة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُنَّ مِثْلُ الذى عَلَيْهِنَّ بالمعروف‏}‏ أي‏:‏ لهنّ من حقوق الزوجية على الرجال بمثل ما للرجال عليهنّ‏.‏ فيحسن عشرتها بما هو معروف من عادة الناس أنهم يفعلونه لنسائهم‏.‏ وهي‏:‏ كذلك تحسن عشرة زوجها بما هو معروف من عادة النساء أنهنّ يفعلنه؛ لأوزاجهنّ من طاعة، وتزين، وتحبب، ونحو ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ‏}‏ أي‏:‏ منزلة ليست لهنّ، وهو قيامه عليها في الإنفاق، وكونه من أهل الجهاد، والعقل، والقوّة، وله من الميراث أكثر مما لها، وكونه يجب عليها امتثال أمره، والوقوف عند رضاه، ولو لم يكن من فضيلة الرجال على النساء إلا كونهنّ خلقن من الرجال لما ثبت أن حوّاء خلقت من ضلع آدم‏.‏

وقد أخرج أبو داود، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية قالت‏:‏ طلِّقْتُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن للمطلقة عدّة، فأنزل الله حين طلقت العدّة للطلاق، فقال‏:‏ ‏{‏والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج أبو داود، والنسائي، وابن المنذر عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثة قُرُوء‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏ فنسخ، وقال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏‏.‏ وأخرج مالك، والشافعي، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والدارقطني، والبيهقي من طرق، عن عائشة؛ أنها قالت‏:‏ الأقراء‏:‏ الأطهار‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن عمر، وزيد بن ثابت مثله‏.‏ وأخرج المذكورون، عن عمرو بن دينار، قال‏:‏ الأقراء‏:‏ الحيض عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج البيهقي، وابن جرير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ثلاثة قُرُوء‏}‏ قال‏:‏ ثلاث حيض‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ‏}‏ قال‏:‏ كانت المرأة تكتم حملها حتى تجعله لرجل آخر، فنهاهنّ الله عن ذلك‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عمر في الآية قال‏:‏ الحمل، والحيض، وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ‏}‏ يقول‏:‏ إذا طلق الرجل امرأته تطليقة، أو تطليقتين، وهي حامل، فهو أحقّ برجعتها ما لم تضع حملها، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ‏}‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، والبيهقي، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذلك‏}‏ قال‏:‏ في العدّة‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة مثله، وزاد ما لم يطلقها ثلاثاً‏.‏ وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُنَّ مِثْلُ الذى عَلَيْهِنَّ‏}‏ قال‏:‏ إذا أطعن الله، وأطعن أزواجهنّ، فعليه أن يحسن صحبتها، ويكف عنها أذاه، وينفق عليها من سعته‏.‏

وقد أخرج أهل السنن عن عمرو بن الأحوص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏"‏ ألا إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً، أما حقكم على نسائكم أن لا يوطئن، فُرُشكم من تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهنّ عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهنّ، وطعامهنّ ‏"‏ وصححه الترمذي‏.‏ وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير، والحاكم وصححه، والبيهقي عن معاوية بن حيدة القشيري‏:‏ «أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما حق المرأة على الزوج‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تهجر إلا في البيت ‏"‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ‏}‏ قال‏:‏ فضل ما فضله الله به عليها من الجهاد، وفضل ميراثه على ميراثها، وكل ما فضل به عليها‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي مالك في الآية قال‏:‏ يطلقها، وليس لها من الأمر شيء‏.‏ وأخرجا عن زيد بن أسلم قال‏:‏ الإمارة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏229- 230‏]‏

‏{‏الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏229‏)‏ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏230‏)‏‏}‏

المراد بالطلاق المذكور‏:‏ هو‏:‏ الرجعي بدليل ما تقدّم في الآية الأولى‏:‏ أي‏:‏ الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة للأزواج هو مرتان، أي‏:‏ الطلقة الأولى، والثانية، إذ لا رجعة بعد الثالثة، وإنما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏مَرَّتَانِ‏}‏ ولم يقل طلقتان إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الطلاق مرة بعد مرة، لا طلقتان دفعة واحدة، كذا قال جماعة من المفسرين، ولما لم يكن بعد الطلقة الثانية إلا أحد أمرين، إما إيقاع الثالثة التي بها تبين الزوجة، أو الإمساك لها، واستدامة نكاحها، وعدم إيقاع الثالثة عليها قال سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان‏}‏ أي‏:‏ فإمساك بعد الرجعة لمن طلقها زوجها طلقتين بمعروف أي‏:‏ بما هو معروف عند الناس من حسن العشرة ‏{‏أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان‏}‏ أي‏:‏ بإيقاع طلقة ثالثة عليها من دون ضرار لها‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ ‏{‏فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ أي‏:‏ برجعة بعد الطلقة الثانية ‏{‏أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان‏}‏ أي‏:‏ بترك الرجعة بعد الثانية حتى تنقضي عدّتها‏.‏ والأول أظهر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الطلاق‏}‏ مبتدأ بتقدير مضاف أي‏:‏ عدد الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة مرتان‏.‏ وقد اختلف أهل العلم في إرسال الثلاث دفعة واحدة هل يقع ثلاثاً، أو واحدة فقط‏؟‏ فذهب إلى الأوّل الجمهور، وذهب إلى الثاني مَنْ عداهم، وهو الحق‏.‏ وقد قررته في مؤلفاتي تقريراً بالغاً، وأفردته برسالة مستقلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا‏}‏ الخطاب للأزواج، أي‏:‏ لا يحلّ للأزواج أن يأخذوا مما دفعوه إلى نسائهم من المهر شيئاً على وجه المضارة لهنّ، وتنكير ‏{‏شيئاً‏}‏ للتحقير‏:‏ أي‏:‏ شيئاً نزراً فضلاً عن الكثير، وخص ما دفعوه إليهنّ بعدم حلّ الأخذ منه مع كونه لا يحلّ للأزواج أن يأخذوا شيئاً من أموالهنّ التي يملكنها من غير المهر لكون ذلك، هو الذي تتعلق به نفس الزوج، وتتطلع لأخذه دون ما عداه مما هو في ملكها، على أنه إذا كان أخذ ما دفعه إليها لا يحلّ له كان ما عداه ممنوعاً منه بالأولى‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ‏}‏ للأئمة، والحكام ليطابق قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ‏}‏ فإن الخطاب فيه للأئمة، والحكام، وعلى هذا يكون إسناد الأخذ إليهم لكونهم الآمرين بذلك‏.‏ والأول أولى لقوله‏:‏ ‏{‏مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ‏}‏ فإن إسناده إلى غير الأزواج بعيد جداً؛ لأن إيتاء الأزواج لم يكن عن أمرهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن الثاني أولى لئلا يتشوّش النظم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَخَافَا‏}‏ أي‏:‏ لا يجوز لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً إلا أن يخافا ‏{‏يُقِيمَا حُدُودَ الله‏}‏ أي‏:‏ عدم إقامة حدود الله التي حدّها للزوجينّ، وأوجب عليهما الوفاء بها من حسن العشرة والطاعة، فإن خافا ذلك ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ‏}‏ أي‏:‏ لا جناح على الرجل في الأخذ، وعلى المرأة في الإعطاء بأن تفتدي نفسها من ذلك النكاح ببذل شيء من المال يرضى به الزوج، فيطلقها لأجله، وهذا هو الخلع، وقد ذهب الجمهور إلى جواز ذلك للزوج، وأنه يحلّ له الأخذ مع ذلك الخوف، وهو الذي صرّح به القرآن‏.‏

وحكى ابن المنذر، عن بعض أهل العلم أنه لا يحلّ له ما أخذ، ولا يجبر على ردّه، وهذا في غاية السقوط‏.‏ وقرأ حمزة‏:‏ «إلا أن يخافا» على البناء للمجهول، والفاعل محذوف، وهو الأئمة، والحكام واختاره أبو عبيد قال‏:‏ لقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ‏}‏ فجعل الخوف لغير الزوجين‏.‏ وقد احتج بذلك من جعل الخلع إلى السلطان، وهو سعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين‏.‏ وقد ضعف النحاس اختيار أبي عبيد المذكور‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ ألاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله‏}‏ أي‏:‏ إذا خاف الأئمة، والحكام، أو المتوسطون بين الزوجين، وإن لم يكونوا أئمة، وحكاماً عدم إقامة حدود الله من الزوجين، وهي‏:‏ ما أوجبه عليهما كما سلف‏.‏ وقد حكى عن بكر بن عبد الله المزني‏:‏ أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة النساء ‏{‏وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 20‏]‏ وهو قول خارج عن الإجماع، ولا تنافي بين الاثنين‏.‏ وقد اختلف أهل العلم إذا طلب الزوج من المرأة زيادة على ما دفعه إليها من المهر، وما يتبعه، ورضيت بذلك المرأة هل يجوز أم لا‏؟‏ وظاهر القرآن الجواز لعدم تقييده بمقدار معين، وبذا قال مالك، والشافعي، وأبو ثور، وروي مثل ذلك عن جماعة من الصحابة، والتابعين، وقال طاوس، وعطاء، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق‏:‏ إنه لا يجوز، وسيأتي ما ورد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ حُدُودُ الله‏}‏ أي‏:‏ أحكام النكاح، والفراق المذكورة هي‏:‏ حدود الله التي أمرتم بامتثالها، فلا تعتدوها بالمخالفة لها، فتستحقوا ما ذكره الله من التسجيل على فاعل ذلك بأنه ظالم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا‏}‏ أي‏:‏ الطلقة الثالثة التي ذكرها سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان‏}‏ أي‏:‏ فإن وقع منه ذلك، فقد حرمت عليه بالتثليث ‏{‏فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏}‏ أي‏:‏ حتى تتزوج بزوج آخر‏.‏ وقد أخذ بظاهر الآية سعيد بن المسيب، ومن وافقه قالوا‏:‏ يكفي مجرد العقد؛ لأنه المراد بقوله‏:‏ ‏{‏حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏}‏ وذهب الجمهور من السلف، والخلف إلى أنه لا بدّ مع العقد من الوطء لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من اعتبار ذلك، وهو زيادة يتعين قبولها، ولعله لم يبلغ سعيد بن المسيب، ومن تابعه‏.‏ وفي الآية دليل على أنه لا بد من أن يكون ذلك نكاحاً شرعياً مقصوداً لذاته لا نكاحاً غير مقصود لذاته، بل حيلة للتحليل، وذريعة إلى ردها إلى الزوج الأوّل، فإن ذلك حرام للأدلة الواردة في ذمه وذمّ فاعله، وأنه التيس المستعار الذي لعنه الشارع، ولعن من اتخذه لذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا‏}‏ أي‏:‏ الزوج الثاني‏:‏ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا‏}‏ أي‏:‏ الزوج الأول والمرأة ‏{‏أَن يَتَرَاجَعَا‏}‏ أي‏:‏ يرجع كل واحد منهما لصاحبه‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ أجمع أهل العلم على أن الحرّ إذا طلق زوجته ثلاثاً، ثم انقضت عدّتها، ونكحت زوجاً، ودخل بها، ثم فارقها، وانقضت عدّتها، ثم نكحها الزوج الأوّل، أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله‏}‏ أي‏:‏ حقوق الزوجية الواجبة لكل منهما على الآخر، وأما إذا لم يحصل ظن ذلك بأن يعلما، أو أحدهما عدم الإقامة لحدود الله، أو تردداً، أو أحدهما، ولم يحصل لهما الظنّ، فلا يجوز الدخول في هذا النكاح؛ لأنه مظنة للمعصية لله، والوقوع فيما حرّمه على الزوجين‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ حُدُودُ الله‏}‏ إشارة إلى الأحكام المذكورة، كما سلف، وخص الذين يعلمون مع عموم الدعوة للعالم، وغيره، ووجوب التبليغ لكل فرد؛ لأنهم المنتفعون بالبيان المذكور‏.‏

وقد أخرج مالك، والشافعي، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال‏:‏ كان الرجل إذا طلق امرأته، ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدّتها كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا ما دنا وقت انقضاء عدتها ارتجعها، ثم طلقها، ثم قال‏:‏ والله لا آويك إليّ ولا تحلين لي أبداً، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان‏}‏ فاستقبل الناس الطلاق جديداً من يومئذ؛ من كان منهم طلق، ومن لم يطلق‏.‏ وأخرج نحوه الترمذي، وابن مردويه، والحاكم وصححه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة‏.‏ وأخرج البخاري عنها أنها أتتها امرأة، فسألتها عن شيء من الطلاق، قالت‏:‏ فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت‏:‏ ‏{‏الطلاق مَرَّتَانِ‏}‏‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وأحمد، وعبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي، عن أبي رزين الأسدي قال‏:‏ قال رجل‏:‏ «يا رسول الله أرأيت قول الله الطلاق مرتان‏؟‏ فأين الثالثة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ التسريح بإحسان الثالثة ‏"‏ وأخرج نحوه ابن مردويه، والبيهقي عن ابن ابن عباس مرفوعاً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد أنه قال‏:‏ قال الله للثالثة‏:‏ ‏{‏فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان‏}‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن يزيد بن أبي حبيب قال‏:‏ التسريح في كتاب الله الطلاق‏.‏

وأخرج البيهقي، من طريق السدي، عن ابن عباس، وابن مسعود، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏الطلاق مَرَّتَانِ‏}‏ قالوا‏:‏ وهو الميقات الذي تكون فيه الرجعة، فإذا طلق واحدة، أو اثنتين، فإما أن يمسك، ويراجع بمعروف، وإما أن يسكت عنها حتى تنقضي عدتها، فتكون أحق بنفسها‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في الآية نحوه‏.‏ وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ كان الرجل يأكل من مال امرأته الذي نَحَلها، وغيره لا يرى أن عليه جناحاً، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا‏}‏ فلم يصح لهم بعد هذه الآية أخذ شيء من أموالهنّ إلا بحقها، ثم قال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَخَافَا ألا يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَئ مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله‏}‏ قال‏:‏ إلا أن يكون النشوز، وسوء الخلق من قبلها، فتدعوك إلى أن تفتدي منك، فلا جناح عليك فيما افتدت به‏.‏

وأخرج مالك، والشافعي وأحمد، وأبو داود والنسائي، والبيهقي من طريق عَمْرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة، عن حبيبة بنت سهل الأنصارى؛ «أنها كانت تحبّ ثابت بن قيس، وأن رسول الله خرج إلى الصبح، فوجدها عند بابه في الغلس، فقال‏:‏ ‏"‏ من هذه‏؟‏ ‏"‏ قالت‏:‏ أنا حبيبة بنت سهل، فقال‏:‏ ‏"‏ ما شأنك‏؟‏ ‏"‏ قالت‏:‏ لا أنا، ولا ثابت، فلما جاء ثابت بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ هذه حبيبة بنت سهل، فذكرت ما شاء الله أن تذكر، فقالت حبيبة يا رسول الله كل ما أعطاني عنده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ خذ منها، ‏"‏ فأخذ منها، وجلست في أهلها»‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج قال‏:‏ نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس، وفي حبيبة، وكانت اشتكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ تردين عليه حديقته‏؟‏ ‏"‏ قالت‏:‏ نعم، فدعاه، فذكر ذلك له، فقال‏:‏ ويطيب لي ذلك، قال‏:‏ ‏"‏ نعم، ‏"‏ قال ثابت‏:‏ قد فعلت، فنزلت‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ‏}‏ الآية» وأخرج عبد الرزاق، واأبو داود، وابن جرير، والبيهقي من طريق عمرة، عن عائشة نحوه‏.‏ وأخرج البخاري، والنسائي، وابن ماجه، وابن مردويه، والبيهقي، عن ابن عباس؛ أن جميلة بنت عبد الله بن سلول، امرأة ثابت بن قيس بن شَمَّاس‏:‏ «أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق، ولا دين، ولكن لا أطيقه بغضاً، وأكره الكفر في الإسلام، قال‏:‏

‏"‏ أتردين عليه حديقته‏؟‏ ‏"‏ قالت‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏"‏ أقبل الحديقة، وطلقها تطليقة ‏"‏ ولفظ ابن ماجه‏:‏ «فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته، ولا يزداد»‏.‏

وأخرج البيهقي من طريق عطاء قال‏:‏ «أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت‏:‏ إني أبغض زوجي، وأحب فراقه، قال‏:‏ ‏"‏ أتردين عليه حديقته التي أصدقك‏؟‏ ‏"‏ قالت‏:‏ نعم، وزيادة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أما الزيادة من مالك فلا ‏"‏ وأخرج البيهقي، عن أبي الزبير‏:‏ أن ثابت بن قيس، فذكر القصة، وفيه‏:‏ ‏"‏ أما الزيادة فلا ‏"‏ وأخرج ابن مردويه بإسناد جيد عن ابن عباس، وفيه «أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ثابتاً أن يأخذ ما ساق، ولا يزداد»‏.‏ وأخرج البيهقي عن أبي سعيد، وذكر القصة، وفيها‏:‏ ‏"‏ فردت عليه حديقته وزادت ‏"‏ وأخرج ابن جرير، عن عمر‏:‏ أنه قال في بعض المختلعات‏:‏ «اخلعها، ولو من قرطها»‏.‏ وفي لفظ أخرجه عبد الرزاق، عنه أنه قال للزوج‏:‏ «خذ ولو عقاصها»‏.‏ قال البخاري‏:‏ أجاز عثمان الخلع دون عقاصها‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، والبيهقي، عن عطاء‏:‏ كره أن النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها‏.‏

وقد ورد في ذم المختلعات أحاديث منها‏:‏ عن ثوبان عند أحمد، وأبي داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وابن جرير، والحاكم وصححه، والبيهقي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة، وقال‏:‏ المختلعات هنّ المنافقات ‏"‏، ومنها عن ابن عباس، عند ابن ماجه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لا تسأل المرأة زوجها الطلاق في غير كنهه، فتجد ريح الجنة، وإن ريحها لتُوجد مسيرة أربعين عاماً ‏"‏ ومنها عن أبي هريرة عند أحمد، والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ المختلعات، والمنتزعات هنّ المنافقات ‏"‏ ومنها عن عقبة عند ابن جرير مرفوعاً مثل حديث أبي هريرة‏.‏

وقد اختلف أهل العلم في عدة المختلعة، والراجح أنها تعتدّ بحيضة لما أخرجه أبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، والحاكم وصححه، عن ابن عباس‏:‏ «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر امرأة ثابت بن قيس، أن تعتدّ بحيضة» ولما أخرجه الترمذي، عن الرُّبَيِّع بنت معوذ بن عفراء‏:‏ «أنها اختلعت على عهد رسول الله، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتدّ بحيضة، أو أمرت أن تعتد بحيضة»‏.‏ قال الترمذي‏:‏ الصحيح أنها أمرت أن تعتدّ بحيضة‏.‏ وأخرج النسائي، وابن ماجه، عنها أنها قالت‏:‏ اختلعت من زوجي، فجئت عثمان، فسألته ماذا عليّ من العدّة‏؟‏ فقال‏:‏ لا عدة عليك إلا أن يكون حديث عهد بك، فتمكثين حتى تحيضي حيضة، قالت‏:‏ إنما أتبع في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مريم المغالية، وكانت تحب ثابت بن قيس، فاختلعت منه‏.‏

وأخرج النسائي، عن الربيع بنت معوذ‏:‏ «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر امرأة ثابت بن قيس، أن تتربص حيضة واحدة، فتلحق بأهلها» ولم يرد ما يعارض هذا من المرفوع، بل ورد عن جماعة من الصحابة، والتابعين أن عدّة المختلعة كعدّة الطلاق، وبه قال الجمهور‏.‏ قال الترمذي‏:‏ وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة، وغيرهم، واستدلوا على ذلك بأن المختلعة من جملة المطلقات، فهي داخلة تحت عموم القرآن‏.‏ والحق ما ذكرناه؛ لأن ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم يخصص عموم القرآن‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ‏}‏ يقول‏:‏ فإن طلقها ثلاثاً، فلا تحلّ له حتى تنكح زوجاً غيره‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن عليّ نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة نحوه‏.‏ وأخرج الشافعي، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي، عن عائشة قالت‏:‏ «جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ إني كنت عند رفاعة، فطلقني فبتَّ طلاقي، فتزوجني عبد الرحمن بن الزَّبير، وما معه إلا مثل هُدْبَة الثوب، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏ أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة‏؟‏ لا حتى تذوقي عُسَيْلته، ويذوق عُسَيْلتك ‏"‏ وقد روى نحو هذا عنها من طرق‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وأحمد، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير، والبيهقي، عن عمر مرفوعاً نحوه‏.‏ وأخرج أحمد، وابن جرير، والبيهقي، عن أنس مرفوعاً نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه، ولم يسمّ هؤلاء الثلاثة الصحابة صاحبة القصة‏.‏ وأخرج أحمد، والنسائي، عن ابن عباس‏:‏ «أن العُمْيصاء، أو الرُّمَيْصاء أتت النبي صلى الله عليه وسلم» وفي آخره «فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ليس ذلك لك حتى يذوق عسيلتك رجل غيره ‏"‏

وقد ثبت لعن المحلل في أحاديث منها عن ابن مسعود عند أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، والبيهقي في سننه قال‏:‏ «لعن النبي صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له» ومنها عن علي عند أحمد، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه، والبيهقي مرفوعاً مثل حديث ابن مسعود، ومنها عن جابر مرفوعاً عند الترمذي مثله، ومنها عن ابن عباس مرفوعاً عند ابن ماجه مثله، ومنها عن عقبة بن عامر، عند ابن ماجه، والحاكم وصححه، والبيهقي مرفوعاً مثله، ومنها عن أبي هريرة مرفوعاً عند أحمد، وابن أبي شيبة، والبيهقي مثله‏.‏ وفي الباب أحاديث في ذم التحليل، وفاعله‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا‏}‏ يقول‏:‏ إذا تزوجت بعد الأوّل، فدخل بها الآخر، فلا حرج على الأوّل أن يتزوجها إذا طلقها الآخر، أو مات عنها، فقد حلت له‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل في قوله‏:‏ ‏{‏أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله‏}‏ قال‏:‏ أمر الله وطاعته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏231‏]‏

‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏231‏)‏‏}‏

البلوغ إلى الشيء‏:‏ معناه الحقيقي الوصول إليه، ولا يستعمل البلوغ بمعنى المقاربة إلا مجازاً لعلاقة مع قرينة كما هنا، فإنه لا يصح إرادة المعنى الحقيقي؛ لأن المرأة إذاً قد بلغت آخر جزء من مدّة العدّة، وجاوزته إلى الجزء الذي هو الأجل للانقضاء، فقد خرجت من العدّة، ولم يبق للزوج عليها سبيل‏.‏ قال القرطبي في تفسيره‏:‏ إن معنى‏:‏ ‏{‏بَلَغْنَ‏}‏ هنا قاربن بإجماع العلماء‏.‏ قال‏:‏ ولأن المعنى يضطر إلى ذلك؛ لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك، والإمساك بمعروف‏:‏ هو القيام بحقوق الزوجية‏.‏ أي‏:‏ إذا طلقتم النساء، فقاربن آخر العدّة، فلا تضاروهنّ بالمراجعة من غير قصد؛ لاستمرار الزوجية، واستدامتها، بل اختاروا أحد أمرين‏:‏ إما الإمساك بمعروف من غير قصد لضرار، أو التسريح بإحسان‏:‏ أي‏:‏ تركها حتى تنقضي عدّتها من غير مراجعة ضرار، ولا تمسكوهن ضراراً، كما كانت تفعل الجاهلية من طلاق المرأة حتى يقرب انقضاء عدّتها، ثم مراجعتها لا عن حاجة، ولا لمحبة، ولكن لقصد تطويل العدّة، وتوسيع مدّة الانتظار ‏{‏ضِرَارًا‏}‏ لقصد الاعتداء منكم عليهن والظلم لهنّ ‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ‏}‏ لأنه عرضها لعقاب الله وسخطه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يعني عرّض نفسه للعذاب، لأن إتيان ما نهى الله عنه تعرض لعذاب الله ‏{‏وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هزوا‏}‏ أي‏:‏ لا تأخذوا أحكام الله على طريقة الهزؤ، فإنها جدّ كلها، فمن هزل فيها فقد لزمته نهاهم سبحانه أن يفعلوا كما كانت الجاهلية تفعل، فإنه كان يطلق الرجل منهم، أو يعتق، أو يتزوج، ويقول‏:‏ كنت لاعباً‏.‏ قال القرطبي، ولا خلاف بين العلماء أن من طلق هازلاً أن الطلاق يلزمه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏هُزُوًا واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ النعمة التي صرتم فيها بالإسلام، وشرائعه بعد أن كنتم في جاهلية جهلاء، وظلمات بعضها فوق بعض، والكتاب‏:‏ هو القرآن‏.‏ والحكمة قال المفسرون‏:‏ هي السنة التي سنها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏يَعِظُكُمْ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ يخوفكم بما أنزل عليكم، وأفرد الكتاب، والحكمة بالذكر مع دخولهما في النعمة دخولاً أولياً، تنبيهاً على خطرهما، وعظم شأنهما‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ كان الرجل يطلق امرأته، ثم يراجعها قبل انقضاء عدّتها، ثم يطلقها، فيفعل بها ذلك يضارّها، ويعطلها، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج نحوه مالك، وابن جرير، وابن المنذر، عن ثور بن يزيد‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، والبيهقي، عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ‏}‏ قال‏:‏ هو الرجل يطلق امرأته، فإذا أرادت أن تنقضي عدّتها أشهد على رجعتها، يريد أن يطوّل عليها‏.‏

وأخرج ابن ماجه، وابن جرير، والبيهقي، عن أبي موسى قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما بال أقوام يلعبون بحدود الله يقول‏:‏ قد طلقتك، قد راجعتك، قد طلقتك، قد راجعتك، ليس هذا طلاق المسلمين، طلقوا المرأة في قبل عدّتها» وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ كان الرجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للرجل‏:‏ زوَّجتك ابنتي، ثم يقول‏:‏ كنت لاعباً، ويقول‏:‏ قد أعتقت، ويقول‏:‏ كنت لاعباً، فأنزل الله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هزواً‏}‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ثلاث من قالهنّ لاعباً، أو غير لاعب، فهن جائزات عليه‏:‏ الطلاق، والنكاح، والعتاق» وأخرج ابن مردويه، عن أبي الدرداء قال‏:‏ كان الرجل يطلق، ثم يقول‏:‏ لعبت، ويعتق، ثم يقول لعبت، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هزواً‏}‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من طلق، أو أعتق، فقال لعبت، فليس قوله بشيء، يقع عليه، فيلزمه»‏.‏ وأخرج ابن مردويه أيضاً، عن ابن عباس قال‏:‏ طلق رجل امرأته، وهو يلعب لا يريد الطلاق، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هزواً‏}‏ فألزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الطلاق‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن مرفوعاً نحو حديث عبادة‏.‏ وأخرج أبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ثلاث جدّهنَّ جِدٌّ، وهزلهنّ جدّ‏:‏ النكاح، والطلاق، والرجعة»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏232‏]‏

‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏232‏)‏‏}‏

الخطاب في هذه الآية بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ‏}‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ‏}‏ إما أن يكون للأزواج، ويكون معنى العَضْل منهم أن يمنعوهنّ من أن يتزوجن مَنْ أردْن من الأزواج بعد انقضاء عدّتهنّ لحمية الجاهلية، كما يقع كثيراً من الخلفاء، والسلاطين غيرة على من كنّ تحتهم من النساء أن يصرن تحت غيرهم؛ لأنهم لما نالوه من رياسة الدنيا، وما صاروا فيه من النخوة، والكبرياء، يتخيلون أنهم قد خرجوا من جنس بني آدم إلا من عصمه الله منهم بالورع، والتواضع؛ وإما أن يكون الخطاب للأولياء، ويكون معنى إسناد الطلاق إليهم أنهم سبب له لكونهم المزوّجين للنساء المطلقات من الأزواج المطلقين لهنّ‏.‏ وبلوغ الأجل المذكور هنا المراد به‏:‏ المعنى الحقيقي، أي‏:‏ نهايته لا كما سبق في الآية الأولى‏.‏ والعضل‏:‏ الحبس‏.‏ وحكى الخليل دجاجة معضلة قد احتبس بيضها‏.‏ وقيل‏:‏ العضل‏:‏ التضييق والمنع، وهو راجع إلى معنى الحبس، يقال أردت أمراً، فعضلتني عنه، أي‏:‏ منعتني، وضيقت عليّ، وأعضل الأمر‏:‏ إذا ضاقت عليك فيه الحيل‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ أصل العضل من قولهم عضلت الناقة‏:‏ إذا نشب ولدها، فلم يسهل خروجه، وعضلت الدجاجة‏:‏ نشب بيضها، وكل مشكل عند العرب معضل، ومنه قول الشافعي رحمه الله‏:‏

إذا المْعضِلاتُ تصدّين لي *** كشفتُ حَقَائِقها بالنظر

ويقال أعضل الأمر‏:‏ إذا اشتد، وداء عُضال‏.‏ أي‏:‏ شديد عسير البرء أعيا الأطباء، وعضل فلان أيمِّه‏:‏ أي‏:‏ منعها يعضلها بالضم، والكسر لغتان‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَن يَنكِحْنَ‏}‏ أي‏:‏ من أن ينكحن، فمحله الجر عند الخليل، والنصب عند سيبويه، والفراء، وقيل‏:‏ هو بدل اشتمال من الضمير المنصوب في قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أزواجهن‏}‏ إن أريد به المطلقون لهنّ، فهو مجاز باعتبار ما كان، وإن أريد به من يردْن أن يتزوّجنه، فهو مجاز باعتبار ما سيكون‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما فصل من الأحكام، وإنما أفرد مع كون المذكور قبله جمعاً حملاً على معنى الجمع بتأويله بالفريق، ونحوه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ محمول على لفظ الجمع، خالف سبحانه ما بين الإشارتين افتناناً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أزكى‏}‏ أي‏:‏ أنمى وأنفع‏:‏ ‏{‏وَأَطْهَرُ‏}‏ من الأدناس ‏{‏والله يَعْلَمُ‏}‏ ما لكم فيه الصلاح ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك‏.‏

وقد أخرج البخاري، وأهل السنن، وغيرهم عن مَعْقِل بن يسار؛ قال‏:‏ كانت لي أخت، فأتاني ابن عم، فأنكحتها إياه، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة، فَهَويِهَا، وهويتَه، ثم خطبها مع الخُطَّاب فقلت له‏:‏ يا لكع أكرمتك بها، وزوّجتكها، فطلقتها، ثم جئت تخطبها، والله لا ترجع إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء‏}‏ الآية، قال‏:‏ ففيَّ نزلت هذه الآية، فكفَّرْتُ عن يميني، وأنكحتها إياه‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس قال‏:‏ نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة، أو طلقتين، فتنقضي عدّتها، ثم يبدو له تزويجها، وأن يراجعها، وتريد المرأة ذلك، فمنعها وليها من ذلك، فنهى الله أن يمنعوها‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن السدّي قال‏:‏ نزلت هذه الآية في جابر بن عبد الله الأنصاري، كانت له ابنة عم، فطلقها زوجها تطليقة، وانقضت عدّتها، فأراد مراجعتها فأبى جابر، فقال‏:‏ طلقت بنت عمنا، ثم تريد أن تنكحها الثانية‏؟‏ وكانت المرأة تريد زوجها، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل‏:‏ ‏{‏إِذَا تراضوا بَيْنَهُم بالمعروف‏}‏ يعني بمهر، وبينة، ونكاح مؤتنف‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن مردويه، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنكحوا الأيامى،» فقال رجل‏:‏ يا رسول الله ما العلائق بينهم‏؟‏ قال‏:‏ «ما تراضى عليه أهلهنّ»‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن الضحاك قال‏:‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ قال‏:‏ الله يعلم من حبّ كل واحد منهما لصاحبه ما لا تعلم أنت أيها الوليّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏233‏]‏

‏{‏وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏233‏)‏‏}‏

لما ذكر الله سبحانه النكاح والطلاق، ذكر الرضاع؛ لأن الزوجين قد يفترقان، وبينهما ولد، ولهذا قيل‏:‏ إن هذا خاص بالمطلقات‏.‏ وقيل‏:‏ هو عام‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يُرْضِعْنَ‏}‏ قيل‏:‏ هو خبر في معنى الأمر للدلالة على تحقق مضمونه، وقيل‏:‏ هو خبر على بابه ليس هو في معنى الأمر على حسب ما سلف في قوله‏:‏ ‏{‏يَتَرَبَّصْنَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كَامِلَيْنِ‏}‏ تأكيد للدلالة على أن هذا التقدير تحقيقي لا تقريبي‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة‏}‏ أي‏:‏ ذلك لمن أراد أن يتم الرضاعة، وفيه دليل على أن إرضاع الحولين ليس حتماً، بل هو التمام، ويجوز الاقتصار على ما دونه‏.‏ وقرأ مجاهد، وابن محيصن‏:‏ «لمن أراد أن تتم» بفتح التاء، ورفع الرضاعة على إسناد الفعل إليها‏.‏ وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة، والجارود ابن أبي سَبْرَة بكسر الراء من الرضاعة، وهي لغة‏.‏ وروي عن مجاهد أنه قرأ‏:‏ ‏"‏ الرضعة ‏"‏، وقرأ ابن عباس‏:‏ «لمن أراد أن يكمل الرضاعة»‏.‏ قال النحاس‏:‏ لا يعرف البصريون الرضاعة إلا بفتح الراء‏.‏ وحكى الكوفيون جواز الكسر‏.‏ والآية تدل على وجوب الرضاع على الأم لولدها، وقد حُمِل ذلك على ما إذا لم يقبل الرضيع غيرها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ على الأب الذي يولد له، وآثر هذا اللفظ دون قوله‏:‏ وعلى الوالد للدلالة على أن الأولاد للآباء لا للأمهات، ولهذا ينسبون إليهم دونهنّ، كأنهنّ إنما ولدن لهم فقط، ذكر معناه في الكشاف، والمراد بالرزق هنا‏:‏ الطعام الكافي المتعارف به بين الناس، والمراد بالكسوة‏:‏ ما يتعارفون به أيضاً، وفي ذلك دليل على وجوب ذلك على الآباء للأمهات المرضعات‏.‏ وهذا في المطلقات، وأما غير المطلقات، فنفقتهنّ، وكسوتهنّ واجبة على الأزواج من غير إرضاعهنّ لأولادهنّ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ هو‏:‏ تقييد لقوله‏:‏ ‏{‏بالمعروف‏}‏ أي‏:‏ هذه النفقة، والكسوة الواجبتان على الأب بما يتعارفه الناس لا يكلف منها إلا ما يدخل تحت وسعه وطاقته لا ما يشق عليه، ويعجز عنه، وقيل‏:‏ المراد‏:‏ لا تكلف المرأة الصبر على التقتير في الأجرة، ولا يكلف الزوج ما هو إسراف، بل يراعي القصد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تُضَارَّ‏}‏ قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وجماعة ورواه أبان عن عاصم بالرفع على الخبر‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم في المشهور عنه‏:‏ «تضار» بفتح الراء المشدّدة على النهي، وأصله‏:‏ لا تضار، أو لا تضارر على البناء للفاعل، أو المفعول‏:‏ أي‏:‏ لا تضارر الأب بسبب الولد بأن تطلب منه ما لا يقدر عليه من الرزق، والكسوة، أو بأن تفرط في حفظ الولد، والقيام بما يحتاج إليه، ولا تضارر من زوجها بأن يقصر عليها في شيء مما يجب عليه، أو ينتزع ولدها منها بلا سبب، وهكذا قراءة الرفع تحتمل الوجهين‏.‏

وقرأ عمر بن الخطاب‏:‏ «لا تضارر» على الأصل بفتح الراء الأولى؛ وقرأ أبو جعفر بن القعقاع‏:‏ «لا تضار» بإسكان الراء، وتخفيفها، وروى عنه الإسكان، والتشديد‏.‏ وقرأ الحسن، وابن عباس‏:‏ «لا تضارر» بكسر الراء الأولى؛ ويجوز أن تكون الباء في قوله‏:‏ بولده، صلة لقوله تضارّ على أنه بمعنى تضر‏.‏ أي‏:‏ لا تضرّ والدة بولدها، فتسيء تربيته، أو تقصر في غذائه، وأضيف الولد تارة إلى الأب، وتارة إلى الأم، لأن كل واحد منهما يستحق أن ينسب إليه مع ما في ذلك من الاستعطاف، وهذه الجملة تفصيل للجملة التي قبلها وتقريرها‏.‏ أي‏:‏ لا يكلف كل واحد منهما الآخر ما لا يطيقه، فلا تضاره بسبب ولده‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الوارث‏}‏ هو‏:‏ معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏وَعلَى المولود لَهُ‏}‏ وما بينهما تفسير للمعروف، أو تعليل له معترض بين المعطوف، والمعطوف عليه‏.‏ واختلف أهل العلم في معنى قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك‏}‏ فقيل‏:‏ هو وارث الصبي‏:‏ أي‏:‏ إذا مات المولود له كان على وارث هذا الصبي المولود إرضاعه كما كان يلزم أباه ذلك، قاله عمر بن الخطاب، وقتادة، والسدّي، والحسن، ومجاهد، وعطاء، وأحمد، وإسحاق، وأبو حنيفة، وابن أبي ليلى على خلاف بينهم، هل يكون الوجوب على من يأخذ نصيباً من الميراث، أو على الذكور فقط، أو على كل ذي رحم له، وإن لم يكن، وارثاً منه، وقيل‏:‏ المراد بالوارث‏:‏ وارث الأب تجب عليه نفقة المرضعة، وكسوتها بالمعروف، قاله الضحاك‏.‏ وقال مالك في تفسير هذه الآية بمثل ما قاله الضحاك، ولكنه قال‏:‏ إنها منسوخة، وإنها لا تلزم الرجل نفقة أخ، ولا ذي قرابة، ولا ذي رحم منه، وشرطه الضحاك بأن لا يكون للصبيّ مال، فإن كان له مال أخذت أجرة رضاعه من ماله‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ بالوارث المذكور في الآية هو‏:‏ الصبي نفسه‏.‏ أي‏:‏ عليه من ماله إرضاع نفسه إذا مات أبوه، وورث من ماله، قاله قبيصة بن ذؤيب، وبشير بن نصر قاضي عمر بن عبد العزيز‏.‏ وروي عن الشافعي، وقيل‏:‏ هو الباقي من والدي المولود بعد موت الآخر منهما، فإذا مات الأب كان على الأم كفاية الطفل، إذا لم يكن له مال، قاله سفيان الثوري،

وقيل‏:‏ إن معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك‏}‏ أي‏:‏ وارث المرضعة يجب عليه أن يصنع بالمولود كما كانت الأم تصنعه به من الرضاع، والخدمة، والتربية‏.‏ وقيل‏:‏ إن معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك‏}‏ أنه يحرم عليه الإضرار بالأم كما يحرم على الأب، وبه قالت طائفة من أهل العلم، قالوا‏:‏ وهذا هو الأصل، فمن ادّعى أنه يرجع فيه العطف إلى جميع ما تقدم، فعليه الدليل‏.‏

قال القرطبي‏:‏ وهو الصحيح، إذ لو أراد الجميع الذي هو‏:‏ الرضاع، والإنفاق، وعدم الضرر يقال‏:‏ وعلى الوارث مثل هؤلاء، فدل على أنه معطوف على المنع من المضارّة، وعلى ذلك تأوّله كافة المفسرين فيما حكى القاضي عبد الوهاب‏.‏ قال ابن عطية، وقال مالك، وجميع أصحابه، والشعبي، والزهري، والضحاك، وجماعة من العلماء‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏مثل ذلك‏}‏ ألاّ تضارّ‏.‏ وأما الرزق، والكسوة، فلا يجب شيء منه‏.‏ وحكى ابن القاسم، عن مالك، مثل ما قدمنا عنه، في تفسير هذه الآية، ودعوى النسخ‏.‏ ولا يخفى عليك ضعف ما ذهبت إليه هذه الطائفة، فإن ما خصصوا به معنى قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك‏}‏ من ذلك المعنى‏.‏ أي‏:‏ عدم الإضرار بالمرضعة قد أفاده قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا‏}‏ لصدق ذلك على كل مضارّة ترد عليها من المولود له، أو غيره‏.‏ وأما قول القرطبي‏:‏ لو أراد الجميع لقال مثل هؤلاء، فلا يخفى ما فيه من الضعف البيّن، فإن اسم الإشارة يصلح للمتعدد كما يصلح للواحد بتأويل المذكور، أو نحوه‏.‏ وأما ما ذهب إليه أهل القول الأوّل من أن المراد بالوارث‏:‏ وارث الصبيّ، فيقال عليه إن لم يكن وارثاً حقيقة مع وجود الصبيّ حياً، بل هو وارث مجازاً باعتبار ما يئول إليه‏.‏ وأما ما ذهب إليه أهل القول الثاني، فهو وإن كان فيه حمل الوارث على معناه الحقيقي، لكن في إيجاب النفقة عليه مع غنى الصبيّ ما فيه، ولهذا قيده القائل به بأن يكون الصبي فقيراً، ووجه الاختلاف في تفسير الوارث ما تقدّم من ذكر الوالدات، والمولود له والولد، فاحتمل أن يضاف الوارث إلى كل منهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً‏}‏ الضمير للوالدين‏.‏ والفصال‏:‏ الفطام عن الرضاع‏.‏ أي‏:‏ التفريق بين الصبيّ، والثدي، ومنه سمي الفصيل؛ لأنه مفصول عن أمه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا‏}‏ أي‏:‏ صادراً عن تراض من الأبوين إذا كان الفصال قبل الحولين‏:‏ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا‏}‏ في ذلك الفصال‏.‏ سبحانه لما بين أن مدّة الرضاع حولين كاملين قيد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة‏}‏ وظاهره أن الأب وحده إذا أراد أن يفصل الصبيّ قبل الحولين كان ذلك جائزاً له، وهنا اعتبر سبحانه تراضي الأبوين وتشاورهما فلا بدّ من الجمع بين الأمرين‏:‏ بأن يقال إن الإرادة المذكورة في قوله‏:‏ ‏{‏لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة‏}‏ لا بدّ أن تكون منهما، أو يقال‏:‏ إن تلك الإرادة إذا لم يكن الأبوان للصبيّ حيين بأن كان الموجود أحدها، أو كانت المرضعة للصبي ظئراً غير أمه‏.‏ والتشاور‏:‏ استخراج الرأي يقال‏:‏ شُرْتُ العسل‏:‏ استخرجته، وشُرْتُ الدابة‏:‏ أجريتها لاستخراج جريها، فلا بدّ لأحد الأبوين إذا أراد فصال الرضيع أن يراضي الآخر، ويشاوره حتى يحصل الاتفاق بينهما على ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ التقدير أن تسترضعوا لأولادكم غير الوالدة‏.‏ وعن سيبويه أنه حذف اللام؛ لأنه يتعدّى إلى مفعولين، والمفعول الأول محذوف، والمعنى‏:‏ أن تسترضعوا المراضع أولادكم ‏{‏إذا سلمتم ما آتيتم‏}‏ بالمدّ، أي‏:‏ أعطيتم، وهي قراءة الجماعة إلا ابن كثير، فإنه قرأ بالقصر‏.‏ أي‏:‏ فعلتم، ومنه قول زهير‏:‏

وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرِ أتَوْه فَإنَّما *** توارثَه آباءُ آبائهم قَبْلُ

والمعنى أنه لا بأس عليكم أن تسترضعوا أولادكم غير أمهاتهم إذا سلمتم إلى الأمهات أجرهنّ بحساب ما قد أرضعن لكم، إلى وقت إرادة الاسترضاع، قاله سفيان الثوري، ومجاهد‏.‏ وقال قتادة، والزهري‏:‏ إن معنى الآية‏:‏ إذا سلمتم ما آتيتم من إرادة الاسترضاع أي‏:‏ سلم كل واحد من الأبوين ورضي، وكان ذلك عن اتفاق منهما، وقصد خير وإرادة معروف من الأمر، وعلى هذا، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏سَلَّمْتُم‏}‏ عاماً للرجال، والنساء تغليباً، وعلى القول الأول الخطاب للرجال فقط، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ إذا سلمتم لمن أردتم استرضاعها أجرها، فيكون المعنى إذا سلمتم ما أردتم إيتاءه‏.‏ أي‏:‏ إعطاءه إلى المرضعات بالمعروف، أي‏:‏ بما يتعارفه الناس من أجر المرضعات من دون مماطلة لهنّ، أو حط بعض ما هو لهنّ من ذلك، فإن عدم توفير أجرهنّ يبعثهنّ على التساهل بأمر الصبيّ، والتفريط في شأنه‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن‏}‏ قال‏:‏ المطلقات ‏{‏حَوْلَيْنِ‏}‏ قال‏:‏ سنتين ‏{‏لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا‏}‏ يقول‏:‏ لا تأبى أن ترضعه ضراراً لتشق على أبيه ‏{‏وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ‏}‏ يقول‏:‏ ولا يضارّ الوالد بولده، فيمنع أمه أن ترضعه ليحزنها بذلك ‏{‏وَعَلَى الوارث‏}‏ قال‏:‏ يعني الوليّ من كان ‏{‏مِثْلُ ذلك‏}‏ قال‏:‏ النفقة بالمعروف، وكفالته، ورضاعه إن لم يكن للمولود مال، وأن لا تضارّ أمه ‏{‏فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ‏}‏ قال‏:‏ غير مسيئين في ظلم أنفسهما، ولا إلى صبيهما، فلا جناح عليهما ‏{‏وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم‏}‏ قال‏:‏ خيفة الضيعة على الصبيّ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ‏}‏ قال‏:‏ حساب ما أرضع به الصبيّ‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في تفسير هذه الآية أنه قال‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏إذا سلمتم ما آتيتم‏}‏ هي في الرجل يطلق امرأته، وله منها ولد‏.‏ وقال في قوله‏:‏ ‏{‏والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن حَوْلَيْنِ‏}‏ قال‏:‏ ما أعطيتم الظئر من فضل على أجرها‏.‏

وأخرج أبو داود في ناسخه، عن زيد بن أسلم في قوله‏:‏ ‏{‏والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن‏}‏ قال‏:‏ إنها المرأة تطلق، أو يموت عنها زوجها‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس في التي تضع لستة أشهر؛ أنها ترضع حولين كاملين، وإذا وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهراً لتمام ثلاثين شهراً، وإذا وضعت لتسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهراً، ثم تلا‏:‏

‏{‏وَحَمْلُهُ وفصاله ثَلاَثُونَ شَهْراً‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 15‏]‏ وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف‏}‏ قال‏:‏ على قدر الميسرة‏.‏ وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن أبي حاتم، عن زيد بن أسلم في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ‏}‏ ليس لها أن تلقي ولدها عليه، ولا يجد من يرضعه، وليس له أن يضارها، فينتزع منها ولدها، وهي تحب أن ترضعه ‏{‏وَعَلَى الوارث‏}‏ قال‏:‏ هو وليّ الميت‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطاء، وإبراهيم، والشعبي في قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الوارث‏}‏ قال‏:‏ هو وارث الصبي ينفق عليه‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن قتادة نحوه، وزاد‏:‏ إذا كان المولود لا مال له، مثل الذي على والده من أجر الرضاع‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن الحسن نحوه‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن ابن سيرين نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن قبيصة بن ذؤيب في قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك‏}‏ قال‏:‏ هو الصبيّ‏.‏ وأخرج وكيع عن عبد الله بن مُغَفَّل نحوه‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك‏}‏ قال‏:‏ لا يضارّ‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الضحاك‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً‏}‏ قال‏:‏ الفطام‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد؛ قال‏:‏ التشاور فيما دون الحولين ليس لها أن تفطمه إلا أن يرضى، وليس له أن يفطمه إلا أن ترضى‏.‏ وأخرجوا أيضاً عن عطاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم‏}‏ قال‏:‏ أمه أو غيرها ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم‏}‏ قال‏:‏ إذا سلمت لها أجرها ‏{‏مَّا ءاتَيْتُم‏}‏ ما أعطيتم‏.‏