فصل: سورة الإنسان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


سورة الإنسان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 12‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ‏(‏1‏)‏ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏2‏)‏ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ‏(‏3‏)‏ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ‏(‏5‏)‏ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ‏(‏6‏)‏ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ‏(‏7‏)‏ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ‏(‏8‏)‏ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ‏(‏9‏)‏ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ‏(‏10‏)‏ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ‏(‏11‏)‏ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

حكى الواحدي عن المفسرين، وأهل المعاني أن ‏{‏هَلُ‏}‏ هنا بمعنى قد، وليس باستفهام، وقد قال بهذا سيبويه، والكسائي، والفراء، وأبو عبيدة‏.‏ قال الفراء‏:‏ هل تكون جحداً، وتكون خبراً، فهذا من الخبر؛ لأنك تقول‏:‏ هل أعطيتك تقرّره بأنك أعطيته، والجحد أن تقول‏:‏ هل يقدر أحد على مثل هذا وقيل‏:‏ هي وإن كانت بمعنى قد، ففيها معنى الاستفهام، والأصل‏:‏ أهل أتى، فالمعنى‏:‏ أقد أتى، والاستفهام للتقرير والتقريب، والمراد بالإنسان هنا آدم، قاله قتادة، والثوري، وعكرمة، والسديّ وغيرهم ‏{‏حِينٌ مّنَ الدهر‏}‏ قيل‏:‏ أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح‏.‏ وقيل‏:‏ إنه خلق من طين أربعين سنة، ثم من حمأ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة‏.‏ وقيل‏:‏ الحين المذكور هنا لا يعرف مقداره‏.‏ وقيل المراد بالإنسان بنو آدم، والحين مدّة الحمل، وجملة‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً‏}‏ في محل نصب على الحال من الإنسان، أو في محل رفع صفة لحين‏.‏ قال الفراء، وقطرب، وثعلب‏:‏ المعنى أنه كان جسداً مصوّراً تراباً وطيناً لا يذكر، ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه، ولا ما يراد به، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكوراً‏.‏ وقال يحيى بن سلام‏:‏ لم يكن شيئًا مذكوراً في الخلق، وإن كان عند الله شيئًا مذكوراً‏.‏ وقيل‏:‏ ليس المراد بالذكر هنا الإخبار، فإن إخبار الربّ عن الكائنات قديم، بل هو الذكر بمعنى الخطر والشرف، كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏‏.‏ قال القشيري‏:‏ ما كان مذكوراً للخلق وإن كان مذكوراً لله سبحانه‏.‏ قال الفراء‏:‏ كان شيئًا ولم يكن مذكوراً‏.‏ فجعل النفي متوجهاً إلى القيد‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ قد مضت أزمنة وما كان آدم شيئًا، ولا مخلوقاً ولا مذكوراً لأحد من الخليقة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره‏:‏ هل أتى حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكوراً؛ لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله، ولم يخلق بعده حيوان‏.‏

‏{‏إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ‏}‏ المراد بالإنسان هنا‏:‏ ابن آدم‏.‏ قال القرطبي‏:‏ من غير خلاف، والنطفة‏:‏ الماء الذي يقطر، وهو المنيّ، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة، وجمعها نطف، و‏{‏أَمْشَاجٍ‏}‏ صفة لنطفة، وهي جمع مشج أو مشيج، وهي الأخلاط، والمراد‏:‏ نطفة الرجل ونطفة المرأة واختلاطهما‏.‏ يقال‏:‏ مشج هذا بهذا، فهو ممشوج، أي‏:‏ خلط هذا بهذا فهو مخلوط‏.‏ قال المبرد‏:‏ مشج يمشج إذا اختلط، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم‏.‏ قال رؤبة بن العجاج‏:‏

يطرحن كل معجل مشاج *** لم يكس جلداً من دم أمشاج

قال الفراء‏:‏ أمشاج‏:‏ اختلاط ماء الرجل وماء المرأة، والدم والعلقة، ويقال مشج هذا‏:‏ إذا خلط‏.‏

وقيل الأمشاج‏:‏ الحمرة في البياض والبياض في الحمرة‏.‏ قال القرطبي‏:‏ وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة‏.‏ قال الهذلي‏:‏

كأن الريش والفوقين منه *** حلاف النصل نيط به مشيج

وذلك لأن ماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، فيخلق منهما الولد‏.‏ قال ابن السكيت‏:‏ الأمشاج‏:‏ الأخلاط لأنها ممتزجة من أنواع يخلق الإنسان منها وطباع مختلفة‏.‏ وقيل‏:‏ الأمشاج لفظ مفرد كبرمة أعشار، ويؤيد هذا وقوعه نعتاً لنطفة، وجملة‏:‏ ‏{‏نَّبْتَلِيهِ‏}‏ في محل نصب على الحال من فاعل خلقنا، أي‏:‏ مريدين ابتلاءه، ويجوز أن يكون حالاً من الإنسان، والمعنى‏:‏ نبتليه بالخير والشرّ وبالتكاليف‏.‏ قال الفراء‏:‏ معناه والله أعلم ‏{‏جعلناه سَمِيعاً بَصِيراً‏}‏ نبتليه، وهي‏:‏ مقدّمة معناها التأخير؛ لأن الابتلاء لا يقع إلاّ بعد تمام الخلقة، وعلى هذا تكون هذه الحال مقدّرة‏.‏ وقيل‏:‏ مقارنة‏.‏ وقيل‏:‏ معنى الابتلاء‏:‏ نقله من حال إلى حال على طريقة الاستعارة، والأوّل أولى‏.‏

ثم ذكر سبحانه أنه أعطاه ما يصحّ معه الابتلاء، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا هديناه السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً‏}‏ أي‏:‏ بينا له، وعرّفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشرّ، كما في قوله‏:‏ ‏{‏وهديناه النجدين‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 10‏]‏ قال مجاهد‏:‏ أي بينا السبيل إلى الشقاء والسعادة‏.‏ وقال الضحاك، والسديّ، وأبو صالح‏:‏ السبيل هنا خروجه من الرحم‏.‏ وقيل‏:‏ منافعه ومضارّه التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله، وانتصاب ‏{‏شاكراً‏}‏ و‏{‏كفوراً‏}‏ على الحال من مفعول، ‏{‏هديناه‏}‏ أي‏:‏ مكناه من سلوك الطريق في حالتيه جميعاً‏.‏ وقيل‏:‏ على الحال من سبيل على المجاز، أي‏:‏ عرّفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً‏.‏ وحكى مكيّ عن الكوفيين أن قوله‏:‏ ‏{‏إمّا‏}‏ هي إن شرطية زيدت بعدها ما، أي‏:‏ بينا له الطريق إن شكر وإن كفر‏.‏ واختار هذا الفرّاء، ولا يجيزه البصريون؛ لأن إن الشرطية لا تدخل على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل، ولا يصح هنا إضمار الفعل؛ لأنه كان يلزم رفع ‏{‏شاكراً‏}‏ و‏{‏كفوراً‏}‏‏.‏ ويمكن أن يضمر فعل ينصب شاكراً وكفوراً، وتقديره‏:‏ إن خلقناه شاكراً فشكور، وإن خلقناه كافراً فكفور، وهذا على قراءة الجمهور‏:‏ ‏{‏إما شاكراً وإما كفوراً‏}‏ بكسر همزة إما‏.‏ وقرأ أبو السماك، وأبو العجاج بفتحها، وهي على الفتح إما العاطفة في لغة بعض العرب، أو هي التفصيلية، وجوابها مقدّر‏.‏ وقيل‏:‏ انتصب شاكراً وكفوراً بإضمار كان، والتقدير‏:‏ سواء كان شاكراً أو كان كفوراً‏.‏

ثم بيّن سبحانه ما أعدّ للكافرين فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سلاسل وأغلالا وَسَعِيراً‏}‏ قرأ نافع، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وهشام عن ابن عامر‏:‏ «سلاسلاً» بالتنوين، ووقف قنبل عن ابن كثير، وحمزة بغير ألف، والباقون وقفوا بالألف‏.‏ ووجه من قرأ بالتنوين في سلاسل مع كون فيه صيغة منتهى الجموع أنه قصد بذلك التناسب؛ لأن ما قبله وهو‏:‏ ‏{‏إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً‏}‏، وما بعده وهو‏:‏ ‏{‏أغلالا وَسَعِيراً‏}‏ منوّن، أو على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف، كما حكاه الكسائي، وغيره من الكوفيين عن بعض العرب‏.‏

قال الأخفش‏:‏ سمعنا من العرب من يصرف كل ما لا ينصرف؛ لأن الأصل في الأسماء الصرف، وترك الصرف لعارض فيها‏.‏ قال الفراء‏:‏ هو على لغة من يجرّ الأسماء كلها إلاّ قولهم‏:‏ هو أظرف منك، فإنهم لا يجرّونه، وأنشد ابن الأنباري في ذلك قول عمرو بن كلثوم‏:‏

كأن سيوفنا فينا وفيهم *** مخاريق بأيدي لاعبينا

ومن ذلك قول الشاعر‏:‏

وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم *** خضع الرقاب نواكس الأبصار

بكسر السين من نواكس، وقول لبيد‏:‏

وحسور أستار دعوني لحتفها *** بمعالق متشابه أعلاقها

وقوله أيضاً‏:‏

فضلاً وذو كرم يعين على الندى *** سمح لشوب رغائب غنامها

وقيل‏:‏ إن التنوين لموافقة رسم المصاحف المكية والمدنية والكوفية فإنها فيها بالألف‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا التنوين بدل من حرف الإطلاق، ويجري الوصل مجرى الوقف، والسلاسل قد تقدّم تفسيرها، والخلاف فيها هل هي القيود، أو ما يجعل في الأعناق، كما في قول الشاعر‏:‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ولكن *** أحاطت بالرقاب السلاسل والأغلال

جمع غلّ تغلّ به الأيدي إلى الأعناق‏.‏ والسعير‏:‏ الوقود الشديد، وقد تقدّم تفسير السعير، ثم ذكر سبحانه ما أعدّه للشاكرين، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ‏}‏ الأبرار‏:‏ أهل الطاعة والإخلاص، والصدق، جمع برّ أو بارّ‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ جمع البرّ الأبرار، وجمع البارّ البررة، وفلان يبرّ خالقه ويبرره، أي‏:‏ يطيعه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ البرّ الذي لا يؤذي الذر‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الأبرار الذين يؤدون حق الله ويوفون بالنذر‏.‏ والكأس في اللغة هو الإناء الذي فيه الشراب، وإذا لم يكن فيه الشراب لم يسمّ كأساً، ولا وجه لتخصيصه بالزجاجة، بل يكون من الزجاج ومن الذهب والفضة والصيني وغير ذلك، وقد كانت كاسات العرب من أجناس مختلفة، وقد يطلق الكأس على نفس الخمر، كما في قول الشاعر‏:‏

وكأس شربت على لذة *** وأخرى تداويت منها بها

‏{‏كَانَ مِزَاجُهَا كافورا‏}‏ أي‏:‏ يخالطها، وتمزج به، يقال‏:‏ مزجه يمزجه مزجاً، أي‏:‏ خلطه يخلطه خلطاً، ومنه قول الشاعر‏:‏

كأن سبية من بيت رأس *** كان مزاجها عسل وماء

ومنه قول عمرو بن كلثوم‏:‏

صددت الكأس عنا أمّ عمرو *** وكان الكأس مجراها اليمينا

معتقة كأن الخصّ فيها *** إذا ما الماء خالطها سخينا

ومنه مزاج البدن، وهو ما يمازجه من الأخلاط، والكافور قيل‏:‏ هو اسم عين في الجنة يقال لها‏:‏ الكافوري تمزج خمر الجنة بماء هذه العين‏.‏ وقال قتادة، ومجاهد‏:‏ تمزج لهم بالكافور وتختم لهم بالمسك‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ مزاجها طعمها‏.‏ وقيل‏:‏ إنما الكافور في ريحها لا في طعمها‏.‏ وقيل‏:‏ إنما أراد الكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده، لأن الكافور لا يشرب، كما في قوله‏:‏

‏{‏حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 96‏]‏ أي‏:‏ كنار‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ طيبها المسك والكافور والزنجبيل‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ليس هو كافور الدنيا، وإنما سمى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي له القلوب، والجملة في محل جرّ صفة لكأس‏.‏ وقيل‏:‏ إن كان هنا زائدة أي‏:‏ من كأس مزاجها كافوراً‏.‏

‏{‏عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله‏}‏ انتصاب ‏{‏عيناً‏}‏ على أنها بدل من ‏{‏كافوراً‏}‏؛ لأن ماءها في بياض الكافور‏.‏ وقال مكي‏:‏ إنها بدل من محل ‏{‏مِن كَأْسٍ‏}‏ على حذف مضاف كأنه قيل‏:‏ يشربون خمراً خمر عين‏.‏ وقيل‏:‏ إنها منتصبة على أنها مفعول يشربون أي‏:‏ عيناً من كأس، وقيل‏:‏ هي منتصبة على الاختصاص، قاله الأخفش‏.‏ وقيل‏:‏ منتصبة بإضمار فعل يفسره ما بعده، أي‏:‏ يشربون عيناً يشرب بها عباد الله، والأوّل أولى، وتكون جملة ‏{‏يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله‏}‏ صفة ل ‏{‏عيناً‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن الباء في ‏{‏يَشْرَبُ بِهَا‏}‏ زائدة‏.‏ وقيل‏:‏ بمعنى من قاله الزجاج، ويعضده قراءة ابن أبي عبلة يشربها عباد الله‏.‏ وقيل‏:‏ إن يشرب مضمن معنى يلتذّ‏.‏ وقيل‏:‏ هي متعلقة ب ‏{‏يشرب‏}‏، والضمير يعود إلى الكأس‏.‏ وقال الفراء‏:‏ يشربها ويشرب بها سواء في المعنى، وكأنّ يشرب بها يروى بها، وينتفع بها وأنشد قول الهذلي‏:‏

شربن بماء البحر ثم ترفعت *** قال‏:‏ ومثله تكلم بكلام حسن، وتكلم كلاماً حسناً ‏{‏يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً‏}‏ أي‏:‏ يجرونها إلى حيث يريدون، وينتفعون بها كما يشاءون، ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان يريدون وصوله إليه، فهم يشقونها شقاً، كما يشقّ النهر ويفجر إلى هنا وهنا‏.‏ قال مجاهد‏:‏ يقودونها حيث شاءوا، وتتبعهم حيث مالوا مالت معهم، والجملة صفة أخرى ل ‏{‏عيناً‏}‏، وجملة ‏{‏يُوفُونَ بالنذر‏}‏ مستأنفة مسوقة لبيان ما لأجله رزقوا ما ذكر، وكذا ما عطف عليها، ومعنى النذر في اللغة‏:‏ الإيجاب، والمعنى‏:‏ يوفون بما أوجبه الله عليهم من الطاعات‏.‏ قال قتادة، ومجاهد‏:‏ يوفون بطاعة الله من الصلاة والحج ونحوهما‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ يوفون إذا نذروا في حق الله سبحانه، والنذر في الشرع ما أوجبه المكلف على نفسه، فالمعنى‏:‏ يوفون بما أوجبوه على أنفسهم‏.‏ قال الفراء‏:‏ في الكلام إضمار، أي‏:‏ كانوا يوفون بالنذر في الدنيا‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يوفون بالعهد، أي‏:‏ يتممون العهد‏.‏ والأولى حمل النذر هنا على ما أوجبه العبد على نفسه من غير تخصيص ‏{‏ويخافون يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً‏}‏ المراد يوم القيامة، ومعنى استطارة شرّه‏:‏ فشوّه وانتشاره، يقال‏:‏ استطار يستطير استطارة، فهو مستطير، وهو استفعل من الطيران، ومنه قول الأعشى‏:‏

فباتت وقد أثارت في الفؤا *** د صدعاً على نأيها مستطيرا

والعرب تقول‏:‏ استطار الصدع في القارورة والزجاجة‏:‏ إذا امتدّ، ويقال استطار الحريق‏:‏ إذا انتشر‏.‏ قال الفراء‏:‏ المستطير المستطيل‏.‏ قال قتادة‏:‏ استطار شرّ ذلك اليوم حتى ملأ السماوات، والأرض‏.‏

قال مقاتل‏:‏ كان شرّه فاشياً في السموات، فانشقت وتناثرت الكواكب وفزعت الملائكة، وفي الأرض نسفت الجبال وغارت المياه‏.‏ ‏{‏وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً‏}‏ أي‏:‏ يطعمون هؤلاء الثلاثة الأصناف الطعام على حبه لديهم وقلته عندهم‏.‏ قال مجاهد‏:‏ على قلته، وحبهم إياه وشهوتهم له؛ فقوله‏:‏ ‏{‏على حبه‏}‏ في محل نصب على الحال، أي‏:‏ كائنين على حبه، ومثله قوله‏:‏ ‏{‏لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 92‏]‏ وقيل‏:‏ على حبّ الإطعام لرغبتهم في الخير‏.‏ قال الفضيل بن عياض‏:‏ على حب إطعام الطعام‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في حبه يرجع إلى الله أي‏:‏ يطعمون الطعام على حبّ الله، أي‏:‏ يطعمون إطعاماً كائناً على حبّ الله، ويؤيد هذا قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله‏}‏ والمسكين ذو المسكنة، وهو الفقير، أو من هو أفقر من الفقير، والمراد باليتيم يتامى المسلمين، والأسير الذي يؤسر فيحبس‏.‏ قال قتادة، ومجاهد‏:‏ الأسير المحبوس‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ الأسير العبد‏.‏ وقال أبو حمزة الثمالي‏:‏ الأسير المرأة‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ نسخ هذا الإطعام آية الصدقات، وآية السيف في حق الأسير الكافر‏.‏ وقال غيره‏:‏ بل هي محكمة، وإطعام المسكين واليتيم على التطوّع، وإطعام الأسير لحفظ نفسه إلى أن يتخير فيه الإمام‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله‏}‏ في محل نصب على الحال بتقدير القول، أي‏:‏ يقولون إنما نطعمكم، أو قائلين إنما نطعمكم يعني‏:‏ أنهم لا يتوقعون المكافأة ولا يريدون ثناء الناس عليهم بذلك‏.‏ قال الواحدي‏:‏ قال المفسرون‏:‏ لم يستكملوا بهذا، ولكن علمه الله من قلوبهم فأثنى عليهم، وعلم من ثنائه أنهم فعلوا ذلك خوفاً من الله ورجاء ثوابه ‏{‏لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً‏}‏ أي‏:‏ لا نطلب منكم المجازاة على هذا الإطعام، ولا نريد منكم الشكر لنا، بل هو خالص لوجه الله، وهذه الجملة مقرّرة لما قبلها؛ لأن من أطعم لوجه الله لا يريد المكافأة، ولا يطلب الشكر له ممن أطعمه‏.‏ ‏{‏إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً‏}‏ أي‏:‏ نخاف عذاب يوم متصف بهاتين الصفتين، ومعنى ‏{‏عَبُوساً‏}‏‏:‏ أنه يوم تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته، فالمعنى‏:‏ أنه ذو عبوس‏.‏ قال الفراء، وأبو عبيدة، والمبرد‏:‏ يوم قمطرير وقماطر‏:‏ إذا كان صعباً شديداً، وأنشد الفراء‏:‏

بني عمنا هل تذكرون بلاءنا *** عليكم إذا ما كان يوم قماطر

قال الأخفش‏:‏ القمطرير أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء، ومنه قول الشاعر‏:‏

ففرّوا إذا ما الحرب ثار غبارها *** ولج بها اليوم العبوس القماطر

قال الكسائي‏:‏ اقمطرّ اليوم وازمهرّ‏:‏ إذا كان صعباً شديداً، ومنه قول الشاعر‏:‏

بنو الحرب أوصينا لهم بقمطرة *** ومن يلق منا ذلك اليوم يهرب

وقال مجاهد‏:‏ إن العبوس بالشفتين، والقمطير بالجبهة والحاجبين، فجعلهما من صفات المتغير في ذلك اليوم لما يراه من الشدائد، وأنشد ابن الأعرابي‏:‏

يقدر على الصيد بعود منكسر *** ويقمطر ساعة ويكفهر

قال أبو عبيدة‏:‏ يقال‏:‏ قمطرير، أي‏:‏ منقبض ما بين العينين والحاجبين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال اقمطرت الناقة‏:‏ إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها ورمت بأنفها ما يسبقها من القطر، وجعل الميم مزيدة‏.‏ ‏{‏فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم‏}‏ أي‏:‏ دفع عنهم شرّه بسبب خوفهم منه وإطعامهم لوجهه ‏{‏ولقاهم نَضْرَةً وَسُرُوراً‏}‏ أي‏:‏ أعطاهم بدل العبوس في الكفار نضرة في الوجود وسروراً في القلوب‏.‏ قال الضحاك‏:‏ والنضرة البياض والنقاء في وجوههم‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ والحسن والبهاء‏.‏ وقيل‏:‏ النضرة أثر النعمة‏.‏ ‏{‏وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ‏}‏ أي‏:‏ بسبب صبرهم على التكاليف‏.‏ وقيل‏:‏ على الفقر‏.‏ وقيل‏:‏ على الجوع‏.‏ وقيل‏:‏ على الصوم‏.‏ والأولى حمل الآية على الصبر على كل شيء يكون الصبر عليه طاعة لله سبحانه، و«ما» مصدرية، والتقدير‏:‏ بصبرهم ‏{‏جَنَّةً وَحَرِيراً‏}‏ أي‏:‏ أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير، وهو لباس أهل الجنة عوضاً عن تركه في الدنيا امتثالاً لما ورد في الشرع من تحريمه، وظاهر هذه الآيات العموم في كلّ من خاف من يوم القيامة وأطعم لوجه الله وخاف من عذابه، والسبب وإن كان خاصاً، كما سيأتي، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويدخل سبب التنزيل تحت عمومها دخولاً أوّلياً‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏هَلْ أتى عَلَى الإنسان‏}‏ قال‏:‏ كل إنسان‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏أَمْشَاجٍ‏}‏ قال‏:‏ أمشاجها عروقها‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي حاتم ‏{‏أَمْشَاجٍ‏}‏ قال‏:‏ العروق‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ‏{‏مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ‏}‏ قال‏:‏ ماء الرجل وماء المرأة حين يختلطان‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ ‏{‏أَمْشَاجٍ‏}‏ ألوان‏:‏ نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة خضراء وحمراء‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال‏:‏ الأمشاج الذي يخرج على أثر البول كقطع الأوتار، ومنه يكون الولد‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً ‏{‏كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً‏}‏ قال‏:‏ فاشياً‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَسِيراً‏}‏ قال‏:‏ هو المشرك‏.‏

وأخرج ابن مردويه، وأبو نعيم عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏مِسْكِيناً‏}‏ قال‏:‏ «فقيراً» ‏{‏وَيَتِيماً‏}‏ قال «لا أب له» ‏{‏وَأَسِيراً‏}‏ قال‏:‏ «المملوك والمسجون»‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَيُطْعِمُونَ الطعام‏}‏ الآية قال‏:‏ نزلت هذه الآية في عليّ بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْماً عَبُوساً‏}‏ قال‏:‏ ضيقاً ‏{‏قَمْطَرِيراً‏}‏ قال‏:‏ طويلاً‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً‏}‏ قال‏:‏ «يقبض ما بين الأبصار» وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر من طرق عن ابن عباس قال‏:‏ القمطرير الرجل المنقبض ما بين عينيه ووجهه‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه ‏{‏ولقاهم نَضْرَةً وَسُرُوراً‏}‏ قال‏:‏ نضرة في وجوههم، وسروراً في صدورهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 22‏]‏

‏{‏مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ‏(‏13‏)‏ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ‏(‏14‏)‏ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ ‏(‏15‏)‏ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ‏(‏16‏)‏ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا ‏(‏17‏)‏ عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ‏(‏18‏)‏ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ‏(‏19‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ‏(‏20‏)‏ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ‏(‏21‏)‏ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك‏}‏ منصوب على الحال من مفعول جزاهم، والعامل فيها جزى، ولا يعمل فيها صبروا؛ لأن الصبر إنما كان في الدنيا، وجوّز أبو البقاء أن يكون صفة لجنة‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ وإن شئت جعلت متكئين تابعاً، كأنه قال‏:‏ جزاهم جنة ‏{‏متكئين‏}‏ فيها‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ يجوز أن يكون منصوباً على المدح، والضمير من ‏{‏فيها‏}‏ يعود إلى الجنة، والأرائك‏:‏ السرر في الحجال، وقد تقدّم تفسيرها في سورة الكهف ‏{‏لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً‏}‏ الجملة في محل نصب على الحال من مفعول جزاهم، فتكون من الحال المترادفة، أو من الضمير في متكئين، فتكون من الحال المتداخلة، أو صفة أخرى لجنة، والزمهرير‏:‏ أشدّ البرد، والمعنى‏:‏ أنهم لا يرون في الجنة حرّ الشمس ولا برد الزمهرير، ومنه قول الأعشى‏:‏

منعمة طفلة كالمها *** لم تر شمساً ولا زمهريراً

وقال ثعلب‏:‏ الزمهرير القمر بلغة طيّ، وأنشد لشاعرهم‏:‏

وليلة ظلامها قد اعتكر *** قطعتها والزمهرير ما زهر

ويروى‏.‏ ما ظهر، أي‏:‏ لم يطلع القمر، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة مريم‏.‏ ‏{‏وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظلالها‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏دانية‏}‏ بالنصب عطفاً على محل لا يرون، أو على متكئين، أو صفة لمحذوف، أي‏:‏ وجنة دانية، كأنه قال‏:‏ وجزاهم جنة دانية‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو صفة لجنة المتقدم ذكرها‏.‏ وقال الفرّاء‏:‏ هو منصوب على المدح‏.‏ وقرأ أبو حيوة‏:‏ ‏(‏ودانية‏)‏ بالرفع على أنه خبر مقدّم، وظلالها مبتدأ مؤخر، والجملة في موضع النصب على الحال، والمعنى‏:‏ أن ظلال الأشجار قريبة منهم مظلة عليهم زيادة في نعيمهم، وإن كان لا شمس هنالك‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ شجرها قريب منهم‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ ‏(‏ودانياً عليهم‏)‏‏.‏ ‏{‏وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً‏}‏ معطوف على دانية كأنه قال‏:‏ ومذللة‏.‏ ويجوز أن تكون الجملة في محل نصب على الحال من الضمير في عليهم، ويجوز أن تكون مستأنفة، والقطوف الثمار، والمعنى‏:‏ أنها سخرت ثمارها لمتناوليها تسخيراً كثيراً بحيث يتناولها القائم والقاعد والمضطجع لا يردّ أيديهم عنها بعد ولا شوك‏.‏ قال النحاس‏:‏ المذلل القريب المتناول، ومنه قولهم حائط ذليل، أي‏:‏ قصير‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ ذللت أدنيت، من قولهم حائط ذليل أي‏:‏ كان قصير السمك‏.‏ وقيل‏:‏ ذللت، أي‏:‏ جعلت منقادة لا تمتنع على قطافها كيف شاءوا‏.‏ ‏{‏وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ‏}‏ أي‏:‏ تدور عليهم الخدم إذا أرادوا الشراب بآنية الفضة، والأكواب جمع ركوب، وهو‏:‏ الكوز العظيم الذي لا أذن له ولا عروة، ومنه قول عديّ‏:‏

متكئ تقرع أبوابه *** يسعى عليه العبد بالكوب

وقد مضى تفسيره في سورة الزخرف ‏{‏كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ في وصف القوارير في الصفاء وفي بياض الفضة، فصفاؤها صفاء الزجاج، ولونها لون الفضة‏.‏

قرأ نافع، والكسائي، وأبو بكر‏:‏ ‏(‏قوارير قوارير‏)‏ بالتنوين فيهما مع الوصل، وبالوقف عليهما بالألف، وقد تقدّم وجه هذه القراءة في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏سلاسل‏}‏ ‏[‏الإِنسان‏:‏ 4‏]‏ من هذه السورة، وبيّنا هنالك وجه صرف ما فيه صيغة منتهى الجموع فارجع إليه‏.‏ وقرأ حمزة بعدم التنوين فيهما، وعدم الوقف بالألف، ووجه هذه القراءة ظاهر لأنهما ممتنعان لصيغة منتهى الجموع‏.‏ وقرأ هشام بعدم التنوين فيهما مع الوقف عليهما بالألف، وقرأ ابن كثير بتنوين الأوّل دون الثاني، والوقف على الأوّل بالألف دون الثاني‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وحفص، وابن ذكوان بعدم التنوين فيهما، والوقف على الأوّل بالألف دون الثاني، والجملة في محل جرّ صفة لأكواب‏.‏ قال أبو البقاء‏:‏ وحسن التكرير لما اتصل به من بيان أصلها‏.‏ قال الواحدي‏:‏ قال المفسرون‏:‏ جعل الله قوارير أهل الجنة من فضة، فاجتمع لها بياض الفضة وصفاء القوارير‏.‏ قال الزجاج‏:‏ القوارير التي في الدنيا من الرمل، فأعلم الله فضل تلك القوارير أن أصلها من فضة يرى من خارجها ما في داخلها، وجملة ‏{‏قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً‏}‏ صفة لقوارير‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏قدّروها‏}‏ بفتح القاف على البناء للفاعل، أي‏:‏ قدّرها السقاة من الخدم الذين يطوفون عليهم على قدر ما يحتاج إليه الشاربون من أهل الجنة من دون زياد ولا نقصان‏.‏ قال مجاهد وغيره‏:‏ أتوا بها على قدر ريهم بغير زيادة ولا نقصان‏.‏ قال الكلبي‏:‏ وذلك ألذّ وأشهى‏.‏ وقيل‏:‏ قدّرها الملائكة‏.‏ وقيل‏:‏ قدّرها أهل الجنة الشاربون على مقدار شهواتهم وحاجتهم، فجاءت كما يريدون في الشكل لا تزيد ولا تنقص‏.‏ وقرأ عليّ، وابن عباس، والسلمي، والشعبي، وزيد بن عليّ، وعبيد بن عمير، وأبو عمرو في رواية عنه‏:‏ «قدّروها» بضم القاف، وكسر الدال مبنياً للمفعول، أي‏:‏ جعلت لهم على قدر إرادتهم‏.‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ هو من باب القلب، قال‏:‏ لأن حقيقة المعنى أن يقال‏:‏ قدّرت عليهم لا قدّروها؛ لأنه في معنى قدروا عليها‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ التقدير قدّرت الأواني على قدر ريهم، فمفعول ما لم يسمّ فاعله محذوف‏.‏ قال أبو حيان‏:‏ والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يقال‏:‏ قدّر ريهم منها تقديراً، فحذف المضاف، فصار قدّروها‏.‏ وقال المهدوي‏:‏ إن القراءة الأخيرة يرجع معناها إلى معنى القراءة الأولى، وكأن الأصل قدّروا عليها فحذف حرف الجرّ، كما أنشد سيبويه‏:‏

آليت حبّ العراق الدهر آكله *** والحب يأكله في القرية السوس

أي‏:‏ آليت على حبّ العراق‏.‏ ‏{‏وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً‏}‏ قد تقدّم أن الكأس هو الإناء فيه الخمر، وإذا كان خالياً عن الخمر، فلا يقال له كأس، والمعنى‏:‏ أن أهل الجنة يسقون في الجنة كأساً من الخمر، ممزوجة بالزنجبيل وقد كانت العرب تستلذّ مزج الشراب بالزنجبيل لطيب رائحته‏.‏

وقال مجاهد، وقتادة‏:‏ الزنجبيل اسم للعين التي يشرب بها المقرّبون‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هو زنجبيل لا يشبه زنجبيل الدنيا‏.‏ ‏{‏عَيْناً فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً‏}‏ انتصاب ‏{‏عيناً‏}‏ على أنها بدل من ‏{‏كأساً‏}‏‏.‏ ويجوز أن تكون منصوبة بفعل مقدّر، أي‏:‏ يسقون عيناً، ويجوز أن تكون منصوبة بنزع الخافض، أي‏:‏ من عين، والسلسبيل‏:‏ الشراب اللذيذ، مأخوذ من السلاسة، تقول العرب‏:‏ هذا شراب سلس، وسلسال، وسلسبيل، أي‏:‏ طيب لذيذ‏.‏ قال الزجاج‏:‏ السلسبيل في اللغة اسم لماء في غاية السلاسة حديد الجرية يسوغ في حلوقهم، ومنه قول حسان بن ثابت‏:‏

يسقون من ورد البريص عليهم *** كأساً يصفق بالرحيق السلسل

‏{‏وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ‏}‏ لما فرغ سبحانه من وصف شرابهم ووصف آنيتهم، ووصف السقاة الذين يسقونهم ذلك الشراب، ومعنى ‏{‏مُّخَلَّدُونَ‏}‏‏:‏ باقون على ما هم عليه من الشباب، والطراوة، والنضارة، لا يهرمون، ولا يتغيرون‏.‏ وقيل معنى ‏{‏مُّخَلَّدُونَ‏}‏‏:‏ لا يموتون‏.‏ وقيل‏:‏ التخليد التحلية، أي‏:‏ محلون ‏{‏إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً‏}‏‏:‏ إذا نظرت إليهم ظننتهم لمزيد حسنهم، وصفاء ألوانهم، ونضارة وجوههم لؤلؤاً مفرّقاً‏.‏ قال عطاء‏:‏ يريد في بياض اللون وحسنه، واللؤلؤ إذا نثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظوماً‏.‏ قال أهل المعاني‏:‏ إنما شبّهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة، ولو كانوا صفاً لشبهوا بالمنظوم‏.‏ وقيل‏:‏ إنما شبههم بالمنثور؛ لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين‏.‏ فإنه شبههنّ باللؤلؤ المكنون؛ لأنهنّ لا يمتهنّ بالخدمة‏.‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً‏}‏ أي‏:‏ وإذا رميت ببصرك هناك، يعني‏:‏ في الجنة رأيت نعيماً لا يوصف، وملكاً كبيراً لا يقادر قدره، وثم ظرف مكان، والعامل فيها رأيت‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ في الكلام ما مضمرة، أي‏:‏ وإذا رأيت ما ثم، كقوله‏:‏ ‏{‏لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏ أي‏:‏ ما بينكم‏.‏ قال الزجاج معترضاً على الفراء‏:‏ إنه لا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة، ولكن رأيت يتعدّى في المعنى إلى ثم‏.‏ والمعنى‏:‏ إذا رأيت ببصرك ثم، ويعني بثمّ‏:‏ الجنة‏.‏ قال السديّ‏:‏ النعيم ما يتنعم به، والملك الكبير‏:‏ استئذان الملائكة عليهم، وكذا قال مقاتل، والكلبي‏.‏ وقيل‏:‏ إن رأيت ليس له مفعول ملفوظ، ولا مقدّر ولا منويّ، بل معناه‏:‏ أن بصرك أينما وقع في الجنة رأيت نعيماً وملكاً كبيراً‏.‏

‏{‏عاليهم ثِيَابُ سُندُسٍ‏}‏ قرأ نافع، وحمزة، وابن محيصن‏:‏ ‏(‏عاليهم‏)‏ بسكون الياء وكسر الهاء على أنه خبر مقدّم، وثياب مبتدأ مؤخر، أو على أن عاليهم مبتدأ، وثياب مرتفع بالفاعلية، وإن لم يعتمد الوصف، كما هو مذهب الأخفش‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو مرفوع بالابتداء، وخبره‏:‏ ثياب سندس، واسم الفاعل مراد به الجمع‏.‏ وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الهاء على أنه ظرف في محلّ رفع على أنه خبر مقدّم، وثياب مبتدأ مؤخر، كأنه قيل فوقهم ثياب‏.‏

قال الفرّاء‏:‏ إن عاليهم بمعنى فوقهم، وكذا قال ابن عطية‏.‏ قال أبو حيان‏:‏ عال وعالية اسم فاعل، فيحتاج في كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولاً من كلام العرب، وقد تقدّمه إلى هذا الزجاج وقال‏:‏ هذا مما لا نعرفه في الظروف ولو كان ظرفاً لم يجز إسكان الياء، ولكنه نصب على الحال من شيئين‏:‏ أحدهما الهاء والميم في قوله‏:‏ ‏{‏يَطُوفُ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ على الأبرار ‏{‏ولدان‏}‏ عالياً الأبرار ‏{‏ثِيَابُ سُندُسٍ‏}‏ أي‏:‏ يطوف عليهم في هذه الحال‏.‏ والثاني أن يكون حالاً من الولدان، أي‏:‏ إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً في حال علوّ الثياب أبدانهم‏.‏ وقال أبو عليّ الفارسي‏:‏ العامل في الحال إما لقاهم نضرة وسروراً، وإما جزاهم بما صبروا‏.‏ قال‏:‏ ويجوز أن يكون ظرفاً‏.‏ وقرأ ابن سيرين، ومجاهد، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏(‏عليهم‏)‏، وهي قراءة واضحة المعنى ظاهرة الدلالة‏.‏ واختار أبو عبيد القراءة الأولى لقراءة ابن مسعود‏:‏ ‏(‏عاليتهم‏)‏‏.‏ وقرأ الجمهور بإضافة ثياب إلى سندس‏.‏ وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة بتنوين ثياب، وقطعها عن الإضافة، ورفع سندس، و‏{‏خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ‏}‏ على أن السندس نعت للثياب؛ لأن السندس نوع من الثياب، وعلى أن ‏{‏خضر‏}‏ نعت لسندس؛ لأنه يكون أخضر وغير أخضر، وعلى أن إستبرق معطوف على سندس، أي‏:‏ وثياب إستبرق، والجمهور من القرّاء اختلفوا في خضر وإستبرق مع اتفاقهم على جرّ سندس بإضافة ثياب إليه؛ فقرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم، وابن محيصن بجرّ خضر نعتاً لسندس، ورفع إستبرق عطفاً على ثياب أي‏:‏ عليهم ثياب سندس وعليهم إستبرق‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وابن عامر برفع خضر نعتاً لثياب، وجرّ إستبرق نعت لسندس‏.‏ واختار هذه القراءة أبو حاتم، وأبو عبيد؛ لأن الخضر أحسن ما كانت نعتاً للثياب فهي مرفوعة، والإستبرق من جنس السندس‏.‏ وقرأ نافع، وحفص برفع ‏{‏خضر وإستبرق‏}‏ لأن ‏{‏خضر‏}‏ نعت للثياب، وإستبرق عطف على الثياب‏.‏ وقرأ الأعمش، وحمزة، والكسائي بجرّ ‏(‏خضر وإستبرق‏)‏ على أن ‏{‏خضر‏}‏ نعت للسندس، وإستبرق معطوف على سندس‏.‏ وقرءوا كلهم بصرف إستبرق إلاّ ابن محيصن، فإنه لم يصرفه، قال‏:‏ لأنه أعجمي، ولا وجه لهذا؛ لأنه نكرة إلاّ أن يقول إنه علم لهذا الجنس من الثياب‏.‏ والسندس‏:‏ ما رقّ من الديباج‏.‏ والإستبرق‏:‏ ما غلظ منه، وقد تقدّم تفسيرهما في سورة الكهف‏.‏

‏{‏وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ‏}‏ عطف على ‏{‏يطوف عليهم‏}‏‏.‏ ذكر سبحانه هنا أنهم يحلون بأساور الفضّة، وفي سورة فاطر‏:‏ ‏{‏يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 33‏]‏ وفي سورة الحج‏:‏ ‏{‏يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 23‏]‏ ولا تعارض بين هذه الآيات لإمكان الجمع بأن يجعل لهم سوارات من ذهب وفضة ولؤلؤ، أو بأن المراد أنهم يلبسون سوارات الذهب تارة، وسوارات الفضة تارة، وسوارات اللؤلؤ تارة، أو أنه يلبس كل أحد منه ما تميل إليه نفسه من ذلك، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محلّ نصب على الحال من ضمير عاليهم بتقدير قد ‏{‏وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً‏}‏ هذا نوع آخر من الشراب الذي يمنّ الله عليهم به‏.‏

قال الفرّاء‏:‏ يقول هو طهور ليس بنجس، كما كان في الدنيا موصوفاً بالنجاسة‏.‏ والمعنى‏:‏ أن ذلك الشراب طاهر ليس كخمر الدنيا‏.‏ قال مقاتل‏:‏ هو عين ماء على باب الجنة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غشّ، وغلّ، وحسد‏.‏ قال أبو قلابة، وإبراهيم النخعي‏:‏ يؤتون بالطعام، فإذا كان آخره أتوا بالشراب الطهور، فيشربون فتضمر بطونهم من ذلك، ويفيض عرق من أبدانهم مثل ريح المسك ‏{‏إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَاء‏}‏ أي‏:‏ يقال لهم‏:‏ إن هذا الذي ذكر من أنواع النعم كان لكم جزاء بأعمالكم أي‏:‏ ثواباً لها ‏{‏وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً‏}‏ أي‏:‏ كان عملكم في الدنيا بطاعة الله مرضياً مقبولاً، وشكر الله سبحانه لعمل عبده هو قبوله لطاعته‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال‏:‏ الزمهرير هو البرد الشديد‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اشتكت النار إلى ربها فقالت‏:‏ ربّ أكل بعضي بعضاً، فجعل لها نفسين‏:‏ نفساً في الصيف، ونفساً في الشتاء، فشدّة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدّة ما تجدون في الصيف من الحرّ من سمومها» وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وهناد بن السريّ، وعبد بن حميد، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن البراء بن عازب في قوله‏:‏ ‏{‏وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظلالها‏}‏ قال‏:‏ قريبة ‏{‏وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً‏}‏ قال‏:‏ إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياماً وقعوداً، ومضطجعين وعلى أيّ حال شاءوا‏.‏

وفي لفظ قال‏:‏ ذللت فيتناولون منها كيف شاءوا‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏ءانِيَةٍ مِن فِضَّةٍ‏}‏ وصفاؤها كصفاء القوارير ‏{‏قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً‏}‏ قال‏:‏ قدّرت للكف‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، والبيهقي عنه قال‏:‏ لو أخذت فضة من فضة الدنيا، فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم ير الماء من ورائها، ولكن قوارير الجنة بياض الفضة في صفاء القوارير‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال‏:‏ ليس في الجنة شيء إلاّ وقد أعطيتم في الدنيا شبهه إلاّ قوارير من فضة‏.‏ وأخرج الفريابي عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً‏}‏ قال‏:‏ أتوا بها على قدر الفم لا يفضلون شيئًا، ولا يشتهون بعدها شيئًا‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً‏}‏ قال‏:‏ قدّرتها السقاة‏.‏ وأخرج ابن المبارك، وهناد، وعبد بن حميد، والبيهقي في البعث عن ابن عمرو قال‏:‏ إن أدنى أهل الجنة منزلاً من يسعى عليه ألف خادم كل خادم على عمل ليس عليه صاحبه، وتلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 31‏]‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا ‏(‏23‏)‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا ‏(‏24‏)‏ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏25‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ‏(‏27‏)‏ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ‏(‏28‏)‏ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏29‏)‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏30‏)‏ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرءان تَنزِيلاً‏}‏ أي‏:‏ فرّقناه في الإنزال، ولم ننزله جملة واحدة‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ نزلناه عليك، ولم تأت به من عندك، كما يدّعيه المشركون‏.‏ ‏{‏فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ‏}‏ أي‏:‏ لقضائه، ومن حكمه، وقضائه تأخير نصرك إلى أجل اقتضته حكمته‏.‏ قيل‏:‏ وهذا منسوخ بآية السيف ‏{‏وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً‏}‏ أي‏:‏ لا تطع كل واحد من مرتكب لإثم وغال في كفر، فنهاه الله سبحانه عن ذلك‏.‏ قال الزجاج‏:‏ إن الألف هنا آكد من الواو وحدها؛ لأنك إذا قلت‏:‏ لا تطع زيداً، وعمراً، فأطاع أحدهما كان غير عاص؛ لأنه أمره أن لا يطيع الاثنين، فإذا قال‏:‏ لا تطع منهم آثماً أو كفوراً دلّ ذلك على أن كل واحد منهما أهل أن يعصى، كما أنك إذا قلت‏:‏ لا تخالف الحسن أو ابن سيرين، فقد قلت إنهما أهل أن يتبعا، وكل واحد منهما أهل أن يتبع‏.‏ وقال الفرّاء‏:‏ «أو» هنا بمنزلة لا، كأنه قال‏:‏ ولا كفوراً‏.‏ وقيل المراد بقوله‏:‏ ‏{‏ءاثِماً‏}‏ عتبة بن ربيعة، وبقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ كَفُوراً‏}‏ الوليد بن المغيرة؛ لأنهما قالا للنبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ارجع عن هذا الأمر، ونحن نرضيك بالمال والتزويج‏.‏ ‏{‏واذكر اسم رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً‏}‏ أي‏:‏ دم على ذكره في جميع الأوقات‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ صلّ لربك أوّل النهار وآخره، فأوّل النهار صلاة الصبح، وآخره صلاة العصر‏.‏ ‏{‏وَمِنَ اليل فاسجد لَهُ‏}‏ أي‏:‏ صلّ المغرب والعشاء‏.‏ وقيل‏:‏ المراد الصلاة في بعضه من غير تعيين، ومن للتبعيض على كل تقدير ‏{‏وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً‏}‏ أي‏:‏ نزّهه عما لا يليق به، فيكون المراد‏:‏ الذكر بالتسبيح سواء كان في الصلاة، أو في غيرها‏.‏ وقيل‏:‏ المراد التطوّع في الليل‏.‏ قال ابن زيد، وغيره‏:‏ إن هذه الآية منسوخة بالصلوات الخمس‏.‏ وقيل‏:‏ الأمر للندب‏.‏ وقيل‏:‏ هو مخصوص بالنبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة‏}‏ يعني‏:‏ كفار مكة ومن هو موافق لهم‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم يحبون الدار العاجلة، وهي دار الدنيا، ‏{‏وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً‏}‏ أي‏:‏ يتركون، ويدعون وراءهم، أي‏:‏ خلفهم، أو بين أيديهم وأمامهم يوماً شديداً عسيراً، وهو يوم القيامة، وسمي ثقيلاً لما فيه من الشدائد والأهوال‏.‏ ومعنى كونه يذرونه وراءهم‏:‏ أنهم لا يستعدّون له، ولا يعبئون به، فهم كمن ينبذ الشيء وراء ظهره تهاوناً به، واستخفافاً بشأنه، وإن كانوا في الحقيقة مستقبلين له وهو أمامهم‏.‏ ‏{‏نَّحْنُ خلقناهم‏}‏ أي‏:‏ ابتدأنا خلقهم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة إلى أن كمل خلقهم، ولم يكن لغيرنا في ذلك عمل ولا سعي لا اشتراكاً ولا استقلالاً ‏{‏وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ‏}‏ الأسر‏:‏ شدّة الخلق، يقال شدّ الله أسر فلان، أي‏:‏ قوّى خلقه‏.‏

قال مجاهد، وقتادة، ومقاتل، وغيرهم‏:‏ شددنا خلقهم‏.‏ قال الحسن‏:‏ شددنا أوصالهم بعضاً إلى بعض بالعروق، والعصب‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ يقال فرس شديد الأسر، أي‏:‏ الخلق‏.‏ قال لبيد‏:‏

ساهم الوجه شديد أسره *** مشرف الحارك محبوك القتد

وقال الأخطل‏:‏

من كل مجتنب شديد أسره *** سلس القياد تخاله مختالا

وقال ابن زيد‏:‏ الأسر القوّة، واشتقاقه من الإسار، وهو القدّ الذي تشدّ به الأقتاب، ومنه قول ابن أحمر يصف فرساً‏:‏

يمشي بأوطفة شداد أسرها *** شمّ السبائك لا تفي بالجدجد

‏{‏وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أمثالهم تَبْدِيلاً‏}‏ أي‏:‏ لو شئنا لأهلكناهم، وجئنا بأطوع لله منهم‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ مسخناهم إلى أسمج صورة، وأقبح خلقة‏.‏ ‏{‏إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ إن هذه السورة تذكير وموعظة ‏{‏فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً‏}‏ أي‏:‏ طريقاً يتوسل به إليه، وذلك بالإيمان، والطاعة‏.‏ والمراد إلى ثوابه، أو إلى جنته‏.‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله‏}‏ أي‏:‏ وما تشاءون أن تتخذوا إلى الله سبيلاً إلاّ أن يشاء الله، فالأمر إليه سبحانه ليس إليهم‏.‏ والخير والشرّ بيده، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، فمشيئة العبد مجرّدة لا تأتي بخير ولا تدفع شرّاً، وإن كان يثاب على المشيئة الصالحة، ويؤجر على قصد الخير، كما في حديث‏:‏ «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» قال الزجاج أي‏:‏ لستم تشاءون إلاّ بمشيئة الله ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً‏}‏ في أمره ونهيه، أي‏:‏ بليغ العلم والحكمة‏.‏ ‏{‏يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ‏}‏ أي‏:‏ يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها، أو يدخل في جنته من يشاء من عباده، قال عطاء‏:‏ من صدقت نيته أدخله جنته ‏{‏والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ انتصاب الظالمين بفعل مقدّر يدل عليه ما قبله، أي‏:‏ يعذب الظالمين، نصب الظالمين؛ لأن ما قبله منصوب، أي‏:‏ يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين، أي‏:‏ المشركين، ويكون أعدّ لهم تفسيراً لهذا المضمر، والاختيار النصب، وإن جاز الرفع، وبالنصب قرأ الجمهور، وقرأ أبان بن عثمان بالرفع على الابتداء، ووجهه أنه لم يكن بعده فعل يقع عليه‏.‏

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ خلقهم‏.‏ وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة ‏{‏وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ هي المفاصل‏.‏

سورة المرسلات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 28‏]‏

‏{‏وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ‏(‏1‏)‏ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ‏(‏3‏)‏ فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ‏(‏4‏)‏ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ‏(‏5‏)‏ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ‏(‏7‏)‏ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ‏(‏9‏)‏ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ‏(‏11‏)‏ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ‏(‏12‏)‏ لِيَوْمِ الْفَصْلِ ‏(‏13‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ‏(‏14‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏15‏)‏ أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ ‏(‏17‏)‏ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ‏(‏18‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏19‏)‏ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏20‏)‏ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ‏(‏21‏)‏ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ‏(‏22‏)‏ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ‏(‏23‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏24‏)‏ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا ‏(‏25‏)‏ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ‏(‏26‏)‏ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ‏(‏27‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏والمرسلات عُرْفاً‏}‏ قال جمهور المفسرين‏:‏ هي الرياح‏.‏ وقيل‏:‏ هي الملائكة، وبه قال مقاتل، وأبو صالح، والكلبي‏.‏ وقيل‏:‏ هم الأنبياء، فعلى الأوّل أقسم سبحانه بالرياح المرسلة لما يأمرها به، كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 23‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يُرْسِلُ الرياح‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 48‏]‏ وغير ذلك‏.‏ وعلى الثاني أقسم سبحانه بالملائكة المرسلة بوحيه وأمره ونهيه‏.‏ وعلى الثالث أقسم سبحانه برسله المرسلة إلى عباده لتبليغ شرائعه، وانتصاب ‏{‏عُرْفاً‏}‏ إما على أنه مفعول لأجله، أي‏:‏ المرسلات لأجل العرف، وهو ضدّ النكر، ومنه قول الشاعر‏:‏

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه *** لا يذهب العرف بين الله والناس

أو على أنه حال بمعنى متتابعة يتبع بعضها بعضاً كعرف الفرس، تقول العرب‏:‏ سار الناس إلى فلان عرفاً واحداً‏:‏ إذا توجهوا إليه، وهم على فلان كعرف الضبع‏:‏ إذا تألبوا عليه، أو على أنه مصدر كأنه قال‏:‏ والمرسلات إرسالاً، أي‏:‏ متتابعة، أو على أنه منصوب بنزع الخافض، أي‏:‏ والمرسلات بالعرف‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏عرفاً‏}‏ بسكون الراء‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر بضمها‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالمرسلات السحاب لما فيها من نعمة ونقمة‏:‏ ‏{‏فالعاصفات عَصْفاً‏}‏ وهي الرياح الشديدة الهبوب‏.‏ قال القرطبي بغير اختلاف‏:‏ يقال عصف بالشيء‏:‏ إذا أباده وأهلكه، وناقة عصوف، أي‏:‏ تعصف براكبها، فتمضي كأنها ريح في السرعة، ويقال عصفت الحرب بالقوم إذا ذهبت بهم‏.‏ وقيل‏:‏ هي الملائكة الموكلون بالرياح يعصفون بها، وقيل‏:‏ يعصفون بروح الكافر‏.‏ وقيل‏:‏ هي الآيات المهلكة كالزلازل، ونحوها ‏{‏والناشرات نَشْراً‏}‏ يعني‏:‏ الرياح تأتي بالمطر، وهي تنشر السحاب نشراً، أو الملائكة الموكلون بالسحاب ينشرونها، أو ينشرون أجنحتهم في الجوّ عند النزول بالوحي، أو هي الأمطار لأنها تنشر النبات‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يريد ما ينشر من الكتب وأعمال بني آدم‏.‏ وقال الربيع‏:‏ إنه البعث للقيامة بنشر الأرواح، وجاء بالواو هنا لأنه استئناف قسم آخر‏:‏ ‏{‏فالفارقات فَرْقاً‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة تأتي بما يفرّق بين الحق والباطل‏.‏ والحلال والحرام‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هي الريح تفرق بين السحاب فتبدّده‏.‏ وروي عنه أنها آيات القرآن تفرق بين الحق والباطل، وقيل‏:‏ هي الرسل فرقوا ما بين ما أمر الله به ونهى عنه، وبه قال الحسن‏:‏ ‏{‏فالملقيات ذِكْراً‏}‏ هي الملائكة‏.‏ قال القرطبي بإجماع، أي‏:‏ تلقي الوحي إلى الأنبياء‏.‏ وقيل‏:‏ هو جبريل، وسمي باسم الجمع تعظيماً له‏.‏ وقيل‏:‏ هي الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل الله عليهم، قاله قطرب‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فالملقيات‏}‏ بسكون اللام، وتخفيف القاف اسم فاعل، وقرأ ابن عباس بفتح اللام، وتشديد القاف من التلقية وهي إيصال الكلام إلى المخاطب، والراجح أن الثلاثة الأول للرياح، والرابع والخامس للملائكة، وهو الذي اختاره الزجاج، والقاضي، وغيرهما‏.‏

‏{‏عُذْراً أَوْ نُذْراً‏}‏ انتصابهما على البدل من ‏{‏ذكراً‏}‏، أو على المفعولية، والعامل فيهما المصدر المنوّن، كما في قوله‏:‏

‏{‏أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 14، 15‏]‏ أو على المفعول لأجله، أي‏:‏ للإعذار والإنذار، أو على الحال بالتأويل المعروف، أي‏:‏ معذرين أو منذرين‏.‏ قرأ الجمهور بإسكان الذال فيهما‏.‏ وقرأ زيد بن ثابت، وابنه خارجة بن زيد، وطلحة بضمهما‏.‏ وقرأ الحرميان، وابن عامر، وأبو بكر بسكونها في عذراً وضمها في نذراً‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏عذراً أو نذراً‏}‏ على العطف ب «أو»‏.‏ وقرأ إبراهيم التيمي، وقتادة على العطف بالواو بدون ألف، والمعنى‏:‏ أن الملائكة تلقي الوحي إعذاراً من الله إلى خلقه، وإنذاراً من عذابه، كذا قال الفرّاء‏.‏ وقيل‏:‏ عذراً للمحقين ونذراً للمبطلين‏.‏ قال أبو عليّ الفارسي‏:‏ يجوز أن يكون العذر والنذر بالتثقيل جمع عاذر وناذر كقوله‏:‏ ‏{‏هذا نَذِيرٌ مّنَ النذر الأولى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 56‏]‏ فيكون نصباً على الحال من الإِلقاء، أي‏:‏ يلقون الذكر في حال العذر والإنذار، أو مفعولان لذكراً، أي‏:‏ تذكر عذراً أو نذراً‏.‏ قال المبرد‏:‏ هما بالتثقيل جمع، والواحد عذير ونذير‏.‏

ثم ذكر سبحانه جواب القسم فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا تُوعَدُونَ لواقع‏}‏ أي‏:‏ إن الذي توعدونه من مجيء الساعة والبعث كائن لا محالة‏.‏ ثم بيّن سبحانه متى يقع ذلك، فقال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ‏}‏ أي‏:‏ محي نورها، وذهب ضوؤها، يقال طمس الشيء‏:‏ إذا درس وذهب أثره ‏{‏وَإِذَا السماء فُرِجَتْ‏}‏ أي‏:‏ فتحت وشقت، ومثله قوله‏:‏ ‏{‏وَفُتِحَتِ السماء فَكَانَتْ أبوابا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 19‏]‏ ‏{‏وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ‏}‏ أي‏:‏ قلعت من مكانها بسرعة، يقال‏:‏ نسفت الشيء وأنسفته‏:‏ إذا أخذته بسرعة‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ سوّيت بالأرض، والعرب تقول‏:‏ نسفت الناقة الكلأ‏:‏ إذا رعته‏.‏ وقيل‏:‏ جعلت كالحبّ الذي ينسف بالمنسف، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 5‏]‏ والأوّل أولى‏.‏ قال المبرد‏:‏ نسفت قلعت من مواضعها‏.‏ ‏{‏وَإِذَا الرسل أُقّتَتْ‏}‏ الهمزة في ‏{‏أقتت‏}‏ بدل من الواو المضمومة، وكل واو انضمت، وكانت ضمتها لازمة يجوز إبدالها بالهمزة، وقد قرأ بالواو أبو عمرو، وشيبة، والأعرج، وقرأ الباقون بالهمزة، والوقت‏:‏ الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه، والمعنى‏:‏ جعل لها وقت للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم، كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 109‏]‏ وقيل‏:‏ هذا في الدنيا، أي‏:‏ جمعت الرسل لميقاتها الذي ضرب لها في إنزال العذاب بمن كذبها، والأوّل أولى‏.‏ قال أبو عليّ الفارسي، أي‏:‏ جعل يوم الدين والفصل لها وقتاً‏.‏ وقيل ‏{‏أقتت‏}‏‏:‏ أرسلت لأوقات معلومة على ما علم الله به ‏{‏لأَيّ يَوْمٍ أُجّلَتْ‏}‏ هذا الاستفهام للتعظيم والتعجيب، أي‏:‏ لأيّ يوم عظيم يعجب العباد منه لشدّته ومزيد أهواله ضرب لهم الأجل لجمعهم، والجملة مقول قول مقدر هو جواب ل «إذا»، أو في محل نصب على الحال من الضمير في ‏{‏أقتت‏}‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المراد بهذا التأقيت تبيين الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم‏.‏

ثم بيّن هذا اليوم فقال‏:‏ ‏{‏لِيَوْمِ الفصل‏}‏ قال قتادة‏:‏ يفصل فيه بين الناس بأعمالهم إلى الجنة والنار، ثم عظم ذلك اليوم فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل‏}‏ أي‏:‏ وما أعلمك بيوم الفصل، يعني‏:‏ أنه أمر بديع هائل لا يقادر قدره، و«ما» مبتدأ وأدراك خبره، أو العكس كما اختاره سيبويه‏.‏ ثم ذكر حال الذين كذبوا بذلك اليوم فقال‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ أي‏:‏ ويل لهم في ذلك اليوم الهائل، وويل أصل مصدر سادّ مسد فعله، وعدل به إلى الرفع للدلالة على الثبات، والويل الهلاك، أو هو اسم واد في جهنم، وكرّر هذه الآية في هذه السورة؛ لأنه قسم الويل بينهم على قدر تكذيبهم، فإن لكل مكذب بشيء عذاباً سوى تكذيبه بشيء آخر، وربّ شيء كذب به هو أعظم جرماً من التكذيب بغيره، فيقسم له من الويل على قدر ذلك التكذيب‏.‏

ثم ذكر سبحانه ما فعل بالكفار من الأمم الخالية فقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين‏}‏ أخبر سبحانه بإهلاك الكفار من الأمم الماضية من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ بالعذاب في الدنيا حين كذبوا رسلهم‏.‏

‏{‏ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الأخرين‏}‏ يعني‏:‏ كفار مكة، ومن وافقهم حين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏نتبعهم‏}‏ بالرفع على الاستئناف، أي‏:‏ ثم نحن نتبعهم‏.‏ قال أبو البقاء‏:‏ ليس بمعطوف؛ لأن العطف يوجب أن يكون المعنى‏:‏ أهلكنا الأولين ثم أتبعناهم الآخرين في الإهلاك‏.‏ وليس كذلك؛ لأن إهلاك الآخرين لم يقع بعد‏.‏ ويدل على الرفع قراءة ابن مسعود‏:‏ ‏(‏ثم سنتبعهم الآخرين‏)‏ وقرأ الأعرج، والعباس عن أبي عمرو ونتبعهم بالجزم عطفاً على ‏{‏نهلك‏}‏‏.‏ قال شهاب الدين‏:‏ على جعل الفعل معطوفاً على مجموع الجملة من قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نُهْلِكِ‏}‏‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك الفعل الفظيع نفعل بهم، يريد من يهلكه فيما بعد، والكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف، أي‏:‏ مثل ذلك الإهلاك نفعل بكل مشرك إما في الدنيا أو في الآخرة‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ أي‏:‏ ويل يوم ذلك الإهلاك للمكذبين بكتب الله ورسله‏.‏ قيل‏:‏ الويل الأوّل لعذاب الآخرة، وهذا لعذاب الدنيا‏.‏

‏{‏أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ‏}‏ أي‏:‏ ضعيف حقير، وهو النطفة ‏{‏فجعلناه فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ‏}‏ أي‏:‏ مكان حريز، وهو الرحم‏:‏ ‏{‏إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ‏}‏ أي‏:‏ إلى مقدار معلوم وهو مدّة الحمل‏.‏ وقيل‏:‏ إلى أن يصوّر ‏{‏فَقَدَرْنَا‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فقدرنا‏}‏ بالتخفيف‏.‏ وقرأ نافع، والكسائي بالتشديد من التقدير‏.‏ قال الكسائي، والفرّاء‏:‏ وهما لغتان بمعنى تقول‏:‏ قدّرت كذا وقدرته ‏{‏فَنِعْمَ القادرون‏}‏ أي‏:‏ نعم المقدّرون نحن‏.‏ قيل المعنى‏:‏ قدّرناه قصيراً أو طويلاً‏.‏

وقيل‏:‏ معنى ‏{‏قدّرنا‏}‏ ملكنا ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ بقدرتنا على ذلك‏.‏ ثم بيّن لهم بديع صنعه، وعظيم قدرته ليعتبروا فقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً‏}‏ معنى الكفت في اللغة‏:‏ الضم والجمع، يقال كفت الشيء‏:‏ إذا ضمه وجمعه، ومن هذا يقال‏:‏ للجراب والقدر كفت، والمعنى‏:‏ ألم نجعل الأرض ضامة للأحياء على ظهرها، والأموات في باطنها تضمهم وتجمعهم‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ يريد تكفتهم أحياء على ظهرها في دورهم ومنازلهم وتكفتهم أمواتاً في بطنها، أي‏:‏ تحوزهم وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏أَحْيَاء وأمواتا‏}‏ وأنشد سيبويه‏:‏

كرام حين تنكفت الأفاعي *** إلى أجحارهنّ من الصقيع

قال أبو عبيدة‏:‏ كفاتاً أوعية، ومنه قول الشاعر‏:‏

فأنت اليوم فوق الأرض حي *** وأنت غداً تضمن في كفات

أي‏:‏ في قبر، وقيل‏:‏ معنى جعلها كفاتاً‏:‏ أنه يدفن فيها ما يخرج من الإنسان من الفضلات‏.‏ وقال الأخفش، وأبو عبيدة‏:‏ الأحياء والأموات وصفان للأرض، أي‏:‏ الأرض منقسمة إلى حيّ وهو الذي ينبت، وإلى ميت وهو الذي لا ينبت‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ انتصاب أحياء، وأمواتاً بوقوع الكفات عليه، أي‏:‏ ألم نجعل الأرض كفات أحياء وأموات، فإذا نوّن نصب ما بعده‏.‏ وقيل‏:‏ نصباً على الحال من الأرض، أي‏:‏ منها كذا ومنها كذا‏.‏ وقيل‏:‏ هو مصدر نعت به للمبالغة‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ كفاتاً جمع كافتة، والأرض يراد بها الجمع، فنعتت بالجمع‏.‏ وقال الخليل‏:‏ التكفت تقليب الشيء ظهراً لبطن، أو بطناً لظهر، ويقال انكفت القوم إلى منازلهم، أي‏:‏ ذهبوا‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شامخات‏}‏ أي‏:‏ جبالاً طوالاً، والرواسي الثوابت، والشامخات الطوال، وكل عال فهو شامخ ‏{‏وأسقيناكم مَّاء فُرَاتاً‏}‏ أي‏:‏ عذباً، والفرات الماء العذب يشرب منه ويسقى به‏.‏ قال مقاتل‏:‏ وهذا كله أعجب من البعث‏.‏ ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ بما أنعمنا عليهم من نعمنا التي هي من جملتها‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن أبي هريرة‏:‏ ‏{‏والمرسلات عُرْفاً‏}‏ قال‏:‏ هي الملائكة أرسلت بالعرف‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود‏:‏ ‏{‏والمرسلات عُرْفاً‏}‏ قال‏:‏ الريح ‏{‏فالعاصفات عَصْفاً‏}‏ قال‏:‏ الريح ‏{‏والناشرات نَشْراً‏}‏ قال‏:‏ الريح‏.‏ وأخرج ابن راهويه، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب أنه جاء رجل إلى عليّ بن أبي طالب، فقال‏:‏ ما العاصفات عصفاً‏؟‏ قال الرياح‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏والمرسلات عُرْفاً‏}‏ قال‏:‏ الريح ‏{‏فالعاصفات عَصْفاً‏}‏ قال‏:‏ الريح ‏{‏فالفارقات فَرْقاً‏}‏ قال‏:‏ الملائكة ‏{‏فالملقيات ذِكْراً‏}‏ قال‏:‏ الملائكة‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه‏:‏ ‏{‏والمرسلات عُرْفاً‏}‏ قال‏:‏ الملائكة ‏{‏فالفارقات فَرْقاً‏}‏ قال‏:‏ الملائكة، فرقت بين الحق والباطل ‏{‏فالملقيات ذِكْراً‏}‏ قال‏:‏ بالتنزيل‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن ابن مسعود قال‏:‏ ويل واد في جهنم يسيل فيه صديد أهل النار، فجعل للمكذبين‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏مّن مَّاء مَّهِينٍ‏}‏ قال‏:‏ ضعيف‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه ‏{‏كِفَاتاً‏}‏ قال‏:‏ كنا‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏رَوَاسِىَ شامخات‏}‏ قال‏:‏ جبالاً مشرفات، وفي قوله‏:‏ ‏{‏فُرَاتاً‏}‏ قال‏:‏ عذباً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 50‏]‏

‏{‏انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏29‏)‏ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ‏(‏30‏)‏ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ‏(‏31‏)‏ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ‏(‏32‏)‏ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ‏(‏33‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏34‏)‏ هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ ‏(‏35‏)‏ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ‏(‏36‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏37‏)‏ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ‏(‏38‏)‏ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ‏(‏39‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏40‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ ‏(‏41‏)‏ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏42‏)‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏44‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏45‏)‏ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ‏(‏46‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ ‏(‏48‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏49‏)‏ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏انطلقوا إلى مَا كُنتُمْ‏}‏ هو بتقدير القول، أي‏:‏ يقال لهم توبيخاً وتقريعاً‏:‏ ‏{‏انطلقوا إلى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ‏}‏ في الدنيا، تقول لهم ذلك خزنة جهنم، أي‏:‏ سيروا إلى ما كنتم تكذبون به من العذاب، وهو عذاب النار ‏{‏انطلقوا إلى ظِلّ ذِى ثلاث شُعَبٍ‏}‏ أي‏:‏ إلى ظل من دخان جهنم قد سطع، ثم افترق ثلاث فرق تكونون فيه حتى يفرغ الحساب‏.‏ وهذا شأن الدخان العظيم إذا ارتفع تشعب شعباً‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏انطلقوا‏}‏ في الموضعين على صيغة الأمر على التأكيد، وقرأ رويس عن يعقوب بصيغة الماضي في الثاني، أي‏:‏ لما أمروا بالانطلاق امتثلوا ذلك، فانطلقوا‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالظل هنا هو السرادق، وهو لسان من النار يحيط بهم‏.‏ ثم يتشعب ثلاث شعب، فيظلهم حتى يفرغ من حسابهم، ثم يصيرون إلى النار‏.‏ وقيل‏:‏ هو الظلّ من يحموم، كما في قوله‏:‏ ‏{‏فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 42، 43‏]‏ على ما تقدم‏.‏ ثم وصف سبحانه هذا الظلّ تهكماً بهم فقال‏:‏ ‏{‏لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللهب‏}‏ أي‏:‏ لا يظل من الحرّ، ولا يغني من اللهب‏.‏ قال الكلبي‏:‏ لا يردّ حرّ جهنم عنكم‏.‏

ثم وصف سبحانه النار فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كالقصر‏}‏ أي‏:‏ كل شررة من شررها التي ترمي بها كالقصر من القصور في عظمها، والشرر‏:‏ ما تطاير من النار متفرّقاً، والقصر‏:‏ البناء العظيم‏.‏ وقيل‏:‏ القصر جمع قصرة ساكنة الصاد مثل حمر وحمرة، وتمر وتمرة، وهي الواحدة من جزل الحطب الغليظ‏.‏ قال سعيد بن جبير، والضحاك‏:‏ وهي أصول الشجر العظام‏.‏ وقيل‏:‏ أعناقه‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏كالقصر‏}‏ بإسكان الصاد، وهو واحد القصور، كما تقدّم‏.‏ وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وحميد، والسلمي بفتح الصاد، أي‏:‏ أعناق النخل، والقصرة العنق جمعه قصر وقصرات‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أعناق الإبل‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير بكسر القاف، وفتح الصاد، وهي أيضاً جمع قصرة مثل بدر وبدرة، وقصع وقصعة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏بشرر‏}‏ بفتح الشين‏.‏ وقرأ ابن عباس، وابن مقسم بكسرها مع ألف بين الراءين‏.‏ وقرأ عيسى كذلك إلاّ أنه يفتح الشين، وهي لغات، ثم شبه الشرر باعتبار لونه فقال‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُ جمالة صُفْرٌ‏}‏ وهي جمع جمال، وهي الإبل، أو جمع جمالة‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ «جمالات» بكسر الجيم‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص‏:‏ ‏{‏جمالة‏}‏ جمع جمل‏.‏ وقرأ ابن عباس، والحسن، وابن جبير، وقتادة، وأبو رجاء‏:‏ ‏(‏جمالات‏)‏ بضم الجيم، وهي حبال السفن‏.‏ قال الواحدي‏:‏ والصفر معناها السود في قول المفسرين‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ الصفر سواد الإبل لا يرى أسود من الإبل إلاّ وهو مشرب صفرة، لذلك سمت العرب سود الإبل صفراً‏.‏ قيل‏:‏ والشرر إذا تطاير وسقط وفيه بقية من لون النار أشبه شيء بالإبل السود، ومنه قول الشاعر‏:‏

تلك خيلي وتلك ركابي *** هنّ صفر أولادها كالزبيب

أي‏:‏ هنّ سود‏.‏ قيل‏:‏ وهذا القول محال في اللغة أن يكون شيء يشوبه شيء قليل، فينسب كله إلى ذلك الشائب، فالعجب لمن قال بهذا، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏جمالة صُفْرٌ‏}‏‏.‏ وأجيب بأن وجهه أن النار خلقت من النور، فهي مضيئة، فلما خلق الله جهنم، وهي موضع النار حشى ذلك الموضع بتلك النار، وبعث إليها سلطانه وغضبه، فاسودّت من سلطانه وازدادت سواداً، وصارت أشدّ سواداً من كل شيء، فيكون شررها أسود لأنه من نار سوداء‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الجواب لا يدفع ما قاله القائل؛ لأن كلامه باعتبار ما وقع في الكتاب العزيز هنا من وصفها بكونها صفراء، فلو كان الأمر، كما ذكره المجيب من اسوداد النار، واسوداد شررها، لقال الله‏:‏ كأنها جمالات سود، ولكن إذا كانت العرب تسمي الأسود أصفر لم يبق إشكال؛ لأن القرآن نزل بلغتهم، وقد نقل الثقات عنهم ذلك، فكان ما في القرآن هنا وارداً على هذا الاستعمال العربي‏.‏

‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ لرسل الله وآياته ‏{‏هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يتكلمون‏:‏ قال الواحدي‏:‏ قال المفسرون‏:‏ في يوم القيامة مواقف، ففي بعضها يتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا يتكلمون، وقد قدّمنا الجمع بهذا في غير موضع‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا إشارة إلى وقت دخولهم النار وهم عند ذلك لا ينطقون؛ لأن مواقف السؤال والحساب قد انقضت‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لا ينطقون بحجة، وإن كانوا ينطقون‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ برفع ‏{‏يوم‏}‏ على أنه خبر لإسم الإشارة‏.‏ وقرأ زيد بن عليّ، والأعرج، والأعمش، وأبو حيوة، وعاصم في رواية عنه بالفتح على البناء لإضافته إلى الفعل، ومحله الرفع على الخبرية‏.‏ وقيل‏:‏ هو منصوب على الظرفية، والإشارة بهذا إلى ما تقدّم من الوعيد؛ كأنه قيل‏:‏ هذا العقاب المذكور كائن يوم لا ينطقون ‏{‏وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يؤذن‏}‏ على البناء للمفعول، وقرأ زيد بن عليّ‏:‏ ‏(‏ولا يأذن‏)‏ على البناء للفاعل، أي‏:‏ لا يأذن الله لهم، أي‏:‏ لا يكون لهم إذن من الله فيكون لهم اعتذار من غير أن يجعل الاعتذار مسبباً عن الإذن كما لو نصب‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ الفاء في فيعتذرون نسق على يؤذن، وأجيز ذلك؛ لأن أواخر الكلام بالنون، ولو قال فيعتذروا لم يوافق الآيات، وقد قال‏:‏ ‏{‏لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 36‏]‏ بالنصب، والكل صواب‏.‏ ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ بما دعتهم إليه الرسل، وأنذرتهم عاقبته‏.‏

‏{‏هذا يَوْمُ الفصل جمعناكم والاولين‏}‏ أي‏:‏ ويقال لهم‏:‏ هذا يوم الفصل الذي يفصل فيه بين الخلائق، ويتميز فيه الحق من الباطل، والخطاب في جمعناكم للكفار في زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بالأوّلين كفار الأمم الماضية‏.‏

‏{‏فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ‏}‏ أي‏:‏ إن قدرتم على كيد الآن ‏{‏فَكِيدُونِ‏}‏ وهذا تقريع وتوبيخ لهم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يقول إن كان لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ فإن قدرتم على حرب فحاربون‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيكون كقول هود‏:‏ ‏{‏فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 55‏]‏ ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ لأنه قد ظهر لهم عجزهم، وبطلان ما كانوا عليه في الدنيا‏.‏

ثم ذكر سبحانه المؤمنين فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ المتقين فِى ظلال وَعُيُونٍ‏}‏ أي‏:‏ في ظلال الأشجار وظلال القصور، لا كالظلّ الذي للكفار من الدخان، أو من النار كما تقدّم‏.‏ قال مقاتل، والكلبي‏:‏ المراد بالمتقين الذين يتقون الشرك بالله؛ لأن السورة من أوّلها إلى آخرها في تقريع الكفار على كفرهم‏.‏ قال الرازي‏:‏ فيجب أن تكون هذه الآية مذكورة لهذا الغرض، وإلاّ لتفككت السورة في نظمها وترتيبها، وإنما يتمّ النظم بأن يكون الوعد للمؤمنين بسبب إيمانهم، فأما جعله سبباً للطاعة فلا يليق بالنظم كذا قال والمراد بالعيون الأنهار، وبالفواكه ما يتفكه به مما تطلبه أنفسهم وتستدعيه شهواتهم‏.‏ ‏{‏كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ يقال لهم ذلك، فالجملة مقدّرة بالقول، وهي في محل نصب على الحال من ضمير المتقين، والباء للسببية، أي‏:‏ بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة‏.‏ ‏{‏إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي المحسنين في أعمالهم، قرأ الجمهور‏.‏ ‏{‏في ظلال‏}‏‏.‏ وقرأ الأعمش، والزهري، وطلحة، والأعرج‏:‏ ‏(‏في ظلل‏)‏ جمع ظلة ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ حيث صاروا في شقاء عظيم، وصار المؤمنون في نعيم مقيم‏.‏

‏{‏كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ‏}‏ الجملة بتقدير القول في محل نصب على الحال من المكذبين، أي‏:‏ الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك تذكير لهم بحالهم في الدنيا، أو يقال لهم هذا في الدنيا، والمجرمون المشركون بالله، وهذا وإن كان في اللفظ أمراً فهو في المعنى تهديد وزجر عظيم‏.‏ ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ كرّره لزيادة التوبيخ والتقريع‏.‏ ‏{‏وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَ‏}‏ أي‏:‏ وإذا أمروا بالصلاة لا يصلون‏.‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت في ثقيف امتنعوا من الصلاة بعد أن أمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بها فقالوا‏:‏ لا ننحني، فإنها مسبة علينا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود» وقيل‏:‏ إنما يقال لهم ذلك في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى بالركوع‏:‏ الطاعة والخشوع‏.‏ ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ بأوامر الله سبحانه ونواهيه ‏{‏فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ فبأيّ حديث بعد القرآن يصدّقون إذا لم يؤمنوا به‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يؤمنون‏}‏ بالتحتية على الغيبة‏.‏

وقرأ ابن عامر في رواية عنه، ويعقوب بالفوقية على الخطاب‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏بِشَرَرٍ كالقصر‏}‏ قال‏:‏ كالقصر العظيم، وقوله‏:‏ ‏{‏جمالة صُفْرٌ‏}‏ قال‏:‏ قطع النحاس‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وهناد، وعبد بن حميد، والبخاري، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم، وابن مردويه من طريق عبد الرحمن بن عابس قال‏:‏ سمعت ابن عباس يسأل عن قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كالقصر‏}‏ قال‏:‏ كنا نرفع الخشب بقدر ثلاثة أذرع أو أقلّ، فنرفعه للشتاء، فنسميه القصر‏.‏ قال‏:‏ وسمعته يسأل عن قوله‏:‏ ‏{‏جمالة صُفْرٌ‏}‏ قال‏:‏ حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى يكون كأوساط الرجال‏.‏ ولفظ البخاري‏:‏ كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك فنرفعه للشتاء فنسميه القصر‏.‏ ‏{‏كَأَنَّهُ جمالة صُفْرٌ‏}‏ حبال السفن تجمع حتى تكون كأوساط الرجال‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه أنه قرأ‏:‏ ‏(‏كالقصر‏)‏ بفتح القاف والصاد‏.‏ وقال قصر النخل يعني‏:‏ الأعناق‏.‏ وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال‏:‏ كانت العرب في الجاهلية تقول‏:‏ أقصروا لنا الحطب، فيقطع على قدر الذراع والذراعين‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏تَرْمِى بِشَرَرٍ كالقصر‏}‏ قال‏:‏ إنها ليست كالشجر والجبال، ولكنها مثل المدائن والحصون‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏كالقصر‏}‏ قال‏:‏ هو القصر، وفي قوله‏:‏ ‏{‏جمالة صُفْرٌ‏}‏ قال‏:‏ الإبل‏.‏

وأخرج الحاكم وصححه من طريق عكرمة قال‏:‏ سأل نافع ابن الأزرق ابن عباس عن قوله‏:‏ ‏{‏هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ‏}‏ و‏{‏لا تُسْمِعُ إِلاَّ هَمْساً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 108‏]‏ ‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 25‏]‏ و‏{‏هَاؤُمُ اقرؤا كتابيه‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 19‏]‏ فقال له‏:‏ ويحك هل سألت عن هذا أحداً قبلي‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ أما أنك لو كنت سألت هلكت، أليس قال الله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 47‏]‏ قال بلى، قال‏:‏ فإن لكل مقدار يوم من هذه الأيام لوناً من الألوان‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَ‏}‏ يقول‏:‏ يدعون يوم القيامة إلى السجود، فلا يستطيعون من أجل أنهم لم يكونوا يسجدون لله في الدنيا‏.‏

سورة النبأ

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 30‏]‏

‏{‏عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏1‏)‏ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ‏(‏3‏)‏ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ‏(‏6‏)‏ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ‏(‏7‏)‏ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ‏(‏8‏)‏ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ‏(‏9‏)‏ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ‏(‏10‏)‏ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ‏(‏11‏)‏ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ‏(‏12‏)‏ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ‏(‏13‏)‏ وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ‏(‏14‏)‏ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ‏(‏15‏)‏ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ‏(‏16‏)‏ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ‏(‏17‏)‏ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ‏(‏18‏)‏ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ‏(‏19‏)‏ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ‏(‏20‏)‏ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ‏(‏21‏)‏ لِلطَّاغِينَ مَآَبًا ‏(‏22‏)‏ لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ‏(‏23‏)‏ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ‏(‏24‏)‏ إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ‏(‏25‏)‏ جَزَاءً وِفَاقًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا ‏(‏27‏)‏ وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا ‏(‏28‏)‏ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ‏(‏29‏)‏ فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏عَمَّ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ أصله‏:‏ عن ما، فأدغمت النون في الميم؛ لأن الميم تشاركها في الغنة، كذا قال الزجاج، وحذفت الألف؛ ليتميز الخبر عن الاستفهام، وكذلك فيم وممّ ونحو ذلك، والمعنى‏:‏ عن أيّ شيء يسأل بعضهم بعضاً‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏عمّ‏}‏ بحذف الألف لما ذكرنا، وقرأ أبيّ، وابن مسعود، وعكرمة، وعيسى بإثباتها، ومنه قول الشاعر‏:‏

علاما قام يشتمني لئيم *** كخنزير تمرغ في دمان

ولكنه قليل لا يجوز إلاّ للضرورة، وقرأ البزي بهاء السكت عوضاً عن الألف، وروى ذلك عن ابن كثير‏.‏ قال الزجاج‏:‏ اللفظ لفظ استفهام، والمعنى‏:‏ تفخيم القصة كما تقول‏:‏ أيّ شيء تريد‏:‏ إذا عظمت شأنه‏.‏ قال الواحدي‏:‏ قال المفسرون‏:‏ لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم بتوحيد الله، والبعث بعد الموت، وتلا عليهم القرآن، جعلوا يتساءلون بينهم يقولون‏:‏ ماذا جاء به محمد، وما الذي أتى به‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏عَمَّ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ قال الفرّاء‏:‏ التساؤل هو أن يسأل بعضهم بعضاً كالتقابل، وقد يستمعل أيضاً في أن يتحدّثوا به، وإن لم يكن بينهم سؤال‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 25‏]‏ ‏{‏قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 51‏]‏ الآية، وهذا يدل على أنه التحدّث، ولفظ «ما» موضوع لطلب حقائق الأشياء، وذلك يقتضي كون المطلوب مجهولاً، فجعل الشيء العظيم الذي يعجز العقل عن أن يحيط بكنهه كأنه مجهول، ولهذا جاء سبحانه بلفظ «ما»‏.‏

ثم ذكر سبحانه تساؤلهم عن ماذا، وبينه فقال‏:‏ ‏{‏عَنِ النبإ العظيم‏}‏ فأورده سبحانه أوّلاً على طريقة الاستفهام مبهماً؛ لتتوجه إليه أذهانهم، وتلتفت إليه أفهامهم، ثم بينه بما يفيد تعظيمه، وتفخيمه كأنه قيل‏:‏ عن أيّ شيء يتساءلون هل أخبركم به‏؟‏ ثم قيل بطريق الجواب‏:‏ ‏{‏عَنِ النبإ العظيم‏}‏ على منهاج قوله‏:‏ ‏{‏لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 16‏]‏ فالجارّ والمجرور متعلق بالفعل الذي قبله، أو بما يدلّ عليه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ قال أكثر النحاة‏:‏ عن النبأ العظيم متعلق ب ‏{‏يتساءلون‏}‏ الظاهر، كأنه قال‏:‏ لم يتساءلون عن النبأ العظيم، وقيل‏:‏ ليس بمتعلق بالفعل المذكور؛ لأنه كان يلزم دخول حرف الاستفهام، فيكون التقدير أعن النبأ العظيم‏؟‏ فلزم أن يتعلق ب ‏{‏يتساءلون‏}‏ آخر مقدّر، وإنما كان ذلك النبأ، أي‏:‏ القرآن عظيماً؛ لأنه ينبئ عن التوحيد، وتصديق الرسول، ووقوع البعث والنشور‏.‏ قال الضحاك‏:‏ يعني‏:‏ نبأ يوم القيامة، وكذا قال قتادة‏.‏

وقد استدلّ على أن النبأ العظيم هو القرآن بقوله‏:‏ ‏{‏الذى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ‏}‏ فإنهم اختلفوا في القرآن، فجعله بعضهم سحراً، وبعضهم شعراً، وبعضهم كهانة، وبعضهم قال‏:‏ هو أساطير الأوّلين‏.‏ وأما البعث فقد اتفق الكفار إذ ذاك على إنكاره‏.‏

ويمكن أن يقال‏:‏ إنه قد وقع الاختلاف في البعث في الجملة، فصدّق به المؤمنون، وكذب به الكافرون، فقد وقع الاختلاف فيه من هذه الحيثية، وإن لم يقع الاختلاف فيه بين الكفار أنفسهم على التسليم والتنزل، ومما يدلّ على أنه القرآن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 67، 68‏]‏ ومما يدلّ على أنه البعث أنه أكثر ما كان يستنكره المشركون وتأباه عقولهم السخيفة‏.‏ وأيضاً، فطوائف الكفار قد وقع الاختلاف بينهم في البعث؛ فأثبت النصارى المعاد الروحاني، وأثبتت طائفة من اليهود المعاد الجسماني، وفي التوراة التصريح بلفظ الجنة باللغة العبرانية بلفظ «جنعيذا» بجيم مفتوحة، ثم نون ساكنة، ثم عين مكسورة مهملة، ثم تحتية ساكنة، ثم ذال معجمة بعدها ألف‏.‏ وفي الإنجيل في مواضع كثيرة التصريح بالمعاد، وأنه يكون فيه النعيم للمطيعين، والعذاب للعاصين، وقد كان بعض طوائف كفار العرب ينكر المعاد كما حكى الله عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏إن هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نحن بمبعوثين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 37‏]‏ وكانت طائفة منهم غير جازمة بنفيه بل شاكة فيه، كما حكى الله عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 32‏]‏ وما حكاه عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 50‏]‏ فقد حصل الاختلاف بين طوائف الكفر على هذه الصفة‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏يتساءلون‏}‏ يرجع إلى المؤمنين والكفار؛ لأنهم جميعاً كانوا يتساءلون عنه، فأما المسلم، فيزداد يقيناً واستعداداً، وبصيرة في دينه، وأما الكافر فاستهزاء وسخرية‏.‏ قال الرازي‏:‏ ويحتمل أنهم يسألون الرسول، ويقولون‏:‏ ما هذا الذي يعدنا به من أمر الآخرة، والموصول في محل جرّ صفة للنبأ بعد وصفه بكونه عظيماً فهو متصف بالعظم ومتصف بوقوع الاختلاف فيه‏.‏

‏{‏كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ‏}‏ ردع لهم وزجر، وهذا يدل على أن المختلفين فيه هم‏:‏ الكفار، وبه يندفع ما قيل‏:‏ إن الخلاف بينهم وبين المؤمنين فإنه إنما يتوجه الردع والوعيد إلى الكفار فقط، وقيل‏:‏ كلاَّ بمعنى حقاً، ثم كرّر الردع والزجر فقال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ‏}‏ للمبالغة في التأكيد والتشديد في الوعيد‏.‏ قرأ الجمهور بالياء التحتية في الفعلين على الغيبة‏.‏ وقرأ الحسن، وأبو العالية، وابن دينار، وابن عامر في رواية عنه بالفوقية على الخطاب‏.‏ وقرأ الضحاك الأوّل بالفوقية والثاني بالتحتية‏.‏ قال الضحاك أيضاً‏.‏ ‏{‏كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ الكافرين عاقبة تكذيبهم ‏{‏ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ المؤمنين عاقبة تصديقهم، وقيل‏:‏ بالعكس، وقيل‏:‏ هو وعيد بعده وعيد، وقيل المعنى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ‏}‏ عند النزع ‏{‏ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ‏}‏ عند البعث‏.‏

ثم ذكر سبحانه بديع صنعه، وعظيم قدرته؛ ليعرفوا توحيده، ويؤمنوا بما جاء به رسوله فقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا والجبال أَوْتَاداً‏}‏ أي‏:‏ قدرتنا على هذه الأمور المذكورة أعظم من قدرتنا على الإعادة بالبعث، والمهاد الوطاء، والفراش، كما في قوله‏:‏

‏{‏الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 22‏]‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏(‏مهاداً‏)‏ وقرأ مجاهد، وعيسى، وبعض الكوفيين‏:‏ ‏(‏مهداً‏)‏ والمعنى‏:‏ أنها كالمهد للصبيّ وهو ما يمهد له فينوّم عليه‏.‏ والأوتاد جمع وتد‏:‏ أي‏:‏ جعلنا الجبال أوتاداً للأرض؛ لتسكن ولا تتحرّك، كما يرس الخيام بالأوتاد، وفي هذا دليل على أن التاؤل الكائن بينهم هو عن أمر البعث، لا عن القرآن، ولا عن نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قيل؛ لأن هذا الدليل إنما يصلح للاستدلال به على البعث ‏{‏وخلقناكم أزواجا‏}‏ معطوف على المضارع المنفي داخل في حكمه، فهو في قوّة أما خلقناكم، والمراد بالأزواج هنا الأصناف أي‏:‏ الذكور والإناث، وقيل‏:‏ المراد بالأزواج الألوان، وقيل‏:‏ يدخل في هذا كلّ زوج من المخلوقات عن قبيح وحسن وطويل وقصير‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً‏}‏ أي‏:‏ راحة لأبدانكم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ السبات أن ينقطع عن الحركة والروح في بدنه‏:‏ أي‏:‏ جعلنا نومكم راحة لكم‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ جعلنا نومكم قطعاً لأعمالكم؛ لأن أصل السبت القطع، وقيل‏:‏ أصله التمدّد، يقال سبتت المرأة شعرها‏:‏ إذا حلته وأرسلته، ورجل مسبوت الخلق‏:‏ أي‏:‏ ممدوده، والرجل إذا أراد أن يستريح تمدّد، فسمي النوم سباتاً، وقيل المعنى‏:‏ وجعلنا نومكم موتاً، والنوم أحد الموتتين، فالمسبوت يشبه الميت، ولكنه لم تفارقه الروح، ومنه قول الشاعر‏:‏

ومطوية الأقراب أما نهارها *** فسبت وأما ليلها فذميل

ومن هذا قوله‏:‏ ‏{‏الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 60‏]‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً‏}‏ أي‏:‏ نلبسكم ظلمته ونغشيكم بها كما يغشيكم اللباس‏.‏ وقال سعيد بن جبير والسديّ‏:‏ أي سكناً لكم، وقيل‏:‏ المراد به ما يستره عند النوم من اللحاف ونحوه، وهو بعيد؛ لأن الجعل وقع على الليل، لا على ما يستتر به النائم عند نومه ‏{‏وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً‏}‏ أي‏:‏ وقت معاش، والمعاش العيش، وكلّ شيء يعاش به فهو معاش، والمعنى‏:‏ أن الله جعل لهم النهار مضيئاً؛ ليسعوا فيما يقوم به معاشهم، وما قسمه الله لهم من الرزق ‏{‏وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً‏}‏ يريد سبع سماوات قوية الخلق محكمة البناء، ولهذا وصفها بالشدّة، وغلظ كلّ واحدة منها مسيرة خمسمائة عام، كما ورد ذلك‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً‏}‏ المراد به‏:‏ الشمس، وجعل هنا بمعنى‏:‏ خلق، وهكذا قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً‏}‏ وما بعده؛ لأن هذه الأفعال قد تعدّت إلى مفعولين، فلا بدّ من تضمينها معنى فعل يتعدّى إليهما كالخلق أو التصيير ونحو ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ إن الجعل بمعنى الإنشاء والإبداع في جميع هذه المواضع، والمراد به الإنشاء التكويني الذي بمعنى التقدير والتسوية‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الوهاج‏:‏ الوقاد، وهو الذي وهج، يقال وهجت النار تهيج وهجاً ووهجاناً‏.‏

قال مقاتل‏:‏ جعل فيه نوراً وحرّاً، والوهج يجمع النور والحرارة‏.‏

‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَاء ثَجَّاجاً‏}‏ المعصرات هي‏:‏ السحاب التي تنعصر بالماء ولم تمطر بعد، كالمرأة المعتصرة التي قد دنا حيضها، كذا قال سفيان والربيع، وأبو العالية، والضحاك‏.‏ وقال مجاهد، ومقاتل، وقتادة، والكلبي‏:‏ هي الرياح، والرياح تسمى معصرات، يقال أعصرت الريح تعصر إعصاراً‏:‏ إذا أثارت العجاج‏.‏ قال الأزهري‏:‏ هي الرياح ذوات الأعاصير، وذلك أن الرياح تستدرّ المطر‏.‏ وقال الفرّاء‏:‏ المعصرات السحاب التي يتحلب منها المطر‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذه الأقوال صحاح، يقال للريح التي تأتي بالمطر معصرات، والرياح تلقح السحاب فيكون المطر‏.‏ ويجوز أن تكون هذه الأقوال قولاً واحداً، ويكون المعنى‏:‏ وأنزلنا من ذوات المعصرات ماء ثجاجاً‏.‏ قال في الصحاح والمعصرات السحاب تعتصر بالمطر، وعصر القوم أي‏:‏ مطروا‏.‏ قال المبرد‏:‏ يقال سحاب معصر، أي‏:‏ ممسك للماء يعتصر منه شيء بعد شيء‏.‏ وقال أبيّ بن كعب، والحسن، وابن جبير، وزيد بن أسلم، ومقاتل بن حيان‏:‏ المعصرات‏:‏ السماوات‏.‏ والثجاج‏:‏ المنصبّ بكثرة على جهة التتابع، يقال ثجّ الماء أي‏:‏ سال بكثرة، وثجه أي‏:‏ أساله‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الثجاج‏:‏ الصباب‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ ثجاجاً كثيراً‏.‏ ‏{‏لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً‏}‏ أي‏:‏ لنخرج بذلك الماء حباً يقتات، كالحنطة والشعير ونحوهما، والنبات ما تأكله الدوّاب من الحشيش وسائر النبات ‏{‏وجنات أَلْفَافاً‏}‏ أي‏:‏ بساتين ملتفّ بعضها ببعض لتشعب أغصانها، ولا واحد للألفاف‏:‏ كالأوزاع والأخياف‏.‏ وقيل‏:‏ واحدها لف بكسر اللام وضمها، ذكره الكسائي‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ واحدها لفيف كشريف وأشراف، روي عن الكسائي أنها جمع الجمع يقال جنة لفاء، ونبت لف، والجمع لف بضم اللام مثل حمر، ثم يجمع هذا الجمع على ألفاف، وقيل‏:‏ هو جمع ملتفة بحذف الزوائد‏.‏ قال الفراء‏:‏ الجنة ما فيه النخيل، والفردوس ما فيه الكرم‏.‏

‏{‏إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ ميقاتا‏}‏ أي‏:‏ وقتاً، ومجمعاً، وميعاداً للأوّلين والآخرين يصلون فيه إلى ما وعدوا به من الثواب والعقاب، وسمي يوم الفصل لأن الله يفصل فيه بين خلقه، وهذا شروع في بيان ما يتساءلون عنه من البعث، وقيل‏:‏ معنى ‏{‏ميقاتاً‏}‏‏:‏ أنه حدّ توقت به الدنيا وتنتهي عنده، وقيل‏:‏ حدّ للخلائق ينتهون إليه ‏{‏يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً‏}‏ أي‏:‏ يوم ينفخ في الصور، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل، والمراد هنا النفخة الثانية التي تكون للبعث ‏{‏فَتَأْتُونَ‏}‏ أي‏:‏ إلى موضع العرض ‏{‏أَفْوَاجاً‏}‏ أي‏:‏ زمراً زمراً، وجماعات جماعات، وهي جمع فوج، وانتصاب ‏{‏يَوْمَ يُنفَخُ‏}‏ على أنه بدل من يوم الفصل، أو بيان له مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله، وإن كان الفصل متأخراً عن النفخ، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار أعني، وانتصاب ‏{‏أفواجاً‏}‏ على الحال من فاعل تأتون، والفاء في ‏{‏فتأتون‏}‏ فصيحة تدلّ على محذوف أي‏:‏ فتأتون إلى موضع العرض عقيب ذلك أفواجاً‏.‏

‏{‏وَفُتِحَتِ السماء فَكَانَتْ أبوابا‏}‏ معطوف على ينفخ، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع أي‏:‏ فتحت لنزول الملائكة ‏{‏فَكَانَتْ أبوابا‏}‏ كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 25‏]‏ وقيل معنى ‏{‏فتحت‏}‏ قطعت فصارت قطعاً كالأبواب، وقيل‏:‏ أبوابها طرقها، وقيل‏:‏ تنحل وتتناثر حتى تصير فيها أبواب، وقيل‏:‏ إن لكل عبد بابين في السماء‏:‏ باب لرزقه، وباب لعمله، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب، وظاهر قوله‏:‏ ‏{‏فَكَانَتْ أبوابا‏}‏ أنها صارت كلها أبواباً، وليس المراد ذلك، بل المراد أنها صارت ذات أبواب كثيرة‏.‏ قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي ‏{‏فتحت‏}‏ مخففاً‏.‏ وقرأ الباقون بالتشديد ‏{‏وَسُيّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً‏}‏ أي‏:‏ سيرت عن أماكنها في الهواء، وقلعت عن مقارّها، فكانت هباء منبثاً يظنّ الناظر أنها سراب، والمعنى‏:‏ أن الجبال صارت كلا شيء، كما أن السراب يظنّ الناظر أنه ماء، وليس بماء، وقيل معنى سيرت‏:‏ أنها نسفت من أصولها، ومثل هذا قوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 88‏]‏‏.‏

وقد ذكر سبحانه أحوال الجبال بوجوه مختلفة، ولكن الجمع بينها أن نقول‏:‏ أوّل أحوالها الاندكاك، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 14‏]‏ وثاني أحوالها أن تصير كالعهن المنفوش كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 5‏]‏ وثالث أحوالها أن تصير كالهباء، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 5، 6‏]‏ ورابع أحوالها‏:‏ أن تنسف وتحملها الرياح، كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 88‏]‏‏.‏ وخامس أحوالها أن تصير سراباً أي‏:‏ لا شيء، كما في هذه الآية‏.‏

ثم شرع سبحانه في تفصيل أحكام الفصل فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً‏}‏ قال الأزهري‏:‏ المرصاد المكان الذي يرصد الراصد فيه العدوّ‏.‏ قال المبرد‏:‏ مرصاداً يرصدون به أي‏:‏ هو معدّ لهم يرصد به خزنتها الكفار‏.‏ قال الحسن‏:‏ إن على الباب رصداً لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليهم، فمن جاء بجواز جاز، ومن لم يجيء بجواز حبس‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ محبساً، وقيل‏:‏ طريقاً وممرّاً‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ الراصد للشيء الراقب له يقال رصده يرصده رصداً، والرصد الترقب، والمرصد موضع الرصد‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ رصدته أرصده ترقبته، ومعنى الآية‏:‏ أن جهنم كانت في حكم الله، وقضائه موضع رصد يرصد فيه خزنة النار الكفار؛ ليعذبوهم فيها، أو هي في نفسها متطلعة لمن يأتي إليها من الكفار، كما يتطلع الرصد لمن يمرّ به ويأتي إليهم، والمرصاد مفعال من أبنية المبالغة كالمعطار والمعمار، فكأنه يكثر من جهنم انتظار الكفار‏.‏ ثم ذكر من هي مرصد له فقال‏:‏ ‏{‏للطاغين مَئَاباً‏}‏ أي‏:‏ مرجعاً يرجعون إليه، والمآب المرجع، يقال آب يئوب‏:‏ إذا رجع، والطاغي هو من طغى بالكفر، و‏{‏للطاغين‏}‏ نعت ل ‏{‏مرصاداً‏}‏ متعلق بمحذوف، و‏{‏مآباً‏}‏ بدل من ‏{‏مرصاداً‏}‏، ويجوز أن يكون للطاغين في محل نصب على الحال من ‏{‏مآباً‏}‏ قدّمت عليه لكونه نكرة، وانتصاب ‏{‏لابثين فِيهَا‏}‏ على الحال المقدّرة من الضمير المستكنّ في الطاغين‏.‏

قرأ الجمهور ‏{‏لابثين‏}‏ بالألف‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي ‏(‏لبثين‏)‏ بدون ألف، وانتصاب ‏{‏أَحْقَاباً‏}‏ على الظرفية أي‏:‏ ماكثين في النار ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، وكلما مضى حقب جاء حقب، وهي جمع حقب بضمتين، وهو الدهر، والأحقاب الدهور، والحقب بضم الحاء، وسكون القاف، قيل‏:‏ هو ثمانون سنة، وحكى الواحدي عن المفسرين أنه بضع وثمانون سنة، السنة ثلثمائة وستون يوماً، اليوم ألف سنة من أيام الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق، فإذا انقضت، فيكون لهم نوع آخر من العذاب‏.‏ وقال السديّ‏:‏ الحقب سبعون سنة‏.‏ وقال بشير بن كعب‏:‏ ثلثمائة سنة‏.‏ وقال ابن عمر أربعون سنة، وقيل‏:‏ ثلاثون ألف سنة‏.‏ قال الحسن‏:‏ الأحقاب لا يدري أحد كم هي، ولكن ذكروا أنها مائة حقب، والحقب الواحد منها سبعون ألف سنة، اليوم منها كألف سنة‏.‏ وقيل‏:‏ الآية محمولة على العصاة الذين يخرجون من النار، والأولى ما ذكرناه أوّلاً من أن المقصود بالآية التأبيد لا التقييد‏.‏ وحكى الواحدي‏:‏ عن الحسن أنه قال‏:‏ والله ما هي إلاّ أنه إذا مضى حقب دخل آخر، ثم آخر، ثم كذلك إلى الأبد‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً‏}‏ مستأنفة لبيان ما اشتملت عليه من أنهم لا يذوقون في جهنم، أو في الأحقاب برداً ينفعهم من حرّها، ولا شراباً ينفعهم من عطشها إلاّ حميماً، وهو الماء الحارّ، وغساقاً وهو صديد أهل النار، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير الطاغين، أو صفة للأحقاب، والاستثناء منقطع عند من جعل البرد النوم، ويجوز أن يكون متصلاً من قوله‏:‏ ‏{‏شَرَاباً‏}‏ وقال مجاهد، والسديّ وأبو عبيدة، والكسائي، والفضل بن خالد، وأبو معاذ النحوي‏:‏ البرد المذكور في هذه الآية هو‏:‏ النوم، ومنه قول الكندي‏:‏

بردت مراشفها عليّ فصدّني *** عنها وعن تقبيلها البرد

أي‏:‏ النوم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ لا يذوقون فيها برد ريح ولا ظل ولا نوم فجعل البرد يشمل هذه الأمور‏.‏ وقال الحسن، وعطاء، وابن زيد‏:‏ برداً أي‏:‏ روحاً وراحة‏.‏ قرأ الجمهور ‏(‏غساقاً‏)‏ بالتخفيف‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي بتشديد السين، وقد تقدّم تفسيره، وتفسير الحميم، والخلاف فيهما في سورة ص‏.‏ ‏{‏جَزَاء وفاقا‏}‏ أي‏:‏ موافقاً لأعمالهم، وجزاء منتصب على المصدر، ووفاقاً نعت له‏.‏ قال الفرّاء، والأخفش‏:‏ جازيناهم جزاء وافق أعمالهم، قال الزجاج‏:‏ جوزوا جزاء وافق أعمالهم‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ الوفاق جمع الوفق، والوفق والموافق واحد‏.‏ قال مقاتل‏:‏ وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار‏.‏

وقال الحسن، وعكرمة‏:‏ كانت أعمالهم سيئة، فأتاهم الله بما يسوؤهم ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً‏}‏ أي‏:‏ لا يرجون ثواب حساب‏.‏ قال الزجاج‏:‏ كانوا لا يؤمنون بالبعث، فيرجون حسابهم، والجملة تعليل لاستحقاقهم الجزاء المذكور ‏{‏وَكَذَّبُواْ بئاياتنا كِذَّاباً‏}‏ أي‏:‏ كذبوا بالآيات القرآنية، أو كذبوا بما هو أعم منها تكذيباً شديداً، وفعال من مصادر التفعل‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ هي لغة فصيحة يمانية، تقول كذبت كذاباً، وخرقت القميص خراقاً‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ وكذبوا بآياتنا كذاباً هو أحد مصادر المشدّد؛ لأن مصدره قد يجيء على تفعيل مثل التكليم، وعلى فعال مثل كذاب، وعلى تفعلة مثل توصية، وعلى مفعل مثل‏:‏ ‏{‏ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 19‏]‏ قرأ الجمهور ‏{‏كذاباً‏}‏ بالتشديد‏.‏ وقرأ عليّ بن أبي طالب بالتخفيف‏.‏ وقال أبو عليّ الفارسي التخفيف والتشديد جميعاً مصدر المكاذبة‏.‏ وقرأ ابن عمر‏:‏ ‏(‏كذاباً‏)‏ بضم الكاف والتشديد، جمع كاذب‏.‏ قال أبو حاتم ونصبه على الحال‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وقد يكون يعني‏:‏ على هذه القراءة بمعنى الواحد البليغ في الكذب، تقول‏:‏ رجل كذاب كقولك حسان وبخال‏.‏

‏{‏وَكُلَّ شَئ أحصيناه كتابا‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وكل‏}‏ بالنصب على الاشتغال أي‏:‏ وأحصينا كل شيء أحصيناه‏.‏ وقرأ أبو السماك برفعه على الابتداء، وما بعده خبره، وهذه الجملة معترضة بين السبب والمسبب، وانتصاب ‏{‏كتاباً‏}‏ على المصدرية لأحصيناه؛ لأن أحصيناه في معنى كتبناه، وقيل‏:‏ هو منتصب على الحال أي‏:‏ مكتوباً، قيل‏:‏ المراد كتبناه في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة، وقيل‏:‏ أراد ما كتبه الحفظة على العباد من أعمالهم، وقيل‏:‏ المراد به العلم لأن ما كتب كان أبعد من النسيان، والأوّل أولى لقوله‏:‏ ‏{‏وَكُلَّ شئ أحصيناه فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏ياس‏:‏ 12‏]‏ ‏{‏فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً‏}‏ هذه الجملة مسببة عن كفرهم، وتكذيبهم بالآيات‏.‏ قال الرّازي‏:‏ هذه الفاء للجزاء، فنبه على أن الأمر بالذوق معلل بما تقدّم شرحه من قبائح أفعالهم؛ ومن الزيادة في عذابهم أنها كلما نضجت جلودهم بدّلهم جلوداً غيرها، وكلما خبت النار زادهم الله سعيراً‏.‏

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏عَنِ النبإ العظيم‏}‏ قال‏:‏ القرآن‏:‏ وهذا مرويّ عن جماعة من التابعين‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً‏}‏ قال‏:‏ مضيئاً ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات‏}‏ قال‏:‏ السحاب ‏{‏مَاء ثَجَّاجاً‏}‏ قال‏:‏ منصباً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً ‏{‏ثَجَّاجاً‏}‏ قال‏:‏ منصباً‏.‏ وأخرج الشافعي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَاء ثَجَّاجاً‏}‏ قال‏:‏ يبعث الله الريح، فتحمل الماء، فيمرّ به السحاب، فتدرّ كما تدرّ اللقحة، والثجاج ينزل من السماء أمثال العزالي فتصرّفه الرياح فينزل متفرّقاً‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن الأنباري في المصاحف عن قتادة قال‏:‏ في قراءة ابن عباس ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات‏}‏ بالرياح‏.‏

وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وجنات أَلْفَافاً‏}‏ قال‏:‏ ملتفة‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في الآية قال‏:‏ يقول‏:‏ التفّ بعضها ببعض‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏وَسُيّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً‏}‏ قال‏:‏ سراب الشمس الآل‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏لابثين فِيهَا أَحْقَاباً‏}‏ قال‏:‏ سنين‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وهناد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن سالم بن أبي الجعد قال‏:‏ سأل عليّ بن أبي طالب هلال الهجري ما تجدون الحقب في كتاب الله‏؟‏ قال‏:‏ نجده ثمانين سنة كل سنة منها اثنا عشر شهراً كل شهر ثلاثون يوماً كل يوم ألف سنة‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، والحاكم وصححه عن ابن مسعود في الآية قال‏:‏ الحقب الواحد ثمانون سنة‏.‏ وأخرج البزار عن أبي هريرة رفعه قال‏:‏ الحقب ثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوماً، واليوم كألف سنة مما تعدّون‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عنه قال‏:‏ الحقب ثمانون عاماً اليوم منها كسدس الدنيا‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه‏.‏ قال السيوطي‏:‏ بسند ضعيف عن أبي أمامة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لابثين فِيهَا أَحْقَاباً‏}‏ قال‏:‏ «الحقب ألف شهر، والشهر ثلاثون يوماً، والسنة اثنا عشر شهراً ثلاثمائة وستون يوماً كل يوم منها ألف سنة مما تعدون، فالحقب ثلاثون ألف سنة» وأخرج البزار، وابن مردويه، والديلمي عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث فيها أحقاباً، والحقب بضع وثمانون سنة، كل سنة ثلثمائة وستون يوماً، واليوم ألف سنة مما تعدّون» قال ابن عمر‏:‏ فلا يتكلنّ أحد أنه يخرج من النار‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن عبد الله ابن عمرو قال‏:‏ الحقب الواحد ثمانون سنة‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الحقب أربعون سنة» وأخرج ابن جرير عن خالد بن معدان في قوله‏:‏ ‏{‏لابثين فِيهَا أَحْقَاباً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 108‏]‏ إنهما في أهل التوحيد من أهل القبلة‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال‏:‏ زمهرير جهنم يكون لهم من العذاب لأن الله يقول‏:‏ ‏{‏لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً‏}‏‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً‏}‏ قال‏:‏ «قد انتهى حرّه ‏{‏وَغَسَّاقاً‏}‏ قد انتهى حرّه، وإن الرجل إذا أدنى الإناء من فيه سقط فروة وجهه، حتى يبقى عظاماً تقعقع» وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏جَزَاء وفاقا‏}‏ قال‏:‏ وافق أعمالهم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ ما أنزلت على أهل النار آية قط أشدّ منها ‏{‏فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً‏}‏ فهم في مزيد من عذاب الله أبداً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 40‏]‏

‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ‏(‏31‏)‏ حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ‏(‏32‏)‏ وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ‏(‏33‏)‏ وَكَأْسًا دِهَاقًا ‏(‏34‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا ‏(‏35‏)‏ جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ‏(‏36‏)‏ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ‏(‏37‏)‏ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ‏(‏38‏)‏ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا ‏(‏39‏)‏ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً‏}‏ هذا شروع في بيان حال المؤمنين، وما أعدّ الله لهم من الخير بعد بيان حال الكافرين، وما أعدّ الله لهم من الشرّ، والمفاز مصدر بمعنى الفوز، والظفر بالنعمة، والمطلوب، والنجاة من النار، ومنه قيل‏:‏ للفلاة مفازة تفاؤلاً بالخلاص منها‏.‏ ثم فسّر سبحانه هذا المفاز فقال‏:‏ ‏{‏حَدَائِقَ وأعنابا‏}‏ وانتصابهما على أنهما بدل من مفازاً بدل اشتمال، أو بدل كلّ من كل على طريق المبالغة بجعل نفس هذه الأشياء مفازة، ويجوز أن يكون النصب بإضمار أعني، وإذا كان مفازاً بمعنى الفوز، فيقدر مضاف محذوف أي‏:‏ فوز حدائق، وهي جمع حديقة‏:‏ وهي‏:‏ البستان المحوّط عليه، والأعناب جمع عنب أي‏:‏ كروم أعناب ‏{‏وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً‏}‏ الكواعب جمع كاعبة‏:‏ وهي الناهدة، يقال‏:‏ كعبت الجارية تكعب تكعيباً وكعوباً، ونهدت تنهد نهوداً، والمراد أنهم نساء كواعب تكعبت ثديهن وتفلكت أي‏:‏ صارت ثديهنّ كالكعب في صدورهنّ‏.‏ قال الضحاك‏:‏ الكواعب العذارى‏.‏ قال قيس بن عاصم‏:‏

وكم من حصان قد حوينا كريمة *** وكم كاعب لم تدر ما البؤس معصر

وقال عمر بن أبي ربيعة‏:‏

وكان مجنى دون ما كنت أتقي *** ثلاث شخوص كاعبات ومعصر

والأتراب‏:‏ الأقران في السنّ، وقد تقدّم تحقيقه في سورة البقرة ‏{‏وَكَأْساً دِهَاقاً‏}‏ أي‏:‏ ممتلئة‏.‏ قال الحسن، وقتادة، وابن زيد‏:‏ أي‏:‏ مترعة مملوءة، يقال أدهقت الكأس أي‏:‏ ملأتها، ومنه قول الشاعر‏:‏

ألا أسقني صرفا سقاك الساقي *** من مائها بكأسك الدهاق

وقال سعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد‏:‏ ‏{‏دِهَاقاً‏}‏ متتابعة يتبع بعضها بعضاً‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏دِهَاقاً‏}‏ صافية، والمراد بالكأس الإناء المعروف، ولا يقال له الكأس إلاّ إذا كان فيه الشراب ‏{‏لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذباً‏}‏ أي‏:‏ لا يسمعون في الجنة لغواً، وهو الباطل من الكلام، ولا كذاباً أي‏:‏ ولا يكذب بعضهم بعضاً‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏كذاباً‏}‏ بالتشديد، وقرأ الكسائي هنا بالتخفيف، ووافق الجماعة على التشديد في قوله‏:‏ ‏{‏وكذبوا بآياتنا كذاباً‏}‏ المتقدم في هذه السورة للتصريح بفعله هناك، وقد قدّمنا الخلاف في ‏{‏كذاباً‏}‏ هل هو من مصادر التفعيل، أو من مصادر المفاعلة‏؟‏ ‏{‏جَزَاء مّن رَّبّكَ‏}‏ أي‏:‏ جازاهم بما تقدّم ذكره جزاء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى جزاهم جزاء، وكذا ‏{‏عَطَاء‏}‏ أي‏:‏ وأعطاهم عطاء ‏{‏حِسَاباً‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ كافياً‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ كثيراً، يقال أحسبت فلاناً أي‏:‏ أكثرت له العطاء، ومنه قول الشاعر‏:‏

ونعطي وليد الحي إن كان جائعا *** ونحسبه إن كان ليس بجائع

قال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ نعطيه حتى يقول حسبي‏.‏ قال الزجاج‏:‏ حساباً أي‏:‏ ما يكفيهم‏.‏ قال الأخفش‏:‏ يقال أحسبني كذا أي‏:‏ كفاني‏.‏ قال الكلبي‏:‏ حاسبهم، فأعطاهم بالحسنة عشراً‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ حساباً لما عملوه، فالحساب بمعنى القدر أي‏:‏ يقدّر ما وجب له في وعد الربّ سبحانه، فإنه وعد للحسنة عشراً، ووعد لقوم سبعمائة ضعف، وقد وعد لقوم جزاء لا نهاية له ولا مقدار كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏ وقرأ أبو هاشم ‏(‏حساباً‏)‏ بفتح الحاء، وتشديد السين أي‏:‏ كفافاً‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ تقول العرب‏:‏ حسبت الرجل بالتشديد‏:‏ إذا أكرمته، ومنه قول الشاعر‏:‏

إذا أتاه ضيفه يحسبه *** وقرأ ابن عباس ‏(‏حساناً‏)‏ بالنون ‏{‏رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا الرحمن‏}‏‏.‏ قرأ ابن مسعود، ونافع، وأبو عمرو، وابن كثير، وزيد عن يعقوب، والمفضل عن عاصم برفع ‏(‏ربّ‏)‏ و‏(‏الرحمن‏)‏ على أن ربّ مبتدأ، والرحمن خبره، أو على أن ربّ خبر مبتدأ مقدّر أي‏:‏ هو ربّ، والرحمن صفته، و‏{‏لا يملكون‏}‏ خبر ربّ، أو على أن ربّ مبتدأ، والرحمن مبتدأ ثان، ولا يملكون خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر المبتدأ الأوّل‏.‏ وقرأ يعقوب في رواية عنه، وابن عامر، وعاصم في رواية عنه بخفضهما على أن ربّ بدل من ربك، والرحمن صفة له‏.‏ وقرأ ابن عباس، وحمزة، والكسائي بخفض الأوّل على البدل، ورفع الثاني على أنه خبر متبدأ محذوف أي‏:‏ هو الرحمن، واختار هذه القراءة أبو عبيد وقال هذه القراءة أعدلها، فخفض ربّ لقربه من ربك، فيكون نعتاً له، ورفع الرحمن لبعده منه على الاستئناف، وخبره ‏{‏لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً‏}‏ أي‏:‏ لا يملكون أن يسألوا إلاّ فيما أذن لهم فيه‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ لا يملكون منه خطاباً بالشفاعة إلاّ بإذنه، وقيل‏:‏ الخطاب الكلام أي‏:‏ لا يملكون أن يخاطبوا الربّ سبحانه إلاّ بإذنه، دليله‏:‏ ‏{‏لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 105‏]‏ وقيل‏:‏ أراد الكفار، وأما المؤمنون فيشفعون‏.‏ ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال على ما تقدّم بيانه، ويجوز أن تكون مستأنفة مقرّرة لما تفيده الربوبية من العظمة والكبرياء‏.‏

‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً‏}‏ الظرف منتصب بلا يتكلمون، أو بلا يملكون، وصفّاً منتصب على الحال أي‏:‏ مصطفين، أو على المصدرية أي‏:‏ يصفون صفاً، وقوله‏:‏ ‏{‏لاَّ يَتَكَلَّمُونَ‏}‏ في محل نصب على الحال، أو مستأنف لتقرير ما قبله‏.‏

واختلف في الروح؛ فقيل‏:‏ إنه ملك من الملائكة أعظم من السماوات السبع، ومن الأرضين السبع، ومن الجبال، وقيل‏:‏ هو جبريل قاله الشعبي، والضحاك، وسعيد بن جبير‏.‏ وقيل‏:‏ الروح جند من جنود الله ليسوا ملائكة قاله أبو صالح، ومجاهد، وقيل‏:‏ هم أشراف الملائكة قاله مقاتل بن حيان‏.‏ وقيل‏:‏ هم حفظة على الملائكة قاله ابن أبي نجيح‏.‏ وقيل‏:‏ هم بنو آدم قاله الحسن، وقتادة‏.‏ وقيل‏:‏ هم أرواح بني آدم تقوم صفاً وتقوم الملائكة صفاً، وذلك بين النفختين قبل أن تردّ إلى الأجسام قاله عطية العوفي‏.‏

وقيل‏:‏ إنه القرآن قاله زيد بن أسلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن‏}‏ يجوز أن يكون بدلاً من ضمير يتكلمون، وأن يكون منصوباً على أصل الاستثناء، والمعنى‏:‏ لا يشفعون لأحد إلاّ من أذن له الرحمن بالشفاعة أو لا يتكلمون إلاّ في حقّ من أذن له الرحمن وكان ذلك الشخص ممن ‏{‏قال صَوَاباً‏}‏ قال الضحاك، ومجاهد‏:‏ ‏{‏صواباً‏}‏ يعني‏:‏ حقاً‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ لا إله إلاّ الله‏.‏ وأصل الصواب السداد من القول والفعل‏.‏ قيل ‏{‏لا يتكلمون‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة والروح الذين قاموا صفاً هيبة وإجلالاً إلاّ من أذن له الرحمن منهم في الشفاعة، وهم قد قالوا صواباً‏.‏ قال الحسن‏:‏ إن الروح تقوم يوم القيامة لا يدخل أحد الجنة إلاّ بالروح، ولا النار إلاّ بالعمل‏.‏ قال الواحدي‏:‏ فهم لا يتكلمون يعني‏:‏ الخلق كلهم إلاّ من أذن له الرحمن، وهم المؤمنون والملائكة، وقال في الدنيا صواباً أي‏:‏ شهد بالتوحيد، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى يوم قيامهم على تلك الصفة، وهو مبتدأ وخبره ‏{‏اليوم الحق‏}‏ أي‏:‏ الكائن الواقع المتحقق ‏{‏فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ مَئَاباً‏}‏ أي‏:‏ مرجعاً يرجع إليه بالعمل الصالح؛ لأنه إذا عمل خيراً قرّبه إلى الله، وإذا عمل شرّاً باعده منه، ومعنى‏:‏ ‏{‏إلى رَبّهِ‏}‏ إلى ثواب ربه، قال قتادة‏:‏ مآباً‏:‏ سبيلاً‏.‏

ثم زاد سبحانه في تخويف الكفار فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً‏}‏ يعني‏:‏ العذاب في الآخرة، وكلّ ما هو آت، فهو قريب، ومثله قوله‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 46‏]‏ كذا قال الكلبي، وغيره‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو عذاب الدنيا؛ لأنه أقرب العذابين‏.‏ قال مقاتل‏:‏ هو قتل قريش ببدر، والأوّل أولى لقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ‏}‏ فإن الظرف إما بدل من عذاب، أو ظرف لمضمر هو صفة له أي‏:‏ عذاباً كائناً ‏{‏يَوْمَ يَنظُرُ المرء‏}‏ أي‏:‏ يشاهد ما قدّمه من خير أو شرّ، وما موصولة أو استفهامية‏.‏ قال الحسن‏:‏ والمرء هنا هو المؤمن أي‏:‏ يجد لنفسه عملاً، فأما الكافر، فلا يجد لنفسه عملاً، فيتمنى أن يكون تراباً، وقيل‏:‏ المراد به الكافر على العموم، وقيل‏:‏ أبيّ بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، والأوّل أولى لقوله‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ الكافر الكافر ياليتنى كُنتُ ترابا‏}‏ فإن الكافر واقع في مقابلة المرء، والمراد جنس الكافر يتمنى أن يكون تراباً لما يشاهده مما قد أعدّه الله له من أنواع العذاب، والمعنى‏:‏ أنه يتمنى أنه كان تراباً في الدنيا فلم يخلق، أو تراباً يوم القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالكافر أبو جهل، وقيل‏:‏ أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وقيل‏:‏ إبليس، والأوّل أولى اعتباراً بعموم اللفظ، ولا ينافيه خصوص السبب، كما تقدّم غير مرّة‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً‏}‏ قال‏:‏ منتزهاً ‏{‏وَكَوَاعِبَ‏}‏ قال‏:‏ نواهد ‏{‏أَتْرَاباً‏}‏ قال‏:‏ مستويات ‏{‏وَكَأْساً دِهَاقاً‏}‏ قال‏:‏ ممتلئاً‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَكَأْساً دِهَاقاً‏}‏ قال‏:‏ هي الممتلئة المترعة المتتابعة، وربما سمعت العباس يقول‏:‏ يا غلام اسقنا، وادهق لنا‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عنه دهاقاً، قال دراكاً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً قال‏:‏ إذا كان فيها خمر فهي‏:‏ كأس، وإذا لم يكن فيها خمر، فليس بكأس‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه عنه أيضاً أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الروح جند من جنود الله ليسوا بملائكة لهم رؤوس، وأيد، وأرجل» ثم قرأ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً‏}‏ قال «هؤلاء جند، وهؤلاء جند» وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الروح‏}‏ قال‏:‏ هو ملك من أعظم الملائكة خلقاً‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال‏:‏ الروح في السماء الرابعة، وهو أعظم من السموات والجبال ومن الملائكة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة يخلق الله من كل تسبيحة ملكاً من الملائكة يجيء يوم القيامة صفاً واحداً‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال‏:‏ إن جبريل يوم القيامة لقائم بين يدي الجبار ترعد فرائصه فرقاً من عذاب الله، يقول‏:‏ سبحانك لا إله إلاّ أنت ما عبدناك حق عبادتك، ما بين منكبيه، كما بين المشرق والمغرب، أما سمعت قول الله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً‏}‏‏.‏ وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الروح‏}‏ قال‏:‏ يعني‏:‏ حين تقوم أرواح الناس مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن تردّ الروح إلى الأجساد‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضاً ‏{‏وَقَالَ صَوَاباً‏}‏ قال‏:‏ لا إله إلاّ الله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث والنشور عن أبي هريرة قال‏:‏ يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم، والدواب، والطير وكلّ شيء، فيبلغ من عذاب الله أن يؤخذ للجماء من القرناء، ثم يقول‏:‏ كوني تراباً، فذلك حين يقول الكافر ‏{‏الكافر ياليتنى كُنتُ ترابا‏}‏‏.‏