فصل: سورة النازعات

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


سورة النازعات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 26‏]‏

‏{‏وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ‏(‏1‏)‏ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ‏(‏2‏)‏ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ‏(‏3‏)‏ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ‏(‏4‏)‏ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ‏(‏6‏)‏ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ‏(‏7‏)‏ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ‏(‏8‏)‏ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ‏(‏9‏)‏ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ‏(‏10‏)‏ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً ‏(‏11‏)‏ قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ‏(‏12‏)‏ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ‏(‏13‏)‏ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ‏(‏14‏)‏ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ‏(‏15‏)‏ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ‏(‏16‏)‏ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏17‏)‏ فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ‏(‏18‏)‏ وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ‏(‏19‏)‏ فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى ‏(‏20‏)‏ فَكَذَّبَ وَعَصَى ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ‏(‏22‏)‏ فَحَشَرَ فَنَادَى ‏(‏23‏)‏ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ‏(‏24‏)‏ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى ‏(‏25‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ‏(‏26‏)‏‏}‏

أقسم سبحانه بهذه الأشياء التي ذكرها، وهي الملائكة التي تنزع أرواح العباد عن أجسادهم، كما ينزع النازع في القوس، فيبلغ بها غاية المدّ، وكذا المراد‏:‏ بالناشطات، والسابحات، والسابقات، والمدبرات‏:‏ يعني‏:‏ الملائكة، والعطف مع اتحاد الكلّ؛ لتنزيل التغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي، كما في قول الشاعر‏:‏

إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم

وهذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم‏.‏ وقال السديّ‏:‏ ‏{‏النازعات‏}‏ هي النفوس حين تغرق في الصدور‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هي الموت ينزع النفس‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق، من قولهم‏:‏ نزع إليه إذا ذهب، أو من قولهم‏:‏ نزعت بالحبل أي‏:‏ إنها تغرب وتغيب وتطلع من أفق آخر‏.‏ وبه قال أبو عبيدة، والأخفش، وابن كيسان‏.‏ وقال عطاء، وعكرمة‏:‏ النازعات القسي تنزع بالسهام، وإغراق النازع في القوس أن يمدّه غاية المدّ حتى ينتهي به إلى النصل‏.‏ وقال يحيى بن سلام‏:‏ تنزع بين الكلأ وتنفر، وقيل‏:‏ أراد بالنازعات الغزاة الرماة، وانتصاب ‏{‏غَرْقاً‏}‏ على أنه مصدر بحذف الزوائد أي‏:‏ إغراقاً، والناصب له ما قبله لملاقاته له في المعنى أي‏:‏ إغراقاً في النزع حيث تنزعها من أقاصي الأجساد، أو على الحال أي‏:‏ ذوات إغراق، يقال أغرق في الشيء يغرق فيه‏:‏ إذا أوغل فيه وبلغ غايته ومعنى ‏{‏الناشطات‏}‏‏:‏ أنها تنشط النفوس أي‏:‏ تخرجها من الأجساد، كما ينشط العقال من يد البعير، إذا حلّ عنه، ونشط الرجل الدلو من البئر‏:‏ إذا أخرجها، والنشاط‏:‏ الجذب بسرعة، ومنه الأنشوطة للعقدة التي يسهل حلها‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ نشطت الحبل أنشطه نشطاً عقدته، وأنشطته، أي‏:‏ حللته، وأنشطت الحبل، أي‏:‏ مددته‏.‏ قال الفراء‏:‏ أنشط العقال أي‏:‏ حلّ، ونشط أي‏:‏ ربط الحبل في يديه‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ بئر أنشاط أي‏:‏ قريبة القعر يخرج الدلو منها بجذبة واحدة، وبئر نشوط، وهي التي لا يخرج منها الدلو حتى ينشط كثيراً‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو الموت ينشط نفس الإنسان‏.‏ وقال السديّ‏:‏ هي النفوس حين تنشط من القدمين‏.‏ وقال عكرمة، وعطاء‏:‏ هي الأوهاق التي تنشط السهام، وقال قتادة، والحسن، والأخفش‏:‏ هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق أي‏:‏ تذهب‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ والناشطات نشطاً‏:‏ يعني‏:‏ النجوم من برج إلى برج كالثور الناشط من بلد إلى بلد، والهموم تنشط بصاحبها‏.‏ وقال أبو عبيدة، وقتادة‏:‏ هي الوحوش حين تنشط من بلد إلى بلد‏.‏ وقيل‏:‏ الناشطات لأرواح المؤمنين، والنازعات لأرواح الكافرين؛ لأنها تجذب روح المؤمن برفق، وتجذب روح الكافر بعنف، وقوله‏:‏ ‏{‏نَشْطاً‏}‏ مصدر، وكذا سبحاً وسبقاً ‏{‏والسابحات‏}‏ الملائكة تسبح في الأبدان لإخراج الروح كما يسبح الغوّاص في البحر لإخراج شيء منه، وقال مجاهد، وأبو صالح‏:‏ هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين لأمر الله، كما يقال للفرس الجواد‏:‏ سابح إذا أسرع في جريه‏.‏

وقال مجاهد أيضاً‏:‏ السابحات الموت يسبح في نفوس بني آدم‏.‏ وقيل‏:‏ هي الخيل السابحة في الغزو، ومنه قول عنترة‏:‏

والخيل تعلم حين تس *** بح في حياض الموت سبحا

وقال قتادة، والحسن‏:‏ هي النجوم تسبح في أفلاكها، كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ ‏[‏ياس‏:‏ 40‏]‏ وقال عطاء‏:‏ هي السفن تسبح في الماء، وقيل‏:‏ هي أرواح المؤمنين تسبح شوقاً إلى الله ‏{‏فالسابقات سَبْقاً‏}‏ هم‏:‏ الملائكة على قول الجمهور كما سلف‏.‏ قال مسروق، ومجاهد‏:‏ تسبق الملائكة الشياطين بالوحي إلى الأنبياء‏.‏ وقال أبو روق‏:‏ هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير، والعمل الصالح، وروي نحوه عن مجاهد‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة‏.‏ وقال الربيع‏:‏ هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة شوقاً إلى الله‏.‏ وقال مجاهد أيضاً‏:‏ هو الموت يسبق الإنسان‏.‏ وقال قتادة، والحسن، ومعمر‏:‏ هي النجوم يسبق بعضها في السير بعضاً‏.‏ وقال عطاء‏:‏ هي الخيل التي تسبق إلى الجهاد‏.‏ وقيل‏:‏ هي الأرواح التي تسبق الأجساد إلى الجنة أو النار‏.‏ قال الجرجاني‏:‏ عطف السابقات بالفاء، لأنها مسببة من التي قبلها، أي‏:‏ واللاتي يسبحن فيسبقن‏.‏ تقول قام فذهب، فهذا يوجب أن يكون القيام سبباً للذهاب، ولو قلت قام وذهب بالواو لم يكن القيام سبباً للذهاب‏.‏ قال الواحدي‏:‏ وهذا غير مطرد في قوله‏:‏ ‏{‏فالمدبرات أَمْراً‏}‏ لأنه يبعد أن يجعل السبق سبباً للتدبر‏.‏ قال الرازي‏:‏ ويمكن الجواب عما قاله الواحدي‏:‏ بأنها لما أمرت سبحت فسبقت فدبرت ما أمرت بتدبيره، فتكون هذه أفعالاً يتصل بعضها ببعض كقوله‏:‏ قام زيد فذهب، ولما سبقوا في الطاعات وسارعوا إليها ظهرت أمانتهم، ففوّض إليهم التدبير‏.‏ ويجاب عنه بأن السبق لا يكون سبباً للتدبير كسببية السبح للسبق، والقيام للذهاب، ومجرد الاتصال لا يوجب السببية والمسببية، والأولى أن يقال‏:‏ العطف بالفاء في المدبرات طوبق به ما قبله من عطف السابقات بالفاء، ولا يحتاج إلى نكتة، كما احتاج إليها ما قبله؛ لأن النكتة إنما تطلب لمخالفة اللاحق للسابق لا لمطابقته وموافقته‏.‏

‏{‏فالمدبرات أَمْراً‏}‏ قال القشيري‏:‏ أجمعوا على أن المراد هنا‏:‏ الملائكة‏.‏ وقال الماوردي‏:‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما الملائكة وهو قول الجمهور‏.‏ والثاني أنها الكواكب السبع، حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل، وفي تدبيرها الأمر وجهان‏:‏ أحدهما تدبر طلوعها، وأفولها‏.‏ الثاني‏:‏ تدبر ما قضاه الله فيها من الأحوال‏.‏ ومعنى تدبير الملائكة للأمر نزولها بالحلال والحرام، وتفصيلهما، والفاعل للتدبير في الحقيقة، وإن كان هو الله عزّ وجلّ، لكن لما نزلت الملائكة به وصفت به‏.‏ وقيل‏:‏ إن الملائكة لما أمرت بتدبير أهل الأرض في الرياح والأمطار وغير ذلك قيل لها‏:‏ مدبرات‏.‏

قال عبد الرحمن بن ساباط‏:‏ تدبير أمر الدنيا إلى أربعة من الملائكة‏:‏ جبريل، وميكائيل، وعزرائيل، وإسرافيل، فأما جبريل، فموكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل، فموكل بالقطر والنبات، وأما عزرائيل، فموكل بقبض الأنفس، وأما إسرافيل، فهو ينزل بالأمر عليهم، وجواب القسم بهذه الأمور التي أقسم الله بها محذوف أي‏:‏ والنازعات، وكذا، وكذا لتبعثنّ‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ وحذف لمعرفة السامعين به، ويدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏أإِذَا كُنَّا عظاما نَّخِرَةً‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن جواب القسم قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يخشى‏}‏ أي‏:‏ إن في يوم القيامة، وذكر موسى وفرعون لعبرة لمن يخشى‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وهذا قبيح؛ لأن الكلام قد طال بينهما، وقيل‏:‏ جواب القسم ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى‏}‏ لأن المعنى‏:‏ قد أتاك، وهذا ضعيف جداً، وقيل الجواب‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة‏}‏ على تقدير ليوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة‏.‏ وقال السجستاني‏:‏ يجوز أن يكون هذا من التقديم والتأخير، كأنه قال‏:‏ فإذا هم بالساهرة والنازعات‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وهذا خطأ، لأن الفاء لا يفتتح بها الكلام، والأوّل أولى‏.‏

‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة‏}‏ انتصاب هذا الظرف بالجواب المقدّر للقسم، أو بإضمار اذكر، والراجفة المضطربة، يقال رجف يرجف‏:‏ إذا اضطرب، والمراد هنا الصيحة العظيمة التي فيها تردّد واضطراب كالرعد، وهي النفخة الأولى التي يموت بها جميع الخلائق، والرادفة‏:‏ النفخة الثانية التي تكون عند البعث، وسميت رادفة؛ لأنها ردفت النفخة الأولى، كذا قال جمهور المفسرين‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الراجفة‏:‏ الأرض، والرادفة‏:‏ الساعة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الرادفة‏:‏ الزلزلة ‏{‏تتبعها الرادفة‏}‏ الصيحة، وقيل‏:‏ الراجفة اضطراب الأرض، والرادفة الزلزلة، وأصل الرجفة الحركة، وليس المراد‏:‏ التحرك هنا فقط، بل الراجفة هنا مأخوذة من قولهم‏:‏ رجف الرعد يرجف رجفاً ورجيفاً‏:‏ إذا ظهر صوته، ومنه سميت الأراجيف لاضطراب الأصوات بها، وظهور الأصوات فيها، ومنه قول الشاعر‏:‏

أبا لأراجيف يا ابن اللؤم توعدني *** وفي الأراجيف خلت اللؤم والخورا

ومحل ‏{‏تَتْبَعُهَا الرادفة‏}‏‏:‏ النصب على الحال من الراجفة، والمعنى‏:‏ لتبعثنّ يوم النفخة الأولى حال كون النفخة الثانية تابعة لها‏.‏ ‏{‏قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ‏}‏ قلوب مبتدأ، ويومئذ منصوب بواجفة، وواجفة صفة قلوب، وجملة ‏{‏أبصارها خاشعة‏}‏ خبر قلوب، والراجفة‏:‏ المضطربة القلقة لما عاينت من أهوال يوم القيامة‏.‏ قال جمهور المفسرين أي‏:‏ خائفة وجلة‏.‏ وقال السديّ‏:‏ زائلة عن أماكنها، نظيره‏:‏ ‏{‏إِذِ القلوب لَدَى الحناجر‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 18‏]‏ وقال المؤرج‏:‏ قلقة مستوفزة‏.‏ وقال المبرد‏:‏ مضطربة، يقال وجف القلب يجف وجيفاً‏:‏ إذا خفق، كما يقال وجب يجب وجيباً، والإيجاف‏:‏ السير السريع، فأصل الوجيف اضطراب القلب، ومنه قول قيس بن الخطيم‏:‏

إن بني جحجبي وقومهم *** أكبادنا من ورائهم تجف

‏{‏أبصارها خاشعة‏}‏ أي‏:‏ أبصار أصحابها، فحذف المضاف، والخاشعة‏:‏ الذليلة، والمراد‏:‏ أنها تظهر عليهم الذلة والخضوع عند معاينة أهوال يوم القيامة، كقوله‏:‏ ‏{‏خاشعين مِنَ الذل‏}‏

‏[‏الشورى‏:‏ 45‏]‏ قال عطاء‏:‏ يريد أبصار من مات على غير الإسلام، ويدلّ على هذا أن السياق في منكري البعث ‏{‏يَقُولُونَ أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الحافرة‏}‏ هذا حكاية لما يقوله المنكرون للبعث إذا قيل لهم إنكم تبعثون أي‏:‏ أنردّ إلى أوّل حالنا، وابتداء أمرنا، فنصير أحياء بعد موتنا، يقال‏:‏ رجع فلان في حافرته، أي‏:‏ رجع من حيث جاء، والحافرة عند العرب اسم لأوّل الشيء، وابتداء الأمر، ومنه قولهم رجع فلان على حافرته‏:‏ أي على الطريق الذي جاء منه، ويقال اقتتل القوم عند الحافرة أي‏:‏ عند أوّل ما التقوا، وسميت الطريق التي جاء منها حافرة لتأثيره فيها بمشيه فيها فهي حافرة بمعنى محفورة، ومن هذا قول الشاعر‏:‏

أحافرة على صلع وشيب *** معاذ الله من سفه وعار

أي أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل بعد الشيب والصلع‏؟‏‏!‏ وقيل الحافرة‏:‏ العاجلة، والمعنى‏:‏ إنا لمردودون إلى الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ الحافرة‏:‏ الأرض التي تحفر فيها قبورهم، ومنه قول الشاعر‏:‏

آليت لا أنساكم فاعلموا *** حتى يردّ الناس في الحافرة

والمعنى‏:‏ إنا لمردودون في قبورنا أحياء، كذا قال الخليل، والفراء، وبه قال مجاهد‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الحافرة‏:‏ النار، واستدلّ بقوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسرة‏}‏‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏في الحافرة‏}‏ وقرأ أبو حيوة «في الحفرة»‏.‏ ‏{‏أإِذَا كُنَّا عظاما نَّخِرَةً‏}‏ أي‏:‏ بالية متفتتة‏.‏ يقال‏:‏ نخر العظم بالكسر‏:‏ إذا بلي وهذا تأكيد لإنكار البعث أي‏:‏ كيف نردّ أحياء، ونبعث إذا كنا عظاماً نخرة‏؟‏ والعامل في إذا مضمر يدلّ عليه مردودون أي‏:‏ أئذا كنا عظاماً بالية نردّ ونبعث مع كونها أبعد شيء من الحياة‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏نخرة‏}‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر «ناخرة»، واختار القراءة الأولى أبو عبيد، وأبو حاتم، واختار القراءة الثانية الفراء، وابن جرير، وأبو معاذ النحوي‏.‏ قال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ الناخرة التي لم تنخر بعد، أي‏:‏ لم تبل ولا بدّ أن تنخر‏.‏ وقيل‏:‏ هما بمعنى، تقول العرب‏:‏ نخر الشيء، فهو ناخر ونخر، وطمع، فهو طامع وطمع ونحو ذلك‏.‏ قال الأخفش‏:‏ هما جميعاً لغتان أيهما قرأت فحسن‏.‏ قال الشاعر‏:‏

يظلّ بها الشيخ الذي كان بادنا *** يدبّ على عوج له نخرات

يعني‏:‏ على قوائم عوج‏.‏ وقيل‏:‏ الناخرة التي أكلت أطرافها وبقيت أوساطها، والنخرة التي فسدت كلها‏.‏ وقال مجاهد نخرة أي‏:‏ مرفوتة، كما في قوله‏:‏ ‏{‏رفاتاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 49‏]‏‏.‏ وقد قرئ‏:‏ «إذا كنا» و‏{‏أئذا كنا‏}‏ بالاستفهام، وبعدمه‏.‏ ثم ذكر سبحانه عنهم قولاً آخر قالوه فقال‏:‏ ‏{‏قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسرة‏}‏ أي رجعة ذات خسران لما يقع على أصحابها من الخسران، والمعنى‏:‏ أنهم قالوا إن رددنا بعد الموت لنخسرنّ بما يصيبنا بعد الموت مما يقوله محمد‏.‏ وقيل‏:‏ معنى خاسرة كاذبة أي‏:‏ ليست بكائنة، كذا قال الحسن وغيره‏.‏

وقال الربيع بن أنس‏:‏ خاسرة على من كذب بها‏.‏ وقال قتادة، ومحمد بن كعب أي‏:‏ لئن رجعنا بعد الموت لنخسرنّ بالنار، وإنما قالوا هذا لأنهم أوعدوا بالنار، والكرّة‏:‏ الرجعة، والجمع كرّات‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحدة‏}‏ تعليل لما يدل عليه ما تقدّم من استبعادهم لبعث العظام النخرة، وإحياء الأموات، والمعنى‏:‏ لا تستبعدوا ذلك فإنما هي زجرة واحدة، وكان ذلك الإحياء، والبعث، والمراد بالزجرة الصيحة وهي النفخة الثانية التي يكون البعث بها‏.‏ وقيل‏:‏ إن الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا هِىَ‏}‏‏.‏ راجع إلى الرادفة المتقدّم ذكرها‏.‏ ‏{‏فَإِذَا هُم بالساهرة‏}‏ أي‏:‏ فإذا الخلائق الذين قد ماتوا ودفنوا أحياء على وجه الأرض، قال الواحدي‏:‏ المراد بالساهرة وجه الأرض، وظاهرها في قول الجميع‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ سميت بهذا الاسم؛ لأن فيها نوم الحيوان، وسهرهم‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه يسهر في فلاتها خوفاً منها، فسميت بذلك، ومنه قول أبي كثير الهذلي‏:‏

يردون ساهرة كأنّ حميمها *** وغميمها أسداف ليل مظلم

وقول أمية بن أبي الصلت‏:‏

وفيها لحم ساهرة وبحر *** وما فاهوا به لهم مقيم

يريد لحم حيوان أرض ساهرة‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ الساهرة وجه الأرض، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا هُم بالساهرة‏}‏‏.‏ وقال‏:‏ الساهرة أرض بيضاء، وقيل‏:‏ أرض من فضة لم يعص الله سبحانه فيها‏.‏ وقيل‏:‏ الساهرة الأرض السابعة يأتي بها الله سبحانه فيحاسب عليها الخلائق‏.‏ وقال سفيان الثوري‏:‏ الساهرة أرض الشام‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هي جهنم، أي‏:‏ فإذا هؤلاء الكفار في جهنم، وإنما قيل لها ساهرة؛ لأنهم لا ينامون فيها لاستمرار عذابهم، وجملة‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى‏}‏ مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيب قومه، وأنه يصيبهم مثل ما أصاب من كان قبلهم ممن هو أقوى منهم، ومعنى ‏{‏هل أتاك‏}‏‏:‏ قد جاءك وبلغك، هذا على تقدير أن قد سمع من قصص فرعون وموسى ما يعرف به حديثهما، وعلى تقدير أن هذا أوّل ما نزل عليه في شأنهما، فيكون المعنى على الاستفهام أي‏:‏ هل أتاك حديثه أنا أخبرك به‏.‏

‏{‏إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالواد المقدس طُوًى‏}‏ الظرف متعلق ب ‏{‏حديث‏}‏ لا ب ‏{‏أتاك‏}‏ لاختلاف وقتيهما، وقد مضى من خبر موسى وفرعون في غير موضع ما فيه كفاية، وقد تقدّم الاختلاف بين القرّاء في ‏{‏طوى‏}‏ في سورة طه‏.‏ والواد المقدّس‏:‏ المبارك المطهر‏.‏ قال الفراء‏:‏ ‏{‏طوى‏}‏ واد بين المدينة ومصر‏.‏ قال‏:‏ وهو معدول من طاو كما عدل عمر من عامر‏.‏ قال‏:‏ والصرف أحبّ إليّ إذ لم أجد في المعدول نظيراً له‏.‏ وقيل‏:‏ طوى معناه يا رجل بالعبرانية، فكأنه قيل يا رجل اذهب، وقيل المعنى‏:‏ إن الوادي المقدّس بورك فيه مرتين، والأوّل أولى‏.‏ وقد مضى تحقيق القول فيه‏.‏ ‏{‏اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى‏}‏ قيل‏:‏ هو على تقدير القول، وقيل‏:‏ هو تفسير للنداء أي‏:‏ ناداه نداء هو قوله اذهب‏.‏

وقيل‏:‏ هو على حذف أن المفسرة، ويؤيده قراءة ابن مسعود أن اذهب؛ لأن في النداء معنى القول، وجملة‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ طغى‏}‏ تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال أي‏:‏ جاوز الحدّ في العصيان، والتكبر، والكفر بالله ‏{‏فَقُلْ‏}‏ له ‏{‏هَل لَّكَ إلى أَن تزكى‏}‏ أي‏:‏ قوله بعد وصولك إليه هل لك رغبة إلى التزكي وهو التطهر من الشرك، وأصله تتزكى فحذفت إحدى التاءين‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تزكى‏}‏ بالتخفيف‏.‏ وقرأ نافع، وابن كثير بتشديد الزاي على إدغام التاء في الزاي‏.‏ قال أبو عمرو بن العلاء معنى قراءة التخفيف تكون زكياً مؤمناً ومعنى قراءة التشديد الصدقة، وفي الكلام مبتدأ مقدّر يتعلق به إليه، والتقدير‏:‏ هل لك رغبة، أو هل لك توجه، أو هل لك سبيل إلى التزكي، ومثل هذا قولهم هل لك في الخير‏؟‏ يريدون هل لك رغبة في الخير، ومن هذا قول الشاعر‏:‏

فهل لكم فيها إليّ فإنني *** بصير بما أعيا النطاسي جذيما

‏{‏وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ فتخشى‏}‏ أي‏:‏ أرشدك إلى عبادته وتوحيده، فتخشى عقابه، والفاء لترتيب الخشية على الهداية؛ لأن الخشية لا تكون إلاّ من مهتد راشد ‏{‏فَأَرَاهُ الآية الكبرى‏}‏ هذه الفاء هي الفصيحة لإفصاحها عن كلام محذوف، يعني‏:‏ فذهب فقال له ما قال مما حكاه الله في غير موضع، وأجاب عليه بما أجاب إلى أن قال‏:‏ ‏{‏قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَةٍ فَأْتِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 106‏]‏ فعند ذلك أراه الآية الكبرى‏.‏

واختلف في الآية الكبرى ما هي‏؟‏ فقيل‏:‏ العصا، وقيل‏:‏ يده‏.‏ وقيل‏:‏ فلق البحر‏.‏ وقيل‏:‏ هي جميع ما جاء به من الآيات التسع ‏{‏فَكَذَّبَ وعصى‏}‏ أي‏:‏ فلما أراه الآية الكبرى كذّب بموسى، وبما جاء به، وعصى الله عزّ وجلّ، فلم يطعه ‏{‏ثُمَّ أَدْبَرَ‏}‏ أي‏:‏ تولى، وأعرض عن الإيمان ‏{‏يسعى‏}‏ أي‏:‏ يعمل بالفساد في الأرض، ويجتهد في معارضة ما جاء به موسى، وقيل‏:‏ أدبر هارباً من الحية يسعى خوفاً منها‏.‏ وقال الرازي‏:‏ معنى‏:‏ ‏{‏أَدْبَرَ يسعى‏}‏ أقبل يسعى، كما يقال أقبل يفعل كذا أي‏:‏ أنشأ يفعل كذا، فوضع أدبر موضع أقبل؛ لئلا يوصف بالإقبال‏.‏ ‏{‏فَحَشَرَ‏}‏ أي‏:‏ فجمع جنوده للقتال والمحاربة، أو جمع السحرة للمعارضة، أو جمع الناس للحضور؛ ليشاهدوا ما يقع، أو جمعهم ليمنعوه من الحية ‏{‏فنادى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى‏}‏ أي‏:‏ قال لهم بصوت عال، أو أمر من ينادي بهذا القول‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى‏}‏ أنه لا ربّ فوقي‏.‏ قال عطاء‏:‏ كان صنع لهم أصناماً صغاراً وأمرهم بعبادتها، وقال‏:‏ أنا ربّ أصنامكم، وقيل‏:‏ أراد بكونه ربهم أنه قائدهم وسائدهم‏.‏ والأوّل أولى لقوله في آية أخرى‏:‏ ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى‏}‏

‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏‏.‏ ‏{‏فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الأخرة والأولى‏}‏ النكال نعت مصدر محذوف، أي‏:‏ أخذه أخذ نكال، أو هو مصدر لفعل محذوف، أي‏:‏ أخذه الله، فنكله نكال الآخرة، والأولى، أو مصدر مؤكد لمضمون الجملة، والمراد بنكال الآخرة عذاب النار، ونكال الأولى عذاب الدنيا بالغرق‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ عذاب أوّل عمره وآخره‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الآخرة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى‏}‏ والأولى‏:‏ تكذيبه لموسى‏.‏ وقيل‏:‏ الآخرة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى‏}‏ والأولى‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏ وكان بين الكلمتين أربعون سنة، ويجوز أن يكون انتصاب نكال على أنه مفعول له أي‏:‏ أخذه الله لأجل نكال، ويجوز أن ينتصب بنزع الخافض أي‏:‏ بنكال‏.‏ ورجح الزجاج أنه مصدر مؤكد، قال‏:‏ لأن معنى أخذه الله‏:‏ نكل الله به، فأخرج من معناه لا من لفظه‏.‏ وقال الفرّاء أي‏:‏ أخذه الله أخذاً نكالاً أي‏:‏ للنكال، والنكال اسم لما جعل نكالاً للغير أي‏:‏ عقوبة له، يقال‏:‏ نكل فلان بفلان إذا عاقبه، وأصل الكلمة من الامتناع، ومنه النكول عن اليمين، والنكل القيد‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يخشى‏}‏ أي‏:‏ فيما ذكر من قصة فرعون، وما فعل به عبرة عظيمة لمن شأنه أن يخشى الله ويتقيه، ويخاف عقوبته، ويحاذر غضبه‏.‏

وقد أخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب في قوله‏:‏ ‏{‏والنازعات غَرْقاً‏}‏ قال‏:‏ هي الملائكة تنزع روح الكفار ‏{‏والناشطات نَشْطاً‏}‏ قال‏:‏ هي الملائكة تنشط أرواح الكفار ما بين الأظفار والجلد حتى تخرجها ‏{‏والسابحات سَبْحاً‏}‏ هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين بين السماء والأرض ‏{‏فالسابقات سَبْقاً‏}‏ هي الملائكة يسبق بعضها بعضاً بأرواح المؤمنين إلى الله ‏{‏فالمدبرات أَمْراً‏}‏ هي الملائكة تدبر أمر العباد من السنة إلى السنة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏والنازعات غَرْقاً‏}‏ قال‏:‏ هي أنفس الكفار تنزع، ثم تنشط، ثم تغرق في النار‏.‏ وأخرج الحاكم وصححه عنه‏:‏ ‏{‏والنازعات غَرْقاً * والناشطات نَشْطاً‏}‏ قال‏:‏ الموت‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود‏:‏ ‏{‏والنازعات غَرْقاً‏}‏ قال‏:‏ الملائكة الذين يلون أنفس الكفار إلى قوله‏:‏ ‏{‏والسابحات سَبْحاً‏}‏ قال‏:‏ الملائكة‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل قال‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تمزّق الناس، فتمزقك كلاب النار، قال الله‏:‏ ‏{‏والناشطات نَشْطاً‏}‏ أتدري ما هو‏؟‏» قلت‏:‏ يا نبيّ الله ما هو‏؟‏ قال‏:‏ «كلاب في النار تنشط اللحم والعظم» وأخرج ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب أن ابن الكوّاء سأله عن‏:‏ ‏{‏المدبرات أمْراً‏}‏ قال‏:‏ هي الملائكة يدبرون ذكر الرحمن وأمره‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏لَكَ أمْراً‏}‏ ملائكة يكونون مع ملك الموت يحضرون الموتى عند قبض أرواحهم، فمنهم من يعرج بالروح، ومنهم من يؤمِّن على الدّعاء، ومنهم من يستغفر للميت حتى يُصلى عليه ويدلى في حفرته‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه ‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة‏}‏ قال‏:‏ النفخة الأولى ‏{‏تَتْبَعُهَا الرادفة‏}‏ قال‏:‏ النفخة الثانية ‏{‏قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ‏}‏ قال‏:‏ خائفة ‏{‏أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الحافرة‏}‏ قال‏:‏ الحياة‏.‏ وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وحسنه، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن أبيّ بن كعب قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام فقال‏:‏ «أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه» وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، والديلمي عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ترجف الأرض رجفاً وتزلزل بأهلها وهي‏:‏ التي يقول الله ‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة‏}‏» يقول‏:‏ «مثل السفينة في البحر تكفأ بأهلها مثل القنديل المعلق بأرجائه» وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ‏}‏ قال‏:‏ وجلة متحركة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عنه‏:‏ ‏{‏أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الحافرة‏}‏ قال‏:‏ خلقاً جديداً‏.‏ وأخرج أبو عبيد في فضائله، وابن الأنباري في الوقف والابتداء، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً أنه سئل عن قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا هُم بالساهرة‏}‏ فقال‏:‏ الساهرة وجه الأرض، وفي لفظ قال‏:‏ الأرض كلها ساهرة، ألا ترى قول الشاعر‏:‏

صيد بحر وصيد ساهرة *** وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏هَل لَّكَ إلى أَن تزكى‏}‏ قال‏:‏ هل لك أن تقول‏:‏ لا إله إلاّ الله‏؟‏ وأخرج ابن جرير عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الأخرة‏}‏ قال‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى‏}‏ ‏{‏والأولى‏}‏ قال‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ كان بين كلمتيه أربعون سنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 46‏]‏

‏{‏أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ‏(‏27‏)‏ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ‏(‏28‏)‏ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ‏(‏29‏)‏ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ‏(‏30‏)‏ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ‏(‏31‏)‏ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ‏(‏32‏)‏ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ‏(‏33‏)‏ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ‏(‏34‏)‏ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ‏(‏35‏)‏ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى ‏(‏36‏)‏ فَأَمَّا مَنْ طَغَى ‏(‏37‏)‏ وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏38‏)‏ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ‏(‏39‏)‏ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ‏(‏40‏)‏ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ‏(‏41‏)‏ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ‏(‏42‏)‏ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ‏(‏43‏)‏ إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ‏(‏44‏)‏ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ‏(‏45‏)‏ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ‏(‏46‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السماء بناها‏}‏ أي أخلقكم بعد الموت، وبعثكم أشدّ عندكم، وفي تقديركم أم خلق السماء‏؟‏ والخطاب لكفار مكة، والمقصود به‏:‏ التوبيخ لهم والتبكيت؛ لأن من قدر على خلق السماء‏؟‏ التي لها هذا الجرم العظيم وفيها من عجائب الصنع وبدائع القدرة ما هو بين للناظرين كيف يعجز عن إعادة الأجسام التي أماتها بعد أن خلقها أوّل مرّة‏؟‏ ومثل هذا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 57‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَوَ لَيْسَ

1649‏;‏لَّذِى خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم‏}‏ ‏[‏ياس‏:‏ 81‏]‏ ثم بيّن سبحانه كيفية خلق السماء فقال‏:‏ ‏{‏بناها * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا‏}‏ أي‏:‏ جعلها كالبناء المرتفع فوق الأرض، ورفع سمكها أي‏:‏ أعلاه في الهواء، فقوله‏:‏ ‏{‏رَفَعَ سَمْكَهَا‏}‏ بيان للبناء، يقال سمكت الشيء أي‏:‏ رفعته في الهواء، وسمك الشيء سموكاً‏:‏ ارتفع‏.‏ قال الفرّاء كل شيء حمل شيئًا من البناء أو غيره فهو سمك، وبناء مسموك، وسنام سامك أي‏:‏ عال، والسموكات‏:‏ السموات‏:‏ ومنه قول الفرزدق‏:‏

إن الذي سمك السماء بنى لنا *** بيتاً دعائمه أعزّ وأطول

قال البغوي‏:‏ رفع سمكها، أي‏:‏ سقفها‏.‏ قال الكسائي، والفراء، والزجاج‏:‏ تمّ الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏أَمِ السماء بناها‏}‏ لأنه من صلة السماء، والتقدير‏:‏ أم السماء التي بناها، فحذف التي، ومثل هذا الحذف جائز‏.‏ ومعنى ‏{‏فَسَوَّاهَا‏}‏‏:‏ فجعلها مستوية الخلق معدّلة الشكل لا تفاوت فيها، ولا اعوجاج، ولا فطور، ولا شقوق‏.‏ ‏{‏وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا‏}‏ الغطش‏:‏ الظلمة أي‏:‏ جعله مظلماً، يقال غطش الليل وأغطشه الله، كما يقال أظلم الليل وأظلمه الله، ورجل أغطش، وامرأة غطشى لا يهتديان‏.‏ قال الراغب‏:‏ وأصله من الأغطش، وهو الذي في عينه عمش، ومنه فلاة غطشى‏:‏ لا يهتدى فيها، والتغاطش التعامي‏.‏ قال الأعشى‏:‏

ودهماء بالليل غطشى الفلا *** ة يؤنسني صوت قيادها

وقوله‏:‏

وغامرهم مدلهم غطش *** يعني‏:‏ غمرهم سواد الليل، وأضاف الليل إلى السماء؛ لأن الليل يكون بغروب الشمس، والشمس مضافة إلى السماء‏.‏ ‏{‏وَأَخْرَجَ ضحاها‏}‏ أي‏:‏ أبرز نهارها المضيء بإضاءة الشمس، وعبر عن النهار بالضحى؛ لأنه أشرف أوقاته وأطيبها، وأضافه إلى السماء؛ لأنه يظهر بظهور الشمس، وهي‏:‏ منسوبة إلى السماء‏.‏ ‏{‏والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها‏}‏ أي‏:‏ بعد خلق السماء، ومعنى ‏{‏دحاها‏}‏ بسطها، وهذا يدلّ على أن خلق الأرض بعد خلق السماء، ولا معارضة بين هذه الآية، وبين ما تقدّم في سورة فصلت من قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ استوى إِلَى السماء‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ بل الجمع بأنه سبحانه خلق الأرض أوّلاً غير مدحوّة، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض، وقد قدّمنا الكلام على هذا مستوفى هنالك، وقدّمنا أيضاً بحثاً في هذا في أوّل سورة البقرة عند قوله‏:‏

‏{‏هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض جَمِيعاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏ وذكر بعض أهل العلم أن بعد بمعنى مع، كما في قوله‏:‏ ‏{‏عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 13‏]‏، وقيل‏:‏ بعد بمعنى قبل، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور مِن بَعْدِ الذكر‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 105‏]‏ أي‏:‏ من قبل الذكر، والجمع الذي ذكرناه أولى، وهو قول ابن عباس وغير واحد، واختاره ابن جرير‏.‏ يقال‏:‏ دحوت الشيء أدحوه‏:‏ إذا بسطته، ويقال‏:‏ لعشّ النعامة أدحى؛ لأنه مبسوط على الأرض‏.‏ وأنشد المبرد‏:‏

دحاها فلما رآها استوت *** على الماء أرسى عليها الجبالا

وقال أمية بن أبي الصلت‏:‏

وبثّ الخلق فيها إذا دحاها *** فهم قطانها حتى التنادي

وقال زيد بن عمرو بن نفيل‏:‏

وأسلمت وجهي لمن أسلمت *** له الأرض تحمل صخراً ثقالاً

دحاها فلما استوت شدّها *** بأيد وأرسى عليها الجبالا

قرأ الجمهور بنصب الأرض على الاشتغال‏.‏ وقرأ الحسن، وعمرو بن ميمون، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة، وأبو السماك، وعمرو بن عبيد، ونصر بن عاصم بالرفع على الابتداء‏.‏ ‏{‏أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا ومرعاها‏}‏ أي‏:‏ فجر من الأرض الأنهار والبحار والعيون‏.‏ وأخرج منها مرعاها‏.‏ أي‏:‏ النبات الذي يرعى، ومرعاها مصدر ميميّ أي‏:‏ رعيها، وهو في الأصل موضع الرعي، والجملة إما بيان وتفسير لدحاها؛ لأن السكنى لا تتأتى بمجرِّد البسط بل لا بد من تسوية أمر المعاش من المأكل والمشرب‏.‏ وإما في محل نصب على الحال‏.‏

‏{‏والجبال أرساها‏}‏ أي‏:‏ أثبتها في الأرض، وجعلها كالأوتاد للأرض لتثبت وتستقرّ، وأن لا تميد بأهلها‏.‏ قرأ الجمهور بنصب الجبال على الاشتغال‏.‏ وقرأ الحسن، وعمرو بن ميمون، وأبو حيوة، وأبو السماك، وعمرو بن عبيد، ونصر بن عاصم بالرفع على الابتداء، قيل‏:‏ ولعل وجه تقديم ذكر إخراج الماء، والمرعى على إرساء الجبال مع تقدم الإرساء عليه للاهتمام بأمر المأكل والمشرب ‏{‏متاعا لَّكُمْ ولأعامكم‏}‏ أي منفعة لكم ولأنعامكم من البقر، والإبل، والغنم، وانتصاب متاعاً على المصدرية أي‏:‏ متعكم بذلك متاعاً أو هو مصدر من غير لفظه؛ لأن قوله‏:‏ ‏{‏أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا ومرعاها‏}‏ بمعنى متع بذلك، أو على أنه مفعول له أي‏:‏ فعل ذلك لأجل التمتيع، وإنما قال‏:‏ ‏{‏لَّكُمْ ولانعامكم‏}‏ لأن فائدة ما ذكر من الدحوّ، وإخراج الماء، والمرعى كائنة لهم ولأنعامهم، والمرعى يعمّ ما يأكله الناس والدواب‏.‏

‏{‏فَإِذَا جَاءتِ الطامة الكبرى‏}‏ أي‏:‏ الداهية العظمى التي تطمّ على سائر الطامات‏.‏ قال الحسن، وغيره‏:‏ وهي النفخة الثانية‏.‏ وقال الضحاك، وغيره‏:‏ هي القيامة سميت بذلك، لأنها تطمّ على كل شيء لعظم هولها‏.‏ قال المبرد‏:‏ الطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع، وإنما أخذت فيما أحسب من قولهم‏:‏ طمّ الفرس طميماً‏:‏ إذا استفرغ جهده في الجري، وطمّ الماء‏:‏ إذا ملأ النهر كله‏.‏ وقال غيره‏:‏ هو من طمّ السيل الركية أي دفنها، والطمّ الدفن‏.‏

قال مجاهد، وغيره‏:‏ الطامة الكبرى هي التي تسلم أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها، وجواب إذا قيل‏:‏ هو قوله‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَن طغى‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ محذوف أي‏:‏ فإن الأمر كذلك، أو عاينوا أو علموا، أو أدخل أهل النار النار، وأهل الجنة الجنة‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ العامل فيها جوابها وهو معنى‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 23‏]‏ فإنه منصوب بفعل مضمر، أي‏:‏ أعني يوم يتذكر، أو يوم يتذكر يكون كيت، وكيت‏.‏ وقيل‏:‏ إن الظرف بدل من إذا، وقيل‏:‏ هو بدل من الطامة الكبرى؛ ومعنى تذكر الإنسان ما سعى‏:‏ أنه يتذكر ما عمله من خيرّ، أو شرّ؛ لأنه يشاهده مدوّناً في صحائف عمله، و«ما» مصدرية، أو موصولة ‏{‏وَبُرّزَتِ الجحيم لِمَن يرى‏}‏ معطوف على جاءت، ومعنى برّزت‏:‏ أظهرت إظهاراً لا يخفى على أحد‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يكشف عنها الغطاء، فينظر إليها الخلق، وقيل‏:‏ ‏{‏لِمَن يرى‏}‏ من الكفار، لا من المؤمنين؛ والظاهر أن تبرز لكلّ راء، فأما المؤمن فيعرف برؤيتها قدر نعمة الله عليه بالسلامة منها، وأما الكافر فيزداد غماً إلى غمه، وحسرة إلى حسرته‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏لمن يرى‏}‏ بالتحتية‏.‏ وقرأت عائشة، ومالك ابن دينار، وعكرمة، وزيد بن عليّ بالفوقية، أي‏:‏ لمن تراه الجحيم، أو لمن تراه أنت يا محمد‏.‏ وقرأ ابن مسعود ‏"‏ لمن رأى ‏"‏ على صيغة الفعل الماضي‏.‏

‏{‏فَأَمَّا مَن طغى‏}‏ أي‏:‏ جاوز الحد في الكفر والمعاصي‏.‏ ‏{‏وَءاثَرَ الحياة الدنيا‏}‏ أي‏:‏ قدّمها عن الآخرة، ولم يستعدّ لها، ولا عمل عملها‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ الجحيم هِىَ المأوى‏}‏ أي‏:‏ مأواه، والألف واللام عوض عن المضاف إليه، والمعنى‏:‏ أنها منزله الذي ينزله، ومأواه الذي يأوي إليه لا غيرها‏.‏ ثم ذكر القسم الثاني من القسمين فقال‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ‏}‏ أي‏:‏ حذر مقامه بين يدي ربه يوم القيامة‏.‏ قال الربيع‏:‏ مقامه يوم الحساب‏.‏ قال قتادة‏:‏ يقول إن لله عزّ وجلّ مقاماً قد خافه المؤمنون‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو خوفه في الدنيا من الله عزّ وجلّ عند مواقعة الذنب فيقلع عنه، نظيره قوله‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 46‏]‏ والأوّل أولى‏.‏ ‏{‏وَنَهَى النفس عَنِ الهوى‏}‏ أي‏:‏ زجرها عن الميل إلى المعاصي والمحارم التي تشتهيها‏.‏ قال مقاتل‏:‏ هو الرجل يهمّ بالمعصية، فيذكر مقامه للحساب، فيتركها ‏{‏فَإِنَّ الجنة هِىَ المأوى‏}‏ أي‏:‏ المنزل الذي ينزله، والمكان الذي يأوي إليه لا غيرها‏.‏

‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها‏}‏ أي‏:‏ متى وقوعها وقيامها‏.‏ قال الفراء‏:‏ أي‏:‏ منتهى قيامها كرسوّ السفينة‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ ومرسى السفينة حين تنتهي، والمعنى‏:‏ يسألونك عن الساعة متى يقيمها الله، وقد مضى بيان هذا في سورة الأعراف ‏{‏فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا‏}‏ أي‏:‏ في أيّ شيء أنت يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها، والمعنى‏:‏ لست في شيء من علمها، وذكراها إنما يعلمها الله سبحانه، وهو إنكار وردّ لسؤال المشركين عنها أي‏:‏ فيم أنت من ذلك حتى يسألونك عنه ولست تعلمه‏؟‏ ‏{‏إلى رَبّكَ منتهاها‏}‏ أي‏:‏ منتهى علمها، فلا يوجد علمها عند غيره، وهذا كقوله‏:‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 34‏]‏ فكيف يسألونك عنها، ويطلبون منك بيان وقت قيامها‏؟‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها‏}‏ أي‏:‏ مخوّف لمن يخشى قيام الساعة، وذلك وظيفتك ليس عليك غيره من الإخبار بوقت قيام الساعة، ونحوه مما استأثر الله بعلمه، وخصّ الإنذار بمن يخشى؛ لأنهم المنتفعون بالإنذار، وإن كان منذراً لكلّ مكلف من مسلم وكافر‏.‏ قرأ الجمهور بإضافة‏:‏ ‏{‏منذر‏}‏ إلى ما بعده‏.‏ وقرأ عمر بن عبد العزيز، وأبو جعفر، وطلحة، وابن محيصن، وشيبة، والأعرج، وحميد بالتنوين، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو‏.‏ قال الفراء‏:‏ والتنوين، وتركه في منذر صواب كقوله‏:‏ ‏{‏بالغ أَمْرِهِ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 3‏]‏ و‏{‏مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 18‏]‏‏.‏ قال أبو عليّ الفارسي‏:‏ يجوز أن تكون الإضافة للماضي، نحو ضارب زيد أمس‏.‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها‏}‏ أي‏:‏ إلاّ قدر آخر نهار أو أوّله، أو قدر الضحى الذي يلي تلك العشية، والمراد تقليل مدّة الدنيا، كما قال‏:‏ ‏{‏لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّن نَّهَارٍ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 35‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ لم يلبثوا في قبورهم إلاّ عشية أو ضحاها‏.‏ قال الفراء، والزجاج‏:‏ المراد بإضافة الضحى إلى العشية إضافته إلى يوم العشية على عادة العرب، يقولون‏:‏ آتيك الغداة أو عشيتها، وآتيك العشية أو غداتها، فتكون العشية في معنى آخر النهار، والغداة في معنى أوّل النهار‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

نحن صبحنا عامراً في دارها *** جرداً تعادى طرفي نهارها

عشية الهلال أو سرارها *** والجملة تقرير لما يدل عليه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏رَفَعَ سَمْكَهَا‏}‏ قال‏:‏ بناها ‏{‏وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا‏}‏ قال‏:‏ أظلم ليلها‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه‏.‏ ‏{‏وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا‏}‏ قال‏:‏ وأظلم ليلها ‏{‏وَأَخْرَجَ ضحاها‏}‏ قال‏:‏ أخرج نهارها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها‏}‏ قال‏:‏ مع ذلك‏.‏ وأخرج عبد ابن حميد، وابن أبي حاتم عنه أيضاً أن رجلاً قال له‏:‏ آيتان في كتاب الله تخالف إحداهما الأخرى، فقال‏:‏ إنما أتيت من قبل رأيك، قال‏:‏ اقرأ‏:‏ ‏{‏قُلْ أَءنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ‏}‏ حتى بلغ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ استوى إِلَى السماء‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9- 11‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها‏}‏ قال‏:‏ خلق الله الأرض قبل أن يخلق السماء، ثم خلق السماء، ثم دحى الأرض بعد ما خلق السماء، وإنما قوله‏:‏ ‏{‏دحاها‏}‏‏:‏ بسطها‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال‏:‏ ‏{‏دحاها‏}‏ أن أخرج منها الماء والمرعى، وشقق فيها الأنهار، وجعل فيها الجبال، والرمال، والسبل، والآكام وما بينهما في يومين‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال‏:‏ الطامة من أسماء يوم القيامة‏.‏

وأخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب‏:‏ «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة فنزلت‏:‏ ‏{‏فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا‏}‏»‏.‏ وأخرج البزار، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن عائشة قالت‏:‏ «ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله‏:‏ ‏{‏فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إلى رَبّكَ منتهاها‏}‏ فانتهى، فلم يسأل عنها»‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، والنسائي، وابن جرير، والطبراني، وابن مردويه عن طارق بن شهاب قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت‏:‏ ‏{‏فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إلى رَبّكَ منتهاها‏}‏ فكفّ عنها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس‏.‏ قال السيوطي بسند ضعيف‏:‏ إن مشركي مكة سألوا النبيّ فقالوا‏:‏ متى الساعة استهزاء منهم‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها‏}‏ يعني‏:‏ مجيئها ‏{‏فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا‏}‏ يعني‏:‏ ما أنت من علمها يا محمد ‏{‏إلى رَبّكَ منتهاها‏}‏ يعني‏:‏ منتهى علمها‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت‏:‏ كانت الأعراب إذا قدموا على النبيّ سألوه عن الساعة، فينظر إلى أحدث إنسان منهم، فيقول‏:‏ ‏"‏ إن يعش هذا قامت عليكم ساعتكم ‏"‏‏.‏

سورة عبس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 42‏]‏

‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى ‏(‏1‏)‏ أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ‏(‏2‏)‏ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ‏(‏3‏)‏ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ‏(‏4‏)‏ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ‏(‏5‏)‏ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ‏(‏6‏)‏ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ‏(‏8‏)‏ وَهُوَ يَخْشَى ‏(‏9‏)‏ فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ‏(‏10‏)‏ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ‏(‏11‏)‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏(‏12‏)‏ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ‏(‏13‏)‏ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ‏(‏14‏)‏ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ‏(‏15‏)‏ كِرَامٍ بَرَرَةٍ ‏(‏16‏)‏ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ‏(‏17‏)‏ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ‏(‏18‏)‏ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ‏(‏19‏)‏ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ‏(‏20‏)‏ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ‏(‏22‏)‏ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ‏(‏23‏)‏ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ‏(‏24‏)‏ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ‏(‏26‏)‏ فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ‏(‏27‏)‏ وَعِنَبًا وَقَضْبًا ‏(‏28‏)‏ وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ‏(‏29‏)‏ وَحَدَائِقَ غُلْبًا ‏(‏30‏)‏ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ‏(‏31‏)‏ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ‏(‏32‏)‏ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ‏(‏33‏)‏ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ‏(‏34‏)‏ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ‏(‏35‏)‏ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ‏(‏36‏)‏ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ‏(‏37‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ‏(‏38‏)‏ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ‏(‏39‏)‏ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ‏(‏40‏)‏ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ‏(‏41‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ‏(‏42‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏عَبَسَ وتولى‏}‏ أي‏:‏ كلح بوجهه وأعرض‏.‏ وقرئ «عبس» بالتشديد‏.‏ ‏{‏أَن جَاءهُ الأعمى‏}‏ مفعول لأجله، أي لأن جاءه الأعمى، والعامل فيه إما ‏{‏عبس‏}‏، أو ‏{‏تولى‏}‏ على الاختلاف بين البصريين والكوفيين في التنازع هل المختار إعمال الأوّل أو الثاني‏؟‏

وقد أجمع المفسرون على أن سبب نزول الآية‏:‏ أن قوماً من أشراف قريش كانوا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد طمع في إسلامهم، فأقبل عبد الله بن أمّ مكتوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع عليه ابن أمّ مكتوم كلامه، فأعرض عنه فنزلت، وسيأتي في آخر البحث بيان هذا إن شاء الله‏.‏

‏{‏وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى‏}‏ التفت سبحانه إلى خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن المشافهة أدخل في العتاب‏:‏ أي أيّ شيء يجعلك دارياً بحاله حتى تعرض عنه، وجملة‏:‏ ‏{‏لَعَلَّهُ يزكى‏}‏ مستأنفة لبيان أن له شأناً ينافي الإعراض عنه أي‏:‏ لعله يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح بسبب ما يتعلمه منك، فالضمير في ‏{‏لعله‏}‏ راجع إلى ‏{‏الأعمى‏}‏، وقيل‏:‏ هو راجع إلى الكافر أي‏:‏ وما يدريك أن ما طمعت فيه ممن اشتغلت بالكلام معه عن الأعمى أنه يزكى، أو يذكر، والأوّل أولى‏.‏ وكلمة الترجي باعتبار من وجه إليه الخطاب للتنبيه على أن الإعراض عنه مع كونه مرجوّ التزكي مما لا يجوز‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏أن جاءه الأعمى‏}‏ على الخبر بدون استفهام، ووجهه ما تقدّم‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ «آن جاءه» بالمدّ على الاستفهام، فهو على هذه القراءة متعلق بفعل محذوف دلّ عليه ‏{‏عبس‏}‏ و‏{‏تولى‏}‏، والتقدير أن جاءه الأعمى تولى وأعرض، ومثل هذه الآية قوله في سورة الأنعام‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 52‏]‏ وكذلك قوله في سورة الكهف‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 28‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يَذَّكَّرُ‏}‏ عطف على ‏{‏يزكى‏}‏ داخل معه في حكم الترجي أي‏:‏ أو يتذكر، فيتعظ بما تعلمه من المواعظ ‏{‏فَتَنفَعَهُ الذكرى‏}‏ أي‏:‏ الموعظة‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فتنفعه‏}‏ بالرفع، وقرأ عاصم وابن أبي إسحاق، وعيسى، والسلمي، وزرّ بن حبيش بالنصب على جواب الترجي ‏{‏أَمَّا مَنِ استغنى‏}‏ أي‏:‏ كان ذا ثروة وغنى، أو استغنى عن الإيمان، وعما عندك من العلم ‏{‏فَأَنتَ لَهُ تصدى‏}‏ أي‏:‏ تصغي لكلامه، والتصدّي الإصغاء‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏تصدّى‏}‏ بالتخفيف على طرح إحدى التاءين تخفيفاً، وقرأ نافع، وابن محيصن بالتشديد على الإدغام، وفي هذا مزيد تنفير له صلى الله عليه وسلم عن الإقبال عليهم، والإصغاء إلى كلامهم‏.‏ ‏{‏وَمَا عَلَيْكَ أَن لا يزكى‏}‏ أي‏:‏ أيّ شيء عليك في أن لا يسلم، ولا يهتدي، فإنه ليس عليك إلاّ البلاغ، فلا تهتم بأمر من كان هكذا من الكفار، ويجوز أن تكون «ما» نافية، أي‏:‏ ليس عليك بأس في أن لا يتزكى من تصدّيت له، وأقبلت عليه، وتكون الجملة في محل نصب على الحال من ضمير تصدّى‏.‏

ثم زاد سبحانه في معاتبة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا مَن جَاءكَ يسعى‏}‏ أي‏:‏ وصل إليك حال كونه مسرعاً في المجيء إليك طالباً منك أن ترشده إلى الخير، وتعظه بمواعظ الله، وجملة‏:‏ ‏{‏وَهُوَ يخشى‏}‏ حال من فاعل يسعى على التداخل، أو من فاعل جاءك على الترادف‏.‏ ‏{‏فَأَنتَ عَنْهُ تلهى‏}‏ أي‏:‏ تتشاغل عنه، وتعرض عن الإقبال عليه، والتلهي‏:‏ التشاغل، والتغافل، يقال‏:‏ لهيت عن الأمر ألهي أي‏:‏ تشاغلت عنه، وكذا تلهيت، وقوله‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع له صلى الله عليه وسلم عما عوتب عليه، أي‏:‏ لا تفعل بعد هذا الواقع منك مثله من الإعراض عن الفقير، والتصدّي للغني، والتشاغل به، مع كونه ليس ممن يتزكى عن إرشاد من جاءك من أهل التزكي، والقبول للموعظة، وهذا الواقع من النبيّ صلى الله عليه وسلم هو من باب ترك الأولى، فأرشده الله سبحانه إلى ما هو الأولى به ‏{‏إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ‏}‏ أي أن هذه الآيات، أو السورة موعظة حقها أن تتعظ بها، وتقبلها وتعمل بموجبها، ويعمل بها كل أمتك‏.‏ ‏{‏فَمَن شَاء ذَكَرَهُ‏}‏ أي‏:‏ فمن رغب فيها اتعظ بها، وحفظها، وعمل بموجبها، ومن رغب عنها، كما فعله من استغنى، فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره‏.‏ وقيل‏:‏ الضميران في «إنها»، وفي ‏{‏ذكره‏}‏ للقرآن، وتأنيث الأوّل لتأنيث خبره‏.‏ وقيل‏:‏ الأوّل للسورة، أو للآيات السابقة‏.‏ والثاني للتذكرة؛ لأنها في معنى الذكر‏.‏ وقيل‏:‏ إن معنى‏:‏ ‏{‏فَمَن شَاء ذَكَرَهُ‏}‏‏:‏ فمن شاء الله ألهمه، وفهمه القرآن حتى يذكره، ويتعظ به، والأوّل أولى‏.‏

ثم أخبر سبحانه عن عظم هذه التذكرة، وجلالتها فقال‏:‏ ‏{‏فَى صُحُفٍ‏}‏ أي‏:‏ إنها تذكرة كائنة في صحف، فالجار، والمجرور صفة ل ‏{‏تذكرة‏}‏، وما بينهما اعتراض، والصحف جمع صحيفة، ومعنى ‏{‏مُّكَرَّمَةٍ‏}‏‏:‏ أنها مكرمة عند الله لما فيها من العلم والحكمة، أو لأنها نازلة من اللوح المحفوظ، وقيل‏:‏ المراد بالصحف‏:‏ كتب الأنبياء، كما في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا لَفِى الصحف الأولى صُحُفِ إبراهيم وموسى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 18، 19‏]‏ ومعنى ‏{‏مَّرْفُوعَةٍ‏}‏ أنها رفيعة القدر عند الله‏.‏ وقيل‏:‏ مرفوعة في السماء السابعة‏.‏ قال الواحدي‏:‏ قال المفسرون‏:‏ مكرمة يعني‏:‏ اللوح المحفوظ ‏{‏مَّرْفُوعَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ في السماء السابعة‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ مرفوعة القدر، والذكر، وقيل‏:‏ مرفوعة عن الشبه، والتناقض ‏{‏مُّطَهَّرَةٍ‏}‏ أي‏:‏ منزهة لا يمسها إلاَّ المطهرون‏.‏ قال الحسن‏:‏ مطهرة من كل دنس‏.‏ قال السديّ‏:‏ مصانة عن الكفار لا ينالونها ‏{‏بِأَيْدِى سَفَرَةٍ‏}‏ السفرة جمع سافر ككتبة وكاتب، والمعنى‏:‏ أنها بأيدي كتبة من الملائكة ينسخون الكتب من اللوح المحفوظ‏.‏

قال الفراء‏:‏ السفرة هنا الملائكة الذين يسفرون بالوحي بين الله ورسوله، من السفارة وهو‏:‏ السعي بين القوم، وأنشد‏:‏

فما أدع السفارة بين قومي *** ولا أمشي بغير أب نسيب

قال الزجاج‏:‏ وإنما قيل‏:‏ للكتاب سفر بكسر السين، والكاتب سافر؛ لأن معناه أنه بين، يقال أسفر الصبح‏:‏ إذا أضاء، وأسفرت المرأة‏:‏ إذا كشفت النقاب عن وجهها، ومنه سفرت بين القوم أسفر سفارة أي‏:‏ أصلحت بينهم‏.‏ قال مجاهد‏:‏ هم الملائكة الكرام الكاتبون لأعمال العباد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ السفرة هنا هم القراء؛ لأنهم يقرءون الأسفار‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ هم أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم أثنى سبحانه على السفرة فقال‏:‏ ‏{‏كِرَامٍ بَرَرَةٍ‏}‏ أي كرام على ربهم، كذا قال الكلبي‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كرام عن المعاصي، فهم يرفعون أنفسهم عنها‏.‏ وقيل‏:‏ يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا بزوجته، أو قضى حاجته‏.‏ وقيل‏:‏ يؤثرون منافع غيرهم على منافعهم‏.‏ وقيل‏:‏ يتكرّمون على المؤمنين بالاستغفار لهم‏.‏ والبررة‏:‏ جمع بارّ مثل‏:‏ كفر وكافر، أي‏:‏ أتقياء مطيعون لربهم صادقون في إيمانهم، وقد تقدّم تفسيره‏.‏

‏{‏قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ‏}‏ أي‏:‏ لعن الإنسان الكافر ما أشدّ كفره، وقيل‏:‏ عذب، قيل‏:‏ والمراد به عتبة بن أبي لهب، ومعنى‏:‏ ‏{‏ما أكفره‏}‏‏:‏ التعجب من إفراط كفره‏.‏ قال الزجاج‏:‏ معناه اعجبوا أنتم من كفره‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالإنسان من تقدم ذكره في قوله‏:‏ ‏{‏أَمَّا مَنِ استغنى‏}‏ وقيل‏:‏ المراد به الجنس، وهذا هو الأولى، فيدخل تحته كل كافر شديد الكفر، ويدخل تحته من كان سبباً لنزول الآية دخولاً أوّلياً‏.‏ ثم ذكر سبحانه ما كان ينبغي لهذا الكافر أن ينظر فيه حتى ينزجر عن كفره، ويكفّ عن طغيانه فقال‏:‏ ‏{‏مِنْ أَىّ شَئ خَلَقَهُ‏}‏ أي‏:‏ من أيّ شيء خلق الله هذا الكافر، والاستفهام للتقرير‏.‏ ثم فسر ذلك فقال‏:‏ ‏{‏مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ‏}‏ أيّ‏:‏ من ماء مهين، وهذا تحقير له‏.‏ قال الحسن‏:‏ كيف يتكبر من خرج من مخرج البول مرّتين، ومعنى ‏{‏فَقَدَّرَهُ‏}‏ أي‏:‏ فسوّاه، وهيأه لمصالح نفسه، وخلق له اليدين، والرجلين، والعينين، وسائر الآلات، والحواسّ‏.‏ وقيل‏:‏ قدّره أطواراً من حال إلى حال، نطفة ثم علقة إلى أن تمّ خلقه‏.‏ ‏{‏ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ‏}‏ أي‏:‏ يسرّ له الطريق إلى الخير والشرّ‏.‏ وقال السديّ، ومقاتل، وعطاء، وقتادة‏:‏ يسره للخروج من بطن أمه، والأوّل أولى‏.‏ ومثله قوله‏:‏ ‏{‏وهديناه النجدين‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 10‏]‏ وانتصاب ‏{‏السبيل‏}‏ بمضمر يدل عليه الفعل المذكور أي، يسر السبيل يسره‏.‏ ‏{‏ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ‏}‏ أي‏:‏ جعله بعد أن أماته ذا قبر يوارى فيه إكراماً له، ولم يجعله مما يلقى على وجه الأرض تأكله السباع، والطير، كذا قال الفرّاء وقال أبو عبيدة‏:‏ جعل له قبراً وأمر أن يقبر فيه‏.‏

وقال أقبره، ولم يقل قبره؛ لأن القابر هو الدافن بيده، ومنه قول الأعشى‏:‏

لو أسندت ميتاً إلى صدرها *** عاش ولم ينقل إلى قابر

‏{‏ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ‏}‏ أي‏:‏ ثم إذا شاء إنشاره أنشره أي أحياه بعد موته، وعلق الإنشار بالمشيئة للدلالة على أن وقته غير متعين، بل هو تابع للمشيئة‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أنشره‏}‏ بالألف، وروى أبو حيوة عن نافع، وشعيب بن أبي حمزة «نشره» بغير ألف، وهما‏:‏ لغتان فصيحتان‏.‏ ‏{‏كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ‏}‏ كلا ردع، وزجر للإنسان الكافر أي‏:‏ ليس الأمر كما يقول‏.‏ ومعنى‏:‏ لما يقض ما أمره، لم يقض ما أمره الله به من العمل بطاعته، واجتناب معاصيه، وقيل‏:‏ المراد الإنسان على العموم، وأنه لم يفعل ما أمره الله به مع طول المدّة؛ لأنه لا يخلو من تقصير‏.‏ قال الحسن‏:‏ أي‏:‏ حقاً لم يعمل ما أمر به‏.‏ وقال ابن فورك‏:‏ أي‏:‏ كلا لما يقض لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان، بل أمره بما لم يقض له‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ الوقف على «كلا» قبيح، والوقف على ‏{‏أمره‏}‏ جيد، و«كلا» على هذا بمعنى حقاً‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ لما يقض جميع أفراد الإنسان ما أمره، بل أخلّ به‏:‏ بعضها بالكفر، وبعضها بالعصيان، وما قضى ما أمره الله إلاّ القليل‏.‏

ثم شرع سبحانه في تعداد نعمه على عباده؛ ليشكروها، وينزجروا عن كفرانها بعد ذكر النعم المتعلقة بحدوثه فقال‏:‏ ‏{‏فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ‏}‏ أي‏:‏ ينظر كيف خلق الله طعامه الذي جعله سبباً لحياته‏؟‏ وكيف هيأ له أسباب المعاش يستعدّ بها للسعادة الأخروية‏؟‏ قال مجاهد‏:‏ معناه، فلينظر الإنسان إلى طعامه أي‏:‏ إلى مدخله، ومخرجه، والأوّل أولى‏.‏ ثم بيّن ذلك سبحانه فقال‏:‏ ‏{‏أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبّاً‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏(‏إنا‏)‏ بالكسر على الاستئناف‏.‏ وقرأ الكوفيون، ورويس عن يعقوب بالفتح على أنه بدل من ‏{‏طعامه‏}‏ بدل اشتمال لكون نزول المطر سبباً لحصول الطعام، فهو كالمشتمل عليه، أو بتقدير لام العلة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الكسر على الابتداء والاستئناف، والفتح على معنى البدل من الطعام‏.‏ المعنى‏:‏ فلينظر الإنسان إلى أنا صببنا الماء صباً، وأراد بصبّ الماء‏:‏ المطر‏.‏ وقرأ الحسن بن عليّ بالفتح والإمالة‏:‏ ‏{‏ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً‏}‏ أي‏:‏ شققناها بالنبات الخارج منها بسبب نزول المطر شقاً بديعاً لائقاً بما يخرج منه في الصغر، والكبر، والشكل، والهيئة‏.‏

ثم بيّن سبب هذا الشقّ، وما وقع لأجله، فقال‏:‏ ‏{‏فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً‏}‏ يعني‏:‏ الحبوب الذي يتغذى بها، والمعنى‏:‏ أن النبات لا يزال ينمو، ويتزايد إلى أن يصير ‏{‏حباً‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَعِنَباً‏}‏ معطوف على حباً أي‏:‏ وأنبتنا فيها عنباً، قيل‏:‏ وليس من لوازم العطف أن يقيد المعطوف بجميع ما قيد به المعطوف عليه، فلا ضير في خلوّ إنبات العنب عن شقّ الأرض، والقضب‏:‏ هو القتّ الرطب الذي يقضب مرّة بعد أخرى تعلف به الدواب، ولهذا سمي قضباً على مصدر قضبه أي‏:‏ قطعه كأنه لتكرّر قطعها نفس القطع‏.‏

قال الخليل‏:‏ القضب الفصفصة الرطبة، فإذا يبست فهي‏:‏ القتّ‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ والقضبة، والقضب الرطبة، قال‏:‏ والموضع الذي ينبت فيه مقضبة‏.‏ قال القتيبي، وثعلب‏:‏ وأهل مكة يسمون العنب القضب‏.‏ والزيتون هو ما يعصر منه الزيت، وهو شجرة الزيتون المعروفة، والنخل هو جمع نخلة ‏{‏وَحَدَائِقَ غُلْباً‏}‏ جمع حديقة، وهي البستان، والغلب‏:‏ العظام الغلاظ الرقاب‏.‏ وقال مجاهد، ومقاتل‏:‏ الغلب الملتفّ بعضها ببعض، يقال‏:‏ رجل أغلب‏:‏ إذا كان عظيم الرقبة، ويقال للأسد‏:‏ أغلب؛ لأنه مصمت العنق لا يلتفت إلاّ جميعاً‏.‏ قال العجاج‏:‏

مازلت يوم البين ألوي صلبي *** والرأس حتى صرت مثل الأغلب

وجمع أغلب وغلباء‏:‏ غلب، كما جمع أحمر، وحمراء على حمر‏.‏ وقال قتادة، وابن زيد‏:‏ الغلب النخل الكرام‏.‏ وعن ابن زيد أيضاً، وعكرمة‏:‏ هي غلاظ الأوساط، والجذوع‏.‏ والفاكهة‏:‏ ما يأكله الإنسان من ثمار الأشجار كالعنب، والتين، والخوخ، ونحوها‏.‏ والأبّ‏:‏ كل ما أنبتت الأرض مما لا يأكله الناس، ولا يزرعونه من الكلأ، وسائر أنواع المرعى، ومنه قول الشاعر‏:‏

جدّنا قيس ونجد دارنا *** ولنا الأبّ بها والمكرع

قال الضحاك‏:‏ الأبّ كل شيء ينبت على وجه الأرض‏.‏ وقال ابن أبي طلحة‏:‏ هو الثمار الرطبة‏.‏ وروي عن الضحاك أيضاً أنه قال‏:‏ هو التين خاصة، والأوّل أولى‏.‏ ثم شرع سبحانه في بيان أحوال المعاد فقال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءتِ الصاخة‏}‏ يعني‏:‏ صيحة يوم القيامة، وسميت صاخة لشدّة صوتها؛ لأنها تصخ الأذان‏:‏ أي تصمها فلا تسمع‏.‏ وقيل‏:‏ سميت صاخة؛ لأنها يصيخ لها الأسماع، من قولك‏:‏ أصخ إلى كذا أي‏:‏ استمع إليه، والأوّل أصح‏.‏ قال الخليل‏:‏ الصاخة صيحة تصخ الآذان حتى تصمها بشدّة وقعها، وأصل الكلمة في اللغة مأخوذة من الصكّ الشديد، يقال صخه بالحجر‏:‏ إذا صكه بها، وجواب إذا محذوف يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏لِكُلّ امرئ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏ أي‏:‏ فإذا جاءت الصاخة اشتغل كل أحد بنفسه، والظرف في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ‏}‏ إما بدل من إذا جاءت، أو منصوب بمقدّر أي‏:‏ أعني، ويكون تفسيراً للصاخة، أو بدلاً منها مبنيّ على الفتح، وخصّ هؤلاء بالذكر؛ لأنهم أخصّ القرابة، وأولاهم بالحنوّ والرأفة، فالفرار منهم لا يكون إلاّ لهول عظيم، وخطب فظيع‏.‏ ‏{‏لِكُلّ امرئ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏ أي‏:‏ لكل إنسان يوم القيامة شأن يشغله عن الأقرباء، ويصرفه عنهم‏.‏ وقيل‏:‏ إنما يفرّ عنهم حذراً من مطالبتهم إياه بما بينهم، وقيل‏:‏ يفرّ عنهم؛ لئلا يروا ما هو فيه من الشدّة‏.‏ وقيل‏:‏ لعلمه أنهم لا ينفعونه، ولا يغنون عنه شيئًا، كما قال تعالى‏:‏

‏{‏يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 41‏]‏ والجملة مستأنفة مسوقة لبيان سبب الفرار‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ ‏{‏يغنيه‏}‏ أي‏:‏ يصرفه عن قرابته، ومنه يقال‏:‏ أغن عني وجهك أي‏:‏ اصرفه‏.‏ قرأ الجمهور ‏(‏يغنيه‏)‏ بالغين المعجمة‏.‏ وقرأ ابن محيصن بالعين المهملة مع فتح الياء أي‏:‏ يهمه، من عناه الأمر إذا أهمه‏.‏

‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ‏}‏ ‏{‏وجوه‏}‏ مبتدأ، وإن كان نكرة؛ لأنه في مقام التفصيل، وهو من مسوّغات الابتداء بالنكرة، ويومئذ متعلق به، ومسفرة خبره، ومعنى ‏{‏مسفرة‏}‏‏:‏ مشرقة مضيئة، وهي‏:‏ وجوه المؤمنين؛ لأنهم قد علموا إذ ذاك مالهم من النعيم، والكرامة، يقال أسفر الصبح‏:‏ إذا أضاء‏.‏ قال الضحاك‏:‏ مسفرة من آثار الوضوء، وقيل‏:‏ من قيام الليل ‏{‏ضاحكة مُّسْتَبْشِرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ فرحة بما نالته من الثواب الجزيل‏.‏ ثم لما فرغ من ذكر حال المؤمنين ذكر حال الكفار فقال‏:‏ ‏{‏وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ غبار وكدورة لما تراه مما أعدّه الله لها من العذاب‏.‏ ‏{‏تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ يغشاها ويعلوها سواد وكسوف‏.‏ وقيل‏:‏ ذلة‏.‏ وقيل‏:‏ شدّة، والقتر في كلام العرب الغبار، كذا قال أبو عبيدة، وأنشد قول الفرزدق‏:‏

متوّج برداء الملك يتبعه *** فوج ترى فوقه الرايات والقترا

ويدفع ما قاله أبو عبيدة تقدم ذكر الغبرة، فإنها واحدة الغبار‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ القترة ما ارتفعت إلى السماء، والغبرة‏:‏ ما انحطت إلى الأرض ‏{‏أولئك‏}‏ يعني‏:‏ أصحاب الوجوه ‏{‏هُمُ الكفرة الفجرة‏}‏ أي‏:‏ الجامعون بين الكفر بالله، والفجور‏.‏ يقال فجر، أي فسق وفجر، أي‏:‏ كذب، وأصله الميل، والفاجر المائل عن الحق‏.‏

وقد أخرج الترمذي وحسنه، وابن المنذر، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن عائشة قالت‏:‏ «أنزلت ‏{‏عبس وتولى‏}‏ في ابن أمّ مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول‏:‏ يا رسول الله، أرشدني، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه، ويقبل على الآخر، ويقول‏:‏ أترى بما أقول بأساً‏؟‏ فيقول لا، ففي هذا أنزلت»‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وأبو يعلى عن أنس قال‏:‏ «جاء ابن أمّ مكتوم، وهو يكلم أبيّ بن خلف، فأعرض عنه، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏عَبَسَ وتولى أَن جَاءهُ الأعمى‏}‏ فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه»‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجي عتبة بن ربيعة، والعباس بن عبد المطلب، وأبا جهل بن هشام، وكان يتصدّى لهم كثيراً، ويحرص عليهم أن يؤمنوا، فأقبل عليهم رجل أعمى يقال له‏:‏ عبد الله بن أمّ مكتوم يمشي، وهو يناجيهم، فجعل عبد الله يستقرئ النبيّ صلى الله عليه وسلم آية من القرآن قال‏:‏ يا رسول الله علمني مما علمك الله، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبس في وجهه، وتولى، وكره كلامه، وأقبل على الآخرين، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نجواه، وأخذ ينقلب إلى أهله أمسك الله ببعض بصره، ثم خفق برأسه، ثم أنزل الله ‏{‏عَبَسَ وتولى‏}‏ الآية، فلما نزل فيه ما نزل أكرمه نبيّ، وكلمه وقال له‏:‏

«ما حاجتك‏؟‏ هل تريد من شيء‏؟‏» وإذا ذهب من عنده قال‏:‏ «هل لك حاجة في شيء‏؟‏» قال ابن كثير‏:‏ فيه غرابة، وقد تكلم في إسناده‏.‏

وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ‏{‏بِأَيْدِى سَفَرَةٍ‏}‏ قال‏:‏ كتبة‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه ‏{‏بِأَيْدِى سَفَرَةٍ‏}‏ قال‏:‏ هم‏:‏ بالنبطية القرّاء‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أيضاً ‏{‏كِرَامٍ بَرَرَةٍ‏}‏ قال‏:‏ الملائكة‏:‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الذي يقرأ القرآن، وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه، وهو عليه شاق له أجران» وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ‏{‏ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ‏}‏ قال‏:‏ يعني‏:‏ بذلك خروجه من بطن أمه يسره له‏.‏

وأخرج ابن المنذر عن عبد الله بن الزبير في قوله‏:‏ ‏{‏فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ‏}‏ قال‏:‏ إلى مدخله، ومخرجه‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ‏}‏ قال‏:‏ إلى خرئه‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه‏:‏ ‏{‏أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبّاً‏}‏ قال‏:‏ المطر ‏{‏ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً‏}‏ قال‏:‏ عن النبات‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَضْباً‏}‏ قال‏:‏ الفصفصة، يعني‏:‏ القتّ ‏{‏وَحَدَائِقَ غُلْباً‏}‏ قال‏:‏ طوالاً ‏{‏وفاكهة وَأَبّاً‏}‏ قال‏:‏ الثمار الرطبة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال‏:‏ الحدائق كل ملتفّ، والغلب ما غلظ، والأبّ ما أنبتت الأرض مما تأكله الدوابّ، ولا يأكله الناس‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عنه أيضاً ‏{‏وَحَدَائِقَ غُلْباً‏}‏ قال‏:‏ شجر في الجنة يستظل به لا يحمل شيئًا‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال‏:‏ الأبّ الكلأ والمرعى‏.‏ وأخرج أبو عبيد في فضائله، وعبد بن حميد عن إبراهيم التيمي قال‏:‏ سئل أبو بكر الصديق عن الأبّ ما هو‏؟‏ فقال‏:‏ أيّ سماء تظلني، وأيّ أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله مالا أعلم‏؟‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن يزيد‏:‏ أن رجلاً سأل عمر عن قوله‏:‏ ‏{‏وَأَبّاً‏}‏ فلما رآهم يقولون أقبل عليهم بالدرّة‏.‏ وأخرج ابن سعد، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب، والخطيب عن أنس أن عمر قرأ على المنبر‏:‏ ‏{‏فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَأَبّاً‏}‏ قال‏:‏ كل هذا قد عرفناه، فما الأبّ‏؟‏ ثم رفض عصى كانت في يده فقال‏:‏ هذا لعمر الله هو التكلف، فما عليك أن لا تدري ما الأبّ، اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب، فاعملوا عليه، وما لم تعرفوه، فكلوه إلى ربه‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس قال‏:‏ الصاخة من أسماء يوم القيامة‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏مُّسْفِرَةٌ‏}‏ قال‏:‏ مشرقة، وفي قوله‏:‏ ‏{‏تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ‏}‏ قال‏:‏ تغشاها شدّة وذلة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه‏:‏ ‏{‏قَتَرَةٌ‏}‏ قال‏:‏ سواد الوجه‏.‏

سورة التكوير

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 29‏]‏

‏{‏إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ‏(‏1‏)‏ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ‏(‏4‏)‏ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ‏(‏5‏)‏ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ‏(‏6‏)‏ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ‏(‏7‏)‏ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ‏(‏8‏)‏ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ‏(‏9‏)‏ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ‏(‏11‏)‏ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ‏(‏12‏)‏ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ‏(‏13‏)‏ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ ‏(‏14‏)‏ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ‏(‏15‏)‏ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ‏(‏16‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ‏(‏17‏)‏ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ‏(‏18‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ‏(‏19‏)‏ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ‏(‏20‏)‏ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ‏(‏21‏)‏ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ‏(‏22‏)‏ وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ‏(‏23‏)‏ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ‏(‏24‏)‏ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ‏(‏25‏)‏ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ‏(‏26‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏27‏)‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ‏(‏28‏)‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا الشمس كُوّرَتْ‏}‏ ارتفاع الشمس بفعل محذوف يفسره ما بعده على الاشتغال، وهذا عند البصريين‏.‏ وأما عند الكوفيين والأخفش، فهو مرتفع على الابتداء‏.‏ والتكوير الجمع، وهو مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ لفت، كما تلف العمامة، يقال‏:‏ كورت العمامة على رأسي أكورها كوراً، وكوّرتها تكويراً‏:‏ إذا لففتها‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ كورت مثل تكوير العمامة تلف، فتجمع‏.‏ قال الربيع بن خثيم‏:‏ ‏{‏كورت‏}‏ أي‏:‏ رمى بها، ومنه كورته فتكوّر أي‏:‏ سقط‏.‏ وقال مقاتل، وقتادة، والكلبي‏:‏ ذهب ضوؤها‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ اضمحلت‏.‏ قال الواحدي‏:‏ قال المفسرون‏:‏ تجمع الشمس بعضها إلى بعض ثم تلف، فيرمى بها‏.‏ فالحاصل أن التكوير إما بمعنى لفّ جرمها، أو لفّ ضوئها، أو الرمي بها ‏{‏وَإِذَا النجوم انكدرت‏}‏ أي‏:‏ تهافتت، وانقضت، وتناكرت، يقال‏:‏ انكدر الطائر من الهواء إذا انقضّ، والأصل في الانكدار الانصباب‏.‏ قال الخليل‏:‏ يقال‏:‏ انكدر عليهم القوم إذا جاءوا أرسالاً، فانصبوا عليهم‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ انصبت، كما ينصب العقاب‏.‏ قال الكلبي وعطاء‏:‏ تمطر السماء يومئذٍ نجوماً، فلا يبقى نجم في السماء إلاّ وقع على الأرض، وقيل‏:‏ انكدارها طمس نورها‏.‏ ‏{‏وَإِذَا الجبال سُيّرَتْ‏}‏ أي‏:‏ قلعت عن الأرض، وسيرت في الهواء، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 47‏]‏‏.‏

‏{‏وَإِذَا العشار عُطّلَتْ‏}‏ العشار‏:‏ النوق الحوامل التي في بطونها أولادها الواحدة عشراء، وهي التي قد أتى عليها في الحمل عشرة أشهر، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع‏.‏ وخصّ العشار لأنها أنفس مال عند العرب، وأعزّه عندهم، ومعنى ‏{‏عطلت‏}‏‏:‏ تركت هملاً بلا راع، وذلك لما شاهدوا من الهول العظيم‏.‏ قيل‏:‏ وهذا على وجه المثل لأن يوم القيامة لا تكون فيه ناقة عشراء، بل المراد‏:‏ أنه لو كان للرجل ناقة عشراء في ذلك اليوم، أو نوق عشار لتركها، ولم يلتفت إليها اشتغالاً بما هو فيه من هول يوم القيامة، وسيأتي آخر البحث إن شاء الله ما يفيد أن هذا في الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ العشار السحاب، فإن العرب تشبهها بالحامل، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏فالحاملات وِقْراً‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 2‏]‏ وتعطيلها عدم إمطارها قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏عطلت‏}‏ بالتشديد، وقرأ ابن كثير في رواية عنه بالتخفيف‏.‏ وقيل‏:‏ المراد أن الديار تعطل، فلا تسكن‏.‏ وقيل‏:‏ الأرض التي تعشر زرعها تعطل، فلا تزرع‏.‏

‏{‏وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ‏}‏ الوحوش ما توحش من دوابّ البرّ، ومعنى ‏{‏حشرت‏}‏‏:‏ بعثت حتى يقتص بعضها من بعض، فيقتصّ للجماء من القرناء‏.‏ وقيل‏:‏ حشرها موتها، وقيل‏:‏ إنها مع نفرتها اليوم من الناس وتبدّدها في الصحارى تضم ذلك اليوم إليهم‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏حشرت‏}‏ بالتخفيف، وقرأ الحسن، وعمرو بن ميمون بالتشديد‏.‏ ‏{‏وَإِذَا البحار سُجّرَتْ‏}‏ أي‏:‏ أوقدت، فصارت ناراً تضطرم‏.‏

وقال الفرّاء‏:‏ ملئت بأن صارت بحراً واحداً، وكثر ماؤها، وبه قال الربيع بن خثيم، والكلبي، ومقاتل، والحسن، والضحاك‏.‏ وقيل‏:‏ أرسل عذبها على مالحها، ومالحها على عذبها حتى امتلأت، وقيل‏:‏ فجرت، فصارت بحراً واحداً‏.‏ وروي عن قتادة، وابن حبان أن معنى الآية‏:‏ يبست، ولا يبقى فيها قطرة، يقال‏:‏ سجرت الحوض أسجره سجراً إذا ملأته‏.‏ وقال القشيري‏:‏ هو من سجرت التنور أسجره سجراً إذا أحميته‏.‏ قال ابن زيد، وعطية، وسفيان، ووهب، وغيرهم‏:‏ أوقدت، فصارت ناراً، وقيل‏:‏ معنى سجرت أنها صارت حمراء كالدم، من قولهم عين سجراء أي‏:‏ حمراء‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏سجرت‏}‏ بتشديد الجيم‏.‏ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، بتخفيفها‏.‏

‏{‏وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ‏}‏ أي‏:‏ قرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، وقرن بين رجل السوء مع رجل السوء في النار‏.‏ وقال عطاء‏:‏ زوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرنت نفوس الكافرين بالشياطين‏.‏ وقيل‏:‏ قرن كل شكل إلى شكله في العمل، وهو راجع إلى القول الأوّل‏.‏ وقيل‏:‏ قرن كل رجل إلى من كان يلازمه من ملك أو سلطان، كما في قوله‏:‏ ‏{‏احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 22‏]‏ وقال عكرمة‏:‏ ‏{‏وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ‏}‏ يعني‏:‏ قرنت الأرواح بالأجساد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ألحق كل امرئ بشيعته اليهود باليهود، والنصارى بالنصارى، والمجوس بالمجوس، وكل من كان يعبد شيئًا من دون الله يلحق بعضهم ببعض، والمنافقون بالمنافقين، والمؤمنون بالمؤمنين‏.‏ وقيل‏:‏ يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان، أو إنسان، ويقرن المطيع بمن دعاه إلى الطاعة من الأنبياء والمؤمنين‏.‏ وقيل‏:‏ قرنت النفوس بأعمالها ‏{‏وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ‏}‏ أي‏:‏ المدفونة حية، وقد كان العرب إذا ولدت لأحدهم بنت دفنها حية مخافة العار، أو الحاجة، يقال‏:‏ وأد يئد وأداً، فهو وائد، والمفعول به موءود، وأصله مأخوذ من الثقل لأنها تدفن، فيطرح عليها التراب، فيثقلها فتموت، ومنه‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ أي‏:‏ لا يثقله، ومنه قول متمم بن نويرة‏:‏

وموءودة مقبورة في مغارة *** ومنه قول الراجز‏:‏

سميتها إذ ولدت تموت *** والقبر صهر ضامن رميت

قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏الموءودة‏}‏ بهمزة بين واوين ساكنين كالموعودة‏.‏ وقرأ البزي في رواية عنه بهمزة مضمومة، ثم واو ساكنة‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ «المودة» بزنة الموزة‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏سئلت‏}‏ مبنياً للمفعول، وقرأ الحسن بكسر السين من سال يسيل‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏قتلت‏}‏ بالتخفيف مبنياً للمفعول، وقرأ أبو جعفر بالتشديد على التكثير‏.‏ وقرأ عليّ، وابن مسعود، وابن عباس سألت مبنياً للفاعل‏:‏ «قتلت» بضم التاء الأخيرة‏.‏ ومعنى ‏{‏سئلت‏}‏ على قراءة الجمهور أن توجيه السؤال إليها لإظهار كمال الغيظ على قاتلها حتى كان لا يستحق أن يخاطب، ويسأل عن ذلك، وفيه تبكيت لقاتلها، وتوبيخ له شديد‏.‏ قال الحسن‏:‏ أراد الله أن يوبخ قاتلها لأنها قتلت بغير ذنب، وفي مصحف أبيّ «وإذا الموءودة سألت بأيّ ذنب قتلتني»‏.‏

‏{‏وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ‏}‏ يعني‏:‏ صحائف الأعمال نشرت للحساب؛ لأنها تطوى عند الموت، وتنشر عند الحساب، فيقف كل إنسان على صحيفته، فيعلم ما فيها، فيقول‏:‏ ‏{‏مَّالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏‏.‏ قرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وأبو عمرو ‏{‏نشرت‏}‏ بالتخفيف‏.‏ وقرأ الباقون بالتشديد على التكثير ‏{‏وَإِذَا السماء كُشِطَتْ‏}‏ الكشط قلع عن شدّة التزاق، فالسماء تكشط، كما يكشط الجلد عن الكبش، والقشط بالقاف لغة في الكشط، وهي‏:‏ قراءة ابن مسعود‏.‏ قال الزجاج‏:‏ قلعت كما يقلع السقف‏.‏ وقال الفراء‏:‏ نزعت، فطويت‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كشفت عما فيها‏.‏ قال الواحدي‏:‏ ومعنى الكشط رفعك شيئًا عن شيء قد غطاه‏.‏

‏{‏وَإِذَا الجحيم سُعّرَتْ‏}‏ أي‏:‏ أوقدت لأعداء الله إيقاداً شديداً‏.‏ قرأ الجمهور «سعرت» بالتخفيف، وقرأ نافع، وابن ذكوان، وحفص بالتشديد؛ لأنها أوقدت مرّة بعد مرّة‏.‏ قال قتادة‏:‏ سعرها غضب الله، وخطايا بني آدم‏.‏ ‏{‏وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ‏}‏ أي‏:‏ قرّبت إلى المتقين، وأدنيت منهم‏.‏ قال الحسن‏:‏ إنهم يقربون منها لا أنها تزول عن موضعها‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ معنى ‏{‏أزلفت‏}‏ تزينت‏.‏ والأوّل أولى لأن الزلفى في كلام العرب القرب‏.‏ قيل‏:‏ هذه الأمور الاثنا عشر‏:‏ ستّ منها في الدنيا، وهي من أوّل السورة إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا البحار سُجّرَتْ‏}‏، وستّ في الآخرة وهي‏:‏ ‏{‏وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ‏}‏ إلى هنا‏.‏ وجواب الجميع قوله‏:‏ ‏{‏عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ‏}‏ على أن المراد الزمان الممتدّ من الدنيا إلى الآخرة، لكن لا بمعنى أنها تعلم ما تعلم في كلّ جزء من أجزاء هذا الوقت الممتدّ، بل المراد‏:‏ علمت ما أحضرته عند نشر الصحف يعني‏:‏ ما عملت من خير، أو شرّ، ومعنى ‏{‏ما أحضرت‏}‏‏:‏ ما أحضرت من أعمالها، والمراد حضور صحائف الأعمال، أو حضور الأعمال نفسها، كما ورد أن الأعمال تصوّر بصور تدلّ عليها وتعرف بها، وتنكير نفس المفيد لثبوت العلم المذكور لفرد من النفوس، أو لبعض منها للإيذان بأن ثبوته لجميع أفرادها من الظهور، والوضوح بحيث لا يخفى على أحد، ويدلّ على هذا قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 30‏]‏ وقيل‏:‏ يجوز أن يكون ذلك للإشعار بأنه إذا علمت حينئذ نفس من النفوس ما أحضرت وجب على كلّ نفس إصلاح عملها مخافة أن تكون هي تلك التي علمت ما أحضرت، فكيف وكلّ نفس تعلمه على طريقة قولك لمن تنصحه لعلك ستندم على ما فعلت، وربما ندم الإنسان على فعله‏.‏ ‏{‏فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس‏}‏ لا زائدة، كما تقدّم تحقيقه، وتحقيق ما فيه من الأقوال في أوّل سورة القيامة أي‏:‏ فأقسم بالخنس، وهي‏:‏ الكواكب وسميت الخنس من خنس‏:‏ إذا تأخر لأنها تخنس بالنهار، فتخفى ولا ترى، وهي‏:‏ زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد، كما ذكره أهل التفسير‏.‏

ووجه تخصيصها بالذكر من بين سائر النجوم أنها تستقبل الشمس، وتقطع المجرّة‏.‏ وقال في الصحاح‏:‏ الخنس الكواكب كلها لأنها تخنس في المغيب، أو لأنها تخفى نهاراً، أو يقال هي الكواكب السيارة منها دون الثابتة‏.‏ قال الفراء‏:‏ إنها الكواكب الخمسة المذكورة لأنها تخنس في مجراها، وتكنس أي‏:‏ تستتر، كما تكنس الظباء في المغار، ويقال‏:‏ سميت خنساً لتأخرها لأنها الكواكب المتحيرة التي ترجع وتستقيم‏.‏ يقال‏:‏ خنس عنه يخنس خنوساً إذا تأخر، وأخنسه غيره‏:‏ إذا خلفه ومضى عنه، والخنس‏:‏ تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة، ومعنى‏:‏ ‏{‏الجوار‏}‏ أنها تجري مع الشمس والقمر، ومعنى‏:‏ ‏{‏الكنس‏}‏ أنها ترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس فخنوسها رجوعها، وكنوسها اختفاؤها تحت ضوئها، وقيل‏:‏ خنوسها خفاؤها بالنهار، وكنوسها غروبها‏.‏ قال الحسن، وقتادة‏:‏ هي النجوم التي تخنس بالنهار، وإذا غربت، والمعنى متقارب لأنها تتأخر في النهار عن البصر لخفائها فلا ترى، وتظهر بالليل، وتكنس في وقت غروبها‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بها بقر الوحش لأنها تتصف بالخنس، وبالجوار، وبالكنس‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ الخنس البقر، والكنس الظباء، فهي‏:‏ تخنس إذا رأت الإنسان، وتنقبض، وتتأخر، وتدخل كناسها‏.‏ وقيل‏:‏ هي الملائكة‏.‏ والأوّل أولى لذكر الليل والصبح بعد هذا، والكنس مأخوذ من الكناس الذي يختفى فيه الوحش، والخنس جمع خانس وخانسة، والكنس جمع كانس وكانسة‏.‏

‏{‏واليل إِذَا عَسْعَسَ‏}‏ قال أهل اللغة‏:‏ هو من الأضداد، يقال‏:‏ عسعس الليل إذا أقبل، وعسعس إذا أدبر، ويدل على أن المراد هنا أدبر قوله‏:‏ ‏{‏والصبح إِذَا تَنَفَّسَ‏}‏ قال الفراء‏:‏ أجمع المفسرون على أن معنى عسعس أدبر، كذا حكاه عنه الجوهري، وقال الحسن‏:‏ أقبل بظلامه‏.‏ قال الفراء‏:‏ العرب تقول‏:‏ عسعس الليل إذا أقبل، وعسعس الليل إذا أدبر، وهذا لا ينافي ما تقدّم عنه، لأنه حكي عن المفسرين أنهم أجمعوا على حمل معناه في هذه الآية على أدبر، وإن كان في الأصل مشتركاً بين الإقبال والإدبار‏.‏ قال المبرد‏:‏ هو من الأضداد‏.‏ قال‏:‏ والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد، وهو‏:‏ ابتداء الظلام في أوّله، وإدباره في آخره‏.‏ قال رؤبة بن العجاج‏:‏

يا هند ما أسرع ما تعسعسا *** من بعد ما كان فتى ترعرعا

وقال امرؤ القيس‏:‏

عسعس حتى لو نشاء إذ دنا *** كان لنا من ناره مقتبس

وقوله‏:‏

الماء على الربع القديم تعسعسا *** ‏{‏والصبح إِذَا تَنَفَّسَ‏}‏ التنفس في الأصل‏:‏ خروج النسيم من الجوف، وتنفس الصبح إقباله لأنه يقبل بروح ونسيم، فجعل ذلك تنفساً له مجازاً‏.‏ قال الواحدي‏:‏ تنفس أي‏:‏ امتدّ ضوؤه حتى يصير نهاراً، ومنه يقال للنهار إذا زاد تنفس، وقيل‏:‏ ‏{‏إِذَا تَنَفَّسَ‏}‏ إذا انشقّ، وانفلق، ومنه تنفست القوس أي‏:‏ تصدّعت‏.‏

ثم ذكر سبحانه جواب القسم فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ جبريل لكونه نزل به من جهة الله سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وأضاف القول إلى جبريل لكونه مرسلاً به، وقيل‏:‏ المراد بالرسول في الآية محمد صلى الله عليه وسلم، والأوّل أولى‏.‏ ثم وصف الرسول المذكور بأوصاف محمودة فقال‏:‏ ‏{‏ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ‏}‏ أي‏:‏ ذي قوّة شديدة في القيام بما كلف به، كما في قوله‏:‏ ‏{‏شَدِيدُ القوى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 5‏]‏، ومعنى‏:‏ ‏{‏عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ‏}‏‏:‏ أنه ذو رفعة عالية، ومكانة مكينة عند الله سبحانه، وهو في محل نصب على الحال من مكين، وأصله الوصف، فلما قدّم صار حالاً، ويجوز أن يكون نعتاً لرسول، يقال‏:‏ مكن فلان عند فلان مكانة أي‏:‏ صار ذا منزلة عنده ومكانة‏.‏ قال أبو صالح‏:‏ من مكانته عند ذي العرش أنه يدخل سبعين سرادقاً بغير إذن، ومعنى ‏{‏مطاع‏}‏ أنه مطاع بين الملائكة يرجعون إليه، ويطيعونه ‏{‏ثَمَّ أَمِينٍ‏}‏ قرأ الجمهور بفتح ‏{‏ثمّ‏}‏ على أنها ظرف مكان للبعيد، والعامل فيه مطاع، أو ما بعده، والمعنى‏:‏ أنه مطاع في السماوات، أو أمين فيها أي‏:‏ مؤتمن على الوحي وغيره، وقرأ هشيم، وأبو جعفر، وأبو حيوة بضمها على أنها عاطفة، وكان العطف بها للتراخي في الرتبة لأن ما بعدها أعظم مما قبلها، ومن قال‏:‏ إن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فالمعنى‏:‏ أنه ذو قوّة على تبليغ الرسالة إلى الأمة مطاع يطيعه، من أطاع الله أمين على الوحي‏.‏

‏{‏وَمَا صاحبكم بِمَجْنُونٍ‏}‏ الخطاب لأهل مكة، والمراد بصاحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى‏:‏ وما محمد يا أهل مكة بمجنون، وذكره بوصف الصحبة للإشعار بأنهم عالمون بأمره، وأنه ليس مما يرمونه به من الجنون، وغيره في شيء، وأنهم افتروا عليه ذلك عن علم منهم بأنه أعقل الناس وأكملهم، وهذه الجملة داخلة في جواب القسم، فأقسم سبحانه بأن القرآن نزل به جبريل، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس كما يقولون من أنه مجنون، وأنه يأتي بالقرآن من جهة نفسه ‏{‏وَلَقَدْ رَءاهُ بالأفق المبين‏}‏ اللام جواب قسم محذوف أي‏:‏ وتالله لقد رأى محمد جبريل بالأفق المبين أي‏:‏ بمطلع الشمس من قبل المشرق لأن هذا الأفق إذا كانت الشمس تطلع منه فهو مبين لأن من جهته ترى الأشياء‏.‏ وقيل‏:‏ الأفق المبين أقطار السماء ونواحيها، ومنه قول الشاعر‏:‏

أخذنا بأقطار السماء عليكم *** لنا قمراها والنجوم الطوالع

وإنما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ رَءاهُ بالأفق المبين‏}‏ مع أنه قد رآه غير مرّة لأنه رآه هذه المرّة في صورته له ستمائة جناح، قال سفيان‏:‏ إنه رآه في أفق السماء الشرقي‏.‏ وقال ابن بحر‏:‏ في أفق السماء الغربي‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ رآه نحو أجياد وهو مشرق مكة، و‏{‏المبين‏}‏ صفة للأفق قاله الربيع‏.‏ وقيل‏:‏ صفة لمن رآه قاله مجاهد‏:‏ وقيل معنى الآية‏:‏ ولقد رأى محمد ربه عزّ وجلّ، وقد تقدّم القول في هذا في سورة النجم ‏{‏وَمَا هُوَ‏}‏ أي‏:‏ محمد ‏{‏عَلَى الغيب‏}‏ يعني‏:‏ خبر السماء وما اطلع عليه مما كان غائباً علمه من أهل مكة ‏{‏بِضَنِينٍ‏}‏ بمتهم أي‏:‏ هو ثقة فيما يؤدّي عن الله سبحانه‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏بضنين‏}‏ ببخيل أي‏:‏ لا يبخل بالوحي، ولا يقصر في التبليغ، وسبب هذا الاختلاف اختلاف القراء، فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي‏:‏ «بظنين» بالظاء المشالة أي‏:‏ بمتهم، والظنة التهمة، واختار هذه القراءة أبو عبيد قال‏:‏ لأنهم لم يبخلوا ولكن كذبوه‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏بضنين‏}‏ بالضاد أي‏:‏ ببخيل، من ضننت بالشيء أضنّ ضناً‏:‏ إذا بخلت‏.‏ قال مجاهد أي‏:‏ لا يضن عليكم بما يعلم بل يعلم الخلق كلام الله وأحكامه‏.‏ وقيل‏:‏ المراد جبريل إنه ليس على الغيب بضنين، والأوّل أولى‏.‏

‏{‏وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شيطان رَّجِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ وما القرآن بقول شيطان من الشياطين المسترقة للسمع المرجومة بالشهب‏.‏ قال الكلبي‏:‏ يقول إن القرآن ليس بشعر لا كهانة، كما قالت قريش‏.‏ قال عطاء‏:‏ يريد بالشيطان الشيطان الأبيض الذي كان يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل يريد أن يفتنه‏.‏ ثم بكتهم سبحانه ووبخهم، فقال‏:‏ ‏{‏فَأيْنَ تَذْهَبُونَ‏}‏ أي‏:‏ أين تعدلون عن هذا القرآن وعن طاعته كذا قاله قتادة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه أيّ‏:‏ طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم، يقال أين تذهب، وإلى أين تذهب‏؟‏ وحكى الفراء عن العرب‏:‏ ذهبت الشام، وخرجت العراق، وانطلقت السوق أي‏:‏ إليها‏.‏ قال‏:‏ سمعناه في هذه الأحرف الثلاثة، وأنشد لبعض بني عقيل‏:‏

تصيح بنا حنيفة إذ رأتنا *** وأيّ الأرض تذهب بالصياح

تريد إلى أيّ الأرض تذهب، فحذف إلى‏.‏ ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين‏}‏ أي‏:‏ ما القرآن إلاّ موعظة للخلق أجمعين، وتذكير لهم، وقوله‏:‏ ‏{‏لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ‏}‏ بدل من العالمين بإعادة الجار، ومفعول المشيئة‏:‏ ‏{‏أَن يَسْتَقِيمَ‏}‏ أي‏:‏ لمن شاء منكم الاستقامة على الحقّ والإيمان والطاعة ‏{‏وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله رَبُّ العالمين‏}‏ أي‏:‏ وما تشاءون الاستقامة إلاّ أن يشاء الله تلك المشيئة، فأعلمهم سبحانه أن المشيئة في التوفيق إليه، وأنهم لا يقدرون على ذلك إلاّ بمشيئة الله وتوفيقه، ومثل هذا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 100‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملئكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَئ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 111‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏ والآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقيّ في الشعب عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا الشمس كُوّرَتْ‏}‏ قال‏:‏ أظلمت ‏{‏وَإِذَا النجوم انكدرت‏}‏ قال‏:‏ تغيرت‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، والديلمي عن أبي مريم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا السماء كُوّرَتْ‏}‏ قال‏:‏ كوّرت في جهنم ‏{‏وَإِذَا النجوم انكدرت‏}‏ قال‏:‏ انكدرت في جهنم، فكل من عبد من دون الله فهو‏:‏ في جهنم، إلاّ ما كان من عيسى وأمه، ولو رضيا أن يعبدا لدخلاها‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن أبي العالية قال‏:‏ ست آيات من هذه السورة في الدنيا، والناس ينظرون إليها، وست في الآخرة ‏{‏إِذَا الشمس كُوّرَتْ‏}‏ إلى ‏{‏وَإِذَا البحار سُجّرَتْ‏}‏ هذه في الدنيا، والناس ينظرون إليها‏.‏ ‏{‏وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ‏}‏ إلى ‏{‏وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ‏}‏ هذه في الآخرة‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا في الأهوال، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبيّ بن كعب قال‏:‏ ست آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت واختلطت، ففزعت الجنّ إلى الإنس، والإنس إلى الجنّ، واختلطت الدوابّ، والطير، والوحش، فماجوا بعضهم في بعض ‏{‏وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ‏}‏ قال‏:‏ اختلطت ‏{‏وَإِذَا العشار عُطّلَتْ‏}‏ قال‏:‏ أهملها أهلها ‏{‏وَإِذَا البحار سُجّرَتْ‏}‏ قال‏:‏ الجن للإنس نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحر، فإذا هو نار تأجج، فبينما هم كذلك إذ تصدّعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة، وإلى السماء السابعة، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم‏.‏

وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ‏}‏ قال‏:‏ حشر البهائم موتها، وحشر كلّ شيء الموت غير الجنّ والإنس، فإنهما يوافيان يوم القيامة‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والخطيب في المتفق، والمفترق عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ‏}‏ قال‏:‏ يحشر كلّ شيء يوم القيامة حتى إن الدوابّ لتحشر‏.‏ وأخرج البيهقي في البعث عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا البحار سُجّرَتْ‏}‏ قال‏:‏ تسجر حتى تصير ناراً‏.‏ وأخرج الطبراني عنه‏:‏ ‏{‏سُجّرَتْ‏}‏ قال‏:‏ اختلط ماؤها بماء الأرض‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في البعث عن النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ‏}‏ قال‏:‏ يقرن بين الرجل الصالح مع الصالح في الجنة، ويقرن بين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار، كذلك تزويج الأنفس وفي رواية‏:‏ ثم قرأ‏:‏

‏{‏احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وأخرج نحوه ابن مردويه عن النعمان بن بشير مرفوعاً‏.‏ وأخرج البزار، والحاكم في الكنى، والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ إني وأدت ثمان بنات لي في الجاهلية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أعتق عن كل واحدة رقبة،» قال‏:‏ إني صاحب إبل، قال‏:‏ «فأهد عن كل واحدة بدنة» وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس ‏{‏وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ‏}‏ قال‏:‏ قربت‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه من طرق عن عليّ بن أبي طالب في قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس‏}‏ قال‏:‏ هي الكواكب تكنس بالليل، وتخنس بالنهار، فلا ترى‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ أُقْسِمُ بالخنس‏}‏ قال‏:‏ خمسة أنجم‏:‏ زحل، وعطارد، والمشتري، وبهرام، والزهرة، ليس شيء يقطع المجرّة غيرها‏.‏ وأخرج ابن مردويه، والخطيب في كتاب النجوم عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ هي النجوم السبعة‏:‏ زحل، وبهرام، وعطارد، والمشتري، والزهرة، والشمس، والقمر، خنوسها رجوعها، وكنوسها تغيبها بالنهار‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن سعد، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه من طرق عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏بالخنس الجوار الكنس‏}‏ قال‏:‏ هي بقر الوحش‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ هي البقر تكنس إلى الظلّ‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه قال‏:‏ تكنس لأنفسها في أصول الشجر تتوارى فيه‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال‏:‏ هي‏:‏ الظباء‏.‏ وأخرج ابن راهويه، وعبد بن حميد، والبيهقيّ في الشعب عن عليّ بن أبي طالب في قوله‏:‏ ‏{‏الجوار الكنس‏}‏‏:‏ قال‏:‏ هي‏:‏ الكواكب‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس ‏{‏الخنس‏}‏ البقر ‏{‏الجوار الكنس‏}‏ الظباء، ألم ترها إذا كانت في الظلّ كيف تكنس بأعناقها، ومدّت نظرها‏.‏ وأخرج أبو أحمد الحاكم في الكنى عن أبي العديس قال‏:‏ كنا عند عمر بن الخطاب، فأتاه رجل، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ما ‏{‏الجوار الكنس‏}‏ فطعن عمر بمخصرة معه في عمامة الرجل، فألقاها عن رأسه، فقال عمر‏:‏ أحروريّ‏؟‏ والذي نفس عمر بن الخطاب بيده لو وجدتك محلوقاً لأنحيت القمل عن رأسك، وهذا منكر، فالحرورية لم يكونوا في زمن عمر، ولا كان لهم في ذلك الوقت ذكر‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏واليل إِذَا عَسْعَسَ‏}‏ قال‏:‏ إذا أدبر ‏{‏والصبح إِذَا تَنَفَّسَ‏}‏ قال‏:‏ إذا بدا النهار حين طلوع الفجر‏.‏ وأخرج الطبراني عنه ‏{‏إِذَا عَسْعَسَ‏}‏ قال‏:‏ إقبال سواده‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏ قال‏:‏ جبريل‏.‏

وأخرج ابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود ‏{‏وَلَقَدْ رَءاهُ بالأفق المبين‏}‏ قال‏:‏ رأى جبريل له ستمائة جناح قد سدّ الأفق‏.‏ وأخرج الطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ إنما عنى جبريل أن محمداً رآه في صورته عند سدرة المنتهى‏.‏ وأخرج ابن مردويه عنه بالأفق المبين، قال‏:‏ السماء السابعة‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه كان يقرأ ‏{‏بضنين‏}‏ بالضاد، وقال‏:‏ ببخيل‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قرأ «وما هو على الغيب بظنين» بالظاء قال‏:‏ ليس بمتهم‏.‏ وأخرج الدارقطني في الأفراد، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والخطيب في تاريخه عن عائشة‏:‏ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرؤه ‏{‏بظنين‏}‏ بالظاء‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي هريرة قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ‏}‏ قالوا‏:‏ الأمر إلينا إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فهبط جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ كذبوا يا محمد ‏{‏وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله رَبُّ العالمين‏}‏‏.‏