فصل: تفسير الآية رقم (234)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآية رقم ‏[‏234‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏234‏)‏‏}‏

لما ذكر سبحانه عدّة الطلاق، واتصل بذكرها ذكر الإرضاع عقَّب ذلك بذكر عدّة الوفاة، لئلا يتوهم أن عدّة الوفاة مثل عدّة الطلاق‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومعنى الآية، والرجال الذين يتوفون منكم، ويذرون أزواجاً‏:‏ أي‏:‏ ولهم زوجات، فالزوجات يتربصن‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ تقديره، والذين يتوفون منكم، ويذرون أزواجاً يتربصن بعدهم، وهو‏:‏ كقولك السمن مَنَوان بدرهم‏.‏ أي‏:‏ منه‏.‏ وحكى المهدوي عن سيبويه أن المعنى‏:‏ وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير‏:‏ وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، ذكره صاحب الكشاف، وفيه أن قوله‏:‏ ‏{‏وَيَذَرُونَ أزواجا‏}‏ لا يلائم ذلك التقدير؛ لأن الظاهر من النكرة المعادة المغايرة‏.‏ وقال بعض النحاة من الكوفيين‏:‏ إن الخبر عن الذين متروك، والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهنّ يتربصنّ‏.‏ ووجه الحكمة في جعل العدّة للوفاة هذا المقدار أن الجنين الذكر يتحرك في الغالب لثلاثة أشهر، والأنثى لأربعة، فزاد الله سبحانه على ذلك عشراً؛ لأن الجنين ربما يضعف عن الحركة، فتتأخر حركته قليلاً، ولا تتأخر عن هذا الأجل‏.‏

وظاهر هذه الآية العموم، وأن كل من مات عنها زوجها تكون عدّتها هذه العدّة، ولكنه قد خصص هذا العموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏ وإلى هذا ذهب الجمهور‏.‏ وروى عن بعض الصحابة، وجماعة من أهل العلم أن الحامل تعتدّ بآخر الأجلين جمعاً بين العام والخاص، وإعمالاً لهما، والحق ما قاله الجمهور، والجمع بين العام، والخاص على هذه الصفة لا يناسب قوانين اللغة، ولا قواعد الشرع، ولا معنى لإخراج الخاص من بين أفراد العام إلا بيان أن حكمه مغاير لحكم العام، ومخالف له‏.‏ وقد صح صلى الله عليه وسلم عنه أنه أذن لسبيعة الأسلمية أن تتزوّج بعد الوضع، والتربص الثاني، والتصبر عن النكاح‏.‏

وظاهر الآية عدم الفرق بين الصغيرة، والكبيرة، والحرّة والأمة، وذات الحيض، والآيسة، وأن عدّتهنّ جميعاً للوفاة أربعة أشهر وعشر‏.‏ وقيل‏:‏ إن عدّة الأمة نصف عدّة الحرة شهران وخمسة أيام‏.‏ قال ابن العربي إجماعاً إلا ما يحكى عن الأصم، فإنه سوّى بين الحرة، والأمة، وقال الباجي‏:‏ ولا نعلم في ذلك خلافاً إلا ما يروى عن ابن سيرين أنه قال‏:‏ عدّتها عدّة الحرّة، وليس بالثابت عنه، ووجه ما ذهب إليه الأصمّ، وابن سيرين ما في هذه الآية من العموم، ووجه ما ذهب إليه من عداهما قياس عدّة الوفاة على الحد، فإنه ينصف للأمة بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وقد تقدم حديث‏:‏ «طلاق الأمة تطليقتان، وعدّتها حيضتان» وهو‏:‏ صالح للإحتجاج به، وليس المراد منه‏:‏ إلا جعل طلاقها على النصف من طلاق الحرة، وعدّتها على النصف من عدّتها، ولكنه لما لم يمكن أن يقال‏:‏ طلاقها تطليقة ونصف، وعدّتها حيضة ونصف، لكون ذلك لا يعقل كانت عدّتها، وطلاقها ذلك القدر المذكور في الحديث جبراً للكسر، ولكن ها هنا أمر يمنع من هذا القياس الذي عمل به الجمهور، وهو أن الحكمة في جعل عدّة الوفاة أربعة أشهر وعشراً هو ما قدّمنا من معرفة خلوّها من الحمل، ولا يعرف إلا بتلك المدّة‏.‏

ولا فرق بين الحرة، والأمة في مثل ذلك، بخلاف كون عدتها في غير الوفاة حيضتين، فإن ذلك يعرف به خلو الرحم، ويؤيد عدم الفرق ما سيأتي في عدّة أم الولد‏.‏

واختلف أهل العلم في عدّة أم الولد لموت سيدها‏.‏ فقال سعيد بن المسيب، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين، والزهري، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، وإسحاق، وابن راهويه، وأحمد بن حنبل في رواية عنه‏:‏ أنها تعتدّ بأربعة أشهر وعشر لحديث عمرو بن العاص قال‏:‏ لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عدّة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر»‏.‏ أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم وصححه، وضعفه أحمد، وأبو عبيد‏.‏ وقال الدارقطني‏:‏ الصواب‏:‏ أنه موقوف‏.‏ وقال طاوس، وقتادة‏:‏ عدّتها شهران وخمس ليال‏.‏ وقال أبو حنيفة، وأصحابه، والثوري، والحسن بن صالح‏:‏ تعتدّ بثلاث حيض، وهو‏:‏ قول عليّ، وابن مسعود، وعطاء، وإبراهيم النخعي‏.‏ وقال مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه‏:‏ عدّتها حيضة، وغير الحائض شهر، وبه يقول ابن عمر، والشعبي، ومكحول، والليث، وأبو عبيد، وأبو ثور، والجمهور‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ‏}‏ المراد بالبلوغ هنا‏:‏ انقضاء العدّة ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ أَنفُسِهِنَّ‏}‏ من التزين، والتعرّض للخطاب ‏{‏بالمعروف‏}‏ الذي لا يخالف شرعاً، ولا عادة مستحسنة‏.‏ وقد استدل بذلك على وجوب الإحداد على المعتدة عدة الوفاة‏.‏ وقد ثبت ذلك في الصحيحين، وغيرهما من غير وجه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله، واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ‏"‏ وكذلك ثبت عنه في الصحيحن، وغيرهما النهي عن الكحل لمن هي في عدّة الوفاة، والإحداد‏:‏ ترك الزينة من الطيب، وليس الثياب الجيدة، والحليّ، وغير ذلك، ولا خلاف في وجوب ذلك في عدّة الوفاة، ولا خلاف في عدم وجوبه في عدّة الرجعية‏.‏ واختلفوا في عدّة البائنة على قولين، ومحل ذلك كتب الفروع‏.‏ وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ‏}‏ قال‏:‏ كان الرجل إذا مات، وترك امرأته اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله‏.‏ ثم أنزل الله‏:‏ ‏{‏والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ‏}‏ الآية‏.‏ فهذه عدة المتوفي عنها إلا أن تكون حاملاً، فعدتها أن تضع ما في بطنها‏.‏

وقال في ميراثها‏:‏ ‏{‏وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 12‏]‏ فبين ميراث المرأة، وترك الوصية، والنفقة ‏{‏فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ إذا طلقت المرأة، أو مات عنها زوجها، فإذا انقضت عدتها، فلا جناح عليها أن تتزين، وتتصنع، وتتعرّض للتزويج، فذلك المعروف‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن أبي العالية قال‏:‏ ضمت هذه الأيام العشر إلى الأربعة أشهر، لأن في العشر ينفخ فيه الروح‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ‏}‏ يقول‏:‏ إذا انقضت عدتها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن شهاب في قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني أولياءها‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم عن ابن عباس أنه كره للمتوفى عنها زوجها الطيب، والزينة،

وأخرج مالك، وعبد الرزاق، وأهل السنن وصححه الترمذي، والحاكم عن الفريعة بنت مالك بن سنان، وهي أخت أبي سعيد الخدري أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأل أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، وأن زوجها خرج في طلب أعْبُد لها أبقوا حتى إذا تطرف القدوم لحقهم فقتلوه‏.‏ قالت‏:‏ فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يتركني في منزل يملكه، ولا نفقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نعم،» فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة، أو في المسجد، فدعاني، أو أمر بي، فدعيت، فقال‏:‏ «كيف قلت‏؟‏» قالت‏:‏ فرددت إليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي، فقال‏:‏ «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله»‏.‏ قالت‏:‏ فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً، قالت‏:‏ فلما كان عثمان بن عفان أرسل إليّ، فسألني عن ذلك، فأخبرته، فاتبعه وقضى به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏235‏]‏

‏{‏وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏235‏)‏‏}‏

الجناح‏:‏ الإثم، أي‏:‏ لا إثم عليكم، والتعريض ضد التصريح، وهو‏:‏ من عرض الشيء‏.‏ أي‏:‏ جانبه، كأنه يحوم به حول الشيء، ولا يظهره‏.‏ وقيل‏:‏ هو من قولك‏:‏ عرضت الرجل‏.‏ أي‏:‏ أهديت له‏.‏ ومنه أن ركباً من المسلمين عرضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر ثياباً بيضاً، أي‏:‏ أهدوا لهما، فالمعرض بالكلام يوصل إلى صاحبه كلاماً يفهم معناه‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ الفرق بين الكناية، والتعريض، أن الكناية أن يذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له، والتعريض أن يذكر شيئاً يدل به على شيء لم يذكره، كما يقول المحتاج للمحتاج إليه‏:‏ جئتك لأسلم عليك، ولأنظر إلى وجهك الكريم، ولذلك قالوا‏:‏

وحسبك بالتسليم مني تقاضياً *** وكأنه إمالة الكلام إلى عرض يدل على الغرض، ويسمى التلويح؛ لأنه يلوح منه ما يريده‏.‏ انتهى‏.‏ والخطبة بالكسر‏:‏ ما يفعله الطالب من الطلب، والاستلطاف بالقول، والفعل، يقال‏:‏ خطبها يخطبها خطبة، وخطباً‏.‏ وأما الخطبة بضم الخاء، فهي الكلام الذي يقوم به الرجل خاطباً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَكْنَنتُمْ‏}‏ معناه سترتم، وأضمرتم من التزويج بعد انقضاء العدة‏.‏ والإكنان‏:‏ التستر والإخفاء‏:‏ يقال‏:‏ أكننته، وكننته بمعنى واحد‏.‏ ومنه ‏{‏بيض مكنون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 9‏]‏، ودر مكنون‏.‏ ومنه أيضاً أكنّ البيت صاحبه‏.‏ أي‏:‏ ستره‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ علم الله أنكم لا تصبرون عن النطق لهنّ برغبتكم فيهن، فرخص لكم في التعريض دون التصريح‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ إن فيه طرفاً من التوبيخ كقوله‏:‏ ‏{‏عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا‏}‏ معناه‏:‏ على سرّ، فحذف الحرف؛ لأن الفعل لا يتعدى إلى المفعولين‏.‏ وقد اختلف العلماء في معنى السر، فقيل‏:‏ معناه نكاحاً‏.‏ أي‏:‏ لا يقل الرجل لهذه المعتدّة تزوّجيني بل يعرض تعريضاً‏.‏ وقد ذهب إلى أن معنى الآية هذا جمهور العلماء، وقيل‏:‏ السرّ‏:‏ الزنا، أي‏:‏ لا يكن منكم مواعدة على الزنا في العدّة، ثم التزويج بعدها‏.‏ قاله جابر بن زيد، وأبو مجلز، والحسن، وقتادة، والضحاك، والنخعي، واختاره ابن جرير الطبري، ومنه قول حطيئة‏:‏

وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِم عَلَيهم *** وَيَأْكُلُ جَارُهُم أنفَ القِصَاعِ

وقيل‏:‏ السرّ‏:‏ الجماع، أي‏:‏ لا تصفوا أنفسكم لهنّ بكثرة الجماع ترغيباً لهنّ في النكاحّ، وإلى هذا ذهب الشافعي في معنى الآية، ومنه قول امرئ القيس‏:‏

ألاَ زَعَمْت بَسْبَاسة اليوم أنَّني *** كِبرْتُ وَأنْ لا يُحْسِن السِرّ أمثَاليِ

ومثله قول الأعشى‏:‏

فَلَنْ تَطْلُبُوا سِرَّها لْلغِنَى *** وَلنْ تَسْلِموها لأَزْهَادِهَا

أراد‏:‏ تطلبون نكاحها لكثرة مالها، ولن تسلموها لقلة مالها، والاستدراك بقوله‏:‏ ‏{‏لَكِنِ‏}‏ من مقدّر محذوف دلّ عليه ‏{‏سَتَذْكُرُونَهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ فاذكروهنّ ‏{‏ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا‏}‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو رفث من ذكر جماع، أو تحريض عليه لا يجوز‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ أجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدّة للمرأة في نفسها، وللأب في ابنته البكر، وللسيد في أمته‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا‏}‏ قيل‏:‏ هو استثناء منقطع بمعنى لكن، والقول المعروف‏:‏ هو ما أبيح من التعريض‏.‏ ومنع صاحب الكشاف أن يكون منقطعاً، وقال‏:‏ هو مستثنى من قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ لا تواعدوهنّ مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة؛ فجعله على هذا استثناء مفرغاً، ووجه منع كونه منقطعاً أنه يؤدي إلى جعل التعريض موعوداً، وليس كذلك؛ لأن التعريض طريق المواعدة، لا أنه الموعود في نفسه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح‏}‏ قد تقدّم الكلام في معنى العزم، يقال‏:‏ عزم الشيء، وعزم عليه، والمعنى هنا‏:‏ لا تعزموا على عقدة النكاح، ثم حذف «على»‏.‏ قال سيبويه‏:‏ والحذف في هذه الآية لا يقاس عليه‏.‏ وقال النحاس‏:‏ يجوز أن يكون المعنى، ولا تعقدوا عقدة النكاح؛ لأن معنى تعزموا، وتعقدوا واحد، وقيل‏:‏ إن العزم على الفعل يتقدّمه، فيكون في هذا النهي مبالغة؛ لأنه إذا نهى عن المتقدم على الشيء، كان النهي عن ذلك الشيء بالأولى‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ‏}‏ يريد حتى تنقضي العدّة، والكتاب هنا هو‏:‏ الحدّ، والقدر الذي رسم من المدّة، سماه كتاباً؛ لكونه محدوداً، ومفروضاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 103‏]‏ وهذا الحكم أعني تحريم عقد النكاح في العدّة مجمع عليه‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبخاري، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النساء‏}‏ قال‏:‏ التعريض أن تقول‏:‏ إني أريد التزويج، وإني لأحب المرأة من أمرها، وأمرها، وإن من شأني النساء، ولوددت أن الله يسر لي امرأة صالحة‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أنه يقول لها‏:‏ إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك، ولوددت أن الله قد هيأ بيني وبينك، ونحو هذا من الكلام‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه قال‏:‏ يقول إني فيك لراغب، ولوددت أني تزوجتك‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ أَكْنَنتُمْ‏}‏ قال‏:‏ أسررتم‏.‏ وأخرج عبد الرزاق عن الضحاك مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ‏}‏ قال‏:‏ بالخطيئة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير عن مجاهد قال‏:‏ ذكره إياها في نفسه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا‏}‏ قال‏:‏ يقول لها إني عاشق، وعاهديني أن لا تتزوّجي غيري ونحو هذا ‏{‏إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا‏}‏ وهو قوله‏:‏ إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه في السرّ أنه الزنا، كان الرجل يدخل من أجل الزنا، وهو يعرض بالنكاح، وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر عنه في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا‏}‏ قال‏:‏ يقول‏:‏ إنك لجميلة، وإنك إليّ خير، وإن النساء من حاجتي‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح‏}‏ قال‏:‏ لا تنكحوا ‏{‏حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ‏}‏ قال‏:‏ حتى تنقضي العدّة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏236- 237‏]‏

‏{‏لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ‏(‏236‏)‏ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏237‏)‏‏}‏

المراد بالجناح هنا‏:‏ التبعة من المهر، ونحوه، فرفعه رفع لذلك، أي‏:‏ لا تبعة عليكم بالمهر، ونحوه إن طلقتم النساء على الصفة المذكورة، و«ما» في قوله‏:‏ ‏{‏مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ هي مصدرية ظرفية بتقدير المضاف، أي‏:‏ مدّة عدم مسيسكم‏.‏ ونقل أبو البقاء أنها شرطية من باب اعتراض الشرط على الشرط ليكون الثاني قيداً للأوّل كما في قولك‏:‏ إن تأتني إن تحسن إليّ أكرمك‏.‏ أي‏:‏ إن تأتني محسناً إليّ، والمعنى‏:‏ إن طلقتموهن غير ماسين لهنّ‏.‏ وقيل‏:‏ إنها موصولة، أي‏:‏ إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهنّ، وهكذا اختلفوا في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ تَفْرِضُواْ‏}‏ فقيل‏:‏ ‏"‏ أو ‏"‏ بمعنى ‏"‏ إلا ‏"‏ أي‏:‏ إلا أن تفرضوا‏.‏ وقيل‏:‏ بمعنى حتى، أي‏:‏ حتى تفرضوا‏.‏ وقيل‏:‏ بمعنى الواو، أي‏:‏ وتفرضوا‏.‏ ولست أرى لهذا التطويل وجهاً‏.‏ ومعنى الآية أوضح من أن يلتبس، فإن الله سبحانه رفع الجناح عن المطلقين ما لم يقع أحد الأمرين‏.‏ أي‏:‏ مدّة انتفاء ذلك الأحد، ولا ينتفي الأحد المبهم إلا بإنتفاء الأمرين معاً، فإن وجد المسيس، وجب المسمى، أو مهر المثل، وإن وجد الفرض وجب نصفه مع عدم المسيس، وكل واحد منها جناح‏.‏ أي‏:‏ المسمى، أو نصفه، أو مهر المثل‏.‏

واعلم أن المطلقات أربع‏:‏ مطلقة مدخول بها مفروض لها، وهي التي تقدّم ذكرها قبل هذه الآية، وفيها نهى الأزواج عن أن يأخذوا مما آتوهنّ شيئاً، وأن عدّتهنّ ثلاثة قروء‏.‏ ومطلقة غير مفروض لها، ولا مدخول بها، وهي المذكورة هنا، فلا مهر لها، بل المتعة، وبين في سورة الأحزاب أن غير المدخول بها إذا طلقت، فلا عدّة عليها‏.‏ ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها، وهي المذكورة بقوله سبحانه هنا‏:‏ ‏{‏وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً‏}‏، ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها، وهي المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏ والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ ما لم تجامعوهنّ؛ وقرأ ابن مسعود‏:‏ «من قبل أن تجامعوهنّ» أخرجه عنه ابن جرير، وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم‏:‏ «ما لم تمسوهنّ» وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ «تماسوهنّ» من المفاعلة، والمراد بالفريضة هنا تسمية المهر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَتّعُوهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ أعطوهن شيئاً يكون متاعاً لهنّ، وظاهر الأمر الوجوب، وبه قال علي، وابن عمر، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وأبو قلابة، والزهري، وقتادة، والضحاك، ومن أدلة الوجوب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتّعُوهُنَّ وَسَرّحُوهُنَّ سراحاً جميلاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏ وقال مالك، وأبو عبيد، والقاضي شريح، وغيرهم‏:‏ إن المتعة للمطلقة المذكورة مندوبة لا واجبة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَقّا عَلَى المحسنين‏}‏ ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين، ويجاب عنه بأن ذلك لا ينافي الوجوب بل هو تأكيد له، كما في قوله في الآية الأخرى‏:‏

‏{‏حَقّاُ عَلَى المتقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 241‏]‏ أي‏:‏ أن الوفاء بذلك، والقيام به شأن أهل التقوى، وكل مسلم يجب عليه أن يتقي الله سبحانه،

وقد وقع الخلاف أيضا هل المتعة مشروعة لغير هذه المطلقة قبل المسيس، والفرض أم ليست بمشروعة إلا لها فقط‏؟‏ فقيل‏:‏ إنها مشروعة لكل مطلقة، وإليه ذهب ابن عباس، وابن عمر، وابن عطاء وعطاء، وجابر بن زيد، وسعيد بن جبير، وأبو العالية، والحسن البصري، والشافعي في أحد قوليه، وأحمد وإسحاق، ولكنهم اختلفوا هل هي واجبة في غير المطلقة قبل البناء، والفرض أم مندوبة فقط، واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وللمطلقات متاع بالمعروف حَقّا عَلَى المتقين‏}‏ وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها النبى قُل لأزواجك إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحاً جميلاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 28‏]‏ والآية الأولى عامة لكل مطلقة، والثانية في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كنّ مفروضاً لهنّ مدخولاً بهنّ‏.‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ إنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس، وإن كانت مفروضاً لها لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكِيلاً ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتّعُوهُنَّ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏ قال‏:‏ هذه الآية التي في الأحزاب نسخت التي في البقرة‏.‏

وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المتعة مختصة بالمطلقة قبل البناء‏.‏ والتسمية؛ لأن المدخول بها تستحق جميع المسمى، أو مهر المثل، وغير المدخولة التي قد فرض لها زوجها فريضة، أي‏:‏ سمى لها مهراً، وطلقها قبل الدخول تستحق نصف المسمى، ومن القائلين بهذا ابن عمر، ومجاهد‏.‏ وقد وقع الإجماع على أن المطلقة قبل الدخول، والفرض لا تستحق إلا المتعة إذا كانت حرة‏.‏ وأما إذا كانت أمة، فذهب الجمهور إلى أن لها المتعة، وقال الأوزاعي، والثوري‏:‏ لا متعة لها؛ لأنها تكون لسيدها، وهو لا يستحق مالاً في مقابل تأذي مملوكته؛ لأن الله سبحانه إنما شرع المتعة للمطلقة قبل الدخول، والفرض، لكونها تتأذى بالطلاق قبل ذلك‏.‏ وقد اختلفوا في المتعة المشروعة هل هي مقدّرة بقدر أم لا‏؟‏ فقال مالك، والشافعي في الجديد‏:‏ لا حدّ لها معروف بل ما يقع عليه اسم المتعة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إنه إذا تنازع الزوجان في قدر المتعة وجب لها نصف مهر مثلها، ولا ينقص من خمسة دراهم؛ لأن أقل المهر عشرة دراهم‏.‏ وللسلف فيها أقوال سيأتي ذكرها إن شاء الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ‏}‏ يدل على أن الاعتبار في ذلك بحال الزوج، فالمتعة من الغني فوق المتعة من الفقير‏.‏ وقرأ الجمهور على الموسع بسكون الواو، وكسر السين، وهو الذي اتسعت حاله‏.‏

وقرأ أبو حيوة بفتح الواو، وتشديد السين، وفتحها‏.‏ وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر قدره بسكون الدال فيهما‏.‏ وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم في رواية حفص بفتح الدال فيهما‏.‏ قال الأخفش، وغيره‏:‏ هما لغتان فصيحتان، وهكذا يقرأ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَألَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏ والمقتر المقلّ، ومتاعاً مصدر مؤكد لقوله‏:‏ ‏{‏وَمَتّعُوهُنَّ‏}‏‏.‏ والمعروف‏:‏ ما عرف في الشرع، والعادة الموافقة له‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حَقّاً‏}‏ وصف لقوله‏:‏ ‏{‏متاعا‏}‏ أو مصدر لفعل محذوف، أي‏:‏ حق ذلك حقاً، يقال‏:‏ حققت عليه القضاء، وأحققت، أي‏:‏ أوجبت‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ الآية، فيه دليل على أن المتعة لا تجب لهذه المطلقة لوقوعها في مقابلة المطلقة قبل البناء، والفرض التي تستحق المتعة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ‏}‏ أي قالوا‏:‏ وجب عليكم نصف ما سميتم لهنّ من المهر، وهذا مجمع عليه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فَنِصْفُ‏}‏ بالرفع‏.‏ وقرأ من عدا الجمهور بالنصب، أي‏:‏ فادفعوا نصف ما فرضتم، وقرئ أيضاً بضم النون، وكسرها، وهما لغتان‏.‏ وقد وقع الاتفاق أيضاً على أن المرأة التي لم يدخل بها زوجها، ومات، وقد فرض لها مهراً تستحقه كاملاً بالموت، ولها الميراث، وعليها العدة‏.‏ واختلفوا في الخلوة هل تقوم مقام الدخول، وتستحق المرأة بها كمال المهر، كما تستحقه بالدخول أم لا‏؟‏ فذهب إلى الأول مالك، والشافعي في القديم، والكوفيون، والخلفاء الراشدون، وجمهور أهل العلم، وتجب عندهم أيضاً العدّة‏.‏ وقال الشافعي في الجديد‏:‏ لا يجب إلا نصف المهر، وهو ظاهر الآية لما تقدّم من أن المسيس هو الجماع، ولا تجب عنده العدّة، وإليه ذهب جماعة من السلف‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إَّلا أَن يَعْفُونَ‏}‏ أي‏:‏ المطلقات، ومعناه‏:‏ يتركن، ويصفحن، ووزنه يفعلن، وهو استثناء مفرغ من أعمّ العام، وقيل‏:‏ منقطع، ومعناه‏:‏ يتركن النصف الذي يجب لهنّ على الأزواج‏.‏ ولم تسقط النون مع ‏"‏ أن ‏"‏ لأن جمع المؤنث في المضارع على حالة واحدة في الرفع، والنصب، والجزم لكون النون ضميراً، وليست بعلامة إعراب كما في المذكر في قولك‏:‏ الرجال يعفون، وهذا عليه جمهور المفسرين‏.‏ وروى عن محمد بن كعب القرظي أنه قال‏:‏ ‏{‏إَّلا أَن يَعْفُونَ‏}‏ يعني‏:‏ الرجال، وهو ضعيف لفظاً‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يَعْفُوَاْ الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح‏}‏ معطوف على محل قوله‏:‏ «إلا أن يعفون» لأن الأول مبني، وهذا معرب؛ قيل‏:‏ هو الزوج، وبه قال جبير بن مطعم، وسعيد بن المسيب، وشريح، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والشعبي، وعكرمة، ونافع، وابن سيرين، والضحاك، ومحمد بن كعب القرظي، وجابر بن زيد، وأبو مجْلَز، والربيع بن أنس، وإياس بن معاوية، ومكحول، ومقاتل بن حيان، وهو الجديد من قول الشافعي، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه، والثوري، وابن شبرمة، والأوزاعي، ورجحه ابن جرير‏.‏

وفي هذا القول قوّة وضعف؛ أما قوته، فلكون الذي بيده عقدة النكاح حقيقة هو الزوج؛ لأنه هو الذي إليه رفعه بالطلاق، وأما ضعفه فلكون العفو منه غير معقول، وما قالوا به من أن المراد بعفوه أن يعطيها المهر كاملاً غير ظاهر‏.‏ لأن العفو لا يطلق على الزيادة‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يَعْفُوَاْ الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح‏}‏ هو‏:‏ الولي، وبه قال النخعي، وعلقمة، والحسن، وطاوس، وعطاء، وأبو الزناد، وزيد بن أسلم، وربيعة، والزهري، والأسود بن يزيد، والشعبي، وقتادة، ومالك، والشافعي في قوله القديم، وفيه قوّة وضعف؛ أما قوّته لفكون معنى العفو فيه معقولاً؛ وأما ضعفه، فلكون عقدة النكاح بيد الزوج لا بيده، ومما يزيد هذا القول ضعفاً أنه ليس للولي أن يعفو عن الزوج مما لا يملكه‏.‏ وقد حكى القرطبي الإجماع على أن الوليّ لا يملك شيئاً من مالها، والمهر مالها‏.‏ فالراجح ما قاله الأوّلون لوجهين‏:‏ الأوّل أن الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح حقيقة‏.‏ الثاني‏:‏ أن عفوه بإكمال المهر هو صادر عن المالك مطلق التصرف بخلاف الولي، وتسمية الزيادة عفواً، وإن كان خلاف الظاهر، لكن لما كان الغالب أنهم يسوقون المهر كاملاً عند العقد كان العفو معقولاً، لأنه تركه لها، ولم يسترجع النصف منه، ولا يحتاج في هذا إلى أن يقال‏:‏ إنه من باب المشاكلة كما في الكشاف، لأنه عفو حقيقي أي‏:‏ ترك لما يستحق المطالبة به، إلا أن يقال‏:‏ إنه مشاكلة، أو يطيب في توفية المهر قبل أن يسوقه الزوج‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى‏}‏ قيل‏:‏ هو خطاب للرجال، والنساء تغليباً؛ وقرأه الجمهور بالتاء الفوقية، وقرأ أبو نهيك، والشعبي بالياء التحتية، فيكون الخطاب مع الرجال‏.‏ وفي هذا دليل على ما رجحناه من أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج؛ لأن عفو الوليّ عن شيء لا يملكه ليس هو أقرب إلى التقوى، بل أقرب إلى الظلم والجور‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ولا تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ‏}‏ قرأه الجمهور بضم الواو، وقرأ يحيى بن يعمر بكسرها، وقرأ علي، ومجاهد، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة‏:‏ «ولا تناسوا» والمعنى‏:‏ أن الزوجين لا ينسيان التفضل من كل واحد منهما على الآخر، ومن جملة ذلك أن تتفضل المرأة بالعفو عن النصف، ويتفضل الرجل عليها بإكمال المهر، وهو إرشاد للرجال، والنساء من الأزواج إلى ترك التقصي على بعضهم بعضاً، والمسامحة فيما يستغرقه أحدهما على الآخر للوصلة التي قد وقعت سهماً من إفضاء البعض إلى البعض، وهي وصلة لا يشبهها، وصلة، فمن رعاية حقها، ومعرفتها حق معرفتها الحرص منهما على التسامح‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ فيه من رغيب المحسن، وترهيب غيره ما لا يخفى‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً‏}‏ قال‏:‏ المس‏:‏ النكاح، والفريضة‏:‏ الصداق ‏{‏ومتعوهنّ‏}‏ قال‏:‏ هو على الرجل يتزوج المرأة، ولم يسم لها صداقاً، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها‏.‏ فأمره الله أن يمتعها على قدر عسره، ويسره، فإن كان موسراً متعها بخادم، وإن كان معسراً متعها بثلاثة أثواب، أو نحو ذلك‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه؛ أنه قال‏:‏ متعة الطلاق‏:‏ أعلاها الخادم، ودون ذلك الورق، ودون ذلك الكسوة‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن ابن عمر قال‏:‏ أدنى ما يكون من المتعة ثلاثون درهماً‏.‏ وروى القرطبي في تفسيره عن الحسن بن علي أنه متع بعشرين ألفاً، ورقاق من عسل‏.‏ وعن شريح أنه متع بخمسمائة درهم‏.‏ وأخرج الدارقطني عن الحسن بن علي أنه متع بعشرة آلاف‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، عن ابن سيرين أنه كان يمتع بالخادم، والنفقة أو بالكسوة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ قال المسّ‏:‏ الجماع، فلها نصف صداقها، وليس لها أكثر من ذلك إلا أن يعفون‏.‏ وهي المرأة الثيب، والبكر يزوجها غير أبيها، فجعل الله العفو لهنّ إن شئن عفون بتركهن، وإن شئن أخذن نصف الصداق ‏{‏أَوْ يَعْفُوَاْ الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح‏}‏ وهو أبو الجارية البكر جعل العفو إليه ليس لها معه أمر إذا طلقت ما كانت في حجره‏.‏

وأخرج الشافعي، وسعيد بن منصور، والبيهقي عن ابن عباس قال في الرجل يتزوج المرأة، فيخلو بها ولا يمسها، ثم يطلقها‏:‏ ليس لها إلا نصف الصداق؛ لأن الله يقول‏:‏ ‏{‏فَإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج البيهقي عن ابن مسعود قال‏:‏ لها نصف الصداق، وإن جلس بين رجليها‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، والبيهقي بسند حسن، عن ابن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الذي بيده عقدة النكاح الزوج» وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والدارقطني، والبيهقي، عن عليّ مثله من قوله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن عباس مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، والبيهقي عنه قال‏:‏ هو أبوها، وأخوها، ومن لا تنكح إلا بإذنه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ‏}‏ قال‏:‏ في هذا، أو غيره‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، وصححه البيهقي؛ أن قوماً أتوا ابن مسعود، فقالوا‏:‏ إن رجلاً تزوج منا امرأة، ولم يفرض لها صداقاً، ولم يجمعها إليه حتى مات، فقال‏:‏ أرى أن أجعل لها صداقاً كصداق نسائها، لا وَكَسَ، ولا شطط، ولها الميراث، وعليها العدة أربعة أشهر وعشر، فسمع بذلك ناس من أشجع منهم‏:‏ مَعقِل بن سنان، فقالوا‏:‏ نشهد أنك قضيت مثل الذي قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة منا يقال لها‏:‏ بِروَع بنت واشق‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبيهقي عن عليّ؛ أنه قال في المتوفي عنها زوجها، ولم يفرض لها صداقاً‏:‏ لها الميراث، وعليها العدّة، ولا صداق لها‏.‏ وقال‏:‏ لا يقبل قول أعرابي من أشجع على كتاب الله‏.‏ وأخرج الشافعي، والبيهقي، عن ابن عباس قال في المرأة التي يموت عنها زوجها، وقد فرض لها صداقاً‏:‏ لها الصداق، والميراث‏.‏

وأخرج مالك، والشافعي، وابن أبي شيبة، والبيهقي، عن عمر بن الخطاب أنه قضى في المرأة يتزوجها الرجل‏:‏ أنه إذا أرخيت الستور، فقد وجب الصداق‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، والبيهقي، عن عُمَر، وَعلي قال‏:‏ إذا أرخى ستراً، وأغلق باباً، فلها الصداق كاملاً، وعليها العدّة‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبيهقي، عن زرارة بن أوْفى قال‏:‏ قضى الخلفاء الراشدون أنه مَنْ أغلق باباً، أو أرخى ستراً، فقد وجب الصداق، والعدّة‏.‏ وأخرج مالك، والبيهقي عن زيد بن ثابت نحوه‏.‏ وأخرج البيهقي، عن محمد بن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من كشف امرأة، فنظر إلى عورتها، فقد وجب الصداق»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏238- 239‏]‏

‏{‏حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ‏(‏238‏)‏ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ‏(‏239‏)‏‏}‏

المحافظة على الشيء‏:‏ المداومة، والمواظبة عليه، والوسطى‏:‏ تأنيث الأوسط، وأوسط الشيء ووسطه‏:‏ خياره‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏، ومنه قول بعض العرب يمدح النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

يا أوسط النَّاسِ طُراً في مفاخرهم *** وأكرم النَّاسِ أُما بَرَّةً وأباً

وَوَسَط فلان القوم يسطهم، أي‏:‏ صار في وسطهم‏.‏ وأفرد الصلاة الوسطى بالذكر بعد دخولها في عموم الصلوات تشريفاً لها‏.‏ وقرأ أبو جعفر‏:‏ ‏{‏والصلاة الوسطى‏}‏ بالنصب على الإغراء، وكذلك قرأ الحلواني؛ وقرأ قالون عن نافع «الوصطي» بالصاد لمجاورة الطاء، وهما لغتان‏:‏ كالسراط، والصراط‏.‏ وقد اختلف أهل العلم في تعيينها على ثمانية عشر قولاً أوردتها في شرحي للمنتقى، وذكرت ما تمسكت به كل طائفة، وأرجح الأقوال، وأصحها ما ذهب إليه الجمهور من أنها العصر‏.‏ لما ثبت عند البخاري، ومسلم، وأهل السنن، وغيرهم من حديث علي قال‏:‏ كنا نراها الفجر حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب‏:‏ «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وأجوافهم ناراً» وأخرج مسلم، والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم من حديث ابن مسعود مرفوعاً مثله‏.‏ وأخرجه أيضاً ابن جرير، وابن المنذر، والطبراني من حديث ابن عباس مرفوعاً‏.‏ وأخرجه البزار بإسناد صحيح من حديث جابر مرفوعاً، وأخرجه أيضاً البزار بإسناد صحيح من حديث حذيفة مرفوعاً‏.‏ وأخرجه الطبراني بإسناد ضعيف من حديث أم سلمة مرفوعاً‏.‏

وورد في تعيين أنها العصر من غير ذكر يوم الأحزاب أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ منها عن ابن عمر، عن ابن منده، ومنها عن سَمُرة عند أحمد، وابن جرير، والطبراني، ومنها أيضاً عند ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه ابن جرير، والطبراني، والبيهقي، وعن أبي هريرة، عند ابن جرير، والبيهقي، والطحاوي‏.‏ وأخرجه عنه أيضاً ابن سعيد، والبزار، وابن جرير، والطبراني، وعن ابن عباس، عند البزار بأسانيد صحيحة، وعن أبي مالك الأشعري، عند ابن جرير، والطبراني، فهذه أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مصرحة بأنها العصر‏.‏ وقد روي، عن الصحابة في تعيين أنها العصر آثار كبيرة، وفي الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يحتاج معه إلى غيره‏.‏

وأما ما روي عن عليّ، وابن عباس أنهما قالا‏:‏ إنها صلاة الصبح كما أخرجه مالك في الموطأ عنهما، وأخرجه ابن جرير، عن ابن عباس، وكذلك أخرجه، عنه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وكذلك أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عمر، وكذلك أخرجه ابن جرير، عن جابر، وكذلك أخرجه ابن أبي حاتم، عن أبي أمامة، وكل ذلك من أقوالهم، وليس فيها شيء من المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تقوم بمثل ذلك حجة لا سيما إذا عارض ما قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ثبوتاً يمكن أن يدعي فيه التواتر، وإذا لم تقم الحجة بأقوال الصحابة لم تقم بأقوال من بعدهم من التابعين، وتابعهم بالأولى،

وهكذا لا تقوم الحجة بما أخرجه ابن أبي حاتم بإسناد حسن، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ صلاة الوسطى المغرب، وهكذا لا اعتبار بما ورد من قول جماعة من الصحابة‏:‏ أنها الظهر، أو غيرها من الصلوات، ولكن المحتاج إلى إمعان نظر، وفكر ما ورد مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما فيه دلالة على أنها الظهر، كما أخرجه ابن جرير، عن زيد بن ثابت مرفوعاً‏:‏

«إن الصلاة الوسطى صلاة الظهر» ولا يصح رفعه بل المرويّ، عن زيد بن ثابت ذلك من قوله، واستدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالهاجرة، وكانت أثقل الصلاة على أصحابه، وأين يقع هذا الاستدلال من تلك الأحاديث الصحيحة الثابتة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا الاعتبار بما روي، عن ابن عمر من قوله‏:‏ إنها الظهر‏.‏ وكذلك ما روي، عن عائشة، وأبي سعيد الخدري، وغيرهم، فلا حجة في قول أحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما ما رواه عبد الرزاق، وابن جرير، وغيرهما أن حفصة قالت لأبي رافع مولاها، وقد أمرته أن يكتب لها مصحفاً‏:‏ إذا أتيت على هذه الآية‏:‏ ‏{‏حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى‏}‏ فتعال حتى أمليها عليك، فلما بلغ ذلك أمرته أن يكتب‏:‏ «حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر»‏.‏ وأخرجه أيضاً، عنها مالك، وعبد بن حميد، وابن جرير، والبيهقي في سننه، وزادوا‏:‏ وقالت أشهد أني سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج مالك، وأحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم، عن أبي يونس مولى عائشة أنها أمرته أن يكتب لها مصحفاً، وقالت‏:‏ إذا بلغت هذه الآية فآذِنِّي ‏{‏حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى‏}‏ قال‏:‏ فلما بلغتها آذنتها، فأملَتْ عليّ‏:‏ «حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر» قالت عائشة‏:‏ سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج وكيع، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن أم سلمة أنها أمرت مَنْ يكتب لها مصحفاً، وقالت له، كما قالت حفصة، وعائشة‏.‏ فغاية ما في هذه الروايات، عن أمهات المؤمنين الثلاث رضي الله عنهنّ أنَّهنّ يروين هذا الحرف هكذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيه ما يدل على تعيين الصلاة الوسطى أنها الظهر، أو غيرها، بل غاية ما يدل عليه عطف صلاة العصر على صلاة الوسطى أنها غيرها؛ لأن المعطوف غير المعطوف عليه، وهذا الاستدلال لا يعارض ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا يدفع أنها العصر كما قدمنا بيانه‏.‏

فالحاصل أن هذه القراءة التي نقلتها أمهات المؤمنين الثلاث بإثبات قوله‏:‏ «وصلاة العصر» معارَضة بما أخرجه ابن جرير، عن عروة قال‏:‏ كان في مصحف عائشة‏:‏ ‏"‏ حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَهِىَ صلاة العصر ‏"‏‏.‏ وأخرج وكيع، عن حميدة قالت‏:‏ قرأت في مصحف عائشة‏:‏ ‏"‏ حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى * صلاة العصر ‏"‏‏.‏ وأخرج ابن أبي داود، عن قبيصة بن ذؤيب مثله‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وأبو عبيد، عن زياد بن أبي مريم أن عائشة أمرت بمصحف لها أن يكتب، وقالت‏:‏ إذا بلغتم ‏{‏حافظوا عَلَى الصلوات‏}‏ فلا تكتبوها حتى تؤذنوني، فلما أخبروها أنهم قد بلغوا قالت‏:‏ اكتبوها صلاة الوسطى صلاة العصر‏.‏ وأخرج ابن جرير، والطحاوي، والبيهقي، عن عمرو بن رافع‏:‏ قال كان مكتوباً في مصحف حفصة ‏"‏ حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَهِىَ صلاة العصر ‏"‏‏.‏ وأخرج أبو عبيد في فضائله، وابن المنذر عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها‏:‏ ‏"‏ حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر ‏"‏‏.‏ وأخرج أبو عبيد، وعبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، وابن جرير، والطحاوي، عن ابن عباس‏:‏ أنه كان ليقرؤها‏:‏ ‏"‏ حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر ‏"‏‏.‏ وأخرج المحاملي عن السائب بن يزيد أنه تلاها كذلك، فهذه الروايات تعارض تلك الروايات باعتبار التلاوة، ونقل القراءة، ويبقى ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من التعيين صافياً، عن شوب كدر المعارضة، على أنه قد ورد ما يدل على نسخ تلك القراءة التي نقلتها حفصة، وعائشة، وأم سلمة‏.‏ فأخرج عبد بن حميد، ومسلم، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، والبيهقي، عن البراء بن عازب، قال‏:‏ نزلت‏:‏ ‏"‏ حافظوا عَلَى الصلوات وصلاة العصر ‏"‏ فقرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله، ثم نسخها الله، فأنزل‏:‏ ‏{‏حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى‏}‏ فقيل له‏:‏ هي إذن‏:‏ صلاة العصر‏؟‏ قال‏:‏ قد حدثتك كيف نزلت، وكيف نسخها الله، والله أعلم‏.‏ وأخرج البيهقي، عنه من وجه آخر، نحوه‏.‏

وإذا تقرر لك هذا، وعرفت ما سقناه تبين لك أنه لم يرد ما يعارض أن الصلاة الوسطى صلاة العصر‏.‏ وأما حجج بقية الأقوال، فليس فيها شيء مما ينبغي الاشتغال به؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، وبعض القائلين عوَّل على أمر لا يعوَّل عليه، فقال‏:‏ إنها صلاة كذا؛ لأنها وسطى بالنسبة إلى أن قبلها كذا من الصلوات، وبعدها كذا من الصلوات، وهذا الرأي المحض، والتخمين البحت لا ينبغي أن تسند إليه الأحكام الشرعية على فرض عدم وجود ما يعارضه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف مع وجود ما هو في أعلى درجات الصحة، والقوّة، والثبوت، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ ويالله العجب من قوم لم يكتفوا بتقصيرهم في علم السنة، وإعراضهم عن خير العلوم، وأنفعها، حتى كلفوا أنفسهم التكلم على أحكام الله، والتجري على تفسير كتاب الله بغير علم ولا هدى، فجاءوا بما يضحك منه تارة، ويبكي منه أخرى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين‏}‏ القنوت قيل‏:‏ هو الطاعة، أي‏:‏ قوموا لله في صلاتكم طائعين، قاله جابر بن زيد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والضحاك، والشافعي‏.‏ وقيل‏:‏ هو الخشوع، قاله ابن عمر، ومجاهد‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

قانتاً لله يَدعُو ربه *** وَعَلى عَمْدٍ منِ النَّاسِ اعْتَزَلَ

وقيل‏:‏ هو الدعاء، وبه قال ابن عباس‏.‏ وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على رعْلٍ، وَذَكْوَان‏.‏ وقال قوم‏:‏ إن القنوت طول القيام، وقيل معناه‏:‏ ساكتين قاله السدي، ويدل عليه حديث زيد بن أرقم في الصحيحين، وغيرهما قال‏:‏ كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الحاجة في الصلاة حتى نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين‏}‏ فأمرنا بالسكوت‏.‏ وقيل‏:‏ أصل القنوت في اللغة‏:‏ الدوام على الشيء، فكل معنى يناسب الدوام يصح إطلاق القنوت عليه‏.‏ وقد ذكر أهل العلم أن القنوت ثلاثة عشر معنى، وقد ذكرنا ذلك في شرح المنتقى، والمتعين هاهنا حمل القنوت على السكوت للحديث المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا‏}‏ الخوف هو‏:‏ الفزع، والرجال‏:‏ جمع رَجِل، أو راجل، من قولهم رجل الإنسان يرجل راجلاً‏:‏ إذا عدم المركوب، ومشى على قدميه، فهو رجل، وراجل‏.‏ يقول أهل الحجاز‏:‏ مشى فلان إلى بيت الله حافياً رجلاً، حكاه ابن جرير الطبري، وغيره‏.‏ لما ذكر الله سبحانه الأمر بالمحافظة على الصلوات، ذكر حالة الخوف أنهم يضيعون فيها ما يمكنهم، ويدخل تحت طوقهم من المحافظة على الصلاة بفعلها حال الترجل، وحال الركوب، وأبان لهم أن هذه العبادة لازمة في كل الأحوال بحسب الإمكان‏.‏ وقد اختلف أهل العلم في حدّ الخوف المبيح لذلك، والبحث مستوفي في كتب الفروع‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أَمِنتُمْ‏}‏ أي‏:‏ إذا زال خوفكم، فارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام الصلاة مستقبلين القبلة، قائمين بجميع شروطها، وأركانها، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم‏}‏ وقيل‏:‏ معنى الآية‏:‏ خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة، وهو خلاف معنى الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كَمَا عَلَّمَكُم‏}‏ أي‏:‏ مثل ما علمكم من الشرائع‏:‏ ‏{‏مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ‏}‏ والكاف صفة لمصدر محذوف أي‏:‏ ذكراً كائناً كتعليمه إياكم، أو مثل تعليمه إياكم‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا، وشبك بين أصابعه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عمر؛ أنه سئل عن الصلاة الوسطى‏؟‏ فقال‏:‏ هي فيهن، فحافظوا عليهن‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن زيد بن ثابت‏:‏ أنه سأله رجل عن الصلاة الوسطى، فقال‏:‏ حافظ على الصلوات تدركها‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، عن الربيع بن خُيَثْم‏:‏ أن سائلاً سأله عن الصلاة الوسطى، قال‏:‏ حافظ عليهنّ، فإنك إن فعلت أصبتها، إنما هي واحدة منهنّ‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن سيرين قال‏:‏ سئل شريح عن الصلاة الوسطى، فقال‏:‏ حافظوا عليها تصيبوها‏.‏ وقد قدمنا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه رضي الله عنهم في تعيينها‏.‏

وأخرج الطبراني، عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين‏}‏ مثل ما قدمنا، عن زيد ابن أرقم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود، نحوه‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، عن محمد بن كعب، نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن عكرمة نحوه‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين‏}‏ قال‏:‏ مصلين‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال‏:‏ كل أهل دين يقومون فيها عاصين، قوموا أنتم مطيعين، وأخرج ابن أبي شيبة، عن الضحاك مثله‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين‏}‏ قال‏:‏ من القنوت الركوع، والخشوع، وطول الركوع‏:‏ يعني طول القيام، وغض البصر، وخفض الجناح، والرهبة لله‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين، وغيرهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إن في الصلاة لشغلاً» وفي صحيح مسلم، وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن» وقد اختلفت الأحاديث في القنوت المصطلح عليه، هل هو قبل الركوع، أو بعده، وهل هو في جميع الصلوات، أو بعضها، وهل هو مختص بالنوازل أم لا‏؟‏ والراجح اختصاصه بالنوازل، وقد أوضحنا ذلك في شرحنا للمنتقى، فليرجع إليه‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا‏}‏ قال‏:‏ يصلي الراكب على دابته، والراجل على رجليه‏.‏ ‏{‏فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ كما علمكم أن يصلي الراكب على دابته، والراجل على رجليه‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن جابر بن عبد الله، قال‏:‏ إذا كانت المسابقة، فليُومِ برأسه حيث كان وجهه، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا‏}‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا‏}‏ قال‏:‏ ركعة ركعة‏.‏ وأخرج وكيع، وابن جرير، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أَمِنتُمْ‏}‏ قال‏:‏ خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏240- 242‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏240‏)‏ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ‏(‏241‏)‏ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏242‏)‏‏}‏

هذا عَود إلى بقية الأحكام المفصلة فيما سلف، وقد اختلف السلف، ومن تبعهم من المفسرين في هذه الآية هل هي محكمة، أو منسوخة‏؟‏ فذهب الجمهور إلى أنها منسوخة بالأربعة الأشهر والعشر كما تقدم، وأن الوصية المذكورة فيها منسوخة بما فرض الله لهنّ من الميراث‏.‏ وحكى ابن جرير، عن مجاهد أن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها، وأن العدة أربعة أشهر وعشر، ثم جعل الله لهنّ وصية منه سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإذا شاءت المرأة سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت‏.‏ وقد حكى ابن عطية، والقاضي عياض أن الإجماع منعقد على أن الحول منسوخ، وأن عدتها أربعة أشهر وعشر‏.‏ وقد أخرج عن مجاهد، ما أخرجه ابن جرير عنه البخاري في صحيحه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَصِيَّةٍ‏}‏ قرأنا نافع، وابن كثير، وعاصم في رواية أبي بكر، والكسائي بالرفع على أن ذلك مبتدأ لخبر محذوف يقدر مقدماً‏.‏ أي‏:‏ عليهم وصية، وقيل‏:‏ إن الخبر قوله‏:‏ ‏{‏لاّزْوَاجِهِم‏}‏ وقيل‏:‏ إنه خبر مبتدأ محذوف‏.‏ أي‏:‏ وصية الذين يتوفون وصية، أو حكم الذين يتوفون وصية‏.‏ وقرأ أبو أبو بكر، وحمزة، وابن عامر بالنصب على تقدير فعل محذوف‏.‏ أي‏:‏ فليوصوا وصية، أو أوصى الله وصية، أو كتب الله عليهم وصية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏متاعا‏}‏ منصوب بوصية، أو بفعل محذوف‏.‏ أي‏:‏ متعوهن متاعاً، أو جعل الله لهنّ ذلك متاعاً، ويجوز أن يكون منتصباً على الحال‏.‏ والمتاع هنا‏:‏ نفقة السنة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏غَيْرَ إِخْرَاجٍ‏}‏ صفة لقوله‏:‏ ‏{‏متاعا‏}‏ وقال الأخفش‏:‏ إنه مصدر كأنه قال لا إخراجاً، وقيل‏:‏ إنه حال، أي‏:‏ متعوهن غير مخرجات، وقيل‏:‏ منصوب بنزع الخافض، أي‏:‏ من غير إخراج، والمعنى‏:‏ أنه يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل نزول الموت بهم لأزواجهم أن يمتعن بعدهم حولاً كاملاً بالنفقة، والسكنى من تركتهم، ولا يُخْرَجْن من مساكنهنّ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ خَرَجْنَ‏}‏ يعني‏:‏ باختيارهنّ قبل الحول ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا حرج على الوليّ، والحاكم، وغيرهما ‏{‏فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ‏}‏ من التعرّض للخطاب، والتزين لهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مِن مَّعْرُوفٍ‏}‏ أي‏:‏ بما هو معروف في الشرع غير منكر‏.‏

وفيه دليل على أن النساء كنّ مخيرات في سكنى الحول، وليس ذلك بحتم عليهنّ؛ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ لا جناح عليكم في قطع النفقة عنهنّ، وهو ضعيف؛ لأن متعلق الجناح هو مذكور في الآية بقوله‏:‏ ‏{‏فِيمَا فَعَلْنَ‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وللمطلقات متاع‏}‏ قد اختلف المفسرون في هذه الآية، فقيل‏:‏ هي المتعة، وأنها واجبة لكل مطلقة‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذه الآية خاصة بالثيبات اللواتي قد جومعن؛ لأنه قد تقدّم قبل هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهنّ الأزواج‏.‏ وقد قدّمنا الكلام على هذه المتعة، والخلاف في كونها خاصة بمن طلقت قبل البناء والفرض، أو عامة للمطلقات، وقيل‏:‏ إن هذه الآية شاملة للمتعة الواجبة، وهي متعة المطلقة قبل البناء، والفرض، وغير الواجبة، وهي‏:‏ متعة سائر المطلقات، فإنها مستحبة فقط‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالمتعة هنا‏:‏ النفقة‏.‏

وقد أخرج البخاري، وغيره عن ابن الزبير، قال‏:‏ قلت لعثمان بن عفان‏:‏ ‏{‏والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا‏}‏ قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها، أو لم تَدَعها‏؟‏ قال‏:‏ يا ابن أخي لا أغير شيئاً منه من مكانه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في الآية، قال‏:‏ كان للمتوفي عنها زوجها نفقتها، وسكناها في الدار سنة، فنسختها آية المواريث، فجعل لهنّ الربع، والثمن مما ترك الزوج‏.‏ وأخرج ابن جرير، نحوه عن عطاء‏.‏ وأخرج نحوه أيضاً أبو داود، والنسائي، عن ابن عباس من وجه آخر‏.‏ وأخرج الشافعي، وعبد الرزاق، عن جابر بن عبد الله، قال‏:‏ ليس للمتوفى عنها زوجها نفقة حَسْبُها الميراث‏.‏ وأخرج أبو داود في ناسخه، والنسائي عن عكرمة قال‏:‏ نسختها‏:‏ ‏{‏والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏‏.‏ وأخرج ابن الأنباري في المصاحف، عن زيد بن أسلم نحوه‏.‏ وأخرج أيضاً، عن قتادة نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ‏}‏ قال‏:‏ النكاح الحلال الطيب‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد، قال‏:‏ لما نزل قوله‏:‏ ‏{‏متاعا بالمعروف حَقّا عَلَى المحسنين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 236‏]‏ قال رجل‏:‏ إن أحسنت، فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وللمطلقات متاع بالمعروف حَقّا عَلَى المتقين‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن المسيب، قال‏:‏ نسخت هذه الآية بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 237‏]‏‏.‏ وأخرج أيضاً عن عتاب بن خصيف في قوله‏:‏ ‏{‏وللمطلقات متاع‏}‏ قال‏:‏ كان ذلك قبل الفرائض‏.‏ وأخرج مالك، وعبد الرزاق، والشافعي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن عمر قال‏:‏ لكل مطلقة متعة إلا التي تطلقها، ولم تدخل بها، وقد فرض لها، كفى بالنصف متاعاً‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن عليّ بن أبي طالب قال‏:‏ لكل مؤمنة طلقت حرّة، أو أمة متعة، وقرأ‏:‏ ‏{‏وللمطلقات متاع بالمعروف حَقّا عَلَى المتقين‏}‏‏.‏ وأخرج البيهقي، عن جابر بن عبد الله، قال «لما طلق حفص بن المغيرة امرأته فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لزوجها‏:‏ ‏"‏ متّعها ‏"‏ قال‏:‏ لا أجد ما أمتعها، قال‏:‏ ‏"‏ فإنه لا بد من المتاع، متِّعها، ولو نصف صاع من تمر ‏"‏ وأخرج عبد بن حميد، عن أبي العالية في الآية، قال‏:‏ لكل مطلقة متعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏243- 245‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏243‏)‏ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏244‏)‏ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏245‏)‏‏}‏

الاستفهام هنا للتقرير، والرؤية المذكورة هي رؤية القلب لا رؤية البصر‏.‏ والمعنى، عند سيبويه‏:‏ تنبه إلى أمر الذين خرجوا، ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين كذا قيل‏.‏ وحاصله أن الرؤية هنا التي بمعنى الإدراك مضمنة معنى التنبيه، ويجوز أن تكون مضمنة معنى الانتهاء‏.‏ أي‏:‏ ألم ينته علمك إليهم؛ أم معنى الوصول‏.‏ أي‏:‏ ألم يصل علمك إليهم، ويجوز أن تكون بمعنى الرؤية البصرية‏.‏ أي‏:‏ ألم تنظر إلى الذين خرجوا‏.‏ جعل الله سبحانه قصة هؤلاء لما كانت بمكان من الشيوع، والشهرة يحمل كل أحد على الإقرار بها بمنزلة المعلومة لكل فرد، أو المبصرة لكل مبصر؛ لأن أهل الكتاب قد أخبروا بها ودوَّنوها، وأشهروا أمرها، والخطاب هنا لكل من يصلح له‏.‏ والكلام جار مجرى المثل في مقام التعجيب ادّعاءً لظهوره، وجلائه بحيث يستوي في إدراكه الشاهد، والغائب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ أُلُوفٌ‏}‏ في محل نصب على الحال من ضمير خرجوا، وألوف من جموع الكثرة، فدل على أنها ألوف كثيرة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حَذَرَ الموت‏}‏ مفعول له‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ‏}‏ هو أمر تكوين عبارة عن تعلق إرادته بموتهم دفعة، أو تمثيل لإماتته سبحانه إياهم ميتة نفس واحدة كأنهم أمروا، فأطاعوا‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أحياهم‏}‏ هو معطوف على مقدّر يقتضيه المقام، أي‏:‏ قال الله لهم‏:‏ موتوا، فماتوا ثم أحياهم، أو على قال لما كان عبارة، عن الإماتة، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس‏}‏ التنكير في قوله فضل للتعظيم‏.‏ أي‏:‏ لذو فضل عظيم على الناس جميعاً، أما هؤلاء الذين خرجوا، فلكونه أحياهم، ليعتبروا، وأما المخاطبون، فلكونه قد أرشدهم إلى الاعتبار، والاستبصار بقصة هؤلاء،

قوله‏:‏ ‏{‏وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله‏}‏ هو معطوف على مقدّر، كأنه قيل‏:‏ اشكروا فضله بالاعتبار بما قصّ عليكم، وقاتلوا، هذا إذا كان الخطاب بقوله‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُواْ‏}‏ راجعاً إلى المخاطبين بقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ‏}‏ كما قاله جمهور المفسرين، وعلى هذا يكون إيراد هذه القصة لتشجيع المسلمين على الجهاد، وقيل‏:‏ إن الخطاب للذين أحيوا من بني إسرائيل، فيكون عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏مُوتُواْ‏}‏ وفي الكلام محذوف تقديره، وقال لهم قاتلوا‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ لا وجه لقول من قال‏:‏ إن الأمر بالقتال للذين أحيوا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله‏}‏ لما أمر سبحانه بالقتال، والجهاد أمر بالإنفاق في ذلك، و‏{‏من‏}‏ استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء، و«ذا» خبره، و«الذي» وصلته وصف له، أو بدل منه، وإقراض الله مثل لتقديم العمل الصالح الذي يستحق به فاعله الثواب، وأصل القرض اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء، يقال‏:‏ أقرض فلان فلاناً‏.‏ أي‏:‏ أعطاه ما يتجازاه‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وَإذا جوزِيت قَرضاً فاجزْه *** وقال الزجاج‏:‏ القرض في اللغة‏:‏ البلاء الحسن، والبلاء السيء‏.‏

قال أمية‏:‏

كلُّ امرئ سَوفَ يُجْزَي قْرضَه حَسَناً *** أو سَيِئاً وَمديناً مِثْل مَا دَانَا

وقال آخر‏:‏

فجازَى القُرُوض بِأمثَالها *** فبالخْيَر خَيْراً وبِالشر شرّاً

وقال الكسائي‏:‏ القرض‏:‏ ما أسلفت من عمل صالح، أو سيء، وأصل الكلمة القطع، ومنه المقراض، واستدعاء القرض في الآية إنما هو‏:‏ تأنيس، وتقريب للناس بما يفهمونه‏.‏ والله هو الغني الحميد‏.‏ شبه عطاء المؤمن ما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض، كما شبه إعطاء النفوس، والأموال في أخذ الجنة بالبيع، والشراء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حَسَنًا‏}‏ أي‏:‏ طيبة به نفسه من دون مَنِّ، ولا أذى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَيُضَاعِفَهُ‏}‏ قرأ عاصم، وغيره بالألف، ونصب الفاء‏.‏ وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي بإثبات الألف، ورفع الفاء، وقرأ ابن عامر، ويعقوب‏:‏ «فيضعفه» بإسقاط الألف مع تشديد العين، ونصب الفاء‏.‏ وقرأ ابن كثير، وأبو جعفر بالتشديد، ورفع الفاء‏.‏ فمن نصب، فعلى أن جواب الاستفهام، ومن رفع، فعلى تقدير مبتدأ، أي‏:‏ هو يضاعفه‏.‏ وقد اختلف في تقدير هذا التضعيف على أقوال‏.‏ وقيل‏:‏ لا يعلمه إلا الله وحده‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ‏}‏ هذا عام في كل شيء، فهو القابض الباسط، والقبض‏:‏ التقتير، والبسط‏:‏ التوسيع، وفيه وعيد بأن من بخل من البسط يوشك أن يبدل بالقبض، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ أي‏:‏ هو يجازيكم بما قدمتم عند الرجوع إليه، وإذا أنفقتم مما وسع به عليكم أحسن إليكم، وإن بخلتم عاقبكم‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، والحاكم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم‏}‏ قال‏:‏ كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون، وقالوا‏:‏ نأتي أرضاً ليس بها موت، حتى إذا كانوا بموضع كذا، وكذا قال لهم الله‏:‏ موتوا، فماتوا، فمر عليهم نبيّ من الأنبياء، فدعا ربه أن يحييهم حتى يعبدوه، فأحياهم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عنه‏:‏ أن القرية التي خرجوا منها داوردان‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم هذه القصة مطوّلة، عن أبي مالك، وفيها‏:‏ أنهم بضعة وثلاثون ألفاً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن عبد العزيز‏:‏ أن ديارهم هي أذَرُعات‏.‏ وأخرج أيضاً، عن أبي صالح قال‏:‏ كانوا تسعة آلاف‏.‏ وأخرج جماعة من محدثي المفسرين هذه القصة على أنحاء، ولا يأتي الاستكثار من طرقها بفائدة‏.‏ وقد ورد في الصحيحين، وغيرهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي، عن الفرار من الطاعون، وعن دخول الأرض التي هو بها من حديث عبد الرحمن بن عوف‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور، وابن سعد، والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في الشعب، عن ابن مسعود، قال‏:‏ «لما نزلت‏:‏ ‏{‏مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ قال أبو الدحداح الأنصاري‏:‏ يا رسول الله إن الله ليريد منا القرض‏؟‏ قال‏:‏ نعم يا أبا الدحداح، قال‏:‏ أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده، قال‏:‏ فإني قد أقرضت ربي حائطي، وله فيه ستمائة نخلة»‏.‏

وقد أخرج هذه القصة عبد الرزاق، وابن جرير من طريق زيد بن أسلم، زاد الطبراني، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب، وابن مردويه، عن أبي هريرة، وابن إسحاق، وابن المنذر، عن ابن عباس‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏أَضْعَافًا كَثِيرَةً‏}‏ قال‏:‏ هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو‏.‏ وأخرج أحمد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي عثمان النَّهْدي قال‏:‏ بلغني عن أبي هريرة، حديث أنه قال‏:‏ «إن الله ليكتب لعبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة» فحججت ذلك العام، ولم أكن أريد أن أحج إلا لألقاه في هذا الحديث، فلقيت أبا هريرة، فقلت له، فقال‏:‏ ليس هذا، قلت‏:‏ ولم يحفظ هذا الحديث الذي حدثك، إنما، قلت‏:‏ «إن الله ليعطي العبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة» ثم قال أبو هريرة‏:‏ أوليس تجدون هذا في كتاب الله‏؟‏ ‏{‏مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً‏}‏ فالكثيرة عند الله أكثر من ألفي ألف، وألفي ألف، والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة ‏"‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان في صحيحه، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عمر قال‏:‏ «لما نزلت ‏{‏مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 261‏]‏ إلى آخره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ رب زِدْ أمتي، ‏"‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً‏}‏ قال‏:‏ رب زد أمتي فنزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن سفيان، قال لما نزلت ‏{‏مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏ قال‏:‏ ربّ زد أمتي، فنزلت‏:‏ ‏{‏مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله‏}‏ قال‏:‏ ربّ زد أمتي، فنزلت‏:‏ ‏{‏مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم في سبيل الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 261‏]‏ قال‏:‏ رب زد أمتي، فنزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون‏}‏ وفي الباب أحاديث هذه أحسنها وستأتي عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ‏}‏ فابحثها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ‏}‏ قال‏:‏ يقبض الصدقة، ويبسط‏:‏ قال يخلف‏:‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ قال‏:‏ من التراب، وإلى التراب تعودون‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد في الآية قال‏:‏ علم الله أن فيمن يقاتل في سبيل الله من لا يجد قوّة، وفيمن لا يقاتل في سبيل الله من يجد غنى، فندب هؤلاء إلى القرض، فقال‏:‏ ‏{‏مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قرضاً حسناً‏}‏ قال‏:‏ يبسط عليك، وأنت ثقيل، عن الخروج لا تريده، ويقبض عن هذا، وهو يطيب نفساً بالخروج، ويخفّ له، فقوّه مما بيدك يكن لك الحظ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏246- 252‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏246‏)‏ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏247‏)‏ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏248‏)‏ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏249‏)‏ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏250‏)‏ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏251‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏252‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ‏}‏ الكلام فيه كالكلام في قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 243‏]‏ وقد قدمناه‏.‏ والملأ‏:‏ الأشراف من الناس، كأنهم ملئوا شرفاً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ سموا بذلك؛ لأنهم مَلِئون بما يحتاج إليه منهم، وهو‏:‏ اسم جمع كالقوم، والرهط‏.‏ ذكر الله سبحانه في التحريض على القتال قصة أخرى جرت في بني إسرائيل بعد القصة المتقدمة، وقوله‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِ موسى‏}‏ ‏"‏ من ‏"‏ ابتدائية، وعاملها مقدر، أي‏:‏ كائنين من بعد موسى، أي‏:‏ بعد وفاته‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لِنَبِىّ لَّهُمُ‏}‏ قيل‏:‏ هو شمويل بن يار ابن علقمة، ويعرف بابن العجوز، ويقال فيه‏:‏ شمعون، وهو‏:‏ من ولد يعقوب، وقيل‏:‏ من نسل هارون، وقيل‏:‏ هو يوشع بن نون، وهذا ضعيف جداً؛ لأن يوشع هو فتى موسى، ولم يوجد داود، إلا بعد ذلك بدهر طويل‏.‏ وقيل‏:‏ اسمه إسماعيل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ابعث لَنَا مَلِكًا‏}‏ أي‏:‏ أميراً نرجع إليه، ونعمل على رأيه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏نقاتل‏}‏ بالنون، والجزم على جواب الأمر، وبه قرأ الجمهور‏.‏ وقرأ الضحاك، وابن أبي عبلة بالياء، ورفع الفعل على أنه صفة للملك‏.‏ وقرئ بالنون، والرفع على أنه حال، أو كلام مستأنف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هَلْ عَسَيْتُمْ‏}‏ بالفتح للسين، وبالكسر لغتان، وبالثانية قرأ نافع، وبالأولى قرأ الباقون‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ وقراءة الكسر ضعيفة‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ ليس للكسر وجه‏.‏ انتهى‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ وجه الكسر قول العرب‏:‏ هو عَس بذلك، مثل حَرٍ وشَجٍ، وقد جاء فَعَل وفَعِل في نحو نَقَم ونَقِم، فكذلك عسيت وعسيت، وكذا قال مكي‏.‏ وقد قرأ بالكسر أيضاً الحسن وطلحة فلا وجه لتضعيف ذلك، وهو من أفعال المقاربة، أي‏:‏ هل قاربتم أن لا تقاتلوا، وإدخال حرف الاستفهام على فعل المقاربة لتقرير ما هو متوقع عنده، والإشعار بأنه كائن، وفصل بين عسى، وخبرها بالشرط للدلالة على الاعتناء به‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أن لا تقاتلوا في موضع نصب، أي‏:‏ هل عسيتم مقاتلة‏.‏ قال الأخفش‏:‏ «أن» في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا لَنَا أَلاَّ نقاتل‏}‏ زائدة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو محمول على المعنى، أي‏:‏ وما منعنا، كما تقول مالك ألا تصلي، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ وأي شيء لنا في أن لا نقاتل‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا أجودها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَقَدْ أُخْرِجْنَا‏}‏ تعليل، والجملة حالية، وإفراد الأولاد بالذكر؛ لأنهم الذين وقع عليهم السبي، أو لأنهم بمكان فوق مكان سائر القرابة ‏{‏فَلَمَّا كُتِبَ‏}‏ أي‏:‏ فرض، أخبر سبحانه أنهم تولوا لاضطراب نياتهم، وفتور عزائمهم‏.‏ واختلف في عدد القليل الذين استثناهم الله سبحانه، وهم الذين اكتفوا بالغَرْفةَ‏.‏

وقوله ‏{‏وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ‏}‏ شروع في تفصيل ما جرى بينهم وبين نبيهم من الأقوال والأفعال‏.‏ وطالوت‏:‏ اسم أعجمي، وكان سقاء، وقيل‏:‏ دباغاً، وقيل‏:‏ مكارياً، ولم يكن من سبط النبوة، وهم بنو لاوى، ولا من سبط الملك، وهم بنو يهوذا، فلذلك‏:‏ ‏{‏قَالُواْ أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا‏}‏ أي‏:‏ كيف ذلك‏؟‏ ولم يكن من بيت الملك، ولا هو ممن أوتي سعة من المال حتى نتبعه لشرفه، أو لماله‏.‏

وهذه الجملة أعني قوله‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَحَقُّ‏}‏ حالية وكذلك الجملة المعطوفة عليها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏اصطفاه عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ اختاره، واختيار الله هو الحجة القاطعة‏.‏ ثم بين لهم مع ذلك وجه الاصطفاء‏:‏ بأن الله زاده بسطة في العلم، الذي هو ملاك الإنسان، ورأس الفضائل، وأعظم وجوه الترجيح، وزاده بسطة في الجسم الذي يظهر به الأثر في الحروب، ونحوها، فكان قوياً في دينه، وبدنه، وذلك هو المعتبر، لا شرف النسب‏.‏ فإن فضائل النفس مقدّمة عليه ‏{‏والله يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء‏}‏ فالملك ملكه، والعبيد عبيده، فما لكم والاعتراض على شيء ليس هو لكم، ولا أمره إليكم‏.‏ وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن قوله‏:‏ ‏{‏والله يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء‏}‏ من قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ هو من قول نبيهم، وهو الظاهر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واسع‏}‏ أي‏:‏ واسع الفضل، يوسع على من يشاء من عباده ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بمن يستحق الملك، ويصلح له‏.‏

والتابوت، فعلوت من التوب، وهو الرجوع؛ لأنهم يرجعون إليه، أي‏:‏ علامة ملكه إتيان التابوت الذي أخذ منهم، أي‏:‏ رجوعه إليكم، وهو صندوق التوراة‏.‏ والسكينة فعيلة مأخوذة من السكون، والوقار، والطمأنينة أي‏:‏ فيه سبب سكون قلوبكم فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ الصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء، وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك، وتأنس به، وتتقوى‏.‏ وقد اختلف في السكينة على أقوال سيأتي بيان بعضها، وكذلك اختلف في البقية، فقيل‏:‏ هي عصا موسى، ورُضَاض الألواح، وقيل‏:‏ غير ذلك‏.‏ قيل‏:‏ والمراد بآل موسى، وهارون هما أنفسهما‏.‏ أي‏:‏ مما ترك هارون، وموسى، ولفظ «آل» مقحمة، لتفخيم شأنهما، وقيل المراد‏:‏ الأنبياء من بني يعقوب؛ لأنهما من ذرية يعقوب، فسائر قرابته ومن تناسل منه آل لهما‏.‏ وفصل معناه‏:‏ خرج بهم، فَصَلْتُ الشيء، فانفصل أي‏:‏ قطعته، فانقطع، وأصله مُتَعَدٍّ، يقال فصل نفسه، ثم استعمل استعمال اللازم كانفصل، وقيل‏:‏ إن فصل يستعمل لازماً، ومتعدياً، يقال‏:‏ فصل عن البلد فصولاً، وفصل نفسه فصلاً‏.‏ والابتلاء‏:‏ الاختبار‏.‏

والنهر‏:‏ قيل‏:‏ هو بين الأردن، وفلسطين، وقرأه الجمهور ‏{‏بنهر‏}‏ بفتح الهاء‏.‏ وقرأ حميد، ومجاهد، والأعرج بسكون الهاء‏.‏ والمراد بهذا الابتلاء‏:‏ اختبار طاعتهم، فمن أطاع في ذلك الماء أطاع فيما عداه، ومن عصى في هذا، وغلبته نفسه، فهو بالعصيان في سائر الشدائد أحرى، ورخص لهم في الغرفة؛ ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع، وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال، وفيه أن الغرفة تكف سورة العطش عند الصابرين على شظف العيش الدافعين أنفسهم عن الرفاهية‏.‏

فالمراد بقوله‏:‏ ‏{‏فَمَن شَرِبَ مِنْهُ‏}‏ أي‏:‏ كرع، ولم يقتصر على الغرفة، و«من» ابتدائية‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏فَلَيْسَ مِنّى‏}‏ أي‏:‏ ليس من أصحابي‏.‏ من قولهم‏:‏ فلان من فلان، كأنه بعضه لاختلاطهما، وطول صحبتهما، وهذا مَهْيَع في كلام العرب معروف، ومنه قول الشاعر‏:‏

إذا حَاولْتَ في أسَدٍ فجُوراً *** فَإني لستُ مِنْكَ وَلستَ منِّي

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ‏}‏ يقال طعمت الشيء أي‏:‏ ذقته، وأطعمته الماء أي‏:‏ أذقته، وفيه دليل على أن الماء يقال له طعام‏.‏ والاغتراف‏:‏ الأخذ من الشيء باليد، أو بآلة، والغرف مثل الاغتراف، والغَرفة المرة الواحدة‏.‏ وقد قرئ بفتح الغين، وضمها، فالفتح للمرة، والضم اسم للشيء المغترف، وقيل‏:‏ بالفتح الغَرفة بالكف الواحدة، وبالضم‏:‏ الغرفة بالكفين، وقيل‏:‏ هما لغتان بمعنى واحد، ومنه قول الشاعر‏:‏

لا يَدْلفون إلى ماء بآنية *** إلا اغْتِرافاً من الغُدران بالرَّاح

قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ سيأتي بيان عددهم، وقرئ «إلا قليل» ولا وجه له إلا ما قيل من أنه من هجر اللفظ إلى جانب المعنى أي‏:‏ لم يعطه إلا قليل، وهو تعسف‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاوَزَهُ‏}‏ أي‏:‏ جاوز النهر طالوت‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ مَعَهُ‏}‏ وهم القليل الذين أطاعوه، ولكنهم اختلفوا في قوّة اليقين، فبعضهم قال‏:‏ ‏{‏لاَ طَاقَةَ لَنَا‏}‏ و‏{‏قَالَ الذين يَظُنُّونَ‏}‏ أي‏:‏ يتيقنون ‏{‏أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله‏}‏ والفئة‏:‏ الجماعة، والقطعة منهم من فأوْتُ رأسه بالسيف أي‏:‏ قطعته‏.‏

وقوله ‏{‏بَرَزُواْ‏}‏ أي‏:‏ صاروا في البراز، وهو المتسع من الأرض‏.‏ وجالوت أمير العمالقة‏.‏ قالوا‏:‏ أي‏:‏ جميع من معه من المؤمنين، والإفراغ يفيد معنى الكثرة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا‏}‏ هذا عبارة، عن القوّة، وعدم الفشل، يقال‏:‏ ثبت قدم فلان على كذا إذا استقرّ له، ولم يزل عنه، وثبت قدمه في الحرب إذا كان الغلب له، والنصر معه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وانصرنا عَلَى القوم الكافرين‏}‏ هم جالوت، وجنوده‏.‏ ووضع الظاهر موضع المضمر؛ إظهاراً لما هو العلة الموجبة للنصر عليهم، وهي كفرهم، وذكر النصر بعد سؤال تثبيت الأقدام، لكون الثاني هو غاية الأوّل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ الله‏}‏ الهزم‏:‏ الكسر، ومنه سقاء مُنَهَزِم أي‏:‏ انثنى بعضه على بعض مع الجفاف، ومنه ما قيل في زمزم إنها هَزمَة جِبريل أي‏:‏ هزمها برجله، فخرج الماء، والهزم‏:‏ ما يكسر من يابس الحطب، وتقدير الكلام‏:‏ فأنزل الله عليهم النصر ‏{‏فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ الله‏}‏ أي‏:‏ بأمره وإرادته‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ‏}‏ هو‏:‏ داود بن إيشا بكسر الهمزة، ثم تحتية ساكنة بعدها معجمة‏.‏ ويقال داود بن زكريا بن بشوى من سبط يهوذا بن يعقوب جمع الله له بين النبوّة، والملك بعد أن كان راعياً، وكان أصغر إخوته، اختاره طالوت لمقاتلة جالوت، فقتله‏.‏

والمراد بالحكمة هنا‏:‏ النبوّة، وقيل‏:‏ هي تعليمه صنعة الدروع، ومنطق الطير، وقيل‏:‏ هي إعطاؤه السلسلة التي كانوا يتحاكمون إليها‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء‏}‏ قيل‏:‏ إن المضارع هنا موضوع موضع الماضي، وفاعل هذا الفعل هو الله تعالى، وقيل‏:‏ داود، وظاهر هذا التركيب أن الله سبحانه علمه مما قضت به مشيئته، وتعلقت به إرادته‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن من ذلك ما قدّمنا من تعليمه صنعة الدروع، وما بعده‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ‏}‏ قرأه الجماعة‏:‏ «ولولا دفع الله» وقرأ نافع‏:‏ «دفاع» وهما مصدران لدفع، كذا قال سيبويه‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ دافع، ودفع واحد مثل‏:‏ طرقت نعلي، وطارقته‏.‏ واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور، وأنكر قراءة ‏"‏ دفاع ‏"‏، قال‏:‏ لأن الله عزّ وجلّ لا يغالبه أحد، قال مكي‏:‏ يوهم أبو عبيدة أن هذا من باب المفاعلة، وليس به، وعلى القراءتين، فالمصدر مضاف إلى الفاعل‏:‏ أي‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس‏}‏ وبعضهم بدل من الناس، وهم الذين يباشرون أسباب الشرّ، والفساد ببعض آخر منهم، وهم الذين يكفونهم عن ذلك ويردّونهم عنه ‏{‏لَفَسَدَتِ الأرض‏}‏ لتغلب أهل الفساد عليها، وإحداثهم للشرور التي تهلك الحرث، والنسل، وتنكير ‏{‏فضل‏}‏ للتعظيم‏.‏ ‏{‏وآيات الله‏}‏ هي‏:‏ ما اشتملت عليه هذه القصة من الأمور المذكورة‏.‏ والمراد ‏{‏بالحق‏}‏ هنا‏:‏ الخبر الصحيح الذي لا ريب فيه عند أهل الكتاب، والمطلعين على أخبار العالم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين‏}‏ إخبار من الله سبحانه بأنه من جملة رسل الله سبحانه تقوية لقلبه، وتثبيتاً لجنانه، وتشييداً لأمره‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بَنِى إِسْرءيلَ‏}‏ قال هذا حين رفعت النبوّة، واستخرج أهل الإيمان، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم، وأبنائهم ‏{‏فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال‏}‏ وذلك حين أتاهم التابوت، قال‏:‏ وكان من إسرائيل سبطان‏:‏ سبط نبوّة، وسبط خلافة، فلا تكون الخلافة إلا في سبط الخلافة، ولا تكون النبوّة إلا في سبط النبوّة؛ فَقَالَ لَهُمُ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ وليس من أحد السبطين لا من سبط النبوّة، ولا من سبط الخلافة ‏{‏قَالَ إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ‏}‏ فأبوا أن يسلموا له الرياسة حتى قال لهم‏:‏ ‏{‏إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ من ربكم وبقية‏}‏ وكان موسى حين ألقى الألواح تكسرت، ورفع منها وجمع ما بقي، فجعله في التابوت، وكانت العمالقة قد سَبَتْ ذلك التابوت، والعمالقة فرقة من عاد كانوا بأريحاء، فجاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء، والأرض، وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت، فلما رأوا ذلك قالوا‏:‏ نعم‏.‏

فسلموا له، وملَّكُوه، وكانت الأنبياء إذا حضروا قتالاً قدّموا التابوت بين أيديهم، ويقولون‏:‏ إن آدم نزل بذلك التابوت، وبالركن، وبعصى موسى من الجنة‏.‏ وبلغني أن التابوت، وعصى موسى في بحيرة طبرية، وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة‏.‏ وقد ورد هذا المعنى مختصراً، ومطولاً عن جماعة من السلف، فلا يأتي التطويل بذكر ذلك بفائدة يعتدّ بها‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي، عن أبي مالك عن ابن عباس ‏{‏وَزَادَهُ بَسْطَةً‏}‏ يقول‏:‏ فضيلة ‏{‏فِي العلم والجسم‏}‏ يقول‏:‏ كان عظيماً جسيماً يفضل بني إسرئيل بعنقه‏.‏ وأخرج أيضاً عن وهب بن منبه ‏{‏وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم‏}‏ قال‏:‏ العلم بالحرب‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه‏:‏ أنه سئل‏:‏ أنبياً كان طالوت‏؟‏ قال‏:‏ لا، لم يأته وحي، وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عنه‏:‏ أنه سئل عن تابوت موسى ما سعته‏؟‏ قال‏:‏ نحو من ثلاثة أذرع في ذراعين‏.‏

وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ السكينة الرحمة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عنه قال‏:‏ السكينة الطمأنينة‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ السكينة‏:‏ دابة قدر الهرّ لها عينان لهما شعاع، وكان إذا التقى الجمعان أخرجت يديها، ونظرت إليهم، فيهزم الجيش من الرعب‏.‏ وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن عليّ قال‏:‏ السكينة‏:‏ ريح خجوج، ولها رأسان‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وأبو عبيد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه عن عليّ قال‏:‏ السكينة‏:‏ لها وجه كوجه الإنسان، ثم هي بعد ريح هفافة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال‏:‏ السكينة من الله كهيئة الريح، لها وجه كوجه الهِرّ، وجناحان، وذَنَب مثل ذَنب الهِرّ‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ قال‏:‏ طست من ذهب من الجنة كان يغسل بها قلوب الأنبياء ألقى الألواح فيها‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه قال‏:‏ هي روح من الله لا تتكلم، إذا اختلفوا في شيء تكلم، فأخبرهم ببيان ما يريدون‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال‏:‏ هي شيء تسكن إليه قلوبهم‏.‏ وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال ‏{‏فيه سكينة‏}‏، أي‏:‏ وقار‏.‏

وأقول‏:‏ هذه التفاسير المتناقضة لعلها وصلت إلى هؤلاء الأعلام من جهة اليهود أقماهم الله، فجاءوا بهذه الأمور لقصد التلاعب بالمسلمين رضي الله عنهم، والتشكيك عليهم، وانظر إلى جعلهم لها تارة حيواناً، وتارة جماداً، وتارة شيئاً لا يعقل، كقول مجاهد‏:‏ كهيئة الريح لها وجه كوجه الهرّ، وجناحان، وذنب مثل ذنب الهرّ‏.‏ وهكذا كل منقول عن بني إسرائيل يتناقض، ويشتمل على ما لا يعقل في الغالب، ولا يصح أن يكون مثل هذه التفاسير المتناقضة مروياً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا رأياً رآه قائله، فهم أجلّ قدراً من التفسير بالرأي، وبما لا مجال للاجتهاد فيه‏.‏

إذا تقرّر لك هذا عرفت أن الواجب الرجوع في مثل ذلك إلى معنى السكينة لغة، وهو معروف، ولا حاجة إلى ركوب هذه الأمور المتعسفة المتناقضة، فقد جعل الله عنها سعة، ولو ثبت لنا في السكينة تفسير، عن النبي صلى الله عليه وسلم لوجب علينا المصير إليه، والقول به، ولكنه لم يثبت من وجه صحيح بل ثبت أنها تنزلت على بعض الصحابة عند تلاوته للقرآن، كما في صحيح مسلم، عن البراء قال‏:‏ كان رجل يقرأ سورة الكهف، وعنده فرس مربوط، فتغشته سحابة، فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال‏:‏ ‏"‏ تلك السكينة نزلت للقرآن ‏"‏‏.‏ وليس في هذا إلا أن هذه التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم سكينة‏:‏ سحابة دارت على ذلك القاريء، فالله أعلم‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَبَقِيَّةٌ مّمَّا تَرَكَ ءَالُ موسى‏}‏ قال‏:‏ عصاه، ورُضاض الألواح‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي صالح قال‏:‏ كان في التابوت عصى موسى، وعصى هارون، وثياب موسى، وثياب هارون، ولوحان من التوراة، والمنّ وكلمة الفرج‏:‏ «لا إله إلا الله الحليم الكريم وسبحان الله ربّ السموات السبع، ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين»‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏تَحْمِلُهُ الملائكة‏}‏ قال‏:‏ أقبلت به الملائكة تحمله حتى وضعته في بيت طالوت، فأصبح في داره‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ قال‏:‏ علامة‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ‏}‏ يقول‏:‏ بالعطش، فلما انتهى إلى النهر، وهو نهر الأردن كرع فيه عامة الناس، فشربوا منه، فلم يزد من شرب منه إلا عطشاً، وأجزأ من اغترف غرفة بيده، وانقطع الظمأ عنه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ‏}‏ قال‏:‏ القليل ثلثمائة وبضعة عشر عدة أهل بدر‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبخاري، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن البراء قال‏:‏ كنا أصحاب محمد نتحدّث أن أصحاب بدر على عدّة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة‏.‏ وقد أخرج ابن جرير عن قتادة قال‏:‏ ذكر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر‏:‏

«أنتم بعدّة أصحاب طالوت يوم لقي جالوت» وأخرج ابن عساكر من طريق جويبر، عن الضحاك عن ابن عباس قال‏:‏ كانوا ثلاثمائة ألف وثلاثة الآف وثلاثمائة وثلاثة عشر، فشربوا منه كلهم إلا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً عدّة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فردّهم طالوت، ومضى ثلثمائة وثلاثة عشر‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ في قوله‏:‏ ‏{‏الذين يَظُنُّونَ‏}‏ قال‏:‏ الذين يستيقنون‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال‏:‏ كان طالوت أميراً على الجيش، فبعث أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته، فقال داود لطالوت‏:‏ ماذا لي، وأقتل جالوت‏؟‏ فقال‏:‏ لك ثلث ملكي، وأنكحك ابنتي، فأخذ مخلاة، فجعل فيها ثلاث مَرْوَات، ثم سمي إبراهيم، وإسحاق ويعقوب، ثم أدخل يده، فقال‏:‏ بسم الله إلهي، وإله آبائي إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، فخرج على إبراهيم، فجعله في مرحمته، فرمى بها جالوت، فخرق ثلاثة وثلاثين بيضة عن رأسه، وقتلت ما وراءه ثلاثين ألفاً‏.‏ وقد ذكر المفسرون أقاصيص كثيرة من هذا الجنس، والله أعلم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ‏}‏ قال‏:‏ يدفع الله بمن يصلي عمن لا يصلي، وبمن يحج عمن لا يحج، وبمن يزكي عمن لا يزكي‏.‏ وأخرج ابن عدي، وابن جرير بسند ضعيف عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء» ثم قرأ ابن عمر‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس‏}‏ الآية‏.‏ وفي إسناده يحيى بن سعيد العطار الحمصي، وهو ضعيف جداً‏.‏