فصل: تفسير الآية رقم (253)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآية رقم ‏[‏253‏]‏

‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ‏(‏253‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الرسل‏}‏ قيل‏:‏ هو إشارة إلى جميع الرسل، فتكون الألف واللام للاستغراق، وقيل‏:‏ هو إشارة إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة، وقيل‏:‏ إلى الأنبياء الذين بلغ علمهم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ والمراد بتفضيل بعضهم على بعض‏:‏ أن الله سبحانه جعل لبعضهم من مزايا الكمال فوق ما جعله للآخر، فكان الأكثر مزايا فاضلاً، والآخر مفضولاً‏.‏ وكما دلت هذه الآية على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض كذلك دلت الآية الأخرى، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 55‏]‏‏.‏ وقد استشكل جماعة من أهل العلم الجمع بين هذه الآية، وبين ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ‏:‏ «لا تفضلوني على الأنبياء» وفي لفظ آخر «لا تفضلوا بين الأنبياء» وفي لفظ «لا تخيروا بين الأنبياء» فقال قوم‏:‏ إن هذا القول منه صلى الله عليه وسلم كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل، وقيل‏:‏ إنه قال صلى الله عليه وسلم ذلك على سبيل التواضع كما قال‏:‏ «لا يقل أحدكم أنا خير من يونس بن متى» تواضعاً مع علمه أنه أفضل الأنبياء كما يدل عليه قوله‏:‏ «أنا سيد ولد آدم»؛ وقيل‏:‏ إنما نهى عن ذلك قطعاً للجدال، والخصام في الأنبياء، فيكون مخصوصاً بمثل ذلك لا إذا كان صدور ذلك مأموناً، وقيل‏:‏ إن النهي إنما هو من جهة النبوة فقط؛ لأنها خصلة واحدة لا تفاضل فيها، ولا نهي عن التفاضل بزيادة الخصوصيات، والكرامات‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد النهي عن التفضيل لمجرد الأهواء، والعصبية‏.‏ وفي جميع هذه الأقوال ضعف‏.‏ وعندي أنه لا تعارض بين القرآن، والسنة، فإن القرآن دلّ على أن الله فضل بعض أنبيائه على بعض، وذلك لا يستلزم أنه يجوز لنا أن نفضل بعضهم على بعض، فإن المزايا التي هي مناط التفضيل معلومة عند الله لا تخفى عليه منها خافية فيه، وليست بمعلومة عند البشر، فقد يجهل اتباع نبيّ من الأنبياء بعض مزاياه، وخصوصياته فضلاً عن مزايا غيره، والتفضيل لا يجوز إلا بعد العلم بجميع الأسباب التي يكون بها هذا فاضلاً، وهذا مفضولاً، لا قبل العلم ببعضها، أو بأكثرها، أو بأقلها، فإن ذلك تفضيل بالجهل، وإقدام على أمر لا يعلمه الفاعل له، وهو ممنوع منه، فلو فرضنا أنه لم يرد إلا القرآن في الإخبار لنا بأن الله فضل بعض أنبيائه على بعض لم يكن فيه دليل على أنه يجوز للبشر أن يفضلوا بين الأنبياء، فكيف وقد وردت السنة الصحيحة بالنهي عن ذلك‏؟‏ وإذا عرفت هذا علمت أنه لا تعارض بين القرآن، والسنة بوجه من الوجوه، فالقرآن فيه الإخبار من الله بأنه فضل بعض أنبيائه على بعض، والسنة فيها النهي لعباده أن يفضلوا بين أنبيائه، فمن تعرّض للجمع بينهما زاعماً أنهما متعارضان، فقد غلط غلطاً بيناً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله‏}‏ وهو موسى، ونبينا سلام الله عليهما‏.‏ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في آدم‏:‏ «إنه نبيّ مكلم» وقد ثبت ما يفيد ذلك في صحيح ابن حبان من حديث أبي ذر‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات‏}‏ هذا البعض يحتمل أن يراد به من عظمت منزلته عند الله سبحانه من الأنبياء، ويحتمل أن يراد به نبينا صلى الله عليه وسلم لكثرة مزاياه المقتضية لتفضيله، ويحتمل أن يراد به إدريس؛ لأن الله سبحانه أخبرنا بأنه رفعه مكاناً علياً، وقيل‏:‏ إنهم أولوا العزم، وقيل‏:‏ إبراهيم، ولا يخفاك أن الله سبحانه أبهم هذا البعض المرفوع، فلا يجوز لنا التعرّض للبيان له إلا ببرهان من الله سبحانه، أو من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، ولم يرد ما يرشد إلى ذلك، فالتعرّض لبيانه هو من تفسير القرآن الكريم بمحض الرأي، وقد عرفت ما فيه من الوعيد الشديد مع كون ذلك ذريعة إلى التفضيل بين الأنبياء، وقد نهينا عنه، وقد جزم كثير من أئمة التفسير أنه نبينا، وأطالوا في ذلك، واستدلوا بما خصه الله به من المعجزات، ومزايا الكمال، وخصال الفضل، وهم بهذا الجزم بدليل لا يدل على المطلوب، قد وقعوا في خطرين، وارتكبوا نهيين، وهما‏:‏ تفسير القرآن بالرأي، والدخول في ذرائع التفضيل بين الأنبياء، وإن لم يكن ذلك تفضيلاً صريحاً، فهو ذريعة إليه بلا شك، ولا شبهة؛ لأن من جزم بأن هذا البعض المرفوع درجات هو النبيّ الفلاني، انتقل من ذلك إلى التفضيل المنهيّ عنه، وقد أغني الله نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم عن ذلك بما لا يحتاج معه إلى غيره من الفضائل، والفواضل، فإياك أن تتقرّب إليه صلى الله عليه وسلم بالدخول في أبواب نهاك عن دخولها، فتعصيه، وتسيء، وأنت تظن أنك مطيع محسن‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وآتينا عيسى ابن مريم البينات‏}‏ أي‏:‏ الآيات الباهرة، والمعجزات الظاهرة من إحياء الأموات، وإبراء المرضى، وغير ذلك‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وأيدناه بِرُوحِ القدس‏}‏ هو‏:‏ جبريل، وقد تقدّم الكلام على هذا‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم‏}‏ أي‏:‏ من بعد الرسل، وقيل‏:‏ من بعد موسى، وعيسى، ومحمد؛ لأن الثاني مذكور صريحاً، والأول، والثالث وقعت الإشارة إليهما بقوله‏:‏ ‏{‏مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله‏}‏ أي‏:‏ لو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا، فمفعول المشيئة محذوف على القاعدة ‏{‏ولكن اختلفوا‏}‏ استثناء من الجملة الشرطية، أي‏:‏ ولكن الاقتتال ناشيء عن اختلافهم اختلافاً عظيماً حتى صاروا مللاً مختلفة ‏{‏مِنْهُمْ مّنْ آمن وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء الله‏}‏ عدم اقتتالهم بعد هذا الاختلاف ‏{‏مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ لا رادّ لحكمه، ولا مبدّل لقضائه، فهو يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ‏}‏ قال‏:‏ اتخذ الله إبراهيم خليلاً، وكلم موسى تكليماً، وجعل عيسى كمثل آدم ‏{‏خلقه من تراب، ثم قال له كن، فيكون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏ وهو عبد الله، وكلمته وروحه، وآتى داود زبوراً، وآتى سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وغفر لمحمد ما تقدم من ذنبه، وما تأخر‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله‏}‏ قال‏:‏ كلم الله موسى، وأرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن عامر الشعبي في قوله‏:‏ ‏{‏وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات‏}‏ قال‏:‏ محمداً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة ‏{‏وَلَوْ شَاء الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم‏}‏ يقول‏:‏ من بعد موسى، وعيسى‏.‏ وأخرج ابن عساكر، عن ابن عباس قال‏:‏ كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية إذ أقبل عليّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية‏:‏ ‏"‏ أتحب علياً‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ نعم قال ‏"‏ إنها ستكون بينكم فتنة هنيهة، ‏"‏ قال معاوية‏:‏ فما بعد ذلك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ عفو الله ورضوانه، ‏"‏ قال‏:‏ رضينا بقضاء الله، فعند ذلك نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء الله مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏» قال السيوطي‏:‏ وسنده واهٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏254‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏254‏)‏‏}‏

ظاهر الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏أَنفَقُواْ‏}‏ الوجوب، وقد حمله جماعة على صدقة الفرض لذلك، ولما في آخر الآية من الوعيد الشديد، وقيل‏:‏ إن هذه الآية تجمع زكاة الفرض، والتطوّع‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا صحيح، ولكن ما تقدّم من الآيات في ذكر القتال، وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله‏.‏ قال القرطبي‏:‏ وعلى هذا التأويل يكون إنفاق المال مرة واجباً، ومرة ندباً بحسب تعين الجهاد، وعدم تعينه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ أنفقوا ما دمتم قادرين ‏{‏مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ‏}‏ ما لا يمكنكم الإنفاق فيه، وهو‏:‏ ‏{‏يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ لا يتبايع الناس فيه‏.‏ والخلة‏:‏ خالص الموّدة مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين‏.‏ أخبر سبحانه أنه لا خلة في يوم القيامة نافعة، ولا شفاعة مؤثرة إلا لمن أذن الله له‏.‏ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، بنصب لا بيع ولا خلة، ولا شفاعة، من غير تنوين‏.‏ وقرأ الباقون برفعها منوّنة، وهما لغتان مشهورتان للعرب، ووجهان معروفان عند النحاة، فمن الأوّل قول حسان بن ثابت‏:‏

ألا طِعانَ ألا فُرسانَ عَادِية *** ألا تجسُّؤكم حول التَّنَانير

ومن الثاني قول الراعي‏:‏

وما صَرَمْتِكِ حَتَّى قُلْتَ مُعْلِنَةً *** لا ناقة لِيَ في هَذَا وَلاَ جَمَلُ

ويجوز في غير القرآن التغاير برفع البعض، ونصب البعض، كما هو مقرر في علم الإعراب‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏والكافرون هُمُ الظالمون‏}‏ فيه دليل على أن كل كافر ظالم لنفسه، ومن جملة من يدخل تحت هذا العموم مانع الزكاة منعاً يوجب كفره لوقوع ذلك في سياق الأمر بالإنفاق‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن جريج في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم‏}‏ قال‏:‏ من الزكاة، والتطوّع‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن سفيان قال‏:‏ يقال‏:‏ نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن، ونسخ شهر رمضان كل صوم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال‏:‏ قد علم الله أن ناساً يتخاللون في الدنيا، ويشفع بعضهم لبعض، فأما يوم القيامة، فلا خلة إلا خلة المتقين‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن عطاء قال‏:‏ الحمد لله الذي قال‏:‏ ‏{‏والكافرون هُمُ الظالمون‏}‏ ولم يقل‏:‏ والظالمون هم الكافرون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏255‏]‏

‏{‏اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ‏(‏255‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ أي‏:‏ لا معبود بحق إلا هو، وهذه الجملة خبر المبتدأ‏.‏ و‏{‏الحيّ‏}‏‏:‏ الباقي‏.‏ وقيل‏:‏ الذي لا يزول، ولا يحول‏.‏ وقيل‏:‏ المصرّف للأمور، والمقدّر للأشياء‏.‏ قال الطبري عن قوم إنه يقال‏:‏ حيّ كما وصف نفسه، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه، وهو خبر ثان، أو مبتدأ خبره محذوف‏.‏ و‏{‏القيوم‏}‏‏:‏ القائم على كل نفس بما كسبت‏.‏ وقيل‏:‏ القائم بذاته المقيم لغيره، وقيل‏:‏ القائم بتدبير الخلق، وحفظه، وقيل‏:‏ هو الذي لا ينام، وقيل‏:‏ الذي لا بديل له‏.‏ وأصل قيوم‏:‏ قيووم اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وعلقمة، والنخعي، والأعمش‏:‏ «الحيّ القيام» بالألف، وروي ذلك عن عمر، ولا خلاف بين أهل اللغة أن القيوم أعرف عند العرب، وأصح بناء، وأثبت علة‏.‏

والسنة‏:‏ النعاس في قول الجمهور، والنعاس‏:‏ ما يتقدّم النوم من الفتور، وانطباق العينين، فإذا صار في القلب صار نوماً‏.‏ وفرق المفصّل بين السِّنَة، والنعاس، والنوم فقال‏:‏ السنة من الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب‏.‏ انتهى‏.‏ والذي ينبغي التعويل عليه في الفرق بين السنة والنوم، أن السِّنة لا يفقد معها العقل، بخلاف النوم، فإنه استرخاء أعضاء الدماغ من رطوبات الأبخرة حتى يفقد معه العقل، بل وجميع الإدراكات بسائر المشاعر، والمراد‏:‏ أنه لا يعتريه سبحانه شيء منهما، وقدّم السنة على النوم، لكونها تتقدّمه في الوجود‏.‏ قال الرازي في تفسيره‏:‏ إن السنة ما تتقدّم النوم، فإذا كانت عبارة عن مقدّمة النوم، فإذا قيل‏:‏ لا تأخذه سنة دلّ على أنه لا يأخذه نوم بطريق الأولى، فكان ذكر النوم تكراراً، قلنا‏:‏ تقدير الآية لا تأخذه سنة فضلاً عن أن يأخذه نوم، والله أعلم بمراده‏.‏ انتهى‏.‏ وأقول‏:‏ إن هذه الأولوية التي ذكرها غير مسلمة، فإن النوم قد يرد ابتداء من دون ما ذكر من النعاس‏.‏ وإذا ورد على القلب، والعين دفعة واحدة، فإنه يقال له نوم، ولا يقال له سنة، فلا يستلزم نفي السنة نفي النوم‏.‏ وقد ورد عن العرب نفيهما جميعاً، ومنه قول زهير‏:‏

وَلاَ سِنَةٌ طوالُ الدّهْرِ تَأخَذه *** وَلا يَنَامُ وَمَا في أمْرِه فَنَدُ

فلم يكتف بنفي السنة، وأيضاً، فإن الإنسان يقدر على أن يدفع عن نفسه السنة، ولا يقدر على أن يدفع عن نفسه النوم، فقد يأخذه النوم، ولا تأخذه السنة، فلو وقع الاقتصار في النظم القرآني على نفي السنة لم يفد ذلك نفي النوم، وهكذا لو وقع الاقتصار على نفي النوم لم يفد نفي السنة، فكم من ذي سِنة غير نائم‏.‏ وكرّر حرف النفي للتنصيص على شمول النفي لكل واحد منهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ في هذا الاستفهام من الإنكار على من يزعم أن أحداً من عباده يقدر على أن ينفع أحداً منهم بشفاعة، أو غيرها، والتقريع، والتوبيخ له ما لا مزيد عليه، وفيه من الدفع في صدور عباد القبور، والصدّ في وجوههم، والفت في أعضادهم ما لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه، والذي يستفاد منه فوق ما يستفاد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 28‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 28‏]‏ بدرجات كثيرة‏.‏ وقد بينت الأحاديث الصحيحة الثابتة في دواوين الإسلام صفة الشفاعة، ولمن هي، ومن يقوم بها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ الضميران لما في السموات، والأرض بتغليب العقلاء على غيرهم، وما بين أيديهم، وما خلفهم عبارة، عن المتقدّم عليهم، والمتأخر عنهم، أو عن الدنيا، والآخرة، وما فيهما‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ‏}‏ قد تقدّم معنى الإحاطة، والعلم هنا بمعنى‏:‏ المعلوم أي‏:‏ لا يحيطون بشيء من معلوماته‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَسِعَ كُرْسِيُّهُ‏}‏ الكرسي الظاهر أنه الجسم الذي وردت الآثار بصفته كما سيأتي بيان ذلك‏.‏ وقد نفي وجوده جماعة من المعتزلة، وأخطئوا في ذلك خطأ بيناً، وغلطوا غلطاً فاحشاً‏.‏ وقال بعض السلف‏:‏ إن الكرسي هنا عبارة عن العلم‏.‏ قالوا‏:‏ ومنه قيل للعلماء‏:‏ الكراسي، ومنه الكراسة التي يجمع فيها العلم، ومنه قول الشاعر‏:‏

تَحُفُّ بِهْم بِيضُ الوُجُوه وعُصْبَةٌ *** كَراسيَّ بالأخْبَارِ حِينَ تَنُوبُ

ورجح هذا القول ابن جرير الطبري‏.‏ وقيل‏:‏ كرسيه‏:‏ قدرته التي يمسك بها السموات والأرض، كما يقال اجعل لهذا الحائط كرسياً، أي ما يعمده، وقيل‏:‏ إن الكرسي هو العرش‏.‏ وقيل‏:‏ هو تصوير لعظمته، ولا حقيقة له‏.‏ وقيل‏:‏ هو عبارة عن الملك‏.‏ والحق القول الأوّل، ولا وجه للعدول عن المعنى الحقيقي إلا مجرد خيالات تسببت، عن جهالات وضلالات، والمراد بكونه وسع السموات والأرض‏:‏ أنها صارت فيه، وأنه وسعها، ولم يضق عنها لكونه بسيطاً واسعاً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا‏}‏ معناه‏:‏ لا يثقله ثقال أدنى الشيء، بمعنى أثقلني، وتحملت منه مشقة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏يَؤُودُهُ‏}‏ لله سبحانه، ويجوز أن يكون للكرسي؛ لأنه من أمر الله و‏{‏العليّ‏}‏ يراد به علوّ القدرة، والمنزلة‏.‏ وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا‏:‏ هو العليّ عن خلقه بارتفاع مكانه، عن أماكن خلقه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذه أقوال جهلة مجسِّمين، وكان الواجب أن لا تحكى‏.‏ انتهى‏.‏

والخلاف في إثبات الجهة معروف في السلف، والخلف، والنزاع فيه كائن بينهم، والأدلة من الكتاب، والسنة معروفة، ولكن الناشيء على مذهب يرى غيره خارجاً عن الشرع، ولا ينظر في أدلته، ولا يلتفت إليها، والكتاب، والسنة هما المعيار الذي يعرف به الحق من الباطل، ويتبين به الصحيح من الفاسد

‏{‏وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السموات والأرض‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 71‏]‏ ولا شك أن هذا اللفظ يطلق على الظاهر الغالب كما في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرض‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏ وقال الشاعر‏:‏

فَلَمَّا عَلَوْنَا واسْتَوْيَنا عليهم *** تَركْنَاهُمُ صَرْعى لِنْسرٍ وَكَاسرٍ

والعظيم بمعنى‏:‏ عظم شأنه، وخطره‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ إن الجملة الأولى‏:‏ بيان لقيامه بتدبير الخلق، وكونه مهيمناً عليه غير ساهٍ عنه، والثانية‏:‏ بيان لكونه مالكاً لما يدبره‏.‏ والجملة الثالثة‏:‏ بيان لكبرياء شأنه‏.‏ والجملة الرابعة‏:‏ بيان لإحاطته بأحوال الخلق، وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة، وغير المرتضى‏.‏ والجملة الخامسة‏:‏ بيان لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها، أو لجلاله، وعظم قدره‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم في قوله‏:‏ ‏{‏الحى‏}‏ أي‏:‏ حيّ لا يموت و‏{‏القيوم‏}‏ القائم الذي لا بديل له‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏القيوم‏}‏ قال‏:‏ القائم على كل شيء‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال‏:‏ القيوم الذي لا زوال له‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ‏}‏ قال‏:‏ السنة‏:‏ النعاس، والنوم هو‏:‏ النوم‏.‏ وأخرجوا إلا البيهقي عن السدّي قال‏:‏ السنة ريح النوم الذي تأخذه في الوجه، فينعس الإنسان‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ قال‏:‏ ما مضى من الدنيا‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ من الآخرة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ما قدّموا من أعمالهم ‏{‏وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ ما أضاعوا من أعمالهم‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَسِعَ كُرْسِيُّهُ‏}‏ قال‏:‏ علمه، ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا‏}‏‏.‏ وأخرج الدارقطني في الصفات، والخطيب في تاريخه عنه قال‏:‏ «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله‏:‏ ‏{‏وَسِعَ كُرْسِيُّهُ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏ كرسيه موضع قدمه، ‏"‏ والعرش لا يقدّر قدره إلا الله عزّ وجلّ»‏.‏ وأخرجه الحاكم وصححه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، والبيهقي عن أبي موسى الأشعري مثله موقوفاً‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس؛ قال‏:‏ لو أن السموات السبع، والأرضين السبع بسطن، ثم وصلن بعضهنّ إلى بعض ما كنّ في سعته- يعني الكرسي-إلا بمنزلة الحلقة في المفازة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي ذرّ الغفاري؛ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الكرسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ والذي نفسي بيده ما السموات السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة ‏"‏

وأخرج عبد بن حميد، والبزار، وأبو يعلى، وابن جرير، وأبو الشيخ، والطبراني، والضياء المقدسي في المختارة عن عمر؛ قال‏:‏ «أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت‏:‏ ادع الله أن يدخلني الجنة، فعظم الربّ سبحانه وقال‏:‏ ‏"‏ إن كرسيه وسع السموات والأرض، وإن له أطيطاً كأطيط المرحل الحديد من ثقله ‏"‏ وفي إسناده عبد الله بن خليفة، وليس بالمشهور‏.‏ وفي سماعه من عمر نظر، ومنهم من يرويه، عن عمر موقوفاً‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن أبي هريرة مرفوعاً‏:‏ أنه موضع القدمين‏.‏ وفي إسناده الحكم بن ظهير الفزاري الكوفي وهو متروك‏.‏ وقد ورد عن جماعة من السلف من الصحابة، وغيرهم، في وصف الكرسي آثار لا حاجة في بسطها‏.‏ وقد روى أبو داود في كتاب السنة من سننه من حديث جبير بن مطعم حديثاً في صفته، وكذلك أورد ابن مردويه عن بريدة، وجابر، وغيرهما‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا‏}‏ قال‏:‏ لا يثقل عليه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَؤُودُهُ‏}‏ قال‏:‏ ولا يكثره‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه قال‏:‏ العظيم الذي قد كمل في عظمته‏.‏

واعلم أنه قد ورد في فضل هذه الآية أحاديث‏.‏ فأخرج أحمد، ومسلم، واللفظ له عن أبيّ بن كعب‏:‏ «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سأله ‏"‏ أيّ آية من كتاب الله أعظم‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ آية الكرسي، قال‏:‏ ‏"‏ ليهنك العلم أبا المنذر ‏"‏ وأخرج النسائي، وأبو يعلى، وابن حبان، وأبو الشيخ في العظمة، والطبراني، والحاكم وصححه، عن أبيّ بن كعب‏:‏ أنه كان له جُرْن فيه تمر، فكان يتعاهده، فوجده ينقص، فحرسه ذات ليلة، فإذا هو بدابة شبه الغلام المحتلم، قال‏:‏ فسلمت فردّ السلام، فقلت‏:‏ ما أنت، جنيّ أم إنسي‏؟‏ قال‏:‏ جنيّ، قلت‏:‏ ناولني يدك، فناولني، فإذا يده يد كلب، وشعره شعر كلب، فقلت‏:‏ هكذا خلق الجنّ‏؟‏ قال‏:‏ لقد علمت الجنّ أن ما فيهم من هو أشدّ مني، قلت‏:‏ ما حملك على ما صنعت‏؟‏ قال‏:‏ بلغني أنك رجل تحبّ الصدقة، فأحببنا أن نصيب من طعامك، فقال له أبيّ‏:‏ فما الذي يجيرنا منكم‏؟‏ قال‏:‏ هذه الآية، آية الكرسي التي في سورة البقرة «من قالها حين يمسي أجير منا حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح أجير منا حتى يمسي، فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال‏:‏ ‏"‏ صدق الخبيث ‏"‏

وأخرج البخاري في تاريخه، والطبراني، وأبو نعيم في المعرفة بسند رجاله ثقات عن ابن الأسقع البكري‏:‏ «أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم في صُفَّة المهاجرين، فسأله إنسان أيّ آية في القرآن أعظم‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏"‏ ‏{‏الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ‏}‏ ‏"‏ حتى انقضت الآية»‏.‏ وأخرج أحمد من حديث أبي ذرّ مرفوعاً نحوه‏.‏ وأخرج الخطيب البغدادي في تاريخه، عن أنس مرفوعاً نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج الدارمي، عن أيفع بن عبد الله الكلاعي نحوه‏.‏ وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال‏:‏ «وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو، وذكر قصة، وفي آخرها أنه قال له‏:‏ دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت‏:‏ ما هي‏؟‏ قال‏:‏ إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فأخبر أبو هريرة بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏ أما إنه صدقك، وهو كذوب، تعلم من تخاطب يا أبا هريرة‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ ‏"‏ ذلك شيطان كذا ‏"‏ وأخرج نحو ذلك أحمد عن أبي أيوب‏.‏ وأخرج الطبراني، والحاكم، وأبو نعيم، والبيهقي عن معاذ بن جبل مرفوعاً نحوه‏.‏

وأخرج ابن مردويه، عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أعظم آية في كتاب الله ‏{‏الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم ‏"‏ وأخرج نحوه أحمد، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن أبي ذرّ مرفوعاً‏.‏ وأخرج نحوه أيضاً أحمد، والطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعاً‏.‏ وأخرج سعيد ابن منصور، والحاكم، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه، آية الكرسي ‏"‏ قال الحاكم‏:‏ صحيح الإسناد، ولم يخرجاه‏.‏ وأخرج الحاكم من حديث زائدة مرفوعاً ‏"‏ لكل شيء سنام، وسنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن، آية الكرسي ‏"‏، وقال‏:‏ غريب لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير‏.‏ وقد تكلم فيه شعبة، وضعفه، وكذا ضعفه أحمد، ويحيى بن معين، وغير واحد، وتركه ابن مهدي، وكذبه السعدي‏.‏ وأخرج أبو داود، والترمذي وصححه من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هاتين الآيتين ‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏ و‏{‏الما الله لا إله إلاهو‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 1، 2‏]‏ إن فيهما اسم الله الأعظم‏.‏ وقد وردت أحاديث في فضلها غير هذه، وورد أيضاً في فضل قراءتها دبر الصلوات، وفي غير ذلك، وورد أيضاً في فضلها مع مشاركة غيرها أحاديث، وورد عن السلف في ذلك شيء كثير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏256- 257‏]‏

‏{‏لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏256‏)‏ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏257‏)‏‏}‏

قد اختلف أهل العلم في قوله‏:‏ ‏{‏لا إِكْرَاهَ فِى الدين‏}‏ على أقوال‏:‏ الأوّل أنها منسوخة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام، وقاتلهم، ولم يرض منهم إلا بالإسلام، والناسخ لها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ا ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 73، التحريم‏:‏ 9‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 123‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 16‏]‏، وقد ذهب إلى هذا كثير من المفسرين‏.‏ القول الثاني‏:‏ أنها ليست بمنسوخة، وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، وأنهم لا يُكْرَهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية، بل الذين يُكْرَهون هم أهل الأوثان، فلا يقبل منهم إلا الإسلام، أو السيف، وإلى هذا ذهب الشعبي، والحسن، وقتادة، والضحاك‏.‏ القول الثالث أن هذه الآية في الأنصار خاصة، وسيأتي بيان ما ورد في ذلك‏.‏ القول الرابع‏:‏ أن معناها‏:‏ لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف إنه مكره، فلا إكراه في الدين‏.‏ القول الخامس‏:‏ أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا على الإسلام‏.‏ وقال ابن كثير في تفسيره‏:‏ أي‏:‏ لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بيِّن واضح جليُّ دلائله، وبراهينه لا تحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام، وشرح صدره، ونوّر بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه، وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً، وهذا يصلح أن يكون قولاً سادساً‏.‏ وقال في الكشاف في تفسيره هذه الآية‏:‏ أي‏:‏ لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار، والقسر، ولكن على التمكين، والاختيار، ونحوه قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 99‏]‏ أي‏:‏ لو شاء لقسرهم على الإيمان، ولكن لم يفعل، وبني الأمر على الاختيار، وهذا يصلح أن يكون قولاً سابعاً‏.‏

والذي ينبغي اعتماده، ويتعين الوقوف عنده‏:‏ أنها في السبب الذي نزلت لأجله محكمة غير منسوخة، وهو أن المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده، فلما أجليت يهود بني نضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا‏:‏ لا ندع أبناءنا، فنزلت، أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وابن مردويه، والبيهقي في السنن، والضياء في المختارة عن ابن عباس‏.‏ وقد وردت هذه القصة من وجوه، حاصلها ما ذكره ابن عباس مع زيادات تتضمن أن الأنصار‏:‏ قالوا إنما جعلناهم على دينهم أي‏:‏ دين اليهود، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا، وأن الله جاء بالإسلام، فلنكرههم؛ فلما نزلت خيرّ الأبناءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكرههم على الإسلام، وهذا يقتضي أن أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام إذا اختاروا البقاء على دينهم، وأدّوا الجزية‏.‏

وأما أهل الحرب، فالآية وإن كانت تعمهم؛ لأن النكرة في سياق النفي، وتعريف الدين يفيدان ذلك، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لكن قد خص هذا العموم بما ورد من آيات في إكراه أهل الحرب من الكفار على الإسلام‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي‏}‏ الرشد هنا‏:‏ الإيمان، والغيّ‏:‏ الكفر أي‏:‏ قد تميز أحدهما من الآخر‏.‏ وهذا استئناف يتضمن التعليل لما قبله‏.‏ والطاغوت‏:‏ فعلوت من طغى يطغي، ويطغو‏:‏ إذا جاوز الحدّ‏.‏ قال سيبويه‏:‏ هو اسم مذكر مفرد أي‏:‏ اسم جنس يشمل القليل، والكثير، وقال أبو علي الفارسي‏:‏ إنه مصدر كرهبوت، وجبروت يوصف به الواحد، والجمع، وقلبت لامه إلى موضع العين، وعينه إلى موضع اللام كجبذ، وجذب، ثم تقلب الواو ألفاً لتحركها، وتحرك ما قبلها، فقيل‏:‏ طاغوت، واختار هذا القول النحاس، وقيل‏:‏ أصل الطاغوت في اللغة مأخوذ من الطغيان يؤدي معناه من غير اشتقاق، كما قيل‏:‏ لآلئ من اللؤلؤ‏.‏ وقال المبرد‏:‏ هو جمع‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وذلك مردود‏.‏ قال الجوهري‏:‏ والطاغوت‏:‏ الكاهن، والشيطان، وكل رأس في الضلال، وقد يكون واحداً‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 60‏]‏ وقد يكون جمعاً‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت‏}‏ والجمع الطواغيت أي‏:‏ فمن يكفر بالشيطان، أو الأصنام، أو أهل الكهانة، ورءوس الضلالة، أو بالجميع ‏{‏وَيُؤْمِن بالله‏}‏ عزّ وجلّ بعد ما تميز له الرشد من الغيّ، فقد فاز، وتمسك بالحبل الوثيق أي‏:‏ المحكم‏.‏ والوثقى‏:‏ فعلى من الوثاقة، وجمعها وُثَق مثل الفضلى، والفُضَل‏.‏ وقد اختلف المفسرون في تفسير العروة الوثقى بعد اتفاقهم على أن ذلك من باب التشبيه، والتمثيل لما هو معلوم بالدليل بما هو مدرك بالحاسة، فقيل‏:‏ المراد بالعروة الإيمان‏.‏ وقيل‏:‏ الإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ لا إله إلا الله، ولا مانع من الحمل على الجميع‏.‏ والانفصام‏:‏ الانكسار من غير بينونة‏.‏ قال الجوهري‏:‏ فصم الشيء‏:‏ كسره من غير أن يبين‏.‏ وأما القصم بالقاف، فهو الكسر مع البينونة، وفسر صاحب الكشاف الانفصام بالانقطاع‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏الله وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ‏}‏ الوليّ‏:‏ فعيل بمعنى فاعل، وهو الناصر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يُخْرِجُهُم‏}‏ تفسير للولاية، أو حال من الضمير في وليّ، وهذا يدل على أن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ الذين أرادوا الإيمان؛ لأن من قد وقع منه الإيمان قد خرج من الظلمات إلى النور إلا أن يراد بالإخراج إخراجهم من الشبه التي تعرض للإيمان، فلا يحتاج إلى تقدير الإرادة، والمراد بالنور في قوله‏:‏ ‏{‏يُخْرِجُونَهُم مّنَ النور إِلَى الظلمات‏}‏ ما جاء به أنبياء الله من الدعوة إلى الدين، فإن ذلك نور للكفار أخرجهم أولياؤهم عنه إلى ظلمة الكفر، أي‏:‏ قررهم أولياؤهم على ما هم عليه من الكفر بسبب صرفهم عن إجابة الداعي إلى الله من الأنبياء‏.‏

وقيل‏:‏ المراد‏:‏ بالذين كفروا هنا‏:‏ الذين ثبت في علمه تعالى كفرهم يخرجهم أولياؤهم من الشياطين، ورؤوس الضلال من النور الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها إلى ظلمات الكفر التي وقعوا فيها بسبب ذلك الإخراج‏.‏

وقد أخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي، عن سعيد بن جبير نحو ما تقدّم، عن ابن عباس من ذكر سبب نزول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا إِكْرَاهَ فِى الدين‏}‏ وزاد‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم خيَّر الأبناء‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن الشعبي نحوه أيضاً، وقال‏:‏ فلحق بهم أي‏:‏ ببني النضير من لم يسلم، وبقي من أسلم‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال‏:‏ كان ناس من الأنصار مسترضعين في بني قريظة، فثبتوا على دينهم، فلما جاء الإسلام أراد أهلوهم أن يكرهوهم على الإسلام، فنزلت‏.‏ وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه‏.‏

وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لا إِكْرَاهَ فِى الدين‏}‏ قال‏:‏ نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلاً مسلماً، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا أستكرههما، فإنهما قد أبيا إلا النصرانية‏؟‏ فنزلت‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن عبد الله بن عبيدة نحوه‏.‏ وكذلك أخرج أبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، عن السديّ نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير عن قتادة قال‏:‏ كانت العرب ليس لها دين، فأكرهوا على الدين بالسيف‏.‏ قال‏:‏ ولا تكرهوا اليهود، ولا النصارى، والمجوس إذا أعطوا الجزية‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن نحوه‏.‏ وأخرج البخاري عن أسلم‏:‏ سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية‏:‏ أسلمي تسلمي، فأبت، فقال‏:‏ اللهم اشهد، ثم تلا‏:‏ ‏{‏لا إِكْرَاهَ فِى الدين‏}‏ وروى عنه سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم أنه قال لزنبق الرومي غلامه‏:‏ لو أسلمت استعنت بك على أمانة المسلمين فأبى، فقال‏:‏ ‏{‏لا إِكْرَاهَ فِى الدين‏}‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سليمان بن موسى في قوله‏:‏ ‏{‏لا إِكْرَاهَ فِى الدين‏}‏ قال‏:‏ نسختها ‏{‏جاهد الكفار والمنافقين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 73‏]‏‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ الطاغوت‏:‏ الشيطان‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال‏:‏ الطاغوت الكاهن، وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال‏:‏ الطاغوت‏:‏ الساحر‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك بن أنس قال‏:‏ الطاغوت ما يعبد من دون الله‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ العروة الوثقى لا إله إلا الله‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم عن أنس بن مالك‏:‏ أنها القرآن‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد‏:‏ أنها الإيمان، وعن سفيان‏:‏ أنها كلمة الإخلاص‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين تفسير العروة الوثقى في غير هذه الآية بالإسلام مرفوعاً في تعبيره صلى الله عليه وسلم لرؤيا عبد الله بن سلام‏.‏ وأخرج ابن عساكر عن أبي الدرداء قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، فإنهما حبل الله الممدود، فمن تمسك بهما، فقد تمسك بعروة الله الوثقى التي لا انفصام لها» وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس قال‏:‏ إذا وحد الله وآمن بالقدر فهي العروة الوثقى‏.‏

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن معاذ أنه سئل عن قوله‏:‏ ‏{‏لاَ انفصام لَهَا‏}‏ قال‏:‏ لا انقطاع لها دون دخول الجنة‏.‏ وأخرج ابن المنذر، والطبراني عن ابن عباس في قوله ‏{‏الله وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ‏}‏ الآية، قال‏:‏ هم قوم كانوا كفروا بعيسى فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت‏}‏ الآية، قال‏:‏ هم قوم آمنوا بعيسى، فلما بعث محمد كفروا به‏.‏ وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال‏:‏ الظلمات الكفر‏.‏ والنور‏:‏ الإيمان‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن السدي مثله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏258‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏258‏)‏‏}‏

في هذه الآية استشهاد على ما تقدم ذكره، من أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت، وهمزة الاستفهام لإنكار النفي، والتقرير المنفي، أي‏:‏ ألم ينته علمك، أو نظرك إلى هذا الذي صدرت منه هذه المحاجة‏؟‏ قال الفراء‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ بمعنى هل رأيت‏:‏ أي‏:‏ هل رأيت الذي حاجّ إبراهيم، وهو النمروذ بن كوس بن كنعان بن سلم بن نوح، وقيل‏:‏ إنه النمروذ بن فالخ بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَنْ آتاه الله الملك‏}‏ أي‏:‏ لأن آتاه الله، أو من أجل أن آتاه الله، على معنى‏:‏ أن إيتاء الملك أبطره، وأورثه الكبر، والعتو، فحاج لذلك، أو على أنه وضع المحاجة التي هي أقبح وجوه الكفر موضع ما يجب عليه من الشكر، كما يقال‏:‏ عاديتني؛ لأني أحسنت إليك، أو وقت أن آتاه الله الملك‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ إبراهيم‏}‏ هو ظرف لحاج‏.‏ وقيل‏:‏ بدل من قوله‏:‏ ‏{‏أَنْ آتاه الله الملك‏}‏ على الوجه الأخير، وهو بعيد‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏رَبّى * الذى يُحْيىِ وَيُمِيتُ‏}‏ بفتح ياء ربي، وقرئ بحذفها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَنَاْ أحيى‏}‏ قرأ جمهور القراء ‏{‏أنا أحيى‏}‏ بطرح الألف التي بعد النون من أنا في الوصل، وأثبتها نافع، وابن أبي أويس، كما في قول الشاعر‏:‏

أنَا شَيْخُ العَشيرة فَاعْرِفُوني *** حُمْيداً قد تَذَرَّبْتُ السَّنامَا

أراد إبراهيم عليه السلام‏:‏ أن الله هو‏:‏ الذي يخلق الحياة، والموت في الأجساد، وأراد الكافر‏:‏ أنه يقدر أن يعفو عن القتل، فيكون ذلك إحياء، وعلى أن يقتل، فيكون ذلك إماتة، فكان هذا جواباً أحمق لا يصح نصبه في مقابلة حجة إبراهيم؛ لأنه أراد غير ما أراده الكفار، فلو قال له‏:‏ ربه الذي يخلق الحياة، والموت في الأجساد، فهل تقدر على ذلك‏؟‏ لبهت الذي كفر باديء بدء، وفي أوّل، وهلة، ولكنه انتقل معه إلى حجة أخرى تنفيساً لخناقه، وإرسالاً لعنان المناظرة فقال‏:‏ ‏{‏إبراهيم فَإِنَّ الله يَأْتِى بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب‏}‏ لكون هذه الحجة لا تجري فيها المغالطة، ولا يتيسر للكافر أن يخرج عنها بمخرج مكابرة، ومشاغبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَبُهِتَ الذى كَفَرَ‏}‏ بُهِتَ الرجل، وبَهُتَ، وبَهِتَ‏:‏ إذا انقطع، وسكت متحيراً‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ وحكى عن بعض العرب في هذا المعنى بهت بفتح الباء، والهاء‏.‏ قال ابن جني‏:‏ قرأ أبو حيوة، ‏"‏ فَبَهُتَ ‏"‏ بفتح الباء، وضم الهاء، وهي لغة في بهت بكسر الهاء؛ قال‏:‏ وقرأ ابن السميفع، ‏"‏ فبهت ‏"‏ بفتح الباء، والهاء على معنى، فبهت إبراهيم الذي كفر، فالذي في موضع نصب، قال‏:‏ وقد يجوز أن يكون بهت بفتحهما لغة في بهت‏.‏ وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة‏:‏ «فبهت» بكسر الهاء، قال‏:‏ والأكثر بالفتح في الهاء‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ وقد تأوّل قومٌ في قراءة من قرأ، «فبهت» بفتحهما أنه بمعنى سبَّ، وقذف، وأن النمروذ، هو الذي سبّ حين انقطع، ولم يكن له حيلة‏.‏ انتهى‏.‏ وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏فَبُهِتَ الذى كَفَرَ‏}‏ ولم يقل، فبهت الذي حاجّ، إشعاراً بأن تلك المحاجة كفر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ تذييل مقرر لمضمون الجملة التي قبله‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن علي بن أبي طالب أن الذي حاجّ إبراهيم في ربه هو‏:‏ نمروذ بن كنعان‏.‏ وأخرجه ابن جرير، عن مجاهد، وقتادة، والربيع، والسديّ‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عن زيد بن أسلم‏:‏ أن أول جبار كان في الأرض نمروذ، وكان الناس يخرجون يمتارون من عنده الطعام، فخرج إبراهيم عليه السلام يمتار مع من يمتار، فإذا مرَّ به ناس قال‏:‏ من ربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ أنت، حتى مرّ به إبراهيم، فقال‏:‏ من ربك‏؟‏ قال‏:‏ الذي يحيي ويميت، قال‏:‏ أن أحيي وأميت، قال‏:‏ فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر، فردّه بغير طعام‏.‏ فرجع إبراهيم إلى أهله، فمرّ على كثيب من رمل أصفر فقال‏:‏ ألا آخذ من هذا فآتي به أهلي، فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم، فأخذ منه فأتى أهله، فوضع متاعه، ثم نام، فقامت امرأته إلى متاعه، ففتحته فإذا هي بأجود طعام رآه آخذ، فصنعت له منه، فقرّبته إليه، وكان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام، فقال‏:‏ من أين هذا‏؟‏ قالت‏:‏ من الطعام الذي جئت به، فعرف أن الله رزقه، فحمد الله، ثم بعث الله إلى الجبار ملكاً أن آمن وأتركك على ملكك‏.‏ قال‏:‏ فهل ربّ غيري‏؟‏ فجاءه الثانية، فقال له ذلك فأبى عليه، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه، فقال له الملك‏:‏ فاجمع جموعك إلى ثلاثة أيام، فجمع الجبار جموعه، فأمر الله الملَك، ففتح عليه باباً من البعوض، وطلعت الشمس، فلم يروها من كثرتها، فبعثها الله عليهم، فأكلت شحومهم، وشربت دماءهم، فلم يبق إلا العظام، والملك كما هو لا يصيبه من ذلك شيء، فبعث الله عليه بعوضة، فدخلت في منخره، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه، ثم ضرب بهما رأسه، وكان جباراً أربعمائة سنة، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه، ثم أماته الله، وهو الذي كان بنى صرحاً إلى السماء، ‏{‏فأتى الله بنيانه من القواعد‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس في الآية، قال‏:‏ هو نمروذ بن كنعان، يزعمون أنه أوّل من ملك في الأرض أتى برجلين قتل أحدهما، وترك الآخر، فقال‏:‏ ‏{‏أنا أحيي وأميت‏}‏‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن السدي‏:‏ ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ قال‏:‏ إلى الإيمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏259‏]‏

‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏259‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ كالذى‏}‏ ‏"‏ أو ‏"‏ للعطف حملاً على المعنى، والتقدير‏:‏ هل رأيت كالذي حاجّ، أو كالذي مرّ على قرية‏؟‏ قاله الكسائي، والفراء‏.‏ وقال المبرد‏:‏ إن المعنى‏:‏ ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه‏؟‏ ألم تر من هو كالذي مرّ على قرية، فحذف قوله من هو‏.‏ وقد اختار جماعة أن الكاف زائدة، واختار آخرون أنها إسمية‏.‏ والمشهور أن القرية هي بيت المقدس بعد تخريب بختنصر لها، وقيل‏:‏ المراد بالقرية‏:‏ أهلها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا‏}‏ أي‏:‏ ساقطة على عروشها، أي‏:‏ سقط السقف، ثم سقطت الحيطان عليه، قاله السُّدِّيُ، واختاره ابن جرير، وقيل‏:‏ معناه خالية من الناس، والبيوت قائمة، وأصل الخواء الخلوّ، يقال خوت الدار وخويت تخوى خواء- ممدود- وخوياً، وخويا‏:‏ أقفرت، والخواء أيضاً‏:‏ الجوع لخلوّ البطن عن الغذاء، والظاهر القول الأوّل بدلالة قوله‏:‏ ‏{‏على عُرُوشِهَا‏}‏ من خوى البيت إذا سقط، أو من خوت الأرض إذا تهدمت، وهذه الجملة حالية‏:‏ أي‏:‏ من حال كونها كذلك‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أنّى يُحْيِي هذه الله‏}‏ أي‏:‏ متى يحيي، أو كيف يحيي، وهو استبعاد لإحيائها، وهي على تلك الحالة المشابهة لحالة الأموات المباينة لحالة الأحياء، وتقديم المفعول لكون الاستبعاد ناشئاً من جهته لا من جهة الفاعل‏.‏ فلما قال المارُّ هذه المقالة مستبعداً لإحياء القرية المذكورة بالعمارة لها، والسكون فيها ضرب الله له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه ‏{‏فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ‏}‏ وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال‏:‏ كان هذا القول شكاً في قدرة الله على الإحياء، فلذلك ضرب له المثل في نفسه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ليس يدخل شكّ في قدرة الله سبحانه على إحياء قرية بجلب العمارة إليها، وإنما يتصور الشك إذا كان سؤاله، عن إحياء موتاها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مِاْئَةَ عَامٍ‏}‏ منصوب على الظرفية‏.‏ والعام‏:‏ السنة أصله مصدر كالعوم سمي به هذا القدر من الزمان‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بَعَثَهُ‏}‏ معناه‏:‏ أحياه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ كَمْ لَبِثْتَ‏}‏ هو استئناف كأنّ سائلاً سأله ماذا قال له بعد بعثه‏؟‏ واختلف في فاعل قال؛ فقيل‏:‏ هو الله عزّ وجل، وقيل‏:‏ ناداه بذلك ملك من السماء، قيل‏:‏ هو جبريل، وقيل‏:‏ غيره، وقيل‏:‏ إنه نبيّ من الأنبياء‏.‏ قيل‏:‏ رجل من المؤمنين من قومه شاهده عند أنْ أماته الله، وعمر إلى عند بعثه‏.‏ والأول أولى لقوله فيما بعد ‏{‏وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنشِزُهَا‏}‏ وقرأ ابن عامر، وأهل الكوفة إلا عاصماً ‏{‏كَمْ لبثت‏}‏ بإدغام الثاء في التاء لتقاربهما في المخرج‏.‏ وقرأ غيرهم بالإظهار، وهو أحسن لبعد مخرج الثاء من مخرج التاء‏.‏ و«كم» في موضع نصب على الظرفية، وإنما قال‏:‏ ‏{‏يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏ بناء على ما عنده، وفي ظنه، فلا يكون كاذباً، ومثله قول أصحاب الكهف

‏{‏قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 19‏]‏ ومثله قوله صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين ‏"‏ لم تَقُصر ولم أنس ‏"‏ وهذا ما يؤيد قول من قال‏:‏ إن الصدق ما طابق الاعتقاد، والكذب ما خالفه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ‏}‏ هو‏:‏ استئناف أيضاً كما سلف‏:‏ أي‏:‏ ما لبثت يوماً، أو بعض يوم بل لبثت مائة عام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ أمره سبحانه أن ينظر إلى هذا الأثر العظيم من آثار القدرة، وهو عدم تغير طعامه، وشرابه مع طول تلك المدّة‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ «وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه» وقرأ طلحة ابن مصرِّف «وانظر لطعامك وشرابك لمائة سنة»‏.‏ وروى عن طلحة أيضاً أنه قرأ‏:‏ «لم يسَّن» بإدغام التاء في السين، وحذف الهاء‏.‏ وقرأه الجمهور بإثبات الهاء في الوصل، والتسنه مأخوذ من السنة أي‏:‏ لم تغيره السنون، وأصلها سنهة، أو سنوة من سنهت النخلة، وتسنهت‏:‏ إذا أتت عليها السنون، ونخلة سنا أي‏:‏ تحمل سنة، ولا تحمل أخرى، وأسنهت عند بني فلان‏:‏ أقمت عندهم، وأصله يتسنا سقطت الألف للجزم، والهاء للسكت‏.‏ وقيل‏:‏ هو من أسن الماء‏:‏ إذا تغيَّر، وكان يجب على هذا أن يقال يتأسن من قوله‏:‏ ‏{‏حَمَإٍ مَّسْنُونٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 26، 33‏]‏ قاله أبو عمرو الشيباني‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ليس كذلك؛ لأن قوله ‏{‏مَّسْنُونٍ‏}‏ ليس معناه متغير، وإنما معناه مصبوب على سنَّه الأرض‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وانظر إلى حِمَارِكَ‏}‏ اختلف المفسرون في معناه، فذهب الأكثر إلى أن معناه‏:‏ انظر إليه كيف تفرّقت أجزاؤه، ونخرت عظامه، ثم أحياه الله، وعاد كما كان‏.‏ وقال الضحاك، ووهب بن منبه‏:‏ انظر إلى حمارك قائماً في مربطه لم يصبه شيء بعد أن مضت عليه مائة عام، ويؤيد القول الأول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وانظر إِلَى العظام كَيْفَ ننشزها‏}‏ ويؤيد القول الثاني مناسبته لقوله‏:‏ ‏{‏فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ وإنما ذكر سبحانه عدم تغير طعامه، وشرابه، بعد إخباره أنه لبث مائة عام، مع أن عدم تغير ذلك الطعام، والشراب لا يصلح أن يكون دليلاً على تلك المدة الطويلة، بل على ما قاله من لبثه يوماً، أو بعض يوم لزيادة استعظام ذلك الذي أماته الله تلك المدة، فإنه إذا رأى طعامه، وشرابه لم يتغير مع كونه قد ظنّ أنه لم يلبث إلا يوماً، أو بعض يوم زادت الحيرة، وقويت عليه الشبهة، فإذا نظر إلى حماره عظاماً نخرة تقرّر لديه أن ذلك صنع من تأتي قدرته بما لا تحيط به العقول، فإن الطعام، والشراب سريع التغير‏.‏ وقد بقي هذه المدّة الطويلة غير متغير، والحمار يعيش المدة الطويلة‏.‏

وقد صار كذلك ‏{‏فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 14‏]‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً لِلنَّاسِ‏}‏ قال الفراء‏:‏ إنه أدخل الواو في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِنَجْعَلَكَ‏}‏ دلالةً على أنها شرط لفعل بعدها؛ معناه‏:‏ ولنجعلك آية للناس، ودلالة على البعث بعد الموت جعلنا ذلك‏.‏ وإن شئت جعلت الواو مقحمة زائدة‏.‏ قال الأعمش‏:‏ موضع كونه آية هو أنه جاء شباباً على حاله يوم مات، فوجد الأبناء، والحفدة شيوخاً‏.‏

قوله‏:‏ وانظر إلى العظام كيف ننشزها» قرأ الكوفيون، وابن عامر بالزاي، والباقون بالراء‏.‏ وروى أبان عن عاصم‏:‏ «نَنْشُرها» بفتح النون الأولى، وسكون الثانية، وضم الشين، والراء‏.‏ وقد أخرج الحاكم وصححه، عن زيد بن ثابت؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قرأ‏:‏ «كيف ننشزها» بالزاي‏.‏ فمعنى القراءة بالزاي نرفعها، ومنه النشر‏:‏ وهو المرتفع من الأرض‏:‏ أي‏:‏ يرفع بعضها إلى بعض‏.‏ وأما معنى القراءة بالراء المهملة، فواضحة من أنشر الله الموتى أي‏:‏ أحياهم، وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا‏}‏ أي‏:‏ نسترها به كما نستر الجسد باللباس، فاستعار اللباس لذلك، كما استعاره النابغة للإسلام، فقال‏:‏

فَالْحَمْدُ للهِ إِذ لَمْ يَأتِنِي أَجَلي *** حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإِسْلاَمِ سِرْبَالاَ

قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ‏}‏ أي‏:‏ ما تقدّم ذكره من الآيات التي أراه الله سبحانه، وأمره بالنظر إليها، والتفكر فيها‏:‏ ‏{‏قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ‏}‏ لا يستعصي عليه شيءٌ من الأشياء‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ المعنى في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ‏}‏ أي‏:‏ لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل عيانه‏.‏ ‏{‏قَالَ أَعْلَمُ‏}‏ وقال أبو علي الفارسي معناه‏:‏ أعلم أن هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ ‏"‏ قَالَ أَعْلَمُ ‏"‏ على لفظ الأمر خطاباً لنفسه على طريق التجريد‏.‏

وقد أخرج عبد بن حيمد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن عليّ في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ كالذى مَرَّ على قَرْيَةٍ‏}‏ قال‏:‏ خرج عزير نبيّ الله من مدينته، وهو شاب، فمرّ على قرية خَرِبة، وهي خاوية على عروشها، فقال‏:‏ ‏{‏أنى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه‏}‏ فأوّل ما خلق الله عيناه، فجعل ينظر إلى عظامه ينضم بعضها إلى بعض، ثم كسيت لحماً، ثم نفخ فيه الروح، فقيل له‏:‏ ‏{‏كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ‏}‏ فأتى مدينته‏.‏ وقد ترك جاراً له إسكافاً شاباً، فجاء، وهو شيخ كبير‏.‏

وقد روي عن جماعة من السلف أن الذي أماته الله عزير، منهم ابن عباس عند ابن جرير، وابن عساكر، ومنهم عبد الله بن سلام عند الخطيب، وابن عساكر، ومنهم عكرمة، وقتادة، وسليمان، وبريدة، والضحاك، والسديّ عند ابن جرير، وورود عن جماعة آخرين أن الذي أماته الله هو نبيّ اسمه أرمياء، فمنهم عبد الله بن عبيد بن عمير، عند عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، ومنهم‏:‏ وهب بن منبه، عند عبد الرزاق، وابن جرير، وأبي الشيخ‏.‏

وأخرج ابن إسحاق عنه أيضاً أنه الخضر‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن رجل من أهل الشام أنه حزقيل‏.‏ وروى ابن كثير، عن مجاهد أنه رجل من بني إسرائيل‏.‏ والمشهور القول الأوّل،

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏خَاوِيَةٍ‏}‏ قال‏:‏ خراب‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة قال‏:‏ ‏{‏خَاوِيَةٍ‏}‏ ليس فيها أحد‏.‏ وأخرج أيضاً عن الضحاك قال‏:‏ ‏{‏على عُرُوشِهَا‏}‏ سقوفها‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن السديّ قال‏:‏ ساقطة على سقوفها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال‏:‏ ‏{‏لَبِثْتُ يَوْمًا‏}‏ ثم التفت فرأى الشمس، فقال‏:‏ ‏{‏أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏‏.‏ وأخرج عنه أيضاً قال‏:‏ كان طعامه الذي معه سلة من تين، وشرابه زقّ من عصير‏.‏ وأخرج أيضاً عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج أبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ قال‏:‏ لم يتغير‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير قال‏:‏ ‏{‏لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ لم ينتن‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً لِلنَّاسِ‏}‏ مثل ما تقدّم عن الأعمش، وكذلك أخرج مثله أيضاً عن عكرمة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏كَيْفَ نُنشِزُهَا‏}‏ قال‏:‏ نخرجها‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن زيد بن ثابت قال‏:‏ نحييها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏260‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏260‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏"‏ وَإِذْ ‏"‏ ظرف منصوب بفعل محذوف، أي‏:‏ اذكر وقت قول إبراهيم، وإنما كان الأمر بالذكر موجهاً إلى الوقت دون ما وقع فيه مع كونه المقصود لقصد المبالغة؛ لأن طلب وقت الشيء يستلزم طلبه بالأولى، وهكذا يقال في سائر المواضع الواردة في الكتاب العزيز بمثل هذا الظرف‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏رَبّ‏}‏ آثره على غيره لما فيه من الاستعطاف الموجب لقبول ما يرد بعده من الدعاء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَرِنِى‏}‏ قال الأخفش‏:‏ لم يرد رؤية القلب، وإنما أراد رؤية العين، وكذا قال غيره، ولا يصح أن يراد الرؤية القلبية هنا؛ لأن مقصود إبراهيم أن يشاهد الإحياء لتحصل له الطمأنينة، والهمزة الداخلة على الفعل لقصد تعديته إلى المفعول الثاني، وهو الجملة‏:‏ أعني قوله‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تُحْىِ الموتى‏}‏ وكيف‏:‏ في محل نصب على التشبيه بالظرف، أو بالحال، والعامل فيها الفعل الذي بعدها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تُؤْمِن‏}‏ عطف على مقدر أي‏:‏ ألم تعلم، ولم تؤمن بأني قادر على الإحياء حتى تسألني إراءته‏؟‏ ‏{‏قَالَ بلى‏}‏ علمت، وآمنت بأنك قادر على ذلك، ولكن سألت ليطمئن قلبي باجتماع دليل العيان إلى دلائل الإيمان‏.‏

وقد ذهب الجمهور إلى أن إبراهيم لم يكن شاكاً في إحياء الموتى قط، وإنما طلب المعاينة لما جُبلت عليه النفوس البشرية من رؤية ما أخبرت عنه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ليس الخبر كالمعاينة ‏"‏ وحكى ابن جرير، عن طائفة من أهل العلم أنه سأل ذلك؛ لأنه شك في قدرة الله‏.‏ واستدلوا بما صح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين، وغيرهما من قوله‏:‏ ‏"‏ نحن أحق بالشك من إبراهيم ‏"‏ وبما روى عن ابن عباس أنه قال‏:‏ «ما في القرآن عندي آية أرجى منها»‏.‏ أخرجه عنه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، ورجح هذا ابن جرير بعد حكايته له‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهو عندي مردود، يعني‏:‏ قول هذه الطائفة، ثم قال‏:‏ وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ نحن أحق بالشك من إبراهيم ‏"‏ فمعناه‏:‏ أنه لو كان شاكاً لكنا نحن أحق به، ونحن لا نشك، فإبراهيم أحرى أن لا يشك‏.‏ فالحديث مبني على نفي الشكّ عن إبراهيم‏.‏ وأما قول ابن عباس‏:‏ هي أرجى آية، فمن حيث أن فيها الإدلال على الله، وسؤال الإحياء في الدنيا، وليست مظنة ذلك‏.‏ ويجوز أن نقول هي أرجى آية لقوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تُؤْمِن‏}‏ أي‏:‏ أن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير، وبحث، قال‏:‏ فالشك يبعد على من ثبت قدمه في الإيمان فقط، فكيف بمرتبة النبوة، والخلة‏؟‏ والأنبياء معصومون من الكبائر، ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً، وإذا تأملت سؤاله عليه السلام، وسائر الألفاظ للآية لم تعط شكاً، وذلك أن الاستفهام ب ‏{‏كيف‏}‏ إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل، والمسئول نحو قولك‏:‏ كيف علم زيد‏؟‏ وكيف نسج الثوب‏؟‏ ونحو هذا، ومتى قلت‏:‏ كيف ثوبك‏؟‏ وكيف زيد‏؟‏ فإنما السؤال عن حال من أحواله‏.‏

وقد تكون ‏{‏كيف‏}‏ خبراً، عن شيء شأنه أن يستفهم، عنه بكيف نحو قولك‏:‏ كيف شئت فكن، ونحو قول البخاري‏:‏ كيف كان بدء الوحي‏؟‏ وهي في هذه الآية استفهام، عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرّر، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبرون، عن إنكاره بالاستفهام، عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح، مثال ذلك أن يقول مدُعَّ‏:‏ أنا أرفع هذا الجبل، فيقول المكذب له‏:‏ أرني كيف ترفعه‏.‏ فهذه طريقة مجاز في العبارة، ومعناها تسليم جدل، كأنه يقول‏:‏ افرض أنك ترفعه‏.‏ فلما كان في عبارة الخليل هذا الاشتراك المجازي خلص الله له ذلك، وحمله على أن بين له الحقيقة، فقال له‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى‏}‏ فكمل الأمر، وتخلص من كل شيء، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة‏.‏

قال القرطبي‏:‏ هذا ما ذكره ابن عطية، وهو بالغ، ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك، فإنه كفر، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث‏.‏ وقد أخبر الله سبحانه أن أنبياءه، وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل‏:‏ فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 65‏]‏‏.‏ وقال اللعين‏:‏ ‏{‏إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 40‏]‏ وإذا لم يكن له عليهم سلطنة، فكيف يشككهم، وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها، واتصال الأعصاب، والجلود بعد تمزيقها، فأراد أن يرقى من علم اليقين إلى عين اليقين، فقوله‏:‏ ‏{‏أَرِنِى كَيْفَ‏}‏ طلب مشاهدة الكيفية‏.‏ قال الماوردي‏:‏ وليست الألف في قوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تُؤْمِن‏}‏ ألف الاستفهام، وإنما هي ألف إيجاب، وتقرير، كما قال جرير‏:‏

ألَستُم خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا *** وَأنْدَى العَالَمين بُطونَ رَاحِ

والواو واو الحال، و‏{‏تؤمن‏}‏‏:‏ معناه إيماناً مطلقاً دخل فيه فضل إحياء الموتى، والطمأنينة‏:‏ اعتدال، وسكون‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ معنى‏:‏ ‏{‏لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى‏}‏ ليوقن‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطير‏}‏ الفاء جواب شرط محذوف أي‏:‏ إن أردت ذلك فخذ، والطير‏:‏ اسم جمع لطائر كركب لراكب، أو جمع، أو مصدر، وخص الطير بذلك، قيل‏:‏ لأنه أقرب أنواع الحيوان إلى الإنسان، وقيل‏:‏ إن الطير همته الطيران في السماء، والخليل كانت همته العلوّ، وقيل‏:‏ غير ذلك من الأسباب الموجبة لتخصيص الطير‏.‏ وكل هذه لا تسمن، ولا تغني من جوع، وليس إلا خواطر أفهام، وبوادر أذهان لا ينبغي أن تجعل وجوها لكلام الله، وعللاً لما يرد في كلامه، وهكذا قيل‏:‏ ما وجه تخصيص هذا العدد، فإن الطمأنينة تحصل بإحياء واحد‏؟‏ فقيل إن الخليل إنما سأل واحداً على عدد العبودية، فأعطى أربعاً على قدر الربوبية، وقيل‏:‏ إن الطيور الأربعة إشارة إلى الأركان الأربعة التي منها تتركب أركان الحيوان، ونحو ذلك من الهذيان‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ قرئ بضم الصاد، وكسرها أي‏:‏ اضممهنّ إليك، وأملْهُنّ، واجمعهن، يقال‏:‏ رجل أصور‏:‏ إذا كان مائل العنق، ويقال‏:‏ صار الشيء يصوره‏:‏ أماله‏.‏ قال الشاعر‏:‏

اللهُ يَعْلَمُ أَنَّا في تَلَفِتُّنا *** يَوْمَ الفِرَاقِ إلى جِيَرانِنا صُورُ

وقيل‏:‏ معناه قطعهنّ‏.‏ يقال صار الشيء يصوره، أي‏:‏ قطعه، ومنه قول توبة بن الحميِّر‏:‏

فَأَدْنَتَ لي الأَسْبَابَ حَتَّى بَلَغْتُها *** بِنَهْضِى وَقَد كَادَ اجْتِماعِي يَصُورُهَا

أي‏:‏ يقطعها، وعلى هذا يكون قوله‏:‏ ‏{‏إِلَيْكَ‏}‏ متعلقاً بقوله‏:‏ ‏{‏خُذ‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اجعل على كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا‏}‏ فيه الأمر بالتجزئة؛ لأن جعل كل جزء على جبل تستلزم تقدّم التجزئة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى، ثم اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءاً، والجزء‏:‏ النصيب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَأْتِينَكَ‏}‏ في محل جزم على أنه جواب الأمر، ولكنه بُنِي لأجل نون الجمع المؤنث‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏سَعْيًا‏}‏ المراد به‏:‏ الإسراع في الطيران، أو المشي‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة، عن ابن عباس قال‏:‏ إن إبراهيم مرّ برجل ميت زعموا أنه حبشي على ساحل البحر، فرأى دواب البحر تخرج، فتأكل منه، وسباع الأرض تأتيه، فتأكل منه، والطير يقع عليه، فيأكل منه، فقال إبراهيم عند ذلك‏:‏ ربّ، هذه دواب البحر تأكل من هذا، وسباع الأرض، والطير، ثم تميت هذه فتبلى، ثم تحييها، فأرني كيف تحيي الموتى‏؟‏ ‏{‏قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن‏}‏ يا إبراهيم أني أحيي الموتى‏؟‏ ‏{‏قَالَ بلى‏}‏ يا ربّ ‏{‏ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى‏}‏ يقول‏:‏ لأرى من آياتك، وأعلم أنك قد أجبتني، فقال الله‏:‏ خذ أربعاً من الطير، واصنع ما صنع، والطير الذي أخذ‏:‏ وز، ورأل، وديك، وطاوس، وأخذ نصفين مختلفين‏:‏ ثم أتى أربعة أجْبُل، فجعل على كل جبل نصفين مختلفين، وهو قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اجعل على كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءاً‏}‏ ثم تنحى ورءوسها تحت قدميه، فدعا باسم الله الأعظم، فرجع كل نصف إلى نصفه، وكل ريش إلى طائره، ثم أقبلت تطير بغير رءوس إلى قدميه تريد رءوسها بأعناقها، فرفع قدميه، فوضع كل طائر منها عنقه في رأسه، فعادت كما كانت‏.‏ وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة نحوه‏.‏ وأخرج أيضاً، عبد بن حميد، وابن المنذر، عن الحسن، نحوه‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج أنها كانت جيفة حمار‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى‏}‏ يقول‏:‏ أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطير‏}‏ قال‏:‏ الغرنوق، والطاوس، والديك، والحمامة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، قال الأربعة من الطير‏:‏ الديك، والطاوس، والغراب، والحمام وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏قصرهنّ‏}‏ قال‏:‏ قطعهنّ‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه قال‏:‏ هي بالنبطية‏:‏ شققهن‏.‏ وأخرجا عنه أنه قال‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ‏}‏ أوثقهنّ، وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ وضعهن على سبعة أجبل، وأخذ الرءوس بيده، فجعل ينظر إلى القطرة تلقي القطرة، والريشة تلقي الريشة حتى صرن أحياء ليس لهن رءوس، فجئن إلى رءوسهن، فدخلن فيها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏261- 265‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏261‏)‏ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏262‏)‏ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ‏(‏263‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏264‏)‏ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏265‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ حَبَّةٍ‏}‏ لا يصح جعل هذا خبراً عن قوله‏:‏ ‏{‏مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ‏}‏ لاختلافهما، فلا بد من تقدير محذوف إما في الأوّل أي‏:‏ مثل نفقة الذين ينفقون، أو في الثاني‏:‏ أي‏:‏ كمثل زارع حبة، والمراد بالسبع السنابل‏:‏ هي التي تخرج في ساق واحد يتشعب منه سبع شعب في كل شعبة سنبلة، والحبة اسم لكل ما يزدرعه ابن آدم، ومنه قول المتلمس‏:‏

آليتُ حَبّ العراق الدَّهْر أطْعمه *** والحَبُّ يأكُله في القَرْيةِ السُّوسُ

قيل‏:‏ المراد بالسنابل هنا سنابل الدخن، فهو الذي يكون في السنبلة منه هذا العدد‏.‏ وقال القرطبي‏:‏ إن سنبل الدُّخن يجيء في السنبلة منه أكثر من هذا العدد بضعفين، وأكثر على ما شاهدنا‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، وأما في سائر الحبوب، فأكثر، ولكن المثال، وقع بهذا القدر‏.‏ وقال الطبري‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ‏}‏ معناه إن وجد ذلك، وإلا فعلى أن تفرضه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏والله يضاعف لِمَن يَشَاء‏}‏ يحتمل أن يكون المراد‏:‏ يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء، أو يضاعف هذا العدد، فيزيد عليه أضعافه لمن يشاء، وهذا هو الراجح لما سيأتي‏.‏ وقد ورد القرآن بأن الحسنة بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية بأن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف، فيبني العام على الخاص، وهذا بناء على أن سبيل الله هو الجهاد فقط، وأما إذا كان المراد به‏:‏ وجوه الخير، فيخص هذا التضعيف إلى سبعمائة بثواب النفقات، وتكون العشرة الأمثال فيما عدا ذلك‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله‏}‏ هذه الجملة متضمنة لبيان كيفية الإنفاق الذي تقدّم، أي‏:‏ هو إنفاق الذين ينفقون، ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً، ولا أذى‏.‏ والمنّ هو‏:‏ ذكر النعمة على معنى التعديد لها، والتقريع بها، وقيل‏:‏ المنّ‏:‏ التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطي فيؤذيه، والمن من الكبائر، كما ثبت في صحيح مسلم، وغيره أنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب عظيم‏.‏ والأذى‏:‏ السب، والتطاول، والتشكي‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ ومعنى‏:‏ «ثم» إظهار التفاوت بين الإنفاق، وترك المنّ، والأذى، وإن تركهما خير من نفس الإنفاق، كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدخول فيه بقوله ‏{‏ثُمَّ استقاموا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏‏.‏ انتهى‏.‏ وقدم المنّ على الأذى لكثرة وقوعه، ووسط كلمة ‏"‏ لا ‏"‏ للدلالة على شمول النفي‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ فيه تأكيد، وتشريف‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ ظاهره نفي الخوف عنهم‏.‏ في الدارين لما تفيده النكرة الواقعة في سياق النفي من الشمول، وكذلك ‏{‏وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ يفيد دوام انتفاء الحزن عنهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ‏}‏ قيل‏:‏ الخبر محذوف أي‏:‏ أولى، وأمثل، ذكره النحاس‏.‏ قال‏:‏ ويجوز أن يكون خبراً، عن مبتدأ محذوف، أي‏:‏ الذي أمرتم به قول معروف‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَغْفِرَةٌ‏}‏ مبتدأ أيضاً، وخبره قوله‏:‏ ‏{‏خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ‏}‏ وقيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏خير‏}‏ خبر عن قوله‏:‏ ‏{‏قول معروف‏}‏ وعن قوله‏:‏ ‏{‏ومغفرة‏}‏ وجاز الابتداء بالنكرتين؛ لأن الأولى تخصصت بالوصف، والثانية بالعطف، والمعنى‏:‏ أن القول المعروف من المسؤول للسائل، وهو التأنيس، والترجية بما عند الله، والرد الجميل خير من الصدقة التي يتبعها أذى‏.‏ وقد ثبت في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الكلمة الطيبة صدقة»، و«إن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق» وما أحسن ما قاله ابن دريد‏:‏

لا تدخلنَّك ضَجرةٌ من سائل *** فَلخيرُ دهِركَ أنْ ترى مَسْئولا

لاَ تَجْبَهنْ برّد وجه مؤملٍ *** فَبَقَاءُ عِزَّك أن تُرى مَأمُولاَ

والمراد بالمغفرة‏:‏ الستر للخلة، وسوء حالة المحتاج، والعفو عن السائل إذا صدر منه من الإلحاح ما يكدر صدر المسئول، وقيل‏:‏ المراد‏:‏ أن العفو من جهة السائل؛ لأنه إذا ردة رداً جميلاً عذره، وقيل‏:‏ المراد‏:‏ فعل يؤدى إلى المغفرة خير من صدقة أي‏:‏ غفران الله خير من صدقتكم‏.‏ وهذه الجملة مستأنفة مقدرة لترك اتباع المنِّ، والأذى للصدقة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والاذى‏}‏ الإبطال للصدقات‏:‏ إذهاب أثرها، وإفساد منفعتها، أي‏:‏ لا تبطلوها بالمنِّ، والأذى، أو بأحدهما، قوله‏:‏ ‏{‏كالذى‏}‏ أي‏:‏ إبطالاً كإبطال الذي على أنه نعت لمصدر محذوف، ويجوز أن يكون حالاً أي‏:‏ لا تبطلوا مشابهين للذي ينفق ماله رئاء الناس، وانتصاب رئاء على أنه علة لقوله‏:‏ ‏{‏يُنفِقُ‏}‏ أي‏:‏ لأجل الرئاء، أو حال أي ينفق مرائياً لا يقصد بذلك وجه الله، وثواب الآخرة، بل يفعل ذلك رياء للناس استجلاباً لثنائهم عليه، ومدحهم له‏.‏ قيل‏:‏ والمراد به‏:‏ المنافق بدليل قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الاخر‏}‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ‏}‏ الصفوان‏:‏ الحجر، الكبير، الأملس‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ صفوان جمع صفوانة‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ صفوان‏:‏ واحد، وجمعه صفي، وأصفى، وأنكره المبرد‏.‏ وقال النحاس‏:‏ يجوز أن يكون جمعاً، ويجوز أن يكون واحداً، وهو أولى لقوله‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ‏}‏ والوابل المطر الشديد، مثل الله سبحانه هذا المنفق بصفوان عليه تراب يظنه الظانّ أرضاً منبتة طيبة، فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب، وبقي صلداً أي‏:‏ أجرد نقياً من التراب الذي كان عليه، فكذلك هذا المرائي، فإن نفقته لا تنفعه، كما لا ينفع المطر الواقع على الصفوان الذي عليه تراب‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ يَقْدِرُونَ على شَئ مّمَّا كَسَبُواْ‏}‏ أي‏:‏ لا ينتفعون بما فعلوه رياء، ولا يجدون له ثواباً، والجملة مستأنفة، كأنه قيل‏:‏ ماذا يكون حالهم حينئذ‏؟‏ فقيل‏:‏ لا يقدرون الخ، والضميران للموصول أي‏:‏ كالذي باعتبار المعنى، كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 69‏]‏ أي‏:‏ الجنس، أو الجمع، أو الفريق‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم ابتغاء مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏ قيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏ابتغاء مرضات الله‏}‏ مفعول له، و‏{‏تثبيتاً‏}‏ معطوف عليه، وهو أيضاً مفعول له‏.‏ أي‏:‏ الإنفاق لأجل الابتغاء‏.‏ والتثبيت كذا قال مكي في المشكل‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهو مردود لا يصح في ‏{‏تثبيتاً‏}‏ أنه مفعول من أجله؛ لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏ابتغاء‏}‏ نصب على المصدر في موضع الحال، وكان يتوجه فيه النصب على المفعول من أجله، لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو تثبيتاً عليه، وابتغاء معناه طلب، ومرضات مصدر رضي يرضى، وتثبيتاً معناه‏:‏ أنهم يتثبتون من أنفسهم ببذل أموالهم على الإيمان، وسائر العبادات رياضة لها، وتدريباً، وتمريناً، أو يكون التثبيت بمعنى التصديق أي‏:‏ تصديقاً للإسلام ناشئاً من جهة أنفسهم‏.‏ وقد اختلف السلف في معنى هذا الحرف، فقال الحسن، ومجاهد‏:‏ معناه أنهم يتثبتون أين يضعوا صدقاتهم، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ تصديقاً، ويقيناً، روى ذلك عن ابن عباس، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ احتساباً من أنفسهم، قاله قتادة، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ أن أنفسهم لها بصائر، فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تثبيتاً‏.‏ قاله الشعبي، والسديّ، وابن زيد، وأبو صالح، وهذا أرجح مما قبله‏.‏ يقال ثَبَّتُّ فلاناً في هذا الأمر أثَبِّتُه تثبيتاً‏:‏ أي‏:‏ صححتُ عزمه

قوله‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ‏}‏ الجنة‏:‏ البستان، وهي أرض تنبت فيها الأشجار حتى تغطيها، مأخوذة من لفظ الجن، والجنين لاستتارها‏.‏ والربوة‏:‏ المكان المرتفع ارتفاعاً يسيراً، وهي مثلثة الراء، وبها قرئ؛ وإنما خص الربوة، لأن نباتها يكون أحسن من غيره، مع كونه لا يصطلمه البرد في الغالب للطافة هوائه بهبوب الرياح الملطفة له، قال الطبري‏:‏ وهي رياض الحزن التي تستكثر العرب من ذكرها، واعترض ابن عطية، فقال‏:‏ إن رياض الحزن منسوبة إلى نجد؛ لأنها خير من رياض تهامة، ونبات نجد أعطر، ونسيمه أبرد وأرق، ونجد يقال لها‏:‏ حزن، وليست هذه المذكورة هنا من ذاك، ولفظ الربوة مأخوذ من ربا يربو إذا زاد‏.‏ وقال الخليل الربوة‏:‏ أرض مرتفعة طيبة‏.‏ والوابل‏:‏ المطر الشديد، كما تقدم، يقال‏:‏ وبلت السماء تبل، والأرض موبولة‏.‏ قال الأخفش‏:‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَخْذاً وَبِيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 16‏]‏ أي‏:‏ شديداً، وضرب وبيل، وعذاب وبيل ‏{‏فَأَتَتْ أُكُلَهَا‏}‏ بضم الهمزة‏:‏ الثمر الذي يؤكل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 25‏]‏ وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص، كسرج الفرس، وباب الدار قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمر‏:‏ و«أكلها» بضم الهمزة، وسكون الكاف تخفيفاً‏.‏ وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي بتحريك الكاف بالضم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ضِعْفَيْنِ‏}‏ أي‏:‏ مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل‏.‏

فالمراد بالضعف‏:‏ المثل‏.‏ وقيل‏:‏ أربعة أمثال، ونصبه على الحال من أكلها أي‏:‏ مضاعفاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ‏}‏ أي‏:‏ فإن الطلّ يكفيها‏:‏ وهو المطر الضعيف المستدقّ القطر‏.‏ قال المبرد، وغيره‏:‏ وتقديره‏:‏ فطل يكفيها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ تقديره، فالذي يصيبها طلّ، والمراد أن الطلّ ينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين‏.‏ وقال قوم‏:‏ الطل‏:‏ الندى، وفي الصحاح‏:‏ الطل‏:‏ أضعف المطر، والجمع‏:‏ أطلال‏.‏ قال الماوردي‏:‏ وزرع الطل أضعف من زرع المطر‏.‏ والمعنى‏:‏ أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله لا تضيع بحال، وإن كانت متفاوتة، ويجوز أن يعتبر التمثيل ما بين حالهم باعتبار ما صدر عنهم من النفقة الكثيرة والقليلة، وبين الجنة المعهودة باعتبار ما أصابها من المطر الكثير، والقليل، فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكلها، فكذلك نفقتهم جلَّت، أو قلت بعد أن يطلب بها وجه الله زاكية زائدة في أجورهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْلَمُونَ بَصِيرٌ‏}‏‏.‏ قرأ الزهري بالتاء التحتية‏.‏ وقرأ الجمهور بالفوقية، وفي هذا ترغيب لهم في الإخلاص مع ترهيب من الرياء، ونحوه، فهو وعد، ووعيد‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم في قوله‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ‏}‏ عن الربيع قال‏:‏ كان من «بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة، ورابط معه بالمدينة، ولم يذهب وجهاً، إلا بإذنه، كانت له الحسنة بسبعمائة ضعف، ومن بايع على الإسلام كانت الحسنة له عشر أمثالها»‏.‏ وأخرج أحمد، والنسائي، والحاكم، والبيهقي، عن ابن مسعود‏:‏ أن رجلاً تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة ‏"‏ وأخرج أحمد، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن حبان، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن خُزيم بن فاتك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من أنفق نفقة في سبيل الله كتب له سبعمائة ضعف ‏"‏ وأخرجه البخاري في تاريخه من حديث أنس‏.‏ وأخرجه أحمد من حديث أبي عبيدة وزاد‏:‏ ‏"‏ ومن أنفق على نفسه، وأهله، أو عاد مريضاً، فالحسنة بعشر أمثالها ‏"‏ وأخرج نحوه النسائي في الصوم‏.‏ وأخرج ابن ماجه، وابن أبي حاتم، من حديث عمران بن حصين، وعلي، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، وأبي أمامة، وعبد الله بن عمرو، وجابر، كلهم، يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ من أرسل بنفقة في سبيل الله، وأقام في بيته، فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله، وأنفق في وجهه ذلك، فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم، ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏والله يضاعف لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏"‏ وأخرجه أيضاً ابن ماجه، من حديث الحسن بن علي‏.‏

وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، يقول الله إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به ‏"‏ وأخرجه أيضاً مسلم‏.‏ وأخرج الطبراني من حديث معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ طوبى لمن أكثر، في الجهاد في سبيل الله من ذكر الله، فإن له بكل كلمة سبعين ألف حسنة، كل حسنة منها عشرة أضعاف ‏"‏ وقد تقدّم ذكر طرف من أحاديث التضعيف للحسنات عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 245‏]‏‏.‏ وقد وردت الأحاديث الصحيحة في أجر من جهز غازياً‏.‏ وأخرج أبو داود، والحاكم وصححه، عن سهل بن معاذ، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الصلاة، والصوم، والذكر تضاعف على النفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف ‏"‏ وأخرج أحمد، والطبراني في الأوسط، والبيهقي في سننه عن بريدة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف ‏"‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن قال في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ مَنّا وَلا أَذىً‏}‏ إن أقواماً يبعثون الرجل منهم في سبيل الله، أو ينفق على الرجل، أو يعطيه النفقة، ثم يمنّ عليه ويؤذيه‏:‏ يعني‏:‏ أن هذا سبب النزول‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة نحوه‏.‏ وقد وردت الأحاديث الصحيحة في النهي، عن المنّ، والأذى، وفي فضل الإنفاق في سبيل الله، وعلى الأقارب، وفي وجوه الخير، ولا حاجة إلى التطويل بذكرها، فهي معروفة في مواطنها‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن عمرو بن دينار قال‏:‏ بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ ما من صدقة أحبّ إلى الله من قول الحقّ، ألم تسمع قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى‏}‏ ‏"‏ وأخرج ابن المنذر، عن الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ‏}‏ قال‏:‏ ردّ جميل، تقول‏:‏ يرحمك الله، يرزقك الله، ولا تنهره، ولا تغلظ له القول‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ «لا يدخل الجنة منَّان، وذلك في كتاب الله‏:‏ ‏{‏لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والأذى‏}‏»‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏صَفْوَانٍ‏}‏ يقول‏:‏ الحجر ‏{‏فَتَرَكَهُ صَلْدًا‏}‏ يقول‏:‏ ليس عليه شيء‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال‏:‏ الوابل المطر‏.‏ وأخرجا عن قتادة قال‏:‏ الوابل‏:‏ المطر الشديد‏.‏ قال‏:‏ وهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة ‏{‏لاَّ يَقْدِرُونَ على شَئ مّمَّا كَسَبُواْ‏}‏ يومئذ، كما ترك هذا المطر هذا الحجر ليس عليه شيءٌ أنقى مما كان‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَتَرَكَهُ صَلْدًا‏}‏ قال‏:‏ يابساً جاثياً لا ينبت شيئاً‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن الربيع في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم ابتغاء مَرْضَاتِ الله‏}‏ قال‏:‏ هذا مثلٌ ضربه الله لعمل المؤمن‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن الشعبي في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ تصديقاً، ويقيناً‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أبي صالح نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير قال‏:‏ يتثبتون أين يضعون أموالهم‏.‏ وأخرجا عن الحسن قال‏:‏ كان الرجل إذا هَمَّ بصدقة تثبت، فإن كان لله أمضاه، وإن خالطه شيء من الرياء أمسك‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏تَثْبِيتاً‏}‏ قال‏:‏ النية، وأخرج الحاكم وصححه، عن ابن عباس قال‏:‏ الربوة‏:‏ النشز من الأرض‏.‏ وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال‏:‏ الربوة‏:‏ الأرض المستوية المرتفعة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس قال‏:‏ هي المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَطَلٌّ‏}‏ قال‏:‏ النَّدي‏.‏ أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن الضحاك قال‏:‏ الطل‏:‏ الرذاذ من المطر‏:‏ يعني‏:‏ اللين منه‏.‏ وأخرجا عن قتادة قال‏:‏ هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن يقول‏:‏ ليس لخيره خلف كما ليس لخير هذه الجنة خلف على أيّ حال كان، إن أصابها وابل، وإن أصابها طل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏266‏]‏

‏{‏أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏266‏)‏‏}‏

الودّ‏:‏ الحب للشيء مع تمنيه، والهمزة الداخلة على الفعل، لإنكار الوقوع، والجنة تطلق على الشجر الملتفّ، وعلى الأرض التي فيها الشجر‏.‏ والأول أولى هنا لقوله‏:‏ ‏{‏تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار‏}‏ بإرجاع الضمير إلى الشجر من دون حاجة إلى مضاف محذوف، وأما على الوجه الثاني، فلا بدّ من تقديره، أي‏:‏ من تحت أشجارها، وهكذا قوله‏:‏ ‏{‏فاحترقت‏}‏ لا يحتاج إلى تقدير مضاف على الوجه الأول، وأما على الثاني، فيحتاج إلى تقديره، أي‏:‏ فاحترقت أشجارها، وخص النخيل، والأعناب بالذكر مع قوله‏:‏ ‏{‏لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثمرات‏}‏ لكونهما أكرم الشجر، وهذه الجمل صفات للجنة، والواو في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَصَابَهُ الكبر‏}‏ قيل‏:‏ عاطفة على قوله‏:‏ ‏{‏تَكُونُ‏}‏ ماض على مستقبل‏.‏ وقيل‏:‏ على قوله‏:‏ ‏{‏يَوَدُّ‏}‏ وقيل‏:‏ إنه محمول على المعنى إذ تكون في معنى كانت‏.‏ وقيل‏:‏ إنها واو الحال، أي‏:‏ وقد أصابه الكبر، وهذا أرجح‏.‏ وكبر السنّ هو‏:‏ مظنة شدّة الحاجة لما يلحق صاحبه من العجز‏.‏ عن تعاطي الأسباب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ ذُرّيَّةٌ ضُعَفَاء‏}‏ حال من الضمير في أصابه أي‏:‏ والحال أن له ذرية ضعفاء، فإن من جمع بين كبر السنّ، وضعف الذرية كان تحسره على تلك الجنة في غاية الشدة‏.‏ والإعصار‏:‏ الريح الشديدة التي تهب من الأرض إلى السماء كالعمود، وهي التي يقال لها‏:‏ الزوبعة، قاله الزجاج‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الزوبعة رئيس من رؤساء الجنّ، ومنه سمي الإعصار زوبعة، ويقال أمّ زوبعة‏:‏ وهي ريح يثير الغبار، ويرتفع إلى السماء، كأنه عمود، وقيل‏:‏ هي ريح تثير سحاباً ذات رعد، وبرق‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فاحترقت‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏فَأَصَابَهَا‏}‏ وهذه الآية تمثيل من يعمل خيراً، ويضم إليه ما يحبطه، فيجده يوم القيامة عند شدة حاجته إليه لا يسمن، ولا يغني من جوع بحال من له هذه الجنة الموصوفة، وهو متصف بتلك الصفة‏.‏

وقد أخرج البخاري، وغيره عن ابن عباس قال‏:‏ قال عمر يوماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيم ترون هذه الآية نزلت‏:‏ ‏{‏أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ‏}‏‏؟‏ قالوا‏:‏ الله أعلم، قال‏:‏ قولوا‏:‏ نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس‏:‏ في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر‏:‏ يابن أخي قل، ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس‏:‏ ضربت مثلاً لعمل، قال عمر‏:‏ أي عمل‏؟‏ قال ابن عباس‏:‏ لرجل عني يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل في المعاصي حتى أغرق عمله‏.‏ وأخرج ابن جرير عن عمر قال‏:‏ هذا مثل ضرب لإنسان يعمل عملاً صالحاً حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه عمل عمل السوء‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، من طرق عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ‏}‏ قال‏:‏ ريح فيها سموم شديدة‏.‏