فصل: تفسير الآيات رقم (110- 112)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 112‏]‏

‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏110‏)‏ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏111‏)‏ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ‏}‏ هذا كلام مستأنف يتضمن بيان حال هذه الأمة في الفضل على غيرها من الأمم، و«كان» قيل‏:‏ هي التامة، أي‏:‏ وجدتم، وخلقتم خير أمة، ومثله ما أنشده سيبويه‏:‏

وَجِيرانٍ لَنا كَانُوا كرام *** ومنه قوله تعالى ‏{‏كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى المهد صَبِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 29‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 86‏]‏‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ يريد أهل أمة‏:‏ أي خير أهل دين، وأنشد‏:‏

فحلفتُ فلم أتْركْ لِنَفْسِك رِيبةً *** وَهَلْ يْأثَمَنْ ذُو أمَّةٍ وَهُوطَائِعَ

وقيل‏:‏ معناه‏:‏ كنتم في اللوح المحفوظ، وقيل‏:‏ كنتم منذ آمنتم‏.‏ وفيه دليل على أن هذه الأمة الإسلامية خير الأمم على الإطلاق، وأن هذه الخيرية مشتركة ما بين أول هذه الأمة، وآخرها بالنسبة إلى غيرها من الأمم، وإن كانت متفاضلة في ذات بينها‏.‏ كما ورد في فضل الصحابة على غيرهم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ أي‏:‏ أظهرت لهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تَأْمُرُونَ بالمعروف‏}‏ الخ كلام مستأنف يتضمن بيان كونهم خير أمة مع ما يشتمل عليه من أنهم خير أمة ما أقاموا على ذلك، واتصفوا به، فإذا تركوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر زال عنهم ذلك، ولهذا قال مجاهد‏:‏ إنهم خير أمة على الشرائط المذكورة في الآية، وهذا يقتضي أن يكون تأمرون، وما بعده في محل نصب على الحال أي‏:‏ كنتم خير أمة حال كونكم آمرين ناهين مؤمنين بالله، وبما يجب عليكم الإيمان به من كتابه، ورسوله، وما شرعه لعباده، فإنه لا يتم الإيمان بالله سبحانه إلا بالإيمان بهذه الأمور‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الكتاب‏}‏ أي‏:‏ اليهود إيماناً كإيمان المسلمين بالله، ورسله وكتبه‏:‏ ‏{‏لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ ولكنهم لم يفعلوا ذلك؛ بل قالوا‏:‏ نؤمن ببعض الكتاب، ونكفر ببعض، ثم بين حال أهل الكتاب بقوله‏:‏ ‏{‏مّنْهُمُ المؤمنون‏}‏ وهم الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فإنهم آمنوا بما أنزل عليه، وما أنزل من قبله‏:‏ ‏{‏وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون‏}‏ أي‏:‏ الخارجون عن طريق الحق المتمردون في باطلهم المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولما جاء به، فيكون هذا التفصيل على هذا كلاماً مستأنفاً جواباً، عن سؤال مقدر، كأنه قيل‏:‏ هل منهم من آمن فاستحق ما وعده الله‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى‏}‏ أي‏:‏ لن يضروكم بنوع من أنواع الضرر إلا بنوع الأذى، وهو الكذب، والتحريف، والبهت، ولا يقدرون على الضرر الذي هو الضرر في الحقيقة بالحرب، والنهب، ونحوهما، فالاستثناء مفرغ، وهذا وعد من الله لرسوله، وللمؤمنين أن أهل الكتاب لا يغلبونهم، وأنهم منصورون عليهم، وقيل‏:‏ الاستثناء منقطع‏.‏ والمعنى‏:‏ لن يضروكم ألبتة لكي يؤذونكم، ثم بين سبحانه ما نفاه من الضرر بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن يقاتلوكم يُوَلُّوكُمُ الأدبار‏}‏ أي‏:‏ ينهزمون ولا يقدرون على مقاومتكم فضلاً عن أن يضروكم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ‏}‏ عطف على الجملة الشرطية، أي‏:‏ ثم لا يوجد لهم نصر، ولا يثبت لهم غلب في حال من الأحوال، بل شأنهم الخذلان ما داموا‏.‏ وقد وجدنا ما وعدنا سبحانه حقاً، فإن اليهود لم تخفق لهم راية نصر، ولا اجتمع لهم جيش غلب بعد نزول هذه الآية، فهي من معجزات النبوة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة‏}‏ قد تقدم في البقرة معنى هذا التركيب‏.‏ والمعنى‏:‏ صارت الذلة محيطة بهم في كل حال، وعلى كل تقدير في أي مكان وجدوا ‏{‏إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله‏}‏ أي‏:‏ إلا أن يعتصموا بحبل من الله، قاله الفراء‏:‏ أي‏:‏ بذمة الله، أو بكتابه ‏{‏وَحَبْلٍ مّنَ الناس‏}‏ أي‏:‏ بذمة من الناس، وهم المسلمون، وقيل المراد بالناس‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَبَاءوا‏}‏ أي‏:‏ رجعوا ‏{‏بِغَضَبٍ مّنَ الله‏}‏ وقيل‏:‏ احتملوا، وأصل معناه في اللغة اللزوم، والاستحقاق، أي‏:‏ لزمهم غضب من الله هم مستحقون له‏.‏ ومعنى ضرب المسكنة‏:‏ إحاطتها بهم من جميع الجوانب، وهكذا حال اليهود، فإنهم تحت الفقر المدقع، والمسكنة الشديدة إلا النادر الشاذ منهم‏.‏ والإشارة بقوله ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما تقدم من ضرب الذلة، والمسكنة، والغضب، أي‏:‏ وقع عليهم ذلك بسبب أنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون الأنبياء بغير حق، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى الكفر، وقتل الأنبياء بسبب عصيانهم لله، واعتدائهم لحدوده‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ أن الله ضرب عليهم الذلة، والمسكنة، والبواء بالغضب منه لكونهم كفروا بآياته، وقتلوا أنبياءه بسبب عصيانهم، واعتدائهم‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأحمد، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ‏}‏ قال‏:‏ هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي في الآية قال‏:‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ لو شاء الله لقال‏:‏ أنتم فكنا كلنا، ولكن قال ‏{‏كنتم‏}‏ في خاصة أصحاب محمد، ومن صنعهم مثل صنعهم كانوا خير أمة أخرجت للناس، وفي لفظ عنه أنه قال‏:‏ يكون لأولنا، ولا يكون لآخرنا‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن قتادة قال‏:‏ ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية، ثم قال‏:‏ يا أيها الناس من سره أن يكون من تلك الأمة، فليؤد شرط الله منها‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن عكرمة في الآية قال‏:‏ نزلت في ابن مسعود، وعمار بن ياسر، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل‏.‏ وأخرج البخاري، وغيره، عن أبي هريرة في الآية قال‏:‏ خير الناس للناس يأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وأحمد، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، عن معاوية بن حيدة‏:‏ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الآية‏:‏ «إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها، وأكرمها» وروى من حديث معاذ، وأبي سعيد نحوه‏.‏ وقد وردت أحاديث كثيرة في الصحيحين، وغيرهما أنه يدخل من هذه الأمة الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، ولا عذاب، وهذا من فوائد كونها خير الأمم‏.‏

وأخرج ابن جرير عن الحسن‏:‏ ‏{‏لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى‏}‏ قال‏:‏ تسمعون منهم كذباً على الله بدعوتكم إلى الضلالة‏.‏ وأخرج أيضاً، عن ابن جريج قال‏:‏ إشراكهم في عزير، وعيسى، والصليب‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن، وقتادة‏:‏ ‏{‏ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة‏}‏ قالا‏:‏ يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون‏.‏ وروى ابن المنذر، عن الضحاك نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله وَحَبْلٍ مّنَ الناس‏}‏ قال‏:‏ بعهد من الله، وعهد من الناس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 117‏]‏

‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ‏(‏113‏)‏ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏114‏)‏ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ‏(‏115‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏116‏)‏ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَيْسُواْ سَوَاء‏}‏ أي‏:‏ أهل الكتاب غير مستوين بل مختلفين، والجملة مستأنفة سبقت لبيان التفاوت بين أهل الكتاب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏ هو استئناف أيضاً يتضمن بيان الجهة التي تفاوتوا فيها من كون بعضهم أمة قائمة إلى قوله‏:‏ ‏{‏مّنَ الصالحين‏}‏ قال الأخفش‏:‏ التقدير من أهل الكتاب ذو أمة، أي‏:‏ ذو طريقة حسنة وأنشد‏:‏

وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع *** وقيل في الكلام حذف، والتقدير‏:‏ من أهل الكتاب أمة قائمة، وأخرى غير قائمة، فترك الأخرى اكتفاء بالأولى، كقول أبي ذؤيب‏:‏

عَصَيْتُ إلَيْها القَلْب إنِّيَ لأمرِهَا *** مُطيعٌ فَما أدرى أرشْدٌ طِلابُها‏؟‏

أراد أرشد أم غيّ‏.‏ قال الفراء‏:‏ أمة رفع بسواء، والتقدير‏:‏ ليس يستوى أمة من أهل الكتاب قائمة يتلون آيات الله، وأمة كافرة‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا القول خطأ من جهات‏:‏ أحدها أنه يرفع أمة بسواء، فلا يعود على اسم ليس شيء، ويرفع بما ليس جارياً على الفعل، ويضمر ما لا يحتاج إليه؛ لأنه قد تقدّم ذكر الكافرة، فليس لإضمار هذا وجه‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ هذا مثل قولهم أكلوني البراغيث، وذهبوا أصحابك‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا غلط؛ لأنه قد تقدّم ذكرهم، وأكلوني البراغيث لم يتقدم لهم ذكر‏.‏ انتهى‏.‏

وعندي أن ما قاله الفراء قويّ قويم، وحاصله أن معنى الآية‏:‏ لا يستوى أمة من أهل الكتاب شأنها كذا، وأمة أخرى شأنها كذا، وليس تقدير هذا المحذوف من باب تقدير ما لا حاجة إليه، كما قال النحاس، فإن تقدّم ذكر الكافرة لا يفيد مفاد تقدير ذكرها هنا، وأما قوله‏:‏ إنه لا يعود على اسم ليس شيء، فيردّه أن تقدير العائد شائع مشتهر عند أهل الفن، وأما قوله‏:‏ ويرفع بما ليس جارياً على الفعل فغير مسلم‏.‏ والقائمة‏:‏ المستقيمة العادلة، من قولهم‏:‏ أقمت العود فقام‏:‏ أي‏:‏ استقام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَتْلُونَ‏}‏ في محل رفع على أنه صفة ثانية لأمة، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال ‏{‏آناء الليل‏}‏ ساعاته، وهو‏:‏ منصوب على الظرفية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَسْجُدُونَ‏}‏ ظاهره أن التلاوة كائنة منهم في حال السجود، ولا يصح ذلك إذا كان المراد بهذه الأمة الموصوفة في الآية‏:‏ هم من قد أسلم من أهل الكتاب؛ لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن قراءة القرآن في السجود، فلا بدّ من تأويل هذا الظاهر بأن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَسْجُدُونَ‏}‏ وهم يصلون، كما قاله الفراء، والزجاج، وإنما عبر بالسجود عن مجموع الصلاة، لما فيه من الخضوع، والتذلل‏.‏ وظاهر هذا أنهم يتلون آيات الله في صلاتهم من غير تخصيص لتلك الصلاة بصلاة معينة، وقيل‏:‏ المراد بها‏:‏ الصلاة بين العشاءين، وقيل‏:‏ صلاة الليل مطلقاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ‏}‏ صفة أخرى لأمة‏:‏ أي‏:‏ يؤمنون بالله وكتبه ورسله، ورأس ذلك الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر‏}‏ صفتان أيضاً لأمة‏:‏ أي‏:‏ أن هذا من شأنهم، وصفتهم‏.‏ وظاهره يفيد أنهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر على العموم؛ وقيل‏:‏ المراد بالأمر بالمعروف هنا‏:‏ أمرهم باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والنهي عن المنكر‏:‏ نهيهم عن مخالفته‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويسارعون فِى الخيرات‏}‏ من جملة الصفات أيضاً‏:‏ أي يبادرون بها غير متثاقلين عن تأديتها لمعرفتهم بقدر ثوابها‏.‏ وقوله ‏{‏وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصالحين‏}‏ أي من جملتهم، وقيل‏:‏ «مِن» بمعنى مع‏:‏ أي‏:‏ مع الصالحين، وهم الصحابة رضي الله عنهم، والظاهر أن المراد‏:‏ كل صالح، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إلى الأمة الموصوفة بتلك الصفات‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ‏}‏ أيّ‏:‏ خير كان ‏{‏فَلَنْ يكفروه‏}‏ أي‏:‏ لن تعدموا ثوابه، وعداه إلى المفعولين، وهو لا يتعدّى إلا إلى واحد؛ لأنه ضمنه معنى الحرمان، كأنه قيل‏:‏ فلن تحرموه، كما قاله صاحب الكشاف‏.‏ قرأ الأعمش، وابن وثاب، وحفص، ومرة، والكسائي، وخلف بالياء التحتية في الفعلين، وهي قراءة ابن عباس، واختارها أبو عبيد‏.‏ وقرأ الباقون بالمثناة من فوق فيهما، وكان أبو عمرو يرى القراءتين جميعاً‏.‏ والمراد‏:‏ بالمتقين كل من ثبتت له صفة التقوى، وقيل‏:‏ المراد من تقدّم ذكره، وهم الأمة الموصوفة بتلك الصفة، ووضع الظاهر موضع المضمر مدحاً لهم، ورفعاً من شأنهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ قيل‏:‏ هم بنو قريظة، والنضير‏.‏ قال مقاتل‏:‏ لما ذكر تعالى مؤمني أهل الكتاب ذكر كفارهم في هذه الآية‏.‏ والظاهر أن المراد بذلك‏:‏ كل من كفر بما يجب الإيمان به‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏لَن تُغْنِىَ‏}‏ لن تدفع، وخص الأولاد؛ لأنهم أحبّ القرابة، وأرجاهم لدفع ما ينوبه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ‏}‏ بيان لعدم إغناء أموالهم التي كانوا يعوّلون عليها‏.‏ والصرّ‏:‏ البرد الشديد، أصله من الصرير الذي هو الصوت، فهو‏:‏ صوت الريح الشديد‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ صوت لهب النار التي في تلك الريح‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ مثل نفقة الكافرين في بطلانها، وذهابها، وعدم منفعتها، كمثل زرع أصابه ريح باردة، أو نار فأحرقته، أو أهلكته، فلم ينتفع أصحابه بشيء منه بعد أن كانوا على طمع من نفعه، وفائدته‏.‏ وعلى هذا فلا بدّ من تقدير في جانب المشبه به، فيقال‏:‏ كمثل زرع أصابته ريح فيها صرّ، أو مثل إهلاك ما ينفقون، كمثل إهلاك ريح فيها صرّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم ‏{‏وَمَا ظَلَمَهُمُ الله‏}‏ أي‏:‏ المنفقين من الكافرين ‏{‏ولكن أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ بالكفر المانع من قبول النفقة التي أنفقوها، وتقديم المفعول لرعاية الفواصل لا للتخصيص؛ لأن الكلام في الفعل باعتبار تعلقه بالفاعل لا بالمفعول‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن منده، وأبو نعيم في المعرفة، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر، عن ابن عباس قال‏:‏ لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، ومن أسلم من يهود معهم، فآمنوا، وصدّقوا، ورغبوا في الإسلام، قالت أحبار يهود، وأهل الكفر منهم‏:‏ ما آمن بمحمد، وتبعه إلا شرارنا، ولو كانوا خيارنا ما تركوا دين آبائهم، وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله ‏{‏لَيْسُواْ سَوَاء‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه‏:‏ ‏{‏أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏ يقول‏:‏ مهتدية قائمة على أمر الله لم تنزع عنه، ولم تتركه، كما تركه الآخرون، وضيعوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم قال‏:‏ ‏{‏أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏ عادلة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏آناء الليل‏}‏ قال‏:‏ جوف الليل‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الربيع قال‏:‏ ساعات الليل‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏لَيْسُواْ سَوَاء‏}‏ قال‏:‏ لا يستوى أهل الكتاب، وأمة محمد‏:‏ ‏{‏يَتْلُونَ ءايات الله ءَانَاء اليل‏}‏ قال‏:‏ صلاة العتمة هم‏:‏ يصلونها، ومن سواهم من أهل الكتاب لا يصلونها‏.‏ وأخرج أحمد، والنسائي، والبزار، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني‏.‏ قال السيوطي‏:‏ بسند حسن، عن ابن مسعود قال‏:‏ «أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ليلة، ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال‏:‏ ‏"‏ أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم ‏"‏ ولفظ ابن جرير، والطبراني فقال‏:‏ إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب‏.‏ قال‏:‏ وأنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏ليسوا سواء‏}‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن منصور قال‏:‏ بلغني أنها نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏يَتْلُونَ ءايات الله ءانَاء اليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ‏}‏ فيما بين المغرب، والعشاء‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة ‏{‏فَلَنْ تكفروه‏}‏ قال‏:‏ لن يضلّ عنكم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن ‏{‏فَلَنْ تكفروه‏}‏ قال‏:‏ لن تظلموه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ في الآية يقول‏:‏ ‏{‏مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ‏}‏ أي‏:‏ المشركون، ولا يتقبل منهم، كمثل هذا الزرع إذا زرعه القوم الظالمون، فأصابه ريح فيها صرّ، فأهلكته، فكذلك أنفقوا، فأهلكهم شركهم‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس ‏{‏فِيهَا صِرٌّ‏}‏ قال‏:‏ برد شديد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 120‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏118‏)‏ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏119‏)‏ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏120‏)‏‏}‏

البطانة مصدر يسمى به الواحد، والجمع، وبطانة الرجل‏:‏ خاصته الذين يستبطنون أمره، وأصله البطن الذي هو‏:‏ خلاف الظهر، وبطن فلان بفلان يبطن بطوناً، وبطانة‏:‏ إذا كان خاصاً به، ومنه قول الشاعر‏:‏

وهم خُلْصائي كلهم وَبِطَانَتي *** وهم عَيْبَتي مِنْ دُونِ كلّ قَريبِ

قوله‏:‏ ‏{‏مّن دُونِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ من سواكم، قاله الفراء‏:‏ أي‏:‏ من دون المسلمين، وهم الكفار، أي‏:‏ بطانة كائنة من دونكم، ويجوز أن يتعلق بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَتَّخِذُواْ‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً‏}‏ في محل نصب صفة لبطانة، يقال لا ألوك جهداً‏:‏ أي‏:‏ لا أقصر‏.‏ قال امرؤ القيس‏:‏

وَمَا المرء مَا دَامت حشَاشَةُ نفْسِه *** بِمُدْركِ أطْرافِ الخُطَوبِ وَلا آلِ

والمراد‏:‏ لا يقصرون فيما فيه الفساد عليكم، وإنما عدّي إلى مفعولين لكونه مضمناً معنى المنع، أي‏:‏ لا يمنعونكم خبالاً، والخبال، والخبل‏:‏ الفساد في الأفعال، والأبدان، والعقول‏.‏ قال أوس‏:‏

أبَنِي لُبُنَي لَستُم بيَدٍ *** إلا يداً مَخبْولَةَ العَضد

أي‏:‏ فاسدة العضد‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ‏}‏ «ما» مصدرية، أي‏:‏ ودّوا عنتكم، والعنت المشقة، وشدة الضرر، والجملة مستأنفة مؤكدة للنهي‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ بَدَتِ البغضاء‏}‏ هي‏:‏ شدة البغض، كالضراء لشدة الضر‏.‏ والأفواه جمع فم‏.‏ والمعنى‏:‏ أنها قد ظهرت البغضاء في كلامهم؛ لأنهم لما خامرهم من شدة البغض، والحسد أظهرت ألسنتهم ما في صدورهم، فتركوا التقية، وصرحوا بالتكذيب‏.‏ أما اليهود، فالأمر في ذلك واضح‏.‏ وأما المنافقون، فكان يظهر من فلتات ألسنتهم ما يكشف عن خبث طويتهم‏.‏ وهذه الجملة مستأنفة لبيان حالهم ‏{‏وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ‏}‏ لأن فلتات اللسان أقل مما تجنه الصدور، بل تلك الفلتات بالنسبة إلى ما في الصدور قليلة جداً‏.‏ ثم إنه سبحانه امتنّ عليهم ببيان الآيات الدالة على وجوب الإخلاص إن كانوا من أهل العقول المدركة لذلك البيان‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏هَاأَنتُمْ أُوْلاء‏}‏ جملة مصدرة بحرف التنبيه، أي‏:‏ أنتم أولاء الخاطئون في موالاتهم، ثم بين خطأهم بتلك الموالاة بهذه الجملة التذييلية‏.‏ فقال ‏{‏تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ‏}‏، وقيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏تُحِبُّونَهُمْ‏}‏ خبر ثان لقوله ‏{‏أنتم‏}‏، وقيل‏:‏ إن أولاء موصول، و‏{‏تحبونهم‏}‏ صلته أي‏:‏ تحبونهم لما أظهروا لكم الإيمان، أو لما بينكم، وبينهم من القرابة‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ‏}‏ لما قد استحكم في صدورهم من الغيظ والحسد‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلّهِ‏}‏ أي‏:‏ بجنس الكتاب جميعاً، ومحل الجملة النصب على الحال، أي‏:‏ لا يحبونكم، والحال أنكم مؤمنون بكتب الله سبحانه التي من جملتها كتابهم، فما بالكم تحبونهم، وهم لا يؤمنون بكتابكم‏.‏ وفيه توبيخ لهم شديد، لأن من بيده الحق أحق بالصلابة، والشدّة ممن هو على الباطل ‏{‏وإذا لقوكم قالوا آمنا‏}‏ نفاقاً وتقية ‏{‏وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيظ‏}‏ تأسفاً، وتحسراً، حيث عجزوا عن الانتقام منكم، والعرب تصف المغتاظ، والنادم يعضّ الأنامل، والبنان، ثم أمره الله سبحانه بأن يدعو عليهم، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ‏}‏ وهو يتضمن استمرار غيظهم ما داموا في الحياة حتى يأتيهم الموت، وهم عليه، ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ فهو يعلم ما في صدوركم، وصدورهم، والمراد بذات الصدور‏:‏ الخواطر القائمة بها، وهو كلام داخل تحت قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ فهو من جملة المقول‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ‏}‏ هذه الجملة مستأنفة لبيان تناهي عداوتهم، وحسنة، وسيئة يعمان كل ما يحسن، وما يسوء‏.‏ وعبر بالمسّ في الحسنة، وبالإصابة في السيئة، للدلالة على أن مجرد مس الحسنة يحصل به المساءة، ولا يفرحون إلا بإصابة السيئة، وقيل‏:‏ إن المسّ مستعار لمعنى الإصابة‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ أن من كانت هذه حالته لم يكن أهلاً؛ لأن يتخذ بطانة ‏{‏وَأَن تَصْبِرُواْ‏}‏ على عداوتهم، أو على التكاليف الشاقة ‏{‏وَتَتَّقُواْ‏}‏ موالاتهم، أو ما حرّمه الله عليكم ‏{‏يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً‏}‏، يقال ضارّه يضوره، ويضيره ضيراً، وضيوراً‏:‏ بمعنى ضرّه يضره، وبه قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو‏.‏ وقرأ الكوفيون، وابن عامر لا يضركم بضم الراء، وتشديدها من ضرّ يضر، فهو على القراءة الأولى مجزوم على أنه جواب الشرط، وعلى القراءة الثانية مرفوع على تقدير إضمار الفاء، كما في قول الشاعر‏:‏

من يفعل الحسنات الله يشكرها *** قاله الكسائي، والفراء، وقال سيوبيه‏:‏ إنه مرفوع على نية التقديم، أي‏:‏ لا يضركم أن تصبروا‏.‏ وحكى أبو زيد عن المفضل عن عاصم «لا يضركم» بفتح الراء، و‏{‏شيئاً‏}‏ صفة مصدر محذوف‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ كان رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من يهود لما كان بينهم من الجوار، والحلف في الجاهلية، فأنزل الله فيهم ينهاهم، عن مباطنتهم لخوف الفتنة عليهم منهم ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً من دونكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه قال‏:‏ هم المنافقون‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، عن أبي أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال‏:‏ ‏"‏ هم الخوارج‏.‏ ‏"‏ قال السيوطي، وسنده جيد‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلّهِ‏}‏ أي‏:‏ بكتابكم وبكتابهم، وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم أحق بالبغضاء، لهم منهم لكم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل ‏{‏إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ النصر على العدوّ، والرزق، والخير ‏{‏تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ‏}‏ يعني القتل، والهزيمة، والجهد

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 129‏]‏

‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏121‏)‏ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏122‏)‏ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ ‏(‏124‏)‏ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ‏(‏125‏)‏ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏126‏)‏ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ‏(‏127‏)‏ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏128‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏129‏)‏‏}‏

العامل في «إذ» فعل محذوف، أي‏:‏ واذكر إذ غدوت من منزل أهلك، أي‏:‏ من المنزل الذي فيه أهلك‏.‏ وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه الآية نزلت في غزوة أحد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ في يوم بدر‏.‏ وقال مجاهد، ومقاتل، والكلبي‏:‏ في غزوة الخندق‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏تُبَوّئ‏}‏ أي‏:‏ تتخذ لهم مقاعد للقتال، وأصل التبوّء اتخاذ المنزل، يقال بوّأته منزلاً‏:‏ إذا أسكنته إياه، والفعل في محل نصب على الحال‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ واذكر إذ خرجت من منزل أهلك تتخذ للمؤمنين مقاعد للقتال، أي‏:‏ أماكن يقعدون فيها، وعبر عن الخروج بالغدوّ الذي هو‏:‏ الخروج غدوة مع كونه صلى الله عليه وسلم خرج بعد صلاة الجمعة، كما سيأتي؛ لأنه قد يعبر بالغدوّ، والرواح، عن الخروج، والدخول من غير اعتبار أصل معناهما، كما يقال، أضحى، وإن لم يكن في وقت الضحى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ‏}‏ هو‏:‏ بدل من ‏{‏إذ غدوت‏}‏، أو متعلق بقوله ‏{‏تبوّئ‏}‏، أو بقوله ‏{‏سميع عليم‏}‏، والطائفتان‏:‏ بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر يوم أحد، والفشل الجبن، وَالْهَمُّ من الطائفتين كان بعد الخروج، لما رجع عبد الله بن أبيّ بمن معه من المنافقين، فحفظ الله قلوب المؤمنين، فلم يرجعوا، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏والله وَلِيُّهُمَا‏}‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ‏}‏ جملة مستأنفة سيقت لتصبيرهم بتذكير ما يترتب على الصبر من النصر‏.‏ وبدر اسم لماء كان في موضع الوقعة، وقيل‏:‏ هو اسم الموضع نفسه، وسيأتي سياق قصة بدر في الأنفال إن شاء الله‏.‏ وأذلة جمع قلة، ومعناه‏:‏ أنهم كانوا بسبب قلتهم أذلة، وهو‏:‏ جمع ذليل استعير للقلة، إذ لم يكونوا في أنفسهم أذلة، بل كانوا أعزة‏.‏ والنصر‏:‏ العون‏.‏ وقد شرح أهل التواريخ، والسير غزوة بدر وأحد بأتم شرح، فلا حاجة لنا في سياق ذلك هاهنا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ تَقُولُ‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏نَصَرَكُمُ‏}‏ والهمزة في قوله‏:‏ ‏{‏أَلَنْ يَكْفِيكُمْ‏}‏ للإنكار منه عليهم عدم اكتفائهم بذلك المدد من الملائكة، ومعنى الكفاية‏:‏ سدّ الخلة، والقيام بالأمر، والإمداد في الأصل‏:‏ إعطاء الشيء حالاً بعد حال، والمجيء ب ‏"‏ لن ‏"‏ لتأكيد النفي، وأصل الفور‏:‏ القصد إلى الشيء، والأخذ فيه بجدّ، وهو‏:‏ من قولهم فارت القدر تفور فوراً، وفوراناً‏.‏ إذا غلت، والفور‏:‏ الغليان، وفار غضبه‏:‏ إذا جاش، وفعله من فوره أي‏:‏ قبل أن يسكن، والفوّارة ما يفور من القدر، استعير للسرعة، أي‏:‏ إن يأتوكم من ساعتهم هذه يمددكم ربكم بالملائكة في حال إتيانهم لا يتأخر عن ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مُسَوّمِينَ‏}‏ بفتح الواو اسم مفعول، وهي‏:‏ قراءة ابن عامر، وحمزة، والكسائي، ونافع‏:‏ أي‏:‏ معلمين بعلامات‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وابن كثير، وعاصم ‏{‏مسومين‏}‏ بكسر الواو اسم فاعل، أي‏:‏ معلمين أنفسهم بعلامة‏.‏

ورجح ابن جرير هذه القراءة، والتسويم إظهار سيما الشيء‏.‏ قال كثير من المفسرين‏:‏ ‏{‏مُسَوّمِينَ‏}‏ أي‏:‏ مرسلين خيلهم في الغارة، وقيل‏:‏ إن الملائكة اعتمت بعمائم بيض، وقيل‏:‏ حمر، وقيل‏:‏ خضر، وقيل‏:‏ صفر، فهذه هي العلامة التي علموا بها أنفسهم حكى ذلك عن الزجاج، وقيل‏:‏ كانوا على خيل بلق، وقيل‏:‏ غير ذلك‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ‏}‏ كلام مبتدأ غير داخل في مقول القول، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏جعله‏}‏ للإمداد المدلول عليه بالفعل، أو للتسويم، أو للإنزال، ورجح الأوّل الزجاج، وصاحب الكشاف‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ بشرى‏}‏ استثناء مفرّغ من أعم العام، والبشرى اسم من البشارة، أي‏:‏ إلا لتبشروا بأنكم تنصرون، ولتطمئن قلوبكم به، أي‏:‏ بالإمداد، واللام لام كي، جعل الله ذلك الإمداد بشرى بالنصر، وطمأنينة للقلوب، وفي قصر الإمداد عليهما إشارة إلى عدم مباشرة الملائكة للقتال يومئذ ‏{‏وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله‏}‏ لا من عند غيره، فلا تنفع كثرة المقاتلة، ووجود العدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ‏}‏ وقيل‏:‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله‏}‏ وقيل‏:‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏يُمْدِدْكُمْ‏}‏ والطرف الطائفة، والمعنى‏:‏ نصركم الله ببدر ليقطع طائفة من الكفار، وهم‏:‏ الذين قتلوا يوم بدر، أو وما النصر إلا من عند الله ليقطع تلك الطائفة، أو يمددكم ليقطع‏.‏ ومعنى يكبتهم يحزنهم، والمكبوت المحزون‏.‏ وقال بعض أهل اللغة‏:‏ معناه يكبدهم، أي‏:‏ يصيبهم بالحزن، والغيظ في أكبادهم، وهو غير صحيح، فإن معنى كبت أحزن، وأغاظ، وأذل، ومعنى كبد‏:‏ أصاب الكبد ‏{‏فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ‏}‏ أي‏:‏ غير ظافرين بمطلبهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئ‏}‏ جملة اعتراضية بين المعطوف، والمعطوف عليه، أي‏:‏ أن الله مالك أمرهم يصنع بهم ما يشاء من الإهلاك، أو الهزيمة، أو التوبة إن أسلموا، أو العذاب، فقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ‏}‏ عطف على قوله، أو يكبتهم، وقال الفراء‏:‏ إنّ «أو» بمعنى «إلا أن»، بمعنى ليس لك من الأمر شيء إلا أن يتوب عليهم، فتفرح بذلك، أو يعذبهم فتشفى بهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ كلام مستأنف لبيان سعة ملكه ‏{‏يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء‏}‏ أن يغفر له‏:‏ ‏{‏وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء‏}‏ أن يعذبه يفعل في ملكه ما يشاء، ويحكم ما يريد ‏{‏لاَّ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 23‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه، وتبشير لعباده بأنه المتصف بالمغفرة، والرحمة على وجه المبالغة، وما أوقع هذا التذييل الجليل وأحبه إلى قلوب العارفين بأسرار التنزيل‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق، والبيهقي في الدلائل عن ابن شهاب، وعاصم بن عمر بن قتادة، ومحمد بن يحيى بن حبان، والحصين بن عبد الرحمن بن أسعد بن معاذ قالوا‏:‏ كان يوم أحد يوم بلاء، وتمحيص، اختبر الله به المؤمنين، ومحق به المنافقين ممن كان يظهر الإسلام بلسانه، وهو مستخف بالكفر، ويوم أكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته‏.‏

وكان مما نزل من القرآن في يوم أحد ستون آية من آل عمران فيها صفة ما كان في يومه ذلك، ومعاتبة من عاتب منهم، يقول الله لنبيه‏:‏ ‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس ‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية قال‏:‏ يوم أحد‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏تُبَوّئ المؤمنين‏}‏ قال‏:‏ توطن‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن أن الآية في يوم الأحزاب‏.‏ وقد ورد في كتب السير، والتاريخ كيفية الاختلاف في المشورة على النبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد، فمن قائل نخرج إليهم، ومن قائل نبقى في المدينة، فخرج، وكان من جملة المشيرين عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين، كان رأيه البقاء في المدينة، والمقاتلة فيها، ثم لما خولف في رأيه انخذل بمن معه من المنافقين، وهم قدر الثلث من القوم الذين خرج بهم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما عن جابر قال‏:‏ فينا نزلت في بني حارثة، وبني سلمة‏:‏ ‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ‏}‏ وما يسرني أنها لم تنزل لقوله‏:‏ ‏{‏والله وَلِيُّهُمَا‏}‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ‏}‏ قال‏:‏ ذلك يوم أحد‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال‏:‏ هم بنو حارثة، وبنو سلمة‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد ‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ‏}‏ إلى ‏{‏ثلاثة آلاف مّنَ الملئكة مُنزَلِينَ‏}‏ في قصة بدر‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ‏}‏ يقول‏:‏ وأنتم قليل، وهم يومئذ بضعة عشر وثلاثمائة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الشعبي‏:‏ أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يمدّ المشركين فشق ذلك عليهم، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ ربكم بثلاثة آلاف‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مُسَوّمِينَ‏}‏ قال‏:‏ فبلغت كرزاً، فلم يمد المشركين، ولم يمدّ المسلمين بالخمسة‏.‏

وأخرج ابن جرير عن الشعبي لما كان يوم بدر بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحوه إلا أنه قال‏:‏ ‏{‏وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هذا‏}‏ يعني كرزاً، وأصحابه ‏{‏يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الملئكة مُسَوّمِينَ‏}‏ فبلغ كرزاً، وأصحابه الهزيمة، فلم يمدهم، ولم ينزل الخمسة، وأمدّوا بعد ذلك بألف، فهم أربعة آلاف‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في الآية قال‏:‏ أمدّوا بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف، وذلك يوم بدر‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ‏}‏ الآية، قال‏:‏ هذا يوم أحد، فلم يصبروا، ولم يتقوا، فلم يمدّوا يوم أحد، ولو أمدّوا لم ينهزموا يومئذ‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الضحاك نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هذا‏}‏ يقول‏:‏ من سفرهم هذا‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن عكرمة ‏{‏من فورهم‏}‏ قال‏:‏ من وجههم‏.‏ وأخرج ابن جرير عن الحسن، والربيع، وقتادة، والسديّ مثله، وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد من فورهم قال‏:‏ من غضبهم‏.‏ وأخرجا عن أبي صالح مولى أم هانئ مثله‏.‏ وأخرج الطبراني، وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس‏.‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏مُسَوّمِينَ‏}‏ قال‏:‏ معلّمين، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سوداء، ويوم أحد عمائم حمراء‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير‏:‏ أن الزبير كان عليه يوم بدر عمامة صفراء معتجراً بها، فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، والطبراني عن ابن عباس قال‏:‏ كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء، قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمراء، ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر، وكانوا يكونون عدداً، ومدداً لا يضربون‏.‏ وفي بيان التسويم عن السلف اختلاف كثير لا يتعلق به كثير فائدة‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ قال قطع الله يوم بدر طرفاً من الكفار، وقتل صناديدهم، ورءوسهم، وقادتهم في الشرّ‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم في قوله‏:‏ ‏{‏لِيَقْطَعَ طَرَفاً‏}‏ قال‏:‏ هذا يوم بدر قطع الله طائفة منهم، وبقيت طائفة‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن السديّ قال‏:‏ ذكر الله قتلى المشركين بأحد، وكانوا ثمانية عشر رجلاً، فقال‏:‏ ‏{‏لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ ثم ذكر الله الشهداء، فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أمواتا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 169‏]‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يَكْبِتَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ يحزنهم‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن قتادة، والربيع مثله‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما عن أنس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في وجهه حتى سال الدم، فقال‏:‏ «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم‏؟‏»

فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وقد روي هذا المعنى في روايات كثيرة‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ‏"‏ اللهم العن أبا سفيان، اللهمّ العن الحارث بن هشام، اللهمّ العن سهيل بن عمرو، اللهمّ العن صفوان بن أمية، ‏"‏ فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئ‏}‏»‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما أيضاً من حديث أبي هريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع‏:‏ ‏"‏ اللهمّ أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، ‏"‏ يجهر بذلك‏.‏ وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر‏:‏ ‏"‏ اللهمّ العن فلاناً، وفلاناً لأحياء من أحياء العرب، ‏"‏ حتى أنزل الله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئ‏}‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏ اللهم العن لحيان، ورعلا، وذكوان، وعصية عصت الله ورسوله، ‏"‏ ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزل قوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئ‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 136‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏130‏)‏ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏131‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏132‏)‏ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏133‏)‏ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏134‏)‏ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏135‏)‏ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ‏(‏136‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ قيل‏:‏ هو كلام مبتدأ للترهيب، والترغيب فيما ذكر؛ وقيل‏:‏ هو اعتراض بين أثناء قصة أحد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أضعافا مضاعفة‏}‏ ليس لتقييد النهي لما هو معلوم من تحريم الربا على كل حال، ولكنه جيء به باعتبار ما كانوا عليه من العادة التي يعتادونها في الربا، فإنهم كانوا يربون إلى أجل، فإذا حل الأجل زادوا في المال مقداراً يتراضون عليه، ثم يزيدون في أجل الدّين، فكانوا يفعلون ذلك مرّة بعد مرّة حتى يأخذ المربي أضعاف دينه الذي كان له في الابتداء؛ وأضعافاً حال، ومضاعفة نعت له، وفيه إشارة إلى تكرار التضعيف عاماً بعد عام، والمبالغة في هذه العبارة تفيد تأكيد التوبيخ‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين‏}‏ فيه الإرشاد إلى تجنب ما يفعله الكفار في معاملاتهم‏.‏ قال كثير من المفسرين‏:‏ وفيه أنه يكفر من استحلّ الربا، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ اتقوا الربا الذي ينزع منكم الإيمان، فتستوجبون النار، وإنما خصّ الربا في هذه الآية؛ لأنه الذي توعد الله عليه بالحرب منه لفاعله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَطِيعُواْ الله والرسول‏}‏ حذف المتعلق مشعر بالتعميم، أي‏:‏ في كل أمر، ونهي ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ راجين الرحمة من الله عز وجلّ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَسَارِعُواْ‏}‏ عطف على أطيعوا، وقرأ نافع، وابن عامر «سارعوا» بغير واو، وكذلك في مصاحف أهل المدينة، وأهل الشام، وقرأ الباقون بالواو‏.‏ قال أبو علي‏:‏ كلا الأمرين سائغ مستقيم‏.‏ والمسارعة‏:‏ المبادرة، وفي الآية حذف، أي‏:‏ سارعوا إلى ما يوجب المغفرة من الطاعات‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏عَرْضُهَا السموات والارض‏}‏ أي‏:‏ عرضها، كعرض السموات، والأرض، ومثله الآية الأخرى ‏{‏عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 21‏]‏ وقد اختلف في معنى ذلك، فذهب الجمهور إلى أنها تقرن السموات، والأرض بعضها إلى بعض، كما تبسط الثياب، ويوصل بعضها إلى بعض، فذلك عرض الجنة، ونبه بالعرض على الطول؛ لأن الغالب أن الطول يكون أكثر من العرض، وقيل‏:‏ إن هذا الكلام جاء على نهج كلام العرب من الاستعارة دون الحقيقة، وذلك أنها ما كانت الجنة من الاتساع، والانفساح في غاية قصوى، حسن التعبير عنها بعرض السموات، والأرض مبالغة؛ لأنهما أوسع مخلوقات الله سبحانه فيما يعلمه عباده، ولم يقصد بذلك التحديد‏.‏ والسراء‏:‏ اليسر، والضراء‏:‏ العسر‏.‏ وقد تقدّم تفسيرهما، وقيل السراء‏:‏ الرخاء، والضراء‏:‏ الشدّة، وهو مثل الأول، وقيل‏:‏ السراء في الحياة، والضراء بعد الموت‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏والكاظمين الغيظ‏}‏ يقال‏:‏ كظم غيظه‏:‏ أي‏:‏ سكت عليه، ولم يظهره، ومنه كظمت السقاء‏:‏ أي‏:‏ ملأته‏.‏ والكظامة‏:‏ ما يسد به مجرى الماء، وكظم البعير جرّته‏:‏ إذا ردّها في جوفه، وهو عطف على الموصول الذي قبله‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏والعافين عَنِ الناس‏}‏ أي‏:‏ التاركين عقوبة من أذنب إليهم، واستحق المؤاخذة، وذلك من أجل ضروب الخير وظاهره العفو عن الناس سواء كانوا من المماليك أم لا‏.‏

وقال الزجاج وغيره‏:‏ المراد بهم المماليك‏.‏ واللام في ‏{‏المحسنين‏}‏ يجوز أن تكون للجنس، فيدخل فيه كل محسن من هؤلاء، وغيرهم، ويجوز أن تكون للعهد، فيختص بهؤلاء، والأوّل أولى اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السياق، فيدخل تحته كل من صدر منه مسمى الإحسان، أيّ‏:‏ إحسان كان‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة‏}‏ هذا مبتدأ، وخبره ‏{‏أولئك‏}‏ وقيل‏:‏ معطوف على المتقين‏.‏ والأوّل أولى، وهؤلاء هم‏:‏ صنف دون الصنف الأوّل ملحقين بهم، وهم التوّابون، وسيأتي ذكر سبب نزولها، والفاحشة وصف لموصوف محذوف، أي‏:‏ فعلة فاحشة، وهي تطلق على كل معصية‏.‏ وقد كثر اختصاصها بالزنا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ باقتراف ذنب من الذنوب، وقيل‏:‏ «أو» بمعنى الواو‏.‏ والمراد ما ذكر، وقيل‏:‏ الفاحشة الكبيرة، وظلم النفس الصغيرة؛ وقيل غير ذلك‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ذَكَرُواْ الله‏}‏ أي‏:‏ بألسنتهم، أو أخطروه في قلوبهم، أو ذكروا وعده، ووعيده ‏{‏فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ طلبوا المغفرة لها من الله سبحانه، وتفسيره بالتوبة خلاف معناه لغة، وفي الاستفهام بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله‏}‏ من الإنكار مع ما يتضمنه من الدلالة على أنه المختص بذلك سبحانه دون غيره، أي‏:‏ لا يغفر جنس الذنوب أحد إلا الله، وفيه ترغيب لطلب المغفرة منه سبحانه، وتنشيط للمذنبين أن يقفوا في مواقف الخضوع، والتذلل، وهذه الجملة اعتراضية بين المعطوف، والمعطوف عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ‏}‏ عطف على فاستغفروا، أي‏:‏ لم يقيموا على قبيح فعلهم‏.‏ وقد تقدّم تفسير الإصرار‏.‏ والمراد به هنا‏:‏ العزم على معاودة الذنب، وعدم الإقلاع عنه بالتوبة منه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ جملة حالية، أي‏:‏ لم يصروا على فعلهم عالمين بقبحه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ‏}‏ الإشارة إلى المذكورين بقوله‏:‏ ‏{‏والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏جَزَآؤُهُمْ‏}‏ بدل اشتمال من اسم الإشارة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَغْفِرَةٌ‏}‏ خبر ‏{‏مِنْ رَّبِّهِمْ‏}‏ متعلق بمحذوف وقع صفة لمغفرة، أي‏:‏ كائنة من ربهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين‏}‏ المخصوص بالمدح محذوف، أي‏:‏ أجرهم، أو ذلك المذكور‏.‏ وقد تقدّم تفسير الجنات، وكيفية جري الأنهار من تحتها‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، قال‏:‏ كانوا يتبايعون إلى الأجل، فإذا جاء الأجل زادوا عليهم، وزادوا في الأجل، فنزلت‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن عطاء؛ قال‏:‏ كانت ثقيف تدين بني المغيرة في الجاهلية، وذكر نحوه‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن معاوية بن قرّة؛ قال‏:‏ كان الناس يتأوّلون هذه الآية‏:‏ ‏{‏واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين‏}‏‏:‏ اتقوا لا أعذبكم بذنوبكم في النار التي أعددتها للكافرين‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن عطاء بن أبي رباح قال‏:‏ قال المسلمون‏:‏ يا رسول الله أبنو إسرائيل كانوا أكرم على الله منا‏؟‏ كانوا إذا أذنب أحدهم ذنباً أصبح كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه اجدع أنفك اجدع أذنك افعل كذا وكذا، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت‏:‏ ‏{‏وَسَارِعُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن أنس بن مالك في تفسير‏:‏ ‏{‏وَسَارِعُواْ‏}‏ قال‏:‏ التكبيرة الأولى‏.‏ وأخرج ابن جرير من طريق السديّ عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏عَرْضُهَا السموات والأرض‏}‏ مثل ما ذكرناه سابقاً عن الجمهور‏.‏ وأخرج نحوه عنه سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق كريب‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏الذين يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء والضراء‏}‏

يقول‏:‏ في اليسر والعسر ‏{‏والكاظمين الغيظ‏}‏ يقول‏:‏ كاظمين على الغيظ‏.‏ وقد وردت أحاديث كثيرة‏.‏ في ثواب من كظم الغيظ‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن النخعي في الآية‏:‏ قال‏:‏ الظلم من الفاحشة، والفاحشة من الظلم‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والطبراني، وابن أبي الدنيا، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن مسعود قال‏:‏ إن في كتاب الله لآيتين ما أذنب عبد ذنباً، فقرأهما، فاستغفر الله إلا غفر له ‏{‏والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 110‏]‏‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن ثابت البُنَاني؛ قال‏:‏ بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية بكى ‏{‏والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج الحكيم الترمذي عن عطاف بن خالد قال‏:‏ بلغني أنه لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ‏}‏ صاح إبليس بجنوده، وحثا على رأسه التراب، ودعا بالويل والثبور، حتى جاءته جنوده من كل برّ، وبحر، فقالوا‏:‏ مالك يا سيدنا‏؟‏ قال‏:‏ آية نزلت في كتاب الله لا يضرّ بعدها أحداً من بني آدم ذنب، قالوا‏:‏ وما هي‏؟‏ فأخبرهم، قالوا نفتح لهم باب الأهواء، فلا يتوبون، ولا يستغفرون، ولا يرون إلا أنهم على الحق، فرضي منهم بذلك‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والحميدي، وعبد بن حميد، وأهل السنن الأربع، وحسنه النسائي، وابن حبان، والدارقطني في الإفراد، والبزار، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن السني، والبيهقي في الشعب، والضياء في المختارة عن أبي بكر الصديق سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «ما من رجل يذنب ذنباً، ثم يقوم عند ذكر ذنبه فيتطهر، ثم يصلى ركعتين، ثم يستغفر الله من ذنبه ذلك إلا غفر الله له،» ثم قرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة‏.‏

‏.‏‏.‏‏}‏ الآية وأخرج البيهقي في الشعب، عن الحسن مرفوعاً نحوه، ولكنه قال‏:‏ «ثم خرج إلى براز من الأرض فصلى»‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود، والترمذي، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب، عن أبي بكر الصديق قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يُصِرُّواْ‏}‏ فيسكتون، ولا يستغفرون‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل‏:‏ ‏{‏وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين‏}‏ قال‏:‏ أجر العاملين بطاعة الله الجنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏137- 148‏]‏

‏{‏قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏137‏)‏ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏138‏)‏ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏139‏)‏ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏140‏)‏ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ‏(‏141‏)‏ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ‏(‏142‏)‏ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏143‏)‏ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ‏(‏144‏)‏ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ‏(‏145‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ‏(‏146‏)‏ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏147‏)‏ فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏148‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ‏}‏ هذا رجوع إلى وصف باقي القصة‏.‏ والمراد بالسنن‏:‏ ما سنّه الله في الأمم من وقائعه، أي‏:‏ قد خلت من قبل زمانكم وقائع سنّها الله في الأمم المكذبة، وأصل السنن جمع سنة‏:‏ وهي الطريقة المستقيمة، ومنه قول الهذلي‏:‏

فَلا تَجْزَعَن مِنْ سُنَّة أنْتَ سِرْتَها *** فَأوّلُ راضٍ سُنَّةً مَن يَسيرها

والسنة‏:‏ الإمام المتبع المؤتمّ به، ومنه قول لبيد‏:‏

مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّت لَهُمْ آباؤُهُم *** وَلِكُلِ قَوْمِ سِنةٌ وإمامُ

والسنة‏:‏ الأمة، والسنن‏:‏ الأمم، قاله المفضل الضبي‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى في الآية‏:‏ أهل سنن، فحذف المضاف، والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فَسِيرُواْ‏}‏ سببية؛ وقيل‏:‏ شرطية، أي‏:‏ إن شككتم، فسيروا‏.‏ والعاقبة‏:‏ آخر الأمر، والمعنى‏:‏ سيروا، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، فإنهم خالفوا رسلهم بالحرص على الدنيا، ثم انقرضوا، فلم يبق من دنياهم التي آثروها أثر‏.‏ هذا قول أكثر المفسرين‏.‏ والمطلوب من هذا السير المأمور به هو‏:‏ حصول المعرفة بذلك، فإن حصلت بدونه، فقد حصل المقصود، وإن كان لمشاهدة الآثار زيادة غير حاصلة لمن لم يشاهدها، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ خَلَتْ‏}‏ وقال‏:‏ الحسن إلى القرآن‏:‏ ‏{‏بَيَانٌ لّلنَّاسِ‏}‏ أي‏:‏ تبيين لهم، وتعريف الناس للعهد، وهم المكذبون، أو للجنس، أي‏:‏ للمكذبين، وغيرهم‏.‏ وفيه حثّ على النظر في سوء عاقبة المكذبين، وما انتهى إليه أمرهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ‏}‏ أي‏:‏ هذا النظر مع كونه بياناً فيه هدى، وموعظة للمتقين من المؤمنين، فعطف الهدى، والموعظة على البيان يدل على التغاير، ولو باعتبار المتعلق، وبيانه أن اللام في الناس إن كانت للعهد، فالبيان للمكذبين، والهدى، والموعظة للمؤمنين، وإن كانت للجنس، فالبيان لجميع الناس مؤمنهم، وكافرهم، والهدى، والموعظة للمتقين وحدهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا‏}‏ عزاهم، وسلاهم بما نالهم يوم أحد من القتل، والجراح، وحثهم على قتال عدوهم، ونهاهم عن العجز، والفشل، ثم بين لهم أنهم الأعلون على عدوّهم بالنصر والظفر، وهي‏:‏ جملة حالية، أي‏:‏ والحال أنكم الأعلون عليهم، وعلى غيرهم بعد هذه الوقعة‏.‏ وقد صدق الله وعده، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وقعة أحد ظفر بعدوّه في جميع وقعاته؛ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ وأنتم الأعلوْن عليهم بما أصبتم منهم في يوم بدر، فإنه أكثر مما أصابوا منكم اليوم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَهِنُواْ‏}‏ وما بعده، أو بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ‏}‏ أي‏:‏ إن كنتم مؤمنين، فلا تهنوا، ولا تحزنوا، أو إن كنتم مؤمنين، فأنتم الأعلون‏.‏ والقرح بالضم، والفتح‏:‏ الجرح، وهما لغتان فيه، قاله الكسائي، والأخفش‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو‏:‏ بالفتح الجرح، وبالضم ألمه‏.‏ وقرأ محمد بن السَّمَيْفَع‏:‏ «قرح» بفتح القاف، والراء على المصدر‏.‏

والمعنى في الآية‏:‏ إن نالوا منكم يوم أحد، فقد نلتم منهم يوم بدر، فلا تهنوا لما أصابكم في هذا اليوم، فإنهم لم يهنوا لما أصابهم في ذلك اليوم، وأنتم أولى بالصبر منهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد بما أصاب المؤمنين والكافرين في هذا اليوم، فإن المسلمين انتصروا عليهم في الابتداء، فأصابوا منهم جماعة، ثم انتصر الكفار عليهم، فأصابوا منهم‏.‏ والأوّل أولى؛ لأن ما أصابه المسلمون من الكفار في هذا اليوم لم يكن مثل ما أصابوه منهم فيه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الايام‏}‏ أي‏:‏ الكائنة بين الأمم في حروبها، والآتية فيما بعد كالأيام الكائنة في زمن النبوّة؛ تارة تغلب هذه الطائفة، وتارة تغلب الأخرى، كما وقع لكم أيها المسلمون في يوم بدر، وأُحد، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس‏}‏ فقوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ‏}‏ مبتدأ، ‏{‏والأيام‏}‏ صفته، والخبر ‏{‏نداولها‏}‏، وأصل المداولة‏:‏ المعاورة، داولته بينهم‏:‏ عاورته‏.‏ والدولة‏:‏ الكرة، ويجوز أن تكون الأيام خبراً، ونداولها حالاً، والأوّل أولى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِيَعْلَمَ الله‏}‏ معطوف على علة مقدّرة كأنه قال‏:‏ نداولها بين الناس ليظهر أمركم وليعلم، أو يكون المعلل محذوفاً، أي‏:‏ ليعلم الله الذين اتقوا، فعلنا ذلك، وهو من باب التمثيل، أي‏:‏ فعلنا فعل من يريد أن يعلم لأنه سبحانه لم يزل عالماً، أو ليعلم الله الذين آمنوا بصبرهم علماً يقع عليه الجزاء، كما علمه علماً أزلياً ‏{‏وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء‏}‏ أي‏:‏ يكرمهم بالشهادة‏.‏ والشهداء جمع شهيد، سمي بذلك؛ لكونه مشهوداً له بالجنة، أو جمع شاهد لكونه، كالمشاهد للجنة، و‏"‏ من ‏"‏ للتبعيض، وهم شهداء أحد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والله لاَ يُحِبُّ الظالمين‏}‏ جملة معترضة بين المعطوف، والمعطوف عليه لتقرير مضمون ما قبله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِيُمَحّصَ الله الذين ءامَنُواْ‏}‏ من جملة العلل معطوف على ما قبله‏.‏ والتمحيص‏:‏ الاختبار‏.‏ وقيل‏:‏ التطهير على حذف مضاف، أي‏:‏ ليمحص ذنوب الذين آمنوا، قاله الفراء، وقيل‏:‏ يمحص‏:‏ يخلص، قاله الخليل، والزجاج، أي‏:‏ ليخلص المؤمنين من ذنوبهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَمْحَقَ الكافرين‏}‏ أي‏:‏ يستأصلهم بالهلاك، وأصل التمحيق‏:‏ محو الآثار، والمحق‏:‏ نقصها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة‏}‏ كلام مستأنف لبيان ما ذكر من التمييز، وأم هي المنقطعة، والهمزة للإنكار، أي‏:‏ بل أحسبتم، والواو في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا يَعْلَمِ الله‏}‏ واو الحال‏.‏ والجملة حالية، وفيه تمثيل كالأوّل، أو علم يقع عليه الجزاء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَِيَعْلَمَ الصابرين‏}‏ منصوب بإضمار ‏"‏ أن ‏"‏، كما قال الخليل، وغيره على أن الواو للجمع‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ‏"‏ الواو ‏"‏ بمعنى ‏"‏ حتى ‏"‏، وقرأ الحسن، ويحيى بن يعمر‏:‏ «ويعلم الصابرين» بالجزم عطفاً على ‏{‏وَلَمَّا يَعْلَمِ‏}‏ وقريء بالرفع على القطع، وقيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا يَعْلَمِ‏}‏ كناية عن نفي المعلوم، وهو‏:‏ الجهاد والمعنى‏:‏ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد، والصبر، أي‏:‏ الجمع بينهما، ومعنى ‏"‏ لَمّا ‏"‏ معنى‏:‏ «لم» عند الجمهور، وفرّق سيبويه بينهما، فجعل ‏"‏ لم ‏"‏ لنفي الماضي، و‏"‏ لما ‏"‏ لنفي الماضي والمتوقع‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت‏}‏ هو خطاب لمن كان يتمنى القتال، والشهادة في سبيل الله ممن لم يحضر يوم بدر، فإنهم كانوا يتمنون يوماً يكون فيه قتال، فلما كان يوم أحد انهزموا مع أنهم الذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج، ولم يصبر منهم إلا نفر يسير مثل أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ‏}‏ أي‏:‏ القتال، أو الشهادة التي هي سبب الموت‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ «من قبل أن تلاقوه» وقد ورد النهي عن تمني الموت، فلا بدّ من حمله هنا على الشهادة‏.‏ قال القرطبي‏:‏ وتمني الموت من المسلمين يرجع إلى تمني الشهادة المبنية على الثبات، والصبر على الجهاد لا إلى قتل الكفار لهم؛ لأنه معصية وكفر، ولا يجوز إرادة المعصية، وعلى هذا يحمل سؤال المسلمين من الله أن يرزقهم الشهادة، فيسألون الصبر على الجهاد، وإن أدّى إلى القتل‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ‏}‏ أي‏:‏ القتال، أو ما هو سبب للموت، ومحل قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ‏}‏ النصب على الحال، وقيد الرؤية بالنظر مع اتحاد معناهما للمبالغة، أي‏:‏ قد رأيتموه معاينين له حين قتل من قتل منكم‏.‏ قال الأخفش‏:‏ إن التكرير بمعنى التأكيد مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ وقيل معناه‏:‏ بصراء ليس في أعينكم علل، وقيل معناه‏:‏ وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل‏}‏‏.‏ سبب نزول هذه ما سيأتي من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصيب في يوم أُحد صاح الشيطان قائلاً‏:‏ قد قتل محمد، ففشل بعض المسلمين، حتى قال قائل‏:‏ قد أصيب محمد، فأعطوا بأيديكم، فإنما هم إخوانكم، وقال آخر‏:‏ لو كان رسولاً ما قتل، فردّ الله عليهم ذلك، وأخبرهم بأنه رسول قد خلت من قبله الرسل، وسيخلو، كما خلوا، فجملة قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل‏}‏ صفة لرسول‏.‏ والقصر قصر إفراد، كأنهم استبعدوا هلاكه، فأثبتوا له صفتين‏:‏ الرسالة، وكونه لا يهلك، فردّ الله عليهم ذلك بأنه رسول لا يتجاوز ذلك إلى صفة عدم الهلاك، وقيل‏:‏ هو‏:‏ قصر قلب‏.‏ وقرأ ابن عباس‏:‏ «قد خلت من قبل رسل» ثم أنكر الله عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم‏}‏ أي‏:‏ كيف ترتدّون، وتتركون دينه إذا مات، أو قتل مع علمكم أن الرسل تخلو، ويتمسك أتباعهم بدينهم، وإن فقدوا بموت، أو قتل، وقيل‏:‏ الإنكار لجعلهم خلوّ الرسل قبله سبباً لانقلابهم بموته، أو قتله، وإنما ذكر القتل مع علمه سبحانه أنه لا يقتل؛ لكونه مجوّزاً عند المخاطبين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ بإدباره عن القتال، أو بارتداده عن الإسلام ‏{‏فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً‏}‏ من الضرر، وإنما يضرّ نفسه ‏{‏وَسَيَجْزِى الله الشاكرين‏}‏ أي‏:‏ الذين صبروا، وقاتلوا، واستشهدوا؛ لأنهم بذلك شكروا نعمة الله عليهم بالإسلام، ومن امتثل ما أمر به، فقد شكر النعمة التي أنعم الله بها عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ هذا كلام مستأنف يتضمن الحثّ على الجهاد، والاعلام بأن الموت لا بدّ منه‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏بِإِذُنِ الله‏}‏ بقضاء الله، وقدره، وقيل‏:‏ إن هذه الجملة متضمنة للإنكار على من فشل بسبب ذلك الإرجاف بقتله صلى الله عليه وسلم، فبين لهم أن الموت بالقتل، أو بغيره منوط بإذن الله، وإسناده إلى النفس مع كونها غير محتارة له للإيذان بأنه لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كتابا‏}‏ مصدر مؤكد لما قبله؛ لأن معناه كتب الله الموت كتاباً‏.‏ والمؤجل‏:‏ المؤقت الذي لا يتقدّم على أجله، ولا يتأخر‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يُرِدِ‏}‏ أي‏:‏ بعمله ‏{‏ثَوَابَ الدنيا‏}‏ كالغنيمة، ونحوها، واللفظ يعمّ كل ما يسمى ثواب الدنيا، وإن كان السبب خاصاً ‏{‏نُؤْتِهِ مِنْهَا‏}‏ أي‏:‏ من ثوابها على حذف المضاف ‏{‏وَمَن يُرِدِ‏}‏ بعمله ‏{‏ثَوَابَ الأخرة‏}‏ وهو الجنة نؤته من ثوابها، وتضاعف له الحسنات أضعافاً كثيرة ‏{‏وَسَنَجْزِى الشاكرين‏}‏ بامتثال ما أمرناهم به كالقتال، ونهيناهم عنه كالفرار، وقبول الإرجاف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَأَيّن‏}‏ قال الخليل، وسيبويه‏:‏ هي، ‏"‏ أي ‏"‏ دخلت عليها كاف التشبيه، وثبتت معها، فصارت بعد التركيب بمعنى ‏"‏ كم ‏"‏، وصوّرت في المصحف ‏"‏ نوناً ‏"‏، لأنها كلمة نقلت عن أصلها، فغير لفظها لتغيير معناها، ثم كثر استعمالها، فتصرّفت فيها العرب بالقلب، والحذف، فصار فيها أربع لغات قريء بها‏:‏ أحدها‏:‏ كائن مثل كاعن، وبها قرأ ابن كثير، ومثله قول الشاعر‏:‏

وَكَائِن بِالأبَاطِح مِن صَديق *** يراني لَوْ أصِبْتُ هو المُصَابَا

وقال آخر‏:‏

وَكائِن رَدَدْنا عنكم مِن مُدَجَّج *** يجيءُ أمَامَ الرَّكْب يَرِدْى مُقَنَّعا

وقال زهير‏:‏

وَكَائِنُ تَرى مِن مُعْجَبٍ لَكَ شَخْصه *** زَيَادته أوْ نَقْصه فِي التَّكلُمِ

‏{‏وكأين‏}‏ بالتشديد مثل كعين، وبه قرأ الباقون، وهو الأصل‏.‏ والثالثة‏:‏ كأين مثل كعين مخففاً‏.‏ والرابعة كيئن بياء بعدها همزة مكسورة، ووقف أبو عمرو بغير نون، فقال كأي‏:‏ لأنه تنوين، ووقف الباقون بالنون‏.‏ والمعنى‏:‏ كثير من الأنبياء قتل معه ربيون قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب ‏"‏ قتل ‏"‏ على البناء للمجهول، وهي قراءة ابن عباس، واختارها أبو حاتم، وفيه وجهان‏:‏ أحدهما أن يكون في «قتل» ضمير يعود إلى النبيّ، وحينئذ يكون قوله‏:‏ ‏{‏مَعَهُ رِبّيُّونَ‏}‏ جملة حالية، كما يقال‏:‏ قتل الأمير معه جيش، أي‏:‏ ومعه جيش، والوجه الثاني‏:‏ أن يكون القتل، واقعاً على ربيون، فلا يكون في قتل ضمير، والمعنى‏:‏ قتل بعض أصحابه، وهم الربيون‏.‏

وقرأ الكوفيون، وابن عامر‏:‏ ‏{‏قاتل‏}‏ وهي قراءة ابن مسعود، واختارها أبو عبيد، وقال‏:‏ إن الله إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلاً فيه، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه من قاتل، ولم يقتل، فقاتل أعمّ، وأمدح، ويرجح هذه القراءة الأخرى‏.‏ والوجه الثاني من القراءة الأولى قول الحسن‏:‏ ما قتل نبيّ في حرب قط، وكذا قال سعيد بن جبير، ‏"‏ والربيون ‏"‏ بكسر الراء قراءة الجمهور، وقرأ عليّ بضمها، وابن عباس بفتحها، وواحده ربي بالفتح منسوب إلى الرب، والربى بضم الراء، وكسرها منسوب إلى الربة بكسر الراء، وضمها، وهي الجماعة، ولهذا، فسرهم جماعة من السلف بالجماعات الكثيرة، وقيل‏:‏ هم الأتباع؛ وقيل‏:‏ هم العلماء‏.‏ قال الخليل‏:‏ الربي الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء، وهم الربانيون نسبوا إلى التأله، والعبادة، ومعرفة الربوبية‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الربيون بالضم‏:‏ الجماعات‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا وَهَنُواْ‏}‏ عطف على قاتل، أو قتل‏.‏ والوهن‏:‏ انكسار الجدّ بالخوف‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ «وهنوا» بكسر الهاء، وضمها‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ لغتان وهن الشيء يهن، وهناً‏:‏ ضعف، أي‏:‏ ما وهنوا لقتل نبيهم، أو لقتل من قتل منهم‏.‏ ‏{‏وما ضعفوا‏}‏ أي‏:‏ عن عدوّهم ‏{‏وَمَا استكانوا‏}‏ لما أصابهم في الجهاد‏.‏ والاستكانة‏:‏ الذلة، والخضوع، وقريء‏:‏ «وما وهنوا وما ضعفوا» بإسكان الهاء، والعين‏.‏ وحكى الكسائي ‏"‏ ضعفوا ‏"‏ بفتح العين، وفي هذا توبيخ لمن انهزم يوم أُحد، وذلّ، واستكان، وضعف بسبب ذلك الإرجاف الواقع من الشيطان، ولم يصنع، كما صنع أصحاب من خلا من قبلهم من الرسل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ قول أولئك الذين كانوا مع الأنبياء إلا هذا القول، وقولهم منصوب على أنه خبر كان‏.‏ وقرأ ابن كثير، وعاصم في رواية عنهما برفع قولهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن قَالُواْ‏}‏ استثناء مفرغ‏:‏ أي‏:‏ ما كان قولهم عند أن قتل منهم ربانيون، أو قتل نبيهم‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا‏}‏ قيل‏:‏ هي الصغائر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا‏}‏ قيل‏:‏ هي الكبائر، والظاهر أن الذنوب تعم كل ما يسمى ذنباً من صغيرة، أو كبيرة، والإسراف ما فيه مجاوزة للحدّ، فهو من عطف الخاص على العام، قالوا ذلك مع كونهم ربانيين هضماً لأنفسهم ‏{‏وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا‏}‏ في مواطن القتال‏:‏ ‏{‏فاتاهم الله‏}‏ بسبب ذلك ‏{‏ثَوَابَ الدنيا‏}‏ من النصر، والغنيمة، والعزة، ونحوها ‏{‏وَحُسْنَ ثَوَابِ الأخرة‏}‏ من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي‏:‏ ثواب الآخرة الحسن، وهو نعيم الجنة، جعلنا الله من أهلها‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ‏}‏ قال‏:‏ تداول من الكفار، والمؤمنين في الخير، والشرّ‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة في كتاب المصاحف عن سعيد بن جبير قال‏:‏ أوّل ما نزل من آل عمران، ‏{‏هذا بَيَانٌ لّلنَّاسِ‏}‏ ثم أنزل بقيتها يوم أحد‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏هذا بَيَانٌ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة نحوه، وأخرج ابن جرير، من طريق العوفي، عن ابن عباس قال‏:‏ أقبل خالد بن الوليد يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهم لا يعلون علينا» فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج قال‏:‏ انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب يوم أحد، فسألوا ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وما فعل فلان، فنعى بعضهم لبعض، وتحدّثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فكانوا في همّ وحزن، فبينما هم كذلك علا خالد بن الوليد بخيل المشركين، فوقهم على الجبل، وكانوا على أحد مجنبتي المشركين، وهم أسفل من الشعب، فلما رأوا النبي فرحوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهم لا قوّة لنا إلا بك، وليس أحد يعبدك بهذا البلد غير هؤلاء النفر، فلا تهلكهم» وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا، فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله، وعلا المسلمون الجبل، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك ‏{‏وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ‏}‏ قال‏:‏ وأنتم الغالبون‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ‏}‏ قال‏:‏ جراح وقتل‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مّثْلُهُ‏}‏ قال‏:‏ إن يقتل منكم يوم أحد، فقد قتل منهم يوم بدر‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس‏}‏ قال‏:‏ كان يوم أحد بيوم بدر‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، من طريق ابن جريج، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الأيام‏}‏ الآية، قال‏:‏ أدال المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وبلغني أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد بضعة وسبعين عدد الأسارى الذين أسروا يوم بدر من المشركين، وكان عدد الأسارى يوم بدر ثلاثة وسبعين رجلاً‏.‏ وأخرج ابن جريج، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء‏}‏ قال‏:‏ إن المسلمين كانوا يسألون ربهم‏:‏ اللهمّ ربنا أرنا يوماً، كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونبليك فيه خيراً، ونلتمس فيه الشهادة، فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ منهم شهداء‏.‏

وأخرجا عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِيُمَحّصَ الله الذين ءامَنُواْ‏}‏ قال‏:‏ يبتليهم ‏{‏وَيَمْحَقَ الكافرين‏}‏ قال‏:‏ ينقصهم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق العوفي عنه أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون‏:‏ ليتنا نقتل، كما قتل أصحاب بدر، ونستشهد، أو ليت لنا يوماً كيوم بدر نقاتل فيه المشركين، ونبلي فيه خيراً، ونلتمس الشهادة، والجنة، والحياة، والرزق، فأشهدهم الله أحداً، فلم يثبتوا إلا من شاء الله منهم‏.‏ فقال الله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج ابن المنذر عن كليب قال‏:‏ خطبنا عمر بن الخطاب، فكان يقرأ على المنبر آل عمران ويقول‏:‏ إنها أحدية، ثم قال‏:‏ تفرقنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فصعدت الجبل فسمعت يهودياً يقول‏:‏ قتل محمد، فقلت‏:‏ لا أسمع أحداً يقول‏:‏ قتل محمد إلا ضربت عنقه، فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يتراجعون إليه، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال‏:‏ نادى مناد يوم أحد ألا إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأوّل، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل‏}‏‏.‏ وأخرج أيضاً عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج أيضاً عن عليّ في قوله‏:‏ ‏{‏وَسَيَجْزِى الله الشاكرين‏}‏ قال‏:‏ الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه، فكان عليّ يقول‏:‏ كان أبو بكر أمير الشاكرين‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم عنه أنه كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله يقول‏:‏ ‏{‏أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم‏}‏ والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، والله لئن مات أو قتل لأقاتلنّ على ما قتل عليه حتى أموت‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏رِبّيُّونَ‏}‏ قال‏:‏ ألوف‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور عن الضحاك قال‏:‏ الربة الواحدة ألف‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏رِبّيُّونَ‏}‏ قال‏:‏ جموع‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه قال‏:‏ علماء كثير‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا استكانوا‏}‏ قال‏:‏ تخشعوا‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا‏}‏ قال‏:‏ خطايانا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏149- 153‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ‏(‏149‏)‏ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ‏(‏150‏)‏ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ‏(‏151‏)‏ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏152‏)‏ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏153‏)‏‏}‏

لما أمر الله سبحانه بالاقتداء بمن تقدّم من أنصار الأنبياء حذر عن طاعة الكفار، وهم مشركو العرب؛ وقيل اليهود والنصارى‏.‏ وقيل‏:‏ المنافقون في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة‏:‏ ارجعوا إلى دين آبائكم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم‏}‏ أي يخرجوكم من دين الإسلام إلى الكفر ‏{‏فَتَنقَلِبُواْ خاسرين‏}‏ أي ترجعوا مغبونين‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بَلِ الله مولاكم‏}‏ إضراب عن مفهوم الجملة الأولى‏:‏ أي إن تطيعوا الكافرين يخذلوكم ولا ينصروكم بل الله ناصركم لا غيره؛ وقريء‏:‏ «بل الله» بالنصب على تقدير بل أطيعوا الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏سَنُلْقِى‏}‏ قرأ السَّخْتِيَانّي بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالنون‏.‏ وقرأ ابن عامر، والكسائي‏:‏ ‏"‏ الرعب ‏"‏ بضم العين‏.‏ وقرأ الباقون بالسكون، وهما لغتان، يقال‏:‏ رَعَبْتُه رُعباً، ورُعُباً، فهو مرعُوب، ويجوز أن يكون مصدراً، والرعب بالضم‏:‏ الاسم، وأصله المَلء، يقال‏:‏ سْيل راعب، أي‏:‏ يملأ الوادي، ورعبت الحوض‏:‏ ملأته، فالمعنى‏:‏ سنملأ قلوب الكافرين رعباً، أي‏:‏ خوفاً، وفزعاً، والإلقاء يستعمل حقيقة في الأجسام، ومجازاً في غيرها، كهذه الآية، وذلك أن المشركين بعد وقعة أحد ندموا أن لا يكونوا استأصلوا المسلمين، وقالوا‏:‏ بئسما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم؛ ارجعوا، فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا، عما هموا به‏:‏ ‏{‏بِمَا أَشْرَكُواْ بالله‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏سَنُلْقِى‏}‏ و‏"‏ ما ‏"‏ مصدرية، أي‏:‏ بسبب إشراكهم ‏{‏مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا‏}‏ أي‏:‏ ما لم ينزل الله بجعله شريكاً له حجة، وبياناً، وبرهاناً، والنفي يتوجه إلى القيد، والمقيد، أي‏:‏ لا حجة، ولا إنزال، والمعنى‏:‏ أن الإشراك بالله لم يثبت في شيء من الملل‏.‏ والمثوى‏:‏ المكان الذي يقام فيه، يقال ثوى يثوي ثواءً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ‏}‏ نزلت لما قال بعض المسلمين من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله النصر، وذلك أنه كان الظفر لهم في الابتداء، حتى قتلوا صاحب لواء المشركين، وتسعة نفر بعده؛ فلما اشتغلوا بالغنيمة، وترك الرماة مركزهم طلباً للغنيمة كان ذلك سبب الهزيمة‏.‏ والحسّ‏:‏ الاستئصال بالقتل، قاله أبو عبيد‏.‏ يقال‏:‏ جراد محسوس‏:‏ إذا قتله البرد، وسنة حسوس‏:‏ أي‏:‏ جدبة تأكل كل شيء‏.‏ قيل‏:‏ وأصله من الحسّ الذي هو الإدراك بالحاسة، فمعنى حسه‏:‏ أذهب حسه بالقتل، وتحسونهم‏:‏ تقتلونهم، وتستأصلونهم، قال الشاعر‏:‏

حسسناهم بالسيف حسَّاً فأصْبَحت *** بِقيَّتهُم قد شُرِّدوا وتَبَدَّدوا

وقال جرير‏:‏

تَحُسَّهُم السّيوفُ كما تسامىَ *** حَرِيقُ النَّارِ في الأجِمِ الحَصِيدِ

‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ أي‏:‏ بعلمه، أو بقضائه ‏{‏حتى إِذَا فَشِلْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ جبنتم وضعفتم، قيل‏:‏ جواب حتى محذوف تقديره امتحنتم، وقال الفراء‏:‏ جواب حتى قوله‏:‏ ‏{‏وتنازعتم‏}‏ والواو مقحمة زائدة، كقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ‏}‏

‏[‏الصافات‏:‏ 103‏]‏ وقال أبو علي‏:‏ يجوز أن يكون الجواب صرفكم عنهم، وقيل‏:‏ فيه تقديم وتأخير، أي‏:‏ حتى إذا تنازعتم، وعصيتم فشلتم‏.‏ وقيل‏:‏ إن الجواب عصيتم، والواو مقحمة‏.‏ وقد جوّز الأخفش مثله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 118‏]‏، وقيل‏:‏ ‏"‏ حتى ‏"‏ بمعنى ‏"‏ إلى ‏"‏، وحينئذ لا جواب لها، والتنازع المذكور هو ما وقع من الرماة حين قال بعضهم‏:‏ نلحق الغنائم، وقال بعضهم‏:‏ نثبت في مكاننا، كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ‏}‏ ما وقع لهم من النصر في الابتداء في يوم أحد، كما تقدّم‏:‏ ‏{‏مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا‏}‏ يعني‏:‏ الغنيمة ‏{‏وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الأخرة‏}‏ أي‏:‏ الأجر بالبقاء في مراكزهم امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ردّكم الله عنهم بالانهزام بعد أن استوليتم عليهم ليمتحنكم ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ‏}‏ لما علم من ندمكم، فلم يستأصلكم بعد المعصية، والمخالفة، والخطاب لجميع المنهزمين، وقيل‏:‏ للرماة فقط‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏صَرَفَكُمْ‏}‏ أو بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ‏}‏ أو بقوله‏:‏ ‏{‏لِيَبْتَلِيَكُمْ‏}‏ وقرأه الجمهور بضمّ التاء، وكسر العين، وقرأ أبو رجاء العطاردي، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وقتادة بفتح التاء، والعين‏.‏ وقرأ ابن محيصن، وقنبل‏:‏ «يصعدون» بالتحتية‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ أصعدت‏:‏ إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل، فالإصعاد‏:‏ السير في مستوى الأرض، وبطون الأودية، والصعود‏:‏ الارتفاع على الجبال، والسطوح، والسلالم، والدرج، فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل بعد إصعادهم في الوادي، فيصح المعنى على القراءتين‏.‏ وقال القتيبي‏:‏ أصعد‏:‏ إذا أبعد في الذهاب، وأمعن فيه، ومنه قول الشاعر‏:‏

ألا أيها ذا السَائِلي أيْنَ أصْعدت *** فِإنَ لَها من بَطِن يَثرِبَ مَوْعِدا

وقال الفراء‏:‏ الإصعاد‏:‏ الابتداء في السفر، والانحدار‏:‏ الرجوع منه، يقال‏:‏ أصعدنا من بغداد إلى مكة، وإلى خراسان، وأشباه ذلك‏:‏ إذا خرجنا إليها، وأخذنا في السفر، وانحدرنا‏:‏ إذا رجعنا‏.‏ وقال المفضل‏:‏ صعد، وأصعد بمعنى واحد‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏تَلْوُونَ‏}‏ تعرجون، وتقيمون، أي‏:‏ لا يلتفت بعضكم إلى بعض هرباً، فإن المعرج إلى الشيء يلوي إليه عنقه أو عنق دابته‏:‏ ‏{‏على أَحَدٍ‏}‏ أي‏:‏ على أحد ممن معكم، وقيل‏:‏ على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ «تلون» بواو واحدة، وقرأ عاصم في رواية عنه بضم التاء، وهي لغة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏والرسول يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ‏}‏ أي‏:‏ في الطائفة المتأخرة منكم، يقال جاء فلان في آخر الناس، وآخرة الناس، وأخرى الناس، وأخريات الناس‏.‏ وكان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أي عباد الله ارجعوا ‏"‏ قوله‏:‏ ‏{‏فأثابكم‏}‏ عطف على صرفكم، أي‏:‏ فجازاكم الله غماً حين صرفكم عنه بسبب غمّ أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم، أو غماً موصولاً بغمّ بسبب ذلك الإرجاف، والجرح، والقتل، وظفر المشركين، والغمّ في الأصل‏:‏ التغطية، غميت الشيء‏:‏ غطيته، ويوم غمّ، وليلة غمة‏:‏ إذا كانا مظلمين، ومنه‏:‏ غمّ الهلال، وقيل‏:‏ الغمّ الأول‏:‏ الهزيمة، والثاني‏:‏ الإشراف من أبي سفيان، وخالد بن الوليد عليهم في الجبل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ‏}‏ اللام متعلقة بقوله‏:‏ ‏{‏فأثابكم‏}‏ أي‏:‏ هذا الغمّ بعد الغمّ لكيلا تحزنوا على ما فات من الغنيمة، ولا ما أصابكم من الهزيمة، تمريناً لكم على المصائب، وتدريباً لاحتمال الشدائد‏.‏ وقال المفضل‏:‏ معنى‏:‏ ‏{‏لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ‏}‏ لكي تحزنوا، و«لا» زائدة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏ أي‏:‏ أن تسجد، وقوله‏:‏ ‏{‏لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 29‏]‏ أي‏:‏ ليعلم‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج في قوله‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ‏}‏ قال‏:‏ لا تنتصحوا اليهود، والنصارى على دينكم، ولا تصدقوهم بشيء في دينكم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ يقول‏:‏ إن تطيعوا أبا سفيان بن حرب يردّكم كفاراً‏.‏ وأخرج ابن جرير، عنه في قوله‏:‏ ‏{‏سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب‏}‏ نحو ما قدّمناه في سبب نزول الآية‏.‏ وأخرج البيهقي في الدلائل عن عروة في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ‏}‏ قال‏:‏ كان الله وعدهم على الصبر، والتقوى أن يمدّهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، وكان قد فعل، فلما عصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركوا مصافهم، وتركت الرماة عهد الرسول إليهم أن لا يبرحوا منازلهم، وأرادوا الدنيا رفع عنهم مدد الملائكة‏.‏ وقصة أحد مستوفاة في السير، والتواريخ، فلا حاجة إلى إطالة الشرح هنا‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن عبد الرحمن بن عوف في قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ تَحُسُّونَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ الحسّ‏:‏ القتل‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه‏.‏ قال‏:‏ الفشل‏:‏ الجبن‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن البراء بن عازب في قوله‏:‏ ‏{‏مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ‏}‏ قال‏:‏ الغنائم، وهزيمة القوم‏.‏ وأخرج ابن جرير عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ‏}‏ قال‏:‏ يقول الله‏:‏ قد عفوت عنكم أن لا أكون استأصلتكم‏.‏ وأخرج أيضاً عن ابن جرير نحوه‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ‏}‏ قال‏:‏ أصعدوا في أحُد فراراً، والرسول يدعوهم في أخراهم‏:‏ «إليّ عباد الله ارجعوا إليّ عباد الله ارجعوا» وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف‏:‏ ‏{‏فأثابكم غَمّاً بِغَمّ‏}‏ قال‏:‏ الغمّ الأوّل بسبب الهزيمة، والثاني‏:‏ حين قيل‏:‏ قتل محمد، وكان ذلك عندهم أعظم من الهزيمة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏غَمّاً بِغَمّ‏}‏ قال‏:‏ فرّة بعد الفرّة الأولى حين سمعوا الصوت أن محمداً قد قتل‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم قال‏:‏ الغم الأوّل‏:‏ الجراح والقتل، والغم الآخر‏:‏ حين سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الربيع مثله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏154- 155‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏154‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏155‏)‏‏}‏

الأمنة، والأمن سواء، وقيل‏:‏ الأمنة إنما تكون مع أسباب الخوف، والأمن مع عدمه، وهي منصوبة بأنزل‏.‏ و‏{‏نعاساً‏}‏ بدل منها، أو عطف بيان، أو مفعول له، وأما ما قيل‏:‏ من أن ‏{‏أمنة‏}‏ حال من ‏{‏نعاساً‏}‏ مقدّمة عليه، أو حال من المخاطبين، أو مفعول له، فبعيد‏.‏ وقرأ ابن محيصن‏:‏ «أمنه» بسكون الميم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏يغشى‏}‏ قريء بالتحتية على أن الضمير للنعاس، وبالفوقية على أن الضمير لأمنة، والطائفة‏:‏ تطلق على الواحد، والجماعة، والطائفة الأولى‏:‏ هم المؤمنون الذين خرجوا للقتال طلباً للأجر، والطائفة الأخرى هم‏:‏ مُعَتِّب بن قشير، وأصحابه، وكانوا خرجوا طمعاً في الغنيمة، وجعلوا يناشدون على الحضور، ويقولون الأقاويل‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ‏}‏ حملتهم على الهمّ، أهمني الأمر‏:‏ أقلقني، والواو في قوله‏:‏ ‏{‏وَطَائِفَةٌ‏}‏ للحال، وجاز الابتداء بالنكرة لاعتمادها على واو الحال، وقيل‏:‏ إن معنى ‏{‏أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ‏}‏ صارت همهم لا همّ لهم غيرها‏.‏ ‏{‏يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق‏}‏ هذه الجملة في محل نصب على الحال، أي‏:‏ يظنون بالله غير الحق الذي يجب أن يظن به، وظنّ الجاهلية بدل منه‏.‏ وهو‏:‏ الظنّ المختص بملة الجاهلية، أو ظن أهل الجاهلية، وهو ظنهم أن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم باطل، وأنه لا ينصر، ولا يتمّ ما دعا إليه من دين الحق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ بدل من «يظنون»، أي‏:‏ يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَئ‏}‏ أي‏:‏ هل لنا من أمر الله نصيب، وهذا الاستفهام معناه الجحد، أي‏:‏ ما لنا شيء من الأمر‏.‏ وهو النصر والاستظهار على العدوّ، وقيل‏:‏ هو الخروج، أي‏:‏ إنما خرجنا مكرهين، فردّ الله سبحانه ذلك عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ‏}‏ وليس لكم، ولا لعدوّكم منه شيء، فالنصر بيده، والظفر منه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم‏}‏ أي‏:‏ يضمرون في أنفسهم النفاق، ولا يبدون لك ذلك، بل يسألونك سؤال المسترشدين‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئ مَّا قُتِلْنَا هاهنا‏}‏ استئناف، كأنه قيل‏:‏ ما هو الأمر الذي يخفون في أنفسهم‏؟‏ فقيل‏:‏ يقولون فيما بينهم، أو في أنفسهم ‏{‏لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئ مَّا قُتِلْنَا هاهنا‏}‏ أي‏:‏ ما قتل من قتل منا في هذه المعركة، فردّ الله سبحانه ذلك عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ لو كنتم قاعدين في بيوتكم لم يكن بدّ من خروج من كتب عليه القتل إلى هذه المصارع التي صرعوا فيها، فإن قضاء الله لا يردّ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا فِى صُدُورِكُمْ‏}‏ علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل له أخرى مطوية للإيذان بكثرتها، كأنه قيل‏:‏ فعل ما فعل لمصالح جمة ‏{‏وَلِيَبْتَلِىَ‏}‏ الخ، وقيل‏:‏ إنه معطوف على علة مطوية لبرز، والمعنى‏:‏ ليمتحن ما في صدوركم من الإخلاص، وليمحص ما في قلوبكم من وساوس الشيطان‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان‏}‏ أي‏:‏ انهزموا يوم أحد، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ إن الذين تولوا المشركين يوم أحد‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا استزلهم الشيطان‏}‏ استدعى زللهم بسبب بعض ما كسبوا من الذنوب التي منها مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ‏}‏ لتوبتهم، واعتذارهم‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ أمنهم الله يومئذ بنعاس غشاهم، وإنما ينعس من يأمن‏.‏ وقد ثبت في صحيح البخاري، وغيره أن أبا طلحة قال‏:‏ غشينا، ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج الترمذي وصححه، وابن جرير، وأبو الشيخ، والبيهقي في الدلائل، عن الزبير بن العوّام؛ قال‏:‏ رفعت رأسي يوم أحد، فجعلت انظر، وما منهم من أحد إلا وهو يميل تحت جحفته من النعاس، وتلا هذه الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن جريج قال‏:‏ إن المنافقين قالوا لعبد الله بن أبيّ، وكان سيد المنافقين‏:‏ قتل اليوم بنو الخزرج، فقال‏:‏ وهل لنا من الأمر شيء‏؟‏ أما، والله لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن قتادة والربيع في قوله‏:‏ ‏{‏ظَنَّ الجاهلية‏}‏ قال‏:‏ ظنّ أهل الشرك‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ معتب هو الذي قال يوم أحد‏:‏ لو كان لنا من الأمر شيء‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن أن الذي قال ذلك عبد الله بن أبيّ‏.‏

وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عبد الرحمن بن عوف في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان‏}‏ قال‏:‏ هم ثلاثة‏:‏ واحد من المهاجرين، واثنان من الأنصار‏.‏ وأخرج ابن منده، وابن عساكر، عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ نزلت في عثمان ورافع بن المعلى، وخارجة بن زيد‏.‏ وقد روى في تعيين‏:‏ «من» في الآية روايات كثيرة‏.‏