فصل: تفسير الآيات رقم (156- 164)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏156- 164‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏156‏)‏ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏157‏)‏ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏158‏)‏ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ‏(‏159‏)‏ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏160‏)‏ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏161‏)‏ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏162‏)‏ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏163‏)‏ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏164‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ‏}‏ هم المنافقون الذين قالوا‏:‏ ‏{‏لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا‏}‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لإخوانهم‏}‏ في النفاق، أو في النسب، أي‏:‏ قالوا لأجلهم‏:‏ ‏{‏إِذَا ضَرَبُواْ فِى الأرض‏}‏ إذا ساروا فيها للتجارة، أو نحوها، قيل‏:‏ ‏"‏ إن ‏"‏ ‏"‏ إذا ‏"‏ هنا المفيدة لمعنى الاستقبال، بمعنى ‏"‏ إذا ‏"‏ المفيدة لمعنى المضيّ‏.‏ وقيل‏:‏ هي على معناها، والمراد هنا‏:‏ حكاية الحال الماضية‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ‏"‏ إذا ‏"‏ هنا تنوب عن ما مضى من الزمان، وما يستقبل ‏{‏لَّوْ كَانُواْ غُزًّى‏}‏ جمع غاز كراكع وركع، وغائب وغيب، قال الشاعر‏:‏

قل للقوافل والغزى إذا غزوا *** ‏{‏لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏ اللام متعلقة بقوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي‏:‏ قالوا ذلك، واعتقدوه؛ ليكون حسرة في قلوبهم‏.‏ والمراد‏:‏ أنه صار ظنهم أنهم لو لم يخرجوا ما قتلوا حسرة، أو متعلقة بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَكُونُواْ‏}‏ أي‏:‏ لا تكونوا مثلهم في اعتقاد ذلك؛ ليجعله الله حسرة في قلوبهم، فقط دون قلوبكم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا تلتفتوا إليهم؛ ليجعل الله عدم التفاتكم إليهم حسرة في قلوبهم، وقيل المراد‏:‏ حسرة في قلوبهم يوم القيامة لما فيه من الخزي، والندامة‏:‏ ‏{‏والله يُحْيىِ وَيُمِيتُ‏}‏ فيه ردّ على قولهم، أي‏:‏ ذلك بيد الله سبحانه يصنع ما يشاء، ويحكم ما يريد، فيحيي من يريد، ويميت من يريد من غير أن يكون للسفر، أو الغزو أثر في ذلك، واللام في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ‏}‏ موطئة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لَمَغْفِرَةٌ‏}‏ جواب القسم سادّ مسدّ جواب الشرط، والمعنى‏:‏ أن السفر، والغزو ليسا مما يجلب الموت، ولئن وقع ذلك بأمر الله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏ أي‏:‏ الكفرة من منافع الدنيا، وطيباتها مدّة أعمارهم على قراءة من قرأ بالياء التحتية، أو خير مما تجمعون أيها المسلمون من الدنيا، ومنافعها على قراءة من قرأ بالفوقية‏.‏ والمقصود في الآية‏:‏ بيان مزية القتل، أو الموت في سبيل الله، وزيادة تأثيرهما في استجلاب المغفرة، والرحمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ‏}‏ على أيّ وجه حسب تعلق الإرادة الإلهية ‏{‏لإِلَى الله تُحْشَرُونَ‏}‏ هو‏:‏ جواب القسم المدلول عليه باللام الموطئة سادّ مسدّ جواب الشرط، كما تقدم في الجملة الأولى، أي‏:‏ إلى الربّ الواسع المغفرة تحشرون لا إلى غيره، كما يفيده تقديم الظرف على الفعل مع ما في تخصيص اسم الله سبحانه بالذكر من الدلالة على كمال اللطف، والقهر‏.‏ «وما» في قوله‏:‏ ‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله‏}‏ مزيدة للتأكيد، قاله سيبويه وغيره، وقال ابن كيسان‏:‏ إنها نكرة في موضع جرّ بالباء، ورحمة بدل منها، والأوّل أولى بقواعد العربية، ومثله قوله تعالى‏:‏

‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 155‏]‏ والجار والمجرور متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏لِنتَ لَهُمْ‏}‏ وقدّم عليه لإفادة القصر، وتنوين رحمة للتعظيم، والمعنى‏:‏ أن لينه لهم ما كان إلا بسبب الرحمة العظيمة منه‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏"‏ ما ‏"‏ استفهامية، والمعنى‏:‏ فبأيّ رحمة من الله لنت لهم، وفيه معنى التعجب، وهو بعيد، ولو كان كذلك لحذف الألف من ‏"‏ ما ‏"‏‏.‏ وقيل‏:‏ فبم رحمة من الله‏.‏ والفظّ‏:‏ الغليظ الجافي‏.‏ وقال الراغب‏:‏ الفظّ هو‏:‏ الكريه الخلق، وأصله فظظ كحذر‏.‏ وغلظ القلب‏:‏ قساوته، وقلة إشفاقه، وعدم انفعاله للخير‏.‏ والانفضاض‏:‏ التفرّق، يقال‏:‏ فضضتهم، فانفضوا، أي‏:‏ فرّقتهم، فتفرّقوا والمعنى‏:‏ لو كنت فظاً غليظ القلب لا ترفق بهم لتفرّقوا من حولك هيبة لك، واحتشاماً منك بسبب ما كان من توليهم، وإذا كان الأمر، كما ذكر‏:‏ ‏{‏فاعف عَنْهُمْ‏}‏ فيما يتعلق بك من الحقوق‏:‏ ‏{‏واستغفر لَهُمُ‏}‏ الله سبحانه فيما هو إلى الله سبحانه ‏{‏وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمر‏}‏ أي‏:‏ الذي يرد عليك، أيّ‏:‏ أمر كان مما يشاور في مثله، أو في أمر الحرب خاصة، كما يفيده السياق لما في ذلك من تطييب خواطرهم، واستجلاب مودّتهم، ولتعريف الأمة بمشروعية ذلك حتى لا يأنف منه أحد بعدك‏.‏ والمراد هنا‏:‏ المشاورة في غير الأمور التي يرد الشرع بها‏.‏ قال أهل اللغة‏:‏ الاستشارة مأخوذة من قول العرب‏:‏ شرت الدابة، وشورتها‏:‏ إذا علمت خبرها، وقيل‏:‏ من قولهم‏:‏ شرت العسل‏:‏ إذا أخذته من موضعه‏.‏ قال ابن خويزمنداد‏:‏ واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدنيا، ومشاورة وجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس، فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب، والعمال، والوزراء فيما يتعلق بمصالح البلاد، وعمارتها‏.‏ وحكى القرطبي عن ابن عطية‏:‏ أنه لا خلاف في وجوب عزل من لا يستشير أهل العلم والدين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله‏}‏ أي‏:‏ إذا عزمت عقب المشاورة على شيء، واطمأنت به نفسك، فتوكل على الله في فعل ذلك، أي‏:‏ اعتمد عليه، وفوّض إليه؛ وقيل‏:‏ إن المعنى‏:‏ فإذا عزمت على أمر أن تمضي فيه، فتوكل على الله لا على المشاورة‏.‏ والعزم في الأصل‏:‏ قصد الإمضاء، أي‏:‏ فإذا قصدت إمضاء أمر، فتوكل على الله‏.‏ وقرأ جعفر الصادق، وجابر بن زيد‏:‏ «فإذا عزمت» بضم التاء بنسبة العزم إلى الله تعالى، أي‏:‏ فإذا عزمت لك على شيء، وأرشدتك إليه، فتوكل على الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ‏}‏ جملة مستأنفة لتأكيد التوكل، والحثّ عليه‏.‏ والخذلان‏:‏ ترك العون، أي‏:‏ وإن يترك الله عونكم‏:‏ ‏{‏فَمَن ذَا الذى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ‏}‏ وهذا الاستفهام إنكاري‏.‏ والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِهِ‏}‏ راجع إلى الخذلان المدلول عليه بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن يَخْذُلْكُمْ‏}‏ أو إلى الله، ومن علم أنه لا ناصر له إلا الله سبحانه، وأن من نصره الله لا غالب له، ومن خذله لا ناصر له، فوّض أموره إليه، وتوكل عليه، ولم يشتغل بغيره، وتقديم الجار والمجرور على الفعل في قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون‏}‏ لإفادة قصره عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِنَبِيٍ أَنْ يَغُلَّ‏}‏ أي‏:‏ ما صحّ له ذلك لتنافي الغلول والنبوّة‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ الغلول من المغنم خاصَّة، ولا نراه من الخيانة، ولا من الحقد، ومما يبين ذلك أنه يقال‏:‏ من الخيانة‏:‏ أغَلّ يِغلّ، ومن الحِقْد غَلّ يَغِلُّ بالكسر، ومن الغُلول غَلّ يَغِلُّ بالضم، يقال غلّ المغنم غلولاً، أي‏:‏ خان بأن يأخذ لنفسه شيئاً يستره على أصحابه، فمعنى الآية على القراءة بالبناء للفاعل‏:‏ ما صح لنبيّ أن يخون شيئاً من المغنم، فيأخذه لنفسه من غير اطلاع أصحابه‏.‏ وفيه تنزيه الأنبياء عن الغلول‏.‏ ومعناها على القراءة بالبناء للمفعول‏:‏ ما صح لنبيّ أن يغله أحد من أصحابه‏:‏ أي‏:‏ يخونه في الغنيمة، وهو على هذه القراءة الأخرى نهي للناس عن الغلول في المغانم، وإنما خص خيانة الأنبياء مع كونه خيانة غيرهم من الأئمة، والسلاطين، والأمراء حراماً، لأن خيانة الأنبياء أشدّ ذنباً، وأعظم وزراً ‏{‏وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة‏}‏ أي يأت به حاملاً له على ظهره، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيفضحه بين الخلائق، وهذه الجملة تتضمن تأكيد تحريم الغلول، والتنفير منه، بأنه ذنب يختص فاعله بعقوبة على رؤوس الأشهاد يطلع عليها أهل المحشر وهي‏:‏ مجيئه يوم القيامة بما غله حاملاً له قبل أن يحاسب عليه، ويعاقب عليه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ‏}‏ أي‏:‏ تعطي جزاء ما كسبت وافياً من خير وشرّ، وهذه الآية تعمّ كل من كسب خيراً، أو شراً، ويدخل تحتها الغالّ دخولاً أولياً لكون السياق فيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَفَمَنِ اتبع رضوان الله كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ الله‏}‏ الاستفهام للإنكار، أي‏:‏ ليس من اتبع رضوان الله في أوامره، ونواهيه، فعمل بأمره، واجتنب نهيه كمن باء‏:‏ أي‏:‏ رجع بسخط عظيم، كائن من الله، بسبب مخالفته لما أمر به، ونهى عنه‏.‏ ويدخل تحت ذلك من اتبع رضوان الله بترك الغلول، واجتنابه، ومن باء بسخط من الله بسبب إقدامه على الغلول‏.‏ ثم أوضح ما بين الطائفتين من التفاوت، فقال‏:‏ ‏{‏هُمْ درجات عِندَ الله‏}‏ أي‏:‏ متفاوتون في الدرجات، والمعنى‏:‏ هم ذوو درجات، أو لهم درجات، فدرجات من اتبع رضوان الله ليست كدرجات من باء بسخط من الله، فإن الأوّلين في أرفع الدرجات‏.‏ والآخرين في أسفلها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين‏}‏ جواب قسم محذوف، وخص المؤمنين لكونهم المنتفعين ببعثته‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏مّنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏ أنه عربيّ مثلهم، وقيل‏:‏ بشر مثلهم، ووجه المنة على الأوّل‏:‏ أنهم يفقهون عنه، ويفهمون كلامه، ولا يحتاجون إلى ترجمان‏.‏

ومعناها على الثاني‏:‏ أنهم يأنسون به بجامع البشرية، ولو كان ملكاً لم يحصل كمال الأنس به لاختلاف الجنسية، وقرئ‏:‏ ‏{‏مّنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏ بفتح الفاء، أي‏:‏ من أشرفهم، لأنه من بني هاشم، وبنو هاشم أفضل قريش، وقريش أفضل العرب، والعرب أفضل من غيرهم، ولعلّ وجه الامتنان على هذه القراءة‏:‏ أنه لما كان من أشرفهم كانوا أطوع له، وأقرب إلى تصديقه، ولا بد من تخصيص المؤمنين في هذه الآية بالعرب على الوجه الأوّل، وأما على الوجه الثاني، فلا حاجة إلى هذا التخصيص، وكذا على قراءة من قرأ بفتح الفاء لا حاجة إلى التخصيص؛ لأن بني هاشم هم أنفس العرب، والعجم في شرف الأصل، وكرم النجاد، ورفاعة المحتد‏.‏ ويدل على الوجه الأوّل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى بَعَثَ فِى الأميين رَسُولاً مّنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته‏}‏ هذه منة ثانية، أي‏:‏ يتلو عليهم القرآن بعد أن كانوا أهل جاهلية لا يعرفون شيئاً من الشرائع ‏{‏وَيُزَكّيهِمْ‏}‏ أي‏:‏ يطهرهم من نجاسة الكفر، وهذه الجملة معطوفة على الجملة الأولى، وهما في محل نصب على الحال، أو صفة لرسول، وهكذا قوله‏:‏ ‏{‏وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب‏}‏، والمراد بالكتاب هنا‏:‏ القرآن‏.‏ والحكمة‏:‏ السنة‏.‏ وقد تقدّم في البقرة تفسير ذلك‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ‏}‏ أي‏:‏ من قبل محمد، أو من قبل بعثته‏:‏ ‏{‏لَفِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ أي‏:‏ واضح لا ريب فيه، واللام للفرق بين إن المخففة من الثقيلة، وبين النافية، فهي تدخل في خبر المخففة لا النافية، واسمها ضمير الشأن، أي‏:‏ وإن الشأن، والحديث، وقيل‏:‏ إنها النافية، واللام بمعنى إلا، أي‏:‏ وما كانوا من قبل إلا في ضلال مبين، وبه قال الكوفيون، والجملة على التقديرين في محل نصب على الحال‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لإخوانهم إِذَا ضَرَبُواْ فِى الأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال‏:‏ هذا قول عبد الله بن أبيّ بن سلول، والمنافقين‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدّي نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ يحزنهم قولهم، ولا ينفعهم شيئاً‏.‏ وأخرجوا عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله‏}‏ يقول‏:‏ فبرحمة من الله‏:‏ ‏{‏لِنتَ لَهُمْ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ‏}‏ قال‏:‏ لانصرفوا عنك‏.‏ وأخرج ابن عديّ، والبيهقي في الشعب، قال السيوطي- بسند حسن- عن ابن عباس‏:‏ قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏وَشَاوِرْهُمْ فِى الامر‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏"‏ أما إن الله ورسوله لغنيان عنها، ولكنّ الله جعلها رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غياً ‏"‏ وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَشَاوِرْهُمْ فِى الامر‏}‏‏.‏ قال‏:‏ أبو بكر وعمر‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن عليّ قال‏:‏ «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن العزم، فقال‏:‏ ‏"‏ مشاورة أهل الرأي، ثم اتباعهم ‏"‏

وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ‏}‏ في قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر، فقال بعض الناس‏:‏ لعلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، فنزلت‏.‏ وأخرج البزار، وابن أبي حاتم، والطبراني، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ‏}‏ قال‏:‏ ما كان لنبيّ أن يتهمه أصحابه‏.‏ وقد ورد في تحريم الغلول أحاديث كثيرة‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏هُمْ درجات عِندَ الله‏}‏ يقول‏:‏ بأعمالهم‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان، عن عائشة في قوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قالت‏:‏ هذه للعرب خاصة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏165- 168‏]‏

‏{‏أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏165‏)‏ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏166‏)‏ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ‏(‏167‏)‏ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏168‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ‏}‏ الألف للاستفهام بقصد التقريع، والواو للعطف‏.‏ والمصيبة‏:‏ الغلبة، والقتل الذي أصيبوا به يوم أحد‏:‏ ‏{‏قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا‏}‏ يوم بدر، وذلك أن الذين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعون‏.‏ وقد كانوا قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين، فكان مجموع القتلى، والأسرى يوم بدر مثلي القتلى من المسلمين يوم أحد، والمعنى‏:‏ أحين أصابكم من المشركين نصف ما أصابهم منكم قبل ذلك جزعتم، وقلتم‏:‏ من أين أصابنا هذا وقد وعدنا بالنصر‏؟‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أنى هذا‏}‏ أي‏:‏ من أين أصابنا هذا الانهزام، والقتل، ونحن نقاتل في سبيل الله، ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وعدنا الله بالنصر عليهم‏؟‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عن سؤالهم بهذا الجواب، أي‏:‏ هذا الذي سألتم عنه هو من عند أنفسكم بسبب مخالفة الرماة لما أمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من لزوم المكان الذي عينه لهم، وعدم مفارقتهم له على كل حال، وقيل‏:‏ إن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ خروجهم من المدينة‏.‏ ويردّه أن الوعد بالنصر إنما كان بعد ذلك؛ وقيل‏:‏ هو اختيارهم الفداء يوم بدر على القتل،

و ‏{‏يَوْمَ التقى الجمعان‏}‏ يوم أحد، أي‏:‏ ما أصابكم يوم أحد من القتل، والجرح، والهزيمة ‏{‏فَبِإِذْنِ الله‏}‏ فبعلمه، وقيل‏:‏ بقضائه، وقدره، وقيل‏:‏ بتخليته بينكم، وبينهم، والفاء دخلت في جواب الموصول لكونه يشبه الشرط، كما قال سيبويه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِيَعْلَمَ المؤمنين‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏فَبِإِذْنِ الله‏}‏ عطف سبب على سبب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ‏}‏ عطف على ما قبله، قيل‏:‏ أعاد الفعل لقصد تشريف المؤمنين عن أن يكون الفعل المسند إليهم، وإلى المنافقين، واحداً‏.‏ والمراد بالعلم هنا‏:‏ التمييز والإظهار؛ لأن علمه تعالى ثابت قبل ذلك؛ والمراد بالمنافقين هنا‏:‏ عبد الله بن أبيّ وأصحابه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ لَهُمْ‏}‏ هو معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏نَافَقُواْ‏}‏ أي‏:‏ ليعلم الله الذين نافقوا، والذين قيل لهم، وقيل‏:‏ هو كلام مبتدأ أي‏:‏ قيل لعبد الله بن أبيّ، وأصحابه‏:‏ ‏{‏تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ إن كنتم ممن يؤمن بالله، واليوم الآخر ‏{‏أَوِ ادفعوا‏}‏ عن أنفسكم إن كنتم لا تؤمنون بالله، واليوم الآخر، فأبوا جميع ذلك، وقالوا‏:‏ لو نعلم أنه سيكون قتالاً لاتبعناكم، وقاتلنا معكم، ولكنه لا قتال هنالك؛ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ لو كنا نقدر على القتال، ونحسنه لاتبعناكم؛ ولكنا لا نقدر على ذلك، ولا نحسنه‏.‏ وعبر عن نفي القدرة على القتال بنفي العلم به؛ لكونها مستلزمة له، وفيه بعد لا ملجئ إليه، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالاً لاتبعناكم، ولكن ما أنتم بصدده ليس بقتال، ولكنه إلقاء بالنفس إلى التهلكة، لعدم القدرة منا، ومنكم على دفع ما ورد من الجيش بالبروز إليهم، والخروج من المدينة، وهذا أيضاً فيه بعد دون بعد ما قبله، وقيل‏:‏ معنى الدفع هنا‏:‏ تكثير سواد المسلمين، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ رابطوا، والقائل للمنافقين هذه المقالة التي حكاها الله سبحانه‏:‏ هو عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ، والد جابر بن عبد الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ للإيمان‏}‏ أي‏:‏ هم في هذا اليوم الذي انخذلوا فيه عن المؤمنين إلى الكفر أقرب منهم إلى الإيمان عند من كان يظن أنهم مسلمون؛ لأنهم قد بينوا حالهم، وهتكوا أستارهم، وكشفوا عن نفاقهم إذ ذاك، وقيل المعنى‏:‏ أنهم لأهل الكفر يومئذ أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏ جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما تقدّمها، أي‏:‏ أنهم أظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفر، وذكر الأفواه للتأكيد، مثل قوله‏:‏ ‏{‏يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏الذين قَالُواْ لإخوانهم‏}‏ الخ، أي‏:‏ هم الذين قالوا لإخوانهم على أنه خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون بدلاً من واو يكتمون، أو منصوباً على الذمّ، أو وصف للذين نافقوا‏.‏ وقد تقدم معنى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ لإخوانهم‏}‏ أي‏:‏ قالوا لهم ذلك، والحال أن هؤلاء القائلين قد قعدوا عن القتال‏:‏ ‏{‏لَوْ أَطَاعُونَا‏}‏ بترك الخروج من المدينة ما قتلوا، فردّ الله عليهم ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ والدرء‏:‏ الدفع، أي‏:‏ لا ينفع الحذر من القدر، فإن المقتول يقتل بأجله‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ يقول‏:‏ إنكم قد أصبتم من المشركين يوم بدر مثلي ما أصابوا منكم يوم أحد، وقد بين هذا عكرمة‏.‏ فأخرج ابن جرير عنه قال‏:‏ قتل المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين، وقتل المشركون يوم أحد من المسلمين سبعين‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن في الآية قال‏:‏ لما رأوا من قتل منهم يوم أحد قالوا من أين هذا‏؟‏ ما كان للكفار أن يقتلوا منا‏؟‏ فلما رأى الله ما قالوا من ذلك، قال الله‏:‏ هم بالأسرى الذين أخذتم يوم بدر‏.‏ فردّهم الله بذلك، وعجل لهم عقوبة ذلك في الدنيا ليسلموا منها في الآخرة، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي شيبة، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن جرير، وابن مردويه، عن عليّ قال‏:‏ جاء جبريل إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الأسارى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين‏:‏ إما أن يقدموا، فتضرب أعناقهم، وبين أن يأخذوا الفداء على أن تقبل منهم عدتهم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فذكر ذلك لهم، فقالوا‏:‏ يا رسول الله عشائرنا، وإخواننا لا بل نأخذ، فداءهم، فنقوى به على قتال عدوّنا، ويستشهد منا عدتهم، فليس في ذلك ما نكره، فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلاً عدة أسارى أهل بدر‏.‏

وهذا الحديث هو في سنن الترمذي، والنسائي هو من طريق أبي داود الحضري عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن سفيان بن سعيد، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة عن عليّ‏:‏ قال الترمذي بعد إخراجه‏:‏ حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة‏.‏ وروى أبو أسامة عن هشام نحوه‏.‏ وروى عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وإسناد ابن جرير لهذا الحديث هكذا‏:‏ حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا إسماعيل بن علية، عن ابن عون قال سنيد وهو حسين، وحدثني حجاج، عن جرير، عن محمد، عن عبيدة، عن علي فذكره‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق أبي بكر ابن أبي شيبة، حدثنا قراد أبو نوح، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا سماك الحنفي أبو زميل، حدثني ابن عباس، عن عمر بن الخطاب؛ قال‏:‏ لما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون وفرّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عنه، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل الله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرجه الإمام أحمد من طريق عبد الرحمن بن غزوان، وهو قراد أبو نوح به، ولكن بأطول منه، ولكنه يشكل على حديث التخيير السابق ما نزل من المعاتبة منه سبحانه وتعالى لمن أخذ الفداء بقوله‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 67‏]‏ وما روى من بكائه صلى الله عليه وسلم، هو وأبو بكر ندماً على أخذ الفداء، ولو كان أخذ ذلك بعد التخيير لهم من الله سبحانه لم يعاتبهم عليه، ولا حصل ما حصل من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معه من الندم، والحزن، ولا صوب النبي صلى الله عليه وسلم رأي عمر رضي الله عنه، حيث أشار بقتل الأسرى، وقال ما معناه‏:‏ «لو نزلت عقوبة لم ينج منها إلا عمر،» والجميع في كتب الحديث، والسير‏.‏

وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏قُلْتُمْ أنى هذا‏}‏ ونحن مسلمون نقاتل غضباً لله، وهؤلاء مشركون‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ عقوبة لكم بمعصيتكم النبي صلى الله عليه وسلم حين قال‏:‏ لا تتبعوهم‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه في قوله‏:‏ ‏{‏أَوِ ادفعوا‏}‏ قال‏:‏ كثروا بأنفسكم، وإن لم تقاتلوا‏.‏

وأخرج أيضاً، عن الضحاك نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي عون الأنصاري في قوله‏:‏ ‏{‏أَوِ ادفعوا‏}‏ قال‏:‏ رابطوا‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن شهاب وغيره؛ قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كانوا بالشوط بين أحد، والمدينة انخزل عنهم عبد الله بن أبيّ بثلث الناس، وقال‏:‏ أطاعهم، وعصاني، والله ما ندري على ما نقتل أنفسنا ههنا‏؟‏ فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق، وأهل الريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام من بني سلمة يقول‏:‏ يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم، وقومكم عندما حضرهم عدوهم، قالوا‏:‏ لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولا نرى أن يكون قتال‏.‏ وأخرجه ابن إسحاق قال‏:‏ حدثني محمد بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحسين بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا، فذكره، وزاد أنهم‏:‏ لما استعصوا عليه، وأبوا إلا الانصراف قال‏:‏ أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتبعناكم‏}‏ قال‏:‏ لو نعلم أنا واجدون معكم مكان قتال لاتبعناكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏169- 175‏]‏

‏{‏وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ‏(‏169‏)‏ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏170‏)‏ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏171‏)‏ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏172‏)‏ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ‏(‏173‏)‏ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ‏(‏174‏)‏ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏175‏)‏‏}‏

لما بين الله- سبحانه- أن ما جرى على المؤمنين يوم أحد كان امتحاناً ليتميز المؤمن من المنافق، والكاذب من الصادق، بين ههنا أن من لم ينهزم، وقتل فله هذه الكرامة، والنعمة، وأن مثل هذا مما يتنافس فيه المتنافسون، لا مما يخاف، ويحذر، كما قالوا من حكى الله عنهم‏:‏ ‏{‏لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 156‏]‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 168‏]‏ فهذه الجملة مستأنفة لبيان هذا المعنى، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحد، وقرئ بالياء التحتية، أي‏:‏ لا يحسبن حاسب‏.‏

وقد اختلف أهل العلم في الشهداء المذكورين في هذه الآية من هم‏؟‏ فقيل‏:‏ في شهداء أحد، وقيل‏:‏ في شهداء بدر، وقيل‏:‏ في شهداء بئر معونة‏.‏ وعلى فرض أنها نزلت في سبب خاص، فالاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب‏.‏ ومعنى الآية عند الجمهور‏:‏ أنهم أحياء حياة محققة ثم اختلفوا، فمنهم من يقول‏:‏ أنها تردّ إليهم أرواحهم في قبورهم، فيتنعمون‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يرزقون من ثمر الجنة، أي‏:‏ يجدون ريحها، وليسوا فيها، وذهب من عدا الجمهور إلى أنها حياة مجازية، والمعنى‏:‏ أنهم في حكم الله مستحقون للتنعم في الجنة، والصحيح الأوّل، ولا موجب للمصير إلى المجاز‏.‏ وقد وردت السنة المطهرة بأن أرواحهم في أجواف طيور خضر، وأنهم في الجنة يرزقون، ويأكلون، ويتمتعون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الذين قَتَلُواْ‏}‏ هو‏:‏ المفعول الأوّل‏.‏ والحاسب هو النبي صلى الله عليه وسلم، أو كل أحد، كما سبق، وقيل‏:‏ يجوز أن يكون الموصول هو‏:‏ فاعل الفعل، والمفعول الأوّل محذوف، أي‏:‏ لا تحسبنّ الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً، وهذا تكلف لا حاجة إليه، ومعنى النظم القرآني في غاية الوضوح، والجلاء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ أَحْيَاء‏}‏ خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ بل هم أحياء‏.‏ وقرئ بالنصب على تقدير الفعل، أي‏:‏ بل أحسبهم أحياء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ إما خبر ثان، أو صفة لأحياء، أو في محل نصب على الحال، وقيل‏:‏ في الكلام حذف، والتقدير‏:‏ عند كرامة ربهم‏.‏ قال سيبويه‏:‏ هذه عندية الكرامة لا عندية القرب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يُرْزَقُونَ‏}‏ يحتمل في إعرابه الوجوه التي ذكرناها في قوله‏:‏ ‏{‏عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ والمراد بالرزق هنا‏:‏ هو الرزق المعروف في العادات على ما ذهب إليه الجمهور، كما سلف، وعند من عدا الجمهور المراد به‏:‏ الثناء الجميل، ولا وجه يقتضي تحريف الكلمات العربية في كتاب الله تعالى، وحملها على مجازات بعيدة، لا لسبب يقتضي ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَرِحِينَ‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏يرزقون‏}‏، و‏{‏بما آتاهم الله من فضله‏}‏ متعلق به‏.‏ وقرأ ابن السميفع‏:‏ «فارحين» وهما‏:‏ لغتان كالفره والفاره، والحذر والحاذر‏.‏ والمراد‏:‏ ‏{‏بِمَا ءاتاهم الله‏}‏ ما ساقه الله إليهم من الكرامة بالشهادة، وما صاروا فيه من الحياة، وما يصل إليهم من رزق الله سبحانه‏.‏

‏{‏وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم‏}‏ من إخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا إذ ذاك‏.‏ فالمراد باللحوق هنا‏:‏ أنهم لم يلحقوا بهم في القتل، والشهادة؛ بل سيلحقون بهم من بعد‏.‏ وقيل المراد‏:‏ لم يلحقوا بهم في الفضل، وإن كانوا أهل فضل في الجملة، والواو في‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ عاطفة على‏:‏ ‏{‏يُرْزَقُونَ‏}‏ أي‏:‏ يرزقون، ويستبشرون، وقيل المراد‏:‏ بإخوانهم هنا‏:‏ جميع المسلمين الشهداء، وغيرهم؛ لأنهم لما عاينوا ثواب الله، وحصل لهم اليقين بحقية دين الإسلام استبشروا بذلك لجميع أهل الإسلام الذين هم أحياء لم يموتوا، وهذا أقوى، لأن معناه أوسع، وفائدته أكثر، واللفظ يحتمله بل هو الظاهر، وبه قال الزجاج، وابن فورك‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ بدل من الذين، أي‏:‏ يستبشرون بهذه الحالة الحاصلة لإخوانهم من أنه لا خوف عليهم، ولا حزن، و«أن» هي‏:‏ المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن المحذوف، وكرر قوله‏:‏ ‏{‏يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ لتأكيد الأوّل، ولبيان أن الاستبشار ليس لمجرد عدم الخوف، والحزن، بل به، وبنعمة الله، وفضله‏.‏ والنعمة‏:‏ ما ينعم الله به على عباده‏.‏ والفضل‏:‏ ما يتفضل به عليهم، وقيل النعمة‏:‏ الثواب، والفضل الزائد، وقيل‏:‏ النعمة الجنة، والفضل داخل في النعمة ذكر بعدها لتأكيدها، وقيل‏:‏ إن الاستبشار الأوّل متعلق بحال إخوانهم، والاستبشار الثاني بحال أنفسهم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين‏}‏ قرأ الكسائي بكسر الهمزة من «أن»، وقرأ الباقون بفتحها فعلى القراءة الأولى هو‏:‏ مستأنف اعتراض‏.‏ وفيه دلالة على أن الله لا يضيع أجر شيء من أعمال المؤمنين، ويؤيده قراءة ابن مسعود، «والله لا يضيع أجر المؤمنين»‏.‏ وعلى القراءة الثانية الجملة عطف على فضل داخلة في جملة ما يستبشرون به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الذين استجابوا‏}‏ صفة للمؤمنين، أو بدل منهم، أو من الذين لم يلحقوا بهم، أو هو مبتدأ خبره‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ بجملته، أو منصوب على المدح، وقد تقدم تفسير القرح‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏الذين قَالَ لَهُمُ الناس‏}‏ المراد بالناس هنا‏:‏ نعيم بن مسعود، كما سيأتي بيانه، وجاز إطلاق لفظ الناس عليه لكونه من جنسهم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالناس‏:‏ ركب عبد القيس الذين مروا بأبي سفيان‏.‏ وقيل‏:‏ هم‏:‏ المنافقون‏.‏ والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ‏}‏ أبو سفيان، وأصحابه، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فَزَادَهُمُ‏}‏ راجع إلى القول المدلول عليه، ب ‏{‏قال‏}‏، أو إلى المقول، وهو‏:‏ ‏{‏إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم‏}‏ أو إلى القائل، والمعنى‏:‏ أنهم لم يفشلوا لما سمعوا ذلك، ولا التفتوا إليه، بل أخلصوا لله، وازدادوا طمأنينة، ويقيناً‏.‏ وفيه دليل على أن الإيمان يزيد، وينقص‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل‏}‏ حسب مصدر حسبه، أي‏:‏ كفاه، وهو بمعنى الفاعل، أي‏:‏ محسب بمعنى كافي‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ والدليل على أنه بمعنى المحسب أنك تقول‏:‏ هذا رجل حسبك، فتصف به النكرة؛ لأن إضافته لكونه بمعنى اسم الفاعل غير حقيقية‏.‏ انتهى‏.‏ والوكيل هو‏:‏ من توكل إليه الأمور، أي‏:‏ نعم الموكول إليه أمرنا، أو الكافي، أو الكافل، والمخصوص بالمدح محذوف، أي‏:‏ نعم الوكيل الله سبحانه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فانقلبوا‏}‏ هو‏:‏ معطوف على محذوف، أي‏:‏ فخرجوا إليهم، فانقلبوا بنعمة هو‏:‏ متعلق بمحذوف وقع حالاً‏.‏ والتنوين للتعظيم، أي‏:‏ رجعوا متلبسين‏:‏ ‏{‏بِنِعْمَةٍ‏}‏ عظيمة، وهي السلامة من عدوهم، وعافية ‏{‏وَفَضَّلَ‏}‏ أي‏:‏ أجر تفضل الله به عليهم؛ وقيل ربح في التجارة‏.‏ وقيل‏:‏ النعمة خاصة بمنافع الدنيا، والفضل بمنافع الآخرة، وقد تقدم تفسيرهما قريباً بما يناسب ذلك المقام؛ لكون الكلام فيه مع الشهداء الذين قد صاروا في الدار الآخرة، والكلام هنا مع الأحياء‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء‏}‏ في محل نصب على الحال، أي‏:‏ سالمين عن سوء لم يصبهم قتل ولا جرح ولا ما يخافونه ‏{‏واتبعوا رضوان الله‏}‏ في ما يأتون، ويذرون، ومن ذلك خروجهم لهذه الغزوة ‏{‏والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ‏}‏ لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه، ومن تفضله عليهم‏:‏ تثبيتهم، وخروجهم للقاء عدوهم، وإرشادهم إلى أن يقولوا هذه المقالة التي هي جالبة لكل خير، ودافعة لكل شرّ‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا ذلكم‏}‏ أي‏:‏ المثبط لكم أيها المؤمنون ‏{‏الشيطان‏}‏ هو‏:‏ خبر اسم الإشارة، ويجوز أن يكون الشيطان صفة لاسم الإشارة، والخبر قوله‏:‏ ‏{‏يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ‏}‏؛ فعلى الأول يكون قوله‏:‏ ‏{‏يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ‏}‏ جملة مستأنفة، أو حالية، والظاهر أن المراد هنا‏:‏ الشيطان نفسه باعتبار ما يصدر منه من الوسوسة المقتضية للتثبيط، وقيل المراد به‏:‏ نعيم بن مسعود لما قال لهم تلك المقالة، وقيل‏:‏ أبو سفيان لما صدر منه الوعيد لهم؛ والمعنى أن الشيطان يخوف المؤمنين أولياءه، وهم الكافرون، وقيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏أَوْلِيَاءهُ‏}‏ منصوب بنزع الخافض أي‏:‏ يخوفكم بأوليائه، أو من أوليائه، قاله الفراء، والزجاج، وأبو علي الفارسي‏.‏ ورده ابن الأنباري بأن التخويف قد يتعدى بنفسه إلى مفعولين، فلا ضرورة إلى إضمار حرف الجر‏.‏ وعلى قول الفراء، ومن معه يكون مفعول يخوف محذوفاً، أي‏:‏ يخوفكم‏.‏ وعلى الأول يكون المفعول الأوّل محذوفاً، والثاني مذكوراً، ويجوز أن يكون المراد‏:‏ أن الشيطان يخوف أولياءه، وهم القاعدون من المنافقين، فلا حذف‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَخَافُوهُمْ‏}‏ أي‏:‏ أولياءه الذين يخوفكم بهم الشيطان، أو فلا تخافوا الناس المذكورين في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ‏}‏ نهاهم سبحانه عن أن يخافوهم، فيجبنوا على اللقاء، ويفشلوا عن الخروج، وأمرهم بأن يخافوه سبحانه، فقال‏:‏ ‏{‏وَخَافُونِ‏}‏ فافعلوا ما آمركم به، واتركوا ما أنهاكم عنه لأني الحقيق بالخوف مني، والمراقبة لأمري، ونهيي لكون الخير والشرّ بيدي، وقيده بقوله‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ لأن الإيمان يقتضي ذلك‏.‏

وقد أخرج الحاكم وصححه، عن ابن عباس قال‏:‏ نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ في حمزة، وأصحابه‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد عن أبي الضحى أنها نزلت في قتلى أحد، وحمزة منهم‏.‏ أخرج عبد بن حميد، وأبو داود، وابن جرير، والحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم، ومشربهم، وحسن مقيلهم قالوا‏:‏ يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا»، وفي لفظ قالوا‏:‏ «من يبلغ إخواننا أنَّا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله‏:‏ أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله هؤلاء الآيات‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ‏.‏‏.‏‏}‏ الآية وما بعدها» وأخرج الترمذي وحسنه، وابن ماجه، وابن خزيمة، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن جابر بن عبد الله‏:‏ أن أباه سأل الله سبحانه أن يبلغ من وراءه ما هو فيه، فنزلت هذه الآية، وهو من قتلى أحد‏.‏ وقد روى من وجوه كثيرة أن سبب نزول الآية قتلى أحد‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن أنس؛ أن سبب نزول هذه الآية قتلى بئر معونة، وعلى كل حال، فالآية باعتبار عموم لفظها يدخل تحتها كل شهيد، وقد ثبت في أحاديث كثيرة في الصحيح، وغيره أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر، وثبت في فضل الشهداء ما يطول تعداده، ويكثر إيراده مما هو معروف في كتب الحديث‏.‏

وأخرج النسائي، وابن ماجه، وابن أبي حاتم، والطبراني بسند صحيح، عن ابن عباس قال‏:‏ لما رجع المشركون عن أحد قالوا‏:‏ لا محمداً قتلتم، ولا الكواعب أردفتم بئس ما صنعتم ارجعوا، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فندب المسلمين، فانتدبوا حتى بلغ حمراء الأسد، أو بئر أبي عتبة، شكّ سفيان، فقال المشركون‏:‏ يرجع من قابل، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تعدّ غزوة، فأنزل الله سبحانه‏:‏ ‏{‏الذين استجابوا لِلَّهِ والرسول‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما عن عائشة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين استجابوا لِلَّهِ والرسول‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، أنها قالت لعروة بن الزبير‏:‏ يا بن أختي كان أبواك منهم‏:‏ الزبير، وأبو بكر، لما أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد انصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا، فقال‏:‏

‏"‏ من يرجع في أثرهم‏؟‏ ‏"‏ فانتدب منهم سبعون فيهم أبو بكر، والزبير‏.‏

وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، والبيهقي في الدلائل عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد، وقد أجمع أبو سفيان بالرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وقالوا‏:‏ رجعنا قبل أن نستأصلهم لنكرَّن على بقيتهم، فبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في أصحابه يطلبهم، فثنى ذلك أبا سفيان، وأصحابه، ومر ركب من عبد القيس، فقال لهم أبو سفيان‏:‏ بلغوا محمداً أنا قد أجمعنا الرجعة على أصحابه؛ لنستأصلهم؛ فلما مرّ الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد أخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون معه‏:‏ ‏"‏ حسبنا الله، ‏"‏ ونعم الوكيل، فأنزل الله في ذلك‏:‏ ‏{‏الذين استجابوا لِلَّهِ والرسول‏}‏ الآيات‏.‏ وأخرج موسى بن عقبة في مغازيه، والبيهقي في الدلائل، عن ابن شهاب قال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر المسلمين لموعد أبي سفيان بدراً‏.‏ فاحتمل الشيطان أولياءه من الناس، فمشوا في الناس يخوفونهم، وقالوا‏:‏ إنا قد أخبرنا أن قد جمعوا لكم من الناس مثل الليل يرجون أن يواقعوكم‏.‏ والروايات في هذا الباب كثيرة قد اشتملت عليها كتب الحديث، والسير‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ القرح الجراحات‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن السدي أن أبا سفيان، وأصحابه لقوا أعرابياً، فجعلوا له جعلاً على أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه أنهم قد جمعوا لهم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال هو، والصحابة‏:‏ ‏"‏ حسبنا الله، ‏"‏ ونعم الوكيل، ثم رجعوا من حمراء الأسد، فأنزل الله فيهم، وفي الأعرابي‏:‏ ‏{‏الذين قَالَ لَهُمُ الناس‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن أبي رافع أن هذا الأعرابي من خزاعة‏.‏

وقد ورد في فضل هذه الكلمة أعني‏:‏ ‏{‏حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل‏}‏ أحاديث منها ما أخرجه ابن مردويه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذا وقعتم في الأمر العظيم، فقولوا‏:‏ حسبنا الله، ونعم الوكيل ‏"‏ قال ابن كثير بعد إخراجه‏:‏ هذا حديث غريب من هذا الوجه‏.‏ وأخرج أبو نعيم، عن شداد بن أوس قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ حسبي الله، ونعم الوكيل، أمان كل خائف ‏"‏ وأخرج ابن أبي الدنيا في الذكر، عن عائشة‏:‏ «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتد غمه مسح بيده على رأسه، ولحيته، ثم تنفس الصعداء، وقال‏:‏ ‏"‏ حسبي الله، ونعم الوكيل ‏"‏ وأخرج البخاري، وغيره عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏ حسبنا الله، ‏"‏

ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ‏}‏‏.‏ وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، عن عوف بن مالك أنه حدثهم‏:‏ «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر‏:‏ حسبي الله، ونعم الوكيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ردوا عليّ الرجل ‏"‏، فقال‏:‏ ‏"‏ ما قلت ‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ حسبي الله، ونعم الوكيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر، فقل‏:‏ حسبي الله، ونعم الوكيل ‏"‏ وأخرج أحمد، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كيف أنعم، وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته يسمع متى يؤمر، فينفخ‏؟‏ ثم أمر الصحابة أن يقولوا حسبنا الله، ونعم الوكيل على الله توكلنا ‏"‏ وهو حديث جيد‏.‏

وأخرج البيهقي في الدلائل، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مّنَ الله وَفَضْلٍ‏}‏ قال‏:‏ النعمة أنهم سلموا، والفضل أن عيراً مرّت، وكان في أيام الموسم، فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربح مالاً، فقسمه بين أصحابه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في الآية قال‏:‏ الفضل ما أصابوا من التجارة، والأجر‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن السدي قال‏:‏ أما النعمة‏:‏ فهي العافية، وأما الفضل‏:‏ فالتجارة، والسوء‏:‏ القتل‏.‏ أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء‏}‏ قال‏:‏ لم يؤذهم أحد‏:‏ ‏{‏واتبعوا رضوان الله‏}‏ قال‏:‏ أطاعوا الله، ورسوله‏.‏

وأخرج ابن جرير، من طريق العوفي عنه في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ‏}‏ قال‏:‏ يقول الشيطان يخوّف بأوليائه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي مالك قال‏:‏ يعظم أولياءه في أعينكم‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن عكرمة مثل قول ابن عباس‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن‏:‏ إنما كان ذلك تخويف الشيطان، ولا يخاف الشيطان إلا وليّ الشيطان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏176- 180‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏176‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏177‏)‏ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏178‏)‏ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏179‏)‏ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏180‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحْزُنكَ‏}‏ قرأ نافع بضم الياء، وكسر الزاي، وقرأ ابن محيصن بضم الياء، والزاي، وقرأ الباقون بفتح الياء، وضم الزاي، وهما لغتان، يقال‏:‏ حزنني الأمر، وأحزنني، والأولى أفصح‏.‏ وقرأ طلحة‏:‏ ‏{‏يسارعون‏}‏ قيل‏:‏ هم قوم ارتدّوا، فاغتم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، فسلاه الله سبحانه، ونهاه عن الحزن، وعلل ذلك بأنهم لن يضروا الله شيئاً، وإنما ضروا أنفسهم بأن لا حظ لهم في الآخرة، ولهم عذاب عظيم، وقيل‏:‏ هم كفار قريش، وقيل‏:‏ هم المنافقون، وقيل‏:‏ هو عام في جميع الكفار‏.‏ قال القشيري، والحزن على كفر الكافر طاعة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرط في الحزن، فنهى عن ذلك، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 8‏]‏ ‏{‏فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على ءاثارهم إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 6‏]‏ وعدى يسارعون بفي دون إلى للدلالة على أنهم مستقرون فيه مديمون لملابسته، ومثله ‏{‏يسارعون في الخيرات‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 61‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً‏}‏ تعليل للنهي، والمعنى‏:‏ أن كفرهم لا ينقص من ملك الله سبحانه شيئاً، وقيل المراد‏:‏ لن يضروا أولياءه، ويحتمل أن يراد لن يضروا دينه الذي شرعه لعباده، وشيئاً منصوب على المصدرية‏:‏ أي‏:‏ شيئاً من الضرر، وقيل‏:‏ منصوب بنزع الخافض‏:‏ أي بشيء‏.‏ والحظ‏:‏ النصيب‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ يقال رجل حظيظ إذا كان ذا حظّ من الرزق، والمعنى أن الله يريد أن لا يجعل لهم نصيباً في الجنة، أو نصيباً من الثواب، وصيغة الاستقبال للدلالة على دوام الإرادة، واستمرارها ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ‏}‏ بسبب مسارعتهم في الكفر، فكان ضرر كفرهم عائداً عليهم جالباً لهم عدم الحظ في الآخرة، ومصيرهم في العذاب العظيم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان‏}‏ أي‏:‏ استبدلوا الكفر بالإيمان، وقد تقدم تحقيق هذه الاستعارة‏:‏ ‏{‏لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً‏}‏ معناه كالأول، وهو للتأكيد لما تقدمه، وقيل‏:‏ إن الأول خاص بالمنافقين، والثاني يعم جميع الكفار، والأول أولى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ‏}‏ قرأ ابن عامر، وعاصم، وغيرهما‏:‏ ‏{‏يَحْسَبَنَّ‏}‏ بالياء التحتية، وقرأ حمزة بالفوقية، والمعنى على الأولى‏:‏ لا يحسبن الكافرون أنما نملي لهم بطول العمر، ورغد العيش، أو بما أصابوا من الظفر يوم أحد ‏{‏خَيْرٌ لأِنفُسِهِمْ‏}‏ فليس الأمر كذلك بل ‏{‏إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين‏}‏‏.‏ وعلى القراءة الثانية‏:‏ لا تحسبن يا محمد أن الإملاء للذين كفروا بما ذكر خير لأنفسهم، بل هو شرّ واقع عليهم، ونازل بهم، وهو أن الإملاء الذي نمليه لهم؛ ليزدادوا إثماً، فالموصول على القراءة الأولى فاعل الفعل، وأنما نملي، وما بعده ساد مسد مفعولي الحسبان عند سيبويه، أو سادّ مَسَدَّ أحدهما، والآخر محذوف عند الأخفش‏.‏

وأما على القراءة الثانية، فقال الزجاج‏:‏ إن الموصول هو‏:‏ المفعول الأول، وإنما، وما بعدها بدل من الموصول سادّ مسدّ المفعولين، ولا يصح أن يكون إنما، وما بعده هو المفعول الثاني؛ لأن المفعول الثاني في هذا الباب هو‏:‏ الأوّل في المعنى‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ لو صح هذا لكان خيراً بالنصب؛ لأنه يصير بدلاً من الذين كفروا، فكأنه قال‏:‏ لا تحسبن إملاء الذين كفروا خيراً‏.‏ وقال الكسائي، والفراء‏:‏ إنه يقدر تكرير الفعل كأنه قال‏:‏ ولا تحسبنّ الذين كفروا، ولا تحسبن إنما نملي لهم، فسدت مسدّ المفعولين‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ فإن قلت كيف صح مجيء البدل، ولم يذكر إلا أحد المفعولين، ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على مفعول واحد‏؟‏ قلت‏:‏ صح ذلك من حيث أن التعويل على البدل، والمبدل منه في حكم المنحي، ألا تراك تقول جعلت متاعك بعضه فوق بعض مع امتناع سكوتك على متاعك‏.‏ انتهى‏.‏ وقرأ يحيى بن وثاب‏:‏ ‏{‏أَنَّمَا نُمْلِى‏}‏ بكسر إن فيهما، وهي قراءة ضعيفة باعتبار العربية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً‏}‏ جملة مستأنفة مبينة لوجه الاملاء للكافرين‏.‏ وقد احتج الجمهور بهذه الآية على بطلان ما تقوله المعتزلة؛ لأنه سبحانه أخبر بأنه يطيل أعمار الكفار، ويجعل عيشهم رغداً؛ ليزدادوا إثماً‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ وسمعت الأخفش يذكر كسر‏:‏ ‏{‏أَنَّمَا نُمْلِى‏}‏ الأولى، وفتح الثانية، ويحتج بذلك لأهل القدر؛ لأنه منهم، ويجعله على هذا التقدير‏:‏ ولا يحسبنّ الذين كفروا أنما نملي لهم؛ ليزدادوا إثماً إنما نملي لهم خير لأنفسهم‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ إن ازدياد الإثم علة، وما كل علة بعرض ألا تراك تقول‏:‏ قعدت عن الغزو للعجز، والفاقة، وخرجت من البلد لمخافة الشرّ، وليس شيء يعرض لك، وإنما هي علل، وأسباب‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ‏}‏ كلام مستأنف، والخطاب عند جمهور المفسرين للكفار، والمنافقين، أي‏:‏ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر، والنفاق ‏{‏حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب‏}‏ وقيل‏:‏ الخطاب للمؤمنين، والمنافقين، أي‏:‏ ما كان الله؛ ليترككم على الحال التي أنتم عليه من الاختلاط حتى يميز بعضكم من بعض؛ وقيل‏:‏ الخطاب للمشركين‏.‏ والمراد بالمؤمنين من في الأصلاب، والأرحام، أي‏:‏ ما كان الله ليذر أولادكم على ما أنتم عليه حتى يفرق بينكم، وبينهم، وقيل‏:‏ الخطاب للمؤمنين، أي‏:‏ ما كان الله؛ ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من الاختلاط بالمنافقين حتى يميز بينكم، وعلى هذا الوجه، والوجه الثاني يكون في الكلام التفات‏.‏ وقرئ‏:‏ ‏{‏يَمِيزَ‏}‏ بالتشديد للمخفف، من ماز الشيء يميزه ميزاً إذا فرق بين شيئين، فإن كانت أشياء قيل‏:‏ ميزه تمييزاً ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب‏}‏ حتى تميزوا بين الطيب، والخبيث، فإنه المستأثر بعلم الغيب لا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول من رسله يجتبيه، فيطلعه على شيء من غيبه، فيميز بينكم، كما وقع من نبينا صلى الله عليه وسلم من تعيين كثير من المنافقين، فإن ذلك كان بتعليم الله له، لا بكونه يعلم الغيب؛ وقيل المعنى‏:‏ وما كان الله ليطلعكم على الغيب في من يستحق النبوة، حتى يكون الوحي باختياركم ‏{‏وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى‏}‏ أي‏:‏ يختار ‏{‏مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء‏}‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فآمنوا بالله ورسوله‏}‏ أي‏:‏ افعلوا الإيمان المطلوب منكم، ودعوا الاشتغال بما ليس من شأنكم من التطلع لعلم الله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِن تُؤْمِنُواْ‏}‏ بما ذكر ‏{‏وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ‏}‏ عوضاً عن ذلك‏:‏ ‏{‏أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ لا يعرف قدره، ولا يبلغ كنهه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ الموصول في محل رفع على أنه فاعل الفعل على قراءة من قرأ بالياء التحتية، والمفعول الأول محذوف، أي‏:‏ لا يحسبنّ الباخلون البخل خيراً لهم‏.‏ قاله الخليل، وسيبويه، والفراء، قالوا‏:‏ وإنما حذف لدلالة يبخلون عليه، ومن ذلك قول الشاعر‏:‏

إذا نُهِى السَفِيه جَرَى إليه *** وخالَفَ والسَّفِيهُ إلى خِلافِ

أي‏:‏ جرى إلى السفه، فالسّفيه دلّ على السَّفه‏.‏ وأما على قراءة من قرأ بالفوقية، فالفعل مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمفعول الأول محذوف، أي‏:‏ لا تحسبنّ يا محمد بخل الذين يبخلون خيراً لهم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هو‏:‏ مثل ‏{‏واسئل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ والضمير المذكور هو ضمير الفصل‏.‏ قال المبرد‏:‏ والسين في قوله‏:‏ ‏{‏سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ‏}‏ سين الوعيد، وهذه الجملة مبينة قوله‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ‏}‏ قيل‏:‏ ومعنى التطويق هنا أنه يكون ما بخلوا به من المال طوقاً من نار في أعناقهم‏.‏ وقيل معناه‏:‏ أنه سيحملون عقاب ما بخلوا به، فهو من الطاقة، وليس من التطويق، وقيل المعنى‏:‏ أنهم يلزمون أعمالهم، كما يلزم الطوق العنق، يقال‏:‏ طوق فلان عمله طوق الحمامة‏:‏ أي‏:‏ ألزم جزاء عمله، وقيل‏:‏ إن ما لم تؤدّ زكاته من المال يمثل له شجاعاً أقرع حتى يطوّق به في عنقه، كما ورد ذلك مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال القرطبي‏:‏ والبخل في اللغة أن يمنع الإنسان الحق الواجب، فأما من منع ما لا يجب عليه، فليس ببخيل‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض‏}‏ أي‏:‏ له وحده لا لغيره، كما يفيده التقديم‏.‏ والمعنى‏:‏ أن له ما فيهما مما يتوارثه أهلها، فما بالهم يبخلون بذلك، ولا ينفقونه، وهو لله سبحانه لا لهم، وإنما كان عندهم عارية مستردة‏!‏ ومثل هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 40‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ‏}‏

‏[‏الحديد‏:‏ 7‏]‏ والميراث في الأصل‏:‏ هو ما يخرج من مالك إلى آخر، ولم يكن مملوكاً لذلك الآخر قبل انتقاله إليه بالميراث، ومعلوم أن الله سبحانه هو المالك بالحقيقة لجميع مخلوقاته‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان‏}‏ قال‏:‏ هم المنافقون، وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود قال‏:‏ ما من نفس برّة، ولا فاجرة إلا، والموت خير لها من الحياة إن كان براً، فقد قال الله‏:‏ ‏{‏وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لّلأبْرَارِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 198‏]‏ وإن كان فاجراً، فقد قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن أبي الدرداء نحوه‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، عن محمد بن كعب، نحوه‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، عن أبي برزة أيضاً نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي قال‏:‏ قالوا إن كان محمد صادقاً، فليخبرنا بمن يؤمن به منا، ومن يكفر، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ يميز أهل السعادة من أهل الشقاوة، وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة قال‏:‏ يميز بينهم في الجهاد، والهجرة، وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب‏}‏ قال‏:‏ ولا يطلع على الغيب إلا رسول‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى‏}‏ قال‏:‏ يختص‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن مالك قال‏:‏ يستخلص‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ‏}‏ قال‏:‏ هم أهل الكتاب بخلوا أن يبينوه للناس‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن مجاهد قال‏:‏ هم يهود‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن السدي قال‏:‏ بخلوا أن ينفقوها في سبيل الله لم يؤدوا زكاتها‏.‏ وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من آتاه الله مالاً، فلم يؤد زكاته، مثل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، فيأخذ بلهزمته- يعني بشدقه- فيقول‏:‏ أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية» وقد ورد هذا المعنى في أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة يرفعونها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏181- 184‏]‏

‏{‏لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏181‏)‏ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏182‏)‏ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏183‏)‏ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏184‏)‏‏}‏

قال أهل التفسير‏:‏ لما أنزل الله‏:‏ ‏{‏مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 245، الحديد‏:‏ 11‏]‏ قال قوم من اليهود‏:‏ هذه المقالة تمويهاً على ضعفائهم، لا أنهم يعتقدون ذلك؛ لأنهم أهل الكتاب، بل أرادوا أنه تعالى إن صح ما طلبه منا من القرض على لسان محمد، فهو فقير ليشككوا على إخوانهم في دين الإسلام‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ‏}‏ سنكتبه في صحف الملائكة، أو سنحفظه، أو سنجازيهم عليه‏.‏ والمراد‏:‏ الوعيد لهم، وأن ذلك لا يفوت على الله، بل هو معدّ لهم ليوم الجزاء‏.‏ وجملة سنكتب على هذا مستأنفة جواباً لسؤال مقدر، كأنه قيل‏:‏ ماذا صنع الله بهؤلاء الذين سمع منهم هذا القول الشنيع‏؟‏ فقال‏:‏ قال لهم‏:‏ ‏{‏سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ‏}‏‏.‏ وقرأ الأعمش، وحمزة‏:‏ «سيكتب» بالمثناة التحتية مبني للمفعول‏.‏ وقرأ برفع اللام من «قتلهم» و‏"‏ يقول ‏"‏ بالياء المثناة تحت‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَقَتْلِهِمُ الأنبياء‏}‏ عطف على ‏{‏ما قالوا‏}‏، أي‏:‏ ونكتب قتلهم الأنبياء، أي‏:‏ قتل أسلافهم للأنبياء، وإنما نسب ذلك إليهم لكونهم رضوا به، جعل ذلك القول قريناً لقتل الأنبياء تنبيهاً على أنه من العظم، والشناعة بمكان يعدل قتل الأنبياء‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَنَقُولُ‏}‏ معطوف على ‏{‏سَنَكْتُبُ‏}‏ أي‏:‏ ننتقم منهم بعد الكتابة بهذا القول الذي نقوله لهم في النار، أو عند الموت، أو عند الحساب‏.‏ والحريق‏:‏ اسم للنار الملتهبة وإطلاق الذوق على إحساس العذاب فيه مبالغة بليغة‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ «ويقال ذوقوا» والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى العذاب المذكور قبله، وأشار إلى القريب بالصيغة التي يشار بها إلى البعيد للدلالة على بعد منزلته في الفظاعة، وذكر الأيدي لكونها المباشرة لغالب المعاصي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ‏}‏ معطوف على ‏{‏مَّا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُم‏}‏ ووجه أنه سبحانه عذبهم بما أصابوا من الذنب، وجازاهم على فعلهم، فلم يكن ذلك ظلماً، أو بمعنى‏:‏ أنه مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء، وليس بظالم لمن عذبه بذنبه، وقيل‏:‏ إن وجهه أن نفي الظلم مستلزم للعدل المقتضي لإثابة المحسن، ومعاقبة المسيء، ورد بأن ترك التعذيب مع وجود سببه، ليس بظلم عقلاً، ولا شرعاً، وقيل‏:‏ إن جملة قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ‏}‏ في محل رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ والأمر أن الله ليس بظلام للعبيد، والتعبير بذلك عن نفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم عند أهل السنة فضلاً عن كونه ظلماً بالغاً لبيان تنزهه عن ذلك، ونفي ظلام المشعر بالكثرة، يفيد ثبوت أصل الظلم‏.‏ وأجيب عن ذلك بأن الذي توعد بأن يفعله بهم لو كان ظلماً لكان عظيماً، فنفاه على حدّ عظمه لو كان ثابتاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏الذين قَالُواْ‏}‏ هو خبر مبتدأ محذوف أي‏:‏ هم الذين قالوا، وقيل‏:‏ نعت للعبيد، وقيل‏:‏ منصوب على الذم، وقيل‏:‏ هو في محل جر بدل من ‏{‏لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ‏}‏ وهو ضعيف؛ لأن البدل هو المقصود دون المبدل منه، وليس الأمر كذلك هنا، والقائلون هؤلاء هم جماعة من اليهود، كما سيأتي، وهذا المقول، وهو أن الله عهد إليهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتيهم بالقربان هو من جملة دعاويهم الباطلة‏.‏ وقد كان دأب بني إسرائيل أنهم كانوا يقربون القربان، فيقوم النبي، فيدعو، فتنزل نار من السماء، فتحرقه، ولم يتعبد الله بذلك كل أنبيائه، ولا جعله دليلاً على صدق دعوى النبوة، ولهذا ردّ الله عليهم، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بالبينات وبالذى قُلْتُمْ‏}‏ من القربان ‏{‏فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ كيحيى بن زكريا وشعياء، وسائر من قتلوا من الأنبياء‏.‏ والقربان‏:‏ ما يتقرب به إلى الله من نسيكة وصدقة وعمل صالح، وهو فعلان من القربة؛ ثم سلّى الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ جَاءوا‏}‏ بمثل ما جئت به من البينات‏.‏ والزبر جمع زبور‏:‏ وهو الكتاب، وقد تقدم تفسيره ‏{‏والكتاب المنير‏}‏ الواضح الجلي المضيء، يقال نار الشيء، وأنار، ونوره، واستناره بمعنى‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ دخل أبو بكر بيت المدراس، فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له‏:‏ فنحاص، وكان من علمائهم، وأحبارهم‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة، فقال فنحاص‏:‏ والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه، كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان غنياً عنا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا، ويعطينا، ولو كان غنياً عنا ما أعطانا الربا، فغضب أبو بكر، فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال‏:‏ والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت عنقك يا عدو الله، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا محمد انظر ما صنع صاحبك بي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر‏:‏ «ما حملك على ما صنعت‏؟‏» فقال‏:‏ يا رسول الله قال قولاً عظيماً، يزعم أن الله فقير، وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، فضربت وجهه، فجحد فنحاص فقال‏:‏ ما قلت ذلك، فأنزل الله فيما قال فنحاص تصديقاً لأبي بكر‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ‏}‏ الآية، ونزل في أبي بكر، وما بلغه في ذلك من الغضب

‏{‏وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ أَذىً كَثِيراً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 186‏]‏ الآية‏.‏ وقد أخرج هذه القصة ابن جرير، وابن المنذر، عن عكرمة، وأخرجها ابن جرير، عن السدي بأخصر من ذلك‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والضياء في المختارة من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ أتت اليهود محمداً صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله‏:‏ ‏{‏مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 245‏]‏ فقالوا‏:‏ يا محمد أفقير ربك يسأل عباده القرض‏؟‏ فأنزل الله الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة‏:‏ أن القائل لهذه المقالة حيي بن أخطب، وأنها نزلت فيه‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن العلاء بن بدر أنه سئل عن قوله‏:‏ ‏{‏وَقَتْلِهِمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقّ‏}‏ وهم‏:‏ لم يدركوا ذلك، قال‏:‏ بموالاتهم من قتل الأنبياء‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ‏}‏ قال‏:‏ ما أنا بمعذب من لم يجترم‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏الذين قَالُواْ إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا‏}‏ قال‏:‏ هم اليهود‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 30‏]‏ قال‏:‏ يتصدق الرجل منا، فإذا تقبل منه أنزلت عليه النار من السماء، فأكلته‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏الذين قَالُواْ إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا‏}‏ قال‏:‏ كذبوا على الله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏بالبينات‏}‏ قال‏:‏ الحلال، والحرام ‏{‏والزبر‏}‏ قال‏:‏ كتب الأنبياء ‏{‏والكتاب المنير‏}‏ قال‏:‏ هو القرآن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏185- 189‏]‏

‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ‏(‏185‏)‏ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏186‏)‏ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ‏(‏187‏)‏ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏188‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏189‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏ذَائِقَةُ‏}‏ من الذوق، ومنه قول أمية بن أبي الصلت‏:‏

مَن لَمْ يَمُت غَبْطة يَمُتْ هَرَماً *** المَوت كَأسٌ والمرءُ ذَائِقُها

وهذه الآية تتضمن الوعد، والوعيد للمصدق، والمكذب بعد إخباره، عن الباخلين القائلين ‏{‏إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء‏}‏‏.‏ وقرأ الأعمش، ويحيى بن وثاب، وابن أبي إسحاق‏:‏ ‏{‏ذَائِقَةُ الموت‏}‏ بالتنوين ونصب الموت‏.‏ وقرأ الجمهور بالإضافة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ أجر المؤمن‏:‏ الثواب، وأجر الكافر‏:‏ العقاب، أي‏:‏ أن توفية الأجور، وتكميلها إنما تكون في ذلك اليوم، وما يقع من الأجور في الدنيا، أو في البرزخ، فإنما هو بعض الأجور، والزحزحة‏:‏ التنحية، والإبعاد‏:‏ تكرير الزح، وهو الجذب بعجلة، قاله في الكشاف، وقد سبق الكلام عليه، أي‏:‏ فمن بعد عن النار يومئذ، ونحى، فقد فاز، أي‏:‏ ظفر بما يريد، ونجا مما يخاف، وهذا هو الفوز الحقيقي الذي لا فوز يقاربه، فإن كل فوز، وإن كان بجميع المطالب دون الجنة ليس بشيء بالنسبة إليها، اللهم لا فوز إلا فوز الآخرة، ولا عيش إلا عيشها، ولا نعيم إلا نعيمها، فاغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وارض عنا رضاً لا سخط بعده، واجمع لنا بين الرضا منك علينا، والجنة‏.‏ والمتاع‏:‏ ما يتمتع به الإنسان، وينتفع به، ثم يزول، ولا يبقى كذا قال أكثر المفسرين‏.‏ الغرور‏:‏ الشيطان يغرّ الناس بالأماني الباطلة، والمواعيد الكاذبة، شبه سبحانه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على من يريده، وله ظاهر محبوب، وباطن مكروه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَتُبْلَوُنَّ فِى أموالكم وَأَنفُسِكُمْ‏}‏ هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمته تسلية لهم عما سيلقونه من الكفرة، والفسقة؛ ليوطنوا أنفسهم على الثبات، والصبر على المكاره‏.‏ والابتلاء‏:‏ الامتحان، والاختبار، والمعنى‏:‏ لتمتحننّ، ولتختبرنّ في أموالكم بالمصائب، والإنفاقات الواجبة، وسائر التكاليف الشرعية المتعلقة بالأموال‏.‏ والابتلاء في الأنفس بالموت، والأمراض، وفقد الأحباب، والقتل في سبيل الله‏.‏ وهذه الجملة جواب قسم محذوف دلت عليه اللام الموطئة ‏{‏وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ وهم‏:‏ اليهود والنصارى‏.‏ ‏{‏وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ‏}‏ وهم سائر الطوائف الكفرية من غير أهل الكتاب‏:‏ ‏{‏أَذًى كَثِيراً‏}‏ من الطعن في دينكم، وأعراضكم، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ ذلك‏}‏ إلى الصبر، والتقوى المدلول عليهما بالفعلين‏.‏ وعزم الأمور‏:‏ معزوماتها، أي‏:‏ مما يجب عليكم أن تعزموا عليه لكونه عزمة من عزمات الله التي أوجب عليهم القيام بها، يقال عزم الأمر، أي‏:‏ شدّه، وأصلحه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب‏}‏ هذه الآية توبيخ لأهل الكتاب وهم‏:‏ اليهود والنصارى، أو اليهود فقط على الخلاف في ذلك، والظاهر أن المراد بأهل الكتاب‏:‏ كل من آتاه الله علم شيء من الكتاب، أيُّ كتاب كان، كما يفيده التعريف الجنسي في الكتاب‏.‏

قال الحسن، وقتادة‏:‏ إن الآية عامة لكل عالم، وكذا قال محمد بن كعب، ويدل على ذلك قول أبي هريرة‏:‏ لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء، ثم تلا هذه الآية، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏لَتُبَيّنُنَّهُ‏}‏ راجع إلى الكتاب، وقيل‏:‏ راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يتقدّم له ذكر؛ لأن الله أخذ على اليهود والنصارى أن يبينوا نبوته للناس، ولا يكتموها ‏{‏فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ‏}‏‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر، وأهل المدينة‏:‏ «ليبيننه» بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالمثناة الفوقية‏.‏ وقرأ ابن عباس‏:‏ ‏"‏ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتنيننه ‏"‏ ويشكل على هذه القراءة قوله‏:‏ ‏{‏فَنَبَذُوهُ‏}‏ فلا بد من أن يكون فاعله الناس‏.‏ وفي قراءة ابن مسعود‏:‏ «لتبينونه» والنبذ‏:‏ الطرح، وقد تقدّم في البقرة‏:‏ ‏{‏وَرَاء ظُهُورِهِمْ‏}‏ مبالغة في النبذ، والطرح، وقد تقدّم أيضاً معنى قوله‏:‏ ‏{‏واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً‏}‏ والضمير عائد إلى الكتاب الذي أمروا ببيانه، ونُهوا عن كتمانه، وقوله‏:‏ ‏{‏ثَمَناً قَلِيلاً‏}‏ أي‏:‏ حقيراً يسيراً من حطام الدنيا، وأعراضها، قوله‏:‏ ‏{‏فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ‏}‏ ‏"‏ ما ‏"‏ نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس، ويشترون صفة، والمخصوص بالذم محذوف، أي‏:‏ بئس شيئاً يشترونه بذلك الثمن‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ‏}‏ قرأ الكوفيون بالتاء الفوقية، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بِمَا أَتَوْاْ‏}‏ أي‏:‏ بما فعلوا‏.‏ وقد اختلف في سبب نزول الآية، كما سيأتي، والظاهر شمولها لكل من حصل منه ما تضمنته عملاً بعموم اللفظ، وهو المعتبر دون خصوص السبب، فمن فرح بما فعل، وأحب أن يحمده الناس بما لم يفعل، فلا تحسبنه بمفازة من العذاب‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر، وابن كثير، وأبو عمرو‏:‏ «لا يحسبنّ» بالياء التحتية، أي‏:‏ لا يحسبن الفارحون فرحهم منجياً لهم من العذاب، فالمفعول الأوّل محذوف، وهو فرحهم، والمفعول الثاني بمفازة من العذاب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ‏}‏ تأكيد للفعل الأوّل على القراءتين، والمفازة‏:‏ المنجاة، مفعلة من فاز يفوز إذا نجا، أي‏:‏ ليسوا بفائزين، سمي موضع الخوف مفازة على جهة التفاؤل قاله الأصمعي‏.‏ وقيل‏:‏ لأنها موضع تفويز، ومظنة هلاك، تقول العرب‏:‏ فوّز الرجل إذا مات‏.‏ قال ثعلب‏:‏ حكيت لابن الأعرابي قول الأصمعي، فقال‏:‏ أخطأ‏.‏ قال لي أبو المكارم‏:‏ إنما سميت مفازة؛ لأن من قطعها فاز‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ بل؛ لأنه مستسلم لما أصابه‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ لا تحسبنهم بمكان بعيد من العذاب؛ لأن الفوز التباعد عن المكروه‏.‏ وقرأ مروان بن الحكم، والأعمش، وإبراهيم النخعي‏:‏ «آتوا» بالمد، أي‏:‏ يفرحون بما أعطوا‏.‏ وقرأ جمهور القراء السبعة، وغيرهم ‏{‏أتوا‏}‏ بالقصر‏.‏

وقد أخرج ابن أبي شيبة، وهناد، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، وابن حبان، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«إن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، اقرءوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور‏}‏» وأخرج ابن مردويه، عن سهل بن سعد مرفوعاً نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الزهري في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ ومن الذين أشركوا‏}‏ قال‏:‏ هو كعب بن الأشرف، وكان يحرّض المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه في شعره‏.‏ وأخرج ابن المنذر، من طريق الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج في الآية قال‏:‏ يعني‏:‏ اليهود والنصارى، فكان المسلمون يسمعون من اليهود قولهم‏:‏ ‏{‏عُزَيْرٌ ابن الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 30‏]‏، ومن النصارى قولهم‏:‏ ‏{‏المسيح ابن الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 30‏]‏ ‏{‏وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور‏}‏ قال‏:‏ من القوة مما عزم الله عليه، وأمركم به‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ‏}‏ قال‏:‏ فنحاص، وأشيع، وأشباههما من الأحبار‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ‏}‏ قال‏:‏ كان الله أمرهم أن يتبعوا النبي الأميّ‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه في الآية قال‏:‏ في التوراة والإنجيل أن الإسلام دين الله الذي افترضه على عباده، وأن محمداً رسول الله يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، والإنجيل، فنبذوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في الآية قال‏:‏ هم اليهود‏:‏ ‏{‏لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ‏}‏ قال‏:‏ محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن السدي مثله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في الآية قال‏:‏ هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم، فمن علم علماً، فليعلمه للناس، وإياكم وكتمان العلم، فإن كتمان العلم هلكة‏.‏ وأخرج ابن سعد عن الحسن قال‏:‏ لولا الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما؛ أن مروان قال لبوابه‏:‏ اذهب يا رافع إلى ابن عباس، فقل‏:‏ لئن كان كل امريء منا فرح بما أوتي وأحبّ أن يحمد بما لم يفعل معذباً؛ لَنُعذَّبنّ أجمعون، فقال ابن عباس‏:‏ ما لكم ولهذه الآية، إنما أنزلت في أهل الكتاب، ثم تلا‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب‏}‏ الآية، قال ابن عباس‏:‏ سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا، وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه‏.‏

وفي البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن أبي سعيد الخدري‏:‏ أن رجالاً من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه، وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت‏.‏ وقد روي‏:‏ أنها نزلت في فنحاص، وأشيع، وأشباههما‏.‏ وروي أنها نزلت في اليهود‏.‏ وأخرج مالك، وابن سعد، والطبراني، والبيهقي في الدلائل، عن محمد بن ثابت أن ثابت بن قيس قال‏:‏ يا رسول الله لقد خشيت أن أكون قد هلكت قال‏:‏ «لم‏؟‏» قال‏:‏ قد نهانا الله أن نحبّ أن نحمد بما لم نفعل، وأجدني أحبّ الحمد، ونهانا عن الخيلاء، وأجدني أحب الجمال، ونهانا أن نرفع أصواتنا فوق صوتك، وأنا رجل جهير الصوت، فقال‏:‏ «يا ثابت ألا ترضى أن تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة‏؟‏» فعاش حميداً، وقتل شهيداً يوم مسيلمة الكذاب‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏بِمَفَازَةٍ‏}‏ قال بمنجاة‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد مثله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏190- 194‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏190‏)‏ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏191‏)‏ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏192‏)‏ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ‏(‏193‏)‏ رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏194‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض‏}‏ هذه جملة مستأنفة لتقرير اختصاصه سبحانه بما ذكره فيها‏.‏ والمراد ذات السموات، والأرض، وصفاتهما‏:‏ ‏{‏واختلاف اليل والنهار‏}‏ أي‏:‏ تعاقبهما، وكون كل واحد منهما يخلف الآخر، وكون زيادة أحدهما في نقصان الآخر، وتفاوتهما طولاً، وقصراً، وحراً، وبرداً وغير ذلك‏:‏ ‏{‏لآيَاتٍ‏}‏ أي‏:‏ دلالات واضحة، وبراهين بينة تدل على الخالق سبحانه‏.‏ وقد تقدم تفسير بعض ما هاهنا في سورة البقرة‏.‏ والمراد بأولي الألباب‏:‏ أهل العقول الصحيحة الخالصة، عن شوائب النقص، فإن مجرد التفكير فيما قصه الله في هذه الآية يكفي العاقل، ويوصله إلى الإيمان الذي لا تزلزله الشبه، ولا تدفعه التشكيكات‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏الذين يَذْكُرُونَ الله قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ‏}‏ الموصول نعت لأولي الألباب، وقيل‏:‏ هو مفصول عنه خبر مبتدأ محذوف، أو منصوب على المدح‏.‏ والمراد بالذكر هنا‏:‏ ذكره سبحانه في هذه الأحوال من غير فرق بين حال الصلاة، وغيرها‏.‏ وذهب جماعة من المفسرين إلى أن الذكر هنا عبارة عن الصلاة، أي‏:‏ لا يضيعونها في حال من الأحوال، فيصلونها قياماً مع عدم العذر، وقعوداً، وعلى جنوبهم مع العذر‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السموات والأرض‏}‏ معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏يَذَّكَّرُونَ‏}‏ وقيل‏:‏ إنه معطوف على الحال، أعني‏:‏ ‏{‏قياما وَقُعُوداً‏}‏ وقيل‏:‏ إنه منقطع عن الأوّل، والمعنى‏:‏ أنهم يتفكرون في بديع صنعهما، وإتقانهما مع عظم أجرامها، فإن هذا الفكر إذا كان صادقاً، أوصلهم إلى الإيمان بالله سبحانه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا‏}‏ هو على تقدير القول، أي‏:‏ يقولون ما خلقت هذا عبثاً، ولهواً، بل خلقته دليلاً على حكمتك، وقدرتك‏.‏ والباطل‏:‏ الزائل الذاهب، ومنه قول لبيد‏:‏

ألا كل شيء ما خلا الله باطل *** وهو منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف، أي‏:‏ خلقاً باطلاً، وقيل‏:‏ منصوب بنزع الخافض، وقيل‏:‏ هو مفعول ثان، وخلق بمعنى‏:‏ جعل، أو منصوب على الحال، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ إلى السموات والأرض، أو إلى الخلق على أنه بمعنى المخلوق‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏سبحانك‏}‏ أي‏:‏ تنزيهاً لك عما لا يليق بك من الأمور التي من جملتها أن يكون خلقك لهذه المخلوقات باطلاً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‏}‏ الفاء لترتيب هذا الدعاء على ما قبله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ‏}‏ تأكيد لما تقدمه من استدعاء الوقاية من النار منه سبحانه، وبيان للسبب الذي لأجله دعاه عباده بأن يقيهم عذاب النار، وهو أن من أدخله النار، فقد أخزاه، أي‏:‏ أذله، وأهانه‏.‏ وقال المفضل‏:‏ معنى أخزيته أهلكته، وأنشد‏:‏

أخْزَى الإله بني الصَلِيب عُنَيْزة *** واللابِسين مَلابِس الرهْبَانِ

وقيل‏:‏ معناه‏:‏ فضحته، وأبعدته، يقال‏:‏ أخزاه الله‏:‏ أبعده ومقته، والاسم الخزي‏.‏

قال ابن السّكِّيت‏:‏ خَزَي يَخْزُى خِزياً‏:‏ إذا وقع في بَلِيَّة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى للإيمان‏}‏ المنادي عند أكثر المفسرين هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ هو القرآن، وأوقع السماع على المنادي مع كون المسموع هو النداء؛ لأنه قد وصف المنادي بما يسمع، وهو قوله‏:‏ ‏{‏ينادي للإيمان أن آمنوا‏}‏‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ إن «ينادي» هو المفعول الثاني وذكر ‏{‏ينادي‏}‏ مع أنه قد فهم من قوله‏:‏ ‏{‏مُنَادِياً‏}‏ لقصد التأكيد، والتفخيم لشأن هذا المنادى به، واللام في قوله‏:‏ ‏{‏للإيمان‏}‏ بمعنى إلى، وقيل‏:‏ إن ينادي يتعدّى باللام، وبإلى، يقال ينادي لكذا، وينادي إلى كذا، وقيل‏:‏ اللام للعلة، أي‏:‏ لأجل الإيمان‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أن آمنوا‏}‏ هي‏:‏ إما تفسيرية، أو مصدرية، وأصلها بأن آمنوا، فحذف حرف الجرّ‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَئَامَنَّا‏}‏ أي‏:‏ امتثلنا ما يأمر به هذا المنادي من الإيمان فآمنا، وتكرير النداء في قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ لإظهار التضرع، والخضوع، قيل المراد‏:‏ بالذنوب هنا الكبائر، وبالسيئات الصغائر‏.‏ والظاهر عدم اختصاص أحد اللفظين بأحد الأمرين، والآخر بالآخر، بل يكون المعنى في الذنوب، والسيئات واحداً، والتكرير للمبالغة، والتأكيد، كما أن معنى الغفر، والكفر‏:‏ الستر‏.‏ والأبرار جمع بارّ أو برّ، وأصله من الاتساع، فكأن البار متسع في طاعة الله، ومتسعة له رحمته، قيل‏:‏ هم الأنبياء، ومعنى اللفظ أوسع من ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ‏}‏ هذا دعاء آخر والنكتة في تكرير النداء ما تقدّم، والموعود به على ألسن الرسل هو الثواب الذي وعد الله به أهل طاعته، ففي الكلام حذف، وهو لفظ الألسن، كقوله‏:‏ ‏{‏واسئل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ وقيل‏:‏ المحذوف التصديق، أي‏:‏ ما وعدتنا على تصديق رسلك، وقيل‏:‏ ما وعدتنا منزلاً على رسلك، أو محمولاً على رسلك، والأول أولى‏.‏ وصدور هذا الدعاء منهم مع علمهم أن ما وعدهم الله به على ألسن رسله كائن لا محالة، إما لقصد التعجيل، أو للخضوع بالدعاء، لكونه مخ العبادة، وفي قولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد‏}‏ دليل على أنهم لم يخافوا خلف الوعد، وأن الحامل لهم على الدعاء هو ما ذكرنا‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، عن ابن عباس قال‏:‏ أتت قريش اليهود، فقالوا ما جاءكم به موسى من الآيات‏؟‏ قالوا عصاه، ويده بيضاء للناظرين، وأتوا النصارى، فقالوا‏:‏ كيف كان عيسى فيكم‏؟‏ قالوا‏:‏ كان يبرئ الأكمه، والأبرص، ويحيي الموتى، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهباً، فدعا ربه، فنزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض‏}‏ الآية‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال‏:‏ بتُّ عند خالتي ميمونة، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتصف الليل، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل، ثم استيقظ، فجعل يمسح النوم عن وجهه بيديه، ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران حتى ختم‏.‏

وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، والطبراني، والحاكم في الكنى، والبغوي في معجم الصحابة، عن صفوان بن المعطل قال‏:‏ كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر، فذكر نحوه‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، من طريق جوبير، عن الضحاك، عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏الذين يَذْكُرُونَ الله قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ‏}‏ الآية، قال‏:‏ إنما هذه في الصلاة إذا لم يستطع قائماً، فقاعداً، وإن لم يستطع قاعداً، فعلى جنبه‏.‏ وقد ثبت في البخاري من حديث عمران بن حصين قال‏:‏ «كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فقال‏:‏ ‏"‏ صلّ قائماً، فإن لم تستطع، فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب ‏"‏ وثبت فيه عنه قال‏:‏ «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن صلاة الرجل، وهو قاعد، فقال‏:‏ ‏"‏ من صلى قائماً، فهو أفضل، ومن صلى قاعداً، فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً، فله نصف أجر القاعد ‏"‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في الآية قال‏:‏ هذه حالاتك كلها يابن آدم، اذكر الله، وأنت قائم، فإن لم تستطع، فاذكره جالساً، فإن لم تستطع جالساً، فاذكره، وأنت على جنبك، يسر من الله، وتخفيف‏.‏

وأقول هذا التقييد الذي ذكره بعدم الاستطاعة مع تعميم الذكر لا وجه له لا من الآية، ولا من غيرها، فإنه لم يرد في شيء من الكتاب، والسنة ما يدل على أنه لا يجوز الذكر من قعود إلا مع عدم استطاعة الذكر من قيام، ولا يجوز على جنب إلا مع عدم استطاعته من قعود، وإنما يصلح هذا التقييد لمن جعل المراد بالذكر هنا‏:‏ الصلاة، كما سبق عن ابن مسعود‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن حبان في صحيحه، وابن مردويه، عن عائشة مرفوعاً‏:‏ ‏"‏ ويل لمن قرأ هذه الآية، ولم يتفكر فيها ‏"‏‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا في التفكر عن سفيان رفعه ‏"‏ من قرأ آخر سورة آل عمران، فلم يتفكر فيها، ويله فعدّ أصابعه عشراً ‏"‏ قيل للأوزاعي‏:‏ ما غاية التفكر فيهنّ‏؟‏ قال‏:‏ يقرؤهنّ، وهو يعقلهنّ‏.‏ وقد وردت أحاديث، وآثار عن السلف في استحباب التفكر مطلقاً‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أنس في قوله‏:‏ ‏{‏مَنْ تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ‏}‏ قال‏:‏ من تخلد‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن سعيد بن المسيب في الآية قال‏:‏ هذه خاصة بمن لا يخرج منها‏.‏ وأخرج ابن جرير، والحاكم، عن عمرو بن دينار قال‏:‏ قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة، فانتهيت إليه أنا، وعطاء فقلت‏:‏

‏{‏وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 167‏]‏ قال‏:‏ أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم الكفار، قلت لجابر‏:‏ فقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ‏}‏ قال‏:‏ وما أخزاه حين أحرقه بالنار، وإن دون ذلك خزياً‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج في قوله‏:‏ ‏{‏مُنَادِياً يُنَادِى للإيمان‏}‏ قال‏:‏ هو محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد مثله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن محمد بن كعب القرظي قال‏:‏ هو القرآن، ليس كل أحد سمع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج في قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ‏}‏ قال‏:‏ يستنجزون موعد الله على رسله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة‏}‏ قال‏:‏ لا تفضحنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏195- 195‏]‏

‏{‏فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ‏(‏195‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏فاستجاب‏}‏ الاستجابة بمعنى‏:‏ الإجابة؛ وقيل‏:‏ الإجابة عامة، والاستجابة خاصة بإعطاء المسئول، وهذا الفعل يتعدى بنفسه، وباللام، يقال استجابه، واستجاب له، والفاء للعطف؛ وقيل‏:‏ على مقدّر‏:‏ أي‏:‏ دعوا بهذه الأدعية، فاستجاب لهم، وقيل‏:‏ على قوله‏:‏ ‏{‏وَيَتَفَكَّرُونَ‏}‏ وإنما ذكر سبحانه الاستجابة، وما بعدها في جملة ما لهم من الأوصاف الحسنة؛ لأنها منه، إذ من أجيبت دعوته، فقد رفعت درجته‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ‏}‏ أي بأني، وقرأ عيسى بن عمرو بكسر الهمزة على تقدير القول الأول، وقرأ أبيّ بثبوت الباء، وهي للسببية، أي‏:‏ فاستجاب لهم ربهم بسبب أنه لا يضيع عمل عامل منهم‏.‏ والمراد بالإضاعة‏:‏ ترك الإثابة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى‏}‏ ‏"‏ من ‏"‏ بيانية ومؤكدة لما تقتضيه النكرة الواقعة في سياق النفي من العموم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ‏}‏ أي‏:‏ رجالكم مثل نسائكم في الطاعة، ونساؤكم مثل رجالكم فيها، والجملة معترضة لبيان كون كل منهما من الآخر باعتبار تشعبهما من أصل واحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فالذين هاجروا‏}‏ الآية، هذه الجملة تتضمن تفصيل ما أجمل في قوله‏:‏ ‏{‏أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ‏}‏ أي فالذين هاجروا من أوطانهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَأُخْرِجُواْ مِن ديارهم‏}‏ في طاعة الله عزّ وجلّ ‏{‏وَقَاتِلُواْ‏}‏ أعداء الله ‏{‏وَقُتّلُواْ‏}‏ في سبيل الله، وقرأ ابن كثير، وابن عامر‏:‏ «وقتّلوا» على التكثير وقرأ الأعمش، وحمزة، والكسائي‏:‏ «وقتلوا وقاتلوا» وهو مثل قول الشاعر‏:‏

تصابى وأمسى علاه الكبر *** أي‏:‏ قد علاه الكبر، وأصل الواو لمطلق الجمع بلا ترتيب، كما قال به الجمهور‏.‏ ولمراد هنا‏:‏ أنهم قاتلوا، وقتل بعضهم، كما قال امرؤ القيس‏:‏

فإن تقتلونا نقتلكمو *** وقرأ عمر بن عبد العزيز‏:‏ «وقتلوا وقتلوا»‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى‏}‏ أي‏:‏ بسببه، والسبيل‏:‏ الدين الحق‏.‏ والمراد هنا‏:‏ ما نالهم من الأذية من المشركين بسبب إيمانهم بالله، وعملهم بما شرعه الله لعباده‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لأكَفّرَنَّ‏}‏ جواب قسم محذوف‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثَوَاباً مّن عِندِ الله‏}‏ مصدر مؤكد عند البصريين، لأن معنى قوله‏:‏ ‏{‏لأدخلنهم جنات‏}‏ لأثيبنهم ثواباً، أي‏:‏ إثابة، أو تثويباً كائناً من عند الله‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ إنه منتصب على الحال‏.‏ وقال الفراء‏:‏ على التفسير ‏{‏والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب‏}‏ أي‏:‏ حسن الجزاء، وهو ما يرجع على العامل من جزاء عمله من ثاب يثوب‏:‏ إذا رجع‏.‏

وقد أخرج سعيد بن منصور، وعبد الرزاق، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، عن أم سلمة قالت‏:‏ يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏فاستجاب لَهُمْ‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطاء قال‏:‏ «ما من عبد يقول يا ربّ يا ربّ يا ربّ ثلاث مرات إلا نظر الله إليه» فذكر للحسن، فقال‏:‏ أما تقرأ القرآن‏؟‏ ‏{‏رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن أم سلمة قالت‏:‏ آخر آية نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ‏}‏ إلى آخرها‏.‏ وقد ورد في فضل الهجرة أحاديث كثيرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏196- 200‏]‏

‏{‏لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ‏(‏196‏)‏ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏197‏)‏ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ‏(‏198‏)‏ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏199‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏200‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَغُرَّنَّكَ‏}‏ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والمراد‏:‏ تثبيته على ما هو عليه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 136‏]‏ أو خطاب لكل أحد، وهذه الآية متضمنة لقبح حال الكفار بعد ذكر حسن حال المؤمنين؛ والمعنى‏:‏ لا يغرنك ما هم فيه من تقلبهم في البلاد بالأسفار للتجارة التي يتوسعون بها في معاشهم، فهو متاع قليل يتمتعون به في هذه الدار، ثم مصيرهم إلى جهنم، فقوله‏:‏ ‏{‏متاع‏}‏ خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ هو متاع قليل لا اعتداد به بالنسبة إلى ثواب الله سبحانه ‏{‏وَمَأْوَاهُمُ‏}‏ أي‏:‏ ما يأوون إليه‏.‏ والتقلب في البلاد‏:‏ الاضطراب في الأسفار إلى الأمكنة، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى البلاد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ والمتاع ما يعجل الانتفاع به، وسماه قليلاً؛ لأنه فانٍ وكل فانٍ، وإن كان كثيراً، فهو قليل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَبِئْسَ المهاد‏}‏ ما مهدوا لأنفسهم في جهنم بكفرهم، أو ما مهد الله لهم من النار، فالمخصوص بالذم محذوف، وهو هذا المقدّر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ‏}‏ هو استدراك مما تقدّمه؛ لأن معناه معنى النفي كأنه قال‏:‏ ليس لهم في تقلبهم في البلاد كثير انتفاع ‏{‏لَكِنِ الذين اتقوا‏}‏ لهم الانتفاع الكثير، والخلد الدائم‏.‏ وقرأ يزيد بن القعقاع «لكن» بتشديد النون‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏نُزُلاً‏}‏ مصدر مؤكد عند البصريين، كما تقدّم في ‏{‏ثواباً‏}‏ وعند الكسائي، والفراء مثل ما قالا في ‏{‏ثواباً‏}‏، والنزل ما يهيأ للنزيل، والجمع أنزال، قال الهروي‏:‏ ‏{‏نُزُلاٍ مّنْ عِندِ الله‏}‏ أي‏:‏ ثواباً من عند الله ‏{‏وَمَا عِندَ الله‏}‏ مما أعدّه لمن أطاعه ‏{‏خَيْرٌ لّلأبْرَارِ‏}‏ مما يحصل للكفار من الربح في الأسفار فإنه متاع قليل عن قريب يزول‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله‏}‏ هذه الجملة سيقت لبيان أن بعض أهل الكتاب لهم حظّ من الدين، وليسوا كسائرهم في فضائحهم التي حكاها الله عنهم فيما سبق، وفيما سيأتي، فإن هذا البعض يجمعون بين الإيمان بالله، وبما أنزل الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزله على أنبيائهم حال كونهم ‏{‏خاشعين للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يستبدلون ‏{‏بآيات الله ثمناً قليلاً‏}‏ بالتحريف، والتبديل، كما يفعله سائرهم، بل يحكون كتب الله سبحانه، كما هي، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إلى هذه الطائفة الصالحة من أهل الكتاب من حيث اتصافهم بهذه الصفات الحميدة ‏{‏لَهُمْ أَجْرُهُمْ‏}‏ الذي وعد الله سبحانه به بقوله‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 54‏]‏ وتقديم الخبر يفيد اختصاص ذلك الأجر بهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ في محل نصب على الحال‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اصبروا‏}‏ الخ‏.‏ هذه الآية العاشرة من قوله سبحانه‏:‏

‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السموات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 164، آل عمران‏:‏ 190‏]‏ ختم بها هذه السورة لما اشتملت عليه من الوصايا التي جمعت خير الدنيا، والآخرة، فحض على الصبر على الطاعات، والشهوات، والصبر‏:‏ الحبس، وقد تقدم تحقيق معناه‏.‏ والمصابرة‏:‏ مصابرة الأعداء، قاله الجمهور‏:‏ أي‏:‏ غالبوهم في الصبر على الشدائد الحرب، وخص المصابرة بالذكر بعد أن ذكر الصبر لكونها أشدّ منه، وأشقّ‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ صابروا على الصلوات، وقيل صابروا الأنفس عن شهواتها‏.‏ وقيل‏:‏ صابروا الوعد الذي وعدتم، ولا تيأسوا، والقول الأول هو المعنى العربي، ومنه قول عنترة‏:‏

فَلَمْ أرَ حيّاً صَابَروا مِثْل صَبَرْنا *** وَلا كَافَحوا مِثْلَ الذين نُكَافِحُ

أي‏:‏ صابروا العدّو في الحرب‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَرَابِطُواْ‏}‏ أي‏:‏ أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها، كما يربطها أعداؤكم وهذا قول جمهور المفسرين‏.‏ وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن‏:‏ هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة، ولم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه، وسيأتي ذكر من خرج عنه هذا، والرباط اللغوي هو الأوّل، ولا ينافيه تسميته صلى الله عليه وسلم، لغيره رباطاً، كما سيأتي‏.‏ ويمكن إطلاق الرباط على المعنى الأول، وعلى انتظار الصلاة‏.‏ قال الخليل‏:‏ الرباط ملازمة الثغور، ومواظبة الصلاة، هكذا قال، وهو من أئمة اللغة‏.‏ وحكى ابن فارس عن الشيباني أنه قال‏:‏ يقال ماء مترابط دائم لا يبرح، وهو يقتضي تعدية الرباط إلى غير ارتباط الخيل في الثغور‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ فلا تخالفوا ما شرعه لكم ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ أي‏:‏ تكونون من جملة الفائزين بكل مطلوب، وهم‏:‏ المفلحون‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ‏}‏ تقلب ليلهم، ونهارهم وما يجري عليهم من النعم، قال عكرمة‏:‏ قال ابن عباس، وبئس المهاد، أي‏:‏ بئس المنزل‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏تَقَلُّبُهُمْ فِى البلاد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ قال ضربهم في البلاد‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، والبخاري في الأدب المفرد، وابن أبي حاتم، عن ابن عمر في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لّلابْرَارِ‏}‏ قال‏:‏ إنما سماهم الله أبراراً؛ لأنهم بروا الآباء، والأبناء، كما أن لوالدك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حقاً‏.‏ وأخرجه ابن مردويه، عنه مرفوعاً، والأول أصح قاله السيوطي‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد‏:‏ ‏{‏خَيْرٌ لّلأبْرَارِ‏}‏ لمن يطيع الله‏.‏

وأخرج النسائي، والبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن أنس قال‏:‏ لما مات النجاشي قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صلوا عليه،» قالوا‏:‏ يا رسول الله نصلي على عبد حبشي‏؟‏ فأنزل الله ‏{‏وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن جابر مرفوعاً أن المنافقين قالوا‏:‏ انظروا إلى هذا- يعني النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على علج نصراني، فنزلت‏.‏

وأخرج الحاكم وصححه، عن عبد الله بن الزبير أنها نزلت في النجاشي‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال‏:‏ هم مسلمة أهل الكتاب من اليهود والنصارى‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن قال‏:‏ هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد، والذين اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج ابن المبارك، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ما قدّمنا ذكره‏.‏

وأخرج ابن مردويه عنه عن أبي هريرة قال‏:‏ أما إنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد يصلون الصلوات في مواقيتها ثم يذكرون الله فيها‏.‏ وقد ثبت في الصحيح وغيره من قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات‏:‏ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط ‏"‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن محمد بن كعب القرظي؛ قال‏:‏ اصبروا على دينكم، وصابروا، الوعد الذي وعدتكم، ورابطوا عدوي، وعدوكم‏.‏ وقد روي من تفاسير السلف غير هذا في سر الصبر على نوع من أنواع الطاعات، والمصابرة على نوع آخر، ولا تقوم بذلك حجة، فالواجب الرجوع إلى المدلول اللغوي، وقد قدّمناه‏.‏

وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الرباط، وفيها التصريح بأنه الرباط في سبيل الله، وهو يردّ ما قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ندب إلى الرباط في سبيل الله، وهو الجهاد، فيحمل ما في الآية عليه، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه سمى حراسة جيش المسلمين رباطاً، فأخرج الطبراني في الأوسط بسند جيد عن أنس قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر المرابط، فقال‏:‏ ‏"‏ من رابط ليلة حارساً من وراء المسلمين كان له أجر من خلفه ممن صام وصلى ‏"‏

وقد ورد في فضل هذه العشر الآيات التي في آخر هذه السورة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أخرجه ابن السني، وابن مردويه، وابن عساكر، عن أبي هريرة‏:‏ ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة ‏"‏ وفي إسناده مظاهر بن أسلم، وهو ضعيف‏.‏ وقد تقدم من حديث ابن عباس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه العشر الآيات لما استيقظ‏.‏ وكذلك تقدم في غير الصحيحين من رواية صفوان بن المعطل عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج الدارمي عن عثمان بن عفان قال‏:‏ «من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة»‏.‏