فصل: تفسير الآيات رقم (131- 134)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏131- 134‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ‏(‏131‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏132‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ‏(‏133‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏134‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ هذه الجملة مستأنفة لتقرير كمال سعته سبحانه، وشمول قدرته ‏{‏وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ أمرناهم فيما أنزلناه عليهم من الكتب، واللام في الكتاب للجنس ‏{‏وإياكم‏}‏ عطف على الموصول ‏{‏أَنِ اتقوا الله‏}‏ أي‏:‏ أمرناهم وأمرناكم بالتقوى، وهو في موضع نصب بقوله‏:‏ ‏{‏وَصَّيْنَا‏}‏ أو منصوب بنزع الخافض‏.‏ قال الأخفش‏:‏ أي‏:‏ بأن اتقوا الله، ويجوز أن تكون أن مفسرة؛ لأن التوصية في معنى القول‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى * السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏أَنِ اتقوا‏}‏ أي‏:‏ وصيناهم وإياكم بالتقوى، وقلنا لهم ولكم إن تكفروا، وفائدة هذا التكرير التأكيد ليتنبه العباد على سعة ملكه، وينظروا في ذلك، ويعلموا أنه غنيّ عن خلقه ‏{‏إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يفنكم ‏{‏وَيَأْتِ بِآخَرِينَ‏}‏ أي‏:‏ بقوم آخرين غيركم، وهو كقوله تعالى ‏{‏وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 38‏]‏ ‏{‏مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا‏}‏ وهو من يطلب بعمله شيئاً من أمور الدنيا كالمجاهد يطلب الغنيمة دون الأجر ‏{‏فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة‏}‏ فما باله يقتصر على أدنى الثوابين، وأحقر الأجرين، وهلا طلب بعمله ما عند الله سبحانه، وهو ثواب الدنيا والآخرة، فيحرزهما جميعاً، ويفوز بهما، وظاهر الآية العموم‏.‏ وقال ابن جرير الطبري‏:‏ إنها خاصة بالمشركين والمنافقين‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً‏}‏ يسمع ما يقولونه، ويبصر ما يفعلونه‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الله غَنِيّاً‏}‏ عن خلقه ‏{‏حَمِيداً‏}‏ قال‏:‏ مستحمداً إليهم‏.‏ وأخرجا أيضاً عن علي مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله وَكِيلاً‏}‏ قال‏:‏ حفيظاً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عنه في قوله‏:‏ ‏{‏إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِاخَرِينَ‏}‏ قال قادر والله ربنا على ذلك أن يهلك من خلقه ما شاء ويأتي بآخرين من بعدهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏135- 136‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏135‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏136‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَوَّامِينَ‏}‏ صيغة مبالغة، أي‏:‏ ليتكرر منكم القيام بالقسط، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم، وهو الإقرار بما عليكم من الحقوق، وأما شهادته على والديه فبأن يشهد عليهما بحق للغير‏.‏ وكذلك الشهادة على الأقربين، وذكر الأبوين لوجوب برّهما، وكونهما أحبّ الخلق إليه، ثم ذكر الأقربين؛ لأنهم مظنة المودّة والتعصب، فإذا شهدوا على هؤلاء بما عليهم، فالأجنبي من الناس أحرى أن يشهدوا عليه‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن معنى الشهادة على النفس أن يشهد بحق على من يخشى لحوق ضرر منه على نفسه، وهو بعيد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏شُهَدَاء للَّهِ‏}‏ خبر بعد خبر لكان، أو حال، ولم ينصرف؛ لأن فيه ألف التأنيث‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ الحال فيه ضعيفة في المعنى؛ لأنها تخصص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لِلَّهِ‏}‏ أي‏:‏ لمرضاته وثوابه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ‏}‏ متعلق بشهداء، هذا المعنى الظاهر من الآية؛ وقيل معنى‏:‏ ‏{‏شُهَدَاء للَّهِ‏}‏ بالوحدانية، فيتعلق قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ‏}‏ بقوّامين، والأوّل أولى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً‏}‏ اسم كان مقدّر، أي‏:‏ إن يكن المشهود عليه غنياً، فلا يراعى لأجل غناه استجلاباً لنفعه، أو استدفاعاً لضره، فيترك الشهادة عليه، أو فقيراً فلا يراعى لأجل فقره رحمة له، وإشفاقاً عليه، فيترك الشهادة عليه، وإنما قال‏:‏ ‏{‏فالله أولى بِهِمَا‏}‏ ولم يقل به مع أن التخيير إنما يدل على الحصول لواحد؛ لأن المعنى‏:‏ فالله أولى بكل واحد منهما‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ تكون ‏"‏ أو ‏"‏ بمعنى الواو؛ وقيل‏:‏ إنه يجوز ذلك مع تقدّم ذكرهما كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ واحد مّنْهُمَا السدس‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 12‏]‏‏.‏ وقد تقدّم في مثل هذا ما هو أبسط مما هنا‏.‏ وقرأ أبيّ‏:‏ «فالله أولى بهم»‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ «إن يكن غنيّ أو فقير» على أن كان تامة‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى‏}‏ نهاهم عن اتباع الهوى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَن تَعْدِلُواْ‏}‏ في موضع نصب، وهو إما من العدل كأنه قال‏:‏ فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس، أو من العدول كأنه قال‏:‏ فلا تتبعوا الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق، أو كراهة أن تعدلوا عن الحق‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تَلْوُواْ‏}‏ من الليّ، يقال لويت فلاناً حقه‏:‏ إذا دفعته عنه‏.‏ والمراد ليّ الشهادة ميلاً إلى المشهود عليه‏.‏ وقرأ ابن عامر، والكوفيون «وإن تلوا» من الولاية، أي‏:‏ وإن تلوا الشهادة، وتتركوا ما يجب عليكم من تأديتها على وجه الحق‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذه القراءة تفيد معنيين‏:‏ الولاية، والإعراض‏.‏ والقراءة الأولى تفيد معنى واحداً وهو الإعراض‏.‏ وزعم بعض النحويين أن القراءة الثانية غلط ولحن؛ لأنه لا معنى للولاية هاهنا‏.‏

قال النحاس وغيره‏:‏ وليس يلزم هذا، ولكن يكون تلوا بمعنى تلووا، وذلك أن أصله تلووا، فاستثقلت الضمة على الواو وبعدها واو أخرى، فألقيت الحركة على اللام، وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين‏.‏ وذكر الزجاج نحوه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ تُعْرِضُواْ‏}‏ أي‏:‏ عن تأدية الشهادة من الأصل ‏{‏فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً‏}‏ أي‏:‏ بما تعملون من الليّ والإعراض، أو من كل عمل، وفي هذا وعيد شديد لمن لم يأت بالشهادة، كما تجب عليه، وقد روى أن هذه الآية تعمّ القاضي والشهود، أما الشهود فظاهر، وأما القاضي فذلك بأن يعرض عن أحد الخصمين، أو يلوى عن الكلام معه وقيل‏:‏ هي خاصة بالشهود‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ أي‏:‏ اثبتوا على إيمانكم، وداوموا عليه، والخطاب هنا للمؤمنين جميعاً ‏{‏والكتاب الذى نَزَّلَ على رَسُولِهِ‏}‏ هو القرآن، واللام للعهد ‏{‏والكتاب الذى أَنَزلَ مِن قَبْلُ‏}‏ هو كل كتاب، واللام للجنس‏.‏ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر «نزل»، و«أنزل» بالضم‏.‏ وقرأ الباقون بالفتح فيهما‏.‏ وقيل إن الآية نزلت في المنافقين‏.‏ والمعنى‏:‏ يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله‏.‏ وقيل نزلت في المشركين، والمعنى‏:‏ يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى آمنوا بالله، وهما ضعيفان‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر‏}‏ أي‏:‏ بشيء من ذلك ‏{‏فَقَدْ ضَلَّ‏}‏ عن القصد ‏{‏ضلالا بَعِيداً‏}‏ وذكر الرسول فيما سبق لذكر الكتاب الذي أنزل عليه، وذكر الرسل هنا لذكر الكتب جملة، فناسبه ذكر الرسل جملة، وتقديم الملائكة على الرسل؛ لأنهم الوسائط بين الله وبين رسله‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ‏}‏ الآية‏:‏ قال، أمر الله المؤمنين أن يقولوا بالحق ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم، لا يحابون غنياً لغناه، ولا يرحمون مسكيناً لمسكنته، وفي قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى‏}‏ فتذروا الحق فتجوروا ‏{‏وَإِن تَلْوُواْ‏}‏ يعني بألسنتكم بالشهادة ‏{‏أَوْ تُعْرِضُواْ‏}‏ عنها‏.‏ وأخرج أحمد، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية عنه في معنى الآية قال‏:‏ الرجلان يجلسان عند القاضي، فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحد الرجلين على الآخر‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال‏:‏ لما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة كانت البقرة أوّل سورة نزلت، ثم أردفها سورة النساء، قال‏:‏ فكان الرجل تكون عنده الشهادة قبل ابن عمه أو ذوي رحمه، فيلوى بها لسانه أو يكتمها مما يرى من عسرته حتى يوسر، فيقضي حين يوسر، فنزلت‏:‏ ‏{‏كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج ابن جرير عنه أيضاً ‏{‏وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ‏}‏ يقول‏:‏ تلوي لسانك بغير الحق، وهي اللجلجة، فلا تقيم الشهادة على وجهها‏.‏

والإعراض‏:‏ الترك‏.‏ وأخرج الثعلبي عن ابن عباس أن عبد الله بن سلام وأسدا وأسيدا ابني كعب، وثعلبة بن قيس وسلاماً ابن أخت عبد الله بن سلام، وسلمة ابن أخيه، ويامين بن يامين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك، وموسى والتوراة وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بل آمنوا بالله ورسوله محمد، وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله»، فقالوا‏:‏ لا نفعل، فنزلت‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ بالله‏}‏ الآية‏.‏ وينبغي النظر في صحة هذا، فالثعلبي رحمه الله ليس من رجال الرواية، ولا يفرّق بين الصحيح والموضوع‏.‏

وأخرج ابن المنذر، عن الضحاك في هذه الآية قال‏:‏ يعني بذلك‏:‏ أهل الكتاب، كان الله قد أخذ ميثاقهم في التوراة والإنجيل، وأقرّوا على أنفسهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما بعث الله رسوله دعاهم إلى أن يؤمنوا بمحمد والقرآن، وذكرهم الذي أخذ عليهم من الميثاق، فمنهم من صدّق النبيّ صلى الله عليه وسلم واتبعه، ومنهم من كفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏137- 141‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ‏(‏137‏)‏ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏138‏)‏ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ‏(‏139‏)‏ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ‏(‏140‏)‏ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ‏(‏141‏)‏‏}‏

أخبر الله سبحانه عن هذه الطائفة التي آمنت ثم كفرت ثم آمنت، ثم كفرت، ثم ازدادت كفراً بعد ذلك كله، أنه لم يكن الله سبحانه ليغفر لهم ذنوبهم، ولا ليهديهم سبيلاً يتوصلون به إلى الحق، ويسلكونه إلى الخير؛ لأنه يبعد منهم كل البعد أن يخلصوا لله، ويؤمنوا إيماناً صحيحاً، فإن هذا الاضطراب منهم تارة يدّعون أنهم مؤمنون، وتارة يمرقون من الإيمان ويرجعون إلى ما هو دأبهم، وشأنهم من الكفر المستمرّ، والجحود الدائم يدلّ أبلغ دلالة على أنهم متلاعبون بالدين، ليست لهم نية صحيحة، ولا قصد خالص‏.‏ قيل المراد بهؤلاء‏:‏ اليهود فإنهم آمنوا بموسى، ثم كفروا بعزير، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ وقيل‏:‏ آمنوا بموسى، ثم كفروا به بعبادتهم العجل، ثم آمنوا به عند عوده إليهم، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بالآية‏:‏ أنهم ازدادوا كفراً واستمروا على ذلك كما هو الظاهر من حالهم، وإلا فالكافر إذا آمن وأخلص إيمانه، وأقلع عن الكفر، فقد هداه الله السبيل الموجب للمغفرة، «والإسلام يجبّ ما قبله»، ولكن لما كان هذا مستبعداً منهم جداً كان غفران ذنوبهم، وهدايتهم إلى سبيل الحق مستبعداً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏بَشّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ إطلاق البشارة على ما هو شرّ خالص لهم تهكم بهم، وقد مرّ تحقيقه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاء‏}‏ وصف للمنافقين، أو منصوب على الذمّ، أي‏:‏ يجعلون الكفار أولياء لهم يوالونهم على كفرهم، ويمالئونهم على ضلالهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مِن دُونِ المؤمنين‏}‏ في محل نصب على الحال، أي‏:‏ يوالون الكافرين متجاوزين ولاية المؤمنين ‏{‏أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة‏}‏ هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والجملة معترضة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً‏}‏ هذه الجملة تعليل لما تقدّم من توبيخهم بابتغاء العزّة عند الكافرين، وجميع أنواع العزّة، وأفرادها مختص بالله سبحانه، وما كان منها مع غيره، فهو من فيض، وتفضله كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏ والعزة‏:‏ الغلبة‏.‏ يقال عزّه يعزّه عزّا‏:‏ إذا غلبه‏:‏ ‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الكتاب‏}‏ الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من مؤمن ومنافق؛ لأن من أظهر الإيمان، فقد لزمه أن يمتثل ما أنزله الله؛ وقيل إنه خطاب للمنافقين فقط كما يفيده التشديد والتوبيخ‏.‏ وقرأ عاصم، ويعقوب‏:‏ ‏{‏نزل‏}‏ بفتح النون والزاي وتشديدها، وفاعله ضمير راجع إلى اسم الله تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً‏}‏‏.‏ وقرأ حميد بتخفيف الزاي مفتوحة مع فتح النون، وقرأ الباقون بضم النون مع كسر الزاي مشدّدة على البناء للمجهول‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أن إذا سمعتم آيات الله‏}‏ في محل نصب على القراءة الأولى على أنه مفعول ‏{‏نزل‏}‏‏.‏

وفي محل رفع على القراءة الثانية على أنه فاعل، وفي محل رفع على أنه مفعول ما لم يسمّ فاعله على القراءة الثالثة‏.‏ و‏{‏أن‏}‏ هي المخففة من الثقيلة، والتقدير أنه إذا سمعتم آيات الله‏.‏ والكتاب‏:‏ هو القرآن‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا‏}‏ حالان، أي‏:‏ إذا سمعتم الكفر، والاستهزاء بآيات الله، فأوقع السماع على الآيات‏.‏ والمراد‏:‏ سماع الكفر والاستهزاء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏ أي‏:‏ أنزل عليكم في الكتاب أنكم عند هذا السماع للكفر، والاستهزاء بآيات الله لا تقعدوا معهم ما داموا كذلك حتى يخوضوا في حديث غير حديث الكفر والاستهزاء بها‏.‏ والذي أنزله الله عليهم في الكتاب هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِى ءاياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 68‏]‏ وقد كان جماعة من الداخلين في الإسلام يقعدون مع المشركين واليهود، حال سخريتهم بالقرآن، واستهزائهم به، فنهوا عن ذلك‏.‏

وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص، والاستهزاء للأدلة الشرعية، كما يقع كثيراً من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة، ولم يبق في أيديهم سوى قال إمام مذهبنا كذا، وقال فلان من أتباعه بكذا، وإذا سمعوا من يستدلّ على تلك المسألة بآية قرآنية، أو بحديث نبوي سخروا منه، ولم يرفعوا إلى ما قاله رأساً، ولا بالوا به بالة، وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع، وخطب شنيع، وخالف مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع، بل بالغوا في ذلك حتى جعلوا رأيه العايل، واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل، مقدّماً على الله، وعلى كتابه، وعلى رسوله، فإنا لله، وإنا إليه راجعون، ما صنعت هذه المذاهب بأهلها، والأئمة الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم برآء من فعلهم، فإنهم قد صرّحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم، كما أوضحنا ذلك في رسالتنا المسماة ب «القول المفيد في حكم التقليد» وفي مؤلفنا المسمى ب «أدب الطلب، ومنتهى الأرب» اللهم انفعنا بما علمتنا، واجعلنا من المقتدين بالكتاب والسنة وباعد بيننا وبين آراء الرجال المبنية على شفا جرف هار، يا مجيب السائلين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ‏}‏ تعليل للنهي أي‏:‏ إنكم إن فعلتم ذلك، ولم تنتهوا، فأنتم مثلهم في الكفر‏.‏ قيل‏:‏ وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر كما في قول القائل‏:‏

وكل قرين بالمقارنِ يقتدي *** وهذه الآية محكمة عند جميع أهل العلم إلا ما يروى عن الكلبي فإنه قال‏:‏ هي منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَئ‏}‏

‏[‏الأنعام‏:‏ 69‏]‏ وهو مردود، فإن من التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين يكفرون بآيات الله، ويستهزئون بها‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً‏}‏ هذا تعليل لكونهم مثلهم في الكفر، قيل‏:‏ وهم القاعدون، والمقعود إليهم عند من جعل الخطاب موجهاً إلى المنافقين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ينتظرون بكم ما يتجدد، ويحدث لكم من خير أو شرّ، والموصول في محل نصب على أنه صفة للمنافقين، أو بدل منهم فقط دون الكافرين، لأن التربص المذكور هو من المنافقين دون الكافرين، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذم، ‏{‏فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ الله قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ‏}‏ هذه الجملة، والجملة التي بعدها حكاية لتربصهم، أي‏:‏ إن حصل لكم فتح من الله بالنصر على من يخالفكم من الكفار ‏{‏قَالُواْ‏}‏ لكم ‏{‏أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ‏}‏ في الاتصاف بظاهر الإسلام، والتزام أحكامه والمظاهرة والتسويد، وتكثير العدد ‏{‏وَإِن كَانَ للكافرين نَصِيبٌ‏}‏ من الغلب لكم، والظفر بكم ‏{‏قَالُواْ‏}‏ للكافرين ‏{‏أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ألم نقهركم ونغلبكم ونتمكن منكم، ولكن أبقينا عليكم‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ إنهم قالوا للكفار الذين ظفروا بالمسلمين ألم نستحوذ عليكم حتى هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم‏؟‏ والأوّل أولى، فإن معنى الاستحواذ‏:‏ الغلب، يقال‏:‏ استحوذ على كذا، أي‏:‏ غلب عليه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 19‏]‏ ولا يصح أن يقال‏:‏ ألم نغلبكم حتى هابكم المسلمون، ولكن المعنى‏:‏ ألم نغلبكم يا معشر الكافرين، ونتمكن منكم فتركناكم، وأبقينا عليكم حتى حصل لكم هذا الظفر بالمسلمين‏:‏ ‏{‏وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ المؤمنين‏}‏ بتخذيلهم وتثبيطهم عنكم حتى ضعفت قلوبهم عن الدفع لكم، وعجزوا عن الانتصاف منكم؛ والمراد أنهم يميلون مع من له الغلب، والظفر من الطائفتين، ويظهرون لهم أنهم كانوا معهم على الطائفة المغلوبة، وهذا شأن المنافقين أبعدهم الله، وشأن من حذا حذوهم من أهل الإسلام من التظهر لكل طائفة بأنه معها على الأخرى، والميل إلى من معه الحظ من الدنيا في مال أو جاه، فيلقاه بالتملق، والتودد، والخضوع، والذلة، ويلقى من لا حظ له من الدنيا بالشدّة، والغلظة، وسوء الخلق، ويزدري به، ويكافحه بكل مكروه، فقبح الله أخلاق أهل النفاق وأبعدها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ بما انطوت عليه ضمائرهم من النفاق والبغض للحق وأهله، ففي هذا اليوم تنكشف الحقائق، وتظهر الضمائر، وإن حقنوا في الدنيا دماءهم، وحفظوا أموالهم بالتكلم بكلمة الإسلام نفاقاً ‏{‏وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً‏}‏، هذا في يوم القيامة إذا كان المراد بالسبيل‏:‏ النصر والغلب، أو في الدنيا إن كان المراد به الحجة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ قال جميع أهل التأويل‏:‏ إن المراد بذلك يوم القيامة‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه، وسببه توهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوّله يعني قوله‏:‏ ‏{‏فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ وذلك يسقط فائدته، إذ يكون تكرار هذا معنى كلامه وقيل المعنى‏:‏ إن الله لا يجعل للكافرين سبيلاً على المؤمنين يمحو به دولتهم، ويذهب آثارهم، ويستبيح بيضتهم، كما يفيده الحديث الثابت في الصحيح

«وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً» وقيل إنه سبحانه لا يجعل للكافرين سبيلاً على المؤمنين ما داموا عاملين بالحق غير راضين بالباطل، ولا تاركين للنهي عن المنكر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا نفيس جداً‏.‏ وقيل‏:‏ إن الله لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعاً، فإن وجد، فبخلاف الشرع‏.‏ هذا خلاصة ما قاله أهل العلم في هذه الآية، وهي صالحة للاحتجاج بها على كثير من المسائل‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ‏}‏ الآية، قال‏:‏ هم اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة، ثم كفرت، وآمنت النصارى بالإنجيل، ثم كفرت‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير عنه في الآية قال‏:‏ هؤلاء اليهود آمنوا بالتوراة، ثم كفروا، ثم ذكر النصارى، فقال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ‏}‏ يقول‏:‏ آمنوا بالإنجيل، ثم كفروا، ‏{‏ثُمَّ ازدادوا كُفْراً‏}‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال‏:‏ هؤلاء المنافقون آمنوا مرتين، ثم كفروا مرتين، ثم ازدادوا كفراً بعد ذلك‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ ازدادوا كُفْراً‏}‏ قال‏:‏ تمادوا على كفرهم حتى ماتوا‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن أبي وائل قال‏:‏ إن الرجل ليتكلم في المجلس بالكلمة من الكذب؛ ليضحك بها جلساءه، فيسخط الله عليهم جميعاً، فذكروا ذلك لإبراهيم النخعي، فقال‏:‏ صدق أبو وائل، أو ليس ذلك في كتاب الله‏؟‏ ‏{‏فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال‏:‏ أنزل في سورة الأنعام ‏{‏حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 68‏]‏ ثم نزل التشديد في سورة النساء ‏{‏إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ‏}‏‏.‏

وأخرج ابن المنذر، عن سعيد بن جبير، أن الله جامع المنافقين من أهل المدينة والكافرين من أهل مكة الذين خاضوا واستهزءوا بالقرآن في جهنم جميعاً‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد‏:‏ ‏{‏الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ هم المنافقون يتربصون بالمؤمنين ‏{‏فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ الله‏}‏ إن أصاب المسلمين من عدوّهم غنيمة قال المنافقون ‏{‏أَلَمْ نَكُن‏}‏ قد كنا ‏{‏مَّعَكُمْ‏}‏ فأعطونا من الغنيمة مثل ما تأخذون ‏{‏وَإِن كَانَ للكافرين نَصِيبٌ‏}‏ يصيبونه من المسلمين قال المنافقون للكفار ‏{‏أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ‏}‏ ألم نبين لكم أنا على ما أنتم عليه، قد كنا نثبطهم عنكم‏.‏

وأخرج ابن جرير عن السديّ ‏{‏أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ‏}‏ قال‏:‏ نغلب عليكم‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الشعب، والحاكم وصححه عن عليّ أنه قيل له‏:‏ أرأيت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً‏}‏ وهم يقاتلوننا، فيظهرون ويقتلون، فقال‏:‏ ادنه ادنه، ثم قال‏:‏ ‏{‏فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال‏:‏ في الآخرة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن أبي مالك نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن السديّ ‏{‏سَبِيلاً‏}‏ قال‏:‏ حجة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏142- 147‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏142‏)‏ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ‏(‏143‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏144‏)‏ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ‏(‏145‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏146‏)‏ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ‏(‏147‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ المنافقين يخادعون الله‏}‏ هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان بعض قبائح المنافقين وفضائحهم، وقد تقدم معنى الخدع في البقرة، ومخادعتهم لله هي أنهم يفعلون فعل المخادع، من إظهار الإيمان وإبطان الكفر، ومعنى كون الله خادعهم‏:‏ أنه صنع بهم صنع من يخادع من خادعه، وذلك أنه تركهم على ما هم عليه من التظهر بالإسلام في الدنيا، فعصم به أموالهم، ودماءهم، وأخر عقوبتهم إلى الدار الآخرة، فجازاهم على خداعهم بالدرك الأسفل من النار‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ والخادع اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته، وكنت أخدع منه‏.‏ والكسالى بضم الكاف جمع كسلان، وقرئ بفتحها‏.‏ والمراد أنهم يصلون، وهم متكاسلون متثاقلون لا يرجون ثواباً، ولا يخافون عقاباً‏.‏ والرياء إظهار الجميل ليراه الناس، لا لاتباع أمر الله، وقد تقدّم بيانه، والمراءاة المفاعلة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ معطوف على ‏{‏يراءون‏}‏، أي‏:‏ لا يذكرونه سبحانه إلا ذكراً قليلاً أو لا يصلون إلا صلاة قليلة، ووصف الذكر بالقلة لعدم الإخلاص، أو لكونه غير مقبول، أو لكونه قليلاً في نفسه؛ لأن الذي يفعل الطاعة لقصد الرياء، إنما يفعلها في المجامع، ولا يفعلها خالياً كالمخلص‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك‏}‏ المذبذب المتردد بين أمرين، والذبذبة الاضطراب، يقال ذبذبه فتذبذب، ومنه قول النابغة‏:‏

ألم تر أن الله أعطاك سورة *** ترى كل ملك دونها يتذبذب

قال ابن جني‏:‏ المذبذب القلق الذي لا يثبت على حال، فهؤلاء المنافقون متردّدون بين المؤمنين، والمشركين، لا مخلصين الإيمان، ولا مصرّحين بالكفر‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ وحقيقة المذبذب الذي يذبّ عن كلا الجانبين، أي‏:‏ يذاد، ويدفع فلا يقرّ في جانب واحد، كما يقال‏:‏ فلان يرمى به الرجوان، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذبّ؛ كأن المعنى‏:‏ كلما مال إلى جانب ذبّ عنه‏.‏ انتهى‏.‏ وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح الذالين‏.‏ وقرأ ابن عباس بكسر الذال الثانية، وفي حرف أبي «متذبذبين» وقرأ الحسن بفتح الميم والذالين، وانتصاب ‏{‏مذبذبين‏}‏ إما على الحال، أو على الذمّ، والإشارة بقوله ‏{‏بين ذلك‏}‏ إلى الإيمان والكفر‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء‏}‏ أي‏:‏ لا منسوبين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين، ومحل الجملة النصب على الحال، أو على البدل من مذبذبين، أو على التفسير له ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله‏}‏ أي‏:‏ يخذله، ويسلبه التوفيق ‏{‏فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً‏}‏ أي‏:‏ طريقاً يوصله إلى الحق‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏سَبِيلاً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين‏}‏ أي‏:‏ لا تجعلوهم خاصة لكم، وبطانة توالونهم من دون إخوانكم من المؤمنين، كما فعل المنافقون من موالاتهم للكافرين‏:‏ ‏{‏أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً‏}‏ الاستفهام للتقريع والتوبيخ، أي‏:‏ أتريدون أن تجعلوا لله عليكم حجة بينة يعذبكم بها بسبب ارتكابكم لما نهاكم عنه من موالاة الكافرين‏.‏

‏{‏إِنَّ المنافقين فِى الدرك الاسفل مِنَ النار‏}‏ قرأ الكوفيون ‏{‏الدرك‏}‏ بسكون الراء، وقرأ غيرهم بتحريكها‏.‏ قال أبو علي‏:‏ هما لغتان والجمع أدراك؛ وقيل جمع المحرك أدراك مثل جمل وأجمال، وجمع الساكن أدرك مثل فلس وأفلس‏.‏ قال النحاس‏:‏ والتحريك أفصح‏.‏ والدرك‏:‏ الطبقة‏.‏ والنار دركات سبع، فالمنافق في الدرك الأسفل منها، وهي الهاوية، لغلظ كفره وكثرة غوائله، وأعلى الدركات جهنم، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية‏.‏ وقد تسمى جميعها باسم الطبقة العليا، أعاذنا الله من عذابها‏:‏ ‏{‏وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً‏}‏ يخلصهم من ذلك الدرك والخطاب لكل من يصلح له، أو للنبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏إِلاَّ الذين تَابُواْ‏}‏ استثناء من المنافقين، أي‏:‏ إلا الذين تابوا عن النفاق ‏{‏وَأَصْلَحُواْ‏}‏ ما أفسدوا من أحوالهم ‏{‏وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ‏}‏ أي‏:‏ جعلوه خالصاً له غير مشوب بطاعة غيره‏.‏ والاعتصام بالله‏:‏ التمسك به والوثوق بوعده، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إلى الذين تابوا، واتصفوا بالصفات السابقة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏مَعَ المؤمنين‏}‏ قال الفراء‏:‏ أي‏:‏ من المؤمنين يعني الذين لم يصدر منهم نفاق أصلاً‏.‏ قال القتيبي‏:‏ حاد عن كلامهم غضباً عليهم، فقال‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ مَعَ المؤمنين‏}‏ ولم يقل هم المؤمنون‏.‏ انتهى‏.‏ والظاهر أن معنى «مع» معتبر هنا، أي‏:‏ فأولئك مصاحبون للمؤمنين في أحكام الدنيا والآخرة‏.‏ ثم بين ما أعدّ الله للمؤمنين الذين هؤلاء معهم، فقال‏:‏ ‏{‏وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً‏}‏ وحذفت الياء من ‏{‏يؤت‏}‏ في الخط، كما حذفت في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها، ومثله ‏{‏يَوْمَ يدع الداع‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 9‏]‏ و‏{‏سَنَدْعُ الزبانية‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 17‏]‏ و‏{‏يَوْمَ يُنَادِ المناد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 41‏]‏ ونحوها، فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ‏}‏ هذه الجملة متضمنة لبيان أنه لا غرض له سبحانه في التعذيب إلا مجرّد المجازاة للعصاة‏.‏ والمعنى‏:‏ أيّ منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم، فإن ذلك لا يزيد في ملكه، كما أن ترك عذابكم لا ينقص من سلطانه‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الله شاكرا عَلِيماً‏}‏ أي‏:‏ يشكر عباده على طاعته، فيثيبهم عليها، ويتقبلها منهم‏.‏ والشكر في اللغة‏:‏ الظهور، يقال دابة شكور‏:‏ إذا ظهر من سمنها فوق ما تعطى من العلف‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ المنافقين يخادعون الله‏}‏ الآية، قال‏:‏ يلقى على كل مؤمن، ومنافق نور يمشون به يوم القيامة حتى إذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين، ومضى المؤمنون بنورهم، فتلك خديعة الله إياهم‏.‏ وأخرج ابن جرير عن السديّ نحوه‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد، وسعيد بن جبير نحوه أيضاً‏.‏

ولا أدري من أين جاء لهم هذا التفسير، فإن مثله لا ينقل إلا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن جريج في الآية قال‏:‏ نزلت في عبد الله بن أبيّ، وأبي عامر بن النعمان‏.‏ وقد ورد في الأحاديث الصحيحة وصف صلاة المنافق، وأنه يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام، فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك‏}‏ قال‏:‏ هم المنافقون‏:‏ ‏{‏لاَ إلى هَؤُلاء‏}‏ يقول‏:‏ لا إلى أصحاب محمد ‏{‏وَلاَ إِلَى هَؤُلاء‏}‏ اليهود، وثبت في الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرّة وإلى هذه مرّة فلا تدري أيهما تتبع‏؟‏» وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً‏}‏ قال‏:‏ إن لله السلطان على خلقه ولكنه يقول عذراً مبيناً‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس قال‏:‏ كل سلطان في القرآن، فهو حجة‏.‏ والله سبحانه أعلم‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ المنافقين فِى الدرك الأسفل مِنَ النار‏}‏ قال‏:‏ في توابيت من حديد مقفلة عليهم، وفي لفظ مبهمة عليهم‏:‏ أي‏:‏ مغلقة لا يهتدي لمكان فتحها‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا، عن ابن مسعود نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏ما يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ‏}‏ الآية، قال‏:‏ إن الله لا يعذّب شاكراً ولا مؤمناً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏148- 149‏]‏

‏{‏لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ‏(‏148‏)‏ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ‏(‏149‏)‏‏}‏

نفي الحبّ كناية عن البغض، وقراءة الجمهور‏:‏ ‏{‏إَلاَّ مَن ظَلَمَ‏}‏ على البناء للمجهول‏.‏ وقرأ زيد بن أسلم، وابن أبي إسحاق، والضحاك، وابن عباس، وابن جبير، وعطاء بن السائب «إَلاَّ مَن ظَلَمَ» على البناء للمعلوم، وهو على القراءة الأولى استثناء متصل بتقدير مضاف محذوف، أي‏:‏ إلا جهر من ظلم‏.‏ وقيل‏:‏ إنه على القراءة الأولى أيضاً منقطع، أي‏:‏ لكن من ظلم، فله أن يقول ظلمني فلان‏.‏

واختلف أهل العلم في كيفية الجهر بالسوء الذي يجوز لمن ظلم، فقيل‏:‏ هو أن يدعو على من ظلمه‏.‏ وقيل‏:‏ لا بأس أن يجهر بالسوء من القول على من ظلمه بأن يقول‏:‏ فلان ظلمني، أو هو ظالم أو نحو ذلك‏.‏ وقيل معناه‏:‏ إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول من كفر أو نحوه، فهو مباح له، والآية على هذا في الاكراه، وكذا قال قطرب، قال‏:‏ ويجوز أن يكون على البدل كأنه قال لا يحبّ الله إلا من ظلم، أي‏:‏ لا يحبّ الظالم بل يحبّ المظلوم‏.‏ والظاهر من الآية أنه يجوز لمن ظلم أن يتكلم بالكلام الذي‏:‏ هو من السوء في جانب من ظلمه، ويؤيده الحديث الثابت في الصحيح بلفظ‏:‏ «ليّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته»، وأما على القراءة الثانية، فالاستثناء منقطع، أي‏:‏ إلا من ظلم في فعل أو قول، فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له‏.‏

وقال قوم‏:‏ معنى الكلام لا يحبّ الله أن يجهر أحد بالسوء من القول، لكن من ظلم، فإنه يجهر بالسوء ظلماً وعدواناً، وهو ظالم في ذلك، وهذا شأن كثير من الظلمة، فإنهم مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم على من ظلموه، وينالون من عرضه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون المعنى إلا من ظلم، فقال سوءاً، فإنه ينبغي أن يأخذوا على يديه، ويكون استثناء ليس من الأوّل ‏{‏وَكَانَ الله سَمِيعاً عَلِيماً‏}‏ هذا تحذير للظالم بأن الله يسمع ما يصدر منه ويعلم به، ثم بعد أن أباح للمظلوم أن يجهر بالسوء ندب إلى ما هو الأولى والأفضل، فقال‏:‏ ‏{‏إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوء‏}‏ تصابون به ‏{‏فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً‏}‏ عن عباده ‏{‏قَدِيراً‏}‏ على الانتقام منهم بما كسبت أيديهم، فاقتدوا به سبحانه، فإنه يعفو مع القدرة‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول‏}‏ قال‏:‏ لا يحبّ الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً، فإنه رخص له أن يدعو على من ظلمه، وإن يصبر فهو خير له‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في الآية قال‏:‏ نزلت في رجل ضاف رجلاً بفلاة من الأرض، فلم يضفه، ثم ذكر أنه لم يضفه لم يزد على ذلك‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن إسماعيل ‏{‏لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ‏}‏ قال‏:‏ كان الضحاك بن مزاحم يقول هذا على التقديم والتأخير، يقول الله‏.‏ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم، وآمنتم إلا من ظلم، وكان يقرؤها كذلك، ثم قال‏:‏ ‏{‏لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول‏}‏ أي‏:‏ على كل حال هكذا قال، وهو قريب من التحريف لمعنى الآية‏.‏ وقد أخرج ابن أبي شيبة، والترمذي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من دعا على من ظلمه، فقد انتصر» وروى نحوه أبو داود عنها من وجه آخر‏.‏ وقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «المتسابان ما قالاه، فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏150- 152‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ‏(‏150‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏151‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏152‏)‏‏}‏

لما فرغ من ذكر المشركين والمنافقين ذكر الكفار من أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى؛ لأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك كالكفر بجميع الرسل، والكتب المنزلة، والكفر بذلك كفر بالله، وينبغي حمل قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ‏}‏ على أنه استلزم ذلك كفرهم ببعض الكتب والرسل، لا أنهم كفروا بالله ورسله جميعاً، فإن أهل الكتاب لم يكفروا بالله ولا بجميع رسله، لكنهم لما كفروا بالبعض كان ذلك كفر بالله وبجميع الرسل‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ‏}‏ أنهم كفروا بالرسل بسبب كفرهم ببعضهم، وآمنوا بالله، فكان ذلك تفريقاً بين الله وبين رسله ‏{‏وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ‏}‏ هم اليهود آمنوا بموسى، وكفروا بعيسى ومحمد، وكذلك النصارى آمنوا بعيسى، وكفروا بمحمد‏:‏ ‏{‏وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً‏}‏ أي‏:‏ يتخذوا بين الإيمان والكفر ديناً متوسطاً بينهما، فالإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى قوله نؤمن ونكفر ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون‏}‏ أي‏:‏ الكاملون في الكفر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حَقّاً‏}‏ مصدر مؤكد لمضمون الجملة، أي‏:‏ حق ذلك حقاً‏.‏ أو هو صفه لمصدر الكافرين، أي‏:‏ كفراً حقاً‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ‏}‏ بأن يقولوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ودخول ‏{‏بين‏}‏ على ‏{‏أحد‏}‏ لكونه عاماً في المفرد مذكراً ومؤنثاً ومثناهما وجمعهما‏.‏ وقد تقدّم تحقيقه، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إلى الذين آمنوا بالله ورسله، ولم يفرّقوا بين أحد منهم‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في الآية، قال‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أعداء الله اليهود، والنصارى آمنت اليهود بالتوراة، وموسى، وكفروا بالإنجيل، وعيسى، وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى، وكفروا بالقرآن ومحمد، اتخذوا اليهودية والنصرانية وهما بدعتان ليستا من الله وتركوا الإسلام، وهو دين الله الذي بعث به رسله‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن السديّ، وابن جريج نحوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏153- 159‏]‏

‏{‏يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏153‏)‏ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏154‏)‏ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏155‏)‏ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ‏(‏156‏)‏ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ‏(‏157‏)‏ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏158‏)‏ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ‏(‏159‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب‏}‏ هم اليهود سألوه صلى الله عليه وسلم أن يرقى إلى السماء وهم يرونه، فينزل عليهم كتاباً مكتوباً فيما يدّعيه يدل على صدقه دفعة واحدة، كما أتى موسى التوراة تعنتاً منهم، أبعدهم الله، فأخبره الله عزّ وجلّ بأنهم قد سألوا موسى سؤالاً أكبر من هذا السؤال، فقالوا‏:‏ ‏{‏أَرِنَا الله جَهْرَةً‏}‏ أي‏:‏ عياناً، وقد تقدّم معناه في البقرة، وجهرة نعت لمصدر محذوف، أي‏:‏ رؤية جهرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَقَدْ سَأَلُواْ‏}‏ جواب شرط مقدّر، أي‏:‏ إن استكبرت هذا السؤال منهم لك، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة‏}‏ هي النار التي نزلت عليهم من السماء فأهلكتهم، والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بِظُلْمِهِمْ‏}‏ للسببية، أي‏:‏ بسبب ظلمهم في سؤالهم الباطل لامتناع الرؤية عياناً في هذه الحالة، وذلك لا يستلزم امتناعها يوم القيامة، فقد جاءت بذلك الأحاديث المتواترة‏.‏ ومن استدل بهذه الآية على امتناع الرؤية يوم القيامة، فقد غلط غلطاً بيناً، ثم لم يكتفوا بهذا السؤال الباطل الذي نشأ منهم بسبب ظلمهم بعد ما رأوا المعجزات، بل ضموا إليه ما هو أقبح منه، وهو عبادة العجل‏.‏ وفي الكلام حذف والتقدير‏:‏ فأحييناهم فاتخذوا العجل‏.‏ والبينات‏:‏ البراهين، والدلائل، والمعجزات من اليد، والعصا، وفلق البحر وغيرها ‏{‏فَعَفَوْنَا عَن ذلك‏}‏ أي‏:‏ عما كان منهم من التعنت، وعبادة العجل، ‏{‏وآتينا موسى سلطاناً مبيناً‏}‏ أي‏:‏ حجة بينة وهي‏:‏ الآيات التي جاء بها، وسميت سلطاناً؛ لأن من جهر بها قهر خصمه، ومن ذلك أمر الله سبحانه له بأن يأمرهم بقتل أنفسهم توبة عن معصيتهم، فإنه من جملة السلطان الذي قهرهم به‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بميثاقهم‏}‏ أي‏:‏ بسبب ميثاقهم ليعطوه؛ لأنه روى أنهم امتنعوا من قبول شريعة موسى، فرفع الله عليهم الطور فقبلوها‏.‏ وقيل‏:‏ إن المعنى بسبب نقضهم ميثاقهم الذي أخذ منهم، وهو العمل بما في التوراة، وقد تقدّم رفع الجبل في البقرة، وكذلك تفسير دخولهم الباب سجداً‏:‏ ‏{‏وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِى السبت‏}‏ فتأخذوا ما أمرتم بتركه فيه من الحيتان، وقد تقدّم تفسير ذلك، وقرئ «لا تعتدوا»، وتعدّوا بفتح العين، وتشديد الدال ‏{‏وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظاً‏}‏ مؤكداً، وهو العهد الذي أخذه عليهم في التوراة‏.‏ وقيل‏:‏ إنه عهد مؤكداً باليمين، فسمي غليظاً لذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم‏}‏ ما مزيدة للتوكيد، أو نكرة، ونقضهم بدل منها، والباء متعلقة بمحذوف، والتقدير‏:‏ فبنقضهم ميثاقهم لعناهم‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ هو متعلق بما قبله والمعنى‏:‏ فأخذتهم الصاعقة بظلمهم إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم‏}‏ قال‏:‏ ففسر ظلمهم الذي أخذتهم الصاعقة بسببه بما بعده من نقضهم ميثاقهم، وقتلهم الأنبياء وما بعده‏.‏

وأنكر ذلك ابن جرير الطبري وغيره؛ لأن الذين أخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى، والذين قتلوا الأنبياء، ورموا مريم بالبهتان كانوا بعد موسى بزمان، فلم تأخذ الصاعقة الذين أخذتهم برميهم بالبهتان‏.‏ قال المهدوي وغيره‏:‏ وهذا لا يلزم لأن يجوز أن يخبر عنهم، والمراد آباؤهم، وقال الزجاج‏:‏ المعنى فبنقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم؛ لأنه هذه القصة ممتدة إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 160‏]‏ ونقضهم الميثاق أنه أخذ عليهم أن يبينوا صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ فبنقضهم ميثاقهم وفعلهم كذا طبع الله على قلوبهم‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ فبنقضهم لا يؤمنون إلا قليلاً، والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ مقحمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَكُفْرِهِم بئايات الله‏}‏ معطوف على ما قبله، وكذا قوله‏:‏ ‏{‏وَقَتْلِهِمُ‏}‏، والمراد بآيات الله كتبهم التي حرّفوها، والمراد بالأنبياء الذين قتلوهم يحيى، وزكرياء‏.‏ وغلف جمع أغلف، وهو المغطى بالغلاف، أي‏:‏ قلوبنا في أغطية، فلا تفقه ما تقول‏:‏ وقيل‏:‏ إن غلف جمع غلاف، والمعنى‏:‏ أن قلوبهم أوعية للعلم، فلا حاجة لهم إلى علم غير ما قد حوته قلوبهم، وهو كقولهم‏:‏ ‏{‏قُلُوبَنَا في أَكِنَّةٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ وغرضهم بهذا ردّ حجة الرسل‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ‏}‏ هذه الجملة اعتراضية، أي‏:‏ ليس عدم قبولهم للحق بسبب كونها غلفاً بحسب مقصدهم الذي يريدونه، بل بحسب الطبع من الله عليها‏.‏ والطبع‏:‏ الختم، وقد تقدم إيضاح معناه في البقرة، وقوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ أي‏:‏ هي مطبوع عليها من الله بسبب كفرهم، فلا يؤمنون إلا إيماناً قليلاً، أو إلا قليلاً منهم كعبد الله بن سلام، ومن أسلم معه منهم، وقوله‏:‏ ‏{‏وَبِكُفْرِهِمْ‏}‏ معطوف على ‏{‏قولهم‏}‏، وإعادة الجار لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، وهذا التكرير لإفادة أنهم كفروا كفراً بعد كفر‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد بهذا الكفر‏:‏ كفرهم بالمسيح، فحذف لدلالة ما بعده عليه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً‏}‏ هو رميها بيوسف النجار، وكان من الصالحين‏.‏ والبهتان‏:‏ الكذب المفرط الذي يتعجب منه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله‏}‏ معطوف على ما قبله، وهو من جملة جناياتهم وذنوبهم لأنهم كذبوا بأنهم قتلوه، وافتخروا بقتله، وذكروه بالرسالة استهزاء؛ لأنهم ينكرونها، ولا يعترفون بأنه نبيّ، وما ادّعوه من أنهم قتلوه قد اشتمل على بيان صفته، وإيضاح حقيقته الانجيل، وما فيه هو من تحريف النصارى، أبعدهم الله، فقد كذبوا وصدق الله القائل في كتابه العزيز‏:‏ ‏{‏وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ‏}‏ والجملة حالية، أي‏:‏ قالوا ذلك والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه ‏{‏ولكن شُبّهَ لَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ألقى شبهه على غيره‏.‏ وقيل‏:‏ لم يكونوا يعرفون شخصه، وقتلوا الذين قتلوه، وهم شاكون فيه‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ في شأن عيسى، فقال بعضهم‏:‏ قتلناه، وقال من عاين رفعه إلى السماء ما قتلناه، وقيل‏:‏ إن الاختلاف بينهم، هو أن النسطورية من النصارى قالوا‏:‏ صلب عيسى من جهة ناسوته لا من جهة لا هوته، وقالت الملكانية‏:‏ وقع القتل والصلب على المسيح بكماله ناسوته ولاهوته، ولهم من جنس هذا الاختلاف كلام طويل لا أصل له، ولهذا قال الله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِى شَكّ مّنْهُ‏}‏ أي‏:‏ في تردّد لا يخرج إلى حيز الصحة، ولا إلى حيز البطلان في اعتقادهم، بل هم متردّدون مرتابون في شكهم يعمهون، وفي جهلهم يتحيرون، و‏{‏مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن‏}‏ من زائدة لتوكيد نفي العلم، والاستثناء منقطع، أي‏:‏ لكنهم يتبعون الظن‏.‏

وقيل‏:‏ هو بدل بما قبله‏.‏ والأوّل أولى‏.‏ لا يقال إن اتباع الظنّ ينافي الشكّ الذي أخبر الله عنهم بأنهم فيه، لأن المراد هنا بالشك‏:‏ التردد كما قدمنا، والظنّ نوع منه، وليس المراد به هنا‏:‏ ترجح أحد الجانبين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً‏}‏ أي‏:‏ قتلاً يقيناً على أنه صفة مصدر محذوف، أو متيقنين على أنه حال، وهذا على أن الضمير في قتلوه لعيسى، وقيل‏:‏ إنه يعود إلى الظن، والمعنى‏:‏ ما قتلوا ظنهم يقيناً كقولك قتلته علماً إذا علمته علماً تاماً‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ ولو كان المعنى وما قتلوا عيسى يقيناً لقال وما قتلوه فقط‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ وما قتلوا الذي شبه لهم‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ بل رفعه الله إليه يقيناً، وهو خطأ؛ لأنه لا يعمل لا بعد بل فيما قبلها‏.‏ وأجاز ابن الأنباري نصب يقيناً بفعل مضمر هو جواب قسم، ويكون ‏{‏بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ‏}‏ كلاماً مستأنفاً ولا وجه لهذه الأقوال، والضمائر قبل قتلوه وبعده لعيسى، وذكر اليقين هنا لقصد التهكم بهم لإشعاره بعلمهم في الجملة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ‏}‏ ردّ عليهم وإثبات لما هو الصحيح، وقد تقدم ذكر رفعه عليه السلام في آل عمران‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ‏}‏ المراد بأهل الكتاب‏:‏ اليهود والنصارى، والمعنى‏:‏ وما من أهل الكتاب أحد إلا والله ليؤمنن به قبل موته، والضمير في به راجع إلى عيسى، والضمير في موته راجع إلى ما دلّ عليه الكلام، وهو لفظ أحد المقدّر، أو الكتابي المدلول عليه بأهل الكتاب، وفيه دليل على أنه لا يموت يهودّي، أو نصرانيّ إلا وقد آمن بالمسيح؛ وقيل‏:‏ كلا الضميرين لعيسى، والمعنى‏:‏ أنه لا يموت عيسى حتى يؤمن به كل كتابيّ في عصره‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير الأوّل لله؛ وقيل‏:‏ إلى محمد، وقد اختار كون الضميرين لعيسى ابن جرير، وقال به جماعة من السلف، وهو الظاهر، والمراد الإيمان به عند نزوله في آخر الزمان، كما وردت بذلك الأحاديث المتواترة ‏{‏وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ‏}‏ عيسى على أهل الكتاب ‏{‏شَهِيداً‏}‏ يشهد على اليهود بالتكذيب له، وعلى النصارى بالغلوّ فيه حتى قالوا هو ابن الله‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، عن محمد بن كعب القرظي قال‏:‏ جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إن موسى جاء بالألواح من عند الله، فأتنا بالألواح من عند الله حتى نصدقك، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء‏}‏ إلى قوله ‏{‏وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال‏:‏ إن اليهود والنصارى قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان أنك رسول الله وإلى فلان أنك رسول الله، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَرِنَا الله جَهْرَةً‏}‏ قال‏:‏ إنهم إذا رأوه فقد رأوه، وإنما قالوا جهرة أرنا الله قال‏:‏ هو مقدم ومؤخر‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور‏}‏ قال‏:‏ جبل كانوا في أصله فرفعه الله، فجعله فوقهم كأنه ظلة، فقال‏:‏ لتأخذنّ أمري أو لأرمينكم به، فقالوا نأخذه، فأمسكه الله عنهم‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً‏}‏ قال‏:‏ رموها بالزنا‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس قال‏:‏ لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلى أصحابه، وفي البيت اثنا عشر رجلاً من الحواريين، فخرج عليهم من عين في البيت، ورأسه يقطر ماء، فقال‏:‏ إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، ثم قال‏:‏ أيكم يلقى عليه شبهي، فيقتل مكاني، ويكون معي في درجتي‏؟‏ فقام شاب من أحدثهم سناً، فقال له اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب، فقال‏:‏ اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال أنا، فقال‏:‏ أنت ذاك فألقى عليه شبه عيسى، ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء؛ قال‏:‏ وجاء الطلب من اليهود، فأخذوا الشبه، فقتلوه، ثم صلبوه، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرق، فقالت طائفة‏:‏ كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء، فهؤلاء اليعقوبية؛ وقالت فرقة‏:‏ كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ كان فينا عبد الله ورسوله، وهؤلاء المسلمون، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة، فقتلوها، فلم يزل الإِسلام طامساً حتى بعث الله محمداً، فأنزل الله عليه‏:‏ ‏{‏فآمنت طائفة من بني إسرائيل‏}‏ يعني‏:‏ الطائفة التي آمنت في زمن عيسى‏:‏ ‏{‏وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ‏}‏ يعني التي كفرت في زمن عيسى

‏{‏فأيدنا الذين ءامَنُواْ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 14‏]‏ في زمن عيسى بإظهار محمد دينهم على دين الكافرين‏.‏ قال ابن كثير بعد أن ساقه بهذا اللفظ عن ابن أبي حاتم قال‏:‏ حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فذكره‏.‏ وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس‏.‏ وصدق ابن كثير، فهؤلاء كلهم من رجال الصحيح‏.‏ وأخرجه النسائي، من حديث أبي كريب، عن أبي معاوية بنحوه‏.‏ وقد رويت قصته عليه السلام من طرق بألفاظ مختلفة، وساقها عبد بن حميد، وابن جرير، عن وهب بن منبه على صفة قريبة مما في الإنجيل، وكذلك ساقها ابن المنذر عنه‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً‏}‏ قال‏:‏ لم يقتلوا ظنهم يقيناً‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن جويبر، والسدّي مثله أيضاً‏.‏ وأخرج الفريابي وعبد بن حميد، والحاكم وصححه، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ‏}‏ قال‏:‏ خروج عيسى ابن مريم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طرق عنه في الآية قال‏:‏ قبل موت عيسى‏.‏ وأخرجا عنه أيضاً قال‏:‏ قبل موت اليهودي‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه قال‏:‏ إنه سيدرك أناس من أهل الكتاب عيسى حين يبعث سيؤمنون به‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر عنه قال‏:‏ ليس يهوديّ يموت أبداً حتى يؤمن بعيسى؛ قيل لابن عباس أرأيت إن خرّ من فوق بيت‏؟‏ قال يتكلم به في الهواء؛ فقيل أرأيت إن ضرب عنق أحدهم‏؟‏ قال‏:‏ يتلجلج بها لسانه‏.‏ وقد روي نحو هذا عنه من طرق، وقال به جماعة من التابعين، وذهب كثير من التابعين فمن بعدهم إلى أن المراد‏:‏ قبل موت عيسى، كما روي عن ابن عباس قبل هذا، وقيده كثير منهم بأنه يؤمن به من أدركه عند نزوله إلى الأرض‏.‏ وقد تواترت الأحاديث بنزول عيسى حسبما، أوضحنا ذلك في مؤلف مستقلّ يتضمن ذكر ما ورد في المنتظر والدجال والمسيح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏160- 165‏]‏

‏{‏فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ‏(‏160‏)‏ وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏161‏)‏ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏162‏)‏ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ‏(‏163‏)‏ وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ‏(‏164‏)‏ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏165‏)‏‏}‏

الباء في قوله‏:‏ ‏{‏فَبِظُلْمٍ‏}‏ للسببية، والتنكير والتنوين للتعظيم، أي‏:‏ فبسبب ظلم عظيم حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم، لا بسبب شيء آخر، كما زعموا أنها كانت محرّمة على من قبلهم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هذا بدل من قوله‏:‏ ‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 155، المائدة‏:‏ 13‏]‏‏.‏ والطيبات المذكورة هي ما نصه الله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏ الآية ‏{‏وَبِصَدّهِمْ‏}‏ أنفسهم وغيرهم ‏{‏عَن سَبِيلِ الله‏}‏ وهو اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتحريفهم، وقتلهم الأنبياء، وما صدر منهم من الذنوب المعروفة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كَثِيراً‏}‏ مفعول للفعل المذكور، أي‏:‏ بصدّهم ناساً كثيراً، أو صفة مصدر محذوف، أي‏:‏ صدّاً كثيراً ‏{‏وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ‏}‏ أي‏:‏ معاملتهم فيما بينهم بالربا، وأكلهم له، وهو محرّم عليهم ‏{‏وَأَكْلِهِمْ أموال الناس بالباطل‏}‏ كالرشوة والسحت الذي كانوا يأخذونه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لكن الراسخون فِى العلم مِنْهُمْ‏}‏ استدراك من قوله‏:‏ ‏{‏وَأَعْتَدْنَا للكافرين مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ أو ‏{‏مّنَ الذين هَادُواْ‏}‏ وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا‏:‏ إن هذه الأشياء كانت حراماً في الأصل، وأنت تحلها، فنزل‏:‏ ‏{‏لكن الراسخون‏}‏ والراسخ‏:‏ هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه، والرسوخ‏:‏ الثبوت‏.‏ وقد تقدّم الكلام عليه في آل عمران‏.‏ والمراد عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ونحوهما‏.‏ والراسخون مبتدأ، ويؤمنون خبره، والمؤمنون معطوف على الراسخون‏.‏ والمراد بالمؤمنين‏:‏ إما من آمن من أهل الكتاب، أو من المهاجرين والأنصار، أو من الجميع‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏والمقيمين الصلاة‏}‏ قرأ الحسن، ومالك بن دينار، وجماعة‏:‏ «والمقيمون الصلاة» على العطف على ما قبله، وكذا هو في مصحف ابن مسعود، واختلف في وجه نصبه على قراءة الجمهور على أقوال‏:‏ الأوّل قول سيبويه أنه نصب على المدح، أي‏:‏ وأعني المقيمين‏.‏ قال سيبويه‏:‏ هذا باب ما ينتصب على التعظيم، ومن ذلك‏:‏ ‏{‏والمقيمين الصلاة‏}‏ وأنشد‏:‏

وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم *** إلا نميراً أطاعت أمر غاويها

الطاعنين ولما يطعنوا أحدا *** والقائلون لمن دار نخليها

وأنشد‏:‏

لا يبعدنّ قومي الذين هم *** سمّ العداة وآفة الجزر

النازلين بكل معترك *** والطيبون معاقد الأزر

قال النحاس‏:‏ وهذا أصح ما قيل في المقيمين‏.‏ وقال الكسائي، والخليل‏:‏ هو معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ‏}‏ قال الأخفش‏:‏ وهذا بعيد لأن المعنى يكون هكذا‏:‏ ويؤمنون بالمقيمين‏.‏ ووجهه محمد بن يزيد المبرد بأن المقيمين هنا هم الملائكة، فيكون المعنى‏:‏ يؤمنون بما أنزل إليك، وبما أنزل من قبلك، وبالملائكة، واختار هذا‏.‏ وحكى أن النصب على المدح بعيد؛ لأن المدح إنما يأتي بعد تمام الخبر، وخبر الرّاسخون هو قوله‏:‏ ‏{‏أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ وقيل‏:‏ إن المقيمين معطوف على الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ وفيه أنه عطف على مضمر بدون إعادة الخافض‏.‏

وحكى عن عائشة أنها سئلت، عن المقيمين في هذه الآية، وعن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ هاذان لساحران‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 63‏]‏ وعن قوله‏:‏ ‏{‏والصابئون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 69‏]‏ في المائدة‏؟‏ فقالت‏:‏ يا ابن أخي الكتاب أخطئوا‏.‏ أخرجه عنها أبو عبيد في فضائله، وسعيد ابن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر‏.‏ وقال أبان بن عثمان كان الكاتب يملي عليه، فيكتب فكتب‏:‏ ‏{‏لكن الراسخون فِى العلم مِنْهُمْ والمؤمنون‏}‏ ثم قال ما أكتب‏؟‏ فقيل له أكتب‏:‏ ‏{‏والمقيمين الصلاة‏}‏ فمن ثم وقع هذا‏.‏ أخرجه عنه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر‏.‏ قال القشيري‏:‏ وهذا باطل؛ لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة، فلا يظن بهم ذلك‏.‏ ويجاب عن القشيري بأنه قد روى عن عثمان بن عفان أنه لما فرغ من المصحف وأتى به إليه قال‏:‏ أرى فيه شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنها‏.‏ أخرجه عنه ابن أبي داود من طرق‏.‏ وقد رجح قول سيبويه كثير من أئمة النحو والتفسير، ورجح قول الخليل، والكسائي ابن جرير الطبري، والقفال، وعلى قول سيبويه تكون الجملة معترضة بين المبتدأ والخبر على قول من قال‏:‏ إن خبر ‏{‏الرّاسخون‏}‏ هو قوله‏:‏ ‏{‏أولئك سَنُؤْتِيهِمْ‏}‏ أو بين المعطوف والمعطوف عليه إن جعلنا الرّاسخون هو يؤمنون، وجعلنا قوله‏:‏ ‏{‏والمؤتون الزكواة‏}‏ عطفاً على المؤمنون لا على قول سيبويه أن المؤتون الزكاة مرفوع على الابتداء، أو على تقدير مبتدأ محذوف، أي‏:‏ هم المؤتون الزكاة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏والمؤمنون بالله واليوم الآخر‏}‏ هم مؤمنو أهل الكتاب، وصفوا أوّلاً بالرسوخ في العلم، ثم بالإيمان بكتب الله، وأنهم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويؤمنون بالله، واليوم الآخر‏.‏ وقيل المراد بهم‏:‏ المؤمنون من المهاجرين والأنصار، كما سلف، وأنهم جامعون بين هذه الأوصاف، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ إلى ‏{‏الرّاسخون‏}‏، وما عطف عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ‏}‏ هذا متصل بقوله‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب‏}‏ والمعنى‏:‏ أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كأمر من تقدّمه من الأنبياء، فما بالكم تطلبون منه ما لم يطلبه أحد من المعاصرين للرسل، والوحي إعلام في خفاء، يقال‏:‏ وحى إليه بالكلام وحياً، وأوحى يوحى إيحاء، وخصّ نوحاً لكونه أوّل نبيّ شرعت على لسانه الشرائع، وقيل‏:‏ غير ذلك، والكاف في قوله‏:‏ ‏{‏كَمَا‏}‏ نعت مصدر محذوف، أي‏:‏ إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح، أو حال، أي‏:‏ أوحينا إليك هذا الإيحاء حال كونه مشبهاً بإيحائنا إلى نوح‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إلى إبراهيم‏}‏ معطوف على ‏{‏أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ‏}‏ ‏{‏وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ‏}‏ وهم أولاد يعقوب كما تقدّم ‏{‏وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وهارون وسليمان‏}‏ خص هؤلاء بالذكر بعد دخولهم في لفظ النبيين تشريفاً لهم كقوله‏:‏

‏{‏وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏، وقدّم عيسى على أيوب، ومن بعده مع كونهم في زمان قبل زمانه، ردّاً على اليهود الذي كفروا به، وأيضاً فالواو ليست إلا لمطلق الجمع‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَءاتَيْنَا * دَاوُود زَبُوراً‏}‏ معطوف على أوحينا‏.‏ والزبور‏:‏ كتاب داود‏.‏ قال القرطبي‏:‏ وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم، ولا حلال ولا حرام، وإنما هي حكم ومواعظ‏.‏ انتهى‏.‏ قلت‏:‏ هو مائة وخمسون مزموراً‏.‏ والمزمور‏:‏ فصل يشتمل على كلام لداود يستغيث بالله من خصومه، ويدعو الله عليهم ويستنصره، وتارة يأتي بمواعظ، وكان يقول ذلك في الغالب في الكنيسة، ويستعمل مع تكلمه بذلك شيئاً من الآلات التي لها نغمات حسنة، كما هو مصرّح بذلك في كثير من تلك المزمورات‏.‏ والزبر‏:‏ الكتابة‏.‏ والزبور بمعنى المزبور، أي‏:‏ المكتوب‏.‏ كالرسول، والحلوب، والركوب‏.‏ وقرأ حمزة‏:‏ «زَبُوراً» بضم الزاي، جمع زبر كفلس وفلوس‏.‏ والزبر بمعنى المزبور، والأصل في الكلمة التوثيق يقال بئر مزبورة، أي‏:‏ مطوية بالحجارة، والكتاب سمي زبوراً لقوّة الوثيقة به‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَرُسُلاً‏}‏ منصوب بفعل مضمر يدل عليه ‏{‏أَوْحَيْنَا‏}‏ أي‏:‏ وأرسلنا رسلاً ‏{‏قَدْ قصصناهم عَلَيْكَ مِن قَبْلُ‏}‏ وقيل‏:‏ هو منصوب بفعل دلّ عليه ‏{‏قصصناهم‏}‏ أي‏:‏ وقصصنا رسلاً، ومثله ما أنشده سيبويه‏:‏

أصبحت لا أحمل السلاح ولا *** أملك رأس البعير إن نفرا

والذئب أخشاه إن مررت به *** وحدي وأخشى الرياح والمطرا

أي‏:‏ وأخشى الذئب‏.‏ وقرأ أبيّ‏:‏ «رُسُلُ» بالرفع على تقدير، ومنهم رسل‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ أنه قصة عليه من قبل هذه السورة، أو من قبل هذا اليوم‏.‏ قيل‏:‏ إنه لما قصّ الله في كتابه بعض أسماء أنبيائه، ولم يذكر أسماء بعض قالت اليهود‏:‏ ذكر محمد الأنبياء، ولم يذكر موسى، فنزل‏:‏ ‏{‏وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً‏}‏ وقراءة الجمهور برفع الاسم الشريف على أن الله هو الذي كلم موسى‏.‏ وقرأ النخعي، ويحيى ابن وثاب بنصب الاسم الشريف على أن موسى هو الذي كلم الله سبحانه و‏{‏تَكْلِيماً‏}‏ مصدر مؤكد‏.‏ وفائدة التأكيد دفع توهم كون التكليم مجازاً، كما قال الفراء إن العرب تسمى ما وصل إلى الإنسان كلاماً بأيّ طريق‏.‏ وقيل‏:‏ ما لم يؤكد بالمصدر، فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام‏.‏ قال النحاس‏:‏ وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ‏}‏ بدل من رسلاً الأوّل، أو منصوب بفعل مقدّر، أي‏:‏ وأرسلنا، أو على الحال بأن يكون رسلاً موطئاً لما بعده، أو على المدح، أي‏:‏ مبشرين لأهل الطاعات، ومنذرين لأهل المعاصي‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل‏}‏ أي‏:‏ معذرة يعتذرون بها، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءاياتك‏}‏

‏[‏طه‏:‏ 134‏]‏ وسميت المعذرة حجة مع أنه لم يكن لأحد من العباد على الله حجة تنبيهاً على أن هذه المعذرة مقبولة لديه تفضلاً منه ورحمة‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏بَعْدَ الرسل‏}‏ بعد إرسال الرسل ‏{‏وَكَانَ الله عَزِيزاً‏}‏ لا يغالبه مغالب ‏{‏حَكِيماً‏}‏ في أفعاله التي من جملتها إرسال الرسل‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً‏}‏ قال‏:‏ أنفسهم وغيرهم عن الحق‏.‏ وأخرج ابن إسحاق ‏[‏والبيهقي‏]‏ في الدلائل عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لكن الراسخون فِى العلم مِنْهُمْ‏}‏ قال‏:‏ نزلت في عبد الله بن سلام، وأسيد بن شعبة، وثعلبة بن شعبة حين فارقوا اليهود وأسلموا‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الدلائل عنه أن بعض اليهود قال‏:‏ يا محمد ما نعلم الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن حبان في صحيحه، والحاكم، وابن عساكر، عن أبي ذرّ قال‏:‏ قلت يا رسول الله كم الأنبياء‏؟‏ قال‏:‏ «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً» قلت‏:‏ كم الرسل منهم‏؟‏ قال‏:‏ ثلثمائة وثلاثة عشر جمّ غفير‏.‏ وأخرج نحوه ابن أبي حاتم، عن أبي أمامة مرفوعاً إلا أنه قال‏:‏ «والرسل ثلثمائة وخمسة عشر» وأخرج أبو يعلى، والحاكم بسند ضعيف، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبيّ، ثم كان عيسى، ثم كنت أنا بعده» وأخرج الحاكم، عن أنس بسند ضعيف نحوه‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن؛ ولا أحد أحبّ إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه؛ ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏166- 171‏]‏

‏{‏لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏166‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏167‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا ‏(‏168‏)‏ إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏169‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏170‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏171‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏لكن الله يَشْهَدُ‏}‏ الاسم الشريف مبتدأ، والفعل خبره، ومع تشديد النون هو منصوب على أنه اسم لكنّ، والاستدراك من محذوف مقدّر كأنهم قالوا‏:‏ ما نشهد لك يا محمد بهذا، أي‏:‏ الوحي والنبوّة، فنزل‏:‏ ‏{‏لكن الله يَشْهَدُ‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والملئكة يَشْهَدُونَ‏}‏ جملة معطوفة على الجملة الأولى، أو جملة حالية، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏}‏ جملة حالية، أي‏:‏ متلبساً بعلمه الذي لا يعلمه غيره، من كونك أهلاً لما اصطفاك الله له من النبوّة، وأنزله عليك من القرآن ‏{‏وكفى بالله شَهِيداً‏}‏ أي‏:‏ كفى الله شاهداً، والباء زائدة، وشهادة الله سبحانه هي‏:‏ ما يصنعه من المعجزات الدالة على صحة النبوة، فإن وجود هذه المعجزات شهادة للنبيّ صلى الله عليه وسلم بصدق ما أخبر به من هذا، وغيره‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ بكل ما يجب الإيمان به، أو بهذا الأمر الخاص، وهو ما في هذا المقام‏:‏ ‏{‏وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ وهو دين الإسلام بإنكارهم نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وبقولهم ما نجد صفته في كتابنا، وإنما النبوّة في ولد هارون وداود، وبقولهم إن شرع موسى لا ينسخ ‏{‏قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً‏}‏ عن الحقّ بما فعلوا، لأنهم مع كفرهم منعوا غيرهم عن الحق ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ بجحدهم ‏{‏وَظَلَمُواْ‏}‏ غيرهم بصدهم عن السبيل، أو ظلموا محمداً بكتمانهم نبوّته، أو ظلموا أنفسهم بكفرهم، ويجوز الحمل على جميع هذه المعاني‏:‏ ‏{‏لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ‏}‏ إذا استمروا على كفرهم، وماتوا كافرين ‏{‏وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ‏}‏ لكونهم اقترفوا ما يوجب لهم ذلك بسوء اختيارهم، وفرط شقائهم، وجحدوا الواضح، وعاندوا البين ‏{‏خالدين فِيهَا أَبَداً‏}‏ أي‏:‏ يدخلهم جهنم خالدين فيها، وهي حال مقدّرة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَبَدًا‏}‏ منصوب على الظرفية، وهو لدفع احتمال‏.‏ أن الخلود هنا يراد به‏:‏ المكث الطويل ‏{‏وَكَانَ ذلك‏}‏ أي‏:‏ تخليدهم في جهنم، أو ترك المغفرة لهم، والهداية مع الخلود في جهنم‏:‏ ‏{‏عَلَى الله يَسِيراً‏}‏ لأنه سبحانه لا يصعب عليه شيء ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏ ‏{‏فآمنوا خيراً لكم‏}‏ اختلف أئمة النحو في انتصاب ‏{‏خيراً‏}‏ على ماذا‏؟‏ فقال سيبويه، والخليل بفعل مقدر، أي‏:‏ واقصدوا، أو أتو خيراً لكم، وقال الفراء‏:‏ هو نعت لمصدر محذوف، أي‏:‏ فآمنوا إيماناً خيراً لكم، وذهب أبو عبيدة، والكسائي إلى أنه خبر لكان مقدّرة، أي‏:‏ فآمنوا يكن الإيمان خيراً لكم، وأقوى هذه الأقوال الثالث، ثم الأوّل، ثم الثاني على ضعف فيه‏:‏ ‏{‏وَإِن تَكْفُرُواْ‏}‏ أي‏:‏ وإن تستمروا على كفركم‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السموات والأرض‏}‏ من مخلوقاته، وأنتم من جملتهم، ومن كان خالقاً لكم ولها فهو قادر على مجازاتكم بقبيح أفعالكم، ففي هذه الجملة، وعيد لهم مع إيضاح وجه البرهان، وإماطة الستر عن الدليل بما يوجب عليهم القبول والإذعان‏.‏

لأنهم يعترفون بأن الله خالقهم ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 87‏]‏ قوله‏:‏ ‏{‏يأَهْلَ الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ‏}‏ الغلو‏:‏ هو التجاوز في الحدّ، ومنه غلا السعر يغلو غلاء، وغلا الرجل في الأمر غلواً، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها‏.‏ والمراد بالآية‏:‏ النهي لهم عن الإفراط تارة والتفريط أخرى، فمن الإفراط غلوّ النصارى في عيسى حتى جعلوه ربا، ومن التفريط غلو اليهود فيه عليه السلام حتى جعلوه لغير رشدة، وما أحسن قول الشاعر‏:‏

ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد *** كلا طرفي قصد الأمورذميم

‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق‏}‏ وهو ما وصف به نفسه ووصفته به رسله، ولا تقولوا الباطل كقول اليهود عزير ابن الله، وقول النصارى المسيح ابن الله ‏{‏إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله‏}‏ المسيح مبتدأ، وعيسى بدل منه، وابن مريم صفة لعيسى، ورسول الله الخبر، ويجوز أن يكون عيسى ابن مريم عطف بيان، والجملة تعليل للنهي، وقد تقدّم الكلام على المسيح في آل عمران‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَكَلِمَتُهُ‏}‏ عطف على رسول الله، و‏{‏ألقاها إلى مَرْيَمَ‏}‏ حال، أي‏:‏ كوّنه بقوله كن، فكان بشرا من غير أب، وقيل‏:‏ ‏{‏كلمته‏}‏ بشارة الله مريم ورسالته إليها على لسان جبريل بقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَتِ الملئكة يامريم مَرْيَمَ إِنَّ الله يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 45‏]‏ وقيل‏:‏ الكلمة هاهنا بمعنى‏:‏ الآية، ومنه‏:‏ ‏{‏وَصَدَّقَتْ بكلمات رَبَّهَا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 12‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَّا نَفِدَتْ كلمات الله‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 27‏]‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَرُوحٌ مّنْهُ‏}‏ أي‏:‏ أرسل جبريل فنفخ في درع مريم فحملت بإذن الله، وهذه الإضافة للتفضيل، وإن كان جميع الأرواح من خلقه تعالى‏.‏ وقيل قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحاً ويضاف إلى الله، فيقال هذا روح من الله، أي‏:‏ من خلقه، كما يقال في النعمة إنها من الله وقيل‏:‏ ‏{‏رُوحُ مِنْهُ‏}‏ أي من خلقه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى * السموات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مّنْهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 13‏]‏‏:‏ أي‏:‏ من خلقه، وقيل‏:‏ ‏{‏رُوحُ مِنْهُ‏}‏ أي‏:‏ رحمة منه، وقيل‏:‏ ‏{‏رُوحُ مِنْهُ‏}‏ أي‏:‏ برهان منه، وكان عيسى برهاناً وحجة على قومه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مِنْهُ‏}‏ متعلق بمحذوف وقع صفة لروح، أي‏:‏ كائنة منه وجعلت الروح منه سبحانه، وإن كانت بنفخ جبريل لكونه تعالى الآمر لجبريل بالنفخ‏:‏ ‏{‏فآمنوا بالله ورسله‏}‏ أي‏:‏ بأنه سبحانه إله واحد ‏{‏لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 2-4‏]‏، وبأن رسله صادقون مبلغون عن الله ما أمرهم بتبليغه، ولا تكذبوهم، ولا تغلوا فيهم، فتجعلوا بعضهم آلهة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة‏}‏ ارتفاع ثلاثة على أنه خبر مبتدأ محذوف قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ لا تقولوا آلهتنا ثلاثة، وقال الفراء، وأبو عبيد‏:‏ أي‏:‏ لا تقولوا هم ثلاثة كقوله‏:‏

‏{‏سَيَقُولُونَ ثلاثة‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ لا تقولوا هو ثالث ثلاثة، فحذف المبتدأ والمضاف، والنصارى مع تفريق مذاهبهم متفقون على التثليث، ويعنون بالثلاثة‏:‏ الثلاثة الأقانيم، فيجعلونه سبحانه جوهراً واحداً، وله ثلاثة أقانيم، ويعنون بالأقانيم أقنوم الوجود، وأقنوم الحياة، وأقنوم العلم، وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس، فيعنون بالأب‏:‏ الوجود، وبالروح‏:‏ الحياة، وبالابن‏:‏ المسيح‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالآلهة الثلاثة‏:‏ الله سبحانه وتعالى، ومريم، والمسيح‏.‏ وقد اختبط النصارى في هذا اختباطاً طويلاً‏.‏

ووقفنا في الأناجيل الأربعة التي يطل عليها عندهم اسم الإنجيل على اختلاف كثير في عيسى‏:‏ فتارة يوصف بأنه ابن الإنسان، وتارة يوصف بأنه ابن الله، وتارة يوصف بأنه ابن الربّ، وهذا تناقض ظاهر وتلاعب بالدين‏.‏ والحق ما أخبرنا الله به في القرآن، وما خالفه في التوراة، أو الإنجيل، أو الزبور، فهو من تحريف المحرّفين، وتلاعب المتلاعبين‏.‏ ومن أعجب ما رأيناه أن الأناجيل الأربعة كل واحد منها منسوب إلى واحد من أصحاب عيسى عليه السلام‏.‏

وحاصل ما فيها جميعاً أن كل واحد من هؤلاء الأربعة ذكر سيرة عيسى من عند أن بعثه الله إلى أن رفعه إليه، وذكر ما جرى له من المعجزات، والمراجعات لليهود ونحوهم، فاختلفت ألفاظهم، واتفقت معانيها، وقد يزيد بعضهم على بعض بحسب ما يقتضيه الحفظ، والضبط، وذكر ما قاله عيسى، وما قيل له، وليس فيها من كلام الله سبحانه شيء، ولا أنزل على عيسى من عنده كتاباً، بل كان عيسى عليه السلام يحتج عليهم بما في التوراة، ويذكر أنه لم يأت بما يخالفها، وهكذا الزبور، فإنه من أوّله إلى آخره من كلام داود عليه السلام‏.‏ وكلام الله أصدق، وكتابه أحق، وقد أخبرنا أن الانجيل كتابه أنزله على عبده ورسوله عيسى ابن مريم، وأن الزبور كتابه آتاه داود وأنزله عليه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏انتهوا خَيْراً لَّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ انتهوا عن التثليث، وانتصاب ‏{‏خيراً‏}‏ هنا فيه الوجوه الثلاثة التي تقدمت في قوله‏:‏ ‏{‏فآمنوا خيراً لكم‏}‏‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا الله إله واحد‏}‏ لا شريك له ولا صاحبة ولا ولداً‏:‏ ‏{‏سبحانه أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ‏}‏ أي‏:‏ أسبحه تسبيحاً عن أن يكون له ولد‏:‏ ‏{‏لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ وما جعلتموه له شريكاً، أو ولداً هو من جملة ذلك، والمملوك المخلوق لا يكون شريكاً، ولا ولداً‏:‏ ‏{‏وكفى بالله وَكِيلاً‏}‏ فكل الخلق أمورهم إليه، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال‏:‏ دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم‏:‏

«إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله»، قالوا ما نعلم ذلك‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لكن الله يَشْهَدُ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، والحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل، عن أبي موسى أن النجاشي قال لجعفر‏:‏ ما يقول صاحبك في ابن مريم‏؟‏ قال‏:‏ يقول فيه قول الله هو روح الله وكلمته، أخرجه من البتول العذراء لم يقربها بشر، فتناول عودا من الأرض فرفعه فقال‏:‏ يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه‏.‏ وأخرجه البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود بأطول من هذا‏.‏ وأخرج البخاري عن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏172- 175‏]‏

‏{‏لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ‏(‏172‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏173‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ‏(‏174‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏175‏)‏‏}‏

أصل يستنكف نكف وباقي الحروف زائدة، يقال نكفت من الشيء، واستنكفت منه، وأنكفته‏:‏ أي‏:‏ نزهته عما يستنكف منه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ استنكف أي‏:‏ أنف، مأخوذ من نكفت الدمع‏:‏ إذا نحيته بأصبعك عن خديك؛ وقيل‏:‏ هو من النكف، وهو العيب، يقال‏:‏ ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف أي‏:‏ عيب‏.‏ ومعنى الأوّل‏:‏ لن يأنف عن العبودية، ولن يتنزّه عنها‏.‏ ومعنى الثاني‏:‏ لن يعيب العبودية، ولن ينقطع عنها‏:‏ ‏{‏وَلاَ الملئكة المقربون‏}‏ عطف على المسيح، أي‏:‏ ولن يستنكف الملائكة المقرّبون عن أن يكونوا عباداً لله‏.‏

وقد استدلّ بهذا القائلون بتفضيل الملائكة على الأنبياء، وقرر صاحب الكشاف وجه الدلالة بما لا يسمن ولا يغني من جوع، وادّعى أن الذوق قاض بذلك، ونعم الذوق العربي إذا خالطه محبة المذهب، وشابه شوائب الجمود كان هكذا، وكل من يفهم لغة العرب يعلم أن من قال لا يأنف من هذه المقالة إمام ولا مأموم أو لا كبير ولا صغير أو لا جليل ولا حقير، لم يدل هذا على أن المعطوف أعظم شأناً من المعطوف عليه، وعلى كل حال، فما أردأ الاشتغال بهذه المسألة، وما أقلّ فائدتها، وما أبعدها عن أن تكون مركزاً من المراكز الشرعية الدينية، وجسراً من الجسور‏:‏ ‏{‏وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ‏}‏ أي‏:‏ يأنف تكبراً، ويعدّ نفسه كبيراً عن العبادة ‏{‏فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً‏}‏ المستنكف وغيره، فيجازي كلاً بعمله‏.‏ وترك ذكر غير المستنكف هنا لدلالة أوّل الكلام عليه‏.‏ ولكون الحشر لكلا الطائفتين ‏{‏فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ‏}‏ من غير أن يفوتهم منها شيء‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الذين استنكفوا واستكبروا فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً‏}‏ بسبب استنكافهم واستكبارهم ‏{‏وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وَلِيّاً‏}‏ يواليهم ‏{‏وَلاَ نَصِيراً‏}‏ ينصرهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الناس قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ بما أنزله عليكم من كتبه وبمن أرسله إليكم من رسله، وما نصبه لهم من المعجزات‏.‏ والبرهان‏:‏ ما يبرهن به على المطلوب‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً‏}‏ وهو القرآن، وسماه نوراً لأنه يهتدى به من ظلمة الضلال‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ‏}‏ أي‏:‏ بالله، وقيل‏:‏ بالنور المذكور‏:‏ ‏{‏فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مَّنْهُ‏}‏ يرحمهم بها ‏{‏وَفَضَّلَ‏}‏ يتفضل به عليهم ‏{‏وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ إلى امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه أو إليه سبحانه وتعالى باعتبار مصيرهم إلى جزائه، وتفضله‏:‏ ‏{‏صراطا مُّسْتَقِيماً‏}‏ أي‏:‏ طريقاً يسلكونه إليه مستقيماً لا عوج فيه، وهو التمسك بدين الإسلام، وترك غيره من الأديان، قال أبو علي الفارسي‏:‏ الهاء في قوله ‏{‏إِلَيْهِ‏}‏ راجعة إلى ما تقدّم من اسم الله؛ وقيل‏:‏ راجعة إلى القرآن؛ وقيل‏:‏ إلى الفضل؛ وقيل‏:‏ إلى الرحمة والفضل لأنهما بمعنى الثواب وانتصاب ‏{‏صراطاً‏}‏ على أنه مفعول ثان للفعل المذكور؛ وقيل‏:‏ على الحال‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح‏}‏ لن يستكبر‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والإسماعيلي في معجمه بسند ضعيف، عن ابن مسعود قال‏:‏ قال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ «‏{‏فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ‏}‏ قال‏:‏ ‏{‏أجورهم‏}‏ يدخلهم الجنة، ‏{‏ويزيدهم من فضله‏}‏ الشفاعة فيمن وجبت له النار، ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا» وقد ساقه ابن كثير في تفسيره، فقال‏:‏ وقد روى ابن مردويه، من طريق بقية عن إسماعيل بن عبد الله الكندي عن الأعمش عن شقيق عن ابن مسعود، فذكره، وقال‏:‏ هذا إسناد لا يثبت، وإذا روي عن ابن مسعود موقوفاً، فهو جيد‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة ‏{‏قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ‏}‏ أي‏:‏ بينة ‏{‏وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً‏}‏ قال‏:‏ هذا القرآن‏.‏ وأخرجا أيضاً عن مجاهد قال‏:‏ برهان حجة‏.‏ وأخرجا أيضاً عن ابن جريج في قوله‏:‏ ‏{‏واعتصموا بِهِ‏}‏ قال‏:‏ القرآن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏176- 176‏]‏

‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏176‏)‏‏}‏

قد تقدّم الكلام في الكلالة في أوّل هذه السورة، وسيأتي ذكر المستفتي المقصود بقوله‏:‏ ‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ‏}‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِن امرؤ هَلَكَ‏}‏ أي‏:‏ إن هلك امرؤ هلك، كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امرأة خافت‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 128‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ‏}‏ إما صفة ل ‏{‏امرؤ‏}‏، أو حال، ولا وجه للمنع من كونه حالاً، والولد يطلق على الذكر والأنثى، واقتصر على عدم الولد هنا مع أن عدم الوالد معتبر في الكلالة اتكالاً على ظهور ذلك، قيل‏:‏ والمراد بالولد هنا‏:‏ الابن، وهو أحد معنى المشترك؛ لأن البنت لا تسقط الأخت‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ أُخْتٌ‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏ليس له ولد‏}‏‏.‏ والمراد بالأخت هنا‏:‏ هي الأخت لأبوين، أو لأب لا لأم، فإن فرضها السدس، كما ذكر سابقاً‏.‏ وقد ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن الأخوات لأبوين، أو لأب عصبة للبنات، وإن لم يكن معهم أخ‏.‏ وذهب ابن عباس إلى أن الأخوات لا يعصبن البنات، وإليه ذهب داود الظاهري، وطائفة، وقالوا‏:‏ إنه لا ميراث للأخت لأبوين، أو لأب مع البنت، واحتجوا بظاهر هذه الآية، فإنه جعل عدم الولد المتناول للذكر والأنثى قيداً في ميراث الأخت، وهذا استدلال صحيح لو لم يرد في السنة ما يدل على ثبوت ميراث الأخت مع البنت، وهو ما ثبت في الصحيح أن معاذاً قضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنت وأخت، فجعل للبنت النصف، وللأخت النصف‏.‏ وثبت في الصحيح أيضاً‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت فجعل للبنت النصف ولبنت الابن السدس وللأخت الباقي، فكانت هذه السنة مقتضية لتفسير الولد بالابن دون البنت‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ يَرِثُهَا‏}‏ أي‏:‏ المرء يرثها، أي‏:‏ يرث الأخت ‏{‏إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ‏}‏ ذكر إن كان المراد بإرثه لها‏:‏ حيازته لجميع ما تركته، وإن كان المراد‏:‏ ثبوت ميراثه لها في الجملة أعمّ من أن يكون كلاً، أو بعضاً صح تفسير الولد بما يتناول الذكر والأنثى، واقتصر سبحانه في هذه الآية على نفي الولد مع كون الأب يسقط الأخ، كما يسقطه الولد الذكر، لأن المراد‏:‏ بيان حقوق الأخ مع الولد فقط هنا‏.‏ وأما سقوطه مع الأب، فقد تبين بالسنة، كما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر» والأب أولى من الأخ‏:‏ ‏{‏فَإِن كَانَتَا اثنتين‏}‏ أي‏:‏ فإن كان من يرث بالأخوّة اثنتين، والعطف على الشرطية السابقة، والتأنيث والتثنية، وكذلك الجمع في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً‏}‏ باعتبار الخبر‏:‏ ‏{‏فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ‏}‏ المرء إن لم يكن له ولد، كما سلف، وما فوق الاثنتين من الأخوات يكون لهنّ الثلثان بالأولى ‏{‏وَإِن كَانُواْ‏}‏ أي‏:‏ من يرث بالأخوّة ‏{‏إِخْوَةً رّجَالاً وَنِسَاء‏}‏ أي‏:‏ مختلطين ذكوراً وإناثاً ‏{‏فَلِلذَّكَرِ‏}‏ منهم ‏{‏مِثْلُ حَظِ الأنثيين‏}‏ تعصيباً ‏{‏يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ‏}‏ أي‏:‏ يبين لكم حكم الكلالة، وسائر الأحكام كراهة أن تضلوا، هكذا حكاه القرطبي عن البصريين‏.‏

وقال الكسائي‏:‏ المعنى لئلا تضلوا، ووافقه الفراء وغيره من الكوفيين ‏{‏والله بِكُلّ شَيْء‏}‏ من الأشياء التي هذه الأحكام المذكورة منها ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ كثير العلم‏.‏

وقد أخرج البخاري، ومسلم، وأهل السنن، وغيرهم عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ، ثم صبّ عليّ، فعقلت، فقلت إنه لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث‏؟‏ فنزلت آية الفرائض‏.‏ وأخرجه عنه ابن سعد، وابن أبي حاتم بلفظ أنزلت فيّ ‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِى الكلالة‏}‏‏.‏ وأخرج ابن راهويه، وابن مردويه، عن عمر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كيف تورث الكلالة‏:‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِى الكلالة‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج مالك، ومسلم، وابن جرير، والبيهقي، عن عمر قال‏:‏ ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته في الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري، وقال‏:‏ «ما تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء» وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، والبيهقي، عن البراء بن عازب قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الكلالة‏؟‏ فقال‏:‏ «تكفيك آية الصيف» وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن عمر قال‏:‏ ثلاث، وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهنّ عهداً ننتهي إليه‏:‏ الجدّ، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا‏.‏ وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن البراء ابن عازب قال‏:‏ آخر سورة نزلت كاملة براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء ‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِى الكلالة‏}‏‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، عن ابن سيرين قال‏:‏ كان عمر ابن الخطاب إذا قرأ ‏{‏يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ‏}‏ قال‏:‏ اللهمّ من بينت له الكلالة، فلم تبين لي‏.‏

وقد أوضحنا الكلام خلافاً واستدلالاً وترجيحاً في شأن الكلالة في أوائل هذه السورة، فلا نعيده‏.‏