فصل: تفسير الآيات رقم (17- 18)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏17‏)‏ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

ضمير الفصل في قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ المسيح‏}‏ يفيد الحصر؛ قيل‏:‏ وقد قال بذلك بعض طوائف النصارى؛ وقيل‏:‏ لم يقل به أحد منهم، ولكن استلزم قولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله هُوَ المسيح‏}‏ لا غيره، وقد تقدّم في آخر سورة النساء ما يكفي ويغني عن التكرار‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً‏}‏ الاستفهام للتوبيخ والتقريع، والملك، والملك‏:‏ الضبط والحفظ والقدرة، من قولهم ملكت على فلان أمره‏:‏ أي قدرت عليه، أي فمن يقدر أن يمنع ‏{‏إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الأرض جَمِيعاً‏}‏ وإذا لم يقدر أحد أن يمنع من ذلك، فلا إله إلا الله، ولا ربّ غيره، ولا معبود بحق سواه، ولو كان المسيح إلهاً كما تزعم النصارى، لكان له من الأمر شيء، ولقدر على أن يدفع عن نفسه أقلّ حال، ولم يقدر على أن يدفع عن أمه الموت عند نزوله بها، وتخصيصها بالذكر مع دخولها في عموم من في الأرض، لكون الدفع منه عنها أولى وأحق من غيرها، فهو إذا لم يقدر على الدفع عنها، أعجز عن أن يدفع عن غيرها، وذكر ‏{‏من في الأرض‏}‏ للدلالة على شمول قدرته، وأنه إذا أراد شيئاً كان لا معارض له في أمره، ولا مشارك له في قضائه‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ أي‏:‏ ما بين النوعين من المخلوقات‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏يَخْلُقُ مَا يَشَاء‏}‏ جملة مستأنفة مسوقة لبيان أنه سبحانه خالق الخلق بحسب مشيئته، وأنه يقدر على كل شيء لا يستصعب عليه شيء‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ‏}‏ أثبتت اليهود لأنفسها ما أثبتته لعزير، حيث قالوا ‏{‏عُزَيْرٌ ابن الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 30‏]‏ وأثبتت النصارى لأنفسها ما أثبتته للمسيح حيث قالوا ‏{‏المسيح ابن الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 30‏]‏ وقيل هو على حذف مضاف‏:‏ أي نحن أتباع أبناء الله، وهكذا أثبتوا لأنفسهم أنهم أحباء الله بمجرد الدعوى الباطلة والأماني العاطلة، فأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يردّ عليهم، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم‏}‏ أي‏:‏ إن كنتم كما تزعمون، فما باله يعذبكم بما تقترفونه من الذنوب بالقتل، والمسخ، وبالنار في يوم القيامة كما تعترفون بذلك، لقولكم‏:‏ ‏{‏لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 8‏]‏ فإن الابن من جنس أبيه لا يصدر عنه ما يستحيل على الأب وأنتم تذنبون، والحبيب لا يعذب حبيبه وأنتم تعذبون، فهذا يدلّ على أنكم كاذبون في هذه الدعوى‏.‏ وهذا البرهان هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ‏}‏ عطف على مقدّر يدلّ عليه الكلام‏:‏ أي فلستم حينئذ كذلك، ‏{‏بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ‏}‏ أي‏:‏ من جنس من خلقه الله تعالى يحاسبهم على الخير والشرّ، ويجازي كل عامل بعمله ‏{‏يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ من الموجودات ‏{‏وَإِلَيْهِ المصير‏}‏ أي‏:‏ تصيرون إليه عند انتقالكم من دار الدنيا إلى دار الآخرة‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضاء وبحري بن عمرو وشاس بن عدّي فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله، وحذرهم نقمته، فقالوا‏:‏ ما تخوّفنا يا محمد نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ كقول النصارى؛ فأنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ اليهود والنصارى‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ وأخرج أحمد في مسنده عن أنس قال‏:‏ مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه وصبيّ في الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعى وتقول، ابني ابني، فسعت فأخذته، فقال القوم‏:‏ يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا، والله لا يلقي حبيبه في النار» وإسناده في المسند هكذا‏:‏ حدّثنا، ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس فذكره‏.‏ ومعنى الآية يشير إلى معنى هذا الحديث، ولهذا قال بعض مشايخ الصوفية لبعض الفقهاء‏:‏ أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه‏؟‏ فلم يردّ عليه، فتلا الصوفيّ هذه الآية، وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا، والله لا يعذب الله حبيبه، ولكن قد يبتليه في الدنيا» وأخرج ابن جرير عن السدّي في قوله‏:‏ ‏{‏يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء‏}‏ يقول‏:‏ يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له، ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذبه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏19‏)‏‏}‏

المراد بأهل الكتاب‏:‏ اليهود والنصارى‏.‏ والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وَيُبَيّنُ لَكُمْ‏}‏ حال‏.‏ والمبين هو‏:‏ ما شرعه الله لعباده وحذف للعلم به، لأن بعثة الرسل إنما هي بذلك‏.‏ والفترة أصلها السكون، يقال فتر الشيء‏:‏ سكن؛ وقيل‏:‏ هي الانقطاع‏.‏ قاله أبو علي الفارسي وغيره؛ ومنه فتر الماء‏:‏ إذا انقطع عما كان عليه من البرد إلى السخونة؛ وفتر الرجل عن عمله‏:‏ إذا انقطع عما كان عليه من الجدّ فيه، وامرأة فاترة الطرف‏:‏ أي منقطعة عن حدة النظر‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه انقطع الرسل قبل بعثه صلى الله عليه وسلم مدّة من الزمان‏.‏ واختلف في قدر مدّة تلك الفترة، وسيأتي بيان ذلك‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ‏}‏ تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حين فترة‏:‏ أي كراهة أن تقولوا هذا القول معتذرين عن تفريطكم، و«من» في قوله ‏{‏مِن بَشِيرٍ‏}‏ زائدة للمبالغة في نفي المجيء، والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فَقَدْ جَاءكُمُ‏}‏ هي الفصيحة مثل قول الشاعر‏:‏

فقد جئنا خراسانا *** أي‏:‏ لا تعتذروا فقد جاءكم بشير ونذير، وهو‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ‏}‏، ومن جملة مقدوراته إرسال رسوله على فترة من الرسل‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال‏:‏ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود إلى الإسلام، فرغبهم فيه وحذرهم فأبوا عليه، فقال لهم معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة، وعقبة بن وهب‏:‏ يا معشر يهود اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حرملة ووهب بن يهوذا‏:‏ ما قلنا لكم هذا وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى، ولا أرسل بشيراً ولا نذيراً بعده، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يَاَأَهْلَ الكتاب قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في الآية قال‏:‏ هو‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم جاء بالحق الذي فرق الله به بين الحق والباطل، فيه بيان وموعظة، ونور وهدى وعصمة لمن أخذ به‏.‏ قال‏:‏ وكانت الفترة بين عيسى ومحمد ستمائة سنة، وما شاء الله من ذلك‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد، وابن جرير، عنه قال‏:‏ كانت خمسمائة سنة وستين سنة‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ خمسمائة سنة وأربعين سنة‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال‏:‏ كانت خمسمائة سنة‏.‏ وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال‏:‏ كانت أربعمائة سنة وبضعاً وثلاثين سنة‏.‏ وأخرج ابن سعد في كتاب الطبقات، عن ابن عباس قال‏:‏ كان بين موسى وعيسى ألف سنة وتسعمائة سنة، ولم يكن بينهما فترة، فإنه أرسل بينهما ألف نبيّ من بني إسرائيل، سوى من أرسل من غيرهم، وكان بين ميلاد عيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، بعث في أوّلها ثلاثة أنبياء كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 14‏]‏ والذي عزّز به شمعون وكان من الحواريين، وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولاً أربعمائة سنة وأربعة وثلاثين سنة‏.‏ وقد قيل غير ما ذكرناه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 26‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏20‏)‏ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ‏(‏21‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ‏(‏22‏)‏ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏23‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ‏(‏24‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

هذه الآيات متضمنة للبيان من الله سبحانه، بأن أسلاف اليهود الموجودين في عصر محمد صلى الله عليه وسلم تمرّدوا على موسى، وعصوه، كما تمرّد هؤلاء على نبينا صلى الله عليه وسلم وعصوه، وفي ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم‏.‏ وروي عن عبد الله بن كثير أنه قرأ «يا قوم اذكروا» بضم الميم، وكذا قرأ فيما أشبهه، وتقديره‏:‏ يا أيها القوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء‏:‏ أي وقت هذا الجعل، وإيقاع الذكر على الوقت مع كون المقصود ما وقع فيه من الحوادث للمبالغة؛ لأن الأمر بذكر الوقت أمر بذكر ما وقع فيه بطريق الأولى، وامتنّ عليهم سبحانه بجعل الأنبياء فيهم مع كونه قد جعل أنبياء من غيرهم، لكثرة من بعثه من الأنبياء منهم قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً‏}‏ أي‏:‏ وجعل منكم ملوكاً، وإنما حذف حرف الجرّ لظهور أن معنى الكلام على تقديره، ويمكن أن يقال‏:‏ إن منصب النبوّة لما كان لعظم قدره وجلالة خطره بحيث لا ينسب إلى غير من هو له قال فيه‏:‏ ‏{‏إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء‏}‏ ولما كان منصب الملك مما يجوز نسبته إلى غير من قال به، كما تقول قرابة الملك‏:‏ نحن الملوك، قال فيه ‏{‏وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً‏}‏ وقيل المراد بالملك‏:‏ أنهم ملكوا أمرهم بعد أن كانوا مملوكين لفرعون، فهم جميعاً ملوك بهذا المعنى‏.‏ وقيل معناه‏:‏ أنه جعلهم ذوي منازل لا يدخل عليهم غيرهم إلا بإذن؛ وقيل غير ذلك‏.‏ والظاهر أن المراد من الآية الملك الحقيقي، ولو كان بمعنى آخر لما كان للامتنان به كثير معنى‏.‏ فإن قلت‏:‏ قد جعل غيرهم ملوكاً كما جعلهم‏.‏ قلت‏:‏ قد كثر الملوك فيهم كما كثر الأنبياء، فهذا وجه الامتنان‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين‏}‏ أي‏:‏ من المنّ والسلوى، والحجر والغمام، وكثرة الأنبياء، وكثرة الملوك، وغير ذلك‏.‏ والمراد عالمي زمانهم‏.‏ وقيل إن الخطاب ها هنا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عدول عن الظاهر لغير موجب، والصواب ما ذهب إليه جمهور المفسرين، من أنه من كلام موسى لقومه، وخاطبهم بهذا الخطاب توطئة وتمهيداً لما بعده من أمره لهم بدخول الأرض المقدّسة‏.‏

وقد اختلف في تعيينها؛ فقال قتادة‏:‏ هي الشام، وقال مجاهد‏:‏ الطور وما حوله، وقال ابن عباس والسدّي وغيرهما‏:‏ أريحاء، وقال الزجاج‏:‏ دمشق وفلسطين وبعض الأردن‏.‏ وقول قتادة يجمع هذه الأقوال المذكورة بعده‏.‏ والمقدسة‏:‏ المطهرة، وقيل المباركة‏:‏ ‏{‏الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ قسمها وقدّرها لهم في سابق علمه، وجعلها مسكناً لكم ‏{‏وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم‏}‏ أي‏:‏ لا ترجعوا عن أمري وتتركوا طاعتي، وما أوجبته عليكم من قتال الجبارين، جبناً وفشلا ‏{‏فَتَنقَلِبُواْ‏}‏ بسبب ذلك ‏{‏خاسرين‏}‏ لخير الدنيا والآخرة‏.‏

‏{‏قَالُواْ ياموسى إِن‏}‏ قال الزجاج‏:‏ الجبار من الآدميين العاتي، وهو الذي يجبر الناس على ما يريد، وأصله على هذا من الإجبار وهو الإكراه، فإنه يجبر غيره على ما يريده، يقال أجبره‏:‏ إذا أكرهه؛ وقيل‏:‏ هو مأخوذ من جبر العظم، فأصل الجبار على هذا المصلح لأمر نفسه، ثم استعمل في كل من جرّ إلى نفسه نفعاً بحق أو باطل، وقيل‏:‏ إن جبر العظم راجع إلى معنى الإكراه‏.‏ قال الفراء‏:‏ لم أسمع فعالاً من أفعل إلا في حرفين، جبار من أجبر، ودراك من أدرك‏.‏ والمراد هنا‏:‏ أنهم قوم عظام الأجسام طوال متعاظمون؛ قيل هم قوم من بقية قوم عاد؛ وقيل هم من ولد عيص بن إسحاق؛ وقيل هم من الروم‏:‏ ويقال إن منهم عوج بن عنق المشهور بالطول المفرط، وعنق هي بنت آدم، قيل كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعاً وثلث ذراع‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ وهذا شيء يستحيا من ذكره، ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيحين‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعاً ثم لم يزل الخلق ينقص» ثم قد ذكروا أن هذا الرجل كان كافراً، وأنه كان ولد زنية، وأنه امتنع من ركوب السفينة وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته، وهذا كذب وافتراء، فإن الله ذكر أن نوحاً دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال‏:‏ ‏{‏رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فأنجيناه وَمَن مَّعَهُ فِى الفلك المشحون ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 119، 120‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 43‏]‏‏.‏ وإذا كان ابن نوح الكافر غرق فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر ولد زنية‏؟‏ هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع، ثم في وجود رجل يقال له عوج بن عنق نظر والله أعلم، انتهى كلامه‏.‏

قلت‏:‏ لم يأت في أمر هذا الرجل ما يقتضي تطويل الكلام في شأنه، ما هذا بأوّل كذبة اشتهرت في الناس، ولسنا ملزومين بدفع الأكاذيب التي وضعها القصاص، ونفقت عند من لا يميز بين الصحيح والسقيم، فكم في بطون دفاتر التفاسير من أكاذيب وبلايا، وأقاصيص كلها حديث خرافة، وما أحق من لا تمييز عنده لفنّ الرواية ولا معرفة به أن يدع التعرّض لتفسير كتاب الله، ويضع هذه الحماقات والأضحوكات في المواضع المناسبة لها، من كتب القصاص‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا داخلون‏}‏ هذا تصريح بما هو مفهوم من الجملة التي قبل هذه الجملة، لبيان أن امتناعهم من الدخول ليس إلا لهذا السبب‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ رَجُلاَنِ‏}‏ هما‏:‏ يوشع وكالب بن يوفنا أو ابن فانيا، وكانا من الاثنى عشر نقيباً كما مرّ بيان ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الذين يَخَافُونَ‏}‏ أي‏:‏ يخافون من الله عزّ وجلّ؛ وقيل‏:‏ من الجبارين أي‏:‏ هذان الرجلان من جملة القوم الذين يخافون من الجبارين؛ وقيل من الذين يخافون ضعف بني إسرائيل وجبنهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن الواو في ‏{‏يَخَافُونَ‏}‏ لبني إسرائيل‏:‏ أي من الذين يخافهم بنو إسرائيل‏.‏ وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير «يخافون» بضم الياء‏:‏ أي يخافهم غيرهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا‏}‏ في محل رفع على أنه صفة ثانية لرجلان، بالإيمان، واليقين بحصول ما وعدوا به من النصر والظفر‏:‏ ‏{‏ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب‏}‏ أي‏:‏ باب بلد الجبارين، ‏{‏فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالبون‏}‏ قالا هذه المقالة لبني إسرائيل‏.‏ والظاهر‏:‏ أنهما قد علما بذلك من خبر موسى، أو قالاه ثقة بوعد الله، أو كانا قد عرفا أن الجبارين قد ملئت قلوبهم خوفاً ورعباً‏.‏ ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي‏:‏ بنو إسرائيل لموسى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا‏}‏ وكان هذا القول منهم فشلاً وجبناً، أو عناداً وجرأةً على الله وعلى رسوله ‏{‏فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا‏}‏ قالوا هذا جهلاً بالله عزّ وجل وبصفاته وكفراً بما يجب له، أو استهانة بالله ورسوله؛ وقيل‏:‏ أرادوا بالذهاب الإرادة والقصد؛ وقيل أرادوا بالربّ هارون، وكان أكبر من موسى، وكان موسى يطيعه‏:‏ ‏{‏إِنَّا هاهنا قاعدون‏}‏ أي‏:‏ لا نبرح ها هنا لا نتقدّم معك ولا نتأخر عن هذا الموضع؛ وقيل أرادوا بذلك عدم التقدم لا عدم التأخر ‏{‏قَالَ‏}‏ موسى ‏{‏رَبّ إِنّى لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى‏}‏ يحتمل أن يعطف وأخي على نفسي، وأن يعطف على الضمير في ‏{‏إِنّى‏}‏ أي‏:‏ إني لا أملك إلا نفسي وإن أخي لا يملك إلا نفسه، قال هذا تحسراً وتحزناً واستجلاباً للنصر من الله عزّ وجلّ ‏{‏فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين‏}‏ أي‏:‏ افصل بيننا‏:‏ يعني نفسه وأخاه، وبين القوم الفاسقين، وميزنا عن جملتهم، ولا تلحقنا بهم في العقوبة؛ وقيل المعنى‏:‏ فاقض بيننا وبينهم؛ وقيل إنما أراد في الآخرة، وقرأ عبيد بن عمير ‏"‏ فافرق ‏"‏ بكسر الراء ‏{‏قَالَ فَإِنَّهَا‏}‏ أي‏:‏ الأرض المقدّسة ‏{‏مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي على هؤلاء العصاة بسبب امتناعهم من قتال الجبارين ‏{‏أَرْبَعِينَ سَنَةً‏}‏ ظرف للتحريم‏:‏ أي‏:‏ أنه محرّم عليهم دخولها هذه المدّة لا زيادة عليها، فلا يخالف هذا التحريم ما تقدّم من قوله‏:‏ ‏{‏الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ فإنها مكتوبة لمن بقي منهم بعد هذه المدّة؛ وقيل‏:‏ إنه لم يدخلها أحد ممن قال ‏{‏إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا‏}‏ فيكون توقيت التحريم بهذه المدّة باعتبار ذراريهم؛ وقيل‏:‏ إن ‏{‏أَرْبَعِينَ سَنَةً‏}‏ ظرف لقوله ‏{‏يَتِيهُونَ فِى الأرض‏}‏ أي‏:‏ يتيهون هذا المقدار فيكون التحريم مطلقاً‏.‏

والموقت‏:‏ هو التيه، وهو في اللغة الحيرة، يقال منه تاه يتيه تيهاً أو توهاً إذا تحير، فالمعنى‏:‏ يتحيرون في الأرض؛ قيل‏:‏ إن هذه الأرض التي تاهوا فيها كانت صغيرة نحو ستة فراسخ كانوا يمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا، وكانوا سيارة مستمرين على ذلك لا قرار لهم‏.‏

واختلف أهل العلم هل كان معهم موسى وهارون أم لا‏؟‏ فقيل‏:‏ لم يكونا معهم، لأن التيه عقوبة؛ وقيل‏:‏ كانا معهم لكن سهل الله عليهما ذلك، كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم‏.‏ وقد قيل كيف يقع هذا لجماعة من العقلاء في مثل هذه الأرض اليسيرة، في هذه المدّة الطويلة‏؟‏ قال أبو علي‏:‏ يكون ذلك بأن يحوّل الله الأرض التي هم عليها إذا تاهوا إلى المكان الذي ابتدأوا منه، وقد يكون بغير ذلك من الأسباب المانعة من الخروج عنها على طريق المعجزة الخارقة للعادة‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً‏}‏ قال‏:‏ ملكهم الخدم، وكانوا أوّل من ملك الخدم‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ كان الرجل من بني إسرائيل، إذا كانت له الزوجة والخادم والدار سمي ملكاً‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير عنه في الآية قال‏:‏ الزوجة والخادم والبيت‏.‏ وأخرج الفريابي، وابن جرير وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان، عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً‏}‏ قال‏:‏ المرأة والخدم ‏{‏وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين‏}‏ قال‏:‏ الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكاً» وأخرج ابن جرير، والزبير بن بكار في الموقفيات، عن زيد بن أسلم قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ «من كان له بيت وخادم فهو ملك» وأخرج أبو داود في مراسيله عن زيد بن أسلم في الآية قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ «زوجة ومسكن وخادم» وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه سأله رجل‏:‏ ألسنا من فقراء المهاجرين‏؟‏ قال‏:‏ «ألك امرأة تأوي إليها‏؟‏» قال نعم، قال‏:‏ «ألك مسكن تسكنه‏؟‏» قال نعم، قال‏:‏ «فأنت من الأغنياء»، قال‏:‏ إن لي خادماً، قال‏:‏ «فأنت من الملوك» وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وابن المنذر، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً‏}‏ قال‏:‏ جعل لهم أزواجاً وخدماً وبيوتاً ‏{‏وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين‏}‏ قال‏:‏ المنّ والسلوى، والحجر والغمام‏.‏ وقد ثبت في الحديث الصحيح‏:‏ «من أصبح منكم معافى في جسده آمناً في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها»

وأخرج ابن جرير عنه في قوله‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدَّسَةَ‏}‏ قال‏:‏ الطور وما حوله‏.‏ وأخرج عنه أيضاً قال‏:‏ هي أريحاء‏.‏ وأخرج ابن عساكر عن معاذ بن جبل قال‏:‏ هي ما بين العريش إلى الفرات‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة قال‏:‏ هي الشام‏.‏ وأخرج ابن جرير عن السدّي في قوله‏:‏ ‏{‏الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ قال‏:‏ التي أمركم الله بها‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قال‏:‏ أمر القوم بها كما أمرنا بالصلاة والزكاة والحجّ والعمرة‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ أمر موسى أن يدخل مدينة الجبارين، فسار بمن معه حتى نزل قريباً من المدينة وهي أريحاء، فبعث إليهم اثني عشر عيناً من كل سبط منهم عين، ليأتوه بخبر القوم، فدخلوا المدينة فرأوا أمرا عظيماً من هيئتهم وجسمهم وعظمهم، فدخلوا حائطاً لبعضهم فجاء صاحب الحائط؛ ليجتني الثمار من حائطه، فجعل يجتني الثمار فنظر إلى آثارهم فتتبعهم، فكلما أصاب واحداً منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة، حتى التقط الاثني عشر كلهم فجعلهم في كمه مع الفاكهة، وذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه فقال الملك‏:‏ قد رأيتم شأننا وأمرنا اذهبوا فأخبروا صاحبكم، قال‏:‏ فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوا من أمرهم، فقال‏:‏ اكتموا عنا، فجعل الرجل يخبر أباه وصديقه ويقول‏:‏ اكتم عني، فأشيع ذلك في عسكرهم، ولم يكتم منهم إلا رجلان يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، وهما اللذان أنزل الله فيهما ‏{‏قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ‏}‏ وقد روي نحو هذا مما يتضمن المبالغة في وصف هؤلاء وعظم أجسامهم، ولا فائدة في بسط ذلك فغالبه من أكاذيب القصاص، كما قدّمنا‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فافرق‏}‏ يقول‏:‏ اقض‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه يقول‏:‏ افصل بيننا وبينهم‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ قال‏:‏ أبداً، وفي قوله‏:‏ ‏{‏يَتِيهُونَ فِى الأرض‏}‏ قال‏:‏ أربعين سنة‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ تاهوا أربعين سنة، فهلك موسى وهارون في التيه، وكل من جاوز الأربعين سنة، فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع ابن نون، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى، وهو الذي افتتحها، وهو الذي قيل له اليوم يوم جمعة، فهموا بافتتاحها فدنت الشمس للغروب، فخشى إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا، فنادى الشمس إني مأمور وأنت مأمورة فوقفت حتى افتتحها، فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله قط، فقرّبوه إلى النار فلم تأت، فقال‏:‏ فيكم الغلول، فدعا رؤوس الأسباط وهم اثنا عشر رجلاً، فبايعهم والتصقت يد رجل منهم بيده، فقال‏:‏ الغلول عندك فأخرجه، فأخرج رأس بقرة من ذهب لها عينان من ياقوت وأسنان من لؤلؤ، فوضعه مع القربان فأتت النار فأكلتها‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال‏:‏ خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق ولا تدرن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 31‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏27‏)‏ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏28‏)‏ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ‏(‏29‏)‏ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏30‏)‏ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

وجه اتصال هذا بما قبله التنبيه من الله على أن ظلم اليهود ونقضهم المواثيق والعهود هو كظلم ابن آدم لأخيه، فالداء قديم، والشرّ أصيل‏.‏

وقد اختلف أهل العلم في ابني آدم المذكورين، هل هما لصلبه أم لا‏؟‏ فذهب الجمهور إلى الأوّل‏.‏ وذهب الحسن والضحاك إلى الثاني، وقالا‏:‏ إنهما كانا من بني إسرائيل، فضرب بهما المثل في إبانة حسد اليهود، وكانت بينهما خصومة، فتقرّبا بقربانين ولم تكن القاربين إلا في بني إسرائيل‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا وهم كيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب‏؟‏ قال الجمهور من الصحابة فمن بعدهم‏:‏ واسمهما قابيل وهابيل، وكان قربان قابيل حزمة من سنبل، لأنه كان صاحب زرع واختارها من أراد زرعه، حتى إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها، وكان قربان هابيل كبشاً؛ لأنه كان صاحب غنم أخذه من أجود غنمه، فتقبل قربان هابيل، فرفع إلى الجنة فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدى به الذبيح عليه السلام، كذا قال جماعة من السلف، ولم يتقبل قربان قابيل، فحسده وقال لأقتلنك‏.‏ وقيل‏:‏ سبب هذا القربان أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى، إلا شيثاً عليه السلام فإنها ولدته منفرداً، وكان آدم عليه السلام يزّوج الذكر من هذا البطن بالأنثى من البطن الآخر‏.‏ ولا تحلّ له أخته التي ولدت معه، فولدت مع قابيل أخت واسمها إقليما، ومع هابيل أخت ليست كذلك، واسمها ليوذا فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل‏:‏ أناأحق بأختي، فأمره آدم فلم يأتمر وزجره فلم ينزجر، فاتفقوا على القربان، وأنه يتزوجها من تقبل قربانه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏ متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر، ‏{‏واتل‏}‏ أي‏:‏ تلاوة متلبسة بالحق، أو صفة لنبأ‏:‏ أي‏:‏ نبأ متلبساً بالحق، والمراد بأحدهما هابيل وبالآخر قابيل، و‏{‏قَالَ للأَقْتُلَنَّكَ‏}‏ استئناف بياني، كأنه قيل فماذا حال الذي لم يتقبل قربانه‏؟‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين‏}‏ استئناف كالأوّل كأنه قيل‏:‏ فماذا قال الذي تقبل قربانه‏؟‏ وإنما للحصر‏:‏ أي إنما يتقبل الله القربان من المتقين لا من غيرهم، وكأنه يقول لأخيه‏:‏ إنما أتيت من قبل نفسك لا من قبلي، فإن عدم تقبل قربانك بسبب عدم تقواك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى‏}‏ أي لأن قصدت قتلي، واللام هي الموطئة، و‏{‏مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ‏}‏ جواب القسم سادّ مسدّ جواب الشرط، وهذا استسلام للقتل من هابيل، كما ورد في الحديث‏:‏ «إذا كانت الفتنة فكن خير ابني آدم»، وتلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كان الفرض عليهم حينئذ أن لا يسل أحد سيفاً وأن لا يمتنع ممن يريد قتله، قال القرطبي‏:‏ قال علماؤنا‏:‏ وذلك مما يجوز ورود التعبد به، إلا أن في شرعنا يجوز دفعه إجماعاً، وفي وجوب ذلك عليه خلاف‏.‏

والأصح وجوب ذلك لما فيه من النهي عن المنكر، وفي الحشوية قوم لا يجوّزون للمصول عليه الدفع، واحتجوا بحديث أبي ذرّ، وحمله العلماء على ترك القتال في الفتنة، وكفّ اليد عند الشبهة، على ما بيناه في كتاب التذكرة، انتهى كلام القرطبي‏.‏ وحديث أبي ذرّ المشار إليه هو عند مسلم، وأهل السنن إلا النسائي، وفيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏"‏ يا أبا ذرّ أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً كيف تصنع‏؟‏ ‏"‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏"‏ اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك ‏"‏، قال‏:‏ فإن لم أترك، قال‏:‏ ‏"‏ فأت من أنت منهم فكن فيهم ‏"‏، قال‏:‏ فآخذ سلاحي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ إذن تشاركهم فيما هم فيه، ولكن إن خشيت أن يردعك شعاع السيف، فألق طرف ردائك على وجهك كي يبوء بإثمه وإثمك ‏"‏ وفي معناه أحاديث عن جماعة من الصحابة سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وخباب بن الأرثّ وأبي بكر وابن مسعود وأبي واقد وأبي موسى‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أصحاب النار‏}‏ هذا تعليل لامتناعه من المقاتلة، بعد التعليل الأوّل وهو‏:‏ ‏{‏إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين‏}‏‏.‏

اختلف المفسرون في المعنى فقيل‏:‏ أراد هابيل إني أريد أن تبوء بالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصاً على قتلك، وبإثمك الذي تحملته بسبب قتلي؛ وقيل المراد بإثمي الذي يختص بي بسبب سيأتي، فيطرح عليك بسبب ظلمك لي وتبوء بإثمك في قتلي‏.‏ وهذا يوافق معناه معنى ما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم، فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه ‏"‏، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 13‏]‏ وقيل المعنى‏:‏ إني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وألقى فِى الأرض رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 15‏]‏ أي‏:‏ أن لا تميد بكم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏ أي‏:‏ لا تضلوا‏.‏ وقال أكثر العلماء‏:‏ إن المعنى‏:‏ ‏{‏إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى‏}‏ أي‏:‏ بإثم قتلك لي‏:‏ ‏{‏وَإِثْمِكَ‏}‏ الذي قد صار عليك بذنوبك من قبل قتلي‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ هذا قول عامة المفسرين وقيل هو على وجه الإنكار‏:‏ أي‏:‏ أو إني أريد على وجه الإنكار كقوله تعالى ‏{‏وَتِلْكَ نِعْمَةٌ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 22‏]‏ أي أو تلك نعمة‏.‏ قاله القشيري، ووجهه بأن إرادة القتل معصية‏.‏ وسئل أبو الحسن بن كيسان‏:‏ كيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه وأن يدخل النار‏؟‏ فقال‏:‏ وقعت الإرادة بعد ما بسط يده إليه بالقتل، وهذا بعيد جدّاً، وكذلك الذي قبله‏.‏

وأصل باء رجع إلى المباءة، وهي المنزل‏:‏ ‏{‏وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 112‏]‏ أي‏:‏ رجعوا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ‏}‏ أي سهلت نفسه عليه الأمر وشجعته وصوّرت له أن قتل أخيه طوع يده سهل عليه، يقال تطوّع الشيء‏:‏ أي سهل وانقاد وطوعه فلان له‏:‏ أي سهله‏.‏ قال الهروي‏:‏ طوّعت وطاوعت واحد، يقال طاع له كذا‏:‏ إذا أتاه طوعاً، وفي ذكر تطويع نفسه له بعد ما تقدّم من قول قابيل ‏{‏لأَقْتُلَنَّكَ‏}‏ وقول هابيل ‏{‏لِتَقْتُلَنِى‏}‏ دليل على أن التطويع لم يكن قد حصل له عند تلك المقاولة‏.‏ قوله ‏{‏فَقَتَلَهُ‏}‏‏.‏ قال ابن جرير ومجاهد وغيرهما‏:‏ روي أنه جهل كيف يقتل أخاه فجاءه إبليس بطائر أو حيوان غيره، فجعل يشدخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل؛ وقيل غير ذلك مما يحتاج إلى تصحيح الرواية‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءة أَخِيه‏}‏ قيل‏:‏ إنه لما قتل أخاه لم يدر كيف يواريه؛ لكونه أوّل ميت مات من بني آدم، فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم حثا عليه، فلما رآه قابيل‏:‏ ‏{‏يَاوَيْلَتَي أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي‏}‏ فواراه، والضمير المستكن في ‏{‏لِيُرِيَهُ‏}‏ للغراب؛ وقيل لله سبحانه، و‏{‏كَيْفَ‏}‏ في محل نصب على الحال من ضمير‏:‏ ‏{‏يوارى‏}‏ والجملة ثاني مفعولي يريه‏.‏ والمراد بالسوءة هنا ذاته كلها لكونها ميتة، و‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف جواب سؤال مقدّر من سوق الكلام، كأنه قيل‏:‏ فماذا قال عند أن شاهد الغراب يفعل ذلك‏؟‏ و‏{‏يا ويلتي‏}‏ كلمة تحسر وتحزن، والألف بدل من ياء المتكلم كأنه دعا ويلته بأن تحضر في ذلك الوقت، والويلة الهلكة، والكلام خارج مخرج التعجب منه من عدم اهتدائه لمواراة أخيه، كما اهتدى الغراب إلى ذلك ‏{‏فَأُوَارِيَ‏}‏ بالنصب على أنه جواب الاستفهام، وقرئ بالسكون على تقدير فأنا أواري ‏{‏فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين‏}‏ على قتله؛ وقيل‏:‏ لم يكن ندمه ندم توبة بل ندم لفقده، لا على قتله؛ وقيل غير ذلك‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عساكر، عن ابن عباس قال‏:‏ «نهى أن تنكح المرأة أخاها توأمها، وأن ينكحها غيره من إخوتها، وكان يولد له في كل بطن رجل وامرأة، فبينما هم كذلك ولد له امرأة وضيئة، وولد له أخرى قبيحة دميمة، فقال أخو الدميمة‏:‏ أنكحني أختك وأنكحك أختي، فقال‏:‏ لا، أنا أحق بأختي، فقرّبا قرباناً، فجاء صاحب الغنم بكبش أعين أقرن أبيض، وصاحب الحرث بصبرة من طعام فتقبل من صاحب الكبش، ولم يتقبل من صاحب الزرع»‏.‏

قال ابن كثير في تفسيره‏:‏ إسناده جيد، وكذا قال السيوطي في الدر المنثور‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه قال‏:‏ كان من شأن بني آدم أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه، وإنما كان القربان يقرّبه الرجل، فبينما ابنا آدم قاعدان إذ قالا لو قربنا ثم ذكرا ما قرباه‏.‏

وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ‏}‏ قال‏:‏ كتب عليهم إذا أراد الرجل أن يقتل رجلاً تركه ولا يمتنع منه‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ‏}‏ يقول‏:‏ إني أريد أن تكون عليك خطيئتك، ودمي، فتبوء بهما جميعاً‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه ‏{‏بِإِثْمِى‏}‏‏:‏ قال بقتلك إياي، ‏{‏وَإِثْمِكَ‏}‏، قال‏:‏ بما كان منك قبل ذلك‏.‏

وأخرج عن قتادة والضحاك مثله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ‏}‏ قال‏:‏ شجعته على قتل أخيه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة في الآية قال‏:‏ زينت له نفسه‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله‏:‏ ‏{‏فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ‏}‏ فطلبه ليقتله فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال، فأتاه يوماً من الأيام وهو يرعى غنماً له وهو نائم، فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات، فتركه بالعراء، ولا يعلم كيف يدفن، فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم حثا عليه، فلما رآه ‏{‏قَالَ ياويلتا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب‏}‏‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين، وغيرهما من حديث ابن مسعود، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها لأنه أوّل من سنّ القتل» وقد روي في صفة قتله لأخيه روايات الله أعلم بصحتها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 34‏]‏

‏{‏مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ‏(‏32‏)‏ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏33‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏مِنْ أَجْلِ ذلك‏}‏ أي‏:‏ من أجل ذلك القاتل وجريرته وبسبب معصيته، وقال الزجاج‏:‏ أي من جنايته قال‏:‏ يقال أجل الرجل على أهله شراً يأجل أجلاً إذا جنى مثل أخذ يأخذ أخذاً‏.‏ وقرأ أبو جعفر «من أجل» بكسر النون وحذف الهمزة، وهي لغة‏.‏ قال في شرح الدرة‏:‏ قرأ أبو جعفر منفرداً‏:‏ «من أجل ذلك» بكسر الهمزة مع نقل حركتها إلى النون قبلها؛ وقيل يجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏مِنْ أَجْلِ ذلك‏}‏ متعلقاً بقوله‏:‏ ‏{‏مِنَ النادمين‏}‏، فيكون الوقف على قوله‏:‏ ‏{‏مِنْ أَجْلِ ذلك‏}‏ والأولى ما قدّمنا، والمعنى‏:‏ أن نبأ ابني آدم هو الذي تسبب عنه الكتب المذكور على بني إسرائيل، وعلى هذا جمهور المفسرين‏.‏ وخصّ بني إسرائيل بالذكر؛ لأن السياق في تعداد جناياتهم، ولأنهم أوّل أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس، ووقع التغليظ فيهم إذ ذاك لكثرة سفكهم للدماء، وقتلهم للأنبياء وتقديم الجار والمجرور على الفعل الذي هو متعلق به أعني كتبنا‏:‏ يفيد القصر‏:‏ أي من أجل ذلك لا من غيره، ومن لابتداء الغاية ‏{‏أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً‏}‏ واحدة من هذه النفوس ‏{‏بِغَيْرِ نَفْسٍ‏}‏ أي‏:‏ بغير نفس توجب القصاص، فيخرج عن هذا من قتل نفساً بنفس قصاصاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ فَسَادٍ فِى الأرض‏}‏ قرأ الجمهور بالجرّ عطفاً على نفس‏.‏ وقرأ الحسن بالنصب على تقدير فعل محذوف يدلّ عليه أوّل الكلام تقديره‏:‏ أو أحدث فساداً في الأرض، وفي هذا ضعف‏.‏ ومعنى قراءة الجمهور‏:‏ أن من قتل نفساً بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً‏.‏ وقد تقرر أن كل حكم مشروط بتحقق أحد شيئين، فنقيضه مشروط بانتفائهما معاً، وكل حكم مشروط بتحققهما معاً، فنقيضه مشروط بانتفاء أحدهما ضرورة أن نقيض كل شيء مشروط بنقيض شرطه‏.‏

وقد اختلف في هذا الفساد المذكور في هذه الآية ماذا هو‏؟‏ فقيل هو الشرك، وقيل قطع الطريق‏.‏ وظاهر النظم القرآني أنه ما يصدق عليه أنه فساد في الأرض، فالشرك فساد في الأرض، وقطع الطريق فساد في الأرض، وسفك الدماء وهتك الحرم ونهب الأموال فساد في الأرض، والبغي على عباد الله بغير حق فساد في الأرض، وهدم البنيان وقطع الأشجار، وتغوير الأنهار فساد في الأرض، فعرفت بهذا أنه يصدق على هذه الأنواع أنها فساد في الأرض، وهكذا الفساد الذي سيأتي في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْعَوْنَ فِى الأرض فَسَاداً‏}‏ يصدق على هذه الأنواع، وسيأتي تمام الكلام على معنى الفساد قريباً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً‏}‏ اختلف المفسرون في تحقيق هذا التشبيه للقطع بأن عقاب من قتل الناس جميعاً أشدّ من عقاب من قتل واحداً منهم‏.‏

فروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ المعنى من قتل نبياً أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياه بأن شدّ عضده ونصره فكأنما أحيا الناس جميعاً‏.‏ أخرج هذا عنه ابن جرير‏.‏ وروي عن مجاهد أنه قال‏:‏ المعنى أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمداً جعل الله جزاءه جهنم، وغضب عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً، فلو قتل الناس جميعاً لم يزد على هذا قال‏:‏ ومن سلم من قتل، فلم يقتل أحداً، فكأنما أحيا الناس جميعاً‏.‏

وقد أخرج نحو هذا عنه عبد ابن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وروى عن ابن عباس أيضاً أنه قال في تفسير هذه الآية‏:‏ أوبق نفسه كما لو قتل الناس جميعاً، أخرجه عنه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم‏.‏ وروي عن الحسن أنه قال‏:‏ فكأنما قتل الناس جميعاً في الوزر، وكأنما أحيا الناس جميعاً في الأجر‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ المعنى أن من قتل نفساً فيلزمه من القود والقصاص ما يلزم من قتل الناس جميعاً ‏{‏وَمَنْ أحياها‏}‏ أي‏:‏ من عفا عمن وجب قتله، حكاه عنه القرطبي‏.‏ وحكى عن الحسن أنه العفو بعد القدرة‏:‏ يعني أحياها‏.‏ وروى عن مجاهد أن إحياءها‏:‏ إنجاؤها من غرق أو حرق أو هدم أو هلكة، حكاه عنه ابن جرير وابن المنذر وقيل المعنى‏:‏ أن من قتل نفساً فالمؤمنون كلهم خصماؤه، لأنه قد وتر الجميع ‏{‏وَمَنْ أحياها فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً‏}‏ أي وجب على الكل شكره؛ وقيل المعنى‏:‏ أن من استحل واحداً، فقد استحلّ الجميع؛ لأنه أنكر الشرع‏.‏ وعلى كل حال، فالإحياء هنا عبارة عن الترك والإنقاذ من هلكة فهو مجاز، إذ المعنى الحقيقي مختص بالله عزّ وجلّ‏.‏ والمراد بهذا التشبيه في جانب القتل تهويل أمر القتل، وتعظيم أمره في النفوس حتى ينزجر عنه أهل الجرأة والجسارة، وفي جانب الإحياء الترغيب إلى العفو عن الجناة واستنقاذ المتورطين في الهلكات‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات‏}‏ جملة مستقلة مؤكدة باللام الموطئة للقسم متضمنة للإخبار بأن الرسل عليهم الصلاة والسلام قد جاءوا العباد بما شرعه الله لهم من الأحكام التي من جملتها أمر القتل، وثم في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ‏}‏ للتراخي الرتبي والاستبعاد العقلي، والإشارة بقوله ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما ذكر مما كتبه الله على بني إسرائيل‏:‏ أي إن كثيراً منهم بعد ذلك الكتب ‏{‏فِى الأرض لَمُسْرِفُونَ‏}‏ في القتل‏.‏

قوله ‏{‏إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ قد اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية؛ فذهب الجمهور إلى أنها نزلت في العرنيين، وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي‏:‏ لأنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع الطريق ويسعى في الأرض بالفساد‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ قول مالك صحيح‏.‏

قال أبو ثور محتجاً لهذا القول‏:‏ إن قوله في هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ‏}‏ يدلّ على أنها نزلت في غير أهل الشرك؛ لأنهم قد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم، فدلّ ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام انتهى‏.‏ وهكذا يدلّ على هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 38‏]‏، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الإسلام يهدم ما قبله» أخرجه مسلم وغيره، وحكى ابن جرير الطبري في تفسيره عن بعض أهل العلم أن هذه الآية‏:‏ أعني آية المحاربة نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين، ووقف الأمر على هذه الحدود‏.‏ وروى عن محمد بن سيرين أنه قال‏:‏ كان هذا قبل أن تنزل الحدود‏:‏ يعني فعله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين وبهذا قال جماعة من أهل العلم‏.‏ وذهب جماعة آخرون إلى أن فعله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، والقائل بهذا مطالب ببيان تأخر الناسخ، وسيأتي سياق الروايات الواردة في سبب النزول‏.‏ والحق أن هذه الآية تعمّ المشرك وغيره لمن ارتكب ما تضمنته، ولا اعتبار بخصوص السبب، بل الاعتبار بعموم اللفظ‏.‏ قال القرطبي في تفسيره‏:‏ ولا خلاف بين أهل العلم في أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام، وإن كانت نزلت في المرتدين، أو اليهود انتهى‏.‏ ومعنى قوله مترتب‏:‏ أي ثابت‏.‏

قيل المراد بمحاربة الله المذكورة في الآية‏:‏ هي محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاربة المسلمين في عصره، ومن بعد عصره بطريق العبارة دون الدلالة ودون القياس، لأن ورود النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص حكمه بالمكلفين عند النزول، فيحتاج في تعميم الخطاب لغيرهم إلى دليل آخر؛ وقيل إنها جعلت محاربة المسلمين محاربة لله ولرسوله إكباراً لحربهم وتعظيماً لأذيتهم، لأن الله سبحانه لا يحارب ولا يغالب‏.‏ والأولى أن تفسر محاربة الله سبحانه‏:‏ بمعاصيه ومخالفة شرائعه، ومحاربة الرسول تحمل على معناها الحقيقي، وحكم أمته حكمه وهم أسوته‏.‏ والسعي في الأرض فساداً، يطلق على أنواع من الشرّ كما قدمنا قريباً‏.‏ قال ابن كثير في تفسيره‏:‏ قال كثير من السلف منهم سعيد ابن المسيب‏:‏ إن قرض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تولى سعى فِى الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏‏.‏ انتهى‏.‏

إذا تقرر لك ما قررناه، من عموم الآية ومن معنى المحاربة والسعي في الأرض فساداً، فاعلم أن ذلك يصدق على كل من وقع منه ذلك، سواء كان مسلماً أو كافراً، في مصر وغير مصر، في كل قليل وكثير، وجليل وحقير، وأن حكم الله في ذلك هو ما ورد في هذه الآية من القتل أو الصلب، أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض، ولكن لا يكون هذا حكم من فعل أيّ ذنب من الذنوب، بل من كان ذنبه هو التعدّي على دماء العباد وأموالهم فيما عدا ما قد ورد له حكم غير هذا الحكم في كتاب الله، أو سنة رسوله كالسرقة وما يجب فيه القصاص، لأنا نعلم أنه قد كان في زمنه صلى الله عليه وسلم من تقع منه ذنوب ومعاص غير ذلك، ولا يجرى عليه صلى الله عليه وسلم هذا الحكم المذكور في هذه الآية، وبهذا تعرف ضعف ما روى عن مجاهد في تفسير المحاربة المذكورة في هذه الآية أنها الزنا والسرقة، ووجه ذلك أن هذين الذنبين قد ورد في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لهما حكم غير هذا الحكم‏.‏

وإذا عرفت ما هو الظاهر من معنى هذه الآية، على مقتضى لغة العرب التي أمرنا بأن نفسر كتاب الله وسنة رسوله بها، فإياك أن تغترّ بشيء من التفاصيل المروية، والمذاهب المحكية، إلا أن يأتيك الدليل الموجب لتخصيص هذا العموم أو تقييد هذا المعنى المفهوم من لغة العرب، فأنت وذاك اعمل به، وضعه في موضعه، وأما ما عداه‏:‏

فدع عنك نهباً صيح في حجراته *** وهات حديثا ما حديث الرواحل

على أنا سنذكر من هذه المذاهب ما تسمعه‏.‏ اعلم أنه قد اختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة؛ فقال ابن عباس وسعيد بن المسيب، ومجاهد وعطاء والحسن البصري، وإبراهيم النخعي والضحاك وأبو ثور‏:‏ إن من شهر السلاح في قبة الإسلام، وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار‏:‏ إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله‏.‏ وبهذا قال مالك، وصرّح بأن المحارب عنده من حمل على الناس في مصر أو في بريّة، أو كابرهم على أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا دخل ولا عداوة‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ اختلف عن مالك في هذه المسألة، فأثبت المحاربة في المصر مرّة، ونفى ذلك مرة‏.‏ وروي عن ابن عباس غير ما تقدّم، فقال في قطاع الطريق‏:‏ إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض‏.‏ وروي عن أبي مجلز وسعيد ابن جبير، وإبراهيم النخعي، والحسن وقتادة والسديّ، وعطاء، على اختلاف في الرواية عن بعضهم، وحكاه ابن كثير عن الجمهور‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ وهكذا عن غير واحد من السلف والأئمة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا قتل قتل وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه‏:‏ إن شاء قطع يديه ورجليه، وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ القتل يأتي على كل شيء، ونحوه قول الأوزاعي‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت، ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلي، لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة؛ وإذا قتل قتل، وإذا أخذ المال وقتل، قتل وصلب‏.‏ وروي عنه أنه قال‏:‏ يصلب ثلاثة أيام‏.‏ وقال أحمد‏:‏ إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله، كقول الشافعي، ولا أعلم لهذه التفاصيل دليلاً لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله، إلا ما رواه ابن جرير في تفسيره، وتفرّد بروايته، فقال‏:‏ حدثنا عليّ بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم، عن يزيد بن أبي حبيب‏:‏ أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين، وهم من بجيلة، قال أنس‏:‏ فارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل وأصابوا الفرج الحرام؛ قال أنس‏:‏ فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن القضاء فيمن حارب، فقال‏:‏ من سرق وأخاف الطريق، فاقطع يده لسرقته ورجله بإخافته، ومن قتل، فاقتله؛ ومن قتل وأخاف السبيل واستحلّ الفرج الحرام، فاصلبه‏.‏ وهذا مع ما فيه من النكارة الشديدة، لا يدري كيف صحته‏؟‏ قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكره لشيء من هذه التفاصيل الذي ذكرناها ما لفظه‏:‏ ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره إن صح سنده ثم ذكره‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْعَوْنَ فِى الأرض فَسَاداً‏}‏ هو إما منتصب على المصدرية، أو على أنه مفعول له، أو على الحال بالتأويل‏:‏ أي مفسدين‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يُصَلَّبُواْ‏}‏ ظاهره أنهم يصلبون أحياء حتى يموتوا، لأنه أحد الأنواع التي خير الله بينها‏.‏ وقال قوم‏:‏ الصلب إنما يكون بعد القتل، ولا يجوز أن يصلب قبل القتل فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب‏.‏ ويجاب بأن هذه عقوبة شرعها الله سبحانه في كتابه لعباده‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خلاف‏}‏ ظاهرة قطع إحدى اليدين وإحدى الرجلين من خلاف سواء كانت المقطوعة من اليدين هي اليمنى أو اليسرى، وكذلك الرجلان، ولا يعتبر إلا أن يكون القطع من خلاف، إما يمنى اليدين مع يسرى الرجلين، أو يسرى اليدين مع يمنى الرجلين؛ وقيل‏:‏ المراد بهذا قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى فقط‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض‏}‏ اختلف المفسرون في معناه، فقال السديّ‏:‏ هو أن يطلب بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه الحدّ، أو يخرج من دار الإسلام هرباً‏.‏ وهو محكيّ عن ابن عباس، وأنس ومالك والحسن البصري، والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس، والزهري، حكاه الرماني في كتابه عنهم‏.‏

وحكى عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد ويطلبون لتقام عليهم الحدود، وبه قال الليث بن سعد‏.‏ وروي عن مالك أنه ينفى من البلد الذي أحدث فيه إلى غيره، ويحبس فيه كالزاني، ورجحه ابن جرير والقرطبي‏.‏ وقال الكوفيون‏:‏ نفيهم سجنهم، فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها‏.‏ والظاهر من الآية‏:‏ أنه يطرد من الأرض التي وقع منه فيها ما وقع، من غير سجن ولا غيره‏.‏ والنفي قد يقع بمعنى الإهلاك، وليس هو مراداً هنا‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ذلك لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدنيا‏}‏ الإشارة إلى ما سبق ذكره من الأحكام، والخزي‏:‏ الذل والفضيحة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ استثنى الله سبحانه التائبين قبل القدرة عليهم من عموم المعاقبين بالعقوبات السابقة، والظاهر عدم الفرق بين الدماء والأموال، وبين غيرها من الذنوب الموجبة للعقوبات المعينة المحدودة، فلا يطالب التائب قبل القدرة بشيء من ذلك، وعليه عمل الصحابة‏.‏ وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يسقط القصاص وسائر حقوق الآدميين بالتوبة قبل القدرة، والحق الأوّل‏.‏ وأما التوبة بعد القدرة فلا تسقط بها العقوبة المذكورة في الآية، كما يدل عليه ذكر قيد ‏{‏قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ‏}‏ قال‏:‏ القرطبي‏:‏ وأجمع أهل العلم على أن السلطان وليّ من حارب، فإن قتل محارب أخا امرئ أو أباه في حال المحاربة، فليس إلى طالب الدم من أمر المحاربة شيء، ولا يجوز عفو وليّ الدم‏.‏

وقد أخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بَنِى إسراءيل‏}‏ يقول‏:‏ من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلماً‏.‏ وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قيل له في هذه الآية يعني قوله‏:‏ ‏{‏فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً‏}‏ أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل‏؟‏ فقال‏:‏ إي والذي لا إله غيره‏.‏ وأخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ قال‏:‏ نزلت في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحدّ إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله‏.‏ وأخرج ابن جرير والطبراني في الكبير عنه في هذه الآية قال‏:‏ كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فخير الله نبيه فيهم‏:‏ إن شاء قتل وإن شاء صلب، وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وأما النفي فهو الضرب في الأرض، فإن جاء تائباً فدخل في الإسلام قبل منه، ولم يؤخذ بما سلف‏.‏

وأخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص أن هذه الآية نزلت في الحرورية‏.‏

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس أن نفراً من عكل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلموا واجتووا المدينة، فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانها، فقتلوا راعيها واستاقوها‏:‏ فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا، فأنزل الله ‏{‏إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَه‏}‏ الآية‏.‏ وفي مسلم عن أنس أنه قال‏:‏ إنما سمل النبيّ صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة‏.‏ وأخرج الشافعي في الأم، وعبد الرزاق والفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ إذا خرج المحارب فأخذ المال ولم يقتل قطع من خلاف، وإذا خرج فقتل ولم يأخذ المال قتل، وإذا خرج وأخذ المال وقتل قتل وصلب، وإذا خرج فأخاف السبيل، ولم يأخذ المال ولم يقتل نفي‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال‏:‏ من شهر السلاح في قبة الإسلام، وأفسد السبيل، فظهر عليه وقدر، فإمام المسلمين مخير فيه‏:‏ إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله، قال‏:‏ ‏{‏أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض‏}‏ يهربوا ويخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه قال‏:‏ نفيه أن يطلب‏.‏ وأخرج أيضاً عن أنس نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا وابن جرير، وابن أبي حاتم عن الشعبي قال‏:‏ كان حارثة بن بدر التيمي من أهل البصرة قد أفسد في الأرض وحارب، فكلم رجالاً من قريش أن يستأمنوا له علياً، فأبوا فأتى سعيد بن قيس الهمداني، فأتى علياً فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خلاف أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ‏}‏ فقال سعيد‏:‏ وإن كان حارثة بن بدر، قال‏:‏ وإن كان حارثة بن بدر، قال‏:‏ هذا حارثة بن بدر، قد جاء تائباً فهو آمن‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فجاء به إليه فبايعه، وقبل ذلك منه وكتب له أماناً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 37‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏35‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏36‏)‏ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏ابتغوا‏}‏ اطلبوا ‏{‏إِلَيْهِ‏}‏‏:‏ لا إلى غيره، ‏{‏وَ الوسيلة‏}‏ فعيلة من توسلت إليه‏:‏ إذا تقربت إليه‏.‏ قال عنترة‏:‏

إن الرجال لهم إليك وسيلة *** إن يأخذوك تكحلي وتخضبي

وقال آخر‏:‏

إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا *** وعاد التصابي بيننا والوسائل

فالوسيلة‏:‏ القربة التي ينبغي أن تطلب، وبه قال أبو وائل والحسن ومجاهد، وقتادة والسدي وابن زيد‏.‏ وروي عن ابن عباس، وعطاء، وعبد الله بن كثير‏.‏ قال ابن كثير في تفسيره‏:‏ وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة، لا خلاف بين المفسرين فيه‏.‏ والوسيلة أيضاً درجة في الجنة مختصة برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قال حين يسمع النداء‏:‏ اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة» وفي صحيح مسلم، من حديث عبد الله بن عمرو، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ، فإنه من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه عشراً ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة» وفي الباب أحاديث، وعطف ‏{‏وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة‏}‏ على ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله‏}‏ يفيد أن الوسيلة غير التقوى‏.‏ وقيل هي التقوى، لأنها ملاك الأمر، وكل الخير، فتكون الجملة الثانية على هذا مفسرة للجملة الأولى‏.‏ والظاهر أن الوسيلة‏:‏ هي القربة تصدق على التقوى، وعلى غيرها من خصال الخير التي يتقرب العباد بها إلى ربهم ‏{‏وجاهدوا فِى سَبِيلِهِ‏}‏ من لم يقبل دينه ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ كلام مبتدأ مسوق لزجر الكفار، وترغيب المسلمين في امتثال أوامر الله سبحانه ‏{‏لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأرض‏}‏ من أموالها ومنافعها؛ وقيل المراد لكل واحد منهم ليكون أشدّ تهويلاً، وإن كان الظاهر من ضمير الجمع خلاف ذلك، و‏{‏جَمِيعاً‏}‏ تأكيد‏.‏ وقوله ‏{‏وَمِثْلَهُ‏}‏ عطف على ما في الأرض، و‏{‏مَعَهُ‏}‏ في محل نصب على الحال ‏{‏لِيَفْتَدُواْ بِهِ‏}‏؛ ليجعلوه فدية لأنفسهم، وأفرد الضمير إما لكونه راجعاً إلى المذكور، أو لكونه بمنزلة اسم الإشارة‏:‏ أي ليفتدوا بذلك، و‏{‏مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة‏}‏ متعلق بالفعل المذكور ‏{‏مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ‏}‏ ذلك، وهذا هو جواب لو‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار‏}‏ هذا استئناف بياني، كأنه قيل‏:‏ كيف حالهم فيما هم فيه من هذا العذاب الأليم‏؟‏ فقيل يريدون أن يخرجوا من النار‏.‏

وقرئ «أَن يَخْرُجُواْ» من أخرج، ويضعف هذه القراءة ‏{‏وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا‏}‏ ومحل هذه الجملة، أعني قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا‏}‏ النصب على الحال؛ وقيل إنها جملة اعتراضية‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة‏}‏ قال‏:‏ الوسيلة القربة‏.‏ وأخرج الحاكم وصححه، عن حذيفة مثله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة‏}‏ قال‏:‏ تقرّبوا إلى الله بطاعته والعمل بما يرضيه‏.‏

وأخرج مسلم، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة» قال‏:‏ يزيد الفقير، فقلت لجابر يقول الله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُمْ بخارجين مِنْهَا‏}‏ قال‏:‏ اتل أوّل الآية ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ‏}‏ ألا إنهم الذين كفروا‏.‏ وأخرج ابن جرير عن عكرمة‏:‏ أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس‏:‏ تزعم أن قوما يخرجون من النار، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا‏}‏ فقال ابن عباس‏:‏ ويحك، اقرأ ما فوقها هذه للكفار‏.‏ قال الزمخشري في الكشاف بعد ذكره لهذا‏:‏ إنه مما لفقته المجبرة، ويا لله العجب من رجل لا يفرق بين أصحّ الصحيح، وبين أكذب الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتعرض للكلام على ما لا يعرفه ولا يدري ما هو‏؟‏ قد تواترت الأحاديث تواتراً لا يخفى، على من له أدنى إلمام بعلم الرواية بأن عصاة الموحدين يخرجون من النار، فمن أنكر هذا فليس بأهل للمناظرة؛ لأنه أنكر ما هو من ضروريات الشريعة، اللهم غفراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏38‏)‏ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏39‏)‏ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

لما ذكر سبحانه حكم من يأخذ المال جهاراً وهو المحارب، عقبه بذكر من يأخذ المال خفية، وهو السارق، وذكر السارقة مع السارق لزيادة البيان لأن غالب القرآن الاقتصار على الرجال في تشريع الأحكام‏.‏ وقد اختلف أئمة النحو في خبر السارق والسارقة، هل هو مقدر أم هو فاقطعوا‏؟‏ فذهب إلى الأول سيبويه، وقال تقديره‏:‏ فيما فرض عليكم أو فيما يتلى عليكم، السارق والسارقة‏:‏ أي حكمهما‏.‏ وذهب المبرد والزجاج إلى الثاني، ودخول الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، إذ المعنى‏:‏ الذي سرق والتي سرقت، وقرئ‏:‏ «والسارق والسارقة» بالنصب على تقدير اقطعوا، ورجح هذه القراءة سيبويه، قال‏:‏ الوجه في كلام العرب النصب، كما تقول زيداً اضربه، ولكن العامة أبت إلا الرفع، يعنى عامة القراء، والسرقة بكسر الراء اسم الشيء المسروق، والمصدر من سرق يسرق سرقاً قاله الجوهري وهو أخذ الشيء في خفية من الأعين، ومنه استرق السمع، وسارقه النظر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فاقطعوا‏}‏ القطع معناه الإبانة والإزالة، وجمع الأيدي لكراهة الجمع بين تثنيتين، وقد بينت السنة المطهرة أن موضع القطع الرسغ‏.‏ وقال قوم‏:‏ يقطع من المرفق‏.‏ وقال الخوارج‏:‏ من المنكب‏.‏ والسرقة لابد أن تكون ربع دينار فصاعداً، ولا بد أن تكون من حرز، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة‏.‏ وقد ذهب إلى اعتبار الربع الدينار الجمهور‏.‏ وذهب قوم إلى التقدير بعشرة دراهم‏.‏ وذهب الجمهور إلى اعتبار الحرز‏.‏ وقال الحسن البصري إذا جمع الثياب في البيت قطع‏.‏ وقد أطال الكلام في بحث السرقة أئمة الفقه، وشرّاح الحديث، بما لا يأتي التطويل به ها هنا بكثير فائدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏جَزَاء بِمَا كَسَبَا‏}‏ مفعول له‏:‏ أي فاقطعوا للجزاء، أو مصدر مؤكد لفعل محذوف‏:‏ أي فجازوهما جزاء، والباء سببية، وما مصدرية أي بسبب كسبهما، أو موصولة أي جزاء بالذي كسباه من السرقة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏نكالا‏}‏ بدل من جزاء؛ وقيل هو علة للجزاء‏:‏ والجزاء علة للقطع، يقال نكلت به‏:‏ إذا فعلت به ما يجب أن ينكل به عن ذلك الفعل‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ‏}‏ السياق يفيد أن المراد بالظلم هنا السرقة، أي فمن تاب من بعد سرقته، وأصلح أمره ‏{‏فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ‏}‏ ولكن اللفظ عام، فيشمل السارق وغيره من المذنبين، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب‏.‏ وقد استدلّ بهذا عطاء، وجماعة، على أن القطع يسقط بالتوبة، وليس هذا الاستدلال بصحيح، لأن هذه الجملة الشرطية لا تفيد إلا مجرد قبول التوبة، وإن الله يتوب على من تاب، وليس فيها ما يفيد أنه لا قطع على التائب‏.‏ وقد كان في زمن النبوّة يأتي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجب عليه حدّ تائباً عن الذنب الذي ارتكبه، طالباً لتطهيره بالحدّ، فيحدّه النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للسارق بعد قطعه‏:‏ «تب إلى الله» ثم قال «تاب الله عليك» أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة‏.‏ وأخرج أحمد وغيره، أن هذه الآية نزلت في المرأة التي كانت تسرق المتاع، لما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم بعد قطعها، هل لي من توبة‏.‏ وقد ورد في السنة ما يدلّ على أن الحدود إذا رفعت إلى الأئمة وجبت وامتنع إسقاطها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والأرض‏}‏ هذا الاستفهام للإنكار مع تقرير العلم، وهو كالعنوان لقوله‏:‏ ‏{‏يُعَذّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء‏}‏ أي‏:‏ من كان له ملك السموات والأرض، فهو قادر على هذا التعذيب الموكول إلى المشيئة والمغفرة الموكولة إليها‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏جَزَاء بِمَا كَسَبَا نكالا مّنَ الله‏}‏ قال‏:‏ لا ترثوا لهم فيه فإنه أمر الله الذي أمر به‏.‏ قال‏:‏ وذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول‏:‏ اشتدوا على الفساق، واجعلوهم يداً يداً ورجلاً رجلاً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ‏}‏ يقول‏:‏ الحدّ كفارته‏.‏ والأحاديث في قدر نصاب السرقة، وفي سائر ما يتعلق بتفاصيل هذا الحدّ مذكورة في كتب الحديث، فلا نطيل بذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏41‏)‏ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏42‏)‏ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏43‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏لاَ يَحْزُنكَ‏}‏ قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي والباقون بفتح الياء وضم الزاي، والحزن خلاف السرور، وحزن الرجل بالكسر، فهو حزن وحزين‏:‏ وأحزنه غيره وحزنه‏.‏ قال اليزيدي‏:‏ حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما‏.‏ وفي الآية النهي له صلى الله عليه وسلم عن التأثر لمسارعة الكفرة في كفرهم تأثراً بليغاً، لأن الله سبحانه قد وعده في غير موطن بالنصر عليهم، والمسارعة إلى الشيء‏:‏ الوقوع فيه بسرعة‏.‏ والمراد هنا، وقوعهم في الكفر بسرعة عند وجود فرصة، وآثر لفظ «فِى» على لفظ «إلى» للدلالة على استقرارهم فيه، و«من» في قوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الذين قَالُواْ‏}‏ بيانية، والجملة مبينة للمسارعين في الكفر، و«الباء» في ‏{‏بأفواههم‏}‏ متعلقة ب ‏{‏قالوا‏}‏ لا ب ‏{‏آمنا‏}‏، وهؤلاء الذين قالوا آمنا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم هم المنافقون‏.‏ ‏{‏وَمِنَ الذين هِادُواْ‏}‏ يعني اليهود، وهو معطوف على ‏{‏مِنَ الذين قَالُواْ ءامَنَّا‏}‏ وهو تمام الكلام‏.‏ والمعنى‏:‏ أن المسارعين في الكفر طائفة المنافقين وطائفة اليهود‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سماعون لِلْكَذِبِ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف‏:‏ أي هم سماعون للكذب، فهو راجع إلى الفريقين، أو إلى المسارعين، واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لِلْكَذِبِ‏}‏ للتقوية أو لتضمين السماع معنى القبول؛ وقيل إن قوله‏:‏ ‏{‏سماعون‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏مّنَ الذين هَادُواْ‏}‏ أي‏:‏ ومن الذين هادوا قوم ‏{‏سماعون لِلْكَذِبِ‏}‏ أي‏:‏ قابلون لكذب رؤسائهم المحرّفين للتوراة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏سماعون لِقَوْمٍ آخَرِينَ‏}‏ خبر ثان، واللام فيه كاللام في ‏{‏للكذب‏}‏؛ وقيل اللام للتعليل في الموضعين، أي‏:‏ سماعون لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل الكذب عليه، وسماعون لأجل قوم آخرين، وجهوهم عيوناً لهم لأجل أن يبلغوهم، ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏لَمْ يَأْتُوكَ‏}‏ صفة لقوم‏:‏ أي لم يحضروا مجلسك وهم طائفة من اليهود، كانوا لا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبرا وتمرّداً؛ وقيل هم جماعة من المنافقين، كانوا يتجنبون مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الفراء‏:‏ ويجوز سماعين كما قال ‏{‏مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 61‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يُحَرّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مواضعه‏}‏ من جملة صفات القوم المذكورين‏:‏ أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها، ويتأوّلونه على غير تأويله‏.‏ والمحرّفون هم اليهود؛ وقيل‏:‏ إن هذه الجملة خبر مبتدأ محذوف؛ وقيل في محل نصب على الحال من ‏{‏لَمْ يَأْتُوكَ‏}‏ وقيل‏:‏ مستأنفة لا محل لها من الإعراب، لقصد تعداد معايبهم ومثالبهم‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِ مواضعه‏}‏ من بعد كونه موضوعاً في مواضعه، أو من بعد وضعه في مواضعه التي وضعه الله فيها، من حيث لفظه، أو من حيث معناه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ‏}‏ جملة حالية، من ضمير يحرفون، أو مستأنفة، أو صفة لقوم، أو خبر مبتدأ محذوف، والإشارة بقولهم ‏{‏هذا‏}‏ إلى الكلام المحرّف‏:‏ أي إن أوتيتم من جهة محمد هذا الكلام الذي حرّفناه، فخذوه واعملوا به، وإن لم تؤتوه بل جاءكم بغيره، فاحذروا من قبوله والعمل به‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ‏}‏ أي‏:‏ ضلالته ‏{‏فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً‏}‏ أي‏:‏ فلا تستطيع دفع ذلك عنه ولا تقدر على نفعه وهدايته، وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها، وظاهرها العموم ويدخل فيها هؤلاء الذين سياق الكلام معهم دخولاً أوّليا، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إلى من تقدم ذكرهم، من الذين قالوا آمنا بأفواههم ومن الذين هادوا، وهو مبتدأ وخبره الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم‏:‏ أي لم يرد تطهيرها من أرجاس الكفر والنفاق، كما طهّر قلوب المؤمنين ‏{‏لَهُمْ فِى الدنيا خِزْىٌ‏}‏ بظهور نفاق المنافقين، وبضرب الجزية على الكافرين، وظهور تحريفهم وكتمهم لما أنزل الله في التوراة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏سماعون لِلْكَذِبِ‏}‏ كرّره تأكيداً لقبحه، وليكون كالمقدّمة لما بعده، وهو‏:‏ أكالون للسحت، وهما من جملة أخبار ذلك المبتدأ المقدّر سابقاً‏.‏ والسحت، بضم السين وسكون الحاء‏:‏ المال الحرام، وأصله الهلاك والشدّة، من سحته‏:‏ إذا هلكه، ومنه ‏{‏فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 61‏]‏، ومنه قول الفرزدق‏:‏

وعضّ زمان يابن مروان لم يدع *** من المال إلا مسحت أو مُجلَّفُ

ويقال للحالق اسحت‏:‏ أي استأصل؛ وسمي الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات‏:‏ أي يذهبها ويستأصلها، وقال الفراء‏:‏ أصله كلب الجوع؛ وقيل هو الرشوة، والأوّل أولى، والرشوة تدخل في الحرام دخولاً أوّلياً‏.‏ وقد فسره جماعة بنوع من أنواع الحرام خاص كالهدية لمن يقضى له حاجة، وحلوان الكاهن، والتعميم أولى بالصواب‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن جَاؤوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ فيه تخيير لرسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحكم بينهم والإعراض عنهم‏.‏

وقد استدلّ به على أن حكام المسلمين مخيرون بين الأمرين‏.‏ وقد أجمع العلماء على أنه يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين المسلم والذمى إذا ترافعا إليهم‏.‏ واختلفوا في أهل الذمة إذا ترافعوا فيما بينهم؛ فذهب قوم إلى التخيير، وذهب آخرون إلى الوجوب، وقالوا‏:‏ إن هذه الآية منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله‏}‏ وبه قال ابن عباس، ومجاهد وعكرمة، والزهري وعمر بن عبد العزيز والسديّ‏:‏ وهو الصحيح من قول الشافعي، وحكاه القرطبي عن أكثر العلماء‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً‏}‏ أي إن اخترت الإعراض عن الحكم بينهم، فلا سبيل لهم عليك، لأن الله حافظك وناصرك عليهم، وإن اخترت الحكم بينهم ‏{‏فاحكم بَيْنَهُم بالقسط‏}‏ أي بالعدل الذي أمرك الله به وأنزله عليك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله‏}‏ فيه تعجيب له صلى الله عليه وسلم من تحكيمهم إياه، مع كونهم لا يؤمنون به ولا بما جاء به، مع أن ما يحكمونه فيه هو موجود عندهم في التوراة كالرجم، ونحوه، وإنما يأتون إليه صلى الله عليه وسلم ويحكمونه طمعاً منهم في أن يوافق تحريفهم، وما صنعوه بالتوراة من التغيير‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ‏}‏ عطف على يحكمونك ‏{‏مِن بَعْدِ ذلك‏}‏ أي من بعد تحكيمهم لك‏.‏ وجملة قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين‏}‏ لتقرير مضمون ما قبلها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ‏}‏ استئناف يتضمن تعظيم التوراة، وتفخيم شأنها وأن فيها الهدى والنور، وهو بيان الشرائع، والتبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم وإيجاب اتباعه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏يَحْكُمُ بِهَا النبيون‏}‏ هم أنبياء بني إسرائيل، والجملة إما مستأنفة أو حالية، و‏{‏الذين أَسْلَمُواْ‏}‏ صفة مادحة للنبيين، وفيه إرغام لليهود المعاصرين له صلى الله عليه وسلم بأن أنبياءهم كانوا يدينون بدين الإسلام الذي دان به محمد صلى الله عليه وسلم؛ وقيل المراد بالنبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وعبر عنه بلفظ الجمع تعظيماً‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ هَادُواْ‏}‏ متعلق ب ‏{‏يحكم‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه يحكم بها النبيون للذين هادوا وعليهم‏.‏ والربانيون العلماء الحكماء، وقد سبق تفسيره، والأحبار العلماء، مأخوذ من التحبير وهو التحسين فهم يحبرون العلم‏:‏ أي يحسنونه‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الحبر واحد أحبار اليهود بالفتح وبالكسر والكسر أفصح، وقال الفراء‏:‏ هو بالكسر، وقال أبو عبيدة‏:‏ هو بالفتح‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏بِمَا استحفظوا مِن كتاب الله‏}‏ الباء للسببية واستحفظوا أمروا بالحفظ‏:‏ أي أمرهم الأنبياء بحفظ التوراة عن التغيير والتبديل، والجار والمجرور متعلق بيحكم‏:‏ أي يحكمون بها بسبب هذا الاستحفاظ، قوله‏:‏ ‏{‏وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء‏}‏ أي على كتاب الله والشهداء الرقباء، فهم يحمونه عن التغيير والتبديل بهذه المراقبة، والخطاب بقوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس‏}‏ لرؤساء اليهود، وكذا في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي ثَمَنًا قَلِيلاً‏}‏ والاشتراء الاستبدال، وقد تقدّم تحقيقه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون‏}‏ لفظ «مِنْ» من صيغ العموم فيفيد أن هذا غير مختص بطائفة معينة، بل بكل من ولي الحكم؛ وقيل إنها مختصة بأهل الكتاب؛ وقيل بالكفار مطلقاً لأن المسلم لا يكفر بارتكاب الكبير؛ وقيل هو محمول على أن الحكم بغير ما أنزل الله، وقع استخفافاً، أو استحلالاً، أو جحداً، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إلى من، والجمع باعتبار معناها، وكذلك ضمير الجماعة في قوله‏:‏ ‏{‏هُمُ الكافرون‏}‏‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِى الكفر‏}‏ قال‏:‏ هم اليهود ‏{‏مِنَ الذين قَالُواْ ءامَنَّا بأفواههم وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ‏}‏ قال‏:‏ هم المنافقون‏.‏

وأخرج أحمد، وأبو داود وابن جرير، وابن المنذر والطبراني، وأبو الشيخ وابن مردويه عنه قال‏:‏ إن الله أنزل‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون‏.‏‏.‏‏.‏ الظالمون‏.‏‏.‏‏.‏ الفاسقون‏}‏ أنزلها الله في طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية حتى اصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقاً، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يظهر عليهم، فقتلت الذليلة من العزيزة، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق، فقالت الذليلة‏:‏ وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، ودية بعضهم نصف دية بعض‏؟‏ إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا وفرقاً منكم، فأما إذ قدم محمد صلى الله عليه وسلم، فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن جعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، ففكرت العزيزة فقالت‏:‏ والله ما محمد يعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، ولقد صدقوا، ما أعطونا هذا إلا ضيماً وقهراً لهم، فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يخبر لكم رأيه، فإن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم حذرتموه ولم تحكموه؛ فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من المنافقين يختبرون لهم رأيه، فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله بأمرهم، كله وما أرادوا، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏ياأَيُّهَا الرسول لاَ يَحْزُنكَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون‏}‏ ثم قال فيهم‏:‏ «والله أنزلت وإياهم عني»‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وأحمد وعبد بن حميد، وأبو داود وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة، قال‏:‏ أوّل مرجوم رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود زنى رجل منهم وامرأة، فقال بعضهم لبعض‏:‏ اذهبوا بنا إلى هذا النبيّ، فإنه نبيّ بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا‏:‏ فتيا نبيّ من أنبيائك، قال‏:‏ فأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في المسجد وأصحابه، فقالوا‏:‏ يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا، فلم يكلمهم حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب فقال‏:‏ «أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن‏؟‏» قالوا‏:‏ يحمم ويجبه ويجلد، والتجبية‏:‏ أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما، وسكت شاب منهم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت ألظ به النشدة فقال‏:‏ اللهم إذ نشدتنا نجب فإنا نجد في التوراة الرجم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏

«فما أوّل ما ارتخصتم أمر الله‏؟‏» قال‏:‏ زنى رجل ذو قرابة من ملك من ملوكنا، فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه، فحال قومه دونه، وقالوا‏:‏ والله لا ترجم صاحبنا حتى تجئ بصاحبك فترجمه، فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فإني أحكم بما في التوراة»، فأمر بهما فرجما‏.‏ قال الزهري‏:‏ فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ‏}‏ فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم‏.‏ وأخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر، والبيهقي في سننه من طريق أخرى عن أبي هريرة، وذكر فيه أن الشاب المذكور هو عبد الله بن صوريا‏.‏ وأخرج نحو حديث أبي هريرة أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث البراء بن عازب‏.‏

وأخرج البخاري ومسلم، وغيرهما، من حديث عبد الله بن عمر‏:‏ أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما تجدون في التوراة‏؟‏» قالوا‏:‏ نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام‏:‏ كذبتم إن فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال عبد الله بن سلام‏:‏ ارفع يدك، فرفع يده فإذا آية الرجم، قالوا صدق، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن جابر بن عبد الله في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الذين هِادُواْ سماعون لِلْكَذِبِ‏}‏ قال‏:‏ يهود المدينة ‏{‏سماعون لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك‏}‏ قال‏:‏ يهود فدك ‏{‏يُحَرّفُونَ الكلم‏}‏ قال‏:‏ يهود فدك يقولون ليهود المدينة ‏{‏إِنْ أُوتِيتُمْ هذا‏}‏ الجلد ‏{‏فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا‏}‏ الرجم‏.‏ وأخرج أبو داود، وابن ماجه، وابن المنذر، وابن مردويه، عنه قال‏:‏ زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمداً، وذكر القصة‏.‏

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أكالون لِلسُّحْتِ‏}‏ قال‏:‏ أخذوا الرشوة في الحكم وقضوا بالكذب‏.‏ وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن مسعود قال‏:‏ السحت الرشوة في الدين‏.‏ قال سفيان‏:‏ يعني في الحكم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن مسعود أيضاً قال‏:‏ من شفع لرجل ليدفع عنه مظلمة أو يردّ عليه حقاً فأهدى له هدية فقبلها، فذلك السحت فقيل له‏:‏ يا أبا عبد الرحمن إنا كنا نعدّ السحت الرشوة في الحكم، فقال ذلك الكفر ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون‏}‏ وقد روي نحو هذا عنه من طرق، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ رشوة الحكام حرام‏.‏

وهي السحت الذي ذكر الله في كتابه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن ثابت قال‏:‏ السحت الرشوة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن عليّ بن أبي طالب أنه سئل عن السحت فقال‏:‏ الرشا، فقيل له في الحكم‏؟‏ قال‏:‏ ذاك الكفر‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن عمر قال‏:‏ بابان من السحت يأكلهما الناس‏:‏ الرشاء في الحكم، ومهر الزانية‏.‏ وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الرشوة ما هو معروف‏.‏

وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس قال‏:‏ آيتان نسختا من سورة المائدة‏:‏ آية القلائد، وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِن جَاؤوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيراً‏:‏ إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، فردّهم إلى أحكامهم، فنزلت‏:‏ ‏{‏وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ‏}‏ قال‏:‏ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا‏.‏ وأخرج نحوه في الآية الآخر عنه أبو عبيدة وابن المنذر، وابن مردويه‏.‏ وأخرج عبد الرزاق عن عكرمة نحوه‏.‏

وأخرج ابن إسحاق وابن جرير، وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس أن الآيات من المائدة التي قال فيها‏:‏ ‏{‏فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏المقسطين‏}‏ إنما نزلت في الدية من بني النضير وقريظة، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف يودون الدية كاملة، وأن بني قريظة كانوا يودون نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك، فجعل الدية سواء‏.‏ وأخرج نحوه عنه ابن أبي شيبة وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَعِندَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله‏}‏ يعني حدود الله فأخبره الله بحكمه في التوراة، قال‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏والجروح قِصَاصٌ‏}‏‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ‏}‏ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏لِلَّذِينَ هَادُواْ‏}‏ يعني اليهود‏.‏

وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال‏:‏ الذين أسلموا النبي ومن قبله من الأنبياء يحكمون بما فيها من الحق‏.‏ وأخرج ابن جرير عن الحسن قال‏:‏ الربانيون والأحبار الفقهاء والعلماء‏.‏ وأخرج عن مجاهد قال‏:‏ الربانيون العلماء الفقهاء، وهم فوق الأحبار‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال‏:‏ الربانيون العباد، والأحبار العلماء‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ الربانيون الفقهاء العلماء‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ الربانيون هم المؤمنون، والأحبار هم القراء‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن السدي ‏{‏فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس‏}‏ فتكتموا ما أنزلت ‏{‏وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي ثَمَنًا قَلِيلاً‏}‏ على أن تكتموا ما أنزلت‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن زيد ‏{‏وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي ثَمَنًا قَلِيلاً‏}‏ قال‏:‏ لا تأكلوا السحت على كتابي‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم‏}‏ يقول‏:‏ من جحد الحكم بما أنزل الله فقد كفر، ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق‏.‏ وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون‏}‏ قال‏:‏ إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، وإنه ليس كفر ينقل من الملة بل دون كفره‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن عطاء ابن أبي رباح في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون‏.‏‏.‏‏.‏ هُمُ الظالمون‏.‏‏.‏‏.‏ هُمُ الفاسقون‏}‏ قال‏:‏ كفر دون كفر وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق‏.‏ وأخرج سعيد ابن منصور، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ إنما أنزل الله ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون‏}‏ و‏{‏الظالمون‏}‏ و‏{‏الفاسقون‏}‏ في اليهود خاصة‏.‏ وقد روى نحو هذا عن جماعة من السلف‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن حذيفة، أن هذه الآيات ذكرت عنده ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون‏}‏ و‏{‏الظالمون‏}‏ و‏{‏الفاسقون‏}‏ فقال رجل‏:‏ إن هذا في بني إسرائيل، فقال حذيفة‏:‏ نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرّة، كلا والله لتسلكنّ طريقهم قدّ الشراك‏.‏ وأخرج ابن المنذر نحوه عن ابن عباس‏.‏