فصل: تفسير الآيات رقم (82- 86)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 86‏]‏

‏{‏لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏82‏)‏ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏83‏)‏ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ‏(‏84‏)‏ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏85‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏86‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَتَجِدَنَّ‏}‏ الخ هذه جملة مستأنفة مقررة لما قبلها من تعداد مساوئ اليهود وهناتهم، ودخول لام القسم عليها يزيدها تأكيداً وتقريراً، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له كما في غير هذا الموضع من الكتاب العزيز‏.‏ والمعنى في الآية‏:‏ أن اليهود والمشركين لعنهم الله أشدّ جميع الناس عداوة للمؤمنين وأصلبهم في ذلك‏.‏ وأن النصارى أقرب الناس مودّة للمؤمنين، واللام في ‏{‏لِلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏ في الموضعين متعلقة بمحذوف وقع صفة لعداوة ومودّة، وقيل هو متعلق بعداوة ومودة؛ والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى كونهم أقرب مودّة، والباء في ‏{‏بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ‏}‏ للسببية‏:‏ أي ذلك بسبب أن منهم قسيسين، وهو جمع قسّ وقسيس قاله قطرب‏.‏ والقسيس‏:‏ العالم، وأصله من قسّ‏:‏ إذا تتبع الشيء وطلبه‏.‏ قال الراجز‏:‏

يصبحن عن قسّ الأذى غوافلا *** وتقسست أصواتهم بالليل تسمعتها والقسّ‏:‏ النميمة‏.‏ والقسّ أيضاً‏:‏ رئيس النصارى في الدين والعلم، وجمعه قسوس أيضاً، وكذلك القسيس‏:‏ مثل الشرّ والشرّير، ويقال في جمع قسيس تكسيراً قساوسة بإبدال أحد السينين واواً، والأصل قساسة، فالمراد بالقسيسين في الآية‏:‏ المتبعون للعلماء والعباد، وهو إما عجميّ خلطته العرب بكلامها، أو عربيّ، والرهبان‏:‏ جمع راهب كركبان وراكب، والفعل رهب الله يرهبه‏:‏ أي خافه‏.‏ والرهبانية والترهب‏:‏ التعبد في الصوامع‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ وقد يكون رهبان للواحد والجمع‏.‏ قال الفراء‏:‏ ويجمع رهبان إذا كان للمفرد رهبان ورهابين كقربان وقرابين‏.‏ وقد قال جرير في الجمع‏:‏

رهبان مدين لو رأوك ترهبوا *** وقال الشاعر في استعمال رهبان مفرداً‏:‏

لو أبصرت رهبان دير في الجبل *** لانحدر الرهبان يسعى ونزل

ثم وصفهم الله سبحانه بأنهم لا يستكبرون عن قول الحق، بل هم متواضعون، بخلاف اليهود فإنهم على ضدّ ذلك، وهذه الجملة معطوفة على الجملة التي قبلها ‏{‏وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرسول‏}‏ معطوف على جملة ‏{‏وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏‏.‏ ‏{‏تَفِيضُ مِنَ الدمع‏}‏ أي‏:‏ تمتلئ فتفيض، لأن الفيض لا يكون إلا بعد الامتلاء، جعل الأعين تفيض، والفائض‏:‏ إنما هو الدمع قصداً للمبالغة كقولهم دمعت عينه‏.‏ قال امرؤ القيس‏:‏

ففاضت دموع العين مني صبابة *** على النحر حتى بلّ دمعي محملي

قوله‏:‏ ‏{‏مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق‏}‏ من الأولى لابتداء الغاية، والثانية بيانية، أي كان ابتداء الفيض ناشئاً من معرفة الحق، ويجوز أن تكون الثانية تبعيضية، وقرئ‏:‏ «تَرَى أَعْيُنَهُم» على البناء للمجهول‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا‏}‏ استئناف مسوق لجواب سؤال مقدّر، كأنه قيل‏:‏ فما حالهم عند سماع القرآن‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين‏}‏ أي آمنا بهذا الكتاب النازل من عندك على محمد وبمن أنزلته عليه ‏{‏فاكتبنا مع الشاهدين‏}‏ على الناس يوم القيامة، من أمة محمد أو مع الشاهدين بأنه حق، أو مع الشاهدين بصدق محمد وأنه رسولك إلى الناس‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله‏}‏ كلام مستأنف، والاستفهام للاستبعاد ‏{‏وَلَنَا‏}‏ متعلق بمحذوف، و‏{‏لاَ نُؤْمِنُ‏}‏ في محل نصب في الحال، والتقدير‏:‏ أيّ شيء حصل لنا حال كوننا لا نؤمن بالله وبما جاءنا من الحق‏؟‏ والمعنى‏:‏ أنهم استبعدوا انتفاء الإيمان منهم مع جود المقتضى له، وهو الطمع في إنعام الله، فالاستفهام والنفي متوجهان إلى القيد والمقيد جميعاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 13‏]‏، والواو في ‏{‏وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين‏}‏ للحال أيضاً بتقدير مبتدأ‏:‏ أي، أيّ شيء حصل لنا غير مؤمنين ونحن نطمع في الدخول مع الصالحين‏؟‏ فالحال الأولى والثانية صاحبهما الضمير في ‏{‏لَنَا‏}‏ وعاملها الفعل المقدّر‏:‏ أي حصل، ويجوز أن تكون الحال الثانية من الضمير في ‏{‏نُؤْمِنُ‏}‏ والتقدير‏:‏ وما لنا نجمع بين ترك الإيمان وبين الطمع في صحبة الصالحين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ‏}‏ الخ أثابهم على هذا القول مخلصين له معتقدين لمضمونه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا أولئك أصحاب الجحيم‏}‏ التكذيب بالآيات كفر، فهو من باب عطف الخاص على العام‏.‏ والجحيم‏:‏ النار الشديدة الإيقاد، ويقال جحم فلان النار‏:‏ إذا شدّد إيقادها، ويقال أيضاً لعين الأسد‏:‏ جحمة لشدّة اتقادها‏.‏ قال الشاعر‏:‏

والحرب لا تبقى لجا *** حمها التحيل والمزاح

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً‏}‏ الآية قال هم الوفد الذين جاؤوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما خلا يهوديّ بمسلم إلا همّ بقتله» وفي لفظ‏:‏ «إلا حدّث نفسه بقتله» قال ابن كثير‏:‏ وهو غريب جدّاً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال‏:‏ ما ذكر الله به النصارى من خير فإنما يراد به النجاشي وأصحابه‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عنه قال‏:‏ هم ناس من الحبشة آمنوا إذ جاءتهم مهاجرة المؤمنين فذلك لهم‏.‏

وأخرج النسائي وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال‏:‏ نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرسول تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو نعيم، في الحلية والواحدي من طريق ابن شهاب قال‏:‏ أخبرني سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعروة بن الزبير قالوا‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري وكتب معه كتاباً إلى النجاشي، فقدم على النجاشي فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه، وأرسل النجاشي إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم، ثم أمر جعفر بن أبي طالب أن يقرأ عليهم القرآن، فقرأ عليهم سورة مريم، فآمنوا بالقرآن وفاضت أعينهم من الدمع، وهم الذين أنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مّنَ الشاهدين‏}‏‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ وابن مردويه، عن سعيد بن جبير في الآية قال‏:‏ هم رسل النجاشي بإسلامه وإسلام قومه، كانوا سبعين رجلاً يختارهم من قومه، الخير فالخير، في الفقه والسنّ، وفي لفظ‏:‏ بعث من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين رجلاً، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه فقرأ عليهم سورة يس، فبكوا حين سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق، فأنزل الله فيهم ‏{‏ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً‏}‏‏.‏ الآية ونزلت هذه الآية فيهم أيضاً‏:‏ ‏{‏الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 52‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 54‏]‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، والطبراني، وأبو الشيخ وابن مردويه، عن ابن عباس نحوه بدون ذكر العدد‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي قال‏:‏ بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر رجلاً، سبعة قسيسين وخمسة رهباناً، ينظرون إليه ويسألونه فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا، فأنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرسول‏}‏ الآية، والروايات في هذا الباب كثيرة، وهذا المقدار يكفي، فليس المراد إلا بيان سبب نزول الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏قِسّيسِينَ‏}‏ قال‏:‏ هم علماؤهم‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال‏:‏ القسيسون عبادهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فاكتبنا مَعَ الشاهدين‏}‏ قال‏:‏ أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 88‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏87‏)‏ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

الطيبات‏:‏ هي المستلذات لما أحلّه الله لعباده، نهى الذين آمنوا عن أن يحرّموا على أنفسهم شيئاً منهم، إما لظنهم أن في ذلك طاعة لله وتقرّباً إليه، وأنه من الزهد في الدنيا فرفع النفس عن شهواتها، أو لقصد أن يحرّموا على أنفسهم شيئاً مما أحلّه لهم كما يقع من كثير من العوام من قولهم‏:‏ حرام عليّ، وحرّمته على نفسي، ونحو ذلك من الألفاظ التي تدخل تحت هذا النهي القرآني‏.‏ قال ابن جرير الطبري‏:‏ لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحلّ الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح، ولذلك ردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون‏.‏

فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبرّ إنما هو في فعل ما ندب الله عباده إليه، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسَنَّه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ فإذا كان ذلك كذلك، تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله، وآثر أكل الخشن من الطعام، وترك اللحم، وغيره حذراً من عارض الحاجة إلى النساء‏.‏ قال‏:‏ فإن ظن ظانّ أن الفضل في غير الذي قلنا لِما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة، فقد ظنّ خطأ، وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شيء أضرّ للجسم من المطاعم الردية، لأنها مفسدة لعقله، ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سبباً إلى طاعته‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْتَدُواْ‏}‏ أي لا تعتدوا على الله بتحريم طيبات ما أحلّ الله لكم، أو لا تعتدوا فتحلوا ما حرّم الله عليكم أي تترخصوا فتحللوا حراماً كما نهيتم عن التشديد على أنفسكم بتحريم الحلال‏.‏ وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن من حرّم على نفسه شيئاً مما أحله الله له فلا يحرم عليه ولا يلزمه كفارة‏.‏ وقال أبو حنيفة وأحمد ومن تابعهما‏:‏ إن من حرّم شيئاً صار محرّماً عليه، وإذا تناوله لزمته الكفارة، وهو خلاف ما في هذه الآية، وخلاف ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ولعله يأتي في سورة التحريم ما هو أبسط من هذا إن شاء الله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين‏}‏ تعليل لما قبله، وظاهره أن تحريم كل اعتداء‏:‏ أي مجاوزة لما شرعه الله في كل أمر من الأمور ‏{‏وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله‏}‏ حال كونه ‏{‏حلالا طَيّباً‏}‏ أي غير محرّم ولا مستقذر، أو أكلا حلالاً طيباً، أو كلوا حلالاً طيباً مما رزقكم الله، ثم وصاهم الله سبحانه بالتقوى فقال‏:‏ ‏{‏واتقوا الله الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

وقد أخرج الترمذي وحسّنه وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن عديّ في الكامل، والطبراني، وابن مردويه، عن ابن عباس، أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، إني إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء، وأخذتني شهوة، وإني حرّمت عليّ اللحم، فنزلت‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ‏}‏‏.‏ وقد روي من وجه آخر مرسلاً، وروي موقوفاً على ابن عباس‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عنه في الآية قال‏:‏ نزلت في رهط من الصحابة قالوا‏:‏ نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم، فذكر لهم ذلك فقالوا نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني» وقد ثبت نحو هذا في الصحيحين وغيرهما، من دون ذكر أن ذلك سبب نزول الآية‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود، في المراسيل، وابن جرير، عن أبي مالك أن هؤلاء الرهط هم عثمان بن مظعون وأصحابه‏.‏ وفي الباب روايات كثيرة بهذا المعنى، وكثير منها مصرّح بأن ذلك سبب نزول الآية‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله، وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله، فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظاراً له، فقال لامرأته‏:‏ حبست ضيفي من أجلي هو حرام عليّ، فقالت امرأته‏:‏ هو حرام عليّ فقال الضيف‏:‏ هو حرام عليّ، فلما رأى ذلك وضع يده وقال‏:‏ كلوا بسم الله، ثم ذهب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قد أصبت» فأنزل الله‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ‏}‏ وهذا أثر منقطع، ولكن في صحيح البخاري في قصة الصديق مع أضيافه ما هو شبيه بهذا‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن مسروق قال‏:‏ كنا عند عبد الله فجيء بضرع، فتنحى رجل، فقال له عبد الله‏:‏ ادن، فقال‏:‏ إني حرّمت أن آكله، فقال عبد الله‏:‏ ادن فاطعم وكفر عن يمينك، وتلا هذه الآية‏.‏ وأخرجه أيضاً الحاكم في مستدركه، وقال‏:‏ صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

قد تقدم تفسير اللغو، والخلاف فيه، في سورة البقرة، و‏{‏فِى أيمانكم‏}‏ صلة ‏{‏يُؤَاخِذُكُمُ‏}‏، قيل و‏"‏ فِى ‏"‏ بمعنى ‏"‏ من ‏"‏ والأيمان جمع يمين‏.‏ وفي الآية دليل على أن أيمان اللغو لا يؤاخذ الله الحالف بها، ولا تجب فيها كفارة‏.‏ وقد ذهب الجمهور من الصحابة، ومن بعدهم، إلى أنها قول الرجل‏:‏ لا والله وبلى والله في كلامه، غير معتقد لليمين، وبه فسر الصحابة الآية وهم أعرف بمعاني القرآن‏.‏ قال الشافعي‏:‏ وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان‏}‏ قرئ بتشديد ‏{‏عقدتم‏}‏ وبتخفيفه، وقرئ «عاقدتم»‏.‏ والعقد على ضربين‏:‏ حسي، كعقد الحبل؛ وحكمي، كعقد البيع، واليمين، والعهد‏.‏ قال الشاعر‏:‏

قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم *** شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا

فاليمين المعقدة من عقد القلب ليفعلن أو لايفعلن في المستقبل، أي ولكن يؤاخذكم بأيمانكم المعقدة الموثقة بالقصد والنية إذا حنثتم فيها‏.‏ وأما اليمين الغموس‏:‏ فهي يمين مكر وخديعة، وكذب قد باء الحالف بإثمها، وليست بمعقودة ولا كفارة فيها كما ذهب إليه الجمهور، وقال الشافعي‏:‏ هي يمين معقودة لأنها مكتسبة بالقلب معقودة بخبر مقرونة باسم الله، والراجح الأول، وجميع الأحاديث الواردة في تكفير اليمين متوجهة إلى المعقودة ولا يدل شيء منها على الغموس، بل ما ورد في الغموس إلا الوعيد والترهيب، وأنها من الكبائر، بل من أكبر الكبائر، وفيها نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم ثَمَنًا قَلِيًلا‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 77‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَكَفَّارَتُهُ‏}‏ الكفارة‏:‏ هي مأخوذة من التكفير وهو التستير، وكذلك الكفر هو الستر، والكافر هو الساتر، لأنها تستر الذنب وتغطيه، والضمير في ‏{‏كفارته‏}‏ راجع إلى «ما» في قوله‏:‏ ‏{‏بِمَا عَقَّدتُّمُ‏}‏‏.‏ ‏{‏إِطْعَامُ عَشَرَةِ مساكين مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ‏}‏ المراد بالوسط هنا المتوسط بين طرفي الإسراف والتقتير، وليس المراد به الأعلى كما في غير هذا الموضع، أي أطعموهم من المتوسط مما تعتادون إطعام أهليكم منه، ولا يجب عليكم أن تطعموهم من أعلاه، ولا يجوز لكم أن تطعموهم من أدناه، وظاهره أنه يجزئ إطعام عشرة حتى يشبعوا‏.‏ وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه قال‏:‏ لا يجزئ إطعام العشرة غداء دون عشاء حتى يغديهم ويعشيهم‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ هو قول أئمة الفتوى بالأمصار‏.‏ وقال الحسن البصري وابن سيرين‏:‏ يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزاً وسمناً، أو خبزاً ولحماً‏.‏ وقال عمر بن الخطاب، وعائشة، ومجاهد، والشعبي، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وميمون بن مهران، وأبو مالك، والضحاك والحكم، ومكحول، وأبو قلابة، ومقاتل‏:‏ يدفع إلى كل واحد من العشرة نصف صاع من برّ أو تمر‏.‏

وروي ذلك عن عليّ‏.‏ وقال أبو حنيفة نصف صاع برّ وصاع مما عداه‏.‏ وقد أخرج ابن ماجه، وابن مردويه، عن ابن عباس قال‏:‏ كفَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وكفَّر الناس به، ومن لم يجد فنصف صاع من برّ، وفي إسناده عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي وهو مجمع على ضعفه‏.‏ وقال الدارقطني‏:‏ متروك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ كِسْوَتُهُمْ‏}‏ عطف على إطعام‏.‏ قرئ بضم الكاف وكسرها وهما لغتان مثل أسوة وإسوة‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير، ومحمد بن السميفع اليماني «أو كإسوتهم»‏:‏ يعني كإسوة أهليكم، والكسوة في الرجال تصدق على ما يكسو البدن، ولو كان ثوباً واحداً، وهكذا في كسوة النساء؛ وقيل الكسوة للنساء درع وخمار؛ وقيل المراد بالكسوة ما تجزئ به الصلاة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ أي إعتاق مملوك، والتحرير‏:‏ الإخراج من الرقّ، ويستعمل التحرير في فكّ الأسير وإعفاء المجهود بعمل عن عمله وترك إنزال الضرر به، ومنه قول الفرزدق‏:‏

أبني غدانة أنني حررتكم *** فوهبتكم لعطية بن جعال

أي حررتكم من الهجاء الذي كان سيضع منكم ويضرّ بأحسابكم‏.‏

ولأهل العلم أبحاث في الرقبة التي تجزئ في الكفارة، وظاهر هذه الآية أنها تجزئ كل رقبة على أيّ صفة كانت‏.‏ وذهب جماعة منهم الشافعي إلى اشتراط الإيمان فيها قياساً على كفارة القتل ‏{‏فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ‏}‏ أي فمن لم يجد شيئاً من الأمور المذكورة فكفارته صيام ثلاثة أيام، وقرئ «متتابعات» حكى ذلك عن ابن مسعود وأبيّ، فتكون هذه القراءة مقيدة لمطلق الصوم‏.‏ وبه قال أبو حنيفة والثوري، وهو أحد قول الشافعي‏.‏ وقال مالك، والشافعي في قوله الآخر‏:‏ يجزئ التفريق ‏{‏ذلك كَفَّارَةُ أيمانكم إِذَا حَلَفْتُمْ‏}‏ أي ذلك المذكور كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم، ثم أمرهم بحفظ الأيمان، وعدم المسارعة إليها أو إلى الحنث بها، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ إلى مصدر الفعل المذكور بعده، أي مثل ذلك البيان ‏{‏يُبَيّنُ الله لَكُمْ‏}‏ وقد تكرّر هذا في مواضع من الكتاب العزيز، ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ما أنعم به عليكم من بيان شرائعه وإيضاح أحكامه‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ‏}‏ في القوم الذين كانوا حرّموا على أنفسهم النساء واللحم قالوا‏:‏ يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم‏}‏ وأخرج عبد بن حميد، عن سعيد بن جبير، في اللغو قال‏:‏ هو الرجل يحلف على الحلال‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال‏:‏ هما الرجلان يتبايعان، يقول أحدهما‏:‏ والله لا أبيعك بكذا، ويقول الآخر‏:‏ والله لا أشتريه بكذا‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ، عن النخعي قال‏:‏ اللغو أن يصل كلامه بالحلف‏:‏ والله لتأكلنّ والله لتشربنّ ونحو هذا لا يريد به يميناً ولا يتعمد حلفاً، فهو لغو اليمين ليس عليه كفارة، وقد تقدّم الكلام في البقرة‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد ‏{‏ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان‏}‏ قال‏:‏ بما تعمدتم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ، عن قتادة نحوه‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن ابن عمر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقيم كفارة اليمين مدّاً من حنطة، وفي إسناده النضر بن زرارة بن عبد الكريم الذهلي الكوفي‏.‏ قال أبو حاتم مجهول، وذكره ابن حبان في الثقات‏.‏ وقد تقدّم حديث ابن عباس وتضعيفه‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت أبي بكر قالت‏:‏ كنا نعطي في كفارة اليمين بالمدّ الذي نقتات به، وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ إني أحلف لا أعطي أقواماً، ثم يبدو لي فأعطيهم، فأطعم عشرة مساكين كل مسكين صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر أو نصف صاع من قمح‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عليّ بن أبي طالب قال‏:‏ في كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من حنطة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس مثله‏.‏ وأخرج عنه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ من طرق قال‏:‏ في كفارة اليمين مدّ من حنطة لكل مسكين‏.‏ وأخرج هؤلاء إلا ابن أبي حاتم عن زيد بن ثابت مثله‏.‏ وأخرج هؤلاء أيضاً عن ابن عمر مثله‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن أبي هريرة مثله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عليّ ابن أبي طالب قال‏:‏ تغديهم وتعشيهم إن شئت خبزاً ولحماً، أو خبزاً وزيتاً، أو خبزاً وسمناً، أو خبزاً وتمراً‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ‏}‏ قال‏:‏ من عسركم ويسركم‏.‏ وأخرج ابن ماجه عنه قال‏:‏ ‏[‏كان‏]‏ الرجل يقوت أهله قوتاً فيه سعة، وكان الرجل يقوت أهله قوتاً فيه شدّة، فنزلت‏:‏ ‏{‏مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه عنه نحو ذلك‏.‏

وأخرج الطبراني وابن مردويه، عن عائشة عن النبيّ صلى الله عيله وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ كِسْوَتُهُمْ‏}‏ قال‏:‏ «عباءة لكل مسكين»، قال ابن كثير‏:‏ حديث غريب‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن حذيفة قال‏:‏ قلت يا رسول الله ‏{‏أَوْ كِسْوَتُهُمْ‏}‏ ما هو‏؟‏ قال‏:‏ «عباءة عباءة» وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ عباءة لكل مسكين أو شملة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عمر قال‏:‏ الكسوة ثوب أو إزار‏.‏ وأخرج ابن جرير، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس قال‏:‏ في كفارة اليمين هو بالخيار في هؤلاء الثلاثة الأوّل فالأوّل، فإن لم يجد من ذلك شيئاً فصيام ثلاثة أيام متتابعات‏.‏ وأخرج ابن مردويه عنه نحوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 93‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏90‏)‏ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ‏(‏91‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏92‏)‏ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ‏}‏ خطاب لجميع المؤمنين‏.‏ وقد تقدم تفسير الميسر في سورة البقرة ‏{‏والأنصاب‏}‏ هي‏:‏ الأصنام المنصوبة للعبادة، ‏{‏والأزلام‏}‏‏.‏ قد تقدّم تفسيرها في أوّل هذه السورة، والرجس يطلق على العذرة والأقذار، وهو خبر للخمر، وخبر المعطوف عليه محذوف‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مِنْ عَمَلِ الشيطان‏}‏ صفة لرجس‏:‏ أي كائن من عمل الشيطان، بسبب تحسينه لذلك وتزيينه له‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي كان عمل هذه الأمور بنفسه فاقتدى به بنو آدم والضمير في ‏{‏فاجتنبوه‏}‏ راجع إلى الرجس أو إلى المذكور‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ علة لما قبله‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ أكد تحريم الخمر والميسر وجوهاً من التأكيد، منها تصدير الجملة بإنما، ومنها أنه قرنهما بعبادة الأصنام ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «شارب الخمر كعابد الوثن»، ومنها أنه جعلهما رجساً، كما قال‏:‏ ‏{‏فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏، ومنها أنه جعلهما من عمل الشيطان، والشيطان لا يأتي منه إلا الشرّ البحت، ومنها أنه أمر بالاجتناب، ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الارتكاب خيبة ومحقة، ومنها أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال، وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمر، وما يؤديان إليه من الصدّ عن ذكر الله، وعن مراعاة أوقات الصلوات انتهى‏.‏

وفي هذه الآية دليل على تحريم الخمر لما تضمنه الأمر بالاجتناب من الوجوب وتحريم الصدّ، ولما تقرّر في الشريعة من تحريم قربان الرجس، فضلاً عن جعله شراباً يشرب‏.‏ قال أهل العلم من المفسرين وغيرهم‏:‏ كان تحريم الخمر بتدريج ونوازل كثيرة، لأنهم كانوا قد ألفوا شربها وحببها الشيطان إلى قلوبهم، فأوّل ما نزل في أمرها ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏ فترك عند ذلك بعص من المسلمين شربها، ولم يتركه آخرون، ثم نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏ فتركها البعض أيضاً، وقالوا لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها البعض في غير أوقات الصلاة، حتى نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الخمر والميسر‏}‏ فصارت حراماً عليهم، حتى كان يقول بعضهم ما حرّم الله شيئاً أشدّ من الخمر، وذلك لما فهموه من التشديد فيما تضمنته هذه الآية من الزواجر، وفيما جاءت به الأحاديث الصحيحة من الوعيد لشاربها، وأنها من كبائر الذنوب‏.‏

وقد أجمع على ذلك المسلمون إجماعاً لا شك فيه ولا شبهة، وأجمعوا أيضاً على تحريم بيعها والانتفاع بها ما دامت خمراً، وكما دلت هذه الآية على تحريم الخمر، دلت أيضاً على تحريم الميسر، والأنصاب، والأزلام‏.‏ وقد أشارت هذه الآية إلى ما في الخمر والميسر من المفاسد الدنيوية بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء‏}‏ ومن المفاسد الدينية بقوله‏:‏ ‏{‏وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة‏}‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ‏}‏ فيه زجر بليغ يفيده الاستفهام الدال على التقريع والتوبيخ‏.‏ ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما سمع هذا‏:‏ انتهينا، ثم أكد الله سبحانه هذا التحريم بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا‏}‏ أي مخالفتهما أي مخالفة الله ورسوله، فإن هذا وإن كان أمراً مطلقاً فالمجيء به في هذا الموضع يفيد ما ذكرناه من التأكيد، وهكذا ما أفاده بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين‏}‏ أي‏:‏ إن أعرضتم عن الامتثال، فقد فعل الرسول ما هو الواجب عليه من البلاغ الذي فيه رشادكم وصلاحكم، ولم تضرّوا بالمخالفة إلا أنفسكم، وفي هذا من الزجر ما لا يقدر قدره ولا يبلغ مداه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَى الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ‏}‏ أي من المطاعم التي يشتهونها، والطعم وإن كان استعماله في الأكل أكثر لكنه يجوز استعماله في الشرب، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 249‏]‏ أباح الله سبحانه لهم في هذه الآية جميع ما طعموا كائناً ما كان مقيداً بقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا مَا اتقوا‏}‏ أي اتقوا ما هو محرّم عليهم كالخمر وغيره من الكبائر، وجميع المعاصي ‏{‏وَءامَنُواْ‏}‏ بالله ‏{‏وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ من الأعمال التي شرعها الله لهم‏:‏ أي استمروا على عملها‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اتَّقَواْ‏}‏ عطف على اتقوا الأوّل، أي اتقوا ما حرّم عليهم بعد ذلك مع كونه كان مباحاً فيما سبق ‏{‏وَءامَنُواْ‏}‏ بتحريمه ‏{‏ثُمَّ اتَّقَواْ‏}‏ ما حرّم عليهم بعد التحريم المذكور قبله مما كان مباحاً من قبل ‏{‏وَأَحْسِنُواْ‏}‏ أي عملوا الأعمال الحسنة، هذا معنى الآية؛ وقيل‏:‏ التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة؛ وقيل‏:‏ إن التكرير باعتبار المراتب الثلاث، المبدأ، والوسط، والمنتهى؛ وقيل‏:‏ إن التكرار باعتبار ما يتقيه الإنسان، فإنه ينبغي له أن يترك المحرّمات توقياً من العذاب، والشبهات توقياً من الوقوع في الحرام، وبعض المباحات حفظاً للنفس عن الخسة؛ وقيل إنه لمجرّد التأكيد، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 3، 4‏]‏، هذه الوجوه كلها مع قطع النظر عن سبب نزول الآية إما مع النظر إلى سبب نزولها، وهو أنه لما نزل تحريم الخمر، قال قوم من الصحابة‏:‏ كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر‏؟‏ فنزلت، فقد قيل‏:‏ إن المعنى ‏{‏اتقوا‏}‏ الشرك ‏{‏وَءامَنُواْ‏}‏ بالله ورسوله ‏{‏ثُمَّ اتَّقَواْ‏}‏ الكبائر ‏{‏وَءامَنُواْ‏}‏ أي ازدادوا إيماناً ‏{‏ثُمَّ اتَّقَواْ‏}‏ الصغائر ‏{‏وَأَحْسِنُواْ‏}‏ أي تنفلوا‏.‏ قال ابن جرير الطبري‏:‏ الاتقاء الأول‏:‏ هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل، والاتقاء الثاني‏:‏ الاتقاء بالثبات على التصديق، والثالث‏:‏ الاتقاء بالإحسان والتقرّب بالنوافل‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، عن ابن عمر قال‏:‏ نزل في الخمر ثلاث آيات، فأول شيء‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏ الآية، فقيل‏:‏ حرّمت الخمر، فقيل‏:‏ يا رسول الله دعنا ننتفع بها كما قال الله، فسكت عنهم، ثم نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏، فقيل‏:‏ حرّمت الخمر، فقالوا‏:‏ يا رسول الله لا نشربها قرب الصلاة، فسكت عنهم، ثم نزلت‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر‏}‏ الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «حرّمت الخمر» وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال‏:‏ حرّمت الخمر ثلاث مرات، وذكر نحو حديث ابن عمر، فقال الناس‏:‏ يا رسول الله، ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على فراشهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجساً من عمل الشيطان، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَى الذين ءامَنُواْ‏}‏ الآية، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو حرّم عليهم لتركوه كما تركتم» وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في ناسخه، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ فيّ نزل تحريم الخمر، صنع رجل من الأنصار طعاماً، فدعا ناساً، فأتوه، فأكلوا وشربوا، حتى انتشوا من الخمر، وذلك قبل تحريم الخمر فتفاخروا، فقالت الأنصار‏:‏ الأنصار خير من المهاجرين، وقالت قريش‏:‏ قريش خير، فأهوى رجل بلحى جمل فضرب على أنفي، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس قال‏:‏ أنزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا، فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل يرى الرجل منهم الأثر بوجهه وبرأسه ولحيته، فيقول صنع بي هذا أخي فلان وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، والله لو كان بي رؤوفاً رحيماً ما صنع بي هذا حتى وقعت الضغائن في قلوبهم، فأنزل الله هذه الآية‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ‏}‏ فقال ناس من المتكلفين‏:‏ هي رجس، وهي في بطن فلان قتل يوم بدر، وفلان قتل يوم أحد‏؟‏ فأنزل الله هذه الآية‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَى الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ‏}‏ الآية‏.‏ وقد رويت في سبب النزول روايات كثيرة موافقة لما قد ذكرناه‏.‏

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال‏:‏ الميسر هو القمار كله‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن وهب بن كيسان قال‏:‏ قلت لجابر متى حرّمت الخمر‏؟‏ قال‏:‏ بعد أحد‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة قال‏:‏ نزل تحريم الخمر في سورة المائدة، بعد غزوة الأحزاب‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والطبراني، وأبو الشيخ، عن ابن عباس قال‏:‏ كل القمار من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر، عن عليّ بن أبي طالب قال‏:‏ النرد والشطرنج من الميسر‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن عليّ قال‏:‏ الشطرنج ميسر الأعاجم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن القاسم بن محمد، أنه سئل عن النرد أهي من الميسر‏؟‏ قال‏:‏ كل من ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في ذمّ الملاهي، والبيهقي في الشعب، عنه أيضاً أنه قيل له‏:‏ هذه النرد تكرهونها فما بال الشطرنج‏؟‏ قال‏:‏ كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو من الميسر‏.‏ وأخرجوا أيضاً عن ابن الزبير قال‏:‏ يا أهل مكة بلغني عن رجال يلعبون بلعبة يقال لها النردشير، والله يقول في كتابه‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ‏}‏ وإني أحلف بالله لا أوتى بأحد يلعب بها إلا عاقبته في شعره وبشره، وأعطيت سلبه من أتاني به‏.‏

وأخرج ابن أبي الدنيا عن مالك بن أنس قال‏:‏ الشطرنج من النرد، بلغنا عن ابن عباس أنه ولي مال يتيم فأحرقها‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا، عن عبد الله بن عمير قال‏:‏ سئل ابن عمر عن الشطرنج‏؟‏ فقال هي شرّ من النرد‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا، عن عبد الملك بن عبيد قال‏:‏ رأى رجل من أهل الشام أنه يغفر لكل مؤمن في كل يوم اثنتي عشرة مرّة إلا أصحاب الشاه، يعني أصحاب الشطرنج‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي جعفر أنه سئل عن الشطرنج، فقال تلك المجوسية فلا تلعبوا بها‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من لعب بالنردشير فقد عصى الله ورسوله» وأخرج أحمد عن عبد الرحيم الخطمي، سمعت رسول الله يقول‏:‏ «مثل الذي يلعب بالنرد ثم يقوم فيصلي مثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي» وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ اللاعب بالنرد قماراً كآكل لحم الخنزير، واللاعب بها من غير قمار كالمدّهن بودك الخنزير‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا، عن يحيى بن كثير قال‏:‏ مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم يلعبون بالنرد فقال‏:‏ «قلوب لاهية وأيدي عليلة وألسنة لاغية» وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وأبو الشيخ، عن قتادة قال‏:‏ الميسر القمار‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، من طريق ليث عن عطاء وطاوس، ومجاهد قالوا‏:‏ كل شيء فيه قمار، فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، وأبو الشيخ عن ابن سيرين قال‏:‏ القمار من الميسر‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا، وأبو الشيخ، عنه قال‏:‏ ما كان من لعب فيه قمار، أو قيام أو صياح، أو شرّ، فهو من الميسر‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن يزيد بن شريح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ثلاث من الميسر‏:‏ الصفير بالحمام، والقمار، والضرب بالكعاب» وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ الأنصاب حجارة كانوا يذبحون لها، والأزلام‏:‏ قداح كانوا يستقسمون بها الأمور‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال‏:‏ كانت لهم حصيات إذا أراد أحدهم أن يغزو أو يجلس استقسم بها‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في الأزلام قال‏:‏ هي كعاب فارس التي يقتمرون بها، وسهام العرب‏.‏ وقد وردت أحاديث كثيرة في ذمّ الخمر وشاربها، والوعيد الشديد عليها، وأن كل مسكر حرام، وهي مدوّنة في كتب الحديث، فلا نطوّل المقام بذكرها، فلسنا بصدد ذلك، بل نحن بصدد ما هو متعلق بالتفسير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 99‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏94‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏95‏)‏ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏96‏)‏ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏97‏)‏ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏98‏)‏ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَيَبْلُوَنَّكُمُ‏}‏ أي ليختبرنكم، واللام جواب قسم محذوف، كان الصيد أحد معايش العرب فابتلاهم الله بتحريمه مع الإحرام وفي الحرم، كما ابتلى بني إسرائيل أن لا يعتدوا في السبت، وكان نزول الآية في عام الحديبية، أحرم بعضهم وبعضهم لم يحرم، فكان إذا عرض صيدهم اختلفت فيه أحوالهم‏.‏

وقد اختلف العلماء في المخاطبين بهذه الآية، هل هم المحلون أو المحرمون‏؟‏ فذهب إلى الأوّل‏:‏ مالك وإلى الثاني‏:‏ ابن عباس، والراجح أن الخطاب للجميع، ولا وجه لقصره على البعض دون البعض، و«من» في ‏{‏مّنَ الصيد‏}‏ للتبعيض وهو صيد البر، قاله ابن جرير الطبري وغيره؛ وقيل‏:‏ إن «من» بيانية أي شيء حقير من الصيد، وتنكير ‏{‏شيء‏}‏ للتحقير‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ورماحكم‏}‏ قرأ ابن وثاب‏:‏ ‏"‏ يناله ‏"‏ بالياء التحتية، هذه الجملة تقتضي تعميم الصيد، وأنه لا فرق بين ما يؤخذ باليد، وهو ما لا يطيق الفرار كالصغار والبيض، وبين ما تناله الرماح‏:‏ وهو ما يطيق الفرار، وخصّ الأيدي بالذكر لأنها أكثر ما يتصرّف به الصائد في أخذ الصيد، وخص الرماح بالذكر؛ لأنها أعظم الآلات للصيد عند العرب‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب‏}‏ أي‏:‏ ليتميز عند الله من يخافه منكم بسبب عقابه الأخروي فإنه غائب عنكم غير حاضر، ‏{‏فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ أي بعد هذا البيان الذي امتحنكم الله به، لأن الاعتداء بعد العلم بالتحريم معاندة لله سبحانه وتجرئة عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ نهاهم عن قتل الصيد في حال الإحرام، وفي معناه ‏{‏غَيْرَ مُحِلّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ‏}‏ وهذا النهي شامل لكل أحد من ذكور المسلمين وإناثهم، لأنه يقال رجل حرام وامرأة حرام والجمع حرم، وأحرم الرجل‏:‏ دخل في الحرم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً‏}‏ المتعمد‏:‏ هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام، والمخطئ‏:‏ هو الذي يقصد شيئاً فيصيب صيداً، والناسي‏:‏ هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه‏.‏ وقد استدل ابن عباس، وأحمد في رواية، وداود عنه باقتصاره سبحانه على العامد بأنه لا كفارة على غيره، بل لا تجب إلا عليه وحده‏.‏ وبه قال سعيد بن جبير، وطاوس، وأبو ثور‏.‏ وقيل‏:‏ إنها تلزم الكفارة المخطئ والناسي كما تلزم المتعمد، وجعلوا قيد التعمد خارجاً مخرج الغالب، روي عن عمر، والحسن، والنخعي، والزهري، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم، وروي عن ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ إنه يجب التكفير على العامد الناسي لإحرامه، وبه قال مجاهد، قال‏:‏ فإن كان ذاكراً لإحرامه فقد حلّ، ولا حج له، لارتكابه محظور إحرامه، فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة أو أحدث فيها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم‏}‏ أي فعليه جزاء مماثل لما قتله، و‏{‏من النعم‏}‏ بيان للجزاء المماثل‏.‏ قيل‏:‏ المراد المماثلة في القيمة، وقيل‏:‏ في الخلقة‏.‏ وقد ذهب إلى الأوّل‏:‏ أبو حنيفة، وذهب إلى الثاني‏:‏ مالك والشافعي وأحمد والجمهور، وهو الحق لأن البيان المماثل للنعم يفيد ذلك، وكذلك يفيده هدياً بالغ الكعبة‏.‏ وروي عن أبي حنيفة أنه يجوز إخراج القيمة ولو وجد المثل، وأن المحرم مخير‏.‏ وقرئ‏:‏ «فَجَزَاؤُهُ مّثْلُ مَا قَتَلَ» وقرئ‏:‏ «فَجَزَاء مّثْلُ» على إضافة جزاء إلى مثل، وقرئ بنصبهما على تقدير فليخرج جزاء مثل ما قتل، وقرأ الحسن «النعم» بسكون العين تخفيفاً‏.‏ ‏{‏يَحْكُمُ بِهِ‏}‏ أي بالجزاء أو بمثل ما قتل ‏{‏ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ‏}‏ أي رجلان معروفان بالعدالة بين المسلمين، فإذا حكما بشيء لزم، وإن اختلفا رجع إلى غيرهما، ولا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين وقيل يجوز، وبالأوّل قال أبو حنيفة، وبالثاني قال الشافعي في أحد قوليه‏:‏ وظاهر الآية يقتضي حكمين غير الجاني‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏هَدْياً بالغ الكعبة‏}‏ نصب هدياً على الحال، أو البدل من ‏{‏مثل‏}‏، و‏{‏بالغ الكعبة‏}‏ صفة لهدياً؛ لأن الإضافة غير حقيقية، والمعنى‏:‏ أنهما إذا حكما بالجزاء فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الإرسال إلى مكة والنحر هنالك، والإشعار والتقليد، ولم يرد الكعبة بعينها، فإن الهدي لا يبلغها، وإنما أراد الحرم، ولا خلاف في هذا‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ كَفَّارَةٌ‏}‏ معطوف على محل من النعم‏:‏ وهو الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف، و‏{‏طَعَامُ مساكين‏}‏ عطف بيان لكفارة، أو بدل منه، أو خبر مبتدأ محذوف ‏{‏أَو عَدْلُ ذلك‏}‏ معطوف على طعام‏.‏ وقيل هو معطوف على جزاء، وفيه ضعف، فالجاني مخير بين هذه الأنواع المذكورة، وعدل الشيء ما عادله من غير جنسه، و‏{‏صِيَاماً‏}‏ منصوب على التمييز، وقد قرّر العلماء عدل كل صيد من الإطعام والصيام، وقد ذهب إلى أن الجاني يخير بين الأنواع المذكورة جمهور العلماء‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه لا يجزئ المحرم الإطعام والصوم إلا إذا لم يجد الهدي‏.‏ والعدل بفتح العين وكسرها لغتان، وهما الميل قاله الكسائي‏.‏ وقال الفراء‏:‏ عدل الشيء بكسر العين مثله من جنسه، وبفتح العين مثله من غير جنسه، وبمثل قول الكسائي قال البصريون‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ‏}‏ عليه لإيجاب الجزاء‏:‏ أي أوجبنا ذلك عليه ليذوق وبال أمره، والذوق مستعار لإدراك المشقة، ومثله‏:‏ ‏{‏ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 49‏]‏ والوبال‏:‏ سوء العاقبة، والمرعى الوبيل‏:‏ الذي يتأذى به بعد أكله، وطعام وبيل‏:‏ إذا كان ثقيلاً‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏عَفَا الله عَمَّا سَلَف‏}‏ يعني في جاهليتكم من قتلكم للصيد‏.‏ وقيل عما سلف قبل نزول الكفارة ‏{‏وَمَنْ عَادَ‏}‏ إلى ما نهيتم عنه من قتل الصيد بعد هذا البيان ‏{‏فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف؛ أي فهو ينتقم الله منه‏.‏

وقيل المعنى‏:‏ إن الله ينتقم منه في الآخرة فيعذبه بذنبه‏.‏ وقيل‏:‏ ينتقم منه بالكفارة‏.‏ قال شريح وسعيد بن جبير‏:‏ يحكم عليه في أوّل مرة، فإذا عاد لم يحكم عليه بل يقال له‏:‏ اذهب ينتقم الله منك‏:‏ أي ذنبك أعظم من أن يكفر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر‏}‏ الخطاب لكل مسلم أو للمحرمين خاصة، وصيد البحر ما يصاد فيه؛ والمراد بالبحر هنا كل ماء يوجد فيه صيد بحريّ وإن كان نهراً أو غديراً‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَطَعَامُهُ متاعا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ‏}‏ الطعام لكل ما يطعم، وقد تقدّم‏.‏ وقد اختلف في المراد به هنا فقيل‏:‏ هو ما قذف به البحر وطفا عليه، وبه قال كثير من الصحابة والتابعين؛ وقيل طعامه ما ملح منه وبقي، وبه قال جماعة، وروي عن ابن عباس؛ وقيل طعامه ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات وغيره، وبه قال قوم‏.‏ وقيل المراد به ما يطعم من الصيد‏:‏ أي ما يحل أكله وهو السمك فقط، وبه قالت الحنفية‏.‏ والمعنى‏:‏ أحلّ لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر، وأحلّ لكم المأكول منه وهو السمك، فيكون التخصيص بعد التعميم، وهو تكلف لا وجه له، ونصب ‏{‏متاعاً‏}‏ على أنه مصدر‏:‏ أي متعتم به متاعاً، وقيل‏:‏ مفعول له مختص بالطعام‏:‏ أي أحلّ لكم طعام البحر متاعاً، وهو تكلف جاء به من قال بالقول الأخير، بل إذا كان مفعولاً له كان من الجميع، أي أحلّ لكم مصيد البحر وطعامه تمتيعاً لكم، أي لمن كان مقيماً منكم يأكله طرياً ‏{‏وَلِلسَّيَّارَةِ‏}‏ أي المسافرين منكم يتزوّدونه ويجعلونه قديداً، وقيل السيارة‏:‏ هم الذين يركبونه خاصة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً‏}‏ أي حرّم عليكم ما يصاد في البر ما دمتم محرمين، وظاهره تحريم صيده على المحرم ولو كان الصائد حلالاً، وإليه ذهب الجمهور إن كان الحلال صاده للمحرم لا إذا لم يصده لأجله، وهو القول الراجح، وبه يجمع بين الأحاديث؛ وقيل إنه يحلّ له مطلقاً، وإليه ذهب جماعة‏:‏ وقيل يحرم عليه مطلقاً، وإليه ذهب آخرون، وقد بسطنا هذا في شرحنا للمنتقى‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏واتقوا الله الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ أي اتقوا الله فيما نهاكم عنه‏.‏ ‏{‏الذي إليه تحشرون‏}‏ لا إلى غيره، وفيه تشديد ومبالغة في التحذير‏.‏ وقرئ‏:‏ «وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر» بالبناء للفاعل وقرئ «مَا دُمْتُمْ» بكسر الدال‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لّلنَّاسِ‏}‏ جعل هنا بمعنى خلق، وسميت الكعبة كعبة لأنها مربعة، والتكعيب التربيع، وأكثر بيوت العرب مدورة لا مربعة؛ وقيل سميت كعبة لنتوئها وبروزها، وكل بارز كعب مستديراً كان أو غير مستدير، ومنه كعب القدم، وكعوب القنا، وكعب ثدي المرأة، و‏{‏البيت الحرام‏}‏ عطف بيان، وقيل‏:‏ مفعول ثان ولا وجه له، وسمي بيتاً؛ لأن له سقوفاً وجدراً وهي حقيقة البيت، وإن لم يكن به ساكن، وسمي حراماً لتحريم الله سبحانه إياه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قِيَاماً لّلنَّاسِ‏}‏ كذا قرأ الجمهور، وقرأ ابن عامر «قَيِّماً» وهو منصوب على أنه المفعول الثاني إن كان جعل هو المتعدي إلى مفعولين، وإن كان بمعنى خلق كما تقدّم، فهو منتصب على الحال، ومعنى كونه قياماً‏:‏ أنه مدار لمعاشهم ودينهم‏:‏ أي يقومون فيه بما يصلح دينهم ودنياهم‏:‏ يأمن فيه خائفهم، وينصر فيه ضعيفهم، ويربح فيه تجارهم، ويتعبد فيه متعبدهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏والشهر الحرام‏}‏ عطف على الكعبة، وهو ذو الحجة، وخصه من بين الأشهر الحرم؛ لكونه زمان تأدية الحج، وقيل‏:‏ هو اسم جنس‏.‏ والمراد به‏:‏ الأشهر الحرم، ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرّم، ورجب، فإنهم كانوا لا يطلبون فيها دماً، ولا يقاتلون بها عدواً، ولا يهتكون فيها حرمة، فكانت من هذه الحيثية قياماً للناس ‏{‏والهدى والقلائد‏}‏ أي وجعل الله الهدي والقلائد قياماً للناس‏.‏ والمراد بالقلائد‏:‏ ذوات القلائد من الهدي، ولا مانع من أن يراد بالقلائد أنفسها، والإشارة بذلك إلى الجعل أي ذلك الجعل ‏{‏لِتَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ أي لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل أمر السموات والأرض، ويعلم مصالحكم الدينية والدنيوية فإنها من جملة ما فيهما، فكل ما شرعه لكم فهو جلب لمصالحكم، ودفع لما يضرّكم ‏{‏وَأَنَّ الله بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ‏}‏ هذا تعميم بعد التخصيص، ثم أمرهم بأن يعلموا بأن الله لمن انتهك محارمه ولم يتب عن ذلك شديد العقاب، وأنه لمن تاب وأناب غفور رحيم، ثم أخبرهم أن ما على رسوله إلا البلاغ لهم، فإن لم يمتثلوا ويطيعوا فما ضرّوا إلا أنفسهم، وما جنوا إلا عليها، وأما الرسول عليه الصلاة والسلام فقد فعل ما يجب عليه، وقام بما أمره الله به‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً‏}‏ قال‏:‏ إن قتله متعمداً أو ناسياً أو خطأ حكم عليه، فإن عاد متعمداً عجلت له العقوبة إلا أن يعفو الله عنه، وفي قوله‏:‏ ‏{‏فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم‏}‏ قال‏:‏ إذا قتل المحرم شيئاً من الصيد حكم عليه فيه، فإن قتل ظبياً أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، فإن قتل أيلاً ونحوه فعليه بقرة، فإن لم يجد أطعم عشرين مسكيناً، فإن لم يجد صام عشرين يوماً، وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحوه فعليه بدنة، فإن لم يجد أطعم ستين مسكيناً، فإن لم يجد صام ثلاثين يوماً، والطعام مدّ يشبعهم‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم، عن الحكم، أن عمر كتب أن يحكم عليه في الخطأ والعمد‏.‏ وأخرجا نحوه عن عطاء‏.‏ وقد روي نحو هذا عن جماعات من السلف، من غير فرق بين العامد والخاطئ والناسي، وروي عن آخرين اختصاص ذلك بالعامد‏.‏ وللسلف في تقدير الجزاء المماثل، وتقدير القيمة أقوال مبسوطة في مواطنها‏.‏

وأخرج أبو الشيخ، عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في بيضة النعام‏:‏ ‏"‏ صيام يوم أو إطعام مسكين ‏"‏ وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن ذكوان، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله‏.‏ وأخرج أيضاً عن عائشة، عنه صلى الله عليه وسلم نحوه‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، من طريق أبي المهزّم عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ في بيض النعام ثمنه ‏"‏ وقد استثنى النبي صلى الله عليه وسلم من حيوانات الحرم الخمس الفواسق، كما ورد ذلك في الأحاديث فإنه يجوز للمحرم أن يقتلها ولا شيء عليه‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ متاعا لَّكُمْ‏}‏ ‏"‏ ما لفظه ميتاً فهو طعامه ‏"‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة موقوفاً مثله‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن أبي بكر الصدّيق نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عكرمة أن أبا بكر الصدّيق قال في قوله‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ‏}‏ قال‏:‏ صيد البحر ما تصطاده أيدينا، وطعامه مالاثه البحر، وفي لفظ «طعامه كل ما فيه»‏.‏ وفي لفظ «طعامه ميتته»‏.‏ ويؤيد هذا ما في الصحيحين من حديث العنبرة التي ألقاها البحر فأكل الصحابة منها، وقرّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وحديث هو‏:‏ ‏"‏ الطهور ماؤه والحل ميتته ‏"‏ وحديث‏:‏ ‏"‏ أحلّ لكم ميتتان ودمان ‏"‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لّلنَّاسِ‏}‏ قال‏:‏ قياماً لدينهم ومعالم حجهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عنه قال‏:‏ قيامها أن يأمن من توجه إليها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن شهاب قال‏:‏ جعل الله الكعبة البيت الحرام والشهر الحرام قياماً للناس يأمنون به في الجاهلية الأولى، لا يخاف بعضهم من بعض حين يلقونهم عند البيت، أو في الحرم، أو في الشهر الحرام‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لّلنَّاسِ والشهر الحرام والهدى والقلائد‏}‏ قال‏:‏ حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية، فكان الرجل لو جرّ كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يقرب، وكان الرجل لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام، لم يعرض له ولم يقربه، وكان الرجل لو لقي الهدي مقلداً وهو يأكل العصب من الجوع لم يعرض له ولم يقربه، وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادة من شعر، فحمته ومنعته من الناس، وكان إذا نفر تقلد قلادة من الأذخر أو من السمر، فتمنعه من الناس حتى يأتي أهله حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية‏.‏

وأخرج أبو الشيخ، عن زيد بن أسلم ‏{‏قِيَاماً لّلنَّاسِ‏}‏ قال أمنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 104‏]‏

‏{‏قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏100‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏101‏)‏ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ‏(‏102‏)‏ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏103‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

قيل المراد بالخبيث والطيب‏:‏ الحرام والحلال، وقيل المؤمن والكافر، وقيل العاصي والمطيع، وقيل الرديء والجيد‏.‏ والأولى أن الاعتبار بعموم اللفظ فيشمل هذه المذكورات وغيرها مما يتصف بوصف الخبث والطيب من الأشخاص والأعمال والأقوال، فالخبيث لا يساوي الطيب بحال من الأحوال‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث‏}‏ قيل الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل لكل مخاطب يصلح لخطابه بهذا‏.‏ والمراد‏:‏ نفي الاستواء في كل الأحوال، ولو في حال كون الخبيث معجباً للرائي للكثرة التي فيه، فإن هذه الكثرة مع الخبيث في حكم العدم، لأن خبث الشيء يبطل فائدته، ويمحو بركته، ويذهب بمنفعته، والواو إما للحال أو للعطف على مقدّر‏:‏ أي لا يستوي الخبيث والطيب، لو لم تعجبك كثرة الخبيث، ولو أعجبك كثرة الخبيث، كقولك أحسن إلى فلان، وإن أساء إليك، أي أحسن إليه إن لم يسئ إليك، وإن أساء إليك، وجواب «لو» محذوف‏:‏ أي ولو أعجبك كثرة الخبيث فلا يستويان‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ياأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ‏}‏ أي لا تسألوا عن أشياء لا حاجة لكم بالسؤال عنها، ولا هي مما يعنيكم في أمر دينكم، فقوله‏:‏ ‏{‏إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ‏}‏ في محل جر صفة لأشياء أي لا تسألوا عن أشياء متصفة بهذه الصفة من كونها إذا بدت لكم أي ظهرت وكلفتم بها ساءتكم، نهاهم الله عن كثرة مساءلتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن السؤال عما لا يعني ولا تدعو إليه حاجة قد يكون سبباً لإيجابه على السائل وعلى غيره‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُم‏}‏ هذه الجملة من جملة صفة أشياء، والمعنى‏:‏ لا تسألوا عن أشياء إن تسألوا عنها حين ينزل القرآن، وذلك مع وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، ونزول الوحي عليه ‏{‏تُبْدَ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ تظهر لكم بما يجيب عليكم به النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو ينزل به الوحي، فيكون ذلك سبباً للتكاليف الشاقة وإيجاب ما لم يكن واجباً وتحريم ما لم يكن محرّماً، بخلاف السؤال عنها بعد انقطاع الوحي بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا إيجاب ولا تحريم يتسبب عن السؤال‏.‏

وقد ظنّ بعض أهل التفسير، أن الشرطية الثانية فيها إباحة السؤال، مع وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي عليه، فقال‏:‏ إن الشرطية الأولى أفادت عدم جواز السؤال، والثانية أفادت جوازه، فقال إن المعنى‏:‏ وإن تسألوا عن غيرها مما مست إليه الحاجة تبد لكم بجواب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، وجعل الضمير في ‏{‏عَنْهَا‏}‏ راجعاً إلى أشياء غير الأشياء المذكورة، وجعل ذلك كقوله‏:‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 12‏]‏ وهو‏:‏ آدم، ثم قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جعلناه نُطْفَةً‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 13‏]‏ أي‏:‏ ابن آدم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏عَفَا الله عَنْهَا‏}‏ أي عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى ذلك‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ إن تلك الأشياء التي سألتم عنها هي مما عفا عنه، ولم يوجبه عليكم، فكيف تتسببون بالسؤال لإيجاب ما هو عفو من الله غير لازم‏؟‏ وضمير ‏{‏عَنْهَا‏}‏ عائد إلى المسألة الأولى، وإلى أشياء على الثاني، على أن تكون جملة ‏{‏عفا الله عنها‏}‏ صفة ثالثة لأشياء، والأوّل أولى؛ لأن الثاني يستلزم أن يكون ذلك المسؤول عنه قد شرعه الله ثم عفا عنه، ويمكن أن يقال إن العفو بمعنى الترك أي تركها الله ولم يذكرها بشيء فلا تبحثوا عنها، وهذا معنى صحيح لا يستلزم ذلك اللازم الباطل، ثم جاء سبحانه بصيغة المبالغة في كونه غفوراً حليماً ليدلّ بذلك على أنه لا يعاجل من عصاه بالعقوبة؛ لكثرة مغفرته وسعة حلمه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كافرين‏}‏ الضمير‏:‏ يرجع إلى المسألة المفهومة من ‏{‏لاَ تَسْأَلُواْ‏}‏ لكن ليست هذه المسألة بعينها، بل مثلها في كونها مما لا حاجة إليه، ولا توجبه الضرورة الدينية ثم لم يعملوا بها، بل أصبحوا بها كافرين أي ساترين لها تاركين للعمل بها، وذلك كسؤال قوم صالح الناقة، وأصحاب عيسى المائدة، ولا بد من تقييد النهي في هذه الآية بما لا تدعو إليه حاجة كما قدمنا، لأن الأمر الذي تدعو الحاجة إليه في أمور الدين والدنيا، قد أذن الله بالسؤال عنه فقال‏:‏ ‏{‏فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 7‏]‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قاتلهم الله ألا سألوا فإنما شفاء العيّ السؤال» قوله‏:‏ ‏{‏مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ‏}‏ هذا كلام مبتدأ يتضمن الردّ على أهل الجاهلية فيما ابتدعوه، وجعل ههنا بمعنى سمي كما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّا جعلناه قُرْءاناً عَرَبِيّاً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 3‏]‏‏.‏ والبحيرة‏:‏ فعيلة بمعنى مفعولة كالنطيحة والذبيحة، وهي مأخوذة من البحر، وهو شقّ الأذن، قال ابن سيده‏:‏ البحيرة هي التي خليت بلا راع؛ قيل‏:‏ هي التي يجعل درّها للطواغيت، فلا يحتلبها أحد من الناس، وجعل شق أذنها علامة لذلك‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثاً بحرت أذنها فحرّمت‏.‏ وقيل إن الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، فإن كان الخامس ذكراً، بحروا أذنه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى، بحروا أذنها وكانت حراماً على النساء لحمها ولبنها‏.‏ وقيل‏:‏ إذا نتجت الناقة خمسة أبطن من غير تقييد بالإناث شقوا أذنها وحرّموا ركوبها ودرّها‏.‏ والسائبة‏:‏ الناقة تسيب، أو البعير يسيب نذر على الرجل إن سلمه الله من مرض أو بلغه منزلة، فلا يحبس عن رعي ولا ماء، ولا يركبه أحد قاله أبو عبيد‏.‏

قال الشاعر‏:‏

وسائبة لله تنمي تشكرا *** إن الله عافا عامراً ومجاشعا

وقيل‏:‏ هي التي تسيب لله فلا قيد عليها ولا راعي لها، ومنه قول الشاعر‏:‏

عقرتم ناقة كانت لربي *** مسيبة فقوموا للعقاب

وقيل‏:‏ هي التي تابعت بين عشر إناث ليس بينهنّ ذكر، فعند ذلك لا يركب ظهرها، ولا يجزّ وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يسيبون العبد، فيذهب حيث يشاء لا يد عليه لأحد‏.‏ والوصيلة‏:‏ قيل هي الناقة إذا ولدت أنثى بعد أنثى‏.‏ وقيل هي الشاة كانت إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم، وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا‏:‏ وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا فإن كان السابع ذكراً ذبح فأكل منه الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبح لمكانها، وكان لحمها حراماً على النساء، إلا أن يموت فيأكلها الرجال والنساء‏.‏ والحام‏:‏ الفحل الحامي ظهره عن أن يركب، وكانوا إذا ركب ولد الفحل قالوا حمى ظهره فلا يركب، قال الشاعر‏:‏

حماها أبو قابوس في عز ملكه *** كما قد حمى أولاد أولاده الفحل

وقيل‏:‏ هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة، قالوا‏:‏ قد حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء، ثم وصفهم الله سبحانه بأنهم ما قالوا ذلك إلا افتراء على الله وكذباً، لا لشرع شرعه الله لهم، ولا لعقل دلهم عليه، وسبحان الله العظيم ما أركّ عقول هؤلاء وأضعفها‏؟‏ يفعلون هذه الأفاعيل التي هي محض الرقاعة، ونفس الحمق ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا‏}‏ وهذا أفعال آبائهم وسننهم التي سنوها لهم، وصدق الله سبحانه حيث يقول‏:‏ ‏{‏أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُون‏}‏ أي‏:‏ ولو كانوا جهلة ضالين، والواو للحال دخلت عليها همزة الاستفهام‏.‏ وقيل للعطف على جملة مقدّرة أي أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم‏.‏ وقد تقدّم الكلام على مثل هذه الآية في البقرة‏.‏ وقد صارت هذه المقالة التي قالتها الجاهلية نصب أعين المقلدة وعصاهم التي يتوكؤون عليها إن دعاهم داعي الحق وصرخ لهم صارخ الكتاب والسنة فاحتجاجهم بمن قلدوه ممن هو مثلهم في التعبد بشرع الله، مع مخالفة قوله لكتاب الله، أو لسنة رسوله، هو كقول هؤلاء، وليس الفرق إلا في مجرّد العبارة اللفظية، لا في المعنى الذي عليه تدور الإفادة والاستفادة، اللهمّ غفراً‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في الآية‏:‏ قال الخبيث هم المشركون، والطيب هم المؤمنون، وأخرج البخاري ومسلم، وغيرهما، عن أنس قال‏:‏ خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، فقال رجل‏:‏ من أبي‏؟‏ فقال فلان، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء‏}‏‏.‏

وأخرج البخاري وغيره نحوه من حديث ابن عباس، وقد بين هذا السائل في روايات أخر، أنه عبد الله بن حذافة، وأنه قال‏:‏ من أبي‏؟‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أبوك حذافة» وأخرج ابن حبان، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال‏:‏ «يا أيها الناس إن الله قد افترض عليكم الحجّ»، فقام رجل، فقال‏:‏ أكل عام يا رسول الله‏؟‏ فسكت عنه، فأعادها ثلاث مرات، فقال‏:‏ «لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما قمتم بها، ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»، وذلك أن هذه الآية‏:‏ أعني ‏{‏لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء‏}‏ نزلت في ذلك‏.‏ وقد أخرج عنه نحو هذا ابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه‏.‏ وأخرج ابن جرير، والطبراني، وابن مردويه، عن أبي أمامة الباهلي نحوه‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن أبي مسعود، نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجه وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والدارقطني، والحاكم، وابن مردويه، عن عليّ نحوه، وكل هؤلاء صرحوا في أحاديثهم أن الآية نزلت في ذلك‏.‏

وأخرج البخاري ومسلم، وغيرهما، عن سعد بن أبي وقاص، قال‏:‏ كانوا يسألون عن الشيء وهو لهم حلال، فما زالوا يسألون حتى يحرم عليهم، وإذا حرّم عليهم وقعوا فيه‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فيحرم من أجل مسألته» وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، عن أبي ثعلبة الخشني قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله حدّ حدوداً فلا تعتدوها، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء في غير نسيان ولكن رحمة لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها» وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء‏}‏ قال‏:‏ البحيرة والسائبة والوصيلة والحام‏.‏ وأخرج البخاري ومسلم، وغيرهما، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ البحيرة التي يمنع درّها للطواغيت، ولا يجلها أحد من الناس؛ والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء؛ والوصيلة الناقة البكر، تبكر في أوّل نتاج الإبل ثم تثني بعد بأنثى‏.‏ وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى، ليس بينهما ذكر؛ والحامي فحل الإبل، يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل، فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال‏:‏ البحيرة الناقة إذا نتجت خمسة أبطن نظروا إلى الخامس، فإن كان ذكراً ونحوه فأكله الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى جدعوا آذانها فقالوا هذه بحيرة‏.‏ وأما السائبة فكانوا يسيبون من أنعامهم لآلهتهم لا يركبون لها ظهراً، ولا يحلبون لها لبناً، ولا يجزون لها وبراً، ولا يحملون عليها شيئاً‏.‏ وأما الوصيلة فالشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظروا إلى السابع، فإن كان ذكراً أو أثنى وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى استحيوها، وإن كان ذكراً أو أنثى في بطن استحيوهما وقالوا وصلته أخته فحرّمته علينا، وأما الحام فالفحل من الإبل إذا ولد لولده قالوا حمى هذا ظهره فلا يحملون عليه شيئاً، ولا يجزون له وبراً، ولا يمنعونه من حمى ولا من حوض يشرب منه، وإن كان الحوض لغير صاحبه‏.‏ وأخرج نحوه عنه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق العوفيّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

أي الزموا أنفسكم أو احفظوها كما تقول عليك زيداً‏:‏ أي الزمه، قرئ ‏"‏ لاَ يَضُرُّكُمْ ‏"‏ بالجزم على أنه جواب الأمر الذي يدلّ عليه اسم الفعل‏.‏ وقرأ نافع وغيره بالرفع على أنه مستأنف، كقول الشاعر‏:‏

فقال رائدهم أرسوا نزاولها *** أو على أن ضم الراء للاتباع، وقرئ‏:‏ ‏{‏لاَ يَضُرُّكُمْ‏}‏ بكسر الضاد، وقرئ‏:‏ «لا يضيركم» والمعنى‏:‏ لا يضركم ضلال من ضلّ من الناس إذا اهتديتم للحق أنتم في أنفسكم، وليس في الآية ما يدلّ على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن من تركه مع كونه من أعظم الفروض الدينية فليس بمهتد‏.‏ وقد قال الله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِذَا اهتديتم‏}‏ وقد دلت الآيات القرآنية، والأحاديث المتكاثرة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوباً مضيقاً متحتماً، فتحمل هذه الآية على من لا يقدر على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو لا يظن التأثير بحال من الأحوال، أو يخشى على نفسه أن يحلّ به ما يضرّه ضرراً يسوغ له معه الترك ‏{‏إلى الله مَرْجِعُكُمْ‏}‏ يوم القيامة ‏{‏فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ في الدنيا فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته‏.‏

وقد أخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد ابن حميد، وأبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والدارقطني والضياء، في المختارة وغيرهم، عن قيس بن أبي حازم قال‏:‏ قام أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏ يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية‏:‏ ‏{‏ياأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم‏}‏ وإنكم تضعونها على غير مواضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب ‏"‏ وفي لفظ لابن جرير عنه‏:‏ ‏"‏ والله لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، أو ليعمنكم الله منه بعقاب ‏"‏ وأخرج الترمذي وصححه، وابن ماجه، وابن جرير، والبغوي في معجمه، وابن أبي حاتم والطبراني، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن أبي أمية الشعثاني قال‏:‏ أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له‏:‏ كيف تصنع في هذه الآية‏؟‏ قال‏:‏ أية آية‏؟‏ قلت‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏ياأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم‏}‏ قال‏:‏ أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهنّ مثل القبض على الجمر، للعامل فيهنّ أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم ‏"‏

وفي لفظ‏:‏ قيل يا رسول الله أجر خمسين رجلاً منا أو منهم‏؟‏ قال‏:‏ «بل أجر خمسين منكم» وأخرج أحمد وابن أبي حاتم، والطبرني وابن مردويه، عن عامر الأشعري أنه كان فيهم أعمى، فاحتبس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه فقال‏:‏ «ما حبسك‏؟‏» قال‏:‏ يا رسول الله قرأت هذه الآية‏:‏ ‏{‏ياأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم‏}‏ قال‏:‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أين ذهبتم‏؟‏ إنما هي لا يضرّكم من ضلّ من الكفار إذا اهتديتم» وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وأبو الشيخ عن الحسن‏:‏ أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله‏:‏ ‏{‏عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم‏}‏ فقال‏:‏ يا أيها الناس إنه ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة، ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا، أو قال‏:‏ فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد عنه في الآية قال‏:‏ «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما لم يكن من دون ذلك السوط والسيف، فإذا كان كذلك فعليكم أنفسكم» وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، عن ابن عمر، أنه قال في هذه الآية‏:‏ إنها لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن رجل قال‏:‏ كنت في خلافة عمر بن الخطاب بالمدينة في حلقة فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيهم شيخ حسبت أنه قال أُبيّ بن كعب، فقرأ ‏{‏عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ فقال‏:‏ إنما تأويلها في آخر الزمان‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن أبي مازن قال‏:‏ انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة، فإذا قوم جلوس فقرأ أحدهم‏:‏ ‏{‏عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ فقال أكثرهم‏:‏ لم يجيء تأويل هذه الآية اليوم‏.‏ وأخرج ابن جرير عن جبير بن نفير قال‏:‏ كنت في حلقة فيها أصحاب النبي وإني لأصغر القوم، فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقلت‏:‏ أليس الله يقول‏:‏ ‏{‏عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ‏}‏‏؟‏ فأقبلوا عليّ بلسان واحد فقالوا‏:‏ تنزع آية من القرآن لا نعرفها ولا ندري ما تأويلها‏؟‏ حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت، ثم أقبلوا يتحدّثون، فلما حضر قيامهم قالوا‏:‏ إنك غلام حدث السن، وإنك نزعت آية لا ندري ما هي‏؟‏ وعسى أن تدرك ذلك الزمان «إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت» وأخرج ابن مردويه، عن معاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو حديث أبي ثعلبة الخشني المتقدّم، وفي آخره «كأجر خمسين رجلاً منكم» وأخرج ابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ ذكرت هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لم يجيء تأويلها، لا يجيء تأويلها حتى يهبط عيسى ابن مريم عليه السلام»، والروايات في هذا الباب كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية، ففيه ما يرشد إلى ما قدمناه من الجمع بين هذه الآية وبين الآيات والأحاديث الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 108‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ ‏(‏106‏)‏ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏107‏)‏ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

قال مكيّ‏:‏ هذه الآيات الثلاث عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنى وحكماً‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ هذا كلام من لم يقع له النتاج في تفسيرها، وذلك بين من كتابه رحمه الله، يعني من كتاب مكي‏.‏ قال القرطبي‏:‏ ما ذكره مكي ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضاً‏.‏ قال السعد في حاشيته على الكشاف‏:‏ واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعراباً ونظماً وحكماً‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏شهادة بَيْنِكُمْ‏}‏ أضاف الشهادة إلى البين توسعاً لأنها جارية بينهم؛ وقيل أصله شهادة ما بينكم فحذفت «ما»، وأضيفت إلى الظرف كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ مَكْرُ اليل والنهار‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 33‏]‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

تصافح من لاقيت لي ذا عداوة *** صفايا وعني بين عينيك منزوي

أراد ما بين عينيك، ومثله قول الآخر‏:‏

ويوماً شهدناه سليماً وعامراً *** أي‏:‏ شهدنا فيه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 78‏]‏ قيل‏:‏ والشهادة هنا بمعنى الوصية؛ وقيل بمعنى الحضور للوصية‏.‏ وقال ابن جرير الطبري‏:‏ هي هنا بمعنى اليمين، فيكون المعنى‏:‏ يمين ما بينكم أن يحلف اثنان، واستدل على ما قاله بأنه لا يعلم لله حكماً يجب فيه على الشاهد يمين‏.‏ واختار هذا القول القفال، وضعف ذلك ابن عطية، واختار أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تؤدى من الشهود‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت‏}‏ ظرف للشهادة، والمراد إذا حضرت علاماته، لأن من مات لا يمكنه الإشهاد، وتقديم المفعول للاهتمام ولكمال تمكن الفاعل عند النفس‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حِينَ الوصية‏}‏ ظرف لحضر أو للموت، أو بدل من الظرف الأوّل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏اثنان‏}‏ خبر شهادة على تقدير محذوف، أي شهادة اثنين أو فاعل للشهادة على أن خبرها محذوف، أي فيما فرض عليكم شهادة بينكم اثنان على تقدير أن يشهد اثنان، ذكر الوجهين أبو عليّ الفارسي‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ‏}‏ صفة للاثنان وكذا منكم أي كائنان منكم، أي من أقاربكم ‏{‏أَوْ آخَرَان‏}‏ معطوف على ‏{‏اثنان‏}‏، و‏{‏مِنْ غَيْرِكُمْ‏}‏ صفة له، أي كائنان من الأجانب؛ وقيل‏:‏ إن الضمير في ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ للمسلمين، وفي ‏{‏غَيْرِكُمْ‏}‏ للكفار وهو الأنسب لسياق الآية، وبه قال أبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس وغيرهما، فيكون في الآية دليل على جواز شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر، في خصوص الوصايا كما يفيده النظم القرآني، ويشهد له السبب للنزول وسيأتي، فإذا لم يكن مع الموصي من يشهد على وصيته من المسلمين فليشهد رجلان من أهل الكفر، فإذا قدما وأدّيا بالشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا ولا بدّلا، وأن ما شهدا به حق، فيحكم حينئذ بشهادتهما ‏{‏فَإِنْ عُثِرَ‏}‏ بعد ذلك ‏{‏على أَنَّهُمَا‏}‏ كذبا أو خانا حلف رجلان من أولياء الموصي وغرم الشاهدان الكافران ما ظهر عليهما من خيانة أو نحوها، هذا معنى الآية عند من تقدم ذكره، وبه قال سعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر، وسعيد بن جبير، وأبو مجلز، والنخعي وشريح، وعبيدة السلماني، وابن سيرين، ومجاهد، وقتادة، والسديّ، والثوري، وأبو عبيد، وأحمد بن حنبل‏.‏

وذهب إلى الأول‏:‏ أعني تفسير ضمير ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ بالقرابة أو العشيرة، وتفسير ‏{‏مِنْ غَيْرِكُمْ‏}‏ بالأجانب الزهري والحسن وعكرمة‏.‏ وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم من الفقهاء أن الآية منسوخة، واحتجوا بقوله‏:‏ ‏{‏مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏ والكفار ليسوا بمرضيين ولا عدول، وخالفهم الجمهور فقالوا‏:‏ الآية محكمة، وهو الحق لعدم وجود دليل صحيح يدل على النسخ‏.‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏ فهما عامان في الأشخاص والأزمان والأحوال، وهذه الآية خاصة بحالة الضرب في الأرض وبالوصية وبحالة عدم الشهود المسلمين، ولا تعارض بين عامّ وخاص‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ أَنتُمْ‏}‏ هو فاعل فعل محذوف يفسره ضربتم، أو مبتدأ وما بعده خبر، والأوّل‏:‏ مذهب الجمهور من النحاة، والثاني‏:‏ مذهب الأخفش والكوفيين، والضرب في الأرض هو السفر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت‏}‏ معطوف على ما قبله وجوابه محذوف؛ أي إن ضربتم في الأرض فنزل بكم الموت، وأردتم الوصية، ولم تجدوا شهوداً عليها مسلمين، ثم ذهبا إلى ورثتكم بوصيتكم وبما تركتم فارتابوا في أمرهما وادّعوا عليها خيانة، فالحكم أن تحبسوهما، ويجوز أن يكون استئنافاً لجواب سؤال مقدّر، كأنهم قالوا‏:‏ فكيف نصنع إن ارتبنا في الشهادة‏؟‏ فقال‏:‏ تحبسونهما من بعد الصلاة إن ارتبتم في شهادتهما‏.‏ وخص بعد الصلاة، أي صلاة العصر، قاله الأكثر لكونه الوقت الذي يغضب الله على من حلف فيه فاجراً كما في الحديث الصحيح‏.‏ وقيل لكونه وقت اجتماع الناس وقعود الحكام للحكومة وقيل صلاة الظهر‏.‏ وقيل‏:‏ أيّ صلاة كانت‏.‏ قال أبو عليّ الفارسي‏:‏ ‏{‏تَحْبِسُونَهُمَا‏}‏ صفة لآخران، واعترض بين الصفة والموصوف بقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الأرض‏}‏، والمراد بالحبس‏:‏ توقيف الشاهدين في ذلك الوقت لتحليفهما، وفيه دليل على جواز الحبس بالمعنى العام، وعلى جواز التغليظ على الحالف بالزمان والمكان ونحوهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَيُقْسِمَانِ بالله‏}‏ معطوف على ‏{‏تَحْبِسُونَهُمَا‏}‏ أي‏:‏ يقسم بالله الشاهدان على الوصية أو الوصيان‏.‏

وقد استدلّ بذلك ابن أبي ليلى على تحليف الشاهدين مطلقاً إذا حصلت الريبة في شهادتهما، وفيه نظر؛ لأن تحليف الشاهدين هنا إنما هو لوقوع الدعوى عليهما بالخيانة أو نحوها‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِنِ ارتبتم‏}‏ جواب هذا الشرط محذوف دلّ عليه ما تقدّم كما سبق‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً‏}‏ جواب القسم، والضمير في ‏{‏بِهِ‏}‏ راجع إلى الله تعالى‏.‏

والمعنى‏:‏ لا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض النزر، فنحلف به كاذبين لأجل المال الذي ادّعيتموه علينا‏.‏ وقيل يعود إلى القسم‏:‏ أي لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضاً من أعراض الدنيا‏.‏ وقيل يعود إلى الشهادة، وإنما ذكر الضمير لأنها بمعنى القول، أي لا نستبدل بشهادتنا ثمناً‏.‏ قال الكوفيون‏:‏ المعنى ذا ثمن، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وهذا مبنيّ على أن العروض لا تسمى ثمناً، وعند الأكثر أنها تسمى ثمناً، كما تسمى مبيعاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ كَانَ ذَا قربى‏}‏ أي ولو كان المقسم له، أو المشهود له قريباً فإنا نؤثر الحق والصدق، ولا نؤثر العرض الدنيوي، ولا القرابة، وجواب ‏"‏ لو ‏"‏ محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي ولو كان ذا قربى، لا نشتري به ثمناً‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله‏}‏ معطوف على ‏{‏لاَ نَشْتَرِى‏}‏ داخل معه في حكم القسم، وأضاف الشهادة إلى الله سبحانه لكونه الآمر بإقامتها والناهي عن كتمها‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقا إِثْماً‏}‏ عثر على كذا‏:‏ اطلع عليه، يقال عثرت منه على خيانة‏:‏ أي اطلعت وأعثرت غيري عليه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 21‏]‏ وأصل العثور الوقوع والسقوط على الشيء، ومنه قول الأعشى‏:‏

بذات لوث عَفَرْناةٍ إذ عثرت *** فالتعس أولى لها من أن أقول لعا

والمعنى‏:‏ أنه إذا اطلع بعد التحليف على أن الشاهدين أو الوصيين استحقا إثماً، أي استوجبا إثماً إما بكذب في الشهادة أو اليمين، أو بظهور خيانة‏.‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ الإثم هنا اسم الشيء المأخوذ لأن آخذه يأثم بأخذه، فسمى إثماً كما سمى ما يؤخذ بغير حق مظلمة‏.‏ وقال سيبويه‏:‏ المظلمة اسم ما أخذ منك فكذلك سمي هذا المأخوذ، باسم المصدر‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا‏}‏ أي فشاهدان آخران أو فحالفان آخران يقومان مقام اللذين عثر على أنهما استحقا إثماً فيشهدان أو يحلفان على ما هو الحق، وليس المراد أنهما يقومان مقامهما في أداء الشهادة التي شهدها المستحقان للإثم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ الأوليان‏}‏ استحق مبنيّ للمفعول، في قراءة الجمهور، وقرأ عليّ وأُبيّ وابن عباس وحفص على البناء للفاعل، و‏{‏الأوليان‏}‏ على القراءة الأولى مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هما الأوليان، كأنه قيل‏:‏ من هما‏؟‏ فقيل هما الأوليان‏.‏ وقيل‏:‏ هو بدل من الضمير في يقومان أو من آخران‏.‏ وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة ‏"‏ الأولين ‏"‏ جمع أول على أنه بدل من الذين، أو من الهاء والميم في عليهم‏.‏ وقرأ الحسن «الأولان»‏.‏ والمعنى على بناء الفعل للمفعول من الذين استحق عليهم الإثم أي جنى عليهم، وهم أهل الميت وعشيرته فإنهم أحق بالشهادة أو اليمين من غيرهم، فالأوليان تثنية أولى‏.‏

والمعنى على قراءة البناء للفاعل‏:‏ من الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة‏.‏ وقيل المفعول محذوف، والتقدير‏:‏ من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَيُقْسِمَانِ‏}‏ بالله عطف على ‏{‏يِقُومَانُ‏}‏ أي فيحلفان بالله لشهادتنا، أي يميننا، فالمراد بالشهادة هنا اليمين، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فشهادة أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهادات بالله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 6‏]‏ أي يحلفان لشهادتنا على أنهما كاذبان خائنان أحق من شهادتهما، أي من يمينهما على أنهما صادقان أمينان ‏{‏وَمَا اعتدينا‏}‏ أي تجاوزنا الحق في يميننا ‏{‏إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظالمين‏}‏ إن كنا حلفنا على باطل‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَا‏}‏ أي ذلك البيان الذي قدمه الله سبحانه، في هذه القصة وعرفنا كيف يصنع من أراد الوصية في السفر‏؟‏ ولم يكن عنده أحد من أهله، وعشيرته، وعنده كفار، أدنى أي أقرب إلى أن يؤدي الشهود المتحملون للشهادة على الوصية بالشهادة على وجهها، فلا يحرّفوا ولا يبدّلوا، ولا يخونوا وهذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر المنفعة والفائدة، في هذا الحكم الذي شرعه الله في هذا الموضع من كتابه؛ فالضمير في ‏{‏يَأْتُواْ‏}‏ عائد إلى شهود الوصية من الكفار‏.‏ وقيل‏:‏ إنه راجع إلى المسلمين المخاطبين بهذا الحكم‏.‏ والمراد تحذيرهم من الخيانة، وأمرهم بأن يشهدوا بالحق‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم‏}‏ أي تردّ على الورثة فيحلفون على خلاف ما شهد به شهود الوصية فيفتضح حينئذ شهود الوصية، وهو معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏أَن يَأْتُواْ‏}‏ فتكون الفائدة في شرع الله سبحانه لهذا الحكم هي أحد الأمرين‏:‏ إما احتراز شهود الوصية عن الكذب والخيانة فيأتون بالشهادة على وجهها، أو يخافوا الافتضاح إذا ردّت الأيمان على قرابة الميت فحلفوا بما يتضمن كذبهم أو خيانتهم فيكون ذلك سبباً لتأدية شهادة شهود الوصية على وجهها من غير كذب ولا خيانة‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏{‏يخافوا‏}‏ معطوف على مقدّر بعد الجملة الأولى، والتقدير‏:‏ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، ويخافوا عذاب الآخرة بسبب الكذب والخيانة، أو يخافوا الافتضاح بردّ اليمين، فأيّ الخوفين وقع حصل المقصود ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في مخالفة أحكامه ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين‏}‏ الخارجين عن طاعته بأيّ ذنب، ومنه الكذب في اليمين أو الشهادة‏.‏

وحاصل ما تضمنه هذا المقام من الكتاب العزيز، أن من حضرته علامات الموت أشهد على وصيته عدلين من عدول المسلمين، فإن لم يجد شهوداً مسلمين، وكان في سفر، ووجد كفاراً جاز له أن يشهد رجلين منهم على وصيته، فإن ارتاب بهما ورثة الموصي حلفاً بالله على أنهما شهدا بالحق، وما كتما من الشهادة شيئاً ولا خانا مما تركه الميت شيئاً، فإن تبين بعد ذلك خلاف ما أقسما عليه من خلل في الشهادة أو ظهور شيء من تركة الميت زعما أنه قد صار في ملكهما بوجه من الوجوه حلف رجلان من الورثة وعمل بذلك‏.‏

وقد أخرج الترمذي وضعفه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والنحاس في تاريخه، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة من طريق أبي النضر، وهو الكلبي، عن باذان مولى أم هانئ عن ابن عباس، عن تميم الداري في هذه الآية‏:‏ ‏{‏يِاأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ شهادة بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت‏}‏ قال‏:‏ برئ الناس منها غيري وغير عديّ بن بداء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتيا الشام لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة، ومعه جام من فضة يريد به الملك، وهو عظم تجارته، فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله؛ قال تميم‏:‏ فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم، ثم اقتسمناه أنا وعديّ بن بداء، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام فسألونا عنه، فقلنا‏:‏ ما ترك غير هذا، أو ما دفع إلينا غيره؛ قال تميم‏:‏ فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، وأدّيت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه، فحلف فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يِاأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ شهادة بَيْنِكُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم‏}‏ فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا، فنزعت الخمسمائة درهم من عديّ بن بداء‏.‏ وفي إسناده أبو النضر، وهو محمد بن السائب الكلبي صاحب التفسير، قال الترمذي‏:‏ تركة أهل العلم بالحديث‏.‏

وأخرج البخاري في تاريخه، والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن المنذر، والنحاس، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس قال‏:‏ خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهميّ بأرض ليس فيها مسلم، فأوصى إليهما فلما قدما بتركته فقدوا جاماً من فضة مخوّصاً بالذهب، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم «بالله ما كتمتماها ولا اطلعتما»، ثم وجدوا الجام بمكة‏.‏ فقيل‏:‏ اشتريناه من تميم وعديّ، فقام رجلان من أولياء السهميّ فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم، وأخذوا الجام، قال‏:‏ وفيهم نزلت‏:‏ ‏{‏يِاأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ شهادة بَيْنِكُمْ‏}‏ الآية، وفي إسناده محمد بن أبي القاسم الكوفي، قال الترمذي‏:‏ قيل‏:‏ إنه صالح الحديث‏.‏ وقد روى ذلك أبو داود من طريقه‏.‏ وقد روى جماعة من التابعين أن هذه القصة هي السبب في نزول الآية، وذكرها المفسرون في تفاسيرهم‏.‏ وقال القرطبي‏:‏ إنه أجمع أهل التفسير على أن هذه القصة هي سبب نزول الآية‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ‏{‏يِاأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ شهادة بَيْنِكُمْ‏}‏ الآية قال‏:‏ هذا لمن مات وعنده المسلمون أمره الله أن يشهد على وصيته عدلين مسلمين‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض‏}‏ فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين، أمر الله بشهادة رجلين من غير المسلمين، فإن ارتيب بشهادتهما استحلفا بالله بعد الصلاة ما اشتريا بشهادتهما ثمناً قليلاً، فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما، وثمّ رجلان من الأولياء فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقا إِثْماً‏}‏ يقول‏:‏ إن اطلع على أن الكافرين كذبا‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ أدنى أَن‏}‏ يأتي الكافران ‏{‏بالشهادة على وَجْهِهَا أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم‏}‏ فتترك شهادة الكافرين ويحكم بشهادة الأولياء، فليس على شهود المسلمين أقسام‏:‏ إنما الأقسام إذا كانا كافرين‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه الآية فقال‏:‏ هذا رجل خرج مسافراً ومعه مال فأدركه قدره، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته، وأشهد عليهما عدلين من المسلمين، فإن لم يجد عدلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب، فإن أدى فسبيل ما أدى، وإن جحد استحلف بالله الذي لا إله إلا هو دبر صلاة، إن هذا الذي دفع إليّ وما غيبت منه شيئاً، فإذا حلف برئ‏.‏ فإذا أتى بعد ذلك صاحبا الكتاب فشهدا عليه، ثم ادعى القوم عليه من تسميتهم ما لهم جعلت أيمان الورثة مع شهادتهم ثم اقتطعوا حقه، فذلك الذي يقول الله‏:‏ ‏{‏اثنان ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ‏}‏‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ من غير المسلمين من أهل الكتاب‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال‏:‏ هذه الآية منسوخة‏.‏ وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم في الآية قال‏:‏ كان ذلك في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام، وذلك في أوّل الإسلام، والأرض حرب، والناس كفار، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة، وكان الناس يتوارثون بالوصية، ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض وعمل المسلمون بها‏.‏ وأخرج ابن جرير أيضاً عن الزهري قال‏:‏ مضت السنة أن لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر، إنما هي في المسلمين‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن عبيدة في قوله‏:‏ ‏{‏تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة‏}‏ قال‏:‏ صلاة العصر‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن زيد في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً‏}‏ قال‏:‏ لا نأخذ به رشوة ‏{‏وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله‏}‏ وإن كان صاحبها بعيداً‏.‏

وأخرج عبد ابن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقا إِثْماً‏}‏ قال‏:‏ بالميت‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَا‏}‏ يقول‏:‏ ذلك أحرى أن يصدقوا في شهادتهم ‏{‏أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم‏}‏ يقول‏:‏ وأن يخافوا العتب‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم‏}‏ قال‏:‏ فيبطل أيمانهم ويؤخذ أيمان هؤلاء‏.‏