فصل: تفسير الآيات رقم (26- 27)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ‏(‏26‏)‏ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

أنزل الله هذه الآية ردّاً على الكفار لما أنكروا ما ضربه سبحانه من الأمثال كقوله‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السماء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 19‏]‏ فقالوا الله أجلّ، وأعلا من أن يضرب الأمثال‏.‏ وقال الرازي‏:‏ إنه تعالى لما بيَّن بالدليل كون القرآن معجزاً أورد ها هنا شبهة أوردها الكفار قدحاً في ذلك، وأجاب عنها، وتقرير الشبهة أنه جاء في القرآن ذكر النحل، والعنكبوت، والنمل، وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته فضلاً عن كونه معجزاً‏.‏ وأجاب الله عنها بأن صغر هذه الأشياء لا تقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملاً على حكمة بالغة‏.‏ انتهى‏.‏ ولا يخفاك أن تقرير هذه الشبهة على هذا الوجه، وإرجاع الإنكار إلى مجرد الفصاحة لا مستند له، ولا دليل عليه، وقد تقدّمه إلى شيء من هذا صاحب الكشاف، والظاهر ما ذكرناه أوّلا لكون هذه الآية جاءت بعقب المثلين اللذين هما مذكوران قبلها، ولا يستلزم استنكارهم لضرب الأمثال بالأشياء المح؛ كذا في الكشاف، وتبعه الرازي في مفاتيح الغيب‏.‏ وقال القرطبي‏:‏ أصل الاستحياء الانقباض عن الشيء، والامتناع منه؛ خوفاً من مواقعة القبيح، وهذا محال على الله‏.‏ انتهى‏.‏ وقد اختلفوا في تأويل ما في هذه الآية من ذكر الحياء فقيل‏:‏ ساغ ذلك لكونه، واقعاً في الكلام المحكي عن الكفار، وقيل‏:‏ هو‏:‏ من باب المشاكلة كما تقدم، وقيل هو‏:‏ جارٍ على سبيل التمثيل‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ مثَّل تركه تخييب العبد، وأنه لا يردّ يديه صفراً من عطائه لكرمه بترك من يترك ردّ المحتاج إليه حياءً منه‏.‏ انتهى‏.‏ وقد قرأ ابن محيصن، وابن كثير في رواية عنه «يستحي» بياء واحدة، وهي لغة تميم، وبكر بن وائل، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء، فسكنت، ثم استثقلت الضمة على الثانية فسكنت، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين‏.‏

وضرب المثل‏:‏ اعتماده وصنعه‏.‏ و«ما» في قوله‏:‏ ‏{‏مَّا بَعُوضَةً‏}‏ إبهامية أي‏:‏ موجبة لإبهام ما دخلت عليه حتى يصير أعمّ مما كان عليه، وأكثر شيوعاً في أفراده، وهي في موضع نصب على البدل من قوله‏:‏ ‏{‏مَثَلاً‏}‏ و‏{‏بَعُوضَةً‏}‏ نعت لها لإبهامها، قاله الفراء، والزجاج، وثعلب، وقيل‏:‏ إنها زائدة، وبعوضة بدل من مثل‏.‏ ونصب بعوضة في هذين الوجهين ظاهر، وقيل‏:‏ إنها منصوبة بنزع الخافض، والتقدير‏:‏ أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة، فحذف لفظ بين‏.‏ وقد روي هذا عن الكسائي، وقيل‏:‏ إن يضرب بمعنى يجعل، فتكون بعوضة المفعول الثاني‏.‏ وقرأ الضحاك، وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤية بن العجاج «بعوضةٌ» بالرفع، وهي لغة تميم‏.‏ قال أبو الفتح‏:‏ وجه ذلك أن «ما» اسم بمنزلة الذي، وبعوضة رفع على إضمار المبتدأ، ويحتمل أن تكون «ما» استفهامية كأنه قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا‏}‏ حتى لا يضرب المثل به، بل له أن يمثل بما هو أقلّ من ذلك بكثير، والبعوضة فعولة من بعض‏:‏ إذا قطع، يقال‏:‏ بعض وبضع بمعنى، والبعوض‏:‏ البق، الواحدة بعوضة، سميت بذلك لصغرها، قاله الجوهري، وغيره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا فَوْقَهَا‏}‏ قال الكسائي، وأبو عبيدة، وغيرهما‏:‏ فما فوقها والله أعلم‏:‏ ما دونها‏:‏ أي‏:‏ أنها فوقها في الصغر كجناحها‏.‏ قال الكسائي، وهذا كقولك في الكلام أتراه قصيراً، فيقول القائل، أو فوق ذلك أي‏:‏ أقصر مما ترى‏.‏ ويمكن أن يراد، فما زاد عليها في الكبر‏.‏ وقد قال بذلك جماعة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ‏}‏ ‏"‏ أما ‏"‏ حرف فيه معنى الشرط، وقدّره سيبويه بمهما يكن من شيء، فكذا‏.‏ وذكر صاحب الكشاف أن فائدته في الكلام أنه يعطيه فضل توكيد، وجعل تقدير سيبويه دليلاً على ذلك‏.‏ والضمير في ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ راجع إلى المثل‏.‏ و‏{‏الحق‏}‏ الثابت، وهو المقابل للباطل، والحق، واحد الحقوق، والمراد هنا الأوّل‏.‏ وقد اختلف النحاة في ‏{‏ماذا‏}‏ فقيل‏:‏ هي بمنزلة اسم واحد بمعنى‏:‏ أي شيء أراد الله، فتكون في موضع نصب بأراد‏.‏ قال ابن كيسان‏:‏ وهو‏:‏ الجيد‏.‏ وقيل «ما» اسم تام في موضع رفع بالابتداء، و«ذا» بمعنى الذي، وهو‏:‏ خبر المبتدأ مع صلته، وجوابه يكون على الأوّل منصوباً وعلى الثاني مرفوعاً‏.‏ والإرادة نقيض الكراهة، وقد اتفق المسلمون على أنه يجوز إطلاق هذا اللفظ على الله سبحانه‏.‏

و ‏{‏مَثَلاً‏}‏ قال ثعلب‏:‏ منصوب على القطع، والتقدير‏:‏ أراد مثلا‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ هو‏:‏ منصوب على التمييز الذي وقع موقع الحال، وهذا أقوى من الأوّل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا‏}‏ هو‏:‏ كالتفسير للجملتين السابقتين المصدّرتين بأما، فهو خبر من الله سبحانه‏.‏ وقيل‏:‏ هو‏:‏ حكاية لقول الكافرين كأنهم قالوا‏:‏ ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرّق به الناس إلى ضلالة، وإلى هدى‏؟‏ وليس هذا بصحيح، فإن الكافرين لا يقرّون بأن في القرآن شيئاً من الهداية، ولا يعترفون على أنفسهم بشيء من الضلالة‏.‏

قال القرطبي‏:‏ ولا خلاف أن قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين‏}‏ من كلام الله سبحانه‏.‏ وقد أطال المتكلمون الخصام في تفسير الضلال المذكور هنا، وفي نسبته إلى الله سبحانه‏.‏ وقد نقح البحث الرازيُّ في تفسيره مفاتيح الغيب في هذا الموضع تنقيحاً نفيساً، وجوّده وطوّله، وأوضح فروعه، وأصوله، فليرجع إليه فإنه مفيد جداً‏.‏ وأما صاحب الكشاف، فقد اعتمد ها هنا على عصاه التي يتوكأ عليها في تفسيره، فجعل إسناد الإضلال إلى الله سبحانه بكونه سبباً، فهو من الإسناد المجازي إلى ملابس للفاعل الحقيقي،‏.‏ وحكى القرطبي عن أهل الحق من المفسرين أن المراد بقوله ‏{‏يُضِلَّ‏}‏ يخذل‏.‏

والفسق‏:‏ الخروج عن الشيء، يقال‏:‏ فسقت الرطبة‏:‏ إذا خرجت عن قشرها‏.‏ والفأرة من جحرها ذكر معنى هذا الفراء‏.‏ وقد استشهد أبو بكر بن الأَنباري في كتاب الزاهر له على معنى الفسق بقول رؤبة بن العجاج‏:‏

يهوين في نجد وغوراً غائراً *** فواسقاً عن قصدها جوائر

قد زعم ابن الأعرابي أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية، ولا في شعرهم فاسق، وهذا مردود عليه، فقد حكى ذلك عن العرب، وأنه من كلامهم جماعة من أئمة اللغة كابن فارس، والجوهري، وابن الأنباري، وغيرهم‏.‏ وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ خمس فواسق ‏"‏ الحديث‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ الفسق الخروج عن القصد، ثم ذكر عجز بيت رؤبة المذكور، ثم قال‏:‏ والفاسق في الشريعة‏:‏ الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة‏.‏ انتهى‏.‏ وقال القرطبي‏:‏ والفسق في عرف الاستعمال الشرعي‏:‏ الخروج من طاعة الله عز وجل، فقد يقع على من خرج بكفر، وعلى من خرج بعصيان‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا هو‏:‏ أنسب بالمعنى اللغوي، ولا وجه لقصره على بعض الخارجين دون بعض‏.‏ قال الرازي في تفسيره‏:‏ واختلف أهل القبلة هل هو مؤمن، أو كافر‏؟‏ فعند أصحابنا أنه مؤمن، وعند الخوارج أنه كافر، وعند المعتزلة لا مؤمن، ولا كافر، واحتج المخالف بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ المنافقين هُمُ الفاسقون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 7‏]‏ وهذه المسألة طويلة مذكورة في علم الكلام‏.‏ انتهى‏.‏ وقوله ‏{‏الذين يَنقُضُونَ‏}‏ في محل نصب وصفاً للفاسقين‏.‏ والنقض‏:‏ إفساد ما أبرم من بناء، أو حبل، أو عهد، والنقاضة‏:‏ ما نقض من حبل الشعر‏.‏ والعهد‏:‏ قيل‏:‏ هو‏:‏ الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره، وقيل‏:‏ هو‏:‏ وصية الله إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسن رسله، ونقضهم ذلك‏:‏ ترك العمل به، وقيل‏:‏ بل نصب الأدلة على، وحدانيته بالسموات، والأرض، وسائر مخلوقاته، ونقضه‏:‏ ترك النظر فيه، وقيل‏:‏ هو ما عهده إلى الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس‏.‏ والميثاق‏:‏ العهد المؤكد باليمين مفعال من الوثاقة وهي الشدّة في العقد، والربط، والجمع المواثيق، والمياثيق، وأنشد ابن الأعرابي‏:‏

حِمىّ لا يُحَلُّ الدَّهْرَ إلا بِإذنِنا *** وَلا نَسْألُ الأقوامُ عَهْدَ المياثِق

واستعمال النقض في إبطال العهد على سبيل الاستعارة، والقطع معروف، والمصدر في الرحم القطيعة، وقطعت الحبل قطعاً، وقطعت النهر قطعاً‏.‏ و«ما» في قوله‏:‏ ‏{‏مَا أَمَرَ الله بِهِ‏}‏ في موضع نصب ب ‏{‏يقطعون‏}‏، و‏{‏أَن يُوصَلَ‏}‏ في محل نصب بأمر‏.‏ ويحتمل أن يكون بدلاً من ‏"‏ ما ‏"‏، أو من الهاء في ‏"‏ به ‏"‏‏.‏

واختلفوا ما هو‏:‏ الشيء الذي أمر الله بوصله، فقيل‏:‏ الأرحام، وقيل‏:‏ أمر أن يوصل القول بالعمل، وقيل‏:‏ أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه، فقطعوه بتصديق بعضهم، وتكذيب البعض الآخر، وقيل‏:‏ المراد به حفظ شرائعه، وحدوده التي أمر في كتبه المنزلة، وعلى ألسن رسله بالمحافظة عليها، فهي عامة، وبه قال الجمهور، وهو‏:‏ الحق‏.‏

والمراد بالفساد في الأرض الأفعال، والأقوال المخالفة لما أمر الله به، كعبادة غيره، والإضرار بعباده، وتغيير ما أمر بحفظه، وبالجملة، فكل ما خالف الصلاح شرعاً أو عقلاً، فهو فساد‏.‏ والخسران‏:‏ النقصان، والخاسر، هو‏:‏ الذي نقص نفسه من الفلاح، والفوز، وهؤلاء لما استبدلوا النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، كان عملهم، فساداً لما نقصوا أنفسهم من الفلاح، والربح‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود، وناس من الصحابة قال‏:‏ لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين قوله‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السماء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 19‏]‏ قال المنافقون‏:‏ الله أعلا وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله ‏{‏إِنَّ الله لاَ * يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج الواحدي في تفسيره عن ابن عباس قال‏:‏ إن الله ذكر آلهة المشركين، فقال‏:‏ ‏{‏وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 73‏]‏ وذكر كيد الآلهة، فجعله كبيت العنكبوت، فقالوا‏:‏ أرأيت حيث ذكر الله الذباب، والعنكبوت، فيما أنزل من القرآن على محمد أيّ شيء كان يصنع بهذا‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يستحي‏}‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة نحو قول ابن عباس‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏ا يأَيُّهَا الناس ضُرِبَ مَثَلٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 73‏]‏ قال المشركون‏:‏ ما هذا من الأمثال، فيضرب‏؟‏ فأنزل الله هذه الآية‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق‏}‏ قال‏:‏ يؤمن به المؤمن، ويعلمون أنه الحق من ربهم، ويهديهم الله به، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود، وناس من الصحابة في قوله‏:‏ ‏{‏يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا‏}‏ يعني المنافقين ‏{‏وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا‏}‏ يعني المؤمنين ‏{‏وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين‏}‏ قال هم المنافقون‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه‏}‏ قال‏:‏ هو ما عهد إليهم في القرآن، فأقرّوا به، ثم كفروا، فنقضوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين‏}‏ يقول‏:‏ يعرفه الكافرون، فيكفرون به‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن قتادة قال‏:‏ فسقوا، فأضلهم الله بفسقهم‏.‏ وأخرج البخاري، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ الحرورية هم‏:‏ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وكان يسميهم الفاسقين‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة قال‏:‏ ما نعلم الله أوعد في ذنب ما أوعد في نقض هذا الميثاق، فمن أعطى عهد الله، وميثاقه من ثمرة قلبه، فليُوفّ به الله‏.‏ وقد ثبت عن رسول الله في أحاديث ثابتة في الصحيح وغيره من طريق جماعة من الصحابة النهي عن نقض العهد، والوعيد الشديد عليه‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ‏}‏ قال‏:‏ الرحم والقرابة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏وَيُفْسِدُونَ فِى الأرض‏}‏ قال‏:‏ يعملون فيها بالمعصية‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن مقاتل في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك هُمُ الخاسرون‏}‏ يقول‏:‏ هم أهل النار‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام مثل خاسر، ومسرف، وظالم، ومجرم، وفاسق، فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى الإسلام، فإنما يعني به الذم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

كيف مبنية على الفتح لخفته، وهي في موضع نصب ب ‏{‏تكفرون‏}‏، ويسأل بها عن الحال، وهذا الاستفهام هو للإنكار عليهم، والتعجب من حالهم، وهي متضمنة لهمزة الاستفهام، والواو في ‏{‏وَكُنتُمْ‏}‏ للحال، و«قد» مقدّرة كما قال الزجاج والفراء، وإنما صح جعل هذا الماضي حالاً؛ لأن الحال ليس هو مجرد قوله ‏{‏كنتم أمواتاً‏}‏ بل هو وما بعده إلى قوله ‏{‏تُرْجَعُونَ‏}‏ كما جزم به صاحب الكشاف كأنه قال‏:‏ كيف تكفرون وقصتكم هذه‏؟‏ أي‏:‏ وأنتم عالمون بهذه القصة، وبأوّلها، وآخرها‏.‏ والأموات جمع ميت، واختلف المفسرون في ترتيب هاتين الموتتين، والحياتين فقيل‏:‏ إن المراد ‏{‏كُنتُمْ أمواتا‏}‏ قبل أن تخلقوا، أي‏:‏ معدومين؛ لأنه يجوز إطلاق اسم الموت على المعدوم لاجتماعهما في عدم الاحساس ‏{‏فأحياكم‏}‏ أي‏:‏ خلقكم ‏{‏ثُمَّ يُمِيتُكُمْ‏}‏ عند انقضاء آجالكم ‏{‏ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏}‏ يوم القيامة‏.‏ وقد ذهب إلى هذا جماعة من الصحابة، فمن بعدهم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا القول هو‏:‏ المراد بالآية، وهو الذي لا محيد للكفار عنه، وإذا أذعنت نفوس الكفار بكونهم كانوا معدومين، ثم أحياء في الدنيا، ثم أمواتاً فيها لزمهم الإقرار بالحياة الأخرى‏.‏ قال غيره‏:‏ والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم حياة الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد كنتم أمواتاً في ظهر آدم ثم أخرجكم من ظهره كالذّر، ثم يميتكم موت الدنيا، ثم يبعثكم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏كُنتُمْ * أمواتا‏}‏ أي‏:‏ نطفاً في أصلاب الرجال ‏{‏ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏}‏ حياة الدنيا‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يُمِيتُكُمْ‏}‏ بعد هذه الحياة ‏{‏ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏}‏ في القبور ‏{‏ثُمَّ يُمِيتُكُمْ‏}‏ في القبر ‏{‏ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏}‏ الحياة التي ليس بعدها موت‏.‏

قال القرطبي‏:‏ فعلى هذا التأويل هي‏:‏ ثلاث موتات، وثلاث إحياءات، وكونهم موتى في ظهر آدم، وإخراجهم من ظهره، والشهادة عليهم غير كونهم نطفاً في أصلاب الرجال، فعلى هذا يجيء أربع موتات وأربع إحياءات‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الله تعالى أوجدهم قبل خلق آدم كالبهائم، وأماتهم، فيكون على هذا خمس موتات، وخمس إحياءات، وموتة سادسة للعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما ورد في الحديث‏:‏ «ولكن ناساً أصابتهم النار بذنوبهم، فأماتهم الله إماتة، حتى إذا كانوا فحماً أذن في الشفاعة فجيء بهم،» إلى أن قال‏:‏ «فينبتون نبات الحبة في حميل السيل» وهو في الصحيح من حديث أبي سعيد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ أي‏:‏ إلى الله سبحانه، فيجازيكم بأعمالكم‏.‏ وقد قرأ يحيى بن يعمر، وابن أبي إسحاق، ومجاهد، وسلام، ويعقوب بفتح حرف المضارعة، وقرأ الجماعة بضمه‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ عطف الأوّل بالفاء، وما بعده بثم، لأن الإحياء الأوّل قد تعقب الموت بغير تراخ، وأما الموت، فقد تراخى عن الإحياء، والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت إن أريد به النشور تراخياً ظاهراً، وإن أريد به إحياء القبر، فمنه يكتسب العلم بتراخيه، والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخ عن النشور‏.‏

انتهى‏.‏ ولا يخفاك أنه إن أراد بقوله أن الإحياء الأوّل قد تعقب الموت أنه وقع على ما هو متصف بالموت، فالموت الآخر وقع على ما هو متصف بالحياة، وإن أراد أنه وقع الإحياء الأوّل عند أوّل اتصافه بالموت بخلاف الثاني، فغير مسلم، فإنه وقع عند آخر أوقات موته، كما وقع الثاني عند آخر أوقات حياته، فتأمل هذا‏.‏ وقد أخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُنتُمْ أمواتا‏}‏ الآية، قال‏:‏ لم تكونوا شيئاً، فخلقكم ‏{‏ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏}‏ يوم القيامة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال‏:‏ يميتكم، ثم يحييكم في القبر، ثم يميتكم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏وَكُنتُمْ أمواتا‏}‏ قال‏:‏ حين لم تكونوا شيئاً، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، ثم يرجعون إليه بعد الحياة‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال‏:‏ خلقهم من ظهر آدم، فأخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم، ثم خلقهم في الأرحام، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة‏.‏ والصحيح الأول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قال ابن كيسان‏:‏ ‏{‏خَلَقَ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ من أجلكم، وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة، حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل، ولا فرق بين الحيوانات، وغيرها مما ينتفع به من غير ضرر، وفي التأكيد بقوله ‏{‏جَمِيعاً‏}‏ أقوى دلالة على هذا‏.‏ وقد استدلَّ بهذه الآية على تحريم أكل الطين، لأنه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض‏.‏ وقال الرازي في تفسيره‏:‏ إن لقائل أن يقول‏:‏ إن في جملة الأرض ما يطلق عليه أنه في الأرض، فيكون جامعاً للوصفين، ولا شك أن المعادن داخلة في ذلك، وكذلك عروق الأرض، وما يجري مجرى البعض لها؛ ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه‏.‏ انتهى‏.‏ وقد ذكر صاحب الكشاف ما هو أوضح من هذا فقال‏:‏ فإن قلت‏:‏ هل لقول من زعم أن المعنى خلق لكم الأرض، وما فيها وجه صحة‏؟‏ قلت‏:‏ إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما تذكر السماء، ويراد الجهات العلوية جاز ذلك، فإن الغبراء، وما فيها واقعة في الجهات السفلية‏.‏ انتهى‏.‏ وأما التراب، فقد ورد في السنة تحريمه، وهو أيضاً ضارّ، فليس مما ينتفع به أكلاً، ولكنه ينتفع به في منافع أخرى، وليس المراد منفعة خاصة كنفعة الأكل، بل كل ما يصدق عليه أنه ينتفع به بوجه من الوجوه، و‏{‏جميعاً‏}‏ منصوب على الحال‏.‏

والاستواء في اللغة‏:‏ الاعتدال، والاستقامة، قاله في الكشاف، ويطلق على الارتفاع، والعلوّ على الشيء، قال تعالى ‏{‏فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 28‏]‏ وقال ‏{‏لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 13‏]‏ وهذا المعنى هو المناسب لهذه الآية‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذه الآية من المشكلات‏.‏ وقد ذهب كثير من الأئمة إلى الإيمان بها، وترك التعرّض لتفسيرها، وخالفهم آخرون‏.‏ والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فَسَوَّاهُنَّ‏}‏ مبهم يفسره ما بعده كقولهم‏:‏ زيد رجلاً، وقيل‏:‏ إنه راجع إلى السماء؛ لأنها في معنى الجنس، والمعنى‏:‏ أنه عدل خلقهنّ، فلا اعوجاج فيه‏.‏ وقد استدل بقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ استوى‏}‏ على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء‏.‏ وكذلك الآية التي في «حمالسجدة»‏.‏ وقال في النازعات ‏{‏أأنتم أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السماء بناها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 28‏]‏ فوصف خلقها، ثم قال ‏{‏والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 30‏]‏ فكأنّ السماء على هذا خلقت قبل الأرض، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد للَّهِ الذى خَلَقَ السموات والأرض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 1‏]‏ وقد قيل‏:‏ إن خلق جرم الأرض متقدم على السماء، ودحوها متأخر‏.‏ وقد ذكر نحو هذا جماعة من أهل العلم، وهذا جمع جيد لا بدّ من المصير إليه، ولكن خلق ما في الأرض لا يكون إلا بعد الدحو، والآية المذكورة هنا دلت على أنه خلق ما في الأرض قبل خلق السماء، وهذا يقتضي بقاء الإشكال، وعدم التخلص عنه بمثل هذا الجمع‏.‏

وقوله ‏{‏سَبْعَ سموات‏}‏ فيه التصريح بأن السموات سبع، وأما الأرض، فلم يأت في ذكر عددها إلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الارض مِثْلَهُنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 12‏]‏ فقيل‏:‏ أي‏:‏ في العدد، وقيل‏:‏ أي‏:‏ في غلظهنّ، وما بينهنّ‏.‏ وقال الداودي‏:‏ إن الأرض سبع، ولكن لم يفتق بعضها من بعض‏.‏ والصحيح أنها سبع كالسموات‏.‏ وقد ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أخذ شبراً من الأرض ظلماً طوّقه الله من سبع أرضين» وهو ثابت من حديث عائشة، وسعيد بن زيد‏.‏ ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سوَّاهنّ‏}‏ سوّى سُطوحَهُن بالإملاس، وقيل‏:‏ جعلهنّ سواء‏.‏ قال الرازي في تفسيره‏:‏ فإن قيل‏:‏ فهل يدل التنصيص على سبع سموات‏:‏ أي‏:‏ فقط‏؟‏ قلنا‏:‏ الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد، والله أعلم‏.‏ انتهى‏.‏ وفي هذا إشارة إلى ما ذكره الحكماء من الزيادة على السبع‏.‏ ونحن نقول‏:‏ إنه لم يأتنا عن الله، ولا عن رسوله إلا السبع، فنقتصر على ذلك، ولا نعمل بالزيادة إلا إذا جاءت من طريق الشرع، ولم يأت شيء من ذلك، وإنما أثبت لنفسه سبحانه أنه بكل شيء عليم، لأنه يجب أن يكون عالماً بجميع ما ثبت أنه خالفه‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض جَمِيعاً‏}‏ قال‏:‏ سخر لكم ما في الأرض جميعاً كرامة من الله، ونعمة لابن آدم، وبلغة، ومنفعة إلى أجل‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض جَمِيعاً‏}‏ قال‏:‏ سخر لكم ما في الأرض جميعاً ‏{‏ثُمَّ استوى إِلَى السماء‏}‏ قال‏:‏ خلق الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرض ثار منها دخان فذلك قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ استوى إِلَى السماء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات‏}‏ يقول‏:‏ خلق سبع سموات بعضهنّ فوق بعض، وسبع أرضين بعضهنّ فوق بعض‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء، والصفات عن ابن عباس، وابن مسعود، وناس من الصحابة في قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض‏}‏ الآية، قالوا‏:‏ إن الله كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئاً قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخاناً، فارتفع فوق الماء، فسما عليه فسماه سماء، ثم انبسَّ الماء، فجعله أرضاً واحدة، ثم فتقها سبع أرضين في يومين الأحد، والاثنين، فخلق الأرض على حوت، وهو‏:‏ الذي ذكره في قوله‏:‏ ‏{‏ن والقلم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 1‏]‏ والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح، وهي‏:‏ الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء، ولا في الأرض، فتحرّك الحوت، فاضطرب، فتزلزلت الأرض، فأرسى عليها الجبال فقرّت، فذلك قوله تعالى‏:‏

‏{‏وألقى فِى الأرض رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 10‏]‏ وخلق الجبال فيها، وأقوات أهلها، وسخرها، وما ينبغي لها في يومين في الثلاثاء، والأربعاء، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الارض‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وبارك فِيهَا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 10‏]‏ يقول‏:‏ أنبت شجرها ‏{‏وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 10‏]‏ يقول‏:‏ أقوات أهلها ‏{‏فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 10‏]‏ يقول‏:‏ من سأل، فهكذا الأمر، ‏{‏ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِىَ دُخَانٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة؛ وإنما سمي يوم الجمعة؛ لأنه جمع فيه خلق السموات، والأرض ‏{‏وأوحى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏ قال‏:‏ خلق في كل أسماء خلقها، من الملائكة، والخلق الذي فيها، من البحار وجبال البرد، وما لا يعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينة، وحفظاً من الشياطين، فلما فرغ من خلق ما أحبّ استوى على العرش‏.‏ وأخرج البيهقي في الأسماء، والصفات، عن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ استوى إِلَى السماء‏}‏ يعني صعد أمره إلى السماء، فسواهنّ‏:‏ يعني خلق سبع سموات، قال‏:‏ أجرى النار على الماء، فبخر البحر، فصعد في الهواء، فجعل السموات منه‏.‏ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في الصحيح قال‏:‏ «أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال‏:‏ ‏"‏ خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الأثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثّ فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة بعد العصر ‏"‏ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق عند أهل السنن، وغيرهم، عن جماعة من الصحابة أحاديث في وصف السموات، وأن غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام، وأنها سبع سموات، وأن الأرض سبع أرضين، وكذلك ثبت في وصف السماء آثار عن جماعة من الصحابة، وقد ذكر السيوطي في الدرّ المنثور بعض ذلك في تفسير هذه الآية، وإنما تركنا ذكره ها هنا لكونه غير متعلق بهذه الآية على الخصوص، بل هو متعلق بما هو أعمّ منها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ‏}‏ من الظروف الموضوعة للتوقيت، وهي للمستقبل، وإذا للماضي، وقد توضع إحداهما موضع الأخرى‏.‏ وقال المبرّد‏:‏ هي مع المستقبل للمضيّ، ومع الماضي للاستقبال‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ إنها هنا زائدة‏.‏ وحكاه الزَّجَّاج وابن النحاس وقالا‏:‏ هي ظرف زمان ليست مما يزاد، وهي هنا في موضع نصب بتقدير اذكر، أو بقالوا‏.‏ وقيل‏:‏ هو متعلق ب ‏{‏خلق لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏، وليس بظاهر، والملائكة‏:‏ جمع ملَكَ بوزن فَعَل، قاله ابن كيسان‏.‏ وقيل‏:‏ جمع مَلأك بوزن مَفْعَل، قاله أبو عبيدة، من لأك‏:‏ إذا أرسل، والألوكة‏:‏ الرسالة‏.‏ قال لبيد‏:‏

وغُلامٍ أرسَلتْهُ أمهُ *** بَألوكَ فَبَذلنَا مَا سَأل

وقال عدي بن زيد‏:‏

أبلغِ النُّعمانَ عَنِي مألكاً *** أنَّه قَدْ طَال حَبْسِي وَانتِظَاري

ويقال ألكني‏:‏ أي‏:‏ أرسلني‏.‏ وقال النضر بن شميل‏:‏ لا اشتقاق لملك عند العرب، والهاء في الملائكة تأكيد لتأنيث الجمع، ومثله الصلادمة، والصلادم‏:‏ الخيل الشداد واحدها صلدم‏.‏ وقيل‏:‏ هي للمبالغة، كعلامة ونسَّابة و‏{‏جَاعِلٌ‏}‏ هنا من جعل المتعدي إلى مفعولين‏.‏ وذكر المطرزي أنه بمعنى خالق، وذلك يقتضي أنه متعدّ إلى مفعول واحد، والأرض هنا‏:‏ هي هذه الغبراء، ولا يختص ذلك بمكان دون مكان، وقيل‏:‏ إنها مكة‏.‏ والخليفة هنا معناه‏:‏ الخالف لمن كان قبله من الملائكة، ويجوز أن يكون بمعنى المخلوف، أي‏:‏ يخلفه غيره قيل‏:‏ هو آدم‏.‏ وقيل‏:‏ كل من له خلافة في الأرض، ويقوى الأوّل قوله‏:‏ ‏{‏خليفة‏}‏ دون خلائف، واستغنى بآدم عن ذكر من بعده‏.‏

قيل‏:‏ خاطب الله الملائكة بهذا الخطاب؛ لا للمشورة، ولكن لاستخراج ما عندهم‏.‏ وقيل‏:‏ خاطبهم بذلك لأجل أن يصدر منهم ذلك السؤال، فيجابون بذلك الجواب، وقيل لأجل تعليم عباده مشروعية المشاورة لهم‏.‏ وأما قولهم‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏ فظاهره أنهم استنكروا استخلاف بني آدم في الأرض، لكونهم مظنة للإفساد في الأرض، وإنما قالوا هذه المقالة قبل أن يتقدم لهم معرفة ببني آدم، بل قبل وجود آدم، فضلاً عن ذريته، لعلم قد علموه من الله سبحانه بوجه من الوجوه، لأنهم لا يعلمون الغيب؛ قال بهذا جماعة من المفسرين‏.‏ وقال بعض المفسرين‏:‏ إن في الكلام حذفاً، والتقدير‏:‏ إني جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا وكذا، فقالوا‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ويسفك الدماء‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يُفْسِدُ‏}‏ قائم مقام المفعول الثاني‏.‏ والفساد ضدّ الصلاح‏.‏ وسفك الدم‏:‏ صبه، قاله ابن فارس، والجوهري، ولا يستعمل السفك إلا في الدم‏.‏ وواحد الدماء‏:‏ دم، وأصله دمى حذف لامه، وجملة‏:‏ ‏{‏ونحن نسبح بحمدك‏}‏ حالية‏.‏ والتسبيح في كلام العرب‏:‏ التنزيه، والتبعيد من السوء على وجه التعظيم‏.‏ قال الأعشى‏:‏

أقُولُ َلمَّا جَاءني فَخْرُه *** سُبْحَان مَن عَلْقَمة الفَاخِرِ

و ‏{‏بِحَمْدِكَ‏}‏ في موضع الحال، أي‏:‏ حامدين لك، وقد تقدم معنى الحمد‏.‏

والتقديس‏:‏ التطهير، أي‏:‏ ونطهرك عما لا يليق بك مما نسبه إليك الملحدون، وافتراه الجاحدون‏.‏ وذكر في الكشاف‏:‏ «أن معنى التسبيح، والتقديس واحد، وهو‏:‏ تبعيد الله من السوء، وأنهما من سبح في الأرض والماء، وقدّس في الأرض إذا ذهب فيها، وأبعد‏.‏ وفي القاموس، وغيره من كتب اللغة ما يرشد إلى ما ذكرناه، والتأسيس خير من التأكيد خصوصاً في كلام الله سبحانه‏.‏ ولما كان سؤالهم واقعاً على صفة تستلزم إثبات شيء من العلم لأنفسهم، أجاب الله سبحانه عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ وفي هذا الإجمال ما يغني عن التفصيل؛ لأن من علم ما لا يعلم المخاطب له كان حقيقاً بأن يسلم له ما يصدر عنه، وعلى من لا يعلم أن يعترف لمن يعلم، بأن أفعاله صادرة على ما يوجبه العلم، وتقتضيه المصلحة الراجحة، والحكمة البالغة‏.‏ ولم يذكر متعلق قوله‏:‏ ‏{‏تَعْلَمُونَ‏}‏ ليفيد التعميم، ويذهب السامع عند ذلك كل مذهب، ويعترف بالعجز ويقر بالقصور‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن ابن عباس، قال‏:‏ إن الله أخرج آدم من الجنة قبل أن يخلقه، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏إِنّي جَاعِلٌ فِى الارض خَلِيفَةً‏}‏ وأخرج الحاكم وصححه عنه أيضاً نحوه وزاد‏.‏ وقد كان فيها قبل أن يخلق بألفي عام الجن بنو الجان، فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فلما أفسدوا في الأرض بعث الله عليهم جنوداً من الملائكة، فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور، فلما قال الله‏:‏ ‏{‏إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء‏}‏ كما فعل أولئك الجان، فقال الله‏:‏ ‏{‏إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عمر مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس أطول منه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن عساكر، عن ابن مسعود، وناس من الصحابة قال‏:‏ لما فرغ الله من خلق ما أحبّ استوى على العرش، فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم‏:‏ الجن، وإنما سموا الجنّ؛ لأنهم خزان الجنة وكان إبليس مع ملكه خازناً، فوقع في صدره كبر، وقال‏:‏ ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي‏.‏ فاطلع الله على ذلك منه، فقال للملائكة ‏{‏إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً‏}‏ قالوا‏:‏ ربنا، وما يكون ذلك الخليفة‏؟‏ قال يكون له ذرية يفسدون في الأرض، ويتحاسدون، ويقتل بعضهم بعضاً، قالوا‏:‏ ربنا ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء‏}‏ قَالَ‏:‏ ‏{‏إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس نحوه‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في الآية قال‏:‏ قد علمت الملائكة، وعلم الله، أنه لا شيء أكره عند الله من سفك الدماء، والفساد في الأرض‏.‏

وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس قال‏:‏ إياكم والرأي، فإنَّ الله ردَّ الرأي على الملائكة، وذلك أن الله قال‏:‏ ‏{‏إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً‏}‏ قالت الملائكة‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏ قال‏:‏ ‏{‏إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن عساكر، عن أبي سابط؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت فهي أول من طاف به، وهي الأرض التي قال الله‏:‏ ‏{‏إِنّي جَاعِلٌ فِى الارض خَلِيفَةً‏}‏» قال ابن كثير‏:‏ وهذا مرسل في سنده ضعف، وفيه مدرج، وهو‏:‏ أن المراد بالأرض مكة، والظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك‏.‏ انتهى‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة قال‏:‏ التسبيح، والتقديس المذكور في الآية هو‏:‏ الصلاة‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن أوّل من لبى الملائكة» قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء‏}‏ قال‏:‏ فرادُّوه، فأعرض عنهم، فطافوا بالعرش ست سنين يقولون‏:‏ لبيك لبيك اعتذاراً إليك، لبيك لبيك نستغفرك، ونتوب إليك «‏.‏ وثبت في الصحيح من حديث أبي ذرّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏» أحبّ الكلام إلى الله ما اصطفاه لملائكته سبحان ربي، وبحمده «وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود، وناس من الصحابة في قوله ‏{‏وَنُقَدّسُ لَكَ‏}‏ قال‏:‏ نصلي لك‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ التقديس‏:‏ التطهير‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَنُقَدّسُ لَكَ‏}‏ قال‏:‏ نعظمك ونكبرك‏.‏ وأخرجا عن أبي صالح قال‏:‏ نعظمك ونمجدك‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ قال‏:‏

علم من إبليس المعصية، وخلقه لها‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في تفسيرها قال‏:‏ كان في علم الله أنه سيكون من الخليقة أنبياء، ورسل، وقوم صالحون، وساكنوا الجنة‏.‏ وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمر‏:‏ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏» إن آدم لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة‏:‏ أي ربّ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء‏}‏ الآية، قالوا ربنا نحن أطوع لك من بني آدم قال الله لملائكته‏:‏ هلموا ملكين من الملائكة حتى يهبطا إلى الأرض فننظر كيف يعملان‏؟‏ فقالوا‏:‏ ربنا هاروت وماروت، قال‏:‏ فاهبطا إلى الأرض، فتمثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر «وذكر القصة‏.‏ وقد ثبت في كتب الحديث المعتبرة أحاديث من طريق جماعة من الصحابة في صفة خلقه سبحانه لآدم وهي موجودة فلا نطوّل بذكرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 33‏]‏

‏{‏وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏32‏)‏ قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏آدم‏}‏ أصله‏:‏ أأدم بهمزتين، إلا أنهم ليَّنُوا الثانية، وإذا حركت قلبت واو، كما قالوا في الجمع أوادم، قاله الأخفش‏.‏ واختلف في اشتقاقه؛ فقيل‏:‏ من أديم الأرض، وهو وجهها‏.‏ وقيل‏:‏ من الأدمة، وهي‏:‏ السمرة‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ وما آدم إلا اسم عجميّ، وأقرب أمره أن يكون على فاعل كآزر، وعازر، وعابر، وشالخ، وفالغ، وأشباه ذلك‏.‏ و‏{‏الأسماء‏}‏ هي العبارات، والمراد‏:‏ أسماء المسميات، قال بذلك أكثر العلماء، وهو المعنى الحقيقي للاسم‏.‏ والتأكيد بقوله‏:‏ ‏{‏كُلَّهَا‏}‏ يفيد أنه علمه جميع الأسماء، ولم يخرج عن هذا شيء منها كائناً ما كان‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ إنها أسماء الملائكة وأسماء ذرية آدم، ثم رجع هذا، وهو غير راجح‏.‏ وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ أسماء الذرية‏.‏ وقال الربيع بن خيثم‏:‏ أسماء الملائكة‏.‏

واختلف أهل العلم‏:‏ هل عرض على الملائكة المسميات، أو الأسماء‏؟‏ والظاهر الأوّل؛ لأن عرض نفس الأسماء غير واضح‏.‏ وعرض الشيء‏:‏ إظهاره، ومنه عرض الشيء للبيع‏.‏ وإنما ذكر ضمير المعروضين تغليباً للعقلاء على غيرهم‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ «عَرضهنّ» وقرأ أبَي‏:‏ «عرضها» وإنما رجع ضمير ‏"‏ عرضهم ‏"‏ إلى مسميات مع عدم تقدم ذكرها؛ لأنه قد تقدّم ما يدل عليها، وهو‏:‏ أسماؤها‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والذي يظهر أن الله علَّم آدم الأسماء، وعرض عليه مع ذلك الأجناس أشخاصاً، ثم عرض تلك على الملائكة، وسألهم عن أسماء مسمياتها التي قد تعلمها آدم، فقال لهم آدم‏:‏ هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا‏.‏ قال الماوردي‏:‏ فكان الأصح توجه العرض إلى المسمين‏.‏ ثم في زمن عرضهم قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه عرضهم بعد أن خلقهم‏.‏ الثاني أنه صوّرهم لقلوب الملائكة، ثم عرضهم‏.‏

وأما أمره سبحانه للملائكة بقوله‏:‏ ‏{‏أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ فهذا منه تعالى لقصد التبكيت لهم مع علمه بأنهم يعجزون عن ذلك‏.‏ والمراد ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أن بني آدم يفسدون في الأرض فأنبؤني، كذا قال المبرد،‏.‏ وقال أبو عبيد، وابن جرير‏:‏ إن بعض المفسرين قال‏:‏ معنى ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ إذ كنتم، قالا‏:‏ وهذا خطأ‏.‏ ومعنى ‏{‏أنبئوني‏}‏ أخبروني‏.‏ فلما قال لهم ذلك اعترفوا بالعجز، والقصور‏:‏ ‏{‏سبحانك لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا‏}‏‏.‏ وسبحان منصوب على المصدرية عند الخليل وسيبويه، وقال الكسائي‏:‏ هو منصوب على أنه منادى مضاف، وهذا ضعيف جداً‏.‏ والعليم للمبالغة والدلالة على كثرة المعلومات‏.‏ والحكيم‏:‏ صيغة مبالغة في إثبات الحكمة له‏.‏ ثم أمر الله سبحانه آدم أن يعلمهم بأسمائهم بعد أن عرضهم على الملائكة فعجزوا، واعترفوا بالقصور، ولهذا قال سبحانه ‏{‏أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ‏}‏ الآية‏.‏ قال فيما تقدم ‏{‏أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ ثم قال هنا ‏{‏أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض‏}‏ تدرّجاً من المجمل إلى ما هو مبين بعض بيان، ومبسوط بعض بسط، وفي اختصاصه بعلم غيب السموات، والأرض ردّ لما يتكلفه كثير من العباد من الإطلاع على شيء من علم الغيب كالمنجمين، والكهان، وأهل الرمل، والسحر، والشعوذة‏.‏

والمراد بما يبدون، وما يكتمون‏:‏ ما يظهرون، ويسرّون كما يفيده معنى ذلك عند العرب، ومن فسره بشيء خاص فلا يقبل منه ذلك إلا بدليل‏.‏

وقد أخرج الفريابي، وابن سعد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس، قال‏:‏ إنما سمي آدم، لأنه خلق من أديم الأرض‏.‏ وأخرج نحوه عبد بن حميد، وابن جرير، عن سعيد بن جبير‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسماء كُلَّهَا‏}‏ قال‏:‏ علمه اسم الصحفة، والقدر، وكل شيء‏.‏ وأخرج ابن جرير، عنه نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عنه في تفسير الآية قال‏:‏ عرض عليه أسماء ولده إنساناً إنساناً، والدواب، فقيل هذا الجمل، هذا الحمار، هذا الفرس‏.‏ وأخرج الحاكم في تاريخه، وابن عساكر، والديلمي عن عطية بن بُشر مرفوعاً في قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَ ءادَمَ الأسماء كُلَّهَا‏}‏ قال‏:‏ علم الله آدم في تلك الأسماء ألف حرفة من الحرف، وقال له‏:‏ قل لأولادك، ولذريتك إن لم تصبروا عن الدّنيا، فاطلبوها بهذه الحرف، ولا تطلبوها بالدين، فإن الدين لي وحدي خالصاً، ويل لمن طلب الدنيا بالدين ويل له‏.‏ وأخرج الديلمي عن أبي رافع قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مثلت لي أمتي في الماء والطين، وعلمت الأسماء كلها كما علم آدم الأسماء كلها» وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد في تفسير الآية قال‏:‏ أسماء ذريته أجمعين ‏{‏ثُمَّ عَرَضَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ أخذهم من ظهره‏.‏ وأخرج عن الربيع بن أنس قال‏:‏ أسماء الملائكة‏.‏

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس ‏{‏ثُمَّ عَرَضَهُمْ‏}‏ يعني عرض أسماء جميع الأشياء التي علمها آدم من أصناف الخلق‏.‏ ‏{‏فَقَالَ أَنبِئُونِى‏}‏ يقول أخبروني ‏{‏بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ إن كنتم تعلمون أني لم أجعل في الأرض خليفة ‏{‏قَالُواْ سبحانك‏}‏ تنزيها الله من أن يكون يعلم الغيب أحد غيره تبنا إليك ‏{‏لاَ عِلْمَ لَنَا‏}‏ تبرؤا منهم من علم الغيب ‏{‏إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا‏}‏ كما علمت آدم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن مجاهد قال‏:‏ عرض أصحاب الأسماء على الملائكة‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ أَنتَ العليم الحكيم‏}‏ قال‏:‏ العليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمه‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود، وناس من الصحابة في قوله‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أن بني آدم يفسدون في الأرض، ويسفكون الدماء ‏{‏وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ‏}‏ قال‏:‏ قولهم ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏، ‏{‏وَمَا كُنْتَم تَكْتُمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبر‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏مَا تُبْدُونَ‏}‏ ما تظهرون ‏{‏وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏ يقول‏:‏ أعلم السرّ كما أعلم العلانية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏"‏ إِذْ ‏"‏ متعلق بمحذوف تقديره‏:‏ واذكر إذ قلنا‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ ‏"‏ إذ ‏"‏ زائدة، وهو ضعيف‏.‏ وقد تقدم الكلام في الملائكة، وآدم‏.‏ السجود معناه في كلام العرب‏:‏ التذلل والخضوع‏.‏ وغايته وضع الوجه على الأرض‏.‏ قال ابن فارس‏:‏ سجد إذا تطامن، وكل ما سجد، فقد ذلّ، والإسجاد‏:‏ إدامة النظر‏.‏ وقال أبو عمر‏:‏ وسجد إذا طأطأ رأسه‏.‏ وفي هذه الآية فضيلة لآدم عليه السلام عظيمة حيث أسجد الله له ملائكته‏.‏ وقيل‏:‏ إن السجود كان لله ولم يكن لآدم، وإنما كانوا مستقبلين له عند السجود، ولا ملجئ لهذا، فإن السجود للبشر قد يكون جائزاً في بعض الشرائع بحسب ما تقتضيه المصالح‏.‏ وقد دلت هذه الآية على أن السجود لآدم، وكذلك الآية الأخرى أعني قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ ساجدين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 29‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏ فلا يستلزم تحريمه لغير الله في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون كذلك في سائر الشرائع‏.‏ ومعنى السجود هنا‏:‏ هو وضع الجبهة على الأرض، وإليه ذهب الجمهور‏.‏ وقال قوم‏:‏ هو مجرد التذلل، والانقياد‏.‏ وقد وقع الخلاف هل كان السجود من الملائكة لآدم قبل تعليمه الأسماء أم بعده‏؟‏ وقد أطال البحث في ذلك البقاعي في تفسيره‏.‏ وظاهر السياق أنه وقع التعليم، وتعقبه الأمر بالسجود، وتعقبه إسكانه الجنة، ثم إخراجه منها، وإسكانه الأرض‏.‏

وقوله ‏{‏إِلاَّ إِبْلِيسَ‏}‏ استثناء متصل؛ لأنه كان من الملائكة على ما قاله الجمهور‏.‏ وقال شهر بن حوشب، وبعض الأصوليين‏:‏ كَانَ مِنَ الجن الذين كانوا في الأرض‏.‏ فيكون الاستثناء على هذا منقطعاً‏.‏ واستدلوا على هذا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏ وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 50‏]‏ والجنّ غير الملائكة، وأجاب الأوّلون بأنه لا يمتنع أن يخرج إبليس عن جملة الملائكة، لما سبق في علم الله من شقائه عدلاً منه ‏{‏لا يُسْألُ * عَمَّا يَفْعَلُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 23‏]‏ وليس في خلقه من نار ولا تركيب الشهوة فيه حين غضب عليه ما يدفع بأنه من الملائكة وأيضاً على تسليم ذلك لا يمتنع أن يكون الاستثناء متصلاً، تغليباً للملائكة الذين هم ألوف مؤلفة على إبليس الذي هو فرد واحد بين أظهرهم‏.‏ ومعنى ‏{‏أبى‏}‏ امتنع من فعل ما أمر به‏.‏ والاستكبار‏:‏ الاستعظام للنفس، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أن الكبر بطَرَ الحق، وغمط الناس ‏"‏ وفي رواية «غمص» بالصاد المهملة ‏{‏وَكَانَ مِنَ الكافرين‏}‏ أي‏:‏ من جنسهم‏.‏ قيل‏:‏ إن ‏{‏كان‏}‏ هنا بمعنى صار‏.‏ وقال ابن فورك‏:‏ إنه خطأ ترده الأصول‏.‏ وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ كانت السجدة لآدم، والطاعة لله‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال‏:‏ سجدوا كرامة من الله أكرم بها آدم‏.‏ وأخرج ابن عساكر عن إبراهيم المزني قال‏:‏ إن الله جعل آدم كالكعبة‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا، وابن أبي حاتم وابن الأنباري عن ابن عباس قال‏:‏ كان إبليس اسمه عزازيل، وكان من أشراف الملائكة من ذوي الأجنحة الأربعة، ثم أبلس بعد‏.‏ وروى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه قال‏:‏ إنما سمي إبليس؛ لأن الله أبلسه من الخير كله‏:‏ أي‏:‏ آيسه منه‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن الأنباري، عنه، قال‏:‏ كان إبليس قبل أن يرتكب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض، وكان من أشدّ الملائكة اجتهاداً، وأكثرهم علماً، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حيّ يسمون جناً‏.‏ وأخرج ابن المنذر، والبيهقي في الشعب عنه قال‏:‏ كان إبليس من خزان الجنة، وكان يدبر أمر سماء الدنيا‏.‏

وأخرج محمد بن نصر عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله أمر آدم بالسجود، فسجد، فقال‏:‏ لك الجنة، ولمن سجد من ولدك، وأمر إبليس بالسجود، فأبى أن يسجد، فقال‏:‏ لك النار، ولمن أبى من ولدك أن يسجد» وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ مِنَ الكافرين‏}‏ قال‏:‏ جعله الله كافراً لا يستطيع أن يؤمن‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي، قال‏:‏ ابتدأ الله خلق إبليس على الكفر، والضلالة، وعمل بعمل الملائكة، فصيره إلى ما ابتدئ إليه خلقه من الكفر؛ قال الله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ مِنَ الكافرين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 39‏]‏

‏{‏وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏35‏)‏ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏36‏)‏ فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏37‏)‏ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏38‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏اسكن‏}‏ أي‏:‏ اتخذ الجنة مسكناً وهو محل السكون‏.‏ وأما ما قاله بعض المفسرين من أن في قوله‏:‏ ‏{‏اسكن‏}‏ تنبيهاً على الخروج؛ لأن السكنى لا تكون ملكاً، وأخذ ذلك من قول جماعة من العلماء أن من أسكن رجلاً منزلاً له، فإنه لا يملكه بذلك، وإن له أن يخرجه منه، فهو‏:‏ معنى عرفي، والواجب الأخذ بالمعنى العربي، إذا لم تثبت في اللفظ حقيقة شرعية‏.‏ و‏{‏أَنتَ‏}‏ تأكيد للضمير المستكن في الفعل، ليصح العطف عليه، كما تقرّر في علم النحو، أنه لا يجوز العطف على الضمير المرفوع المستكنّ إلا بعد تأكيده بمنفصل‏.‏ وقد يجيء العطف نادراً بغير تأكيد كقول الشاعر‏:‏

قلتُ إذَا أقْبَلتْ وزُهْرُ تَهَادى *** كَنِعاج المَلا تَعسَّفْنَ رَمْلا

وقوله؛ ‏{‏وَزَوْجُكَ‏}‏ أي‏:‏ حوّاء، وهذه هي اللغة الفصيحة زوج بغير هاء، وقد جاء بها قليلاً كما في صحيح مسلم من حديث أنس‏:‏ ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع إحدى نسائه، فمرّ به رجل، فدعاه وقال‏:‏ يا فلان هذه زوجتي فلانة ‏"‏ الحديث، ومنه قول الشاعر‏:‏

وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي *** كساع إلى أسد الشرى يستميلها

و ‏{‏رَغَدًا‏}‏ بفتح المعجمة، وقرأ النخعي، وابن وثاب بسكونها، والرغد‏:‏ العيش الهنيء الذي لا عناء فيه، وهو منصوب على الصفة لمصدر محذوف‏.‏ و‏{‏حَيْثُ‏}‏ مبنية على الضم، وفيها لغات كثيرة مذكورة في كتب العربية‏.‏ والقرب‏:‏ الدنّو، قال في الصحاح‏:‏ قرب الشيء بالضم يَقْرُب قُرْباً أي دنا، وقَرِبته بالكسر أقربه قرباناً أي‏:‏ دنوت منه، وقَرَبْتُ أقْرب قِرِابَةً مثل كتبت أكتب كتابة‏:‏ إذا سرت إلى الماء، وبينك، وبينه ليلة‏.‏ والاسم القرب‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ قلت لأعرابي‏:‏ ما القرب‏؟‏ قال‏:‏ سير الليل لورود الغد‏.‏ والنهي عن القرب فيه سدّ للذريعة، وقطع للوسيلة، ولهذا جاء به عوضاً عن الأكل، ولا يخفى أن النهي عن القرب لا يستلزم النهي عن الأكل، لأنه قد يأكل من ثمر الشجرة من هو بعيد عنها إذا يحمل إليه، فالأولى أن يقال‏:‏ المنع من الأكل مستفاد من المقام‏.‏ والشجر‏:‏ ما كان له ساق من نبات الأرض، وواحده شجرة، وقرئ بكسر الشين، وبالياء المثناة من تحت مكان الجيم‏.‏ وقرأ ابن محيصن‏:‏ «هذي» بالياء بدل الهاء وهو الأصل‏.‏ واختلف أهل العلم في تفسير هذه الشجرة، فقيل‏:‏ هي‏:‏ الكرم‏.‏ وقيل‏:‏ السنبلة، وقيل التين، وقيل الحنطة، وسيأتي ما روى عن الصحابة، فمن بعدهم في تعيينها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَتَكُونَا‏}‏ معطوف على ‏{‏تَقْرَبَا‏}‏ في الكشاف، أو نصب في جواب النهي، وهو الأظهر‏.‏ والظلم أصله‏:‏ وضع الشيء في غير موضعه‏.‏ والأرض المظلومة‏:‏ التي لم تحفر قط، ثم حفرت، ورجل ظليم‏:‏ شديد الظلم‏.‏ والمراد هنا ‏{‏فَتَكُونَا مِنَ الظالمين‏}‏ لأنفسهم بالمعصية، وكلام أهل العلم في عصمة الأنبياء، واختلاف مذاهبهم في ذلك مدوّن في مواطنه، وقد أطال البحث في ذلك الرازي في تفسيره في هذا الموضع، فليرجع إليه، فإنه مفيد‏.‏

وأزلهَّما من الزلة، وهي الخطيئة، أي استزلهما، وأوقعهما فيها‏.‏ وقرأ حمزة‏:‏ «فأزالهما» بإثبات الألف من الإزالة، وهي التنحية، أي نحاهما‏.‏ وقرأ‏:‏ الباقون بحذف الألف‏.‏ قال ابن كيسان‏:‏ هو‏:‏ من الزوال، أي‏:‏ صرفهما عما كانا عليه من الطاعة إلى المعصية‏.‏ قال القرطبي‏:‏ وعلى هذا تكون القراءتان بمعنى، إلاّ أن قراءة الجماعة أمكن في المعنى؛ يقال منه‏:‏ أزللته فزّل و‏{‏عَنْهَا‏}‏ متعلق بقوله ‏{‏أزلهما‏}‏ على تضمينه معنى أصدر، أي أصدر الشيطان زلتهما عنها، أي بسببها، يعني الشجرة‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير للجنة، وعلى هذا، فالفعل مضمن معنى أبعدهما‏:‏ أي‏:‏ أبعدهما عن الجنة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَخْرَجَهُمَا‏}‏ تأكيد لمضمون الجملة الأولى أي‏:‏ أزلهما، إن كان معناه زال عن المكان، وإن لم يكن معناه كذلك، فهو تأسيس، لأن الإخراج فيه زيادة على مجرد الصرف، والإبعاد، ونحوهما‏:‏ لأن الصرف عن الشجرة، والإبعاد عنها قد يكون مع البقاء في الجنة، بخلاف الإخراج لهما عما كانا فيه من النعيم، والكرامة، أو من الجنة، وإنما نسب ذلك إلى الشيطان؛ لأنه الذي تولى إغواء آدم حتى أكل من الشجرة‏.‏ وقد اختلف أهل العلم في الكيفية التي فعلها الشيطان في إزلالهما، فقيل‏:‏ إنه كان ذلك بمشافهة منه لهما، وإليه ذهب الجمهور، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى ‏{‏وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 21‏]‏ والمقاسمة ظاهرها المشافهة‏.‏ وقيل‏:‏ لم يصدر منه إلا مجرد الوسوسة، وقيل غير ذلك مما سيأتي في المروي عن السلف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏اهبطوا‏}‏ خطاب لآدم وحواء، وخوطبا بما يخاطب به الجمع؛ لأن الاثنين أقلّ الجمع عند البعض من أئمة العربية، وقيل إنه خطاب لهما، ولذريتهما؛ لأنهما لما كانا أصل هذا النوع الانساني جعلا بمنزلته، ويدل على ذلك قوله ‏{‏بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ‏}‏ فإن هذه الجملة الواقعة حالاً مبيناً للهيئة الثابتة للمأمورين بالهبوط تفيد ذلك‏.‏ والعدوّ خلاف الصديق، وهو من عدا إذا ظلم، ويقال ذئب عدوان، أي يعدو على الناس، والعدوان‏:‏ الظلم الصراح وقيل‏:‏ إنه مأخوذ من المجاوزة، يقال عداه‏:‏ إذا جاوزه، والمعنيان متقاربان، فإن من ظلم، فقد تجاوز‏.‏ وإنما أخبر عن قوله‏:‏ ‏{‏بَعْضُكُمْ‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏عَدُوٌّ‏}‏ مع كونه مفرداً؛ لأن لفظ بعض، وإن كان معناه محتملاً للتعدد، فهو مفرد فروعي جانب اللفظ، وأخبر عنه بالمفرد، وقد يراعى المعنى، فيخبر عنه بالمتعدد‏.‏ وقد يجاب بأن ‏{‏عَدُوٌّ‏}‏ وإن كان مفرداً، فقد يقع موقع المتعدد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 50‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العدو‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 4‏]‏ قال ابن فارس‏:‏ العدوّ اسم جامع للواحد، والاثنين، والثلاثة‏.‏ والمراد بالمستقرّ موضع الاستقرار، ومنه‏:‏

‏{‏أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 24‏]‏ وقد يكون بمعنى الاستقرار، ومنه‏:‏ ‏{‏إلى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 12‏]‏ فالآية محتملة للمعنيين، ومثلها قوله‏:‏ ‏{‏جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 64‏]‏ والمتاع‏:‏ ما يستمتع به من المأكول، والمشروب، والملبوس، ونحوها‏.‏

واختلف المفسرون في قوله‏:‏ ‏{‏إلى حِينٍ‏}‏ فقيل إلى الموت، وقيل إلى قيام الساعة‏.‏ وأصل معنى الحين في اللغة‏:‏ الوقت البعيد، ومنه ‏{‏هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مّنَ الدهر‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 1‏]‏ والحين الساعة، ومنه‏:‏ ‏{‏أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 58‏]‏ والقطعة من الدهر، ومنه‏:‏ ‏{‏فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 54‏]‏ أي‏:‏ حتى تفنى آجالهم، ويطلق على السنة، وقيل على ستة أشهر، ومنه ‏{‏تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 25‏]‏ ويطلق على الصباح، والمساء، ومنه ‏{‏حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 17‏]‏ وقال الفراء‏:‏ الحين حينان‏:‏ حين لا يوقف على حده، ثم ذكر الحين الآخر، واختلافه بحسب اختلاف المقامات كما ذكرنا‏.‏ وقال ابن العربي‏:‏ الحين المجهول لا يتعلق به حكم، والحين المعلوم سنة‏.‏

ومعنى تلقي آدم للكلمات‏:‏ أخذه لها، وقبوله لما فيها، وعمله بها، وقيل‏:‏ فهمه لها، وفطانته لما تضمنته‏.‏ وأصل معنى التلقي‏:‏ الاستقبال، أي‏:‏ استقبل الكلمات الموحاة إليه‏.‏ ومن قرأ بنصب «آدم» جعل معناه استقبلته الكلمات‏.‏ وقيل‏:‏ إن معنى تلقي تلقن‏.‏ ولا وجه له في العربية‏.‏ واختلف السلف في تعيين هذه الكلمات وسيأتي‏.‏ والتوبة‏:‏ الرجوع، يقال‏:‏ تاب العبد‏:‏ إذا رجع إلى طاعة مولاه، وعبد توّاب‏:‏ كثير الرجوع، فمعنى تاب عليه‏:‏ رجع عليه بالرحمة، فقبل توبته، أو وفَقَّه للتوبة‏.‏ واقتصر على ذكر التوبة على آدم دون حواء مع اشتراكهما في الذنب؛ لأن الكلام من أوّل القصة معه، فاستمر على ذلك، واستغنى بالتوبة عليه عن ذكر التوبة عليها؛ لكونها تابعة له، كما استغنى بنسبة الذنب إليه عن نسبته إليها في قوله‏:‏ ‏{‏وعصئادم * رَبَّهُ فغوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 121‏]‏‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏قُلْنَا اهبطوا‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏قُلْنَا اهبطوا‏}‏، فكررّه للتوكيد، والتغليظ‏.‏ وقيل إنه لما تعلق به حكم غير الحكم الأوّل كرره، ولا تزاحم بين المقتضيات‏.‏ فقد يكون التكرير للأمرين معاً‏.‏ وجواب الشرط في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى‏}‏ هو الشرط الثاني مع جوابه قاله سيبويه‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ إن جواب الشرط الأوّل، والثاني قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ خَوْفٌ‏}‏ واختلفوا في معنى الهدى المذكور، فقيل‏:‏ هو كتاب الله‏.‏ وقيل‏:‏ التوفيق للهداية‏.‏ والخوف‏:‏ هو الذعر، ولا يكون إلا في المستقبل‏.‏ وقرأ‏:‏ الزهري، والحسن وعيسى بن عمار، وابن أبي إسحاق، ويعقوب‏:‏ «فلا خوف» بفتح الفاء، والحزن ضد السرور‏.‏ قال اليزيدي‏:‏ حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم‏.‏ وقد قرئ بهما‏.‏ وصحبة أهل النار لها بمعنى الاقتران، والملازمة‏.‏ وقد تقدّم ذكر تفسير الخلود‏.‏

وقد أخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن أبي ذر قال‏:‏ ‏"‏ قلت يا رسول الله أرأيت آدم نبياً كان‏؟‏ قال‏:‏ نعم كان نبياً رسولاً كلمه الله، قال له ‏{‏يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة‏}‏ ‏"‏

وأخرج ابن أبي شيبة، والطبراني، عن أبي ذر قال‏:‏ «قلت يا رسول الله، من أوّل الأنبياء‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ آدم ‏"‏ قلت‏:‏ نبي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ نعم ‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ نوح وبينهما عشرة آباء ‏"‏ وأخرج أحمد، والبخاري في تاريخه، والبيهقي في الشعب نحوه من حديث أبي ذر مرفوعاً وزاد‏:‏ «كم كان المرسلون‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ ثلثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً ‏"‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي، عن أبي أمامة الباهلي، أن رجلاً قال‏:‏ «يا رسول الله أنبيّ كان آدم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ نعم ‏"‏ قال‏:‏ كم بينه وبين نوح‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ عشرة قرون ‏"‏ قال‏:‏ كم بين نوح، وبين إبراهيم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ عشرة قرون ‏"‏ قال‏:‏ يا رسول الله كم الأنبياء‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ‏"‏ قال‏:‏ يا رسول الله كم كانت الرسل من ذلك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ ثلثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً ‏"‏ وأخرج أحمد، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه من حديث أبي أمامة نحوه، وصرح بأن السائل أبو ذرّ‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال‏:‏ ما سكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي عنه، قال‏:‏ «ما غابت الشمس من ذلك اليوم حتى أهبط من الجنة»‏.‏ وأخرج الفريابي، وأحمد في الزهد، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن الحسن قال‏:‏ لبث آدم في الجنة ساعة من نهار، تلك الساعة مائة وثلاثون سنة من أيام الدنيا‏.‏ وقد روي تقدير اللُّبث في الجنة عن سعيد بن جبير بمثل ما تقدّم، عن ابن عباس كما رواه أحمد في الزهد‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي، وابن عساكر، عن ابن عباس، وابن مسعود، وناس من الصحابة قالوا‏:‏ لما سكن آدم الجنة كان يمشي فيها وحشاً ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ، وإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء من الضلع رأسه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته تركته، وفيه عوج ‏"‏ وروى أبو الشيخ، وابن عساكر، عن ابن عباس قال‏:‏ إنما سميت حواء؛ لأنها أمّ كل حي‏.‏ وأخرج ابن عدي، وابن عساكر، عن النخعي قال‏:‏ لما خلق الله آدم، وخلق له زوجه بعث إليه ملكاً، وأمره بالجماع ففعل، فلما فرغ قالت له حواء‏:‏ يا آدم هذا طيب زدنا منه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن عساكر، عن ابن مسعود، وناس من الصحابة قال‏:‏ الرغد الهنيء‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ الرغد‏:‏ سعة المعيشة‏.‏ وأخرجا عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا‏}‏ قال‏:‏ لا حساب عليكم‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن عساكر من طرق، عن ابن عباس قال‏:‏ الشجرة التي نهى الله عنها آدم السنبلة وفي لفظ‏:‏ البرّ‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، عنه قال‏:‏ هي الكرم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود مثله‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عنه قال‏:‏ هي‏:‏ اللوز‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن بعض الصحابة قال‏:‏ هي‏:‏ التينة‏.‏ وروى مثله أبو الشيخ عن مجاهد وابن أبي حاتم عن قتادة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن وهب بن منبه قال‏:‏ هي‏:‏ البرّ‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن أبي مالك قال‏:‏ هي‏:‏ النخلة‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيْط قال‏:‏ هي الأترجّ‏.‏ وأخرج أحمد في الزهد، عن شعيب الجبائي قال‏:‏ هي تشبه البرّ، وتسمى الدّعة،

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَأَزَلَّهُمَا‏}‏ قال‏:‏ فأغواهما‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن عاصم بن بهدلة قال‏:‏ ‏{‏فَأَزَلَّهُمَا‏}‏ فنحاهما‏.‏ وأخرج أبو داود في المصاحف، عن الأعمش قال‏:‏ قراءتنا في البقرة مكان ‏{‏فأزلهما‏}‏ «فوسوس»‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا‏:‏ أراد إبليس أن يدخل عليهما الجنة، فمنعته الخزنة، فأتى الحية، وهي دابة لها أربع قوائم، كأنها البعير، وهي‏:‏ كأحسن الدواب، فكلمها أن تدخله في فمها حتى تدخل به إلى آدم، فأدخلته في فمها، فمرّت الحية على الخزنة فدخلت، ولا يعلمون لما أراد الله من الأمر، فكلمه من فمها فلم يبال بكلامه، فخرج إليه فقال‏:‏ ‏{‏يا آدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 120‏]‏ وحلف لهما بالله ‏{‏إِنّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 21‏]‏ فأبى آدم أن يأكل منها، فتقدّمت حواء، فأكلت، ثم قالت‏:‏ يا آدم كل، فإني قد أكلت، فلم يضرني، فلما أكلا ‏{‏بَدَتْ لَهُمَا سَوْءتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وقد أخرج قصة الحية، ودخول إبليس معها، عبد الرزاق، وابن جرير، عن ابن عباس‏.‏

وأخرج ابن سعد، وأحمد في الزهد، وعبد بن حميد، وابن المنذر والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن آدم كان رجلاً طوالاً كأنه نخلة سحوق طوله ستون ذراعاً كثير شعر الرأس، فلما ركب الخطيئة بدت له عورته» الحديث‏.‏ وأخرج ابن منيع، وابن المنذر، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس‏.‏ قال‏:‏ قال الله لآدم‏:‏ ما حملك على أن أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها‏؟‏ قال‏:‏ يا ربّ زينته لي حوّاء، قال‏:‏ فإني عاقبتها بألا تحمل إلا كرهاً، ولا تضع إلا كرهاً، وأدميتها في كل شهر مرتين‏.‏

وأخرج البخاري، والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم، ولولا حوّاء لم تخن أنثى زوجها ‏"‏ وقد ثبتت أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة في الصحيحين، وغيرهما في محاجة آدم، وموسى، وحجّ آدم موسى بقوله‏:‏ أتلومني على أمر قدّره الله عليّ قبل أن أخلق‏؟‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْنَا اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ‏}‏ قال‏:‏ آدم، وحواء، وإبليس، والحية ‏{‏وَلَكُمْ فِى الأرض مُسْتَقَرٌّ‏}‏ قال‏:‏ القبور ‏{‏ومتاع إلى حِينٍ‏}‏ قال‏:‏ الحياة‏.‏ وروى نحو ذلك عن مجاهد، وأبي صالح وقتادة‏.‏ كما أخرجه عن الأول، والثاني أبو الشيخ، وعن الثالث عبد بن حميد‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن ابن مسعود في قوله ‏{‏وَلَكُمْ فِى الأرض مُسْتَقَرٌّ‏}‏ قال‏:‏ القبور ‏{‏ومتاع إلى حِينٍ‏}‏ قال‏:‏ إلى يوم القيامة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال‏:‏ أهبط آدم بالصفا، وحوّاء بالمروة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال‏:‏ أوّل ما أهبط الله آدم إلى أرض الهند وفي لفظ «بدجنى أرض الهند»‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه أهبط إلى أرض بين مكة، والطائف‏.‏ وأخرج ابن جرير، والحاكم وصححه، والبيهقي عنه، قال‏:‏ قال عليّ بن أبي طالب‏:‏ أطيب ريح الأرض الهند، هبط بها آدم، فعلق شجرها من ريح الجنة‏.‏ وأخرج ابن سعد، وابن عساكر، عن ابن عباس قال‏:‏ أهبط آدم بالهند، وحواء بجدّة، فجاء في طلبها حتى أتى جمعاً، فازدلفت إليه حواء، فلذلك سميت المزدلفة، واجتمعا بجمع‏.‏

وأخرج الطبراني، وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أنزل آدم عليه السلام بالهند، فاستوحش، فنزل جبريل، فنادى بالأذان، فلما سمع ذكر محمد قال له‏:‏ ومن محمد هذا‏؟‏ قال‏:‏ هذا آخر، ولدك من الأنبياء ‏"‏ وقد روى عن جماعة من الصحابة أن آدم أهبط إلى أرض الهند، منهم جابر أخرجه ابن أبي الدنيا، وابن المنذر، وابن عساكر، ومنهم‏:‏ ابن عمر أخرجه الطبراني‏.‏ وأخرج ابن عساكر، عن عليّ قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله لما خلق الدنيا لم يخلق فيها ذهباً، ولا فضة، فلما أهبط آدم، وحواء أنزل معهما ذهبا، وفضة، فسلكه ينابيع في الأرض، منفعة لأولادهما من بعدهما، وجُعِل ذلك صداقاً لحواء فلا ينبغي لأحد أن يتزوج إلا بصداق ‏"‏

وأخرج ابن عساكر بسند ضعيف، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ هبط آدم، وحواء عريانين جميعاً عليهم ورق الجنة، قعد يبكي، ويقول لها‏:‏ يا حوّاء قد آذاني الحر، فجاءه جبريل بقطن، وأمرها أن تغزل، وعلمها، وأمر آدم بالحياكة، وعلمه ‏"‏ وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس مرفوعاً‏:‏ «أوّل من حاك آدم عليه السلام»‏.‏

وقد روى عن جماعة من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم حكايات في صفة هبوط آدم من الجنة، وما أهبط معه، وما صنع عند وصوله إلى الأرض، ولا حاجة لنا ببسط جميع ذلك‏.‏

وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ‏}‏ قال‏:‏ أي رب ألم تخلقني بيدك‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ أي ربّ ألم تنفخ فيّ من روحك‏؟‏ بلى قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ أي رب ألم تسبق إليّ رحمتك قبل غضبك‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ أي ربّ ألم تسكني جنتك‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ أي رب أرأيت إن تبتُ وأصلحتُ أراجعي أنت إلى الجنة‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ وأخرج الطبراني في الأوسط، وابن عساكر بسند ضعيف، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لما أهبط الله آدم إلى الأرض قام وجاه الكعبة فصلى ركعتين ‏"‏ الحديث‏.‏ وقد روى نحوه بإسناد لا بأس به أخرجه الأزرقي في تاريخ مكة، والطبراني في الأوسط، والبيهقي في الدعوات، وابن عساكر من حديث بريدة مرفوعاً‏.‏ وأخرج الثعلبي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ‏}‏ قال‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جرير عنه مثله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان عن محمد بن كعب القرظي في قوله‏:‏ ‏{‏فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ‏}‏ مثله‏:‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن مجاهد مثله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن الحسن، والضحاك مثله‏.‏

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قيل له‏:‏ ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه‏؟‏ قال‏:‏ علم شأن الحج، فهي الكلمات‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن زيد في قوله‏:‏ ‏{‏فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ‏}‏ قال‏:‏ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءاً، وظلمت نفسي، فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك، وبحمدك، رب عملت سوءاً، وظلمت نفسي، فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك، وبحمدك رب عملت سوءاً، وظلمت نفسي، فتب عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم‏.‏

وأخرج نحوه البيهقي في شعب الإيمان، وابن عساكر، عن أنس‏.‏ وأخرج نحوه هنا، وفي الزهد عن سعيد بن جبير‏.‏ وأخرج نحوه ابن عساكر من طريق جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس‏.‏ وأخرج نحوه الديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف عن عليّ مرفوعاً‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله ‏{‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى‏}‏ قال الهدى‏:‏ الأنبياء، والرسل، والبيان‏.‏ وأخرج ابن الأنباري، في المصاحف عن أبي الطفيل قال‏:‏ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏فَمَن تَبِعَ * هُدِىَ‏}‏ بتثقيل الياء، وفتحها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ يعني في الآخرة ‏{‏وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ يعني لا يحزنون للموت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 42‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ‏(‏40‏)‏ وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ‏(‏41‏)‏ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

اعلم أن كثيراً من المفسرين جاءوا بعلم متكلف، وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته، واستغرقوا أوقاتهم في فنّ لا يعود عليهم بفائدة، بل أوقعوا أنفسهم في التكلف بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه، وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية، المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف، فجاءوا بتكلفات، وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف، ويتنزه عنها كلام البلغاء، فضلاً عن كلام الرب سبحانه، حتى أفردوا ذلك بالتصنيف، وجعلوه المقصد الأهمّ من التأليف، كما فعله البقاعي في تفسيره، ومن تقدّمه، حسبما ذكر في خطبته، وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرّقاً على حسب الحوادث المقتضية لنزوله، منذ نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قبضه الله- عزّ وجل- إليه،

وكل عاقل فضلاً، عن عالم، لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية نزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها، بل قد تكون متناقضة، كتحريم أمرٍ كان حلالاً، وتحليل أمر كان حراماً، وإثبات أمر لشخص أو أشخاص يناقض ما كان قد ثبت لهم قبله، وتارة يكون الكلام مع المسلمين، وتارة مع الكافرين، وتارة مع من مضى، وتارة مع من حضر، وحيناً في عبادة، وحيناً في معاملة، ووقتاً في ترغيب، ووقتاً في ترهيب، وآونة في بشارة، وآونة في نذارة، وطوراً في أمر دنيا، وطوراً في أمر آخرة، ومرة في تكاليف آتية، ومرة في أقاصيص ماضية، وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف، ومتباينة هذا التباين الذي لا يتيسر معه الائتلاف، فالقرآن النازل فيها هو باعتباره نفسه مختلف كاختلافها، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب، والنون، والماء والنار، والملاح، والحادي‏؟‏

وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك، وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض، أو كان مرضه مجرد الجهل، والقصور، فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن، ويفردون ذلك بالتصنيف، تقرّر عنده أن هذا أمر لا بد منه، وأنه لا يكون القرآن بليغاً معجزاً إلا إذا ظهر الوجه المقتضى للمناسبة، وتبين الأمر الموجب للارتباط، فإن وجد الاختلاف بين الآيات، فرجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك، فوجده تكلفاً محضاً، وتعسفاً بيناً انقدح في قلبه ما كان عنه في عافية، وسلامة، هذا على فرض أن نزول القرآن كان مترتباً على هذا الترتيب الكائن في المصحف؛ فكيف، وكل من له أدنى علم بالكتاب، وأيسر حظ من معرفته يعلم علماً يقيناً أنه لم يكن كذلك، ومن شك في هذا، وإن لم يكن مما يشك فيه أهل العلم، رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول، المطلعين على حوادث النبوّة، فإنه ينثلج صدره، ويزول عنه الريب، بالنظر في سورة من السور المتوسطة، فضلاً عن المطوّلة؛ لأنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة، وأوقات متباينة لا مطابقة بين أسبابها وما نزل فيها في الترتيب، بل يكفي المقصر أن يعلم أن أوّل ما نزل‏:‏

‏{‏اقرأ باسم رَبّكَ الذى خَلَقَ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏ وبعده ‏{‏يأَيُّهَا المدثر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏يأَيُّهَا المزمل‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 1‏]‏ وينظر أين موضع هذه الآيات، والسور في ترتيب المصحف‏؟‏

وإذا كان الأمر هكذا، فأيّ معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعاً أنه قد تقدّم في ترتيب المصحف ما أنزله الله متأخراً، وتأخر ما أنزله الله متقدماً، فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن، بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه، ممن تصدّى لذلك من الصحابة، وما أقل نفع مثل هذا، وأنزر ثمرته، وأحقر فائدته، بل هو عند من يفهم ما يقول، وما يقال له من تضييع الأوقات، وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله، ولا على من يقف عليه من الناس، وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه، ورسائله وإنشاءاته، أو إلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحاً، وأخرى هجاء، وحيناً نسيباً، وحيناً رثاءً، وغير ذلك من الأنواع المتخالفة، فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع، فناسب بين فقره ومقاطعه، ثم تكلَّف تكلفاً آخر، فناسب بين الخطبة التي خطبها في الجهاد، والخطبة التي خطبها في الحج، والخطبة التي خطبها في النكاح، ونحو ذلك، وناسب بين الإنشاء الكائن في العزاء، والإنشاء الكائن في الهناء وما يشابه ذلك، لعدّ هذا المتصدي لمثل هذا مصاباً في عقله، متلاعباً بأوقاته، عابثاً بعمره الذي هو رأس ماله‏.‏

وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر، فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب، وأبكمت فصاحته فصحاء عدنان، وقحطان‏؟‏ وقد علم كل مقصر وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنه عربيّ، وأنزله بلغة العرب، وسلك فيه مسالكهم في الكلام، وجرى به مجاريهم في الخطاب‏.‏ وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متخالفة، وطرائق متباينة فضلاً عن المقامين، فضلاً عن المقامات، فضلاً عن جميع ما قاله ما دام حياً، وكذلك شاعرهم‏.‏ ولنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي تعثَّر في ساحتها كثير من المحققين،

وإنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن؛ لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم عليه السلام، فإذا قال متكلف‏:‏ كيف ناسب هذا ما قبله‏؟‏ قلنا‏:‏ لا كيف‏:‏

فَدعْ عَنْكَ نَهباً صِيح في حُجَراته *** وَهات حَدِيثاً مَا حَدِيثُ الرواحِل

قوله‏:‏ ‏{‏يا بَنِى إسراءيل‏}‏ اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إبراهيم عليهم السلام، ومعناه‏:‏ عبد الله؛ لأن ‏"‏ إسر ‏"‏ في لغتهم هو‏:‏ العبد، ‏"‏ وإيل ‏"‏ هو‏:‏ الله، قيل‏:‏ إن له اسمين‏.‏ وقيل‏:‏ إسرائيل لقب له، وهو اسم عجمي غير منصرف‏.‏ وفيه سبع لغات‏:‏ إسرائيل بزنة إبراهيم، وإسرائِيل بمدّة مهموزة مختلسة رواها ابن شنبوذ، عن ورش، وإسرائيل بمدّة بعد الياء من غير، همز وهي‏:‏ قراءة الأعمش، وعيسى بن عمر، وقرأ الحسن من غير همز، ولا مدّ، وإسرائل بهمزة مكسورة‏.‏ وإسراءَل بهمزة مفتوحة، وتميم يقولون‏:‏ إسرائين‏.‏ والذكر هو ضد الإنصات، وجعله بعض أهل اللغة مشتركاً بين ذكر القلب واللسان‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ ما كان بالقلب، فهو مضموم الذال، وما كان باللسان، فهو مكسور الذال‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ والمعنى في الآية‏:‏ اذكروا شكر نعمتي، فحذف الشكر اكتفاءً بذكر النعمة، وهي اسم جنس، ومن جملتها أنه جعل منهم أنبياء، وأنزل عليهم الكتب، والمنّ والسلوى، وأخرج لهم الماء من الحجر، ونجاهم من آل فرعون وغير ذلك‏.‏

والعهد قد تقدم تفسيره‏.‏ واختلف أهل العلم في العهد المذكور في هذه الآية ما هو‏؟‏ فقيل هو‏:‏ المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 63‏]‏ وقيل هو‏:‏ ما في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسراءيل وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيباً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 12‏]‏ وقيل‏:‏ هو قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 187‏]‏‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو ما أخذ عليهم في التوراة من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ هو أداء الفرائض، ولا مانع من حمله على جميع ذلك‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ بما ضمنت لكم من الجزاء، والرهب، والرهبة‏:‏ الخوف، ويتضمن الأمر به معنى التهديد، وتقديم معمول الفعل يفيد الاختصاص كما تقدّم في ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ وإذا كان التقديم على طريقة الإضمار، والتفسير، مثل زيداً ضربته ‏{‏وإياى فارهبون‏}‏ كان أوكد في إفادة الاختصاص، ولهذا قال صاحب الكشاف‏:‏ وهو أوكد في إفادة الاختصاص من ‏{‏إياك نعبد‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ وسقطت الياء من قوله‏:‏ ‏{‏فارهبون‏}‏ لأنها رأس آية و‏{‏مُصَدّقًا‏}‏ حال من «ما» في قوله‏:‏ ‏{‏مَا أُنزِلَتْ‏}‏ أو من ضميرها المقدّر بعد الفعل، أي‏:‏ أنزلته‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ‏}‏ إنما جاء به مفرداً، ولم يقل كافرين حتى يطابق ما قبله؛ لأنه وصف لموصوف محذوف مفرد اللفظ، متعدد المعنى نحو فريق، أو فوج‏.‏ وقال الأخفش، والفراء‏:‏ إنه محمول على معنى الفعل؛ لأن المعنى أوّل من كفر‏.‏ وقد يكون من باب قولهم هو، أظرف الفتيان، وأجمله، كما حكى ذلك سيبويه، فيكون هذا المفرد قائماً مقام الجمع، وإنما قال‏:‏ ‏{‏أوّل‏}‏ مع أنه قد تقدّمهم إلى الكفر به كفار قريش؛ لأن المراد أوّل كافر به من أهل الكتاب؛ لأنهم العارفون بما يجب للأنبياء، وما يلزم من التصديق، والضمير في ‏"‏ به ‏"‏ عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي‏:‏ لا تكونوا أوّل كافر بهذا النبي مع كونكم قد وجدتموه مكتوباً عندكم في التوراة، والإنجيل، ميسراً به في الكتب المنزلة عليكم، وقد حكى الرازي في تفسيره في هذا الموضع ما وقف عليه من البشارات برسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب السابق‏.‏

وقيل‏:‏ إنه عائد إلى القرآن المدلول عليه بقوله‏:‏ ‏{‏بِمَا أَنزَلْتُ‏}‏ وقيل‏:‏ عائد إلى التوراة المدلول عليها بقوله‏:‏ ‏{‏لّمَا مَعَكُمْ‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي‏}‏ أي‏:‏ بأوامري ونواهيّ ‏{‏ثَمَناً قَلِيلاً‏}‏ أي‏:‏ عيشاً نزراً، ورئاسة لا خطر لها، جعل ما اعتاضوه ثمناً، وأوقع الاشتراء عليه، وإن كان الثمن هو المشترى به، لأن الاشتراء هنا مستعار للاستبدال، أي لا تستبدلوا بآياتي ثمناً قليلاً، وكثيراً ما يقع مثل هذا في كلامهم، وقد قدّمنا الكلام عليه في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 16‏]‏، ومن إطلاق اسم الثمن على نيل عرض من أعراض الدنيا قول الشاعر‏:‏

إن كُنتَ حَاوْلتَ دُنْيَا أوْ ظَفِرتَ بِها *** فَمَا أصَبْت بترك الحج مِنْ ثَمن

وهذه الآية، وإن كانت خطاباً لبني إسرائيل، ونهياً لهم، فهي متناولة لهذه الأمة بفحوى الخطاب، أو بلحنه، فمن أخذ من المسلمين رشوة على إبطال حق أمر الله به، أو إثبات باطل نهى الله عنه، أو امتنع من تعليم ما علمه الله، وكتم البيان أخذ الله عليه ميثاقه به، فقد اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً، وقوله‏:‏ ‏{‏وإياى فاتقون‏}‏ الكلام فيه كالكلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإياى فارهبون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 40‏]‏ وقد تقدم قريباً‏.‏ واللبس‏:‏ الخلط، يقال لبست عليه الأمر ألبسه‏:‏ إذا خلطت حقه بباطله، وواضحه بمشكله، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 9‏]‏ قالت الخنساء‏:‏

ترى الجليس يقول الحقَّ تحسبه *** رُشْداً وهيهات فانظر ما به التبسا

صدق مقالته واحذَر عداوته *** والبس عليه أموراً مثلَ ما لَبَسا

وقال العجاج‏:‏

لَما لَبَسنَ الحقَّ بِالتَّجَنيّ *** غَنِين فاسْتبدلن زيداً منيّ

ومنه قول عنترة‏:‏

وكتيبة لبستها بكتيبة *** حتى إذا التبست نفضت لها يدي

وقيل‏:‏ هو مأخوذ من التغطية‏:‏ أي لا تغطوا الحق بالباطل، ومنه قول الجعدي‏:‏

إذا ما الضجيع ثنى جيدها *** تثنت عليه وكانت لباسا

وقول الأخطل‏:‏

فوقد لبست لهذا الأمر أعصره *** حتى تجلل رأسي الشيب فاشتعلا

والأوّل أولى‏.‏ والباطل في كلام العرب‏:‏ الزائل، ومنه قو لبيد‏:‏

ألا كل شيء ما خلا الله باطل *** وبطل الشيء يبطل بطولاً أو بطلاناً، وأبطله غيره، ويقال ذهب دمه بطلاً‏:‏ أي هدراً، والباطل‏:‏ الشيطان، وسمي الشجاع بطلاً؛ لأنه يبطل شجاعة صاحبه، والمراد به هنا خلاف الحق‏.‏

والباء في قوله‏:‏ بالباطل يحتمل أن تكون صلة، وأن تكون للاستعانة ذكر معناه في الكشاف، ورجّح الرازي في تفسيره الثاني‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَكْتُمُواْ‏}‏ يجوز أن يكون داخلاً تحت حكم النهي، أو منصوباً بإضمار أن، وعلى الأوّل يكون كل واحد من اللبس، والكتم منهياً عنه، وعلى الثاني يكون المنهي عنه هو‏:‏ الجمع بين الأمرين، ومن هذا يلوح رجحان دخوله تحت حكم النهي، وأن كل واحد منهما لا يجوز فعله على انفراده، والمراد النهي عن كتم حجج الله التي أوجب عليهم تبليغها، وأخذ عليهم بيانها، ومن فسر اللبس أو الكتمان بشيء معين، ومعنى خاص، فلم يصب أن أراد أن ذلك هو‏:‏ المراد دون غيره، لا إن أراد أنه مما يصدق عليه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ جملة حالية، وفيه أن كفرهم كفر عناد لا كفر جهل، وذلك أغلظ للذنب، وأوجب للعقوبة، وهذا التقييد لا يفيد جواز اللبس، والكتمان مع الجهل؛ لأن الجاهل يجب عليه أن لا يقدم على شيء حتى يعلم بحكمه خصوصاً في أمور الدين، فإن التكلم فيها، والتصدّي للإصدار، والإيراد في أبوابها إنما أذن الله به لمن كان رأساً في العلم فرداً في الفهم، وما للجهال، والدخول فيما ليس من شأنهم، والقعود في غير مقاعدهم‏.‏ وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏مَعِىَ بَنِى إسراءيل‏}‏ قال للأحبار من اليهود ‏{‏اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي بلائي عندكم، وعند آبائكم لما كان نجاهم به من فرعون، وقومه ‏{‏وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى‏}‏ الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم ‏{‏أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏}‏ أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه، واتباعه بوضع ما كان عليكم من الإصر، والأغلال ‏{‏وإياى فارهبون‏}‏ أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات ‏{‏وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ‏}‏ وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم ‏{‏وَتَكْتُمُواْ الحق وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي، وبما جاءكم به وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم، وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْفُواْ * بِعَهْدِى‏}‏ يقول‏:‏ ما أمرتكم به من طاعتي، ونهيتكم عنه من معصيتي في النبي صلى الله عليه وسلم، وغيره ‏{‏أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ أرض عنكم، وأدخلكم الجنة‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن مسعود مثله‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْفُواْ * بِعَهْدِى‏}‏ قال‏:‏ هو‏:‏ الميثاق الذي أخذه عليهم في سورة المائدة ‏{‏لَقَدْ أَخَذْنَا * الله ميثاق بَنِى إسراءيل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 12‏]‏ الآية‏.‏

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال‏:‏ أوفوا لي بما افترضت عليكم أوف لكم بما وعدتكم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ، عن الضحاك نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏وإياى فارهبون‏}‏ قال‏:‏ فاخشون‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جريج، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ‏}‏ قال القرآن‏:‏ ‏{‏مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ‏}‏ قال التوراة والإنجيل‏.‏ وأخرج ابن جريج، عن ابن جرير في قوله‏:‏ ‏{‏أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ‏}‏ قال‏:‏ بالقرآن‏.‏ وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في الآية قال‏:‏ يقول يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت على محمد مصدقاً لما معكم؛ لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، والإنجيل ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ أوّل من كفر بمحمد ‏{‏وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي‏}‏ يقول‏:‏ لا تأخذا عليه أجراً، قال‏:‏ وهو‏:‏ مكتوب عندهم في الكتاب الأوّل‏:‏ يابن آدم علم مجاناً كما علمت مجاناً‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عنه قال‏:‏ لا تأخذ على ما علمت أجراً، إنما أجر العلماء، والحكماء، والحلماء على الله‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل‏}‏ قال‏:‏ لا تخلطوا الصدق بالكذب ‏{‏وَتَكْتُمُواْ الحق‏}‏ قال‏:‏ لا تكتموا الحق، وأنتم قد علمتم أن محمداً رسول الله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَلْبِسُواْ‏}‏ الآية، قال‏:‏ لا تلبسوا اليهودية، والنصرانية بالإسلام ‏{‏وَتَكْتُمُواْ الحق‏}‏ قال‏:‏ كتموا محمداً وهم يعلمون أنه رسول الله يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، والإنجيل‏.‏ وأخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال‏:‏ الحق التوراة، والباطل الذي كتبوه بأيديهم‏.‏