فصل: تفسير الآيات رقم (109- 111)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 111‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏109‏)‏ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏110‏)‏ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل‏}‏ العامل في الظرف فعل مقدّر، أي اسمعوا، أو اذكروا، أو احذروا‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو منصوب بقوله‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 108‏]‏ المذكور في الآية الأولى‏.‏ وقيل بدل من مفعول ‏{‏اتقوا‏}‏ بدل اشتمال‏.‏ وقيل ظرف لقوله‏:‏ ‏{‏لاَّ يَهِدِّى‏}‏ المذكور قبله‏.‏ وقيل منصوب بفعل مقدّر متأخر تقديره‏:‏ يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل يكون من الأحوال كذا وكذا‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏مَاذَا أَجَبْتُمُ‏}‏ أي أيّ إجابة أجابتكم به أممكم الذين بعثكم الله إليهم‏؟‏ أو أيّ جواب أجابوكم به‏؟‏ وعلى الوجهين تكون «ما» منصوبة بالفعل المذكور بعدها، وتوجيه السؤال إلى الرسل لقصد توبيخ قومهم، وجوابهم بقولهم ‏{‏لاَ عِلْمَ لَنَا‏}‏ مع أنهم عالمون بما أجابوا به عليهم تفويض منهم، وإظهار للعجز، وعدم القدرة، ولا سيما مع علمهم بأن السؤال سؤال توبيخ فإن تفويض الجواب إلى الله أبلغ في حصول ذلك، وقيل المعنى‏:‏ لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا‏.‏ وقيل لا علم لنا بما اشتملت عليه بواطنهم‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ لا علم لنا إلا علم ما أنت أعلم به منا‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم ذهلوا عما أجاب به قومهم لهول المحشر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ‏}‏ «إذ» بدل، من ‏{‏يوم يجمع‏}‏، وهو تخصيص بعد التعميم وتخصيص عيسى عليه السلام من بين الرسل لاختلاف طائفتي اليهود والنصارى فيه إفراطاً وتفريطاً، هذه تجعله إلهاً، وهذه تجعله كاذباً‏.‏ وقيل هو منصوب بتقدير اذكر، قوله‏:‏ ‏{‏اذكر نِعْمَتِى عَلَيْكَ وعلى والدتك‏}‏ ذكره سبحانه نعمته عليه وعلى أمه، مع كونه ذاكراً لها عالماً بتفضل الله سبحانه بها، لقصد تعريف الأمم بما خصهما الله به من الكرامة وميزهما به من علوّ المقام، أو لتأكيد الحجة، وتبكيت الجاحد، بأن منزلتهما عند الله هذه المنزلة، وتوبيخ من اتخذهما إلهين، ببيان أن ذلك الإنعام عليهما كله من عند الله سبحانه، وأنهما عبدان من جملة عباده منعم عليهما بنعم الله سبحانه، ليس لهما من الأمر شيء‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس‏}‏ «إذ» ظرف للنعمة؛ لأنها بمعنى المصدر، أي اذكر إنعامي عليك وقت تأييدي لك، أو حال من النعمة‏:‏ أي كائنة ذلك الوقت ‏{‏أَيَّدتُّكَ‏}‏ قوّيتك مأخوذ من الأيد، وهو القوّة‏.‏ وفي روح القدس وجهان‏:‏ أحدهما أنها الروح الطاهرة التي خصه الله بها، وقيل‏:‏ إنه جبريل عليه السلام، وقيل إنه الكلام الذي يحيى به الأرواح‏.‏ والقدس‏:‏ الطهر، وإضافته إليه لكونه سببه، وجملة ‏{‏تُكَلّمَ الناس‏}‏ مبينة لمعنى التأييد، و‏{‏فِى المهد‏}‏ في محل نصب على الحال، أي تكلم الناس حال كونك صبياً وكهلاً لا يتفاوت كلامك في الحالتين مع أن غيرك يتفاوت كلامه فيهما تفاوتاً بيناً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب‏}‏ معطوف على ‏{‏إِذْ أَيَّدتُّكَ‏}‏ أي واذكر نعمتي عليك وقت تعليمي لك الكتاب أي جنس الكتاب، أو المراد بالكتاب الخط، وعلى الأوّل يكون ذكر التوراة والإنجيل من عطف الخاص على العام، وتخصيصهما بالذكر لمزيد اختصاصه بهما‏.‏ أما التوراة فقد كان يحتج بها على اليهود في غالب ما يدور بينه وبينهم من الجدال كما هو مصرح بذلك في الإنجيل، وأما الإنجيل فلكونه نازلاً عليه من عند الله سبحانه، والمراد بالحكمة جنس الحكمة‏.‏ وقيل هي الكلام المحكم ‏{‏وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير‏}‏ أي تصوّر تصويراً مثل صورة الطير ‏{‏بِإِذْنِى‏}‏ لك بذلك وتيسيري له ‏{‏فَتَنفُخُ‏}‏ في الهيئة المصوّرة ‏{‏فَتَكُونُ‏}‏ هذه الهيئة «طائراً» متحركاً حياً كسائر الطيور ‏{‏وَتُبْرِئ الأكمه والأبرص بِإِذْنِى‏}‏ لك وتسهيله عليك وتيسيره لك‏.‏ وقد تقدّم تفسير هذا مطوّلاً في البقرة، فلا نعيده ‏{‏وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى‏}‏ من قبورهم، فيكون ذلك آية لك عظيمة ‏{‏بِإِذْنِى‏}‏، وتكرير بإذني في المواضع الأربعة؛ للاعتناء بأن ذلك كله من جهة الله ليس لعيسى عليه السلام فيه فعل إلا مجرد امتثاله لأمر الله سبحانه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ كَفَفْتُ‏}‏ معطوف على ‏{‏إذ تخرج‏}‏ كففت معناه‏:‏ دفعت وصرفت ‏{‏بَنِى إسراءيل عَنكَ‏}‏ حين هموا بقتلك ‏{‏إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات‏}‏ بالمعجزات الواضحات ‏{‏فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر بين، لما عظم ذلك في صدورهم وانبهروا منه لم يقدروا على جحده بالكلية، بل نسبوه إلى السحر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ ءامِنُواْ بِى وَبِرَسُولِى‏}‏ هو معطوف على ما قبله‏.‏ وقد تقدّم تفسير ذلك‏.‏ والوحي في كلام العرب معناه الإلهام، أي ألهمت الحواريين وقذفت في قلوبهم‏.‏ وقيل معناه‏:‏ أمرتهم على ألسنة الرسل أن يؤمنوا بي بالتوحيد والإخلاص ويؤمنوا برسالة رسولي‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ ءامَنَّا‏}‏ جملة مستأنفة كأنه قيل ماذا قالوا‏؟‏ فقال‏:‏ قالوا آمنا ‏{‏واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ‏}‏ أي مخلصون للإيمان أي واشهد يا رب، أو واشهد يا عيسى‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ‏}‏ فيفزعون فيقولون ‏{‏لاَ عِلْمَ لَنَا‏}‏ فتردّ إليهم أفئدتهم فيعلمون‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في الآية قال‏:‏ ذلك أنهم نزلوا منزلاً ذهلت فيه العقول، فلما سئلوا قالوا‏:‏ لا علم لنا، ثم نزلوا منزلاً آخر فشهدوا على قومهم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس قال‏:‏ قالوا لا علم لنا فرقاً يذهل عقولهم، ثم يردّ الله إليهم عقولهم، فيكونون هم الذين يسألون بقول الله‏:‏

‏{‏فَلَنَسْئَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ المرسلين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا كان يوم القيامة يدعى بالأنبياء وأممها ثم يدعى بعيسى فيذكره نعمته عليه فيقرّ بها، فيقول‏:‏ ‏{‏يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك‏}‏ الآية، ثم يقول ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله‏؟‏ فينكر أن يكون قال ذلك، فيؤتى بالنصارى فيسألون، فيقولون نعم هو أمرنا بذلك، فيطول شعر عيسى حتى يأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده، فيجاثيهم بين يدي الله مقدار ألف عام حتى يوقع عليهم الحجة، ويرفع لهم الصليب وينطلق بهم إلى النار» وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إسراءيل عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات‏}‏ أي بالآيات التي وضع على يديه من إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير وإبراء الأسقام، والخبر بكثير من الغيوب‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين‏}‏ يقول قذفت في قلوبهم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 115‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏112‏)‏ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏114‏)‏ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ الحواريون‏}‏ الظرف منصوب بفعل مقدر، أي، اذكر أو نحوه كما تقدّم، قيل والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ قرأ الكسائي «هَل تَسْتَطِيعَ» بالفوقية، ونصب «ربك»، وبه قرأ عليّ وابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد‏.‏ وقرأ الباقون بالتحتية ورفع «ربك» واستشكلت القراءة الثانية بأنه قد وصف سبحانه الحواريين بأنهم قالوا‏:‏ ‏{‏آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 111‏]‏ والسؤال عن استطاعته لذلك ينافي ما حكوه عن أنفسهم‏.‏ وأجيب بأن هذا كان في أوّل معرفتهم قبل أن تستحكم معرفتهم بالله، ولهذا قال عيسى في الجواب عن هذا الاستفهام الصادر منهم، ‏{‏اتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ أي لا تشكوا في قدرة الله‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم ادّعوا الإيمان والإسلام دعوى باطلة، ويردّه أن الحواريين هم خلصاء عيسى وأنصاره، كما قال‏:‏ ‏{‏مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 52‏]‏ وقيل‏:‏ إن ذلك صدر ممن كان معهم، وقيل‏:‏ إنهم لم يشكوا في استطاعة البارئ سبحانه، فإنهم كانوا مؤمنين عارفين بذلك، وإنما هو كقول الرجل‏:‏ هل يستطيع فلان أن يأتي‏؟‏ مع علمه بأنه يستطيع ذلك ويقدر عليه، فالمعنى‏:‏ هل يفعل ذلك وهل يجيب إليه‏؟‏ وقيل إنهم طلبوا الطمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام ‏{‏رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الموتى‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 260‏]‏‏.‏ ويدل على هذا قولهم من بعد ‏{‏وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا‏}‏ وأما على القراءة الأولى، فالمعنى‏:‏ هل تستطيع أن تسأل ربك‏؟‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله‏؟‏ فهو من باب‏:‏ ‏{‏واسئل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏، والمائدة‏:‏ الخوان إذا كان عليه الطعام، من ماده‏:‏ إذا أعطاه ورفده كأنها تميد من تقدّم إليه قاله قطرب وغيره‏.‏ وقيل هي فاعلة بمعنى مفعولة كعيشة راضية قاله أبو عبيدة، فأجابهم عيسى عليه السلام بقوله‏:‏ ‏{‏اتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ أي اتقوه من هذا السؤال، وأمثاله إن كنتم صادقين في إيمانكم، فإن شأن المؤمن ترك الاقتراح على ربه على هذه الصفة؛ وقيل‏:‏ إنه أمرهم بالتقوى ليكون ذلك ذريعة إلى حصول ما طلبوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا‏}‏ بينوا به الغرض من سؤالهم نزول المائدة، وكذا ما عطف عليه من قولهم‏:‏ ‏{‏وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين‏}‏ والمعنى‏:‏ تطمئن قلوبنا بكمال قدرة الله، أو بأنك مرسل إلينا من عنده، أو بأن الله قد أجابنا إلى ما سألناه، ونعلم علماً يقيناً بأنك قد صدقتنا في نبوّتك، ونكون عليها من الشاهدين عند من لم يحضرها من بني إسرائيل، أو من سائر الناس، أو من الشاهدين لله بالوحدانية، أو من الشاهدين، أي الحاضرين دون السامعين‏.‏

ولما رأى عيسى ما حكوه عن أنفسهم من الغرض بنزول المائدة قال‏:‏ ‏{‏اللهم رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء‏}‏ أي كائنة أو نازلة من السماء، وأصل اللهمّ عند سيبويه وأتباعه‏:‏ يالله، فجعلت الميم بدلاً من حرف النداء، وربنا نداء ثان، وليس بوصف، و‏{‏تَكُونُ لَنَا عِيداً‏}‏ وصف لمائدة‏.‏ وقرأ الأعمش «يكون لنا عيدا» أي يكون يوم نزولها لنا عيداً‏.‏ وقد كان نزولها يوم الأحد، وهو يوم عيد لهم والعيد واحد الأعياد، وإنما جمع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد‏.‏ وقيل للفرق بينه وبين أعواد جمع عود، ذكر معناه الجوهري‏.‏ وقيل أصله من عاد يعود أي رجع، فهو عود بالواو، وتقلب ياء لانكسار ما قبلها، مثل الميزان والميقات والميعاد، فقيل ليوم الفطر والأضحى عيدان، لأنهما يعودان في كل سنة‏.‏ وقال الخليل‏:‏ العيد كل يوم جمع كأنهم عادوا إليه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏لأِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا‏}‏ بدل من الضمير في ‏{‏لنا‏}‏ بتكرير العامل أي لمن في عصرنا ولمن يأتي بعدنا من ذرارينا وغيرهم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَآيَةً مِّنْك‏}‏ عطف على ‏{‏عيداً‏}‏‏:‏ أي دلالة وحجة واضحة على كمال قدرتك، وصحة إرسالك من أرسلته ‏{‏وارزقنا‏}‏ أي أعطنا هذه المائدة المطلوبة، أو ارزقنا رزقاً نستعين به على عبادتك ‏{‏وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين‏}‏ بل لا رازق في الحقيقة غيرك ولا معطى سواك، فأجاب الله سبحانه سؤال عيسى عليه السلام فقال‏:‏ ‏{‏إِنّى مُنَزّلُهَا‏}‏ أي المائدة ‏{‏عَلَيْكُمْ‏}‏‏.‏

وقد اختلف أهل العلم هل نزلت عليهم المائدة أم لا‏؟‏ فذهب الجمهور إلى الأوّل وهو الحق، لقوله سبحانه ‏{‏إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ‏}‏ ووعده الحق وهولا يخلف الميعاد‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ما نزلت وإنما هو ضرب مثل ضربه الله لخلقه نهياً لهم عن مسألة الآيات لأنبيائه، وقال الحسن‏:‏ وعدهم بالإجابة، فلما قال‏:‏ ‏{‏فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ‏}‏ استغفروا الله وقالوا لا نريدها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ‏}‏ أي بعد تنزيلها ‏{‏فَإِنّى أُعَذّبُهُ عَذَاباً‏}‏ أي تعذيباً ‏{‏لاَّ أُعَذّبُهُ‏}‏ صفة ل ‏{‏عذاباً‏}‏، والضمير عائد إلى العذاب بمعنى التعذيب، أي لا أعذب مثل ذلك التعذيب ‏{‏أَحَداً مّن العالمين‏}‏ قيل‏:‏ المراد عالمي زمانهم‏.‏ وقيل جميع العالمين، وفي هذا من التهديد والترهيب ما لا يقادر قدره‏.‏

وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن عائشة قالت‏:‏ كان الحواريون أعلم بالله من أن يقولوا‏:‏ ‏{‏هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ‏}‏ إنما قالوا‏:‏ هل تستطيع أنت ربك أن تدعوه، ويؤيد هذا ما أخرجه الحاكم وصححه، والطبراني وابن مردويه، عن معاذ بن جبل أنه قال‏:‏ أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ هَلُ تَسْتَطِيعَ رَبَّكَ ‏"‏ بالتاء يعني الفوقية‏.‏ وأخرج أبو عبيد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، أنه قرأها كذلك‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ المائدة الخوان، وتطمئن‏:‏ توقن‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ في قوله‏:‏ ‏{‏تَكُونُ لَنَا عِيداً‏}‏ يقول‏:‏ نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيداً نعظمه نحن، ومن بعدنا‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس‏:‏ أنه كان يحدّث عن عيسى ابن مريم أنه قال لبني إسرائيل‏:‏ هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم‏؟‏ فإن أجر العامل على من عمل له، ففعلوا ثم قالوا‏:‏ يا معلم الخير، قلت لنا إن أجر العامل على من عمل له، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً إلا أطعمنا ‏{‏فَهَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أَحَداً مّن العالمين‏}‏ فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات، وسبعة أرغفة، حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم‏.‏

وأخرج الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن عمار بن ياسر، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدّخروا لغد، فخافوا وادّخروا، ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير» وقد روي موقوفاً على عمار‏.‏ قال الترمذي‏:‏ والوقف أصح‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ المائدة سمكة وأرغفة‏.‏ وأخرج ابن جرير من طريق العوفيّ عنه قال‏:‏ نزلت على عيسى ابن مريم، والحواريين، خوان عليه سمك وخبز، يأكلون منه أينما تولوا إذا شاءوا‏.‏ وأخرج ابن جرير نحوه عنه من طريق عكرمة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ إن أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة، والمنافقون، وآل فرعون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 120‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏116‏)‏ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏117‏)‏ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏118‏)‏ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏119‏)‏ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏120‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ الله‏}‏ معطوف على ما قبله في محل نصب بعامله أو بعامل مقدّر، هنا‏:‏ أي اذكر‏.‏ وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذا القول منه سبحانه هو يوم القيامة‏.‏ والنكتة توبيخ عباد المسيح وأمه من النصارى‏.‏ وقال السديّ وقطرب‏:‏ إنه قال له هذا القول عند رفعه إلى السماء، لما قالت النصارى فيه ما قالت، والأوّل أولى‏:‏ قيل «وَإِذْ» هنا بمعنى إذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 51‏]‏ أي إذا فزعوا، وقول أبي النجم‏:‏

ثم جزاك الله عني إذ جزى *** جنات عدن في السموات العلى

أي إذا جزى، وقول الأسود بن جعفر الأسدي‏:‏

في الآن إذ هازلتهنّ فإنما *** يقلن ألا لم يذهب الشيخ مذهبا

أي إذا هازلتهنّ تعبيراً عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقيق وقوعه‏.‏ وقد قيل في توجيه هذا الاستفهام منه تعالى إنه لقصد التوبيخ كما سبق‏.‏ وقيل‏:‏ لقصد تعريف المسيح بأن قومه غيروا بعده وادّعوا عليه ما لم يقله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏اتخذونى‏}‏ على أنه حال، أي متجاوزين الحدّ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف هو صفة لإلهين، أي كائنين من دون الله‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏سبحانك‏}‏ تنزيه له سبحانه، أي أنزهك تنزيهاً ‏{‏مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ‏}‏ أي ما ينبغي لي أن أدّعي لنفسي ما ليس من حقها ‏{‏إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ‏}‏ ردّ ذلك إلى علمه سبحانه، وقد علم أنه لم يقله، فثبت بذلك عدم القول منه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ‏}‏ هذه الجملة في حكم التعليل لما قبلها، أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك، وهذا الكلام من باب المشاكلة كما هو معروف عند علماء المعاني والبيان‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك‏.‏ وقيل تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه‏.‏ وقيل‏:‏ تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ‏}‏ هذه جملة مقرّرة لمضمون ما تقدّم، أي ما أمرتهم إلا بما أمرتني‏:‏ ‏{‏أَنِ اعبدوا الله رَبّى وَرَبَّكُمْ‏}‏ هذا تفسير لمعنى ‏{‏مَا قُلْتُ لَهُمْ‏}‏ أي ما أمرتهم، وقيل‏:‏ عطف بيان للمضمر في ‏{‏بِهِ‏}‏ وقيل بدل منه ‏{‏وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً‏}‏ أي حفيظاً ورقيباً أرعى أحوالهم وأمنعهم عن مخالفة أمرك ‏{‏مَّا دُمْتُ فِيهِمْ‏}‏ أي مدّة دوامي فيهم ‏{‏فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى‏}‏ قيل‏:‏ هذا يدل على أن الله سبحانه توفاه قبل أن يرفعه، وليس بشيء لأن الأخبار قد تضافرت بأنه لم يمت، وأنه باق في السماء على الحياة التي كان عليها في الدنيا، حتى ينزل إلى الأرض آخر الزمان، وإنما المعنى‏:‏ فلما رفعتني إلى السماء‏.‏

قيل الوفاة في كتاب الله سبحانه جاءت على ثلاثة أوجه‏:‏ بمعنى الموت، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏ وبمعنى النوم، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 60‏]‏ أي ينيمكم، وبمعنى الرفع، ومنه ‏{‏فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى‏}‏‏.‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنّي مُتَوَفّيكَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 55‏]‏‏.‏ ‏{‏كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ أصل المراقبة‏:‏ المراعاة، أي كنت الحافظ لهم والعالم بهم والشاهد عليهم‏:‏ ‏{‏إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ‏}‏ تصنع بهم ما شئت وتحكم فيهم بما تريد ‏{‏وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم‏}‏ أي القادر على ذلك الحكيم في أفعاله، قيل‏:‏ قاله على وجه الاستعطاف كما يستعطف السيد لعبده‏.‏ ولهذا لم يقل إن تعذبهم فإنهم عصوك؛ وقيل‏:‏ قاله على وجه التسليم لأمر الله والانقياد له، ولهذا عدل عن الغفور الرحيم إلى العزيز الحكيم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ‏}‏ أي صدقهم في الدنيا، وقيل‏:‏ في الآخرة، والأوّل، أولى‏.‏ قرأ نافع وابن محيصن «يَوْم» بالنصب، وقرأ الباقون بالرفع، فوجه النصب أنه ظرف للقول، أي قال الله هذا القول يوم ينفع الصادقين، ووجه الرفع أنه خبر للمبتدأ هو وما أضيف إليه‏.‏ وقال الكسائي نصب «يَوْمَ» هاهنا لأنه مضاف إلى الجملة، وأنشد‏:‏

على حين عاتبت المشيب على الصبا *** وقلت ألمَّا أصحُ والشيبُ وازِعُ

وبه قال الزجاج، ولا يجيز البصريون ما قالاه إلا إذا أضيف الظرف إلى فعل ماض‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ «هذا يَوْمٌ يَنفَعُ» بتنوين يوم كما في قوله‏:‏ ‏{‏واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 48‏]‏ فكلاهما مقطوع عن الإضافة بالتنوين‏.‏ وقد تقدّم تفسير قوله‏:‏ ‏{‏لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً‏}‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏رّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ أي رضي عنهم بما عملوه من الطاعات الخالصة له، ورضوا عنه بما جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال ولا تتصوره عقولهم، والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم، وأعلى منازل الكرامة، والإشارة بذلك إلى نيل ما نالوه من دخول الجنة والخلود فيها أبداً، ورضوان الله عليهم‏.‏ والفوز‏:‏ الظفر بالمطلوب على أتمّ الأحوال‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏للَّهِ مُلْكُ السموات والأرض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ جاء سبحانه بهذه الخاتمة دفعاً لما سبق من إثبات من أثبت إلهية عيسى وأمه، وأخبر بأن ملك السموات والأرض له دون عيسى وأمه ودون سائر مخلوقاته، وأنه القادر على كل شيء دون غيره‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ أن له ملك السموات والأرض يعطي الجنات للمطيعين، جعلنا الله منهم‏.‏

وقد أخرج الترمذي وصححه، والنسائي، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن أبي هريرة قال‏:‏ تلقى عيسى حجته والله لقَّاه في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله‏}‏ قال أبو هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلقاه الله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة في الآية قال‏:‏ يقول الله هذا يوم القيامة، ألا ترى أنه يقول‏:‏ ‏{‏هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السديّ قال‏:‏ قال الله ذلك لما رفع عيسى إليه، وقالت النصارى ما قالت‏.‏

وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَنِ اعبدوا الله رَبّى وَرَبَّكُمْ‏}‏ قال‏:‏ سيدي وسيدكم‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عنه في قوله‏:‏ ‏{‏كُنتَ أَنتَ الرقيب عَلَيْهِمْ‏}‏ قال‏:‏ الحفيظ‏.‏ وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال‏:‏ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ‏}‏ قال‏:‏ «ما كنت فيهم»‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس ‏{‏إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ‏}‏ يقول‏:‏ عبيدك قد استوجبوا العذاب بمقالتهم ‏{‏وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ‏}‏ أي من تركت منهم ومدّ في عمره حتى أهبط من السماء إلى الأرض لقتل الدجال، فزالوا عن مقالتهم ووحدوك ‏{‏فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله‏:‏ ‏{‏هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ هذا يوم ينفع الموحدين توحيدهم‏.‏

سورة الأنعام

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ‏(‏2‏)‏ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

بدأ سبحانه هذه السورة بالحمد لله، للدلالة على أن الحمد كله لله، ولإقامة الحجة على الذين هم بربهم يعدلون‏.‏ وقد تقدّم في سورة الفاتحة ما يغني عن الإعادة له هنا، ثم وصف نفسه بأنه الذي خلق السموات والأرض إخباراً عن قدرته الكاملة، الموجبة لاستحقاقه لجميع المحامد، فإن من اخترع ذلك وأوجده، هو الحقيق بإفراده بالثناء وتخصيصه بالحمد، والخلق يكون بمعنى الاختراع، وبمعنى التقدير‏.‏ وقد تقدّم تحقيق ذلك، وجمع السموات لتعدد طباقها، وقدّمها على الأرض لتقدّمها في الوجود ‏{‏والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 30‏]‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ الظلمات والنور‏}‏ معطوف على خلق‏.‏ ذكر سبحانه خلق الجواهر بقوله‏:‏ ‏{‏خَلقَ السموات والأرض‏}‏ ثم ذكر خلق الأعراض بقوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ الظلمات والنور‏}‏ لأن الجواهر لا تستغني عن الأعراض‏.‏

واختلف أهل العلم في المعنى المراد بالظلمات والنور؛ فقال جمهور المفسرين‏:‏ المراد بالظلمات سواد الليل، وبالنور ضياء النهار‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الكفر والإيمان‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا خروج عن الظاهر انتهى‏.‏ والأولى أن يقال‏:‏ إن الظلمات تشمل كل ما يطلق عليه اسم الظلمة، والنور يشمل كل ما يطلق عليه اسم النور، فيدخل تحت ذلك ظلمة الكفر ونور الإيمان ‏{‏أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 122‏]‏ وأفرد النور لأنه جنس يشمل جميع أنواعه، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها وتعدد أنواعها‏.‏ قال النحاس‏:‏ جعل هنا بمعنى خلق، وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعدّ إلا إلى مفعول واحد، وقال القرطبي‏:‏ جعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق، فيكون الجمع معطوفاً على الجمع، والمفرد معطوفاً على المفرد، وتقديم الظلمات على النور لأنها الأصل، ولهذا كان النهار مسلوخاً من الليل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏ معطوف على الحمد لله، أو على خلق السموات والأرض، و«ثم» لاستبعاد ما صنعه الكفار من كونهم بربهم يعدلون مع ما تبين من أن الله سبحانه حقيق بالحمد على خلقه السموات والأرض والظلمات والنور، فإن هذا يقتضي الإيمان به وصرف الثناء الحسن إليه، لا الكفر به واتخاذ شريك له، وتقديم المفعول للاهتمام، ورعاية الفواصل، وحذف المفعول لظهوره، أي يعدلون به مالا يقدر على شيء مما يقدر عليه، وهذا نهاية الحمق وغاية الرقاعة حيث يكون منه سبحانه تلك النعم، ويكون من الكفرة الكفر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ‏}‏ في معناه قولان‏:‏ أحدهما، وهو الأشهر، وبه قال الجمهور أن المراد آدم عليه السلام، وأخرج مخرج الخطاب للجميع، لأنهم ولده ونسله‏.‏ الثاني، أن يكون المراد جميع البشر باعتبار أن النطفة التي خلقوا منها مخلوقة من الطين، ذكر الله سبحانه خلق آدم وبنيه بعد خلق السموات والأرض إتباعاً للعالم الأصغر بالعالم الأكبر، والمطلوب بذكر هذه الأمور دفع كفر الكافرين بالبعث، وردّ لجحودهم بما هو مشاهد لهم لا يمترون فيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ‏}‏ جاء بكلمة «ثم» لما بين خلقهم وبين موتهم من التفاوت‏.‏

وقد اختلف السلف ومن بعدهم في تفسير الأجلين، فقيل‏:‏ ‏{‏قَضَى أَجَلاً‏}‏ يعني الموت ‏{‏وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ‏}‏ يعني القيامة، وهو مروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والضحاك، ومجاهد، وعكرمة، وزيد بن أسلم، وعطية والسديّ وخصيف، ومقاتل وغيرهم، وقيل الأوّل‏:‏ ما بين أن يخلق إلى أن يموت؛ والثاني‏:‏ ما بين أن يموت إلى أن يبعث، وهو قريب من الأوّل‏.‏ وقيل الأوّل مدّة الدنيا؛ والثاني عمر الإنسان إلى حين موته‏.‏ وهو مرويّ عن ابن عباس ومجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ الأوّل قبض الأرواح في النوم؛ والثاني قبض الروح عند الموت‏.‏ وقيل‏:‏ الأوّل ما يعرف من أوقات الأهلة والبروج وما يشبه ذلك؛ والثاني أجل الموت‏.‏ وقيل‏:‏ الأوّل لمن مضى‏.‏ والثاني لمن بقي ولمن يأتي‏.‏ وقيل‏:‏ إن الأوّل الأجل الذي هو محتوم؛ والثاني الزيادة في العمر لمن وصل رحمه، فإن كان برّاً تقياً وصولاً لرحمه زيد في عمره، وإن كان قاطعاً للرحم لم يزد له، ويرشد إلى هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كتاب‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صلة الرحم تزيد في العمر، وورد عنه أن دخول البلاد التي قد فشا بها الطاعون والوباء من أسباب الموت؛ وجاز الابتداء بالنكرة في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ‏}‏ لأنها قد تخصصت بالصفة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ‏}‏ استبعاد لصدور الشك منهم مع وجود المقتضى لعدمه، أي كيف تشكون في البعث مع مشاهدتكم في أنفسكم من الابتداء، والابتداء ما يذهب بذلك ويدفعه، من خلقكم من طين، وصيركم أحياء تعلمون وتعقلون، وخلق لكم هذه الحواس والأطراف، ثم سلب ذلك عنكم فصرتم أمواتاً، وعدتم إلى ما كنتم عليه من الجمادية، لا يعجزه أن يبعثكم ويعيد هذه الأجسام كما كانت، ويردّ إليها الأرواح التي فارقتها بقدرته وبديع حكمته‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الله فِى السموات وَفِى الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ‏}‏ قيل‏:‏ إن في السموات وفي الأرض متعلق باسم الله باعتبار ما يدل عليه من كونه معبوداً ومتصرفاً ومالكاً، أي هو المعبود أو المالك أو المتصرف في السموات والأرض كما تقول‏:‏ زيد الخليفة في الشرق والغرب، أي حاكم أو متصرف فيهما؛ وقيل المعنى‏:‏ وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض، فلا تخفى عليه خافية، فيكون العامل فيهما ما بعدهما‏.‏

قال النحاس‏:‏ وهذا من أحسن ما قيل فيه‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ هو الله في السموات ويعلم سركم وجهركم في الأرض‏.‏ والأوّل أولى، ويكون ‏{‏يعلم سركم وجهركم‏}‏ جملة مقرّرة لمعنى الجملة الأولى، لأن كونه سبحانه في السماء والأرض، يستلزم علمه بأسرار عباده وجهرهم، وعلمه بما يكسبونه من الخير والشرّ، وجلب النفع ودفع الضرر‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن عليّ أن هذه الآية أعني ‏{‏الحمد لله‏}‏، إلى قوله‏:‏ ‏{‏ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏ نزلت في أهل الكتاب‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد قال‏:‏ نزلت هذه الآية في الزنادقة، قالوا‏:‏ إن الله لم يخلق الظلمة ولا الخنافس، ولا العقارب، ولا شيئاً قبيحاً، وإنما يخلق النور وكل شيء حسن، فأنزلت فيهم هذه الآية‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس ‏{‏وَجَعَلَ الظلمات والنور‏}‏ قال‏:‏ الكفر والإيمان‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة قال‏:‏ إن الذين بربهم يعدلون هم أهل الشرك‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السديّ مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد قال‏:‏ ‏{‏يَعْدِلُونَ‏}‏ يشركون‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن زيد في قوله‏:‏ ‏{‏ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏ قال‏:‏ الآلهة التي عبدوها عدلوها بالله، وليس لله عدل ولا ندّ، وليس معه آلهة ولا اتخذ صاحبة ولا ولداً‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس ‏{‏هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ‏}‏ يعني آدم ‏{‏ثُمَّ قَضَى أَجَلاً‏}‏ يعني أجل الموت ‏{‏وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ‏}‏ أجل الساعة والوقوف عند الله‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، عنه في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَضَى أَجَلاً‏}‏ قال‏:‏ أجل الدنيا، وفي لفظ أجل موته ‏{‏وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ‏}‏ قال‏:‏ الآخرة لا يعلمه إلا الله‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه ‏{‏قَضَى أَجَلاً‏}‏ قال‏:‏ هو اليوم يقبض فيه الروح، ثم يرجع إلى صاحبه من اليقظة ‏{‏وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ‏}‏ قال‏:‏ هو أجل موت الإنسان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 11‏]‏

‏{‏وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏4‏)‏ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ‏(‏6‏)‏ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ‏(‏8‏)‏ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ‏(‏9‏)‏ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏10‏)‏ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَأْتِيهِم‏}‏ الخ كلام مبتدأ لبيان بعض أسباب كفرهم وتمرّدهم، وهو الإعراض عن آيات الله التي تأتيهم كمعجزات الأنبياء، وما يصدر عن قدرة الله الباهرة مما لا يشك من له عقل أنه فعل الله سبحانه، والإعراض‏:‏ ترك النظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله و«من» في ‏{‏مّنْ ءايَةٍ‏}‏ مزيدة للاستغراق و«من» في ‏{‏مِنْ آيات‏}‏ تبعيضية، أي وما تأتيهم آية من الآيات التي هي بعض آيات ربهم، إلا كانوا عنها معرضين، والفاء في ‏{‏فَقَدْ كَذَّبُواْ‏}‏ جواب شرط مقدر، أي إن كانوا معرضين عنها فقد كذبوا بما هم أعظم من ذلك، وهو الحق ‏{‏لَمَّا جَاءهُمْ‏}‏ قيل‏:‏ المراد بالحق هنا القرآن، وقيل محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ‏}‏ أي أخبار الشيء الذي كانوا به يستهزءون وهو القرآن، أو محمد صلى الله عليه وسلم، على أن ‏"‏ ما ‏"‏ عبارة عن ذلك تهويلاً للأمر وتعظيماً له، أي سيعرفون أن هذا الشيء الذي استهزءوا به ليس بموضع للاستهزاء، وذلك عند إرسال عذاب الله عليهم، كما يقال‏:‏ اصبر فسوف يأتيك الخبر عند إرادة الوعيد والتهديد، وفي لفظ الأنباء ما يرشد إلى ذلك، فإنه لا يطلق إلا على خبر عظيم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ‏}‏ كلام مبتدأ لبيان ما تقدّمه، والهمزة للإنكار، و«كم» يحتمل أن تكون الاستفهامية وأن تكون الخبرية وهي معلقة لفعل الرؤية عن العمل فيما بعده، و‏{‏مّن قَرْنٍ‏}‏ تمييز، والقرن‏:‏ يطلق على أهل كل عصر، سموا بذلك لاقترانهم، أي ألم يعرفوا بسماع الأخبار، ومعاينة الآثار، كم أهلكنا من قبلهم من الأمم الموجودة في عصر بعد عصر؛ لتكذيبهم أنبياءهم‏.‏ وقيل القرن مدّة من الزمان‏.‏ وهي ستون عاماً أو سبعون أو ثمانون أو مائة على اختلاف الأقوال، فيكون ما في الآية على تقدير مضاف محذوف، أي من أهل قرن‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏مكناهم فِى الأرض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ‏}‏ مكّن له في الأرض جعل له مكاناً فيها، ومكّنه في الأرض‏:‏ أثبته فيها، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل‏:‏ كيف ذلك‏؟‏ وقيل‏:‏ إن هذه الجملة صفة لقرن، والأوّل‏:‏ أولى، و«ما» في ‏{‏ما لم نمكن‏}‏ نكرة موصوفة بما بعدها، أي مكّناهم تمكيناً لم نمكّنه لكم، والمعنى‏:‏ أنا أعطينا القرون الذين هم قبلكم، ما لم نعطكم من الدنيا، وطول الأعمار وقوّة الأبدان، وقد أهلكناهم جميعاً، فإهلاككم وأنتم دونهم بالأولى‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَا السماء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً‏}‏ يريد المطر الكثير، عبّر عنه بالسماء، لأنه ينزل من السماء، ومنه قول الشاعر‏:‏

إذا نزل السماء بأرض قوم *** والمدرار صيغة مبالغة تدل على الكثرة كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور، وميناث للتي تلد الإناث، يقال درّ اللبن يدرّ، إذا أقبل على الحالب بكثرة‏.‏ وانتصاب ‏{‏مُّدْرَاراً‏}‏ على الحال؛ وجريان الأنهار من تحتهم معناه‏:‏ من تحت أشجارهم ومنازلهم، أي أن الله وسّع عليهم النعم بعد التمكين لهم في الأرض، فكفروها، فأهلكهم الله بذنوبهم ‏{‏وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ‏}‏ أي من بعد إهلاكهم ‏{‏قَرْناً آخَرِينَ‏}‏ فصاروا بدلاً من الهالكين، وفي هذا بيان لكمال قدرته سبحانه، وقوّة سلطانه، وأنه يهلك من يشاء ويوجد من يشاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ في هذه الجملة بيان شدّة صلابتهم في الكفر، وأنهم لا يؤمنون ولو أنزل الله على رسوله كتاباً مكتوباً في قرطاس بمرأى منهم ومشاهدة ‏{‏فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ‏}‏ حتى يجتمع لهم إدراك الحاستين‏:‏ حاسة البصر، وحاسة اللمس ‏{‏لَقَالَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ منهم ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ ولم يعملوا بما شاهدوا ولمسوا، وإذا كان هذا حالهم في المرئيّ المحسوس، فكيف فيما هو مجرد وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة ملك، لا يرونه، ولا يحسونه‏؟‏ والكتاب مصدر بمعنى الكتابة، والقرطاس‏:‏ الصحيفة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ‏}‏ هذه الجملة مشتملة على نوع آخر من أنواع جحدهم لنبوّته صلى الله عليه وسلم وكفرهم بها، أي قالوا هلا أنزل الله عليك ملكاً نراه ويكلمنا أنه نبيّ حتى نؤمن به ونتبعه‏؟‏ كقولهم‏:‏ ‏{‏لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏ ‏{‏وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الأمر‏}‏ أي لو أنزلنا ملكاً على الصفة التي اقترحوها بحيث يشاهدونه ويخاطبونه ويخاطبهم ‏{‏لَقُضِىَ الأمر‏}‏ أي لأهلكناهم إذ لم يؤمنوا عند نزوله، ورؤيتهم له؛ لأن مثل هذه الآية البينة، وهي نزول الملك على تلك الصفة إذا لم يقع الإيمان بعدها، فقد استحقوا الإهلاك والمعاجلة بالعقوبة ‏{‏ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ‏}‏ أي لا يمهلون بعد نزوله ومشاهدتهم له؛ وقيل إن المعنى‏:‏ إن الله سبحانه لو أنزل ملكاً مشاهداً لم تطق قواهم البشرية أن يبقوا بعد مشاهدته أحياء، بل تزهق أرواحهم عند ذلك، فيبطل ما أرسل الله له رسله، وأنزل به كتبه من هذا التكليف الذي كلف به عباده ‏{‏لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 7‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً‏}‏ أي لو جعلنا الرسول إلى النبيّ ملكاً يشاهدونه، ويخاطبونه، لجعلنا ذلك الملك رجلاً، لأنهم لا يستطيعون أن يروا الملك على صورته التي خلفه الله عليها إلا بعد أن يتجسم بالأجسام الكثيفة المشابهة لأجسام بني آدم؛ لأن كل جنس يأنس بجنسه، فلو جعل الله سبحانه الرسول إلى البشر، أو الرسول إلى رسوله، ملكاً مشاهداً مخاطباً لنفروا منه ولم يأنسوا به، ولداخلهم الرعب وحصل معهم من الخوف ما يمنعهم من كلامه ومشاهدته، هذا أقلّ حال فلا تتمّ المصلحة من الإرسال‏.‏

وعند أن يجعله الله رجلاً، أي على صورة رجل من بني آدم، ليسكنوا إليه ويأنسوا به، سيقول الكافرون إنه ليس بملك وإنما هو بشر، ويعودون إلى مثل ما كانوا عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ‏}‏ أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم؛ لأنهم إذا رأوه في صورة إنسان قالوا هذا إنسان وليس بملك، فإن استدل لهم بأنه ملك كذبوه قال الزجاج‏:‏ المعنى للبسنا عليهم، أي على رؤسائهم كما يلبسون على ضعفتهم، وكانوا يقولون لهم‏:‏ إنما محمد بشر وليس بينه وبينكم فرق‏.‏ فيلبسون عليهم بهذا ويشككونهم، فأعلم الله عزّ وجلّ أنه لو نزل ملكاً في صورة رجل، لوجدوا سبيلاً إلى اللبس كما يفعلون‏.‏ واللبس‏:‏ الخلط، يقال لبست عليه الأمر ألبسه لبساً، أي خلطته، وأصله التستر بالثوب ونحوه‏.‏ ثم قال سبحانه مؤنساً لنبيه صلى الله عليه وسلم ومسلياً له ‏{‏وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ‏}‏ يقال‏:‏ حاق الشيء يحيق حيقاً وحيوقاً وحيقاناً‏:‏ نزل أي فنزل ما كانوا به يستهزءون، وأحاط بهم، وهو الحق حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به ‏{‏قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض‏}‏ أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين سافروا في الأرض، وانظروا آثار من كان قبلكم لتعرفوا ما حلّ بهم من العقوبات، وكيف كانت عاقبتهم بعدما كانوا فيه من النعيم العظيم الذي يفوق ما أنتم فيه، فهذه ديارهم خاربة وجناتهم مغبرة وأراضيهم مكفهرة، فإذا كانت عاقبتهم هذه العاقبة، فأنتم بهم لاحقون، وبعد هلاكهم هالكون‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايات رَبّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ‏}‏ يقول‏:‏ ما يأتيهم من شيء من كتاب الله إلا أعرضوا عنه، وفي قوله‏:‏ ‏{‏فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ‏}‏ يقول‏:‏ سيأتيهم يوم القيامة أنباء ما استهزءوا به من كتاب الله عزّ وجل‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله‏:‏ ‏{‏مّن قَرْنٍ‏}‏ قال‏:‏ أمة‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏مكناهم فِى الأرض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ أعطيناهم ما لم نعطكم‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن هارون التيمي في الآية قال‏:‏ المطر في إبانة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ‏}‏ يقول‏:‏ لو أنزلنا من السماء صحفاً فيها كتاب ‏{‏فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ‏}‏ لزادهم ذلك تكذيباً‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ‏}‏ قال‏:‏ فمسوه ونظروا إليه لم يصدقوا به‏.‏

وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن محمد بن إسحاق قال‏:‏ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام، وكلمهم فأبلغ إليهم فيما بلغني، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب، والنضر بن الحارث بن كلدة، وعبدة بن عبد يغوث، وأُبيّ بن خلف بن وهب، والعاص بن وائل بن هشام‏:‏ لو جعل معك يا محمد ملك يحدّث عنك الناس ويرى معك، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ‏}‏ قال‏:‏ ملك في صورة رجل ‏{‏وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الأمر‏}‏ لقامت الساعة‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏لَقُضِىَ الأمر‏}‏ يقول‏:‏ لو أنزل الله ملكاً ثم لم يؤمنوا لعجل لهم العذاب‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً‏}‏ قال‏:‏ ولو أتاهم ملك في صورته ‏{‏لَقُضِىَ الأمر‏}‏ لأهلكناهم ‏{‏ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ‏}‏ لا يؤخرون ‏{‏وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً‏}‏ قال‏:‏ في صورة رجل في خلق رجل‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً‏}‏ يقول‏:‏ في صورة آدميّ‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ‏{‏وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم‏}‏ يقول‏:‏ شبهنا عليهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السدي في الآية قال‏:‏ شبهنا عليهم ما يشبهون على أنفسهم‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن محمد بن إسحاق قال‏:‏ مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني بالوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، وأبي جهل بن هشام فهمزوه واستهزءوا به فغاظه ذلك، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 21‏]‏

‏{‏قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏13‏)‏ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏14‏)‏ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏15‏)‏ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ‏(‏16‏)‏ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏17‏)‏ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏18‏)‏ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏19‏)‏ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏20‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُل لّمَن مَّا فِى السموات والأرض‏}‏ هذا احتجاج عليهم وتبكيت لهم، والمعنى‏:‏ قل لهم هذا القول فإن قالوا فقل لله، وإذا ثبت أن له ما في السموات والأرض إما باعترافهم، أو بقيام الحجة عليهم، فالله قادر على أن يعاجلهم بالعقاب، ولكنه كتب على نفسه الرحمة، أي وعد بها فضلاً منه وتكرّماً، وذكر النفس هنا عبارة عن تأكد وعده، وارتفاع الوسائط دونه، وفي الكلام ترغيب للمتولين عنه إلى الإقبال إليه وتسكين خواطرهم بأنه رحيم بعباده لا يعاجلهم بالعقوبة، وأنه يقبل منهم الإنابة والتوبة، ومن رحمته لهم إرسال الرسل، وإنزال الكتب، ونصب الأدلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ اللام جواب قسم محذوف‏.‏ قال الفراء وغيره‏:‏ يجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏الرحمة‏}‏ ويكون ما بعدها مستأنفاً على جهة التبيين، فيكون المعنى ‏{‏لَيَجْمَعَنَّكُمْ‏}‏ ليمهلنكم وليؤخرنّ جمعكم‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ ليجمعنكم في القبور إلى اليوم الذي أنكرتموه‏.‏ وقيل‏:‏ «إلى» بمعنى في، أي ليجمعنكم في يوم القيامة‏.‏ وقيل يجوز أن يكون موضع ‏{‏لَيَجْمَعَنَّكُمْ‏}‏ النصب على البدل من الرحمة، فتكون اللام بمعنى «أن»‏.‏ والمعنى‏:‏ كتب ربكم على نفسه الرحمة أن يجمعنكم كما قالوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 35‏]‏ أي أن يسجنوه‏.‏ وقيل إن جملة ‏{‏لَيَجْمَعَنَّكُمْ‏}‏ مسوقة للترهيب بعد الترغيب، وللوعيد بعد الوعد، أي إن أمهلكم برحمته فهو مجازيكم بجمعكم في معاقبة من يستحق عقوبته من العصاة، والضمير في ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ لليوم أو للجمع‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ إن الموصول مرتفع على الابتداء وما بعده خبره كما تقول‏:‏ الذي يكرمني فله درهم، فالفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ إن شئت كان ‏{‏الذين‏}‏ في موضع نصب على البدل من الكاف والميم في ‏{‏لَيَجْمَعَنَّكُمْ‏}‏ أي ليجمعنّ المشركين الذين خسروا أنفسهم، وأنكره المبرد، وزعم أنه خطأ، لأنه لا يبدل من المخاطب ولا من المخاطب‏.‏ لا يقال‏:‏ مررت بك زيد ولا مررت بي زيد‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز أن يكون ‏{‏الذين‏}‏ مجروراً على البدل من المكذبين الذين تقدّم ذكرهم، أو على النعت لهم‏.‏ وقيل‏:‏ إنه منادى وحرف النداء مقدّر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى اليل والنهار‏}‏ أي‏:‏ لله، وخصّ الساكن بالذكر، لأن ما يتصف بالسكون أكثر مما يتصف بالحركة؛ وقيل المعنى‏:‏ ما سكن فيهما أو تحرّك فاكتفى بأحد الضدّين عن الآخر، وهذا من جملة الاحتجاج على الكفرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً‏}‏ الاستفهام للإنكار، قال لهم ذلك لما دعوه إلى عبادة الأصنام، ولما كان الإنكار لاتخاذ غير الله ولياً، لا لاتخاذ الولي مطلقاً؛ دخلت الهمزة على المفعول لا على الفعل‏.‏

والمراد بالوليّ هنا‏:‏ المعبود أي كيف أتخذ غير الله معبوداً‏؟‏ و‏{‏فَاطِرَ السموات والأرض‏}‏ مجرور على أنه نعت لاسم الله، وأجاز الأخفش الرفع على إضمار مبتدأ، وأجاز الزجاج النصب على المدح، وأجاز أبو عليّ الفارسي نصبه بفعل مضمر، كأنه قيل أترك فاطر السموات والأرض‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ‏}‏ قرأ الجمهور بضم الياء وكسر العين في الأوّل، وضمها وفتح العين في الثاني، أي يرزق ولا يرزق، وقرأ سعيد بن جبير، ومجاهد، والأعمش بفتح الياء في الثاني وفتح العين، وقرئ بفتح الياء والعين في الأوّل، وضمها وكسر العين في الثاني على أن الضمير يعود إلى الوليّ المذكور، وخصّ الإطعام دون غيره من ضروب الإنعام؛ لأن الحاجة إليه أمسّ‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ‏}‏ أمره سبحانه بعد ما تقدّم من اتخاذ غير الله ولياً أن يقول لهم‏:‏ إنه مأمور بأن يكون أوّل من أسلم وجهه لله من قومه، وأخلص من أمته؛ وقيل معنى ‏{‏أَسْلَمَ‏}‏ استسلم لأمر الله، ثم نهاه الله عزّ وجلّ أن يكون من المشركين‏.‏ والمعنى‏:‏ أمرت بأن أكون أوّل من أسلم ونهيت عن الشرك، أي يقول لهم هذا، ثم أمره أن يقول‏:‏ ‏{‏إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ أي إن عصيته بعبادة غيره أو مخالفة أمره ونهيه‏.‏ والخوف‏:‏ توقع المكروه؛ وقيل‏:‏ هو هنا بمعنى العلم، أي إني أعلم إن عصيت ربي أن لي عذاباً عظيماً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ‏}‏ قرأ أهل المدينة وأهل مكة، وابن عامر، على البناء للمفعول، أي من يصرف عنه العذاب، واختار هذه القراءة سيبويه‏.‏ وقرأ الكوفيون على البناء للفاعل، وهو اختيار أبي حاتم، فيكون الضمير على هذه القراءة لله‏.‏ ومعنى ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ يوم العذاب العظيم، ‏{‏فَقَدْ رَحِمَهُ‏}‏ الله أي نجاه وأنعم عليه وأدخله الجنة، والإشارة بذلك إلى الصرف أو إلى الرحمة، أي فذلك الصرف أو الرحمة ‏{‏الفوز المبين‏}‏ أي الظاهر الواضح، وقرأ أبيّ ‏{‏مَّن يُصْرَفْ عَنْه‏}‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ‏}‏ أي إن ينزل الله بك ضراً من فقر أو مرض ‏{‏فَلاَ كاشف لَهُ إِلاَّ هُوَ‏}‏ أي لا قادر على كشفه سواه ‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ‏}‏ من رخاء أو عافية ‏{‏فَهُوَ على كُلّ شَئ قَدُيرٌ‏}‏ ومن جملة ذلك المسّ بالشرّ والخير‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏ القهر‏:‏ الغلبة، والقاهر‏:‏ الغالب، وأقهر الرجل‏:‏ إذا صار مقهوراً ذليلاً، ومنه قول الشاعر‏:‏

تمنى حصين أن يسود خزاعة *** فأمسى حصين قد أذلّ وأقهرا

ومعنى‏:‏ ‏{‏فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏ فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم، لا فوقية المكان كما تقول‏:‏ السلطان فوق رعيته، أي بالمنزلة والرفعة‏.‏

وفي القهر معنى زائد ليس في القدرة، وهو منع غيره عن بلوغ المراد ‏{‏وَهُوَ الحكيم‏}‏ في أمره ‏{‏الخبير‏}‏ بأفعال عباده‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَىُّ شَئ أَكْبَرُ شهادة‏}‏ أيّ مبتدأ، وأكبر خبره، وشهادة تمييز، والشيء يطلق على القديم والحادث، والمحال والممكن‏.‏ والمعنى‏:‏ أيّ شهيد أكبر شهادة، فوضع شيء موضع شهيد‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏{‏شَئ‏}‏ هنا موضوع موضع اسم الله تعالى‏.‏ والمعنى‏:‏ الله أكبر شهادة، أي انفراده بالربوبية، وقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة، وأعظم فهو شهيد بيني وبينكم‏.‏ وقيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏الله شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ‏}‏ هو الجواب، لأنه إذا كان الشهيد بينه وبينهم كان أكبر شهادة له صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ إنه قد تمّ الجواب عند قوله‏:‏ ‏{‏قُلِ الله‏}‏ يعني الله أكبر شهادة، ثم ابتدأ فقال‏:‏ ‏{‏شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ‏}‏ أي شهيد بيني وبينكم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغ‏}‏ أي أوحى الله إليّ هذا القرآن الذي تلوته عليكم؛ لأجل أن أنذركم به، وأنذر به من بلغ إليه، أي كل من بلغ إليه من موجود ومعدوم سيوجد في الأزمنة المستقبلة، وفي هذه الآية من الدلالة على شمول أحكام القرآن لمن سيوجد، كشمولها لمن قد كان موجوداً وقت النزول، ما لا يحتاج معه إلى تلك الخزعبلات المذكورة في علم أصول الفقه، وقرأ أبو نهيك «وَأُوحِىَ» على البناء للفاعل، وقرأ ابن عدي على البناء للمفعول‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله آلِهَةً أخرى‏}‏ الاستفهام للتوبيخ والتقريع على قراءة من قرأ بهمزتين على الأصل أو بقلب الثانية، وأما من قرأ على الخبر فقد حقّق عليهم شركهم، وإنما قال‏:‏ ‏{‏آلِهَةً أخرى‏}‏ لأن الآلهة جمع، والجمع يقع عليه التأنيث، كذا قال الفراء، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ الأسماء الحسنى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 180‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَمَا بَالُ القرون الاولى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 51‏]‏ ‏{‏قُل لاَّ أَشْهَدُ‏}‏ أي فأنا لا أشهد معكم فحذف لدلالة الكلام عليه، وذلك لكون هذه الشهادة باطلة، ومثله‏:‏ ‏{‏فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 150‏]‏ و«ما» في ‏{‏مّمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏ موصولة أو مصدرية، أي من الأصنام التي تجعلونها آلهة، أو من إشراككم بالله‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ‏}‏ الكتاب للجنس فيشمل التوراة والإنجيل وغيرهما، أي يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال به جماعة من السلف، وإليه ذهب الزجاج‏.‏ وقيل إن الضمير يرجع إلى الكتاب، أي يعرفونه معرفة محققة، بحيث لا يلتبس عليهم منه شيء، و‏{‏كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ‏}‏ بيان لتحقيق تلك المعرفة وكمالها وعدم وجود شك فيها، فإن معرفة الآباء للأبناء هي المبالغة إلى غاية الإتقان إجمالاً وتفصيلاً‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم‏}‏ في محل رفع على الابتداء، وخبره ‏{‏فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ودخول الفاء في الخبر، لتضمن المبتدأ معنى الشرط‏.‏

وقيل‏:‏ إن الموصول خبر مبتدأ محذوف‏.‏ وقيل‏:‏ هو نعت للموصول الأوّل‏.‏ وعلى الوجهين الأخيرين يكون ‏{‏فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ معطوفاً على جملة ‏{‏الذين ءاتيناهم الكتاب‏}‏‏.‏ والمعنى على الوجه الأوّل‏:‏ أن الكفار الخاسرين لأنفسهم بعنادهم وتمرّدهم لا يؤمنون بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الوجهين الأخيرين أن أولئك الذين آتاهم الله الكتاب هم الذين خسروا أنفسهم بسبب ما وقعوا فيه من البعد عن الحق، وعدم العمل بالمعرفة التي ثبتت لهم فهم لا يؤمنون‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً‏}‏ أي اختلق على الله الكذب فقال‏:‏ إن في التوراة والإنجيل ما لم يكن فيهما ‏{‏أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِه‏}‏ التي يلزمه الإيمان بها من المعجزة الواضحة البينة، فجمع بين كونه كاذباً على الله، ومكذباً بما أمره الله بالإيمان به، ومن كان هكذا فلا أحد من عباد الله أظلم منه، والضمير في ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون‏}‏ للشأن‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سلمان الفارسيّ قال‏:‏ إنا نجد في التوراة أن الله خلق السموات والأرض، ثم جعل مائة رحمة قبل أن يخلق الخلق، ثم خلق الخلق فوضع بينهم رحمة واحدة، وأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة، فبها يتراحمون، وبها يتعاطفون، وبها يتبادلون، وبها يتزاورون وبها تحنّ الناقة، وبها تنتج البقرة، وبها تيعر الشاة، وبها تتابع الطير، وبها تتابع الحيتان في البحر، فإذا كان يوم القيامة جمع تلك الرحمة إلى ما عنده، ورحمته أفضل وأوسع‏.‏ وقد أخرج مسلم، وأحمد، وغيرهما، عن سلمان عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «خلق الله يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة‏:‏ منها رحمة يتراحم بها الخلق، وتسعة وتسعون ليوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة» وثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لما قضى الله الخلق كتب كتاباً فوضعه عنده فوق العرش‏:‏ إن رحمتي سبقت غضبي» وقد روي من طرق أخرى بنحو هذا‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى اليل والنهار‏}‏ يقول ما استقرّ في الليل والنهار، وفي قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً‏}‏ قال‏:‏ أما الولي فالذي تولاه، ويقرّ له بالربوبية‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَاطِرَ السموات والأرض‏}‏ قال‏:‏ بديع السموات والأرض‏.‏ وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن جرير، وابن الأنباري، عنه قال‏:‏ كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض‏؟‏ حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما‏:‏ أنا فطرتها، يقول‏:‏ أنا ابتدأتها‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ‏}‏ قال‏:‏ يرزق ولا يرزق‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ‏}‏ قال‏:‏ من يصرف عنه العذاب‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن السديّ في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ‏}‏ يقول‏:‏ بعافية‏.‏

وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال‏:‏ جاء التمام بن زيد، وقردم بن كعب، وبحري بن عمرو فقالوا‏:‏ يا محمد ما تعلم مع الله إلها غيره‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا إله إلا الله، بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو ‏"‏، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَىُّ شَئ أَكْبَرُ شهادة‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن مجاهد قال‏:‏ أمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يسأل قريشاً أيّ شيء أكبر شهادة‏؟‏ ثم أمره أن يخبرهم فيقول‏:‏ الله شهيد بيني وبينكم‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ‏}‏ يعني أهل مكة ‏{‏وَمَن بَلَغَ‏}‏ يعني من بلغه هذا القرآن من الناس فهو له نذير‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن أنس قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏{‏وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن‏}‏ كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى، وقيصر، والنجاشي، وكل جبار يدعوهم إلى الله عزّ وجل، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج ابن مردويه، وأبو نعيم، والخطيب وابن النجار، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من بلغه القرآن فكأنما شافهته به ‏"‏، ثم قرأ، ‏{‏وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ‏}‏‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن الضريس، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن محمد بن كعب القرظي قال‏:‏ «من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي لفظ من بلغه القرآن حتى تفهمه وتعقله كان كمن عاين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِه‏}‏ قال‏:‏ العرب ‏{‏وَمَن بَلَغَ‏}‏ قال‏:‏ العجم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة قال‏:‏ قال النضر وهو من بني عبد الدار‏:‏ إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 30‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏22‏)‏ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ‏(‏23‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏24‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏25‏)‏ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏26‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏27‏)‏ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏28‏)‏ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ‏(‏29‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ‏}‏ قرأ الجمهور بالنون في الفعلين، وقرئ بالياء فيهما، وناصب الظرف محذوف مقدر متأخراً، أي يوم نحشرهم كان كيت وكيت، والاستفهام في ‏{‏أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ‏}‏ للتقريع والتوبيخ للمشركين‏.‏ وأضاف الشركاء إليهم، لأنها لم تكن شركاء لله في الحقيقة، بل لما سموها شركاء أضيفت إليهم، وهي ما كانوا يعبدونه من دون الله، أو يعبدونه مع الله‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ أي تزعمونها شركاء، فحذف المفعولان معاً، ووجه التوبيخ بهذا الاستفهام أن معبوداتهم غابت عنهم في تلك الحال، أو كانت حاضرة ولكن لا ينتفعون بها بوجه من الوجوه، فكان وجودها كعدمها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ تأويل هذه الآية‏:‏ أن الله عزّ وجلّ أخبر بقصص المشركين وافتتانهم بشركهم، ثم أخبر أن فتنتهم لم تكن حتى رأوا الحقائق إلا أن انتفوا من الشرك، ونظير هذا في اللغة أن ترى إنساناً يحب غاوياً، فإذا وقع في هلكة تبرأ منه فتقول‏:‏ ما كانت محبتك إياه إلا أن تبرأت منه انتهى‏.‏ فالمراد بالفتنة على هذا كفرهم‏:‏ أي لم تكن عاقبة كفرهم الذي افتخروا به، وقاتلوا عليه، إلا ما وقع منهم من الجحود والحلف على نفيه بقولهم‏:‏ ‏{‏والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ وقيل المراد بالفتنة هنا جوابهم، أي لم يكن جوابهم إلا الجحود والتبريء، فكان هذا الجواب فتنة لكونه كذباً، وجملة‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ‏}‏ معطوفة على عامل الظرف المقدّر كما مرّ والاستثناء مفرّغ، وقرئ «فتنتهم» بالرفع وبالنصب‏.‏ ويكن وتكن والوجه ظاهر، وقرئ «وَمَا كَانَ فِتْنَتُهُمْ» وقرئ «رَبَّنَا» بالنصب على النداء ‏{‏انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ‏}‏ بإنكار ما وقع منهم في الدنيا من الشرك، ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ أي زال وذهب افتراؤهم وتلاشى، وبطل ما كانوا يظنونه من أن الشركاء يقرّبونهم إلى الله‏.‏ هذا على أنّ «ما» مصدرية‏.‏ وقيل هي موصولة عبارة عن الآلهة أي فارقهم ما كانوا يعبدون من دون الله فلم يغن عنهم شيئاً، وهذا تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حالهم المختلفة ودعواهم المتناقضة‏.‏ وقيل لا يجوز أن يقع منهم كذب في الآخرة؛ لأنها دار لا يجري فيها غير الصدق، فمعنى ‏{‏والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ نفي شركهم عند أنفسهم، وفي اعتقادهم، ويؤيد هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 42‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ‏}‏ هذا كلام مبتدأ لبيان ما كان يصنعه بعض المشركين في الدنيا، والضمير عائد إلى الذين أشركوا، أي وبعض الذين أشركوا يستمع إليك حين تتلو القرآن ‏{‏وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً‏}‏ أي فعلنا ذلك بهم مجازاة على كفرهم، والأكنة‏:‏ الأغطية جمع كنان مثل الأسنة والسنان، كننت الشيء في كنه‏:‏ إذا جعلته فيه، وأكننته أخفيته، وجملة‏:‏ ‏{‏جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً‏}‏ مستأنفة للإخبار بمضمونها، أو في محل نصب على الحال، أي وقد جعلنا على قلوبهم أغطية كراهة أن يفقهوا القرآن، أو لئلا يفقهوه، والوقر‏:‏ الصمم، يقال وقرت أذنه تقر وقراً‏:‏ أي صمت‏.‏

وقرأ طلحة ابن مصرف «وِقْراً» بكسر الواو، أي جعل في آذانهم ما سدّها عن استماع القول على التشبيه بوقر البعير، وهو مقدار ما يطيق أن يحمله، وذكر الأكنة والوقر تمثيل لفرط بعدهم عن فهم الحق وسماعه، كأن قلوبهم لا تعقل، وأسماعهم لا تدرك، ‏{‏وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا‏}‏ أي لا يؤمنوا بشيء من الآيات التي يرونها من المعجزات، ونحوها لعنادهم وتمرّدهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا جَاءوكَ يجادلونك يَقُولُ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين‏}‏ «حتى» هنا هي الابتدائية التي تقع بعدها الجمل، وجملة ‏{‏يجادلونك‏}‏ في محل نصب على الحال‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم بلغوا من الكفر والعناد أنهم إذا جاءوك مجادلين لم يكتفوا بمجرد عدم الإيمان، بل يقولون إن هذا إلا أساطير الأوّلين‏.‏ وقيل‏:‏ «حتى» هي الجارة وما بعدها في محل جر، والمعنى‏:‏ حتى وقت مجيئهم مجادلين يقولون إن هذا إلا أساطير الأوّلين، وهذا غاية التكذيب ونهاية العناد‏.‏ والأساطير قال الزجاج‏:‏ واحدها أسطار‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ أسطورة‏.‏ وقال أبو عبيدة أسطارة‏.‏ وقال النحاس‏:‏ أسطور‏.‏ وقال القشيري‏:‏ أسطير‏.‏ وقيل‏:‏ هو جمع لا واحد له كعباديد وأبابيل، والمعنى‏:‏ ما سطره الأوّلون في الكتب من القصص والأحاديث‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الأساطير الأباطيل والترهات‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنأون عَنْهُ‏}‏ أي ينهى المشركون الناس عن الإيمان بالقرآن، أو بمحمد صلى الله عليه وسلم ويبعدون هم في أنفسهم عنه‏.‏ وقيل‏:‏ إنها نزلت في أبي طالب، فإنه كان ينهى الكفار عن أذية النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويبعد هو عن إجابته ‏{‏وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ أي ما يهلكون بما يقع منهم من النهي والنأي، إلا أنفسهم بتعريضها لعذاب الله وسخطه، والحال‏:‏ أنهم ما يشعرون بهذا البلاء الذي جلبوه على أنفسهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار‏}‏ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من تتأتى منه الرؤية‏.‏ وعبر عن المستقبل يوم القيامة بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه، كما ذكره علماء المعاني، و‏{‏وُقِفُواْ‏}‏ معناه حبسوا، يقال وقفته وقفا ووقف وقوفاً، وقيل‏:‏ معنى ‏{‏وُقِفُواْ عَلَى النار‏}‏ أدخلوها، فتكون «على» بمعنى «في»‏.‏ وقيل هي بمعنى الباء‏:‏ أي وقفوا بالنار أي بقربها معاينين لها، ومفعول ترى محذوف، وجواب «لو» محذوف، ليذهب السامع كل مذهب، والتقدير‏:‏ لو تراهم إذا وقفوا على النار لرأيت منظراً هائلاً وحالاً فظيعاً ‏{‏فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ‏}‏ أي إلى الدنيا ‏{‏وَلاَ نُكَذّبَ بئايات رَبّنَا‏}‏ أي التي جاءنا بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين‏}‏ بها العاملين بما فيها، والأفعال الثلاثة داخلة تحت التمني أي تمنوا الرد، وأن لا يكذبوا، وأن يكونوا من المؤمنين، برفع الأفعال الثلاثة كما هي قراءة الكسائي وأهل المدينة، وشعبة، وابن كثير، وأبي عمرو‏.‏

وقرأ حفص، وحمزة، بنصب نكذب ونكون بإضمار أن بعد الواو على جواب التمني، واختار سيبويه القطع في ‏{‏وَلاَ نُكَذّبَ‏}‏ فيكون غير داخل في التمني، والتقدير‏:‏ ونحن لا نكذب على معنى الثبات على ترك التكذيب، أي لا نكذب رددنا أو لم نردّ، قال‏:‏ وهو مثل دعني ولا أعود، أي لا أعود على كل حال تركتني أو لم تتركني‏.‏ واستدل أبو عمرو بن العلاء على خروجه من التمني بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ لأن الكذب لا يكون في التمني‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏وَنَكُونَ‏}‏ بالنصب، وأدخل الفعلين الأوّلين في التمني، وقرأ أبيّ «وَلاَ نُكَذّبَ بئايات رَبّنَا أَبَدًا» وقرأ هو وابن مسعود «ياليتنا نُرَدُّ فلاَ نُكَذّبَ» بالفاء والنصب، والفاء ينصب بها في جواب التمني كما ينصب بالواو كما قال الزجاج، وقال أكثر البصريين‏:‏ لا يجوز الجواب إلا بالفاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ‏}‏ هذا إضراب عما يدل عليه التمني من الوعد بالإيمان والتصديق، أي لم يكن ذلك التمني منهم عن صدق نية وخلوص اعتقاد، بل هو لسبب آخر، وهو أنه بدا لهم ما كانوا يخفون، أي يجحدون من الشرك، وعرفوا أنهم هالكون بشركهم، فعدلوا إلى التمني والمواعيد الكاذبة‏.‏ وقيل‏:‏ بدا لهم ما كانوا يخفون من النفاق والكفر بشهادة جوارحهم عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ بدا لهم ما كانوا يكتمون من أعمالهم القبيحة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 47‏]‏ وقال المبرد‏:‏ بدا لهم جزاء كفرهم الذي كانوا يخفونه، وهو مثل القول الأوّل‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أنه ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة يخفون عنهم من أمر البعث والقيامة ‏{‏وَلَوْ رُدُّواْ‏}‏ إلى الدنيا حسبما تمنوا ‏{‏لعادوا‏}‏ لفعل ما نهوا عنه من القبائح التي رأسها الشرك، كما عاين إبليس ما عاين من آيات الله ثم عاند ‏{‏وَإِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ أي متصفون بهذه الصفة لا ينفكون عنها بحال من الأحوال ولو شاهدوا ما شاهدوا‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ وإنهم لكاذبون فيما أخبروا به عن أنفسهم من الصدق والإيمان‏.‏ وقرأ يحيى بن وثاب «وَلَوْ رِدُّوا» بكسر الراء؛ لأن الأصل رددوا فنقلت كسرة الدال إلى الراء، وجملة ‏{‏وَإِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ معترضة بين المعطوف وهو ‏{‏وقالوا‏}‏، وبين المعطوف عليه وهو ‏{‏لعادوا‏}‏ أي لعادوا إلى ما نهوا عنه ‏{‏وَقَالُواْ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا‏}‏ أي ما هي إلا حياتنا الدنيا ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ‏}‏ بعد الموت، وهذا من شدّة تمرّدهم وعنادهم، حيث يقولون هذه المقالة على تقدير أنهم رجعوا إلى الدنيا بعد مشاهدتهم للبعث‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ‏}‏ قد تقدّم تفسيره في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار‏}‏ أي حبسوا على ما يكون من أمر ربهم فيهم‏.‏ وقيل‏:‏ «على» بمعنى «عند»، وجواب «لو» محذوف، أي لشاهدت أمراً عظيماً، والاستفهام في ‏{‏أَلَيْسَ هذا بالحق‏}‏ للتقريع والتوبيخ، أي أليس هذا البعث الذي ينكرونه كائناً موجوداً، وهذا الجزاء الذي يجحدونه حاضراً‏.‏ ‏{‏قَالُواْ بلى وَرَبّنَا‏}‏ اعترفوا بما أنكروا، وأكدوا اعترافهم بالقسم ‏{‏قَالَ فَذوقوا العذاب‏}‏ الذي تشاهدونه وهو عذاب النار ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ أي بسبب كفركم به أو بكل شيء مما أمرتم بالإيمان به في دار الدنيا‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ‏}‏ قال‏:‏ معذرتهم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عنه ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ‏}‏ قال‏:‏ حجتهم ‏{‏إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ يعني المنافقين والمشركين قالوا وهم في النار‏:‏ هلم فلنكذب فلعله أن ينفعنا، فقال الله‏:‏ ‏{‏انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ‏}‏ في القيامة ‏{‏مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ يكذبون في الدنيا‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عنه في قوله‏:‏ ‏{‏والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 42‏]‏ قال بجوارحهم‏.‏

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة‏:‏ ‏{‏انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ باعتذارهم الباطل ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ قال‏:‏ ما كانوا يشركون‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ‏}‏ قال‏:‏ قريش، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً‏}‏ قال‏:‏ كالجعبة للنبل‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً‏}‏ قال‏:‏ يسمعونه بآذانهم ولا يعون منه شيئاً، كمثل البهيمة التي لا تسمع النداء ولا تدري ما يقال لها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ قال‏:‏ الغطاء أكن قلوبهم أن يفقهوه، والوقر الصمم، و‏{‏أساطير الأولين‏}‏ أساجيع الأوّلين‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال‏:‏ أساطير الأوّلين‏:‏ أحاديث الأوّلين‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة قال‏:‏ أساطير الأوّلين‏:‏ كذب الأوّلين وباطلهم‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ‏}‏ قال‏:‏ نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يردّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتباعد عما جاء به‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن القاسم بن مخيمرة نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير عن عطاء نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ ينهون عنه الناس أن يؤمنوا به، وينأون عنه‏:‏ يتباعدون‏.‏ وأخرج ابن جرير، من طريق العوفيّ عنه قال‏:‏ لا يلقونه ولا يدعون أحداً يأتيه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن محمد بن الحنفية، في الآية قال‏:‏ كفار مكة كانوا يدفعون الناس عنه ولا يجيبونه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد نحوه‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة قال‏:‏ ينهون عن القرآن، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وينأون عنه يتباعدون عنه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن أبي هلال، في الآية قال‏:‏ نزلت في عمومة النبيّ صلى الله عليه وسلم وكانوا عشرة، فكانوا أشدّ الناس معه في العلانية، وأشدّ الناس عليه في السرّ‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ‏}‏ قال‏:‏ من أعمالهم ‏{‏وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ‏}‏ يقول‏:‏ ولو وصل الله لهم دنيا كدنياهم التي كانوا فيها لعادوا إلى أعمالهم، أعمال السوء التي كانوا نهوا عنها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ أخبر الله سبحانه أنهم لو ردّوا لم يقدروا على الهدى، فقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ‏}‏ أي ولو ردّوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى كما حيل بينهم وبينه أوّل مرّة، وهم في الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 36‏]‏

‏{‏قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ‏(‏31‏)‏ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏32‏)‏ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏34‏)‏ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏35‏)‏ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله‏}‏ هم الذين تقدّم ذكرهم‏.‏ والمراد من تكذيبهم بلقاء الله تكذيبهم بالبعث، وقيل تكذيبهم بالجزاء‏.‏ والأوّل أولى، لأنهم الذين قالوا قريباً‏:‏ ‏{‏إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 29‏]‏ ‏{‏حتى إِذَا جَاءتْهُمُ الساعة بَغْتَةً‏}‏ أي القيامة، وسميت ساعة لسرعة الحساب فيها‏.‏ ومعنى بغتة‏:‏ فجأة، يقال بغتهم الأمر يبغتهم بغتاً وبغتة‏.‏ قال سيبويه‏:‏ وهي مصدر في موضع الحال، قال‏:‏ ولا يجوز أن يقاس عليه، فلا يقال‏:‏ جاء فلان سرعة، و«حتى‏}‏ غاية للتكذيب لا للخسران، فإنه لا غاية له ‏{‏قَالُواْ ياحسرتنا‏}‏ هذا جواب ‏{‏إذا جاءتهم‏}‏ أوقعوا النداء على الحسرة، وليست بمنادى في الحقيقة ليدلّ ذلك على كثرة تحسرهم‏.‏ والمعنى‏:‏ يا حسرتنا احضري، فهذا أوانك، كذا قال سيبويه في هذا النداء وأمثاله، كقولهم يا للعجب ويا للرجل‏.‏ وقيل‏:‏ هو تنبيه للناس على عظم ما يحلّ بهم من الحسرة، كأنهم قالوا‏:‏ يا أيها الناس تنبهوا على عظيم ما بنا من الحسرة، والحسرة‏:‏ الندم الشديد ‏{‏على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا‏}‏ أي على تفريطنا في الساعة، أي في الاعتداد لها، والاحتفال بشأنها، والتصديق بها‏.‏ ومعنى فرّطنا ضيعنا، وأصله التقدّم، يقال فرط فلان‏:‏ أي تقدّم وسبق إلى الماء، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏» وأنا فرطكم على الحوض «، ومنه الفارط‏:‏ أي المتقدم فكأنهم أرادوا بقولهم‏:‏ ‏{‏على مَا فَرَّطْنَا‏}‏ أي على ما قدّمنا من عجزنا عن التصديق بالساعة والاعتداد لها، وقال ابن جرير الطبري‏:‏ إن الضمير في ‏{‏فرّطنا فيها‏}‏ يرجع إلى الصفقة، وذلك أنهم لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الإيمان بالكفر، والدنيا بالآخرة ‏{‏قَالُواْ ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا‏}‏ في صفقتنا، وإن لم تذكر في الكلام، فهو دالّ عليها؛ لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة‏.‏ وقيل الضمير راجع إلى الحياة‏:‏ أي على ما فرّطنا في حياتنا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ‏}‏ هذه الجملة حالية، أي يقولون تلك المقالة، والحال أنهم‏:‏ ‏{‏يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ‏}‏ أي ذنوبهم، جمع وزر‏:‏ يقال‏:‏ وزر يزر، فهو وازر وموزور، وأصله من الوزر‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ يقال للرجال إذا بسط ثوبه، فجعل فيه المتاع‏:‏ احمل وزرك، أي ثقلك، ومنه الوزير، لأنه يحمل أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية‏.‏ والمعنى‏:‏ أنها لزمتهم الآثام فصاروا مثقلين بها، وجعلها محمولة على الظهور تمثيل ‏{‏أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ‏}‏ أي بئس ما يحملون‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ‏}‏ أي وما متاع الدنيا إلا لعب ولهو على تقدير حذف مضاف، أو ما الدنيا من حيث هي، إلا لعب ولهو‏.‏ والقصد بالآية تكذيب الكفار في قولهم‏:‏ ‏{‏مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا‏}‏، واللعب معروف، وكذلك اللهو، وكل ما يشغلك فقد ألهاك‏.‏

وقيل‏:‏ أصله الصرف عن الشيء‏.‏ وردّ بأن اللهو بمعنى الصرف لامه «ياء»، يقال لهيت عنه، ولام اللهو واو، يقال لهوت بكذا ‏{‏وَلَلدَّارُ الآخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ سميت آخرة لتأخرها عن الدنيا، أي هي خير للذين يتقون الشرك والمعاصي، أفلا تعقلون ذلك‏.‏ قرأ ابن عامر «وَلَدَارُ الآخرة» بلام واحدة، وبالإضافة وقرأ الجمهور باللام التي للتعريف معها، وجعل الآخرة نعتاً لها والخبر «خير»، وقرئ تعقلون بالفوقية والتحتية‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذى يَقُولُونَ‏}‏ هذا الكلام مبتدأ مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما ناله من الغمّ والحزن بتكذيب الكفار له‏.‏ ودخول قد للتكثير، فإنها قد تأتي لإفادته كما تأتي ربّ‏.‏ والضمير في «إنَّه» للشأن، وقرئ بفتح الياء من «يحزنك» وضمها‏.‏ وقرئ ‏{‏يكذبونك‏}‏ مشدّداً ومخففاً، واختار أبو عبيد قراءة التخفيف‏.‏ قال النحاس‏:‏ وقد خولف أبو عبيد في هذا‏.‏ ومعنى ‏{‏يكذبونك‏}‏ على التشديد‏:‏ ينسبونك إلى الكذب ويردّون عليك ما قلته‏.‏ ومعنى المخفف‏:‏ أنهم لا يجدونك كذاباً، يقال أكذبته‏:‏ وجدته كذاباً، وأبخلته‏:‏ وجدته بخيلاً‏.‏ وحكى الكسائي عن العرب‏:‏ أكذبت الرجل‏:‏ أخبرت أنه جاء بالكذب، وكذّبته‏:‏ أخبرت أنه كاذب‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ كذبته إذا قلت له كذبت، وأكذبته‏:‏ إذا أردت أن ما أتى به كذب‏.‏ والمعنى‏:‏ أن تكذيبهم ليس يرجع إليك، فإنهم يعترفون لك بالصدق، ولكن تكذيبهم راجع إلى ما جئت به، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولكن الظالمين بئايات الله يَجْحَدُونَ‏}‏ ووضع الظاهر موضع المضمر لزيادة التوبيخ لهم، والإزراء عليهم، ووصفهم بالظلم لبيان أن هذا الذي وقع منهم ظلم بين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حتى أتاهم نَصْرُنَا‏}‏ هذا من جملة التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أن هذا الذي وقع من هؤلاء إليك ليس هو بأوّل ما صنعه الكفار مع من أرسله الله إليهم، بل قد وقع التكذيب لكثير من الرسل المرسلين من قبلك، فاقتد بهم ولا تحزن واصبر كما صبروا على ما كذبوا به، وأوذوا، حتى يأتيك نصرنا كما أتاهم فإنا لا نخلف الميعاد و‏{‏لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 38‏]‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءامَنُواْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏]‏ ‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 171 173‏]‏ ‏{‏كَتَبَ الله لأغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 21‏]‏ ‏{‏وَلاَ مُبَدّلَ لكلمات الله‏}‏ بل وعده كائن، وأنت منصور على المكذبين، ظاهر عليهم‏.‏ وقد كان ذلك ولله الحمد‏.‏ ‏{‏وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ المرسلين‏}‏ ما جاءك من تجرّى قومهم عليهم في الابتداء، وتكذيبهم لهم، ثم نصرهم عليهم في الانتهاء، وأنت ستكون عاقبة هؤلاء المكذبين لك كعاقبة المكذبين للرسل، فيرجعون إليك ويدخلون في الدين الذي تدعوهم إليه طوعاً أو كرهاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ‏}‏، كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يكبر عليه إعراض قومه، ويتعاظمه، ويحزن له، فبين له الله سبحانه أن هذا الذي وقع منهم من توليهم عن الإجابة له، والإعراض عما دعا إليه، هو كائن لا محالة لما سبق في علم الله عزّ وجلّ، وليس في استطاعته وقدرته إصلاحهم وإجابتهم قبل أن يأذن الله بذلك، ثم علق ذلك بما هو محال، فقال ‏{‏فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الأرض‏}‏ فتأتيهم بآية منه ‏{‏أَوْ سُلَّماً فِي السمآء فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ‏}‏ منها فافعل، ولكنك لا تستطيع ذلك فدع الحزن، ‏{‏وَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 8‏]‏ و‏{‏مَا أَنتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 22‏]‏ والنفق‏:‏ السرب والمنفذ، ومنه النافقاء لجحر اليربوع، ومنه المنافق‏.‏ وقد تقدّم في البقرة ما يغني عن الإعادة‏.‏ والسلم‏:‏ الدرج الذي يرتقي عليه، وهو مذكر لا يؤنث، وقال الفراء‏:‏ إنه يؤنث‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهو مشتق من السلامة، لأنه يسلك به إلى موضع الأمن‏.‏ وقيل‏:‏ إن الخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالمراد به أمته، لأنها كانت تضيق صدورهم بتمرّد الكفرة وتصميمهم على كفرهم، ولا يشعرون أن لله سبحانه في ذلك حكمة، لا تبلغها العقول، ولا تدركها الأفهام، فإن الله سبحانه لو جاء لرسوله صلى الله عليه وسلم بآية تضطرهم إلى الإيمان لم يبق للتكليف الذي هو الابتلاء والامتحان معنى، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى‏}‏ جمع إلجاء وقسر، ولكنه لم يشأ ذلك، ولله الحكمة البالغة ‏{‏فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين‏}‏ فإن شدّة الحرص والحزن لإعراض الكفار عن الإجابة قبل أن يأذن الله بذلك هو صنيع أهل الجهل، ولست منهم، فدع الأمور مفوّضة إلى عالم الغيب والشهادة، فهو أعلم بما فيه المصلحة، ولا تحزن لعدم حصول ما يطلبونه من الآيات التي لو بدا لهم بعضها، لكان إيمانهم بها اضطراراً ‏{‏إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ‏}‏ أي إنما يستجيب لك إلى ما تدعو إليه الذين يسمعون سماع تفهم بما تقتضيه العقول وتوجبه الأفهام، وهؤلاء ليسوا كذلك، بل هم بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون ولا يعقلون لما جعلنا على قلوبهم من الأكنة، وفي آذانهم من الوقر، ولهذا قال ‏{‏والموتى يَبْعَثُهُمُ الله‏}‏ شبههم بالأموات بجامع أنهم جميعاً لا يفهمون الصواب، ولا يعقلون الحق، أي أن هؤلاء لا يلجئهم الله إلى الإيمان وإن كان قادراً على ذلك، كما يقدر على بعثة الموتى للحساب ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ‏}‏ إلى الجزاء فيجازى كلا بما يليق به كما تقتضيه حكمته البالغة‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏قَالُوا ياحسرتنا‏}‏ قال‏:‏ الحسرة الندامة‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني وأبو الشيخ، وابن مردويه، والخطيب بسند صحيح، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏يا حسرتنا‏}‏ قال‏:‏ «الحسرة أن يرى أهل النار منازلهم من الجنة، فتلك الحسرة» وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ‏}‏ قال‏:‏ ما يعملون‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏لَعِبٌ وَلَهْوٌ‏}‏ قال‏:‏ كل لعب‏:‏ لهو‏.‏ وأخرج الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والحاكم وصححه، والضياء في المختارة، عن عليّ بن أبي طالب، قال‏:‏ قال أبو جهل للنبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنا لا نكذّبك ولكن نكذّب بما جئت به، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُون‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي يزيد المدني، أن أبا جهل قال‏:‏ والله إني لأعلم أنه صادق، ولكن متى كنا تبعاً لبني عبد مناف‏؟‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، عن أبي ميسرة، نحو رواية عليّ بن أبي طالب‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن الظالمين بئايات الله يَجْحَدُونَ‏}‏ قال‏:‏ يعلمون أنك رسول الله ويجحدون‏.‏

وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ‏}‏ قال‏:‏ يعزّي نبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسما والصفات، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الأرض‏}‏ والنفق‏:‏ السرب، فتذهب فيه فتأتيهم بآية، أو تجعل لهم سلماً في السماء فتصعد عليه ‏{‏فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَة‏}‏ أفضل مما أتيناهم به، فافعل ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى‏}‏ يقول سبحانه‏:‏ لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏نَفَقاً فِى الأرض‏}‏ قال‏:‏ سرباً ‏{‏أَوْ سُلَّماً فِى السماء‏}‏ قال‏:‏ يعني الدرج‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ‏}‏ قال‏:‏ المؤمنون ‏{‏والموتى‏}‏ قال‏:‏ الكفار‏.‏ وأخرج هؤلاء عن مجاهد مثله‏.‏