فصل: تفسير الآيات رقم (37- 39)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 39‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏37‏)‏ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ‏(‏38‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏39‏)‏‏}‏

هذا كان منهم تعنتاً ومكابرة، حيث لم يقتدوا بما قد أنزله الله على رسوله من الآيات البينات التي من جملتها القرآن، وقد علموا أنهم قد عجزوا عن أن يأتوا بسورة مثله، ومرادهم بالآية هنا هي التي تضطرهم إلى الإيمان كنزول الملائكة بمرأى منهم ومسمع، أو نتق الجبل كما وقع لبني إسرائيل، فأمره الله سبحانه أن يجيبهم بأن الله قادر على أن ينزل على رسوله آية تضطرهم إلى الإيمان، ولكنه ترك ذلك لتظهر فائدة التكليف الذي هو الابتلاء والامتحان، وأيضاً لو أنزل آية كما طلبوا لم يمهلهم بعد نزولها؛ بل سيعاجلهم بالعقوبة إذا لم يؤمنوا‏.‏ قال الزجاج‏:‏ طلبوا أن يجمعهم على الهدى، يعني جمع إلجاء ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن الله قادر على ذلك، وأنه تركه لحكمة بالغة لا تبلغها عقولهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الارض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم‏}‏ الدابة من دبّ يدبّ فهو داب‏:‏ إذا مشى مشياً فيه تقارب خطو‏.‏ وقد تقدّم بيان ذلك في البقرة ‏{‏وَلاَ طَائِرٍ‏}‏ معطوف على ‏{‏دَابَّةٍ‏}‏ مجرور في قراءة الجمهور‏.‏ وقرأ الحسن وعبد الله بن أبي إسحاق «وَلاَ طَائِرٍ» بالرفع عطفاً على موضع من دابة على تقدير زيادة من، و‏{‏بِجَنَاحَيْهِ‏}‏ لدفع الإبهام؛ لأن العرب تستعمل الطيران لغير الطير، كقولهم‏:‏ طر في حاجتي‏:‏ أي أسرع‏.‏ وقيل‏:‏ إن اعتدال جسد الطائر بين الجناحين يعينه على الطيران، ومع عدم الاعتدال يميل، فأعلمنا سبحانه أن الطيران بالجناحين‏.‏ وقيل‏:‏ ذكر الجناحين للتأكيد كضرب بيده وأبصر بعينيه‏.‏ والجناح‏:‏ أحد ناحيتي الطير الذي يتمكن به من الطيران في الهواء، وأصله‏:‏ الميل إلى ناحية من النواحي‏.‏ والمعنى‏:‏ ما من دابة من الدواب التي تدبّ في أيّ مكان من أمكنة الأرض، ولا طائر يطير في أيّ ناحية من نواحيها ‏{‏إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم‏}‏ أي جماعات مثلكم خلقهم الله كما خلقكم، ورزقهم كما رزقكم داخلة تحت علمه وتقديره وإحاطته بكل شيء‏.‏ وقيل‏:‏ أمثالنا في ذكر الله والدلالة عليه‏.‏ وقيل‏:‏ أمثالنا في كونهم محشورين، روى ذلك عن أبي هريرة‏.‏ وقال سفيان بن عيينة‏:‏ أي ما من صنف من الدوابّ والطير إلا في الناس شبه منه، فمنهم من يعدو كالأسد، ومنهم من يشره كالخنزير، ومنهم من يعوي كالكلب، ومنهم من يزهو كالطاوس‏.‏ وقيل‏:‏ أمثالكم في أن لها أسماء تعرف بها، وقال الزجاج أمثالكم في الخلق والرزق، والموت، والبعث، والاقتصاص‏.‏ والأولى أن تحمل المماثلة على كل ما يمكن وجود شبه فيه كائناً ما كان‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَئ‏}‏ أي‏:‏ ما أغفلنا عنه ولا ضيعنا فيه من شيء‏.‏ والمراد بالكتاب‏:‏ اللوح المحفوظ، فإن الله أثبت فيه جميع الحوادث‏.‏

وقيل إن المراد به القرآن، أي ما تركنا في القرآن من شيء من أمر الدين إما تفصيلاً أو إجمالاً، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لّكُلّ شَئ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 89‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 44‏]‏، ومن جملة ما أجمله في الكتاب العزيز قوله‏:‏ ‏{‏مَا آتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏ فأمر في هذه الآية باتباع ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل حكم سنه الرسول لأمته قد ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز، بهذه الآية وبنحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعونى‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 21‏]‏، «ومن» في ‏{‏مِن شَئ‏}‏ مزيدة للإستغراق‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ الأمم المذكورة، وفيه دلالة على أنها تحشر كما يحشر بنو آدم، وقد ذهب إلى هذا جمع من العلماء، ومنهم أبو ذرّ، وأبو هريرة، والحسن، وغيرهم‏.‏ وذهب ابن عباس إلى أن حشرها موتها، وبه قال الضحاك‏.‏ والأوّل أرجح للآية، ولما صح في السنة المطهرة من أنه يقاد يوم القيامة للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، ولقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 5‏]‏‏:‏ وذهبت طائفة من العلماء إلى أن المراد بالحشر المذكور في الآية حشر الكفار، وما تخلل كلام معترض‏.‏ قالوا‏:‏ وأما الحديث فالمقصود به التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص‏.‏ واستدلوا أيضاً بأن في هذا الحديث خارج الصحيح عن بعض الرواة زيادة، ولفظه«حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء، وللحجر لم ركب على الحجر‏؟‏ والعود لم خدش العود‏؟‏» قالوا‏:‏ والجمادات لا يعقل خطابها ولا ثوابها ولا عقابها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏والذين كَذَّبُواْ باياتنا صُمٌّ وَبُكْمٌ‏}‏ أي لا يسمعون بأسماعهم ولا ينطقون بألسنتهم، نزلهم منزلة من لا يسمع ولا ينطق، لعدم قبولهم لما ينبغي قوله من الحجج الواضحة والدلائل الصحيحة‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ يجوز أن يكون صممهم وبكمهم في الآخرة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فِى الظلمات‏}‏ أي في ظلمات الكفر، والجهل والحيرة، لا يهتدون لشيء مما فيه صلاحهم‏.‏ والمعنى‏:‏ كائنين في الظلمات التي تمنع من إبصار المبصرات، وضموا إلى الصمم، والبكم، عدم الانتفاع بالأبصار لتراكم الظلمة عليهم، فكانت حواسهم كالمسلوبة التي لا ينتفع بها بحال، وقد تقدّم في البقرة تحقيق المقام بما يغني عن الإعادة، ثم بين سبحانه أن الأمر بيده ما شاء يفعل، من شاء تعالى أن يضله أضله، ومن شاء أن يهديه جعله على صراط مستقيم، لا يذهب به إلى غير الحق، ولا يمشي فيه إلا إلى صوب الاستقامة‏.‏

وقد أخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم‏}‏ قال‏:‏ أصنافاً مصنفة تعرف بأسمائها‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في الآية قال‏:‏ الطير أمة، والإنس أمة، والجن أمة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ‏:‏ قال‏:‏ خلق أمثالكم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريح في الآية قال‏:‏ الذرّة فما فوقها من ألوان ما خلق الله من الدواب‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس ‏{‏مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَئ‏}‏ يعني‏:‏ ما تركنا شيئاً إلا وقد كتبناه في أم الكتاب‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وأبو الشيخ، عن قتادة نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ‏}‏ قال‏:‏ موت البهائم حشرها، وفي لفظ قال‏:‏ يعني بالحشر الموت‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وأبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة قال‏:‏ ما من دابة ولا طائر إلا سيحشر يوم القيامة، ثم يقتصّ لبعضها من بعض، حتى يقتص للجلحاء من ذات القرن، ثم يقال لها كوني تراباً، فعند ذلك يقول الكافر‏:‏ ‏{‏ياليتنى كُنتُ ترابا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 40‏]‏ وإن شئتم فاقرءوا‏:‏ ‏{‏وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الأرض‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أبي ذرّ قال‏:‏ انتطحت شاتان عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال لي‏:‏ «يا أبا ذرّ أتدري فيم انتطحتا‏؟‏» قلت‏:‏ لا قال‏:‏ «لكنّ الله يدري وسيقضي بينهما» قال أبو ذرّ‏:‏ ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يقلب طائر جناحيه في السماء ولا ذكر لنا منه علماً‏.‏ وأخرجه أيضاً أحمد، وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لتؤدّنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 45‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏40‏)‏ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ‏(‏41‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ‏(‏42‏)‏ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ‏(‏44‏)‏ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتُكُم‏}‏ الكاف والميم عند البصريين للخطاب، ولا حظ لهما في الإعراب، وهو اختيار الزجاج‏.‏ وقال الكسائي والفراء وغيرهما‏:‏ إن الكاف والميم في محل نصب بوقوع الرؤية عليهما‏.‏ والمعنى‏:‏ أرأيتم أنفسكم‏.‏ قال في الكشاف مرجحاً للمذهب الأوّل‏:‏ إنه لا محل للضمير الثاني، يعني الكاف من الإعراب، لأنك تقول‏:‏ أرأيتك زيداً ما شأنه، فلو جعلت للكاف محلا لكنت كأنك تقول‏:‏ أرأيت نفسك زيداً ما شأنه، وهو خلف من القول انتهى‏.‏ والمعنى‏:‏ أخبروني ‏{‏إِنْ أتاكم عَذَابُ الله‏}‏ كما أتى غيركم من الأمم ‏{‏أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة‏}‏ أي القيامة ‏{‏أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ‏}‏ هذا على طريقة التبكيت والتوبيخ، أي أتدعون غير الله في هذه الحالة من الأصنام التي تعبدونها، أم تدعون الله سبحانه‏؟‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ تأكيد لذلك التوبيخ، أي أغير الله من الأصنام تدعون إن كنتم صادقين أن أصنامكم تضرّ وتنفع، وأنها آلهة كما تزعمون‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏بَلْ إياه تَدْعُونَ‏}‏ معطوف على منفيّ مقدّر، أي لا تدعون غيره، بل إياه تخصون بالدعاء ‏{‏فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ‏}‏ أي فيكشف عنكم ما تدعونه إلى كشفه إن شاء أن يكشفه عنكم لا إذا لم يشأ ذلك‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ‏}‏ أي وتنسون عند أن يأتيكم العذاب ما تشركون به تعالى، أي ما تجعلونه شريكاً له من الأصنام ونحوها فلا تدعونها، ولا ترجون كشف ما بكم منها، بل تعرضون عنها إعراض الناس‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون المعنى‏:‏ وتتركون ما تشركون‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ‏}‏ كلام مبتدأ مسوق لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم، أي ولقد أرسلنا إلى أمم كائنة من قبلك رسلاً فكذبوهم ‏{‏فأخذناهم بالبأساء والضراء‏}‏ أي البؤس والضرّ‏.‏ وقيل‏:‏ البأساء المصائب في الأموال، والضراء المصائب في الأبدان، وبه قال الأكثر ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ‏}‏ أي يدعون الله بضراعة، مأخوذ من الضراعة وهي الذلّ، يقال‏:‏ ضرع فهو ضارع، ومنه قول الشاعر‏:‏

ليبك يزيد ضارع لخصومة *** ومختبط مما تطيح الطوائح

قوله‏:‏ ‏{‏فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ‏}‏ أي فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا لكنهم لم يتضرعوا، وهذا عتاب لهم على ترك الدعاء في كل الأحوال حتى عند نزول العذاب بهم لشدة تمرّدهم وغلوّهم في الكفر، ويجوز أن يكون المعنى أنهم تضرّعوا عند أن نزل بهم العذاب، وذلك تضرّع ضروري لم يصدر عن إخلاص، فهو غير نافع لصاحبه، والأول أولى، كما يدل عليه ‏{‏ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ أي صلبت وغلظت ‏{‏وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي أغواهم بالتصميم على الكفر والاستمرار على المعاصي‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ تركوا ما ذكروا به، أو أعرضوا عما ذكروا به، لأن النسيان لو كان على حقيقته لم يؤاخذوا به، إذ ليس هو من فعلهم، وبه قال ابن عباس، وابن جريج، وأبو علي الفارسي‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم لما تركوا الاتعاظ بما ذكروا به من البأساء والضرّاء وأعرضوا عن ذلك ‏{‏فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَئ‏}‏ أي لما نسوا ما ذكروا به استدرجناهم بفتح أبواب كل نوع من أنواع الخير عليهم ‏{‏حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ‏}‏ من الخير على أنواعه فرح بطر وأشر وأعجبوا بذلك وظنوا أنهم إنما أعطوه لكون كفرهم الذي هم عليه حقاً وصواباً ‏{‏أخذناهم بَغْتَةً‏}‏ أي فجأة وهم غير مترقبين لذلك والبغتة‏:‏ الأخذ على غرّة من غير تقدمة أمارة، وهي مصدر في موضع الحال، لا يقاس عليها عند سيبويه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ‏}‏ المبلس‏:‏ الحزين الآيس من الخير لشدّة ما نزل به من سوء الحال، ومن ذلك اشتق اسم إبليس، يقال أبلس الرجل إذا سكت، وأبلست الناقة إذا لم ترع‏.‏ قال العجاج‏:‏

صاح هل تعرف رسما مكرسا *** قال نعم أعرفه وأبلسا

أي تحول لهول ما رأى، والمعنى‏:‏ فإذا هم محزونون متحيرون آيسون من الفرح‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ‏}‏ الدابر الآخر، يقال دبر القوم يدبرهم دبراً‏:‏ إذا كان آخرهم في المجيء، والمعنى‏:‏ أنه قطع آخرهم أي استؤصلوا جميعاً حتى آخرهم‏.‏ قال قطرب‏:‏ يعني أنهم استؤصلوا وأهلكوا‏.‏ قال أمية بن أبي الصلت‏:‏

فأهلكوا بعذاب حص دابرهم *** فما استطاعوا له صرفاً ولا انتصروا

ومنه التدبير؛ لأنه إحكام عواقب الأمور‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏والحمد للَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ أي على هلاكهم، وفيه تعليم للمؤمنين كيف يحمدونه سبحانه عند نزول النعم التي من أجلها هلاك الظلمة الذين يفسدون في الأرض، ولا يصلحون، فإنهم أشدّ على عباد الله من كل شديد، اللهم أرح عبادك المؤمنين من ظلم الظالمين، واقطع دابرهم، وأبدلهم بالعدل الشامل لهم‏.‏

وقد أخرج أبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، في قوله‏:‏ ‏{‏فأخذناهم بالبأساء والضراء‏}‏ قال‏:‏ خوف السلطان وغلاء السعر‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ‏}‏ قال‏:‏ يعني تركوا ما ذكروا به‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن جريج ‏{‏فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ‏}‏ قال‏:‏ ما دعاهم الله إليه ورسله، أبوه وردّوه عليهم‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَئ‏}‏ قال‏:‏ رخاء الدنيا ويسرها‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السدي، في قوله‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ‏}‏ قال‏:‏ من الرزق ‏{‏أخذناهم بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ‏}‏ قال‏:‏ مهلكون متغير حالهم ‏{‏فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ‏}‏ يقول‏:‏ فقطع أصل الذين ظلموا‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن محمد بن النضر الحارثي في قوله‏:‏ ‏{‏أخذناهم بَغْتَةً‏}‏ قال‏:‏ أمهلوا عشرين سنة، ولا يخفى أن هذا مخالف لمعنى البغتة لغة ومحتاج إلى نقل عن الشارع، وإلا فهو كلام لا طائل تحته‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن زيد قال‏:‏ المبلس المجهود المكروب الذي قد نزل به الشرّ الذي لا يدفعه، والمبلس أشدّ من المستكين، وفي قوله‏:‏ ‏{‏فَقُطِعَ دَابِرُ القوم والذين ظَلَمُواْ‏}‏ قال‏:‏ استؤصلوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 49‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ‏(‏46‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏47‏)‏ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏48‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

هذا تكرير للتوبيخ لقصد تأكيد الحجة عليهم، ووحد السمع لأنه مصدر يدل على الجمع بخلاف البصر، ولهذا جمعه‏.‏ والختم‏:‏ الطبع، وقد تقدّم تحقيقه في البقرة، والمراد‏:‏ أخذ المعاني القائمة بهذه الجوارح أو أخذ الجوارح نفسها، والاستفهام في ‏{‏مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ‏}‏ للتوبيخ، «ومن» مبتدأ‏.‏ و‏{‏إله‏}‏ خبره، و‏{‏غير الله‏}‏ صفة للخبر، ووحد الضمير في «به» مع أن المرجع متعدد على معنى‏:‏ فمن يأتيكم بذلك المأخوذ أو المذكور، وقيل‏:‏ الضمير راجع إلى أحد هذه المذكورات‏.‏ وقيل إن الضمير بمنزلة اسم الإشارة، أي يأتيكم بذلك المذكور، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنظر في تصريف الآيات، وعدم قبولهم لها تعجيباً له من ذلك، والتصريف المجيء بها على جهات مختلفة، تارة إنذار وتارة إعذار، وتارة ترغيب، وتارة ترهيب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ‏}‏ عطف على نصرف، ومعنى يصدفون‏:‏ يعرضون، يقال‏:‏ صدف عن الشيء‏:‏ إذا أعرض عنه صدفاً وصدوفاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أتاكم عَذَابُ الله‏}‏ أي أخبروني عن ذلك، وقد تقدّم تفسير البغتة قريباً أنها الفجأة‏.‏ قال الكسائي‏:‏ بغتهم يبغتهم بغتا وبغتة‏:‏ إذا أتاهم فجأة، أي من دون تقديم مقدّمات تدل على العذاب‏.‏ والجهرة أن يأتي العذاب بعد ظهور مقدمات تدل عليه‏.‏ وقيل البغتة‏:‏ إتيان العذاب ليلاً، والجهرة‏:‏ إتيان العذاب نهاراً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 50‏]‏‏.‏ ‏{‏هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون‏}‏ الاستفهام للتقرير، أي ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا القوم الظالمون‏.‏ وقرئ «يهلك» على البناء للفاعل‏.‏ قال الزجاج‏:‏ معناه هل يهلك إلا أنتم ومن أشبهكم‏؟‏ انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ‏}‏ كلام مبتدأ لبيان الغرض من إرسال الرسل، أي مبشرين لمن أطاعهم بما أعدّ الله له من الجزاء العظيم، ومنذرين لمن عصاهم بما له عند الله من العذاب الوبيل‏.‏ وقيل‏:‏ مبشرين في الدنيا بسعة الرزق وفي الآخرة بالثواب، ومنذرين مخوّفين بالعقاب، وهما حالان مقدرّتان، أي ما نرسلهم إلا مقدّرين تبشيرهم وإنذارهم ‏{‏فَمَنْ ءامَنَ وَأَصْلَحَ‏}‏ أي آمن بما جاءت به الرسل ‏{‏وَأَصْلَحَ‏}‏ حال نفسه بفعل ما يدعونه إليه ‏{‏فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ بوجه من الوجوه ‏{‏وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ بحال من الأحوال، هذا حال من آمن وأصلح، وأما حال المكذبين فهو أنه يمسهم العذاب بسبب فسقهم، أي خروجهم عن التصديق والطاعة‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏يَصْدِفُونَ‏}‏ قال‏:‏ يعدلون‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهداً، في قوله‏:‏ ‏{‏يَصْدِفُونَ‏}‏ قال‏:‏ يعرضون، وقال في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أتاكم عَذَابُ الله بَغْتَةً‏}‏ قال‏:‏ فجأة آمنين، أو جهرة، قال‏:‏ وهم ينظرون‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال‏:‏ كل فسق في القرآن فمعناه الكذب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 55‏]‏

‏{‏قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏50‏)‏ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏51‏)‏ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏52‏)‏ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ‏(‏53‏)‏ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏54‏)‏ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

أمره الله سبحانه بأن يخبرهم لما كثر اقتراحهم عليه وتعنتهم بإنزال الآيات التي تضطرهم إلى الإيمان، أنه لم يكن عنده خزائن الله حتى يأتيهم بما اقترحوه من الآيات، والمراد خزائن قدرته التي تشتمل على كل شيء من الأشياء ويقول لهم‏:‏ إنه لا يعلم الغيب حتى يخبرهم به ويعرّفهم بما سيكون في مستقبل الدهر ‏{‏وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ‏}‏ حتى تكلفوني من الأفعال الخارقة للعادة مالا يطيقه البشر‏.‏ وليس في هذا ما يدل على أن الملائكة أفضل من الأنبياء‏.‏ وقد اشتغل بهذه المفاضلة قوم من أهل العلم، ولا يترتب على ذلك فائدة دينية ولا دنيوية‏.‏ بل الكلام في مثل هذا من الاشتغال بما لا يعني، «ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» ‏{‏إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ‏}‏ أي ما أتبع إلا ما يوحيه الله إليّ‏.‏ وقد تمسك بذلك من لم يثبت اجتهاد الأنبياء عملاً بما يفيده القصر في هذه الآية، والمسألة مدوّنة في الأصول والأدلة عليها معروفة‏.‏ وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أوتيت القرآن ومثله معه» ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير‏}‏ هذا الاستفهام للإنكار، والمراد‏:‏ أنه لا يستوي الضالّ والمهتدي، أو المسلم الكافر أو من اتبع ما أوحي إليه ومن لم يتبعه، والكلام تمثيل‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ‏}‏ في ذلك حتى تعرفوا عدم الاستواء بينهما، فإنه بين لا يلتبس على من له أدنى عقل، وأقلّ تفكر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبّهِمْ‏}‏ الإنذار‏:‏ الإعلام، والضمير في به راجع إلى ‏{‏ما يوحى‏}‏؛ وقيل إلى ‏{‏الله‏}‏؛ وقيل إلى ‏{‏اليوم الآخر‏}‏‏.‏ وخص الذين يخافون أن يحشروا، لأن الإنذار يؤثر فيهم لما حلّ بهم من الخوف، بخلاف من لا يخاف الحشر من طوائف الكفر لجحوده به وإنكاره له، فإنه لا يؤثر فيه ذلك‏.‏ قيل ومعنى يخافون‏:‏ يعلمون ويتيقنون أنهم محشورون، فيشمل كل من آمن بالبعث من المسلمين، وأهل الذمة، وبعض المشركين‏.‏ وقيل‏:‏ معنى الخوف على حقيقته، والمعنى‏:‏ أنه ينذر به من يظهر عليه الخوف من الحشر عند أن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكره، وإن لم يكن مصدقاً به في الأصل، لكنه يخاف أن يصح ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من كان كذلك تكون الموعظة فيه أنجع والتذكير له أنفع‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ‏}‏ الجملة في محل نصب على الحال أي أنذر به هؤلاء الذين يخافون الحشر حال كونهم لا وليّ لهم يواليهم ولا نصير يناصرهم، ولا شفيع يشفع لهم من دون الله، وفيه ردّ على من زعم من الكفار المعترفين بالحشر أن آباءهم يشفعون لهم، وهم أهل الكتاب، أو أن أصنامهم تشفع لهم، وهم المشركون‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏ الدعاء العبادة مطلقاً‏.‏ وقيل‏:‏ المحافظة على صلاة الجماعة‏.‏ وقيل‏:‏ الذكر وقراءة القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ المراد الدعاء لله بجلب النفع ودفع الضرر‏.‏ قيل‏:‏ والمراد بذكر الغداة والعشيّ الدوام على ذلك والاستمرار‏.‏ وقيل‏:‏ هو على ظاهره، و‏{‏يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏ في محل نصب على الحال‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم مخلصون في عبادتهم لا يريدون بذلك إلا وجه الله تعالى، أي يتوجهون بذلك إليه لا إلى غيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَئ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَئ‏}‏ هذا كلام معترض بين النهي وجوابه متضمن لنفي الحامل على الطرد، أي حساب هؤلاء الذين أردت أن تطردهم موافقة لمن طلب ذلك منك هو على أنفسهم ما عليك منه شيء، وحسابك على نفسك ما عليهم منه شيء فعلام تطردهم‏؟‏ هذا على فرض صحة وصف من وصفهم بقوله‏:‏ ‏{‏مَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 27‏]‏ وطعن عندك في دينهم وحسبهم، فكيف وقد زكاهم الله عزّ وجلّ بالعبادة والإخلاص‏؟‏‏!‏ وهذا هو مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 39‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّى‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 113‏]‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَتَطْرُدَهُمْ‏}‏ جواب النفي في قوله‏:‏ ‏{‏مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَئ‏}‏ وهو من تمام الاعتراض، أي إذا كان الأمر كذلك فأقبل عليهم وجالسهم ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدين والفضل، و«من» في ‏{‏ما عليك من حسابهم من شيء‏}‏ للتبعيض، والثانية للتوكيد‏.‏ وكذا في ‏{‏ما من حسابك عليهم من شيء‏}‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَتَكُونَ مِنَ الظالمين‏}‏ جواب للنهي أعني ‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ‏}‏ أي فإن فعلت ذلك كنت من الظالمين، وحاشاه عن وقوع ذلك‏.‏ وإنما هو من باب التعريض لئلا يفعل ذلك غيره صلى الله عليه وسلم من أهل الإسلام، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 65‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏{‏فتكون من الظالمين‏}‏ معطوف على ‏{‏فتطردهم‏}‏ على طريق التسبب، والأوّل أولى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ‏}‏ أي مثل ذلك الفتن العظيم فتنا بعض الناس ببعض، والفتنة الإختبار، أي عاملناهم معاملة المختبرين، واللام في ‏{‏لّيَقُولواْ‏}‏ للعاقبة، أي ليقول البعض الأوّل مشيرين إلى البعض الثاني ‏{‏أهؤلاء‏}‏ الذين ‏{‏مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا‏}‏ أي أكرمهم بإصابة الحق دوننا‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا من المشكل، لأنه يقال كيف فتنوا ليقولوا هذا القول‏؟‏ وهو إن كان على طريقة الإنكار كفر، وأجاب بجوابين‏:‏ الأوّل‏:‏ أن ذلك واقع منهم على طريقة الاستفهام لا على سبيل الإنكار؛ والثاني‏:‏ أنهم لما اختبروا بهذا كان عاقبة هذا القوم منهم كقوله‏:‏

‏{‏فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين‏}‏ هذا الاستفهام للتقرير‏.‏ والمعنى‏:‏ أن مرجع الاستحقاق لنعم الله سبحانه هو الشكر، وهو أعلم بالشاكرين له، فما بالكم تعترضون بالجهل وتنكرون الفضل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا‏}‏ هم الذين نهاه الله عن طردهم وهم المستضعفون من المؤمنين، كما سيأتي بيانه‏:‏ ‏{‏فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ‏}‏ أمره الله بأن يقول لهم هذا القول تطييباً لخواطرهم، وإكراماً لهم‏.‏ والسلام، والسلامة‏:‏ بمعنى واحد، فمعنى سلام عليكم‏:‏ سلمكم الله‏.‏ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية إذا رآهم بدأهم بالسلام‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا السلام هو من جهة الله، أي أبلغهم منا السلام‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة‏}‏ أي أوجب ذلك إيجاب فضل وإحسان‏.‏ وقيل‏:‏ كتب ذلك في اللوح المحفوظ‏.‏ قيل‏:‏ هذا من جملة ما أمره الله سبحانه بإبلاغه إلى أولئك الذين أمره بإبلاغ السلام إليهم تبشيراً بسعة مغفرة الله، وعظيم رحمته‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَنَّهُ من عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ‏}‏ قرأ ابن عامر، وعاصم، ونافع بفتح ‏"‏ أن ‏"‏ من ‏{‏أنه‏}‏، وقرأ الباقون بكسرها‏.‏ فعلى القراءة الأولى‏:‏ تكون هذه الجملة بدلاً من الرحمة، أي كتب ربكم على نفسه أنه من عمل إلى آخره‏.‏ وعلى القراءة الثانية‏:‏ تكون هذه الجملة مفسرة للرحمة بطريق الاستئناف وموضع بجهالة النصب على الحال، أي عمله وهو جاهل‏.‏ قيل‏:‏ والمعنى أنه فعل فعل الجاهلين؛ لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة مع علمه بذلك أو ظنه، فقد فعل فعل أهل الجهل والسفه، لا فعل أهل الحكمة والتدبير‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ أنه عمل ذلك وهو جاهل لما يتعلق به من المضرة، فتكون فائدة التقييد بالجهالة الإيذان بأن المؤمن لا يباشر ما يعلم أنه يؤدي إلى الضرر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ‏}‏ أي من بعد عمله ‏{‏وَأَصْلَحَ‏}‏ ما أفسده بالمعصية، فراجع الصواب وعمل الطاعة ‏{‏فَإنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏ قرأ ابن عامر، وعاصم، بفتح الهمزة من «فإنه»، وقرأ الباقون بالكسر‏.‏ فعلى القراءة الأولى تكون أن وما بعدها خبر مبتدأ محذوف، أي فأمره أن الله غفور رحيم، وهذا اختيار سيبويه، واختار أبو حاتم أن الجملة في محل رفع على الابتداء، والخبر مضمر، كأنه قيل‏:‏ فله ‏"‏ أَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ‏"‏ قال لأن المبتدأ هو ما بعد الفاء‏.‏ وأما على القراءة الثانية‏:‏ فالجملة مستأنفة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الآيات‏}‏ أي مثل ذلك التفصيل نفصلها، والتفصيل التبيين، والمعنى‏:‏ أن الله فصل لهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين، وبين لهم حكم كل طائفة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين‏}‏‏.‏ قال الكوفيون‏:‏ هو معطوف على مقدّر، أي وكذلك نفصل الآيات لنبين لكم ولتستبين‏.‏

قال النحاس‏:‏ وهذا الحذف لا يحتاج إليه‏.‏ وقيل‏:‏ إن دخول الواو للعطف على المعنى‏.‏ قرئ ‏{‏لتستبين‏}‏ بالفوقية والتحتية، فالخطاب على الفوقية للنبي صلى الله عليه وسلم، أي لتستبين يا محمد سبيل المجرمين، وسبيل منصوب على قراءة نافع‏.‏ وأما على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر، وحفص بالرفع، فالفعل مسند إلى سبيل وأما على التحتية فالفعل مسند إلى سبيل أيضاً، وهي قراءة حمزة والكسائي وشعبة بالرفع، وإذا استبان سبيل المجرمين فقد استبان سبيل المؤمنين‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير‏}‏ قال‏:‏ الأعمى الكافر، الذي عمي عن حق الله وأمره ونعمه عليه، والبصير‏:‏ العبد المؤمن، الذي أبصر بصراً نافعاً فوحد الله وحده، وعمل بطاعة ربه، وانتفع بما أتاه الله‏.‏ وأخرج أحمد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، عن عبد الله بن مسعود

‏:‏ قال مرّ الملأ من قريش على النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده صهيب، وعمار، وبلال، وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا‏:‏ يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك ‏{‏أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا‏}‏ أنحن نكون تبعاً لهؤلاء، اطردهم عنا فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فأنزل الله فيهم القرآن ‏{‏وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبّهِمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ بالظالمين‏}‏‏.‏

وقد أخرج هذا السبب مطوّلاً ابن جرير، وابن المنذر، عن عكرمة، وفيه‏:‏ إن الذين جاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل، والحارث بن عامر بن نوفل، ومطعم بن عدي بن الخيار بن نوفل في أشراف الكفار من عبد مناف‏.‏ وأخرجه ابن أبي شيبة، وابن ماجه وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الدلائل، عن خباب قال‏:‏ جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، فذكر نحو حديث عبد الله بن مسعود مطوّلاً‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ هذا حديث غريب، فإن هذه الآية مكية، والأقرع وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر‏.‏

وأخرج مسلم والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم، عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ لقد نزلت هذه الآية في ستة‏:‏ أنا وعبد الله بن مسعود، وبلال، ورجل من هذيل، ورجلان لست أسميهما، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدّث نفسه، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى‏}‏‏.‏

وقد روي في بيان السبب روايات موافقة لما ذكرنا في المعنى‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏بالغداة والعشى‏}‏ قال‏:‏ يعني الصلاة المكتوبة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال‏:‏ الصلاة المكتوبة الصبح والعصر‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن إبراهيم النخعي في الآية قال‏:‏ هم أهل الذكر لا تطردهم عن الذكر‏.‏ قال سفيان‏:‏ أي أهل الفقه‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ‏}‏ يعني‏:‏ أنه جعل بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء، فقال الأغنياء للفقراء ‏{‏أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا‏}‏ يعني‏:‏ أهؤلاء هداهم الله، وإنما قالوا ذلك استهزاء وسخرية‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج ‏{‏أهؤلاء الذين مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا‏}‏ أي لو كان لهم كرامة على الله ما أصابهم هذا الجهد‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ماهان قال‏:‏ أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ إنا أصبنا ذنوباً عظاماً فما ردّ عليهم شيئاً فانصرفوا، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا‏}‏ الآية، فدعاهم فقرأها عليهم‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، قال‏:‏ أخبرت أن قوله‏:‏ ‏{‏سلام عَلَيْكُمُ‏}‏ كانوا إذا دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم بدأهم بالسلام، فقال ‏{‏سلام عَلَيْكُمُ‏}‏ وإذا لقيهم فكذلك أيضاً‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الآيات‏}‏ قال‏:‏ نبين الآيات‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن زيد في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين‏}‏ قال‏:‏ الذين يأمرونك بطرد هؤلاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 59‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏(‏56‏)‏ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ‏(‏57‏)‏ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏58‏)‏ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏59‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنّى نُهِيتُ‏}‏ أمره الله سبحانه أن يعود إلى مخاطبة الكفار، ويخبرهم بأنه نهى عن عبادة ما يدعونه ويعبدونه من دون الله، أي‏:‏ نهاه الله عن ذلك وصرفه وزجره، ثم أمره سبحانه بأن يقول لهم‏:‏ ‏{‏لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ‏}‏ أي لا أسلك المسلك الذي سلكتموه في دينكم، من اتباع الأهواء والمشي على ما توجبه المقاصد الفاسدة التي يتسبب عنها الوقوع في الضلال‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً‏}‏ أي إن اتبعت أهواءكم فيما طلبتموه من عبادة معبوداتكم، وطرد من أردتم طرده ‏{‏وَمَا أَنَاْ مِنَ المهتدين‏}‏ إن فعلت ذلك، وهذه الجملة الإسمية معطوفة على الجملة التي قبلها، والمجيء بها اسمية عقب تلك الفعلية للدلالة على الدوام والثبات، وقرئ «ضَلَلْتُ» بفتح اللام وكسرها وهما لغتان‏.‏ قال أبو عمرو‏:‏ ضللت بكسر اللام لغة تميم، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة بن مصرف، والأولى هي الأصح والأفصح؛ لأنها لغة أهل الحجاز، وهي قراءة الجمهور‏.‏ قال الجوهري‏:‏ والضلال والضلالة ضدّ الرشاد، وقد ضللت أضلّ، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 50‏]‏ قال فهذه‏:‏ يعني المفتوحة لغة نجد وهي الفصيحة، وأهل العالية يقول‏:‏ «ضللت» بالكسر أضلّ انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنّى على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى‏}‏ البينة‏:‏ الحجة والبرهان، أي إني على برهان من ربي ويقين، لا على هوى وشك، أمره الله سبحانه بأن يبين لهم أن ما هو عليه من عبادة ربه هو عن حجة برهانية يقينية، لا كما هم عليه من اتباع الشبه الداحضة والشكوك الفاسدة التي لا مستند لها إلا مجرد الأهوية الباطلة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَّبْتُم بِهِ‏}‏ أي بالربّ أو بالعذاب أو بالقرآن أو بالبينة، والتذكير للضمير باعتبار المعنى‏.‏ وهذه الجملة إما حالية بتقدير قد، أي والحال أن قد كذبتم به، أو جملة مستأنفة مبينة لما هم عليه من التكذيب بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجج الواضحة والبراهين البينة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ‏}‏ أخبرهم بأنه لم يكن عنده ما يتعجلونه من العذاب، فإنهم كانوا لفرط تكذيبهم يستعجلون نزوله استهزاء، نحو قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 92‏]‏، وقولهم‏:‏ ‏{‏اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏، وقولهم‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 29‏]‏، وقيل‏:‏ ‏{‏مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ‏}‏ من الآيات التي تقترحونها عليّ‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنِ الحكم إِلاَّ الله‏}‏ أي ما الحكم في كل شيء إلا لله سبحانه، ومن جملة ذلك ما تستعجلون به من العذاب أو الآيات المقترحة‏.‏ والمراد‏:‏ الحكم الفاصل بين الحق والباطل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يَقُصُّ الحق‏}‏ قرأ نافع وابن كثير وعاصم ‏{‏يَقُصُّ‏}‏ بالقاف والصاد المهملة، وقرأ الباقون «يَقْضِى» بالضاد المعجمة والياء، وكذا قرأ علي وأبو عبد الرحمن السلمي، وسعيد بن المسيب، وهو مكتوب في المصحف بغير ياء‏.‏ فعلى القراءة الأولى، هو من القصص، أي يقصّ القصص الحق، أو من قصّ أثره، أي يتبع الحق فيما يحكم به‏.‏ وعلى القراءة الثانية، هو من القضاء، أي يقضي القضاء بين عباده، و‏{‏الحق‏}‏ منتصب على المفعولية، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي يقضي القضاء الحق، أو يقص القصص الحق ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين‏}‏ أي بين الحق والباطل بما يقضي به بين عباده ويفصله لهم في كتابه‏.‏ ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم‏:‏ ‏{‏لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ‏}‏ أي ما تطلبون تعجيله بأن يكون إنزاله بكم مقدوراً إليّ وفي وسعي ‏{‏لَقُضِىَ الأمر بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ‏}‏ أي لقضى الله الأمر بيننا بأن ينزله الله سبحانه بكم بسؤالي له وطلبي ذلك، أو المعنى‏:‏ لو كان العذاب الذي تطلبونه وتستعجلون به عندي، وفي قبضتي لأنزلته بكم، وعند ذلك يقضى الأمر بيني وبينكم ‏{‏والله أَعْلَمُ بالظالمين‏}‏ وبالوقت الذي ينزل فيه عذابهم وبما تقتضيه مشيئته من تأخيره استدراجاً لهم وإعذاراً إليهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ‏}‏ المفاتح جمع مفتح بالفتح وهو المخزن، أي عنده مخازن الغيب، جعل للأمور الغيبية مخازن تخزن فيها على طريق الاستعارة، أو جمع مفتح بكسر الميم، وهو المفتاح، جعل للأمور الغيبية مفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن منها على طريق الاستعارة أيضاً، ويؤيد أنها جمع مفتح بالكسر قراءة ابن السميفع «وَعِندَهُ مَفَاتِيح الغيب» فإن المفاتيح جمع مفتاح والمعنى‏:‏ إن عنده سبحانه خاصة مخازن الغيب، أو المفاتيح التي يتوصل بها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ‏}‏ جملة مؤكّدة لمضمون الجملة الأولى، وأنه لا علم لأحد من خلقه بشيء من الأمور الغيبية التي استأثر الله بعلمها، ويندرج تحت هذه الآية علم ما يستعجله الكفار من العذاب كما يرشد إليه السياق اندراجاً أوّلياً‏.‏ وفي هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين وغيرهم من المدّعين ما ليس من شأنهم، ولا يدخل تحت قدرتهم، ولا يحيط به علمهم، ولقد ابتلى الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة، والأنواع المخذولة، ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم «من أتى كاهناً أو منجماً فقد كفر بما أنزل على محمد»

قوله‏:‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا فِى البر والبحر‏}‏ خصهما بالذكر لأنهما من أعظم مخلوقات الله، أي يعلم ما فيهما من حيوان وجماد علماً مفصلاً لا يخفى عليه منه شيء، أو خصهما لكونهما أكثر ما يشاهده الناس ويتطلعون لعلم ما فيهما ‏{‏وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا‏}‏ أي من ورق الشجر وهو تخصيص بعد التعميم، أي يعلمها ويعلم زمان سقوطها ومكانه‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالورقة ما يكتب فيه الآجال والأرزاق‏.‏ وحكى النقاش عن جعفر بن محمد‏:‏ أن الورقة يراد بها هنا السقط من أولاد بني آدم، قال ابن عطية‏:‏ وهذا قول جار على طريقة الرموز، ولا يصح عن جعفر بن محمد ولا ينبغي أن يلتفت إليه ‏{‏وَلاَ حَبَّةٍ‏}‏ كائنة ‏{‏فِى ظلمات الأرض‏}‏ أي في الأمكنة المظلمة‏.‏ وقيل‏:‏ في بطن الأرض ‏{‏وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ‏}‏ بالخفض عطفاً على حبة، وهي معطوفة على ورقة‏.‏ وقرأ ابن السميفع، والحسن، وغيرهما بالرفع عطفاً على موضع ‏{‏من ورقة‏}‏، وقد شمل وصف الرطوبة واليبوسة جميع الموجودات‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ‏}‏ هو اللوح المحفوظ، فتكون هذه الجملة بدل اشتمال من ‏{‏إِلاَّ يَعْلَمُهَا‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو عبارة عن علمه فتكون هذه الجملة بدل كل من تلك الجملة‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي عمران الجوني، في قوله ‏{‏قُلْ إِنّى على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى‏}‏ قال‏:‏ على ثقة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏لَقُضِىَ الأمر بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ‏}‏ قال‏:‏ لقامت الساعة‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ في قوله‏:‏ ‏{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب‏}‏ قال‏:‏ يقول خزائن الغيب‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب‏}‏ قال‏:‏ هنّ خمس ‏{‏إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏عَلَيمٌ خَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 34‏]‏‏.‏ وأخرج أحمد، والبخاري، وغيرهما، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله‏:‏ لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله، ولا تدري نفس بأيّ أرض تموت إلا الله، ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله» وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس ‏{‏وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا‏}‏ قال‏:‏ ما من شجرة في برّ ولا بحر إلا وبها ملك يكتب ما يسقط من ورقها‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن مجاهد نحوه‏.‏

وأخرج أبو الشيخ، عن محمد بن جحادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ‏}‏ قال‏:‏ لله تبارك وتعالى شجرة تحت العرش ليس مخلوق إلا له فيها ورقة فإذا سقطت ورقته خرجت روحه من جسده، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا‏}‏‏.‏ وأخرج الخطيب في تاريخه بسند ضعيف، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما من زرع على الأرض ولا ثمار على أشجار، إلا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم، هذا رزق فلان بن فلان» فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَسْقُطُ مِن‏}‏ الآية‏.‏ وقد رواه يزيد بن هارون، عن محمد ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس أنه تلا هذه الآية ‏{‏وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ‏}‏ فقال‏:‏ الرطب واليابس من كل شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 62‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏60‏)‏ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ‏(‏61‏)‏ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏يتوفاكم باليل‏}‏ أي ينيمكم فيقبض فيه نفوسكم التي بها تميزون وليس ذلك موتاً حقيقة، فهو مثل قوله‏:‏ ‏{‏الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏ والتوفي استيفاء الشيء، وتوفيت الشيء واستوفيته‏:‏ إذا أخذته أجمع، قال الشاعر‏:‏

إن بني الأدرم ليسوا من أحد *** ولا توفاهم قريش في العدد

قيل‏:‏ الروح إذا خرجت من البدن في المنام بقيت فيه الحياة، وقيل‏:‏ لا تخرج منه الروح بل الذهن فقط، والأولى أن هذا أمر لا يعرفه إلا الله سبحانه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار‏}‏ أي كسبتم بجوارحكم من الخير والشرّ‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ‏}‏ أي في النهار يعني اليقظة وقيل يبعثكم من القبور فيه، أي في شأن ذلك الذي قطعتم فيه أعماركم من النوم بالليل والكسب بالنهار‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير‏:‏ هو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم بالنهار ويعلم ما جرحتم فيه‏.‏ وقيل ثم يبعثكم فيه، أي في المنام، ومعنى الآية‏:‏ أن إمهاله تعالى للكفار ليس للغفلة عن كفرهم، فإنه عالم بذلك ولكن ‏{‏لّيَقْضِىَ أَجَلٌ مُّسَمًّى‏}‏ أي معين لكل فرد من أفراد العباد من حياة ورزق ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ‏}‏ أي رجوعكم بعد الموت ‏{‏ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ فيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏ المراد‏:‏ فوقية القدرة والرتبة كما يقال‏:‏ السلطان فوق الرعية، وقد تقدّم بيانه في أوّل السورة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً‏}‏ أي ملائكة جعلهم الله حافظين لكم، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين‏}‏ ‏[‏الإنفطار‏:‏ 10‏]‏ بمعنى‏:‏ أنه يرسل عليكم من يحفظكم من الآفات ويحفظ أعمالكم، والحفظة جمع حافظ، مثل كتبة جمع كاتب ‏{‏وَعَلَيْكُمْ‏}‏ متعلق ‏{‏بيرسل‏}‏ لما فيه من معنى الاستيلاء، وتقديمه على حفظة ليفيد العناية بشأنه، وأنه أمر حقيق بذلك‏.‏ وقيل هو متعلق بحفظة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا‏}‏ ‏"‏ حتى ‏"‏ يحتمل أن تكون هي الغائية، أي ويرسل عليكم حفظة يحفظون ما أمروا بحفظه مما يتعلق بكم ‏{‏حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت‏}‏ ويحتمل أن تكون الابتدائية‏.‏ والمراد بمجيء الموت‏:‏ مجيء علاماته‏.‏ وقرأ حمزة «توفاه رسلنا» وقرأ الأعمش «تتوفاه» والرسل‏:‏ هم أعوان ملك الموت، ومعنى توفته‏:‏ استوفت روحه‏:‏ ‏{‏لاَ يُفَرّطُونَ‏}‏ أي لا يقصرون ويضيعون، وأصله من التقدّم، وقال أبو عبيدة‏:‏ لا يتوانون‏.‏ وقرأ عبيد بن عمير «لا يفرطون» بالتخفيف، أي لا يجاوزون الحد فيما أمروا به من الإكرام والإهانة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ رُدُّواْ إلى الله مولاهم الحق‏}‏ معطوف على توفته، والضمير راجع إلى أحد لأنه في معنى الكل مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، أي ردّوا بعد الحشر إلى الله، أي إلى حكمه وجزائه ‏{‏مولاهم‏}‏ مالكهم الذي يلي أمورهم ‏{‏الحق‏}‏ قرأ الجمهور بالجر صفة لاسم الله‏.‏

وقرأ الحسن «الحق» بالنصب على إضمار فعل، أي أعني أو أمدح، أو على المصدر ‏{‏وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين‏}‏ لكونه لا يحتاج إلى ما يحتاجون إليه من الفكر والروية والتدبر‏.‏

وقد أخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مع كل إنسان ملك إذا نام يأخذ نفسه، فإذا أذن الله في قبض روحه قبضه وإلا ردّها إليه، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يتوفاكم باليل‏}‏» وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عكرمة، في الآية قال‏:‏ ما من ليلة إلا والله يقبض الأرواح كلها، فيسأل كل نفس عما عمل صاحبها من النهار، ثم يدعو ملك الموت فيقول‏:‏ اقبض روح هذا؛ وما من يوم إلا وملك الموت ينظر في كتاب حياة الإنسان، قائل يقول ثلاثاً، وقائل يقول خمساً‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال‏:‏ أما وفاته إياهم بالليل فمنامهم، وأما ‏{‏جَرَحْتُم بالنهار‏}‏ فيقول‏:‏ ما اكتسبتم بالنهار ‏{‏ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ‏}‏ قال‏:‏ في النهار ‏{‏لّيَقْضِىَ أَجَلٌ مُّسَمًّى‏}‏ وهو الموت‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم‏}‏ قال‏:‏ ما كسبتم من الإثم‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله‏:‏ ‏{‏وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً‏}‏ قال‏:‏ هم المعقبات من الملائكة يحفظونه ويحفظون عمله‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ أعوان ملك الموت من الملائكة‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله ‏{‏وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ‏}‏ يقول‏:‏ لا يضيعون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 65‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏63‏)‏ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏64‏)‏ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

قيل‏:‏ المراد بظلمات البرّ والبحر‏:‏ شدائدهما‏.‏ قال النحاس‏:‏ والعرب تقول يوم مظلم إذا كان شديداً، فإذا عظمت ذلك قالت‏:‏ يوم ذو كوكب، أي يحتاجون فيه لشدّة ظلمته إلى كوكب، وأنشد سيبويه‏:‏

بني أسد هل تعلمون بلاءنا *** إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا

والاستفهام للتقريع والتوبيخ، أي من ينجيكم من شدائدهما العظيمة‏؟‏ قرأ أبو بكر عن عاصم «خفية» بكسر الخاء‏.‏ وقرأ الباقون بضمها، وهما لغتان‏.‏ وقرأ الأعمش «وَخِيفَةً» من الخوف‏.‏ وجملة ‏{‏تَدْعُونَهُ‏}‏ في محل نصب على الحال، أي من ينجيكم من ذلك حال دعائكم له دعاء تضرّع وخفية، أو متضرّعين ومخفين‏.‏ والمراد بالتضرّع هنا‏:‏ دعاء الجهر‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا‏}‏ كذا قرأ أهل المدينة وأهل الشام‏.‏ وقرأ الكوفيون «لَّئِنْ أنجانا» والجملة في محل نصب على تقدير القول، أي قائلين لئن أنجيتنا من هذه الشدّة التي نزلت بنا، وهي الظلمات المذكورة ‏{‏لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين‏}‏ لك على ما أنعمت به علينا من تخليصنا من هذه الشدائد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُلِ الله يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ‏}‏ قرأ الكوفيون وهشام «يُنَجّيكُمْ» بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف، وقراءة التشديد تفيد التكثير‏.‏ وقيل‏:‏ معناهما واحد، والضمير في ‏{‏مِنْهَا‏}‏ راجع إلى الظلمات‏.‏ والكرب‏:‏ الغم يأخذ بالنفس، ومنه رجل مكروب‏.‏ قال عنترة‏:‏

ومكروب كشفت الكرب عنه *** بطعنة فيصل لما دعاني

‏{‏ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ‏}‏ بالله سبحانه بعد أن أحسَن إليكم بالخلوص من الشدائد، وذهاب الكروب، شركاء لا ينفعونكم ولا يضرّونكم، ولا يقدرون على تخليصكم من كل ما ينزل بكم، فكيف وضعتم هذا الشرك موضع ما وعدتم به من أنفسكم من الشكر‏؟‏ ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم‏:‏ ‏{‏هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً‏}‏ أي الذي قدر على إنجائكم من تلك الشدائد، ودفع عنكم تلك الكروب، قادر على أن يعيدكم في شدّة ومحنة وكرب، يبعث عذابه عليكم من كل جانب‏.‏ فالعذاب المبعوث من جهة الفوق‏:‏ ما ينزل من السماء من المطر والصواعق‏.‏ والمبعوث من تحت الأرجل‏:‏ الخسف والزلازل والغرق‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏مّن فَوْقِكُمْ‏}‏ يعني الأمراء الظلمة ‏{‏وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ يعني السفلة، وعبيد السوء‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً‏}‏ قرأ الجمهور بفتح التحتية، من لبس الأمر‏:‏ إذا خلطه‏.‏ وقرأ أبو عبد الله المديني بضمها، أي يجعل ذلك لباساً لكم‏.‏ قيل والأصل‏:‏ أو يلبس عليكم أمركم، فحذف أحد المفعولين مع حرف الجرّ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 3‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ يجعلكم مختلطي الأهواء مختلفي النحل متفرقي الآراء‏.‏ وقيل‏:‏ يجعلكم فرقاً يقاتل بعضكم بعضاً‏.‏ والشيع‏:‏ الفرق، أي يخلطكم فرقاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ أي يصيب بعضكم بشدّة بعض من قتل وأسر ونهب ‏{‏وَيُذِيقَ‏}‏ معطوف على ‏{‏يَبْعَثَ‏}‏، وقرئ «نذيق» بالنون ‏{‏انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الأيات‏}‏ نبين لهم الحجج والدلالات من وجوه مختلفة ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ‏}‏ الحقيقة فيعودون إلى الحق الذي بيناه لهم بيانات متنوّعة‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظلمات البر والبحر‏}‏ يقول‏:‏ من كرب البرّ والبحر‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، في تفسير الآية عن ابن عباس قال‏:‏ يقول إذا أضلّ الرجل الطريق دعا الله لئن أنجيتنا من هذه لنكوننّ من الشاكرين‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ يعني من أمرائكم ‏{‏أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ يعني سفلتكم ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً‏}‏ يعني بالشيع‏:‏ الأهواء المختلفة ‏{‏وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ قال‏:‏ يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه من وجه آخر في تفسير الآية قال‏:‏ ‏{‏عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ‏}‏ أئمة السوء ‏{‏أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ خدم السوء‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عنه أيضاً من وجه آخر قال‏:‏ ‏{‏مّن فَوْقِكُمْ‏}‏ من قبل أمرائكم وأشرافكم ‏{‏أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ من قبل سفلتكم وعبيدكم‏.‏ وأخرج عبد ابن حميد، وأبو الشيخ، عن أبي مالك ‏{‏عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ القذف ‏{‏أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ الخسف‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد مثله‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن مجاهد أيضاً ‏{‏مّن فَوْقِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ الصيحة والحجارة والريح ‏{‏أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ الرجفة والخسف، وهما عذاب أهل التكذيب ‏{‏وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ قال‏:‏ عذاب أهل الإقرار‏.‏ وأخرج البخاري وغيره، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏{‏قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أعوذ بوجهك» ‏{‏أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ «أعوذ بوجهك» ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ قال‏:‏ «هذا أهون وأيسر»‏.‏ وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه وغيرهم، من حديث طويل عن ثوبان، وفيه‏:‏ «وسألته أن لا يسلط عليهم عدوّاً من غيرهم فأعطانيها، وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها» وأخرج مسلم وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص‏:‏ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مرّ بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلاً، ثم انصرف إلينا فقال‏:‏

«سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة‏:‏ سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيهما، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» وأخرج أحمد، والحاكم وصححه، من حديث جابر بن عتيك نحوه‏.‏ وأخرج نحوه أيضاً ابن مردويه، من حديث أبي هريرة‏.‏ وأخرج أيضاً ابن أبي شيبة وابن مردويه، من حديث حذيفة بن اليمان نحوه‏.‏ وأخرج أحمد والنسائي، وابن مردويه، عن أنس نحوه أيضاً‏.‏

وأخرج أحمد، والترمذي وحسنه، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن سعد بن أبي وقاص عن النبي في هذه الآية‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ فقال النبي‏:‏ «أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد» وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والضياء في المختارة، عن أبيّ بن كعب في هذه الآية قال‏:‏ هنّ أربع وكلهنّ عذاب وكلهنّ واقع لا محالة‏.‏ فمضت اثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، فألبسوا شيعاً، وذاق بعضهم بأس بعض؛ وبقيت اثنتان واقعتان لا محالة‏:‏ الخسف، والرجم‏.‏ والأحاديث في هذا الباب كثيرة وفيما ذكرناه كفاية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 73‏]‏

‏{‏وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏66‏)‏ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏67‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏68‏)‏ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏69‏)‏ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏71‏)‏ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏72‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏73‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ‏}‏ الضمير راجع إلى القرآن، أو إلى العذاب‏.‏ وقومه المكذبون‏:‏ هم قريش‏.‏ وقيل‏:‏ كل معاند، وجملة‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الحق‏}‏ في محل نصب على الحال، أي كذبوا بالقرآن، أو العذاب، والحال أنه حق‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة «وكذبت» بالتاء ‏{‏قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ‏}‏ أي لست بحفيظ على أعمالكم حتى أجازيكم عليها‏.‏ وقيل‏:‏ وهذه الآية منسوخة بآية القتال‏.‏ وقيل ليست بمنسوخة إذ لم يكن إيمانهم في وسعه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ‏}‏ أي لكل شيء وقت يقع فيه‏.‏ والنبأ‏:‏ الشيء الذي ينبأ عنه‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ لكل عمل جزاء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون وعيداً لهم بما ينزل بهم في الدنيا‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هذا وعيد من الله للكفار، لأنهم كانوا لا يقرّون بالبعث ‏{‏وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك بحصوله ونزوله بهم، كما علموا يوم بدر بحصول ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوعدهم به‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِى ءاياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له‏.‏ والخوض‏:‏ أصله في الماء ثم استعمل في غمرات الأشياء التي هي مجاهل تشبيها بغمرات الماء، فاستعير من المحسوس للمعقول‏.‏ وقيل‏:‏ هو مأخوذ من الخلط، وكل شيء خضته فقد خلطته، ومنه خاض الماء بالعسل‏:‏ خلطه‏.‏ والمعنى‏:‏ إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والردّ والاستهزاء فدعهم، ولا تقعد معهم لسماع مثل هذا المنكر العظيم حتى يخوضوا في حديث مغاير له، أمره الله سبحانه بالإعراض عن أهل المجالس التي يستهان فيها بآيات الله إلى غاية هي الخوض في غير ذلك‏.‏

وفي هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتسمح بمجالسة المبتدعة، الذين يحرّفون كلام الله، ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله، ويردّون ذلك إلى أهوائهم المضلة وبدعهم الفاسدة، فإن إذا لم ينكر عليهم ويغير ما هم فيه فأقلّ الأحوال أن يترك مجالستهم، وذلك يسير عليه غير عسير‏.‏ وقد يجعلون حضوره معهم مع تنزّهه عما يتلبسون به شبهة يشبهون بها على العامة، فيكون في حضوره مفسدة زائدة على مجرد سماع المنكر‏.‏

وقد شاهدنا من هذه المجالس الملعونة ما لا يأتي عليه الحصر، وقمنا في نصرة الحق ودفع الباطل بما قدرنا عليه، وبلغت إليه طاقتنا، ومن عرف هذه الشريعة المطهرة حق معرفتها، علم أن مجالسة أهل البدع المضلة فيها من المفسدة أضعاف أضعاف ما في مجالسة من يعصي الله بفعل شيء من المحرّمات، ولا سيما لمن كان غير راسخ القدم في علم الكتاب والسنة، فإنه ربما ينفق عليه من كذباتهم وهذيانهم ما هو من البطلان بأوضح مكان، فينقدح في قلبه ما يصعب علاجه ويعسر دفعه، فيعمل بذلك مدّة عمره ويلقى الله به معتقداً أنه من الحق، وهو من أبطل الباطل وأنكر المنكر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى‏}‏ «إما» هذه هي الشرطية وتلزمها غالباً نون التأكيد ولا تلزمها نادراً، ومنه قول الشاعر‏:‏

إما يصبك عدوّ في منازلة *** يوماً فقل كيف يستعلي وينتصر

وقرأ ابن عباس «ينسينك» بتشديد السين، ومثله قول الشاعر‏:‏

وقد ينسيك بعض الحاجة الكسل *** والمعنى‏:‏ إن أنساك الشيطان أن تقوم عنهم فلا تقعد بعد الذكرى إذا ذكرت ‏{‏مَعَ القوم الظالمين‏}‏ أي الذين ظلموا أنفسهم بالاستهزاء بالآيات والتكذيب بها‏.‏ قيل‏:‏ وهذا الخطاب وإن كان ظاهره للنبي صلى الله عليه وسلم فالمراد التعريض لأمته لتنزّهه عن أن ينسيه الشيطان‏.‏ وقيل‏:‏ لا وجه لهذا، فالنسيان جائز عليه كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة ‏"‏ إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني ‏"‏ ونحو ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَئ‏}‏ أي ما على الذين يتقون مجالسة الكفار عند خوضهم في آيات الله من حساب الكفار من شيء‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ ما على الذين يتقون ما يقع منهم من الخوض في آيات الله في مجالستهم لهم من شيء، وعلى هذا التفسير ففي الآية الترخيص للمتقين من المؤمنين في مجالسة الكفار إذا اضطروا إلى ذلك كما سيأتي عند ذكر السبب‏.‏ قيل‏:‏ وهذا الترخيص كان في أوّل الإسلام، وكان الوقت وقت تقية، ثم نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايات الله يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِه‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 140‏]‏ فنسخ ذلك، قوله‏:‏ ‏{‏ولكن ذكرى لَعَلَّهُمْ‏}‏ ‏"‏ ذكرى ‏"‏ في موضع نصب على المصدر، أو رفع على أنها مبتدأ، وخبرها محذوف، أي ولكن عليهم ذكرى‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ المعنى ولكن هذه ذكرى، والمعنى على الاستدراك من النفي السابق‏:‏ أي ولكن عليهم الذكرى للكافرين بالموعظة والبيان لهم بأن ذلك لا يجوز‏.‏ أما على التفسير الأوّل‏:‏ فلأن مجرد اتقاء مجالس هؤلاء الذين يخوضون في آيات الله لا يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏ وأما على التفسير الثاني‏:‏ فالترخيص في المجالسة لا يسقط التذكير ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ الخوض في آيات الله إذا وقعت منكم الذكرى لهم‏.‏ وأما جعل الضمير للمتقين فبعيد جدّاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً‏}‏ أي اترك هؤلاء الذين اتخذوا الدين الذي كان يجب عليهم العمل به والدخول فيه لعباً ولهواً، ولا تعلق قلبك بهم فإنهم أهل تعنت، وإن كنت مأموراً بإبلاغهم الحجة‏.‏ وقيل‏:‏ هذه الآية منسوخة بآية القتال‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ أنهم اتخذوا دينهم الذي هم عليه لعباً ولهواً، كما في فعلهم بالأنعام من تلك الجهالات والضلالات المتقدم ذكرها‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالدين هنا العيد، أي اتخذوا عيدهم لعباً ولهواً، وجملة‏:‏ ‏{‏وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا‏}‏ معطوفة على ‏{‏اتخذوا‏}‏ أي غرّتهم حتى آثروها على الآخرة وأنكروا البعث وقالوا‏:‏ ‏{‏إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 37‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَذَكّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ الضمير في «بِهِ» للقرآن أو للحساب‏.‏ والإبسال‏:‏ تسليم المرء نفسه للهلاك، ومنه أبسلت ولدي، أي رهنته في الدم، لأن عاقبة ذلك الهلاك‏.‏ قال النابغة‏:‏

ونحن رهناً بالأُفاقة عامراً *** بما كان في الدرداء رهناً فأبسلا

أي فهلك، والدرداء‏:‏ كتيبة كانت لهم معروفة بهذا الاسم، فالمعنى‏:‏ وذكر به خشية أو مخافة أو كراهة أن تهلك نفس بما كسبت، أي ترتهن وتسلم للهلكة، وأصل الإبسال‏:‏ المنع، ومنه شجاع باسل، أي ممتنع من قرنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا‏}‏ العدل هنا‏:‏ الفدية‏.‏ والمعنى‏:‏ وإن بذلت تلك النفس التي سلمت للهلاك كل فدية لا يؤخذ منها ذلك العدل حتى تنجو به من الهلاك، وفاعل ‏{‏يُؤْخَذْ‏}‏ ضمير يرجع إلى العدل، لأنه بمعنى المفدى به كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 48‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ فاعله ‏{‏منها‏}‏، لأن العدل هنا مصدر لا يسند إليه الفعل‏.‏ وكل عدل منصوب على المصدر، أي عدلاً كل عدل، والإشارة بقوله ‏{‏أولئك‏}‏ إلى المتخذين دينهم لعباً ولهواً، وحبره ‏{‏الذين أبسلوا بما كسبوا‏}‏ أي هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً هم الذين سلموا للهلاك بما كسبوا، و‏{‏لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ‏}‏ جواب سؤال مقدّر كأنه قيل‏:‏ كيف حال هؤلاء‏؟‏ فقيل‏:‏ لهم شراب من حميم، وهو الماء الحارّ، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءوسِهِمُ الحميم‏}‏ ‏[‏الحح‏:‏ 19‏]‏ وهو هنا‏:‏ شراب يشربونه فيقطع أمعاءهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا‏}‏ أمره الله سبحانه بأن يقول لهم هذه المقالة، والاستفهام للتوبيخ، أي كيف ندعوا من دون الله أصناماً لا تنفعنا بوجه من وجوه النفع إن إردنا منها نفعاً، ولا نخشى ضرّها بوجه من الوجوه، ومن كان هكذا فلا يستحق العبادة ‏{‏وَنُرَدُّ على أعقابنا‏}‏ عطف على ‏{‏ندعوا‏}‏‏.‏ والأعقاب‏:‏ جمع عقب، أي كيف ندعو من كان كذلك ونرجع إلى الضلالة التي أخرجنا الله منها‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ يقال لمن ردّ عن حاجته ولم يظفر بها‏:‏ قد ردّ على عقبيه‏.‏ وقال المبرّد‏:‏

تعقب بالشر بعد الخير *** وأصله من المعاقبة والعقبى، وهما ما كان تالياً للشيء واجباً أن يتبعه، ومنه ‏{‏والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 128‏]‏، ومنه عقب الرجل، ومنه العقوبة، لأنها تالية للذنب‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏كالذى استهوته الشياطين فِى الأرض‏}‏ هوى يهوى إلى الشيء أسرع إليه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو من هوى النفس، أي زين له الشيطان هواه، و‏{‏استهوته الشياطين‏}‏ هوت به، والكاف في ‏{‏كالذى‏}‏ إما نعت مصدر محذوف، أي نردّ على أعقابنا ردّاً كالذي، أو في محل نصب على الحال من فاعل نردّ، أي نردّ حال كوننا مشبهين للذي استهوته الشياطين، أي ذهبت به مردة الجنّ بعد أن كان بين الإنس‏.‏

قرأ الجمهور «استهوته» وقرأ حمزة ‏{‏استهواه‏}‏ على تذكير الجمع‏.‏ وقرأ ابن مسعود والحسن ‏"‏ استهواه الشيطان ‏"‏ وهو كذلك في قراءة أبيّ، و‏{‏حَيْرَانَ‏}‏ حال، أي حال كونه متحيراً تائهاً لا يدري كيف يصنع‏؟‏ والحيران‏:‏ هو الذي لا يهتدي لجهة، قود حار يحار حيرة وحيرورة‏:‏ إذا تردّد، وبه سمى الماء المستنقع الذي لا منفذ له حائراً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَهُ أصحاب يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى‏}‏ صفة لحيران، أو حالية، أي له رفقة يدعونه إلى الهدى يقولون له‏:‏ ائتنا فلا يجيبهم ولا يهتدي بهديهم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى‏}‏ أمره الله سبحانه بأن يقول لهم‏:‏ ‏{‏إِنَّ هُدَى الله‏}‏ أي دينه الذي ارتضاه لعباده ‏{‏هُوَ الهدى‏}‏ وما عداه باطل ‏{‏وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 85‏]‏‏.‏ ‏{‏وَأُمِرْنَا‏}‏ معطوف على الجملة الإسمية، أي من جملة ما أمره الله بأن يقوله، واللام في ‏{‏لِنُسْلِمَ‏}‏ هي لام العلة، والمعلل هو الأمر، أي أمرنا لأجل نسلم لربّ العالمين‏.‏ وقال الفراء‏:‏ المعنى أمرنا بأن نسلم، لأن العرب تقول أمرتك لتذهب، وبأن تذهب بمعنى‏.‏ وقال النحاس‏:‏ سمعت ابن كيسان يقول هي لام الخفض‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه‏}‏ معطوف على ‏{‏لنسلم‏}‏ على معنى وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا، ويجوز أن يكون عطفاً على ‏{‏يدعونه‏}‏ على المعنى، أي يدعونه إلى الهدى، ويدعونه أن أقيموا ‏{‏وَهُوَ الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ فكيف تخالفون أمره ‏{‏وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض‏}‏ خلقاً ‏{‏بالحق‏}‏ أو حال كون الخلق بالحق فكيف تعبدون الأصنام المخلوقة‏؟‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحق‏}‏ أي واذكر يوم يقول ‏"‏ كن فيكون ‏"‏، أو واتقوا يوم يقول‏:‏ كن فيكون‏.‏ وقيل‏:‏ هو عطف على الهاء في ‏{‏واتقوه‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏{‏يوم‏}‏ ظرف لمضمون جملة ‏{‏قَوْلُهُ الحق‏}‏ والمعنى‏:‏ وأمره المتعلق بالأشياء الحق، أي المشهود له بأنه حق‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏قوله‏}‏ مبتدأ، و‏{‏الحق‏}‏ صفة له و‏{‏يَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ خبره مقدّماً عليه، والمعنى‏:‏ قوله المتصف بالحق كائن يوم يقول كن فيكون‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏{‏قوله‏}‏ مرتفع ‏{‏بيكون‏}‏، و‏{‏الحق‏}‏ صفته، أي يوم يقول كن يكون قوله الحق‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏"‏ فَنَكُونَ ‏"‏ بالنون، وهو إشارة إلى سرعة الحساب‏.‏ وقرأ الباقون بالياء التحتية وهو الصواب‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور‏}‏ الظرف منصوب بما قبله، أي له الملك في هذا اليوم‏.‏ وقيل‏:‏ هو بدل من اليوم الأوّل، والصور‏:‏ قرن ينفخ فيه النفخة الأولى للفناء، والثانية للإنشاء، وكذا قال الجوهري‏:‏ إن الصور القرن، قال الراجز‏:‏

لقد نطحناهم غداة الجمعين *** نطحاً شديداً لا كنطح الصَّورَيْن

والصور بفتح الصاد وبكسرها لغة، وحكي عن عمرو بن عبيد أنه قرأ ‏"‏ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور ‏"‏ بتحريك الواو، جمع صورة، والمراد‏:‏ الخلق‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ وهذا وإن كان محتملاً يردّ بما في الكتاب والسنة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ كن فيكون، يقال‏:‏ إنه للصور خاصة، أي ويوم يقول للصور كن فيكون‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏عالم الغيب والشهادة‏}‏ رفع ‏{‏عالم‏}‏ على أنه صفة للذي خلق السموات والأرض، ويجوز أن يرتفع على إضمار مبتدأ، أي هو عالم الغيب والشهادة، وروي عن بعضهم أنه قرأ «ينفخ» بالبناء للفاعل، فيجوز على هذه القراءة أن يكون الفاعل ‏{‏عالم الغيب‏}‏ ويجوز أن يرتفع بفعل مقدّر كما أنشد سيبويه‏:‏

ليبك يزيد ضارع لخصومة *** ومختبط مما تطيح الطوائح

أي يبكيه مختبط‏.‏ وقرأ الحسن والأعمش ‏"‏ عالم ‏"‏ بالخفض على البدل من الهاء في ‏{‏لَهُ الملك‏}‏‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الحكيم‏}‏ في جميع ما يصدر عنه ‏{‏الخبير‏}‏ بكل شيء‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ‏}‏ يقول‏:‏ كذبت قريش بالقرآن ‏{‏وَهُوَ الحق‏}‏ وأما الوكيل فالحفيظ، وأما ‏{‏لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ‏}‏ فكان نبأ القوم استقرّ يوم بدر بما كان بعدهم من العذاب‏.‏ وأخرج النحاس في ناسخه، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ‏}‏ قال‏:‏ نسخ هذه الآية آية السيف ‏{‏فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة 5‏]‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس ‏{‏لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ‏}‏ قال‏:‏ حبست عقوبتها حتى عمل ذنبها أرسلت عقوبتها‏.‏ وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله ‏{‏لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ‏}‏ قال‏:‏ فعل وحقيقة ما كان منه في الدنيا وما كان منه في الآخرة‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِى ءاياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ ونحو هذا في القرآن قال‏:‏ أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم أنما أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِى ءاياتنا‏}‏ قال‏:‏ يستهزئون بها، نهى محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقعد معهم إلا أن ينسى، فإذا ذكر فليقم وذلك قول الله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين‏}‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن محمد بن سيرين أنه كان يرى أن هذه الآية نزلت في أهل الأهواء‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو نعيم في الحلية، عن أبي جعفر قال‏:‏ لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن محمد بن علي قال‏:‏ إن أصحاب الأهواء من الذين يخوضون في آيات الله‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن مقاتل قال‏:‏ كان المشركون بمكة إذا سمعوا القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاضوا واستهزءوا، فقال المسلمون‏:‏ لا تصلح لنا مجالستهم نخاف أن نخرج حين نسمع قولهم ونجالسهم فلا نعيب عليهم، فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وأخرج أبو الشيخ أيضاً عن السديّ أنه قال‏:‏ إن هذه الآية منسوخة بآية السيف‏.‏

وأخرج النحاس عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَئ‏}‏ قال‏:‏ نسخت هذه الآية المكية بالآية المدنية، وهي قوله‏:‏ ‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايات الله يُكَفَرُ بِهَا‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 140‏]‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ، عن مجاهد ‏{‏وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَئ‏}‏ إن قعدوا ولكن لا يقعدوا‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة عن هشام بن عروة، عن عمر بن عبد العزيز، أنه أتى بقوم قعدوا على شراب معهم رجل صائم فضربه وقال‏:‏ لا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً‏}‏ قال‏:‏ هو مثل قوله‏:‏ ‏{‏ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 11‏]‏ يعني أنه للتهديد‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، عن قتادة، في هذه الآية قال‏:‏ نسختها آية السيف‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه في قوله‏:‏ ‏{‏لَعِباً وَلَهْواً‏}‏ قال‏:‏ أكلاً وشرباً‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَن تُبْسَلَ‏}‏ قال‏:‏ أن تفضح، وفي قوله‏:‏ ‏{‏أُبْسِلُواْ‏}‏ قال‏:‏ فضحوا وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه في قوله‏:‏ ‏{‏أَن تُبْسَلَ‏}‏ قال‏:‏ تسلم، وفي قوله‏:‏ ‏{‏أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ‏}‏ قال‏:‏ أسلموا بجرائرهم‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله‏}‏ قال‏:‏ هذا مثل ضربه الله للآلهة وللدعاة الذين يدعون إلى الله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كالذى استهوته الشياطين فِى الأرض‏}‏ يقول‏:‏ أضلته، وهم الغيلان يدعونه باسمه، واسم أبيه، وجدّه، فيتبعها ويرى أنه في شيء فيصبح وقد ألقته في هلكة، وربما أكلته أو تلقيه في مضلة من الأرض، يهلك فيها عطشاً‏.‏ فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏كالذى استهوته الشياطين‏}‏ قال‏:‏ هو الرجل لا يستجيب لهدى الله، وهو الرجل أطاع الشيطان وعمل في الأرض بالمعصية، وحاد عن الحق وضلّ عنه، و‏{‏لَهُ أصحاب يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى‏}‏ ويزعمون أن الذي يأمرونه به هدى، يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّ الهدى هُدَى الله‏}‏ والضلالة ما تدعو إليه الجن‏.‏

وأخرج ابن المبارك في الزهد، وعبد بن حميد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصور فقال‏:‏ «قرن ينفخ فيه» والأحاديث الواردة في كيفية النفخ ثابتة في كتب الحديث لا حاجة لنا إلى إيرادها ها هنا‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏عالم الغيب والشهادة‏}‏ يعني‏:‏ إِن عالم الغيب والشهادة هو الذي ينفخ في الصور‏.‏