فصل: تفسير الآيات رقم (114- 117)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 117‏]‏

‏{‏أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏114‏)‏ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏115‏)‏ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏116‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ الله‏}‏ الاستفهام للإنكار، والفاء للعطف على فعل مقدّر، والكلام هو على إرادة القول، والتقدير‏:‏ قل لهم يا محمد كيف أضلّ أوابتغى غير الله حكماً‏؟‏ و«غير» مفعول لأبتغي مقدّم عليه، وحكماً المفعول الثاني أو العكس‏.‏ ويجوز أن ينتصب ‏{‏حكماً‏}‏ على الحال، والحكم أبلغ من الحاكم كما تقرر في مثل هذه الصفة المشتقة، أمره الله سبحانه وتعالى أن ينكر عليهم ما طلبوه منه، من أن يجعل بينه وبينهم حكماً فيما اختلفوا فيه، وإن الله هو الحكم العدل بينه وبينهم، وجملة‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب مُفَصَّلاً‏}‏ في محل نصب على الحال، أي كيف أطلب حكماً غير الله، وهو الذي أنزل عليكم القرآن مفصلاً مبيناً واضحاً، مستوفياً لكل قضية على التفصيل‏؟‏ ثم أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن أهل الكتاب، وإن أظهروا الجحود والمكابرة، فإنهم يعلمون أن القرآن منزل من عند الله بما دلّتهم عليه كتب الله المنزلة، كالتوراة والإنجيل، من أنه رسول الله وأنه خاتم الأنبياء، و‏{‏بالحق‏}‏ متعلق بمحذوف وقع حالاً، أي متلبساً بالحق الذي لا شك فيه ولا شبهة، ثم نهاه الله عن أن يكون من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون بأن القرآن منزل من عند الله بالحق، أو نهاه عن مطلق الامتراء، ويكون ذلك تعريضاً لأمته عن أن يمتري أحد منهم، أو الخطاب لكل من يصلح له، أي فلا يكوننّ أحد من الناس من الممترين، ولا يقدح في ذلك كون الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن خطابه خطاب لأمته‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وتمت كلمات ربك

صدقاً وعدلاً‏}‏ قرأ أهل الكوفة ‏{‏كلمة‏}‏ بالتوحيد، وقرأ الباقون بالجمع، والمراد بالكلمات العبارات أو متعلقاتها من الوعد والوعيد‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الله قد أتمّ وعده ووعيده، فظهر الحق وانطمس الباطل‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالكلمة أو الكلمات القرآن، و‏{‏صِدْقاً وَعَدْلاً‏}‏ منتصبان على التمييز، أو الحال، على أنهما نعت مصدر محذوف، أي تمام صدق وعدل ‏{‏لاَ مُبَدّلَ لكلماته‏}‏ لا خلف فيها ولا مغير لما حكم به، والجملة المنفية في محل نصب على الحال، أو مستأنفة ‏{‏وَهُوَ السميع‏}‏ لكل مسموع ‏{‏العليم‏}‏ بكل معلوم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ أخبره الله سبحانه بأنه إذا رام طاعة أكثر من في الأرض أضلوه، لأن الحق لا يكون إلا بيد الأقلين، وهم الطائفة التي لا تزال على الحق، ولا يضرّها خلاف من يخالفها، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل المراد بالأكثر‏:‏ الكفار‏.‏ وقيل المراد بالأرض‏:‏ مكة أي أكثر أهل مكة، ثم علل ذلك سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن‏}‏ أي ما يتبعون إلا الظنّ الذي لا أصل له، وهو ظنهم أن معبوداتهم تستحق العبادة وأنها تقربهم إلى الله ‏{‏وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ‏}‏ أي وما هم إلا يخرصون، أي يحدسون ويقدّرون، وأصل الخرص القطع، ومنه خرص النخل يخرص‏:‏ إذا حزره ليأخذ منه الزكاة، فالخارص يقطع بما لا يجوز القطع به، إذ لا يقين منه‏.‏

وإذا كان هذا حال أكثر من في الأرض، فالعلم الحقيقي هو عند الله، فاتبع ما أمرك به، ودع عنك طاعة غيره، وهو العالم بمن يضلّ عن سبيله ومن يهتدي إليه‏.‏ قال بعض أهل العلم‏:‏ إن ‏{‏أَعْلَمُ‏}‏ في الموضعين بمعنى يعلم، قال‏:‏ ومنه قول حاتم الطائي‏:‏

فحالفت طيّ من دوننا حلفا *** والله أعلم ما كنا لهم خولا

والوجه في هذا التأويل أن أفعل التفضيل لا ينصب الاسم الظاهر، فتكون «من» منصوبة بالفعل الذي جعل أفعل التفضيل نائباً عنه‏.‏ وقيل‏:‏ إن أفعل التفضيل على بابه والنصب بفعل مقدّر‏.‏ وقيل‏:‏ إنها منصوبة بأفعل التفضيل، أي إن ربك أعلم أيّ الناس يضلّ عن سبيله، وقيل‏:‏ في محل نصب بنزع الخافض، أي بمن يضلّ، قاله بعض البصريين‏.‏ وقيل‏:‏ في محل جرّ بإضافة أفعل التفضيل إليها‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏مُفَصَّلاً‏}‏ قال‏:‏ مبيناً‏.‏ وأخرج عبد ابن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏صِدْقاً وَعَدْلاً‏}‏ قال‏:‏ صدقاً فيما وعد، وعدلاً فيما حكم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وأبو نصر السجزي في الإبانة، عن محمد بن كعب القرظي، في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ مُبَدّلَ لكلماته‏}‏ قال‏:‏ لا تبديل لشيء قاله في الدنيا والآخرة لقوله‏:‏ ‏{‏مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وأخرج ابن مردويه، وابن النجار، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً‏}‏ قال‏:‏ «لا إله إلا الله» وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي اليمان عامر بن عبد الله قال‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام يوم فتح مكة، ومعه مخصرة، ولكل قوم صنم يعبدونه، فجعل يأتيها صنماً صنماً ويطعن في صدر الصنم بعصا ثم يعقره، فكلما طعن صنماً أتبعه ضرباً بالقوس حتى يكسروه ويطرحوه خارجاً من المسجد، والنبيّ يقول‏:‏ ‏{‏وَتَمَّتْ * كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدّلِ لكلماته وَهُوَ السميع العليم‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 120‏]‏

‏{‏فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ‏(‏118‏)‏ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ‏(‏119‏)‏ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ‏(‏120‏)‏‏}‏

لما تقدم ذكر ما يصنعه الكفار في الأنعام من تلك السنن الجاهلية، أمر الله المسلمين بأن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه‏.‏ وقيل‏:‏ إنها نزلت في سبب خاص وسيأتي، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما ذكر الذابح عليه اسم الله حلّ إن كان مما أباح الله أكله‏.‏ وقال عطاء‏:‏ في هذه الآية الأمر بذكر الله على الشراب والذبح وكل مطعوم، والشرط في ‏{‏إِن كُنتُم بآياته مُؤْمِنِينَ‏}‏ للتهييج والإلهاب، أي بأحكامه من الأوامر والنواهي التي من جملتها الأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه، والاستفهام في ‏{‏وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ‏}‏ للإنكار، أي ما المانع لكم من أكل ما سميتم عليه بعد أن أذن الله لكم بذلك‏؟‏ والحال أن ‏{‏قَدْ فَصَّل لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي بين لكم بياناً مفصلاً يدفع الشك، ويزيل الشبهة بقوله‏:‏ ‏{‏قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَي مُحَرَّمًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏ إلى آخر الآية، ثم استثنى فقال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ‏}‏ أي من جميع ما حرّمه عليكم، فإن الضرورة تحلل الحرام، وقد تقدّم تحقيقه في البقرة‏.‏ قرأ نافع، ويعقوب ‏"‏ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ‏"‏ بفتح الفعلين على البناء للفاعل، وهو الله سبحانه‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وابن كثير، بالضم فيهما على البناء للمفعول‏.‏ وقرأ عطية العوفي «فصل» بالتخفيف، أي أبان وأظهر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ هم الكفار الذين كانوا يحرّمون البحيرة والسائبة ونحوهما، فإنهم بهذه الأفعال المبنية على الجهل، كانوا يضلون الناس، فيتبعونهم، ولا يعلمون أن ذلك جهل وضلالة، لا يرجع إلى شيء من العلم، ثم أمرهم الله أن يتركوا ظاهر الإثم وباطنه‏.‏ والظاهر‏:‏ ما كان يظهر كأفعال الجوارح‏.‏ والباطن‏:‏ ما كان لا يظهر كأفعال القلب؛ وقيل ما أعلنتم وما أسررتم‏.‏ وقيل‏:‏ الزنا الظاهر، والزنا المكتوم وأضاف الظاهر والباطن إلى الإثم، لأنه يتسبب عنهما، ثم توعد الكاسبين للإثم بالجزاء بسبب افترائهم على الله سبحانه‏.‏

وقد أخرج أبو داود، والترمذي وحسنه، والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس، قال‏:‏ جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ إنا نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير ‏{‏فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ‏}‏ فإنه حلال ‏{‏إِن كُنتُم بآياته‏}‏ يعني القرآن ‏{‏مُّؤْمِنِينَ‏}‏ قال‏:‏ مصدقين ‏{‏وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ الذبائح ‏{‏وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ما حرّم عليكم من الميتة ‏{‏وَإِنَّ كَثِيرًا‏}‏ يعني من مشركي العرب ‏{‏لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ يعني في أمر الذبائح‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ‏}‏ أي من الميتة، والدم، ولحم الخنزير‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس ‏{‏وَذَرُواْ ظاهر الإثم‏}‏ قال‏:‏ هو نكاح الأمهات والبنات ‏{‏وَبَاطِنَهُ‏}‏ قال‏:‏ هو الزنا‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ الظاهر منه ‏{‏لا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 22‏]‏ و‏{‏حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏ الآية، والباطن‏:‏ الزنا‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال‏:‏ علانيته وسرّه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏121‏]‏

‏{‏وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ‏(‏121‏)‏‏}‏

نهى الله سبحانه عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، بعد أن أمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه، وفيه دليل على تحريم أكل ما لم يذكر اسم الله عليه‏.‏

وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فذهب ابن عمر، ونافع مولاه، والشعبي، وابن سيرين وهو رواية عن مالك وعن أحمد بن حنبل، وبه قال أبو ثور، وداود الظاهري أن ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح حرام من غير فرق بين العامد والناسي لهذه الآية‏.‏ ولقوله تعالى في آية الصيد‏:‏ ‏{‏فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 4‏]‏ ويزيد هذا الاستدلال تأكيداً قوله سبحانه في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ‏}‏‏.‏

وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة، الأمر بالتسمية في الصيد وغيره‏.‏ وذهب الشافعي وأصحابه، وهو رواية عن مالك، ورواية عن أحمد‏:‏ أن التسمية مستحبة لا واجبة، وهو مرويّ عن ابن عباس، وأبي هريرة، وعطاء بن أبي رباح، وحمل الشافعي الآية على من ذبح لغير الله، وهو تخصيص للآية بغير مخصص‏.‏ وقد روى أبو داود في المرسل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله أو لم يذكر» وليس في هذا المرسل ما يصلح لتخصيص الآية، نعم حديث عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن قوماً يأتوننا بلحمان لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا‏؟‏ فقال‏:‏ «سموا أنتم وكلوا» يفيد أن التسمية عند الأكل تجزئ مع التباس وقوعها عند الذبح‏.‏ وذهب مالك، وأحمد في المشهور عنهما، وأبو حنيفة وأصحابه، وإسحاق بن راهويه، أن التسمية إن تركت نسياناً لم تضرّ، وإن تركت عمداً لم يحلّ أكل الذبيحة‏.‏ وهو مرويّ عن علي، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعطاء وطاووس، والحسن البصري، وأبي مالك، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وجعفر بن محمد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، واستدلوا بما أخرجه البيهقي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «المسلم إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكله» وهذا الحديث رفعه خطأ، وإنما هو من قول ابن عباس‏.‏ وكذا أخرجه من قوله عبد الرزاق، وسعيد ابن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر؛ نعم يمكن الاستدلال لهذا المذهب بمثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ كما سبق تقريره، وبقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» وأما حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن عديّ أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمى‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

«اسم الله على كل مسلم» فهو حديث ضعيف، قد ضعفه البيهقي وغيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ‏}‏ الضمير يرجع إلى «مَا» بتقدير مضاف، أي وإن أكل ما لم يذكر لفسق، ويجوز أن يرجع إلى مصدر تأكلوا، أي فإن الأكل لفسق، وقد تقدّم تحقيق الفسق‏.‏ وقد استدلّ من حمل هذه الآية على ما ذبح لغير الله بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ‏}‏ ووجه الاستدلال أن الترك لا يكون فسقاً، بل الفسق الذبح لغير الله‏.‏ ويجاب عنه بأن إطلاق اسم الفسق على تارك ما فرضه الله عليه غير ممتنع شرعاً ‏{‏وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ‏}‏ أي يوسوسون لهم بالوساوس المخالفة للحق، المباينة للصواب، قاصدين بذلك أن يجادلكم هؤلاء الأولياء بما يوسوسون لهم ‏{‏وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ‏}‏ فيما يأمرونكم به وينهونكم عنه ‏{‏إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ‏}‏ مثلهم‏.‏

وقد أخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس، والطبراني وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس، قال‏:‏ قال المشركون، وفي لفظ‏:‏ قال اليهود‏:‏ لا تأكلوا مما قتل الله وتأكلوا مما قتلتم أنتم، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عنه قال لما نزلت‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ‏}‏ أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمداً، فقالوا له‏:‏ ما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال، وما ذبح الله بشمشار من ذهب يعني الميتة فهو حرام‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ ليجادلوكم‏}‏ قال‏:‏ الشياطين من فارس وأولياؤهم من قريش‏.‏ وقد روى نحو ما تقدّم في حديث ابن عباس الأوّل من غير طريق‏.‏

وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ إبليس أوحى إلى مشركي قريش‏.‏ وأخرج أبو داود، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ‏}‏ فنسخ، واستثنى من ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن عبد الله بن يزيد الخطمي قال‏:‏ كلوا ذبائح المسلمين وأهل الكتاب مما ذكر اسم الله عليه‏.‏ وروى ابن أبي حاتم عن مكحول نحو قول ابن عباس في النسخ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏122- 124‏]‏

‏{‏أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏122‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏123‏)‏ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه‏}‏ قرأ الجمهور بفتح الواو بعد همزة الاستفهام‏.‏ وقرأ نافع، وابن أبي نعيم بإسكانها، قال النحاس‏:‏ يجوز أن يكون محمولاً على المعنى، أي انظروا وتدبروا ‏{‏أَفغَيْرَ الله أَبْتَغِى حَكَماً أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه‏}‏ والمراد بالميت هنا الكافر، أحياه الله بالإسلام‏.‏ وقيل معناه‏:‏ كان ميتاً حين كان نطفة، فأحييناه بنفخ الروح فيه‏.‏ والأوّل أولى، لأن السياق يشعر بذلك لكونه في تنفير المسلمين عن اتباع المشركين، وكثيراً ما تستعار الحياة للهداية وللعلم، ومنه قول القائل‏:‏

وفي الجهل قبل الموت موت لأهله *** فأجسامهم قبل القبور قبور

وإن امرأ لم يحيي بالعلم ميت *** فليس له حتى النشور نشور

والنور‏:‏ عبارة عن الهداية والإيمان‏.‏ وقيل هو القرآن‏.‏ وقيل الحكمة‏.‏ وقيل هو النور المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 12‏]‏ والضمير في «به» راجع إلى النور ‏{‏كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات‏}‏ أي كمن صفته في الظلمات، ومثله مبتدأ والظلمات خبره، والجملة صفة لمن‏.‏ وقيل مثل زائدة، والمعنى‏:‏ كمن في الظلمات، كما تقول‏:‏ أنا أكرم من مثلك، أي منك، ومثله‏:‏ ‏{‏فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ كمن مثله مثل من هو في الظلمات، و‏{‏لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا‏}‏ في محل نصب على الحال، أي حال كونه ليس بخارج منها بحال من الأحوال‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا‏}‏ أي مثل ذلك الجعل جعلنا في كل قرية‏.‏ والأكابر جمع أكبر، قيل‏:‏ هم الرؤساء والعظماء، وخصهم بالذكر؛ لأنهم أقدر على الفساد، والمكر‏:‏ الحيلة في مخالفة الاستقامة، وأصله الفتل، فالماكر يفتل عن الاستقامة‏:‏ أي يصرف عنها ‏{‏وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ‏}‏ أي وبال مكرهم عائد عليهم ‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ بذلك لفرط جهلهم ‏{‏وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ‏}‏ من الآيات، ‏{‏قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ الله‏}‏ يريدون أنهم لا يؤمنون حتى يكونوا أنبياء، وهذا نوع عجيب من جهالاتهم الغريبة وعجرفتهم العجيبة، ونظيره‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 52‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ إذا جاءت الأكابر آية قالوا هذه المقالة، فأجاب الله عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه‏}‏ أي إن الله أعلم بمن يستحق أن يجعله رسولاً، ويكون موضعاً لها، وأميناً عليها، وقد اختار أن يجعل الرسالة في محمد صفيه وحبيبه، فدعوا طلب ما ليس من شأنكم، ثم توعدهم بقوله‏:‏ ‏{‏سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ‏}‏ أي‏:‏ ذلّ وهوان، وأصله من الصغر كأنّ الذلّ يصغر إلى المرء نفسه‏.‏ وقيل الصغار هو الرضا بالذلّ، روي ذلك عن ابن السكيت‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس ‏{‏أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه‏}‏ قال‏:‏ كان كافراً ضالاً فهديناه ‏{‏وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا‏}‏ هو القرآن ‏{‏كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات‏}‏‏:‏ الكفر والضلالة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عكرمة في الآية قال‏:‏ نزلت في عمار بن ياسر‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى الناس‏}‏ يعني عمر بن الخطاب، ‏{‏كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا‏}‏ يعني أبا جهل بن هشام‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن زيد بن أسلم، في الآية قال‏:‏ نزلت في عمر ابن الخطاب، وأبي جهل بن هشام، كانا ميتين في ضلالتهما، فأحيا الله عمر بالإسلام وأعزّه، وأقرّ أبا جهل في ضلالته وموته، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا فقال‏:‏ «اللهم أعزّ الإسلام بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب»‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا‏}‏ قال‏:‏ نزلت في المستهزئين‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ سلطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن مجاهد قال ‏{‏أكابر مُجْرِمِيهَا‏}‏ عظماءها‏.‏

وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن جريج في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ‏}‏ الآية قال‏:‏ قالوا لمحمد حين دعاهم إلى ما دعاهم إليه من الحق‏.‏ لو كان هذا حقاً لكان فينا من هو أحق أن يؤتي به محمد‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ‏}‏ قال‏:‏ أشركوا ‏{‏صَغَارٌ‏}‏ قال‏:‏ هوان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏125- 128‏]‏

‏{‏فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏125‏)‏ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏126‏)‏ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏127‏)‏ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏128‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام‏}‏ الشرح‏:‏ الشق وأصله التوسعة، وشرحت الأمر بينته وأوضحته، والمعنى‏:‏ من يرد الله هدايته للحق يوسع صدره حتى يقبله بصدر منشرح، ‏{‏وَمَن يُرِدِ‏}‏ إضلاله ‏{‏يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً‏}‏ قرأ ابن كثير ‏"‏ ضَيقاً ‏"‏ بالتخفيف مثل هين ولين‏.‏ وقرأ الباقون بالتشديد وهما لغتان‏.‏ وقرأ نافع ‏"‏ حَرَجاً ‏"‏ بالكسر، ومعناه الضيق، كرر المعنى تأكيداً، وحسن ذلك اختلاف اللفظ‏.‏ وقرأ الباقون بالفتح، جمع حرجة، وهي شدة الضيق، والحرجة الغيظة، والجمع حرج وحرجات، ومنه فلان يتحرج‏:‏ أي يضيق على نفسه‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ مكان حرج وحرج، أي ضيق كثير الشجر لا تصل إليه الراعية، والحرج الإثم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الحرج أضيق الضيق‏.‏ وقال النحاس‏:‏ حرج اسم الفاعل، وحرج مصدر وصف به كما يقال‏:‏ رجل عدل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السماء‏}‏ قرأ ابن كثير بالتخفيف من الصعود، شبه الكافر في ثقل الإيمان عليه، بمن يتكلف ما لا يطيقه كصعود السماء‏.‏ وقرأ النخعي «يصاعد» وأصله يتصاعد‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏يصعد‏}‏ بالتشديد وأصله يتصعد، ومعناه‏:‏ يتكلف ما لا يطيق مرة بعد مرة، كما يتكلف من يريد الصعود إلى السماء‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى على جميع القراءات‏:‏ كاد قلبه يصعد إلى السماء نبوّاً على الإسلام، و‏"‏ ما ‏"‏ في ‏{‏كأنما‏}‏ هي المهيئة لدخول كأن على الجمل الفعلية‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي مثل ذلك الجعل الذي هو جعل الصدر ضيقاً حرجاً يجعل الله الرجس‏.‏ والرجس في اللغة‏:‏ النتن، وقيل هو العذاب، وقيل‏:‏ هو الشيطان يسلطه الله عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو ما لا خير فيه؛ والمعنى الأوّل هو المشهور في لغة العرب، وهو مستعار لما يحلّ بهم من العقوبة وهو يصدق على جميع المعاني المذكورة‏.‏ والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏وهذا صراط رَبّكَ‏}‏ إلى ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المؤمنين، أي هذا طريق دين ربك لا اعوجاج فيه‏.‏ وقيل الإشارة إلى ما تقدّم مما يدل على التوفيق والخذلان، أي‏:‏ هذا هو عادة الله في عباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وانتصاب ‏{‏مُّسْتَقِيماً‏}‏ على الحال كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الحق مُصَدّقًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 91‏]‏، ‏{‏وهذا بَعْلِى شَيْخًا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 72‏]‏ ‏{‏وَقَدْ فَصَّلْنَا الآيات‏}‏ أي بيناها وأوضحناها ‏{‏لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ ما فيها، ويتفهمون معانيها‏.‏ ‏{‏لَهُمْ دَارُ السلام عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ أي لهؤلاء المتذكرين الجنة، لأنها دار السلامة من كل مكروه، أو دار الرب السلام مدخرة لهم عند ربهم، ويوصلهم إليها ‏{‏وَهُوَ وَلِيُّهُم‏}‏ أي ناصرهم، والباء في ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ للسببية أي بسبب أعمالهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً‏}‏ الظرف منصوب بمضمر يقدر متقدماً، أي واذكر يوم نحشرهم أو ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ‏}‏ نقول‏:‏ ‏{‏يَامَعْشَر الجن‏}‏ والمراد حشر جميع الخلق في القيامة، والمعشر الجماعة‏:‏ أي يوم الحشر نقول، يا جماعة الجن ‏{‏قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس‏}‏ أي من الاستمتاع بهم، كقوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ‏}‏ وقيل‏:‏ استكثرتم من إغوائهم وإضلالهم حتى صاروا في حكم الأتباع لكم فحشرناهم معكم، ومثله قوله‏:‏ استكثر الأمير من الجنود، والمراد التقريع والتوبيخ، وعلى الأوّل، فالمراد بالاستمتاع‏:‏ التلذذ من الجن بطاعة الإنس لهم ودخولهم فيما يريدون منهم ‏{‏وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإنس رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ‏}‏ أما استمتاع الجن بالإنس‏:‏ فهو ما تقدم من تلذذهم باتباعهم لهم، وأما استمتاع الإنس بالجن فحيث قبلوا منهم تحسين المعاصي، فوقعوا فيها وتلذذوا بها‏.‏

فذلك هو استمتاعهم بالجن؛ وقيل‏:‏ استمتاع الإنس بالجن‏:‏ أنه كان إذا مرّ الرجل بواد في سفره وخاف على نفسه قال‏:‏ أعوذ بربّ هذا الوادي من جميع ما أحذر، يعني ربه من الجن، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن فَزَادوهُمْ رَهَقاً‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 6‏]‏ وقيل‏:‏ استمتاع الجن بالإنس‏:‏ أنهم كانوا يصدقونهم فيما يقولون من الأخبار الغيبية الباطلة، واستمتاع الإنس بالجن‏:‏ أنهم كانوا يتلذذون بما يلقونه إليهم من الأكاذيب، وينالون بذلك شيئاً من حظوظ الدنيا كالكهان ‏{‏وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذى أَجَّلْتَ لَنَا‏}‏ أي يوم القيامة اعترافاً منهم بالوصول إلى ما وعدهم الله به مما كانوا يكذبون به‏.‏ ولما قالوا هذه المقالة أجاب الله عليهم ف ‏{‏قَالَ النار مَثْوَاكُمْ‏}‏ أي موضع مقامكم‏.‏ والمثوى‏:‏ المقام، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏خالدين فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء الله‏}‏ المعنى الذي تقتضيه لغة العرب في هذا التركيب أنهم يخلدون في النار في كل الأوقات، إلا في الوقت الذي يشاء الله عدم بقائهم فيها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ إن الاستثناء يرجع إلى يوم القيامة، أي خالدين في النار إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدّتهم في الحساب، وهو تعسف، لأن الاستثناء هو من الخلود الدائم، ولا يصدق على من لم يدخل النار، وقيل‏:‏ الاستثناء راجع إلى النار، أي إلا ما شاء الله من تعذيبهم بغيرها في بعض الأوقات كالزمهرير‏.‏ وقيل‏:‏ الاستثناء لأهل الإيمان، و«ما» بمعنى من، أي إلا من شاء الله إيمانه فإنه لا يدخل النار‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ إلا ما شاء الله من كونهم في الدنيا بغير عذاب‏.‏ وكل هذه التأويلات متكلفة، والذي ألجأ إليها ما ورد في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من خلود الكفار في النار أبداً، ولكن لا تعارض بين عام وخاص، لا سيما بعد وروده في القرآن مكرراً كما سيأتي في سورة هود ‏{‏خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ‏}‏

‏[‏هود‏:‏ 107‏]‏ ولعله يأتي هنالك إن شاء الله زيادة تحقيق‏.‏

وقد أخرج ابن المبارك في الزهد، وعبد الرزاق والفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن أبي جعفر المدائني رجل من بني هاشم، وليس هو محمد ابن علي قال‏:‏ سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ‏{‏فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام‏}‏ قالوا‏:‏ كيف يشرح صدره يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ «نور يقذف فيه فينشرح صدره له وينفسح له»، قالوا‏:‏ فهل لذلك من أمارة يعرف بها‏؟‏ قال‏:‏ «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» وأخرج عبد بن حميد، عن فضيل نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا، عن الحسن نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، من طرق عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله حين نزلت هذه الآية فذكر نحوه‏.‏ وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعاً من طريق أخرى‏.‏ وأخرجه سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن النجار في تاريخه عن عبد الله بن المستورد، وكان من ولد جعفر بن أبي طالب قال‏:‏ تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فذكر نحوه‏.‏ وهذه الطرق يقوّي بعضها بعضاً، والمتصل يقوّي المرسل، فالمصير إلى هذا التفسير النبويّ متعين‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ كما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء، كذلك لا يقدر على أن يدخل الإيمان والتوحيد قلبه حتى يدخله الله في قلبه‏.‏ وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه في الآية يقول‏:‏ من أراد أن يضله يضيق عليه حتى يجعل الإسلام عليه ضيقاً، والإسلام واسع وذلك حين يقول‏:‏ ‏{‏وَمَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏ يقول‏:‏ ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله ‏{‏دَارُ السلام‏}‏ قال‏:‏ الجنة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن جابر بن زيد قال‏:‏ السلام هو الله‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ قال‏:‏ الله هو السلام، وداره الجنة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس‏}‏ يقول‏:‏ من ضلالتكم إياهم، يعني‏:‏ أضللتم منهم كثيراً، وفي قوله‏:‏ ‏{‏خالدين فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء الله‏}‏ قال‏:‏ إن هذه الآية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، لا ينزلهم جنة ولا ناراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏129- 132‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏129‏)‏ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ‏(‏130‏)‏ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ‏(‏131‏)‏ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏132‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك نُوَلّى بَعْضَ الظالمين بَعْضاً‏}‏ أي مثل ما جعلنا بين الجن والإنس ما سلف ‏{‏كذلك نُوَلّى بَعْضَ الظالمين بَعْضاً‏}‏ والمعنى‏:‏ نجعل بعضهم يتولى البعض، فيكونون أولياء لبعضهم بعضاً، ثم يتبرأ بعضهم من البعض، فمعنى نولي على هذا‏:‏ نجعله ولياً له‏.‏ وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ معناه نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس‏.‏ وروي عنه أيضاً أنه فسر هذه الآية بأن بالمعنى‏:‏ نسلط بعض الظلمة على بعض فيهلكه ويذله، فيكون في الآية على هذا تهديد للظلمة بأن من لم يمتنع من ظلمه منهم سلط الله عليه ظالماً آخر‏.‏ وقال فضيل بن عياض‏:‏ إذا رأيت ظالماً ينتقم من ظالم، فقف وانظر متعجباً‏.‏ وقيل معنى نولي‏:‏ نكل بعضهم إلى بعض فيما يختارونه من الكفر، والباء في ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ للسببية، أي بسبب كسبهم للذنوب ولينا بعضهم بعضاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ‏}‏ أي يوم نحشرهم نقول لهم ‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ‏}‏ أوهو شروع في حكاية ما سيكون في الحشر، وظاهره أن الله يبعث في الدنيا إلى الجنّ رسلاً منهم، كما يبعث إلى الإنس رسلاً منهم‏.‏ وقيل معنى منكم‏:‏ أي ممن هو مجانس لكم في الخلق والتكليف، والقصد بالمخاطبة، فإن الجنّ والإنس متحدون في ذلك، وإن كان الرسل من الإنس خاصة فهم من جنس الجنّ من تلك الحيثية‏.‏ وقيل‏:‏ إنه من باب تغليب الإنس على الجنّ كما يغلب الذكر على الأنثى‏.‏ وقيل المراد بالرسل إلى الجنّ هاهنا هم النذر منهم، كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 29‏]‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءاياتى‏}‏ صفة أخرى لرسل، وقد تقدّم بيان معنى القصّ‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا‏}‏ هذا إقرار منهم بأن حجة الله لازمة لهم بإرسال رسله إليهم، والجملة جواب سؤال مقدّر فهي مستأنفة، وجملة ‏{‏وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا‏}‏ في محل نصب على الحال، أو هي جملة معترضة ‏{‏وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كافرين‏}‏ هذه شهادة أخرى منهم على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين في الدنيا بالرسل المرسلين إليهم، والآيات التي جاءوا بها، وقد تقدّم ما يفيد أن مثل هذه الآية المصرّحة بإقرارهم بالكفر على أنفسهم، ومثل قولهم‏:‏ ‏{‏والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ محمول على أنهم يقرّون في بعض مواطن يوم القيامة، وينكرون في بعض آخر لطول ذلك اليوم، واضطراب القلوب فيه وطيشان العقول، وانغلاق الأفهام وتبلد الأذهان‏.‏

والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى شهادتهم على أنفسهم أو إلى إرسال الرسل إليهم‏.‏ وأن في ‏{‏أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى‏}‏ هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف‏.‏

والمعنى‏:‏ ذلك أن الشأن لم يكن ربك مهلك القرى، أو هي المصدرية، والباء في ‏{‏بِظُلْمٍ‏}‏ سببية، أي لم أكن أهلك القرى بسبب ظلم من يظلم منهم، والحال أن أهلها غافلون، لم يرسل الله إليهم رسولاً‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الله أرسل الرسل إلى عباده؛ لأنه لا يهلك من عصاه بالكفر من القرى، والحال أنهم غافلون عن الأعذار والإنذار بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، بل إنما يهلكهم بعد إرسال الرسل إليهم، وارتفاع الغفلة عنهم بإنذار الأنبياء لهم‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏؛ وقيل المعنى‏:‏ ما كان الله مهلك أهل القرى بظلم منه، فهو سبحانه يتعالى عن الظلم، بل إنما يهلكهم بعد أن يستحقوا ذلك وترتفع الغفلة عنهم بإرسال الأنبياء؛ وقيل المعنى‏:‏ أن الله لا يهلك أهل القرى بسبب ظلم من يظلم منهم مع كون الآخرين غافلين عن ذلك، فهو مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلِكُلّ درجات مّمَّا عَمِلُواْ‏}‏ أي لكلّ من الجنّ والإنس درجات متفاوتة مما عملوا، فنجازيهم بأعمالهم‏.‏ كما قال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏وَلِكُلّ درجات مّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفّيَهُمْ أعمالهم وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 19‏]‏، وفيه دليل على أن المطيع من الجنّ في الجنة، والعاصي في النار ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ‏}‏ من أعمال الخير والشر، والغفلة ذهاب الشيء عنك لاشتغالك بغيره، قرأ ابن عامر ‏{‏تَعْمَلُونَ‏}‏ بالفوقية، وقرأ الباقون بالتحتية‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك نُوَلّى بَعْضَ الظالمين بَعْضاً‏}‏ قال‏:‏ يوليّ الله بعض الظالمين بعضاً في الدنيا يتبع بعضهم بعضاً في النار‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عبد الرحمن بن زيد، في الآية مثل ما حكينا عنه قريباً‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن الأعمش في تفسير الآية قال‏:‏ سمعتهم يقولون إذا فسد الزمان أمر عليهم شرارهم‏.‏ وأخرج الحاكم في التاريخ، والبيهقي في الشعب، من طريق يحيى بن هاشم حدّثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كما تكونون كذلك يؤمر عليكم» قال البيهقي‏:‏ هذا منقطع ويحيى ضعيف‏.‏

وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏رُسُلٌ مّنكُمْ‏}‏ قال‏:‏ ليس في الجنّ رسل، وإنما الرسل في الإنس، والنذارة في الجنّ، وقرأ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة، أيضاً عن الضحاك قال‏:‏ الجنّ يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون‏.‏ وأخرج أبو الشيخ في العظمة أيضاً، عن ليث بن أبي سليم قال‏:‏ مسلمو الجنّ لا يدخلون الجنة ولا النار، وذلك أن الله أخرج أباهم من الجنة فلا يعيده ولا يعيد ولده‏.‏ وأخرج أبو الشيخ في العظمة أيضاً، عن ابن عباس قال‏:‏ الخلق أربعة فخلق في الجنة كلهم، وخلق في النار كلهم، وخلقان في الجنة والنار، فأما الذين في الجنة كلهم فالملائكة، وأما الذين في النار كلهم فالشياطين، وأما الذين في الجنة والنار فالإنس والجنّ، لهم الثواب وعليهم العقاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏133- 137‏]‏

‏{‏وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ ‏(‏133‏)‏ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏134‏)‏ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏135‏)‏ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏136‏)‏ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ‏(‏137‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَرَبُّكَ الغنى‏}‏ أي عن خلقه لا يحتاج إليهم ولا إلى عبادتهم لا ينفعه إيمانهم، ولا يضرّه كفرهم، ومع كونه غنياً عنهم، فهو ذو رحمة بهم لا يكون غناه عنهم مانعاً من رحمته لهم، وما أحسن هذا الكلام الرباني وأبلغه، وما أقوى الاقتران بين الغنى والرحمة في هذا المقام، فإن الرحمة لهم مع الغنى عنهم هي غاية التفضل والتطوّل ‏{‏إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ‏}‏ أيها العباد العصاة، فيستأصلكم بالعذاب المفضي إلى الهلاك وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِ إهلاككَمْ ما يشاء من خلقه ممن هو أطوع له وأسرع إلى امتثال أحكامه منكم ‏{‏كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ‏}‏ الكاف نعت مصدر محذوف، وما مصدرية، أي ويستخلف استخلافاً مثل إنشائكم من ذرية قوم آخرين، قيل‏:‏ هم أهل سفينة نوح، ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك فلم يهلكهم، ولا استخلف غيرهم رحمة لهم، ولطفاً بهم ‏{‏إِنَّ مَا تُوعَدُونَ‏}‏ من البعث والمجازاة ‏{‏لآتٍ‏}‏ لا محالة، فإن الله لا يخلف الميعاد ‏{‏وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ‏}‏ أي بفائتين عما هو نازل بكم، وواقع عليكم‏:‏ يقال أعجزني فلان، أي فاتني وغلبني‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ ياقَوْم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ‏}‏ المكانة‏:‏ الطريقة، أي اثبتوا على ما أنتم عليه، فإني غير مبال بكم ولا مكترث بكفركم، إني ثابت على ما أنا عليه ‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ من هو على الحق ومن هو على الباطل، وهذا وعيد شديد، فلا يرد ما يقال كيف يأمرهم بالثبات على الكفر‏:‏ و‏{‏عاقبة الدار‏}‏ هي العاقبة المحمودة التي يحمد صاحبها عليها، أي من له النصر في دار الدنيا، ومن له وراثة الأرض، ومن له الدار الآخرة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معنى مكانتكم‏:‏ تمكنكم في الدنيا، أي اعملوا على تمكنكم من أمركم‏.‏ وقيل‏:‏ على ناحيتكم‏.‏ وقيل‏:‏ على موضعكم‏.‏ قرأ حمزة والكسائي «من يكون» بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية‏.‏ والضمير في ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون‏}‏ للشأن‏:‏ أي لا يفلح من اتصف بصفة الظلم، وهو تعريض لهم بعدم فلاحهم لكونهم المتصفين بالظلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام‏}‏ هذا بيان نوع آخر من أنواع كفرهم وجهلهم وتأثيرهم لآلهتهم على الله سبحانه، أي جعلوا لله سبحانه مما خلق من حرثهم ونتاج دوابهم نصيباً، ولآلهتهم نصيباً من ذلك، يصرفونه في سدنتها والقائمين بخدمتها، فإذا ذهب ما لآلهتهم بانفاقه في ذلك عوّضوا عنه ما جعلوه لله، وقالوا‏:‏ الله غنيّ عن ذلك، والزعم الكذب قرأ يحيى بن وثاب والسلمي والأعمش والكسائي «بِزُعْمِهِمْ» بضم الزاي، وقرأ الباقون بفتحها، وهما لغتان ‏{‏فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى الله‏}‏ أي إلى المصارف التي شرع الله الصرف فيها كالصدقة وصلة الرحم، وقرى الضيف ‏{‏وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَائِهِمْ‏}‏ أي يجعلونه لآلهتهم وينفقونه في مصالحها ‏{‏سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ أي ساء الحكم حكمهم في إيثار آلهتهم على الله سبحانه‏.‏

وقيل معنى الآية‏:‏ أنهم كانوا إذا ذبحوا ما جعلوه لله ذكروا عليه اسم أصنامهم، وإذا ذبحوا ما لأصنامهم لم يذكروا عليه اسم الله، فهذا معنى الوصول إلى الله، والوصول إلى شركائهم، وقد قدّمنا الكلام في ذرأ‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم شُرَكَاؤُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ومثل ذلك التزيين الذي زينه الشيطان لهم في قسمة أموالهم بين الله وبين شركائهم، زين لهم قتل أولادهم‏.‏ قال الفراء والزجاج‏:‏ شركاؤهم هاهنا هم الذين كانوا يخدمون الأوثان وقيل‏:‏ هم الغواة من الناس‏.‏ وقيل هم الشياطين، وأشار بهذا إلى الوأد، وهو دفن البنات مخافة السبي والحاجة‏.‏ وقيل كان الرجل يحلف بالله لئن ولد له كذا من الذكور لينحرنّ أحدهم كما فعله عبد المطلب‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏زين‏}‏ بالبناء للفاعل ونصب ‏{‏قتل‏}‏ على أنه مفعول زيَّن، وجرّ أولاد بإضافة قتل إليه، ورفع شركاؤهم على أنه فاعل زين، وقرأ الحسن بضم الزاي ورفع قتل وخفض أولاد، ورفع شركاؤهم على أن قتل هو نائب الفاعل، ورفع شركاؤهم بتقدير يجعل يرجعه، أي زينه شركاؤهم، ومثله قول الشاعر‏:‏

ليبك يزيد ضارع لخصومة *** ومختبط ما تطيح الطوائح

أي يبكيه ضارع، وقرأ ابن عامر، وأهل الشام بضم الزاي، ورفع قتل، ونصب أولاد، وخفض شركائهم على أن قتل مضاف إلى شركائهم، ومعموله أولادهم، ففيه الفصل بين المصدر وما هو مضاف إليه بالمفعول، ومثله في الفصل بين المصدر وما أضيف إليه، قول الشاعر‏:‏

تمرّ على ما تستمرّ وقد شفت *** غلائل عبد القيس منها صدورها

بجر صدورها، والتقدير‏:‏ شفت عبد القيس غلائل صدورها‏.‏ قال النحاس‏:‏ إن هذه القراءة لا تجوز في كلام ولا في شعر، وإنما أجاز النحويون التفريق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الشعر لاتساعهم في الظروف، وهو أي الفصل بالمفعول به في الشعر بعيد، فإجازته في القرآن أبعد‏.‏ وقال أبو غانم أحمد بن حمدان النحوي‏:‏ إن قراءة ابن عامر لا تجوز في العربية وهي زلة عالم، وإذا زلّ العالم لم يجز اتباعه، وردّ قوله إلى الإجماع، وإنما أجازوا في الضرورة للشاعر أن يفرّق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف، كقول الشاعر‏:‏

كما خط الكتاب بكف يوما *** يهودي يقارب أو يزيل

وقول الآخر‏:‏

لله درّ اليوم من لامها *** وقال قوم ممن انتصر لهذه القراءة‏:‏ إنها إذا ثبتت بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهي فصيحة لا قبيحة‏.‏ قالوا‏:‏ وقد ورد ذلك في كلام العرب، وفي مصحف عثمان رضي الله عنه «شركايهم» بالياء‏.‏

وأقول‏:‏ دعوى التواتر باطلة بإجماع القراء المعتبرين، كما بينا ذلك في رسالة مستقلة، فمن قرأ بما يخالف الوجه النحوي فقراءته ردّ عليه، ولا يصح الاستدلال لصحة هذه القراءة بما ورد من الفصل في النظم كما قدّمنا، وكقول الشاعر‏:‏

فزججتها بمزجَة *** زج القلوص أبي مزاده

فإن ضرورة الشعر لا يقاس عليها، وفي الآية قراءة رابعة وهي جرّ الأولاد والشركاء، ووجه ذلك أن الشركاء بدل من الأولاد لكونهم شركاءهم في النسب والميراث‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏لِيُرْدُوهُمْ‏}‏ اللام لام كي، أي لكي يردوهم، من الإرداء وهو الإهلاك ‏{‏وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ‏}‏ معطوف على ما قبله، أي فعلوا ذلك التزيين لإهلاكهم ولخلط دينهم عليهم ‏{‏وَلَوْ شَاء الله مَا فَعَلُوهُ‏}‏ أي لو شاء الله عدم فعلهم ما فعلوه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن‏.‏ وإذا كان ذلك بمشيئة الله ‏{‏فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ‏}‏ فدعهم وافتراءهم فذلك لا يضرك‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبان بن عثمان قال‏:‏ الذرية الأصل، والذرية النسل‏.‏ وأخرجا أيضاً عن ابن عباس ‏{‏وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ‏}‏ قال‏:‏ بسابقين‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه في قوله‏:‏ ‏{‏على مَكَانَتِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ على ناحيتكم‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ للَّهِ‏}‏ الآية‏.‏ قال‏:‏ جعلوا لله من ثمارهم ومائهم نصيباً وللشيطان والأوثان نصيباً، فإن سقط من ثمره ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه، وإن سقط مما جعلوه للشياطين في نصيب الله، ردّوه إلى نصيب الشيطان، وإن انفجر من سقي ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه، وإن انفجر من سقي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله نزحوه، فهذا ما جعلوا لله من الحرث وسقي الماء، وأما ما جعلوه للشيطان من الأنعام فهو قول الله‏:‏ ‏{‏مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 103‏]‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عنه نحوه من طريق أخرى‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد ابن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد قال‏:‏ جعلوا لله مما ذرأ من الحرث جزءاً أو لشركائهم جزءاً، فما ذهب به الريح مما سموا لله إلى جزء أوثانهم تركوه وقالوا الله عن هذا غني، وما ذهب به الريح من جزء أوثانهم إلى جزء الله أخذوه‏.‏ والأنعام التي سموا لله‏:‏ البحيرة والسائبة‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم شُرَكَاؤُهُمْ‏}‏ قال‏:‏ شياطينهم يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خوف العيلة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏138- 140‏]‏

‏{‏وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏138‏)‏ وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏139‏)‏ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏140‏)‏‏}‏

هذا بيان نوع آخر من جهالاتهم وضلالاتهم، والحجر بكسر أوّله وسكون ثانيه في قراءة الجمهور‏.‏ وقرأ أبان بن عثمان «حجر» بضم الحاء والجيم، وقرأ الحسن وقتادة بفتح الحاء وإسكان الجيم، وقرأ ابن عباس وابن الزبير «حرج» بتقديم الراء على الجيم، وكذا هو في مصحف أُبيّ، وهو من الحرج، يقال فلان يتحرّج، أي يضيق على نفسه الدخول فيما يشتبه عليه‏.‏ والحجر على اختلاف القراءات فيه هو مصدر بمعنى اسم المفعول، أي محجور، وأصله المنع، فمعنى الآية‏:‏ هذه أنعام وحرث ممنوعة، يعنون أنها لأصنامهم، لا يطعمها إلا من يشاءون بزعمهم، وهم خدام الأصنام‏.‏ والقسم الثاني قولهم‏:‏ ‏{‏وأنعام حُرّمَتْ ظُهُورُهَا‏}‏ وهي البحيرة والسائبة والحام‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا القسم الثاني مما جعلوه لآلهتهم أيضاً‏.‏ والقسم الثالث‏:‏ ‏{‏أنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا‏}‏ وهي ما ذبحوا لآلهتهم فإنهم يذبحونها باسم أصنامهم لا باسم الله‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد لا يحجون عليها افتراء على الله، أي للافتراء عليه ‏{‏سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ أي بافترائهم أو بالذي يفترونه، ويجوز أن يكون افتراء منتصباً على أنه مصدر، أي افتروا افتراء أو حال، أي مفترين، وانتصابه على العلة أظهر، ثم بين الله سبحانه نوعاً آخر من جهالاتهم، فقال ‏{‏وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هذه الأنعام‏}‏ يعنون البحائر والسوائب من الأجنة ‏{‏خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا‏}‏ أي حلال لهم ‏{‏وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا‏}‏ أي على جنس الأزواج، وهنّ النساء فيدخل في ذلك البنات والأخوات ونحوهنّ‏.‏ وقيل‏:‏ هو اللبن جعلوه حلالاً للذكور، ومحرّماً على الإناث، والهاء في خالصة للمبالغة في الخلوص كعلامة ونسابة، قاله الكسائي والأخفش‏.‏ وقال الفراء‏:‏ تأنيثها لتأنيث الأنعام‏.‏ وردّ بأن ما في بطون الأنعام غير الأنعام، وتعقب هذا الردّ بأن ما في بطون الأنعام أنعام، وهي الأجنة، وما عبارة عنها، فيكون تأنيث خالصة باعتبار معنى ما، وتذكير محرّم باعتبار لفظها‏.‏ وقرأ الأعمش «خالص» قال الكسائي‏:‏ معنى خالص وخالصة واحد، إلا أن الهاء للمبالغة كما تقدّم عنه‏.‏ وقرأ قتادة «خالصة» بالنصب على الحال من الضمير في متعلق الظرف الذي هو صلة لما، وخبر المبتدأ محذوف كقولك‏:‏ الذي في الدار قائماً زيد، هذا قول البصريين‏.‏ وقال الفراء‏:‏ إنه انتصب على القطع‏.‏ وقرأ ابن عباس «خالصة» بإضافة خالص إلى الضمير على أنه بدل من ما‏.‏ وقرأ سعيد ابن جبير «خالصاً» ‏{‏وَإِن يَكُن مَّيْتَةً‏}‏‏.‏ قرئ بالتحتية والفوقية، أي وإن يكن الذي في بطون الأنعام ‏{‏مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ‏}‏ أي في الذي في البطون ‏{‏شُرَكَاء‏}‏ يأكل منه الذكور والإناث ‏{‏سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ‏}‏ أي بوصفهم على أنه منتصب بنزع الخافض، والمعنى‏:‏ سيجزيهم بوصفهم الكذب على الله‏.‏

وقيل المعنى‏:‏ سيجزيهم جزاء وصفهم‏.‏ ثم بين الله سبحانه نوعاً آخر من جهالاتهم فقال‏:‏ ‏{‏قَدْ خَسِرَ الذين قَتَلُواْ أولادهم سَفَهاً‏}‏ أي بناتهم بالوأد الذي كانوا يفعلونه سفهاً، أي لأجل السفه، وهو الطيش والخفة لا لحجة عقلية ولا شرعية، كائناً ذلك منهم ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ يهتدون به‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله‏}‏ من الأنعام التي سموها بحائر وسوائب ‏{‏افتراء عَلَى الله‏}‏ أي للافتراء عليه أو افتروا افتراء عليه ‏{‏قَدْ ضَلُّواْ‏}‏ عن طريق الصواب بهذه الأفعال ‏{‏وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ‏}‏ إلى الحق، ولا هم من أهل الاستعداد لذلك‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ‏}‏ قال‏:‏ الحجر ما حرموا من الوصيلة، وتحريم ما حرموا‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ‏}‏ قال‏:‏ ما جعلوا لله ولشركائهم‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن قتادة ‏{‏وَحَرْثٌ حِجْرٌ‏}‏ قال‏:‏ حرام‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في الآية قال‏:‏ يقولون حرام أن يطعم الابن شيئاً ‏{‏وأنعام حُرّمَتْ ظُهُورُهَا‏}‏ قال‏:‏ البحيرة والسائبة والحامي ‏{‏وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا‏}‏ إذا نحروها‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن أبي وائل في قوله‏:‏ ‏{‏وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا‏}‏ قال‏:‏ لم تكن يحج عليها وهي البحيرة‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس ‏{‏وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هذه الأنعام‏}‏ الآية قال‏:‏ اللبن‏.‏ وأخرج هؤلاء إلا ابن جرير عن مجاهد في الآية قال‏:‏ السائبة والبحيرة محرّم على أزواجنا قال‏:‏ النساء ‏{‏سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ قولهم الكذب في ذلك‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ كانت الشاة إذا ولدت ذكراً ذبحوه، فكان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تركوها فلم تذبح، وإن كانت ميتة كانوا فيها شركاء‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، والبخاري، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس قال‏:‏ إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام ‏{‏قَدْ خَسِرَ الذين قَتَلُواْ أولادهم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عن عكرمة في الآية قال‏:‏ نزلت فيمن كان يئد البنات من مضر وربيعة‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في الآية قال‏:‏ هذا صنع أهل الجاهلية كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السبي والفاقة، ويغذو كلبه ‏{‏وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله‏}‏ قال‏:‏ جعلوه بحيرة وسائبة ووصيلة وحامياً تحكماً من الشيطان في أموالهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏141- 142‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏141‏)‏ وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏142‏)‏‏}‏

هذا فيه تذكير لهم ببديع قدرة الله وعظيم صنعه ‏{‏أَنشَأَ‏}‏ أي خلق، والجنات‏:‏ البساتين ‏{‏معروشات‏}‏ مرفوعات على الأعمدة ‏{‏وَغَيْرَ معروشات‏}‏ غير مرفوعات عليها‏.‏ وقيل المعروشات ما انبسط على وجه الأرض مما يعرش مثل الكرم والزرع والبطيخ، وغير المعروشات‏:‏ ما قام على ساق مثل النخل وسائر الأشجار‏.‏ وقيل المعروشات‏:‏ ما أنبته الناس وعرشوه، وغير المعروشات‏:‏ ما نبت في البراري والجبال‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏والنخل والزرع‏}‏ معطوف على جنات، وخصهما بالذكر مع دخولهما في الجنات لما فيها من الفضيلة ‏{‏مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ‏}‏ أي حال كونه مختلفاً أكله في الطعم والجودة والرداءة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهذه مسألة مشكلة في النحو، يعني انتصاب ‏{‏مختلفاً‏}‏ على الحال لأنه يقال قد أنشأها ولم يختلف أكلها، فالجواب أن الله سبحانه أنشأها مقدّراً فيها الاختلاف، وقد بين هذا سيبويه بقوله‏:‏ مررت برجل معه صقر صائداً به غداً، أي مقدّراً للصيد به غداً، كما تقول‏:‏ لتدخلنّ الدار آكلين شاربين، أي مقدّرين ذلك، وهذه هي الحال المقدرة المشهورة عند النحاة المدوّنة في كتب النحو‏.‏ وقال ‏{‏مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ‏}‏ ولم يقل أكلهما، اكتفاء بإعادة الذكر على أحدهما كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 11‏]‏ أو الضمير بمنزلة اسم الإشارة، أي أكل ذلك‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏والزيتون والرمان‏}‏ معطوف على جنات، أي وأنشأ الزيتون والرمان حال كونه متشابهاً وغير متشابه، وقد تقدم الكلام على تفسير هذا ‏{‏كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ‏}‏ أي‏:‏ من ثمر كل واحد منهما، أو من ثمر ذلك ‏{‏إِذَا أَثْمَرَ‏}‏ أي إذا حصل فيه الثمر وإن لم يدرك ويبلغ حدّ الحصاد‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه‏}‏‏.‏

وقد اختلف أهل العلم هل هذه محكمة أو منسوخة أو محمولة على الندب‏؟‏ فذهب ابن عمر، وعطاء، ومجاهد وسعيد بن جبير، إلى أن الآية محكمة، وأنه يجب على المالك يوم الحصاد أن يعطي من حضر من المساكين القبضة والضغث ونحوهما‏.‏ وذهب ابن عباس، ومحمد بن الحنفية، والحسن، والنخعي، وطاووس، وأبو الشعثاء، وقتادة، والضحاك وابن جريج، أن هذه الآية منسوخة بالزكاة‏.‏ واختاره ابن جرير، ويؤيده أن هذه الآية مكية، وآية الزكاة مدنية في السنة الثانية بعد الهجرة، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم من السلف والخلف‏.‏ وقالت طائفة من العلماء‏:‏ إن الآية محمولة على الندب لا على الوجوب‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُسْرِفُواْ‏}‏ أي في التصدق، وأصل الإسراف في اللغة‏:‏ الخطأ‏.‏ والإسراف في النفقة‏:‏ التبذير‏.‏ وقيل‏:‏ هو خطاب للولاة يقول لهم لا تأخذوا فوق حقكم‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ لا تأخذوا الشيء بغير حقه وتضعونه في غير مستحقه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشًا‏}‏ معطوف على جنات، أي وأنشأ لكم من الأنعام حمولة وفرشاً، والحمولة ما يحمل عليها، وهو يختص بالإبل فهي فعولة بمعنى فاعلة، والفرش ما يتخذ من الوبر والصوف والشعر، فراشاً يفترشه الناس‏.‏

وقيل‏:‏ الحمولة الإبل، والفرش‏:‏ الغنم‏.‏ وقيل الحمولة‏:‏ كل ما حمل عليه من الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير، والفرش‏:‏ الغنم، وهذا لا يتم إلا على فرض صحة إطلاق اسم الأنعام على جميع هذه المذكورات‏.‏ وقيل الحمولة‏:‏ ما تركب، والفرش‏:‏ ما يؤكل لحمه ‏{‏كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ‏}‏ من هذه الأشياء ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان‏}‏ كما فعل المشركون من تحريم ما لم يحرمه الله، وتحليل ما لم يحلله ‏{‏إِنَّهُ‏}‏ أي الشيطان ‏{‏لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏ مظهر للعداوة ومكاشف بها‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى أَنشَأَ جنات معروشات‏}‏ قال‏:‏ المعروشات ما عرش الناس ‏{‏وَغَيْرَ معروشات‏}‏ ما خرج في الجبال والبرّية من الثمار‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة قال‏:‏ معروشات بالعيدان والقصب وغير معروشات قال‏:‏ الضاحي‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس ‏{‏معروشات‏}‏ قال‏:‏ الكرم خاصة‏.‏

وأخرج ابن المنذر، والنحاس، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه‏}‏ قال‏:‏ «ما سقط من السنبل» وأخرج أبو عبيد، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، والنحاس، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عمر في قوله ‏{‏وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه‏}‏ قال‏:‏ كانوا يعطون من اعتزّ بهم شيئاً سوى الصدقة‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي عن مجاهد في الآية قال‏:‏ إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ميمون بن مهران ويزيد الأصم قال‏:‏ كان أهل المدينة إذا صرموا النخل يجيئون بالعذق فيضعونه في المسجد فيجيء السائل، فيضربه بالعصا فيسقط منه، فهو قوله‏:‏ ‏{‏وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه‏}‏‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن حماد بن أبي سليمان، في الآية قال‏:‏ كانوا يطعمون منه رطباً‏.‏ وأخرج أحمد، وأبو داود في سننه، من حديث جابر بن عبد الله‏:‏ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أمر من كل حادي عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين‏.‏ وإسناده جيد‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس، قال‏:‏ ‏{‏وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه‏}‏ نسخها العشر، ونصف العشر‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، وابن المنذر عن السديّ نحوه‏.‏ وأخرج النحاس، وأبو الشيخ، والبيهقي، عن سعيد بن جبير نحوه‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة نحوه‏.‏ وأخرج أبو عبيد، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن الضحاك نحوه‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، عن الشعبي قال‏:‏ إن في المال حقاً سوى الزكاة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي العالية قال‏:‏ ما كانوا يعطون شيئاً سوى الزكاة، ثم إنهم تبادروا وأسرفوا، فأنزل الله ‏{‏وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج قال‏:‏ نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جذّ نخلاً فقال‏:‏ لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته، فأطعم حتى أمسى وليس له تمرة، فأنزل الله ‏{‏وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال‏:‏ لو أنفقت مثل أبي قبيس ذهباً في طاعة الله لم يكن إسرافاً‏.‏ ولو أنفقت صاعاً في معصية الله كان إسرافاً، وللسلف في هذا مقالات طويلة‏.‏

وأخرج الفريابي، وأبو عبيد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود قال‏:‏ الحمولة ما حمل عليه من الإبل، والفرش صغار الإبل التي لا تحمل‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال‏:‏ الحمولة الكبار من الإبل، والفرش الصغار من الإبل‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عنه قال‏:‏ الحمولة ما حمل عليه، والفرش ما أكل منه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه أيضاً قال‏:‏ الحمولة الإبل والخيل والبغال والحمير، وكل شيء يحمل عليه، والفرش الغنم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال‏:‏ الحمولة الإبل والبقر، والفرش الضأن والمعز‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏143- 144‏]‏

‏{‏ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏143‏)‏ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏144‏)‏‏}‏

اختلف في انتصاب ‏{‏ثمانية‏}‏ على ماذا‏؟‏ فقال الكسائي‏:‏ بفعل مضمر، أي وأنشأ ثمانية أزواج، وقال الأخفش سعيد‏:‏ هو منصوب على البدل من حمولة وفرشاً؛ وقال الأخفش علي بن سليمان‏:‏ هو منصوب ب ‏{‏كلوا‏}‏، أي كلوا لحم ثمانية أزواج‏.‏ وقيل‏:‏ منصوب على أنه بدل من «ما» في «ممارزقكم الله» والزوج خلاف الفرد، يقال زوج أو فرد، كما يقال شفع أو وتر، فقوله‏:‏ ‏{‏ثمانية أزواج‏}‏ يعني ثمانية أفراد، وإنما سمي الفرد زوجاً في هذه الآية لأن كل واحد من الذكر والأنثى زوج بالنسبة إلى الآخر، ويقع لفظ الزوج على الواحد، فيقال هما زوج، وهو زوج، ويقول اشتريت زوجي حمام، أي ذكرا وأنثى‏.‏ والحاصل أن الواحد إذا كان منفرداً سواء كان ذكراً أو أنثى، قيل له فرد، وإن كان الذكر مع أنثى من جنسه قيل لهما زوج، ولكل واحد على انفراده منهما زوج، ويقال لهما أيضاً زوجان، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 39‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مِنْ الضأن اثنين‏}‏ بدل من ثمانية منتصب بناصبه على حسب الخلاف السابق، والضأن ذوات الصوف من الغنم، وهو جمع ضائن، ويقال للأنثى ضائنة، والجمع ضوائن‏.‏ وقيل‏:‏ هو جمع لا واحد له‏.‏ وقيل‏:‏ في جمعه ضئين كعبد وعبيد‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف «الضأن» بفتح الهمزة، وقرأ الباقون بسكونها‏.‏ وقرأ أبان بن عثمان ‏{‏وَمِنْ الضأن اثنان وَمِنَ المعز اثنان‏}‏ رفعاً بالابتداء‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ المعز اثنين‏}‏ معطوف على ما قبله مشارك له في حكمه‏.‏ وقرأ ابن عامر، وأبو عمرو، وابن كثير، وأهل البصرة، بفتح العين ‏{‏من المعز‏}‏‏.‏ وقرأ الباقون بسكونها‏.‏ قال النحاس‏:‏ الأكثر في كلام العرب المعز والضأن بالإسكان، والمعز من الغنم خلاف الضأن، وهي ذوات الأشعار والأذناب القصار، وهو اسم جنس، وواحد المعز ماعز، مثل صحب وصاحب، وركب وراكب، وتجر وتاجر، والأنثى ماعزة‏.‏ والمراد من هذه الآية‏:‏ أن الله سبحانه بين حال الأنعام وتفاصيلها إلى الأقسام المذكورة توضيحاً للامتنان بها على عباده، ودفعاً لما كانت الجاهلية تزعمه من تحليل بعضها وتحريم بعضها، تقوّلاً على الله سبحانه وافتراء عليه، والهمزة في ‏{‏قُلْ ءآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الانثيين‏}‏ للإنكار‏.‏ والمراد بالذكرين الكبش والتيس، وبالأنثيين النعجة والعنز، وانتصاب الذكرين بحرّم، والأنثيين معطوف عليه منصوب بناصبه‏.‏ والمعنى‏:‏ الإنكار على المشركين في أمر البحيرة وما ذكر معها‏.‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏مَا فِى بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا‏}‏ أي قل لهم إن كان حرّم الذكور فكل ذكر حرام، وإن كان حرّم الإناث فكل أنثى حرام، وإن كان حرّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، يعني من الضأن والمعز، فكل مولود حرام، ذكراً كان أو أنثى وكلها مولود‏.‏

فيستلزم أن كلها حرام‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏نبِئُونِى بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أي أخبروني بعلم لا بجهل إن كنتم صادقين‏.‏ والمراد من هذا التبكيت لهم وإلزام الحجة؛ لأنه يعلم أنه لا علم عندهم، وهكذا الكلام في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين‏}‏ إلى آخره‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وصاكم الله بهذا‏}‏ أم هي المنقطعة، والإستفهام للإنكار، وهي بمعنى بل والهمزة، أي بل أكنتم شهداء حاضرين مشاهدين إذ وصاكم الله بهذا التحريم‏؟‏ والمراد التبكيت وإلزام الحجة كما سلف قبله‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا‏}‏ أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً فحرّم شيئاً لم يحرّمه الله، ونسب ذلك افتراء عليه كما فعله كبراء المشركين، واللام في ‏{‏لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ للعلة، أي لأجل أن يضل الناس بجهل، وهو متعلق ب ‏{‏افترى‏}‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ على العموم‏.‏ وهؤلاء المذكورون في السياق داخلون في ذلك دخولاً أوّلياً، وينبغي أن ينظر في وجه تقديم المعز والضأن على الإبل والبقر مع كون الإبل والبقر أكثر نفعاً وأكبر أجساماً وأعود فائدة، لا سيما في الحمولة والفرش اللذين وقع الإبدال منهما على ما هو الوجه الأوضح في إعراب ثمانية‏.‏

وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، من طرق عن ابن عباس قال‏:‏ الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والضأن والمعز‏.‏ وليت شعري ما فائدة نقل هذا الكلام عن ابن عباس من مثل هؤلاء الأئمة، فإنها لا تتعلق به فائدة، وكون الأزواج الثمانية هي المذكورة، هو هكذا في الآية مصرحاً به تصريحاً لا لبس فيه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال‏:‏ الذكر والأنثى زوجان‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏ثمانية أزواج‏}‏ قال‏:‏ في شأن ما نهى الله عنه من البحيرة والسائبة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ليث بن أبي سليم قال‏:‏ الجاموس والبختيّ من الأزواج الثمانية‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، من طرق عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏ثمانية أزواج مّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين‏}‏ قال‏:‏ فهذه أربعة ‏{‏قُلْ ءآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين‏}‏ يقول‏:‏ لم أحرّم شيئاً من ذلك ‏{‏أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين‏}‏ يعني‏:‏ هل تشتمل الرحم إلا على ذكر أو أنثى فلم يحرّمون بعضاً ويحلون بعضاً‏؟‏ ‏{‏نَبّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ يقول كلها حلال، يعني ما تقدّم ذكره مما حرّمه أهل الجاهلية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

‏{‏قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏145‏)‏‏}‏

أمره الله سبحانه بأن يخبرهم أنه لا يجد في شيء مما أوحي إليه محرّماً غير هذه المذكورات، فدلّ ذلك على انحصار المحرّمات فيها لولا أنها مكية، وقد نزل بعدها بالمدينة سورة المائدة وزيد فيها على هذه المحرّمات‏:‏ المنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة، وصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم الحمر الأهلية والكلاب ونحو ذلك‏.‏ وبالجملة فهذا العموم إن كان بالنسبة إلى ما يؤكل من الحيوانات كما يدلّ عليه السياق ويفيده الاستثناء، فيضم إليه كل ما ورد بعده في الكتاب أو السنة مما يدل على تحريم شيء من الحيوانات‏.‏ وإن كان هذا العموم هو بالنسبة إلى كل شيء حرّمه الله من حيوان وغيره، فإنه يضمّ إليه كل ما ورد بعده مما فيه تحريم شيء من الأشياء‏.‏ وقد روي عن ابن عباس، وابن عمر، وعائشة، أنه لا حرام إلا ما ذكره الله في هذه الآية، وروى ذلك عن مالك وهو قول ساقط، ومذهب في غاية الضعف؛ لاستلزامه لإهمال غيرها مما نزل بعدها من القرآن، وإهمال ما صح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قاله بعد نزول هذه الآية، بلا سبب يقتضي ذلك ولا موجب يوجبه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مُحَرَّمًا‏}‏ صفة لموصوف محذوف، أي طعاماً محرّماً ‏"‏ على ‏"‏ أي ‏{‏طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ‏}‏ من المطاعم، وفي ‏{‏يَطْعَمُهُ‏}‏ زيادة تأكيد وتقرير لما قبله ‏{‏إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً‏}‏ أي ذلك الشيء أو ذلك الطعام أو العين أو الجثة أو النفس‏.‏ وقرئ ‏{‏يكون‏}‏ بالتحتية والفوقية، وقرئ «ميتة» بالرفع على أن يكون تامة‏.‏ والدم المسفوح‏:‏ الجاري، وغير المسفوح معفوّ عنه، كالدم الذي يبقى في العروق بعد الذبح، ومنه الكبد والطحال، وهكذا ما يتلطخ به اللحم من الدم‏.‏ وقد حكى القرطبي الإجماع على هذا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ‏}‏ ظاهر تخصيص اللحم أنه لا يحرم الانتفاع منه بما عدا اللحم، والضمير في ‏{‏فَإِنَّهُ‏}‏ راجع إلى اللحم، أو إلى الخنزير‏.‏ والرجس‏:‏ النجس، وقد تقدّم تحقيقه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ فِسْقًا‏}‏ عطف على لحم خنزير، و‏{‏أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله‏}‏ صفة فسق، أي ذبح على الأصنام، وسمي فسقاً لتوغله في باب الفسق‏.‏ قيل‏:‏ ويجوز أن يكون ‏{‏فِسْقًا‏}‏ مفعولاً له لأهلّ، أي أهلّ به لغير الله، فسقاً، على عطف أهلّ على يكون، وهو تكلف لا حاجة إليه ‏{‏فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ‏}‏ قد تقدم تفسيره في سورة البقرة، فلا نعيده ‏{‏فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ أي كثير المغفرة والرحمة، فلا يؤاخذ المضطرّ بما دعت إليه ضرورته‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد عن طاووس قال‏:‏ إن أهل الجاهلية كانوا يحرّمون أشياء ويحلون أشياء، فنزلت ‏{‏قُل لا أَجِدُ‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن ابن عباس قال‏:‏ كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تعذراً، فبعث الله نبيه، وأنزل كتابه، وأحلّ حلاله وحرّم حرامه، فما أحلّ فهو حلال، وما حرّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏قُل لا أَجِدُ‏}‏ إلى آخرها‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عنه أنه تلا هذه الآية فقال‏:‏ ما خلا هذا حلال‏.‏ وأخرج البخاري، وأبو داود، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن عمرو بن دينار قال‏:‏ قلت لجابر بن زيد‏:‏ إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، فقال قد كان يقول ذلك الحكم ابن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس، وقرأ ‏{‏قُل لا أَجِدُ‏}‏ الآية‏.‏ وأقول‏:‏ وإن أبى ذلك البحر، فقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتمسك بقول صحابي في مقابلة قول النبي صلى الله عليه وسلم، من سوء الاختيار، وعدم الإنصاف‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ ليس شيء من الدوابّ حرام إلا ما حرّم الله في كتابه‏:‏ ‏{‏قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وأبو داود، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عمر‏:‏ أنه سئل عن أكل القنفد، فقرأ‏:‏ ‏{‏قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا‏}‏ الآية، فقال شيخ عنده‏:‏ سمعت أبا هريرة يقول‏:‏ ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «خبيثة من الخبائث»، فقال ابن عمر‏:‏ إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله، فهو كما قال‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن عائشة‏:‏ أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير، تلت ‏{‏قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج أحمد، والبخاري، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، عن ابن عباس أن شاة لسودة بنت زمعة ماتت فقالت‏:‏ يا رسول الله ماتت فلانة‏:‏ تعني الشاة، قال‏:‏ «فلولا أخذتم مسكها‏؟‏» قالت‏:‏ يا رسول الله أنأخذ مسك شاة قد ماتت‏؟‏ فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «‏{‏قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً‏}‏ وأنتم لا تطعمونه، وإنما تدبغونه حتى تستنفعوا به»، فأرسلت إليها فسلختها ثم دبغته، فاتخذت منه قربة حتى تخرّقت عندها‏.‏

ومثل هذا حديث شاة ميمونة، وهو في الصحيح‏.‏ ومثله حديث «إنما حرم من الميتة أكلها» وهو أيضاً في الصحيح‏.‏

وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا‏}‏ قال‏:‏ مهراقاً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عنه قال‏:‏ كان أهل الجاهلية إذا ذبحوا أودجوا الدابة وأخذوا الدم فأكلوه، قال‏:‏ هو دم مسفوح‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن الشعبي‏:‏ أنه سئل عن لحم الفيل والأسد فتلا‏:‏ ‏{‏قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَمَاً‏}‏ الآية‏.‏ والأحاديث الواردة بتحريم كل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير، والحمر الأهلية، ونحوها مستوفاة في كتب الحديث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏146- 147‏]‏

‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏146‏)‏ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

قدّم ‏{‏عَلَى الذين هَادُواْ‏}‏ على الفعل للدلالة على أن هذا التحريم مختص بهم لا يجاوزهم إلى غيرهم‏.‏ والذين هادوا‏:‏ اليهود، ذكر الله ما حرّمه عليهم عقب ذكر ما حرّمه على المسلمين‏.‏ والظفر‏:‏ واحد الأظفار، ويجمع أيضاً على أظافير، وزاد الفراء في جموع ظفر‏:‏ أظافر وأظافرة، وذو الظفر‏:‏ ما له أصبع من دابة أو طائر، ويدخل فيه الحافر والخف والمخلب، فيتناول الإبل والبقر، والغنم والنعام، والأوز والبط، وكل ما له مخلب من الطير، وتسمية الحافر والخف ظفراً مجاز‏.‏ والأولى حمل الظفر على ما يصدق عليه اسم الظفر في لغة العرب، لأن هذا التعميم يأباه ما سيأتي من قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ البقر والغنم‏}‏ فإن كان في لغة العرب بحيث يقال على البقر والغنم كان ذكرهما من بعد تخصيصاً حرّم الله ذلك عليهم عقوبة لهم على ما وقعوا فيه من الظلم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 160‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا‏}‏ لا غير هذه المذكورات كلحمهما، والشحوم يدخل فيها الثروب وشحم الكلية‏.‏ وقيل الثروب جمع ثرب، وهو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش، ثم استثنى الله سبحانه من الشحوم ما حملت ظهورهما من الشحم، فإنه لم يحرمه الله عليهم، و‏"‏ مَا ‏"‏ في موضع نصب على الاستثناء ‏{‏أَوِ الحوايا‏}‏ معطوف على ظهورهما، أي إلا ما حملت ظهورهما أو حملت الحوايا، وهي المباعر التي يجتمع البعر فيها، فما حملته من الشحم غير حرام عليهم، وواحدها حاوية، مثل ضاربة وضوارب‏.‏ وقيل‏:‏ واحدها حاوياء مثل قاصعاء وقواصع، وقيل حوية‏:‏ كسفينة وسفائن‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الحوايا ما تحوّى من البطن‏:‏ أي استدار، وهي متحوية‏:‏ أي مستديرة‏.‏ وقيل الحوايا‏:‏ خزائن اللبن، وهي تتصل بالمباعر‏.‏ وقيل الحوايا‏:‏ الأمعاء التي عليها الشحوم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ‏}‏ معطوف على «ما» في ‏{‏مَا حَمَلَتْ‏}‏ كذا قال الكسائي والفراء وثعلب‏.‏ وقيل‏:‏ إن الحوايا وما اختلط بعظم معطوفة على الشحوم‏.‏ والمعنى‏:‏ حرّمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، إلا ما حملت ظهورهما فإنه غير محرّم، ولا وجه لهذا التكلف، ولا موجب له، لأنه يكون المعنى إن الله حرّم عليهم إحدى هذه المذكورات‏.‏ والمراد بما اختلط بعظم‏:‏ ما لصق بالعظام من الشحوم في جميع مواضع الحيوان، ومنه الإلية فإنها لاصقة بعجب الذنب، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى التحريم المدلول عليه بحرّمنا، أي ذلك التحريم جزيناهم به بسبب بغيهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن الإشارة إلى الجزاء المدلول عليه بقوله‏:‏ ‏{‏جزيناهم‏}‏ أي ذلك الجزاء جزيناهم، وهو تحريم ما حرّمه الله عليهم ‏{‏وِإِنَّا لصادقون‏}‏ في كل ما نخبر به، ومن جملة ذلك هذا الخبر، وهو موجود عندهم في التوراة، ونصها «حرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وكل دابة ليست مشقوقة الحافر، وكل حوت ليس فيه سفاسف» أي بياض انتهى‏.‏

والضمير في ‏{‏كَذَّبُوكَ‏}‏ لليهود أي فإن كذبك اليهود فيما وصفت من تحريم الله عليهم تلك الأشياء ‏{‏فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسعة‏}‏ ومن رحمته حلمه عنكم، وعدم معاجلته لكم بالعقوبة في الدنيا، وهو وإن أمهلكم ورحمكم ف ‏{‏لا يرد بأسه عن القوم المجرمين‏}‏ إذا أنزله بهم واستحقوا المعاجلة بالعقوبة‏.‏ وقيل المراد‏:‏ لا يردّ بأسه في الآخرة عن القوم المجرمين، والأوّل أولى، فإنه سبحانه قد عاجلهم بعقوبات منها تحريم الطيبات عليهم في الدنيا‏.‏ وقيل الضمير يعود إلى المشركين الذين قسموا الأنعام إلى تلك الأقسام، وحللوا بعضها وحرّموا بعضها‏.‏ وقيل المراد‏:‏ أنه ذو رحمة للمطيعين ‏{‏وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين‏}‏ ولا مُلجئ لهذا‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏كُلَّ ذِى ظُفُرٍ‏}‏ قال‏:‏ هو الذي ليس بمنفرج الأصابع، يعني ليس بمشقوق الأصابع‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عنه ‏{‏كُلَّ ذِى ظُفُرٍ‏}‏ قال‏:‏ البعير والنعامة‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد قال‏:‏ هو كل شيء لم تنفرج قوائمه من البهائم، وما انفرج أكلته اليهود، قال‏:‏ انفرجت قوائم الدجاج، والعصافير، فيهود تأكله، ولم ينفرج خفّ البعير ولا النعامة، ولا قائمة الوزينة، فلا تأكل اليهود الإبل ولا النعام ولا الوزينة، ولا كل شيء لم تنفرج قائمته كذلك، ولا تأكل حمار الوحش‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا‏}‏ يعني‏:‏ ما علق بالظهر من الشحم ‏{‏أَوِ الحوايا‏}‏ هي المبعر‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي صالح، في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا‏}‏ قال‏:‏ الإلية ‏{‏أَوِ الحوايا‏}‏ قال‏:‏ المبعر ‏{‏أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ‏}‏ قال‏:‏ الشحم‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏أَوِ الحوايا‏}‏ قال‏:‏ المباعر‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، عن الضحاك ‏{‏أَوِ الحوايا‏}‏ قال‏:‏ المرائض والمباعر‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن عباس ‏{‏أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ‏}‏ قال‏:‏ الإلية اختلط شحم الإلية بالعصعص، فهو حلال، وكل شحم القوائم، والجنب، والرأس، والعين، والأذن، يقولون قد اختلط ذلك بعظم فهو حلال لهم، إنما حرّم عليهم الثرب وشحم الكلية، وكل شيء كان كذلك ليس في عظم‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن كَذَّبُوكَ‏}‏ قال‏:‏ اليهود‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ قال‏:‏ كانت اليهود يقولون‏:‏ إن ما حرّمه إسرائيل فنحن نحرّمه، فلذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن كَذَّبُوكَ‏}‏ الآية‏.‏