فصل: تفسير الآيات رقم (65- 72)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 72‏]‏

‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏65‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏66‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏67‏)‏ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ‏(‏68‏)‏ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏70‏)‏ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏71‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وإلى عاد أخاهم هوداً‏}‏ أي وأرسلنا إلى قوم عاد أخاهم أي واحداً من قبيلتهم أو صاحبهم، أو سماه أخاً لكونه ابن آدم مثلهم‏.‏ وعاد من هو ولد سام بن نوح‏.‏ قيل هو عاد بن عوص بن إرم بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وهود هو ابن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عوص بن إرم بن شالخ ابن أرفخشذ بن سام بن نوح‏.‏ و‏{‏هوداً‏}‏ عطف بيان ‏{‏قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره‏}‏‏.‏ قد تقدّم تفسير هذا قريبا‏.‏ والاستفهام في ‏{‏أفلا تتقون‏}‏ للإنكار‏.‏ وقد تقدّم أيضاً تفسير الملأ، والسفاهة الخفة والحمق، وقد تقدّم بيان ذلك في البقرة‏.‏ نسبوه إلى الخفة والطيش ولم يكتفوا بذلك حتى قالوا‏:‏ ‏{‏إنا لنظنك من الكاذبين‏}‏ مؤكدين لظنهم كذبه فيما ادعاه من الرسالة، ثم أجاب عليهم بنفي السفاهة عنه‏.‏ واستدرك من ذلك بأنه رسول ربّ العالمين، وقد تقدّم بيان معنى هذا قريباً، وكذلك سبق تفسير ‏{‏أبلغكم رسالات ربي‏}‏ وتقدّم معنى الناصح‏.‏ والأمين المعروف بالأمانة‏.‏ وسبق أيضاً تفسير ‏{‏أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم‏}‏ في قصة نوح التي قبل هذه القصة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح‏}‏ أذكرهم نعمة من نعم الله عليهم، وهي أنه جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح أي، جعلهم سكان الأرض التي كانوا فيها، أو جعلهم ملوكاً‏.‏ و«إذ» منصوب ب ‏{‏اذكر‏}‏، وجعل الذكر للوقت‏.‏ والمراد ما كان فيه من الاستخلاف على الأرض لقصد المبالغة، لأن الشيء إذا كان وقته مستحقاً للذكر، فهو مستحق له بالأولى ‏{‏وزادكم في الخلق بسطة‏}‏ أي طولاً في الخلق وعظم جسم، زيادة على ما كان عليه آباؤهم في الأبدان‏.‏ وقد ورد عن السلف حكايات عن عظم أجرام قوم عاد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فاذكروا آلاء الله‏}‏ الآلاء‏:‏ جمع إِلَى ومن جملتها نعمة الاستخلاف في الأرض، والبسطة في الخلق وغير ذلك مما أنعم به عليهم، وكرر التذكير لزيادة التقرير، والآلاء النعم ‏{‏لعلكم تفلحون‏}‏ إن تذكرتم ذلك، لأن الذكر للنعمة سبب باعث على شكرها، ومن شكر فقد أفلح‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده‏}‏ هذا استنكار منهم لدعائه إلى عبادة الله وحده، دون معبوداتهم التي جعلوها شركاء لله، وإنما كان هذا مستنكراً عندهم لأنهم وجدوا آباءهم على خلاف ما دعاهم إليه‏.‏ ‏{‏ونذر ما كان يعبد آباؤنا‏}‏ أي نترك الذي كانوا يعبدونه، وهذا داخل في جملة ما استنكروه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين‏}‏ هذا استعجال منهم للعذاب الذي كان هود يعدهم به، لشدّة تمرّدهم على الله، ونكوصهم عن طريق الحق، وبعدهم عن اتباع الصواب، فأجابهم بقوله‏:‏ ‏{‏قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب‏}‏ جعل ما هو متوقع كالواقع، تنبيهاً على تحقق وقوعه، كما ذكره أئمة المعاني والبيان‏.‏

وقيل معنى وقع‏:‏ وجب‏.‏ والرجس‏:‏ العذاب‏.‏ وقيل‏:‏ هو هنا الرين على القلب بزيادة الكفر‏.‏ ثم استنكر عليهم ما وقع منهم من المجادلة، فقال‏:‏ ‏{‏أتجادلونني في أسماء‏}‏ يعني أسماء الأصنام التي كانوا يعبدونها، جعلها أسماء، لأن مسمياتها لا حقيقة لها، بل تسميتها بالآلهة باطلة، فكأنها معدومة لم توجد، بل الموجود أسماؤها فقط ‏{‏سميتموها أنتم وآباؤكم‏}‏ أي سميتم بها معبوداتكم من جهة أنفسكم أنتم وآباؤكم، ولا حقيقة لذلك‏.‏ ‏{‏وما نزل الله بها من سلطان‏}‏ أي من حجة تحتجون بها على ما تدّعونه لها من الدعاوي الباطلة، ثم توعدهم بأشد وعيد فقال‏:‏ ‏{‏فانتظروا إني معكم من المنتظرين‏}‏ أي فانتظروا ما طلبتموه من العذاب، فإني معكم من المنتظرين له، وهو واقع بكم لا محالة، ونازل عليكم بلا شك‏.‏ ثم أخبر الله سبحانه أنه نجى هوداً ومن معه من المؤمنين به من العذاب النازل بمن كفر به، ولم تقبل رسالته، وأنه قطع دابر القوم المكذبين، أي استأصلهم جميعاً‏.‏ وقد تقدّم تحقيق معناه، وجملة‏:‏ ‏{‏وما كانوا مؤمنين‏}‏ معطوفة على ‏{‏كذبوا‏}‏ أي استأصلنا هؤلاء القوم الجامعين بين التكذبين بآياتنا وعدم الإيمان‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وإلى عاد أخاهم هوداً‏}‏ قال‏:‏ ليس بأخيهم في الدين، ولكنه أخوهم في النسب؛ لأنه منهم، فلذلك جعل أخاهم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الربيع بن خيثم قال‏:‏ كانت عاد ما بين اليمن إلى الشام مثل الذرّ‏.‏ وأخرج ابن عساكر عن وهب قال‏:‏ كان الرجل من عاد ستين ذراعاً بذراعهم، وكان هامة الرجل مثل القبة العظيمة، وكان عين الرجل لتفرخ فيها السباع، وكذلك مناخرهم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة قال‏:‏ ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر ذراعاً طولاً‏.‏ وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، عن ابن عباس قال‏:‏ كان الرجل منهم ثمانين باعاً، وكانت البرّة فيهم ككلية البقرة، والرمانة الواحدة يقعد في قشرها عشرة نفر‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه ‏{‏وزادكم في الخلق بسطة‏}‏ قال شدة‏.‏ وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة، قال‏:‏ إن كان الرجل من قوم عاد ليتخذ المصراع من الحجارة، لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يقلوه، وإن كان أحدهم ليدخل قدمه في الأرض فتدخل فيها‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏آلاء الله‏}‏ قال‏:‏ نعم الله، وفي قوله‏:‏ ‏{‏رجس‏}‏ قال‏:‏ سخط‏.‏ وأخرج ابن عساكر قال‏:‏ لما أرسل الله الريح على عاد، اعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين عليه الجلود وتلتذ به الأنفس، وإنها لتمر بالعادي فتحمله بين السماء والأرض، وتدمغه بالحجارة‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن زيد، في قوله‏:‏ ‏{‏وقطعنا دابر الذين كذبوا‏}‏ قال‏:‏ استأصلناهم‏.‏

وأخرج البخاري في تاريخه، وابن جرير، وابن عساكر، عن عليّ بن أبي طالب، قال‏:‏ قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه سدرة‏.‏ وأخرج ابن عساكر، عن عثمان بن أبي العاتكة، قال‏:‏ قبلة مسجد دمشق قبر هود‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن أبي هريرة، قال‏:‏ كان عمر هود أربعمائة سنة واثنتين وسبعين سنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 79‏]‏

‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏74‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏75‏)‏ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏76‏)‏ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏77‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏78‏)‏ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا‏}‏ معطوف على ما تقدّم، أي وأرسلنا إلى ثمود أخاهم، وثمود قبيلة سموا باسم أبيهم، وهو ثمود بن عاد بن إرم بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح‏.‏ وصالح عطف بيان، وهو صالح بن عبيد بن أسف بن ماشح بن عبيد بن حاذر بن ثمود، وامتناع ثمود من الصرف لأنه جعل اسماً للقبيلة‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ لم ينصرف لأنه أعجميّ‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهو غلط لأنه من الثمد، وهو الماء القليل، وقد قرأ القراء ‏{‏أَلا إِنَ ثموداً كفروا ربهم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 68‏]‏ على أنه اسم للحيّ، وكانت مساكن ثمود الحجر، بين الحجاز والشام إلى وادي القرى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ يَاقَوْم اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ‏}‏ قد تقدّم تفسيره في قصة نوح‏.‏ ‏{‏قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ أي معجزة ظاهرة، وهي إخراج الناقة من الحجر الصلد‏.‏ وجملة ‏{‏هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً‏}‏ مشتملة على بيان البينة المذكورة، وانتصاب ‏{‏آية‏}‏ على الحال‏.‏ والعامل فيها معنى الإشارة، وفي إضافة الناقة إلى الله تشريف لها وتكريم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ الله‏}‏ أي دعوها تأكل في أرض الله، فهي ناقة الله، والأرض أرضه فلا تمنعوها مما ليس لكم، ولا تملكونه، ‏{‏وَلاَ تَمَسُّوهَا‏}‏ بشيء من السوء، أي لا تتعرّضوا لها بوجه من الوجوه التي تسوءها‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ هو جواب النهي، أي إذا لم تتركوا مسها بشيء من السوء أخذكم عذاب أليم‏:‏ أي شديد الألم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ‏}‏ أي استخلفكم في الأرض أو جعلكم ملوكاً فيها، كما تقدّم في قصة هود‏.‏ ‏{‏وَبَوَّأَكُمْ فِى الأرض‏}‏ أي جعل لكم فيها مباءة، وهي المنزل الذي تسكنونه ‏{‏تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا‏}‏ أي‏:‏ تتخذون من سهولة الأرض قصوراً، أو هذه الجملة مبينة لجملة‏:‏ ‏{‏وبوّأكم في الأرض‏}‏، وسهول الأرض ترابها، يتخذون منه اللبن والآجر، ونحو ذلك، فيبنون به القصور‏.‏ ‏{‏وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتًا‏}‏ أي تتخذون في الجبال التي هي صخور بيوتاً تسكنون فيها، وقد كانوا لقوّتهم وصلابة أبدانهم ينحتون الجبال فيتخذون فيها، كهوفاً يسكنون فيها، لأن الأبنية والسقوف كانت تفنى قبل فناء أعمارهم‏.‏ وانتصاب ‏{‏بيوتاً‏}‏ على أنها حال مقدّرة، أو على أنها مفعول ثان ل ‏{‏تنحتون‏}‏ على تضمينه معنى ‏{‏تتخذون‏}‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فاذكروا ءالآء الله‏}‏ تقدّم تفسيره في القصة التي قبل هذه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ‏}‏ العثي والعثو لغتان، وقد تقدم تحقيقه في البقرة بما يغني عن الإعادة‏.‏ ‏{‏قَالَ الملا الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ‏}‏ أي قال الرؤساء المستكبرون من قوم صالح للمستضعفين، الذين استضعفهم المستكبرون، و‏{‏لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ‏}‏ بدل من الذين ‏{‏استضعفوا‏}‏، بإعادة حرف الجر، بدل البعض من الكل، لأن في المستضعفين من ليس بمؤمن، هذا على عود ضمير ‏{‏منهم‏}‏ إلى الذين استضعفوا، فإن عاد إلى قومه كان بدل كل من المستضعفين، ومقول القول‏:‏ ‏{‏أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالحا مُّرْسَلٌ مّن رَّبّهِ‏}‏ قالوا هذا على طريق الاستهزاء والسخرية‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ‏}‏ أجابوهم بأنهم مؤمنون برسالته، مع كون سؤال المستكبرين لهم إنما هو عن العلم منهم هل تعلمون برسالته أم لا‏؟‏ مسارعة إلى إظهار ما لهم من الإيمان، وتنبيهاً على أن كونه مرسلاً أمر واضح مكشوف، لا يحتاج إلى السؤال عنه، فأجابوا تمرداً وعناداً بقولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا بالذى آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ‏}‏ وهذه الجمل المعنوية، يقال مستأنفة لأنها جوابات عن سؤالات مقدّرة كما سبق بيانه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَعَقَرُواْ الناقة‏}‏ العقر‏:‏ الجرح‏.‏ وقيل‏:‏ قطع عضو يؤثر في تلف النفس‏.‏ يقال عقرت الفرس‏:‏ إذا ضربت قوائمه بالسيف‏.‏ وقيل أصل العقر‏:‏ كسر عرقوب البعير، ثم قيل للنحر عقر، لأن العقر سبب النحر في الغالب، وأسند العقر إلى الجميع، مع كون العاقر واحداً منهم، لأنهم راضون بذلك موافقون عليه‏.‏ وقد اختلف في عاقر الناقة ما كان اسمه‏؟‏ فقيل قدار بن سالف، وقيل غير ذلك ‏{‏وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ‏}‏ أي استكبروا، يقال عتا يعتو عتوّاً‏:‏ استكبر، وتعتي فلان‏:‏ إذا لم يطع، والليل العاتي‏:‏ الشديد الظلمة ‏{‏وَقَالُواْ ياصَالِح ائتنا بِمَا تَعِدُنَا‏}‏ من العذاب ‏{‏إِن كُنتَ مِنَ المرسلين‏}‏ هذا استعجال منهم للنقمة، وطلب منهم لنزول العذاب، وحلول البلية بهم‏.‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة‏}‏ أي الزلزلة‏.‏ يقال رجف الشيء يرجف رجفاناً، وأصله حركة مع صوت، ومنه‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ كانت صيحة شديدة، خلعت قلوبهم ‏{‏فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ بلدهم ‏{‏جاثمين‏}‏ لاصقين بالأرض على ركبهم ووجوههم، كما يجثم الطائر‏.‏ وأصل الجثوم للأرنب وشبهها‏.‏ وقيل للناس والطير، والمراد أنهم أصبحوا في دورهم ميتين لا حراك بهم ‏{‏فتولى عَنْهُمْ‏}‏ صالح عند اليأس من إجابتهم ‏{‏وَقَالَ‏}‏ لهم هذه المقالة ‏{‏لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين‏}‏ ويحتمل أنه قال لهم هذه المقالة بعد موتهم على طريق الحكاية لحالهم الماضية‏.‏ كما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم من التكليم لأهل قليب بدر بعد موتهم، أو قالها لهم عند نزول العذاب بهم، وكأنه كان مشاهداً لذلك، فنحسر على ما فاتهم من الإيمان والسلامة من العذاب، ثم أبان عن نفسه أنه لم يأل جهداً في إبلاغهم الرسالة ومحض النصح، لكن أبوا ذلك فلم يقبلوا منه، فحق عليهم العذاب، ونزل بهم ما كذبوا به واستعجلوه‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي الطفيل قال‏:‏ قالت ثمود لصالح

‏{‏ائتنا بآية إن كنت من الصادقين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 154‏]‏، قال‏:‏ اخرجوا، فخرجوا إلى هضبة من الأرض، فإذا هي تمخض كما تمخض الحامل، ثم إنها انفرجت، فخرجت الناقة من وسطها، فقال لهم صالح‏:‏ ‏{‏هذه ناقة الله لكم آية‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 64‏]‏، فلما ملوها عقروها‏:‏ ‏{‏فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثلاثة أَيَّامٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 65‏]‏‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة‏:‏ أن صالحاً قال لهم حين عقروا الناقة‏:‏ تمتعوا ثلاثة أيام، ثم قال لهم‏:‏ آية هلاككم أن تصبح وجوهكم غداً مصفرّة، وتصبح اليوم الثاني محمرّة، ثم تصبح اليوم الثالث مسودّة‏.‏ فأصبحت كذلك‏.‏ فلما كان اليوم الثالث أيقنوا بالهلاك، فتكفنوا وتحنطوا‏.‏ ثم أخذتهم الصيحة فأهمدتهم‏.‏ وقال عاقر الناقة‏:‏ لا أقتلها حتى ترضوا أجمعين، فجعلوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون أترضين‏؟‏ فتقول نعم، والصبيّ حتى رضوا أجمعون، فعقرها‏.‏

وأخرج أحمد، والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر قام فخطب فقال‏:‏ «يا أيها الناس، لا تسألوا نبيكم عن الآيات، فإن قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث إليهم آية، فبعث الله لهم الناقة، فكانت ترد من هذا الفجّ، فتشرب ماءهم يوم وردها، ويحتلبون من لبنها مثل الذي كانوا يأخذون من مائها يوم غبها، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها‏.‏ فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة أيام، وكان وعد من الله غير مكذوب، ثم جاءتهم الصيحة فأهلك الله من كان منهم تحت مشارق الأرض ومغاربها، إلا رجلاً كان في حرم الله، فمنعه حرم الله من عذاب الله»، فقيل يا رسول الله من هو‏؟‏ فقال‏:‏ «أبو رغال‏.‏ فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه» قال ابن كثير‏:‏ هذا الحديث على شرط مسلم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه، من حديث أبي الطفيل مرفوعاً مثله‏.‏

وأخرج أحمد من حديث ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر‏:‏ «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم»، وأصل الحديث في الصحيحين من غير وجه‏.‏ وفي لفظ لأحمد من هذا الحديث قال‏:‏ لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود‏.‏ وأخرج أحمد، وابن المنذر، نحوه مرفوعاً من حديث أبي كبشة الأنماري‏.‏

وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء‏}‏ قال‏:‏ لا تعقروها‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً‏}‏ قال‏:‏ كانوا ينقبون في الجبال البيوت‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ‏}‏ قال‏:‏ غلوا في الباطل ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة‏}‏ قال‏:‏ الصيحة‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن زيد ‏{‏فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين‏}‏ قال‏:‏ ميتين‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة مثله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 84‏]‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏80‏)‏ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ‏(‏81‏)‏ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ‏(‏82‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏83‏)‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلُوطاً‏}‏ معطوف على ما سبق، أي وأرسلنا لوطاً، أو منصوب بفعل مقدّر، أي واذكر لوطاً وقت قال لقومه‏.‏ قال الفراء‏:‏ لوط مشتق من قولهم‏:‏ هذا أليط بقلبي، أي ألصق‏.‏ قال الزجاج‏:‏ زعم بعض النحويين أن لوطاً يجوز أن يكون مشتقاً من لطت الحوض إذا ملسته بالطين، وهذا غلط‏.‏ لأن الأسماء الأعجمية لا تشتق‏.‏ وقال سيبويه نوح ولوط أسماء أعجمية إلا أنها خفيفة، فلذلك صرفت‏.‏ ولوط هو ابن هاران بن تارخ، فهو ابن أخي إبراهيم، بعثه الله إلى أمة تسمى سدوم‏.‏ ‏{‏أَتَأْتُونَ الفاحشة‏}‏ أي الخصلة الفاحشة المتمادية في الفحش والقبح‏.‏ قال ذلك إنكاراً عليهم وتوبيخاً لهم ‏{‏مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن العالمين‏}‏ أي لم يفعلها أحد قبلكم‏.‏ فإن اللواط لم يكن في أمة من الأمم قبل هذه الأمة، و«من» مزيدة للتوكيد للعموم في النفي، وإنه مستغرق لما دخل عليه، والجملة مسوقة لتأكيد النكير عليهم والتوبيخ لهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً‏}‏ قرأ نافع وحفص على الخبر بهمزة واحدة مكسورة‏.‏ وقرأ الباقون بهمزتين على الاستفهام المقتضي للتوبيخ والتقريع، واختار القراءة الأولى أبو عبيد والكسائي وغيرهما، واختار الخليل وسيبويه القراءة الثانية، فعلى القراءة الأولى تكون هذه الجملة مبينة لقوله‏:‏ ‏{‏أَتَأْتُونَ الفاحشة‏}‏ وكذلك على القراءة الثانية، مع مزيد الاستفهام وتكريره المفيد للمبالغة في التقريع والتوبيخ، وانتصاب ‏{‏شهوة‏}‏ على المصدرية، أي تشتهونهم شهوة، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال، أي مشتهين‏.‏ ويجوز أن يكون مفعولاً له، أي لأجل الشهوة، وفيه أنه لا غرض لهم بإتيان هذه الفاحشة إلا مجرد قضاء الشهوة من غير أن يكون لهم في ذلك غرض يوافق العقل، فهم في هذا كالبهائم التي ينزو بعضها على بعض، لما يتقاضاها من الشهوة ‏{‏مّن دُونِ النساء‏}‏ أي متجاوزين في فعلكم هذا للنساء، اللاتي هنّ محل لقضاء الشهوة، وموضع لطلب اللذة، ثم أضرب عن الإنكار المتقدّم إلى الإخبار بما هم عليه من الإسراف الذي تسبب عنه إتيان هذه الفاحشة الفظيعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ‏}‏ الواقعين في هذه الفاحشة على ما أنكره عليهم منها ‏{‏إِلا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم‏}‏ أي لوطاً وأتباعه ‏{‏مّن قَرْيَتِكُمْ‏}‏ أي ما كان لهم جواب إلا هذا القول المباين للإنصاف، المخالف لما طلبه منهم وأنكره عليهم، وجملة‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏ تعليل لما أمروا به من الإخراج، ووصفهم بالتطهر، يمكن أن يكون على حقيقته، وأنهم أرادوا أن هؤلاء يتنزهون عن الوقوع في هذه الفاحشة، فلا يساكنونا في قريتنا، ويحتمل أنهم قالوا ذلك على طريق السخرية والاستهزاء، ثم أخبر الله سبحانه أنه أنجى لوطاً وأهله المؤمنين به، واستثنى امرأته من الأهل، لكونها لم تؤمن به، ومعنى‏:‏ ‏{‏كَانَتْ مِنَ الغابرين‏}‏ أنها كانت من الباقين في عذاب الله، يقال غبر الشيء إذا مضى، وغبر إذا بقي فهو من الأضداد‏.‏

وحكى ابن فارس في المجمل عن قوم أنهم قالوا‏:‏ الماضي عابر بالعين المهملة، والباقي غابر بالمعجمة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏مِنَ الغابرين‏}‏ أي من الغائبين عن النجاة‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ المعنى ‏{‏مِنَ الغابرين‏}‏ أي من المعمرين، وكانت قد هرمت، وأكثر أهل اللغة على أن الغابر الباقي‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا‏}‏ قيل‏:‏ أمطر بمعنى إرسال المطر‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ مطر في الرحمة وأمطر في العذاب، والمعنى هنا‏:‏ أن الله أمطر عليهم مطراً غير ما يعتادونه، وهو رميهم بالحجارة كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 74‏]‏ ‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين‏}‏ هذا خطاب لكل من يصلح له، أو لمحمد صلى الله عليه وسلم، وسيأتي في هود قصة لوط بأبين مما هنا‏.‏

وقد أخرج ابن أبي الدنيا، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في شعب الإيمان، وابن عساكر، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَتَأْتُونَ الفاحشة‏}‏ قال‏:‏ أدبار الرجال‏.‏ وأخرج ابن عساكر، عن ابن عباس، قال‏:‏ إنما كان بدء عمل قوم لوط‏:‏ أن إبليس جاءهم في هيئة صبيّ، أجمل صبيّ رآه الناس، فدعاهم إلى نفسه، فنكحوه ثم جسروا على ذلك‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، عنه، في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏ قال‏:‏ من أدبار الرجال، ومن أدبار النساء‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين‏}‏ قال‏:‏ من الباقين في عذاب الله‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن سعيد بن أبي عروبة، قال‏:‏ كان قوم لوط أربعة آلاف ألف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 93‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏85‏)‏ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏86‏)‏ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏87‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ‏(‏88‏)‏ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ‏(‏89‏)‏ وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏90‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏91‏)‏ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ‏(‏92‏)‏ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً‏}‏ معطوف على ما تقدّم، أي وأرسلنا‏.‏ ومدين‏:‏ اسم قبيلة، وقيل‏:‏ اسم بلد والأوّل أولى‏.‏ وسميت القبيلة باسم أبيهم، وهو مدين بن إبراهيم كما يقال بكر وتميم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أخاهم شُعَيْباً‏}‏ شعيب عطف بيان، وهو شعيب بن ميكائيل بن يشجب بن مدين بن إبراهيم، قاله عطاء وابن إسحاق وغيرهما‏.‏ وقال الشرقي بن القطامي‏:‏ إنه شعيب بن عيفاء بن ثويب بن مدين بن إبراهيم‏.‏ وزعم ابن سمعان أنه شعيب بن حرّة بن يشجب بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو شعيب بن صفوان بن عيفاء بن ثابت بن مدين بن إبراهيم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ ياقوم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ قد سبق شرحه في قصة نوح‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَأَوْفُواْ الكيل والميزان‏}‏ أمرهم بإيفاء الكيل والميزان، لأنهم كانوا أهل معاملة بالكيل والوزن، وكانوا لا يوفونهما، وذكر الكيل الذي هو المصدر، وعطف عليه الميزان الذي هو اسم للآلة‏.‏

واختلف في توجيه ذلك، فقيل المراد بالكيل‏:‏ المكيال، فتناسب عطف الميزان عليه‏.‏ وقيل المراد بالميزان‏:‏ الوزن فيناسب الكيل، والفاء في ‏{‏فأوفوا‏}‏ للعطف على اعبدوا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ‏}‏ البخس النقص، وهو يكون بالتعييب للسلعة أو التزهيد فيها، أو المخادعة لصاحبها والاحتيال عليه، وكل ذلك من أكل أموال الناس بالباطل، وظاهر قوله‏:‏ ‏{‏أَشْيَاءهُمْ‏}‏ أنهم كانوا يبخسون الناس في كل الأشياء‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا مكاسين، يمكسون كل ما دخل إلى أسواقهم، ومنه قول زهير‏:‏

أفي كل أسواق العراق إتاوة *** وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض بَعْدَ إصلاحها‏}‏ قد تقدّم تفسيره قريباً، ويدخل تحته قليل الفساد وكثيره، ودقيقه وجليله، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ إلى العمل بما أمرهم به، وترك ما نهاهم عنه، والمراد بالخيرية هنا‏:‏ الزيادة المطلقة، لأنه لا خير في عدم إيفاء الكيل والوزن، وفي بخس الناس، وفي الفساد في الأرض أصلاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ‏}‏ الصراط‏:‏ الطريق، أي لا تقعدوا بكل طريق توعدون الناس بالعذاب‏.‏ قيل‏:‏ كانوا يقعدون في الطرقات المفضية إلى شعيب، فيتوعدون من أراد المجيء إليه، ويقولون إنه كذاب فلا تذهب إليه، كما كانت قريش تفعله مع النبي صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والسديّ، وغيرهم‏.‏ وقيل المراد‏:‏ القعود على طرق الدين ومنع من أراد سلوكها‏.‏ وليس المراد به القعود على الطرق حقيقة‏.‏ ويؤيده‏:‏ ‏{‏وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ ءامَنَ بِهِ‏}‏ وقيل‏:‏ المراد بالآية النهي عن قطع الطريق، وأخذ السلب، وكان ذلك من فعلهم‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم كانوا عشارين يأخذون الجباية في الطرق من أموال الناس، فنهوا عن ذلك‏.‏

والقول الأوّل‏:‏ أقربها إلى الصواب، مع أنه لا مانع من حمل النهي على جميع هذه الأقوال المذكورة‏.‏ وجملة ‏{‏توعدون‏}‏ في محل نصب على الحال، وكذلك ما عطف عليها، أي لا تقعدوا بكل طريق موعدين لأهله، صادّين عن سبيل الله، باغين لها عوجاً، والمراد بالصدّ ‏{‏عن سبيل الله‏}‏‏:‏ صدّ الناس عن الطريق الذي قعدوا عليه، ومنعهم من الوصول إلى شعيب، فإن سلوك الناس في ذلك السبيل للوصول إلى نبيّ الله هو سلوك سبيل الله، و‏{‏مَنْ ءامَنَ بِهِ‏}‏ مفعول ‏{‏تصدّون‏}‏، والضمير في ‏{‏آمن به‏}‏ يرجع إلى الله، أو إلى سبيل الله، أو إلى كل صراط أو إلى شعيب، و‏{‏تَبْغُونَهَا عِوَجاً‏}‏ أي تطلبون سبيل الله أن تكون معوجة غير مستقيمة، وقد سبق الكلام على العوج‏.‏ قال الزجاج‏:‏ كسر العين في المعاني وفتحها في الأجرام ‏{‏واذكروا إِذْ كُنتُمْ‏}‏ أي وقت كنتم ‏{‏قَلِيلاً‏}‏ عددكم ‏{‏فَكَثَّرَكُمْ‏}‏ بالنسل‏.‏ وقيل‏:‏ كنتم فقراء فأغناكم‏.‏

‏{‏وانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين‏}‏ من الأمم الماضية، فإن الله أهلكهم، وأنزل بهم من العقوبات ما ذهب بهم ومحا أثرهم‏.‏ ‏{‏وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بالذى أُرْسِلْتُ بِهِ‏}‏ إليكم من الأحكام التي شرعها الله لكم ‏{‏وَطَائِفَةٌ‏}‏ منكم ‏{‏لَّمْ يْؤْمِنُواْ فاصبروا حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين‏}‏ هذا من باب التهديد والوعيد الشديد لهم‏.‏ وليس هو من باب الأمر بالصبر على الكفر‏.‏ وحكم الله بين الفريقين هو نصر المحقين على المبطلين، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 52‏]‏ أو هو أمر للمؤمنين بالصبر على ما يحلّ بهم من أذى الكفار، حتى ينصرهم الله عليهم‏.‏ ‏{‏قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ‏}‏ أي قال الأشراف المستكبرون ‏{‏لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ‏}‏ لم يكتفوا بترك الإيمان والتمرّد عن الإجابة إلى ما دعاهم إليه، بل جاوزوا ذلك بغياً وبطراً وأشرا إلى توعد نبيهم، ومن آمن به، بالإخراج من قريتهم، أو عوده هو ومن معه في ملتهم الكفرية، أي لا بدّ من أحد الأمرين‏:‏ إما الإخراج، أو العود‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون العود بمعنى الإبتداء‏.‏ يقال عاد إليّ من فلان مكروه، أي صار وإن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك، فلا يرد ما يقال‏:‏ كيف يكون شعيب على ملتهم الكفرية من قبل أن يبعثه الله رسولاً‏؟‏ ويحتاج إلى الجواب بتغليب قومه المتبعين له عليه في الخطاب، بالعود إلى ملتهم‏.‏

وجملة ‏{‏قَالَ أُو لَو كُنَّا كارهين‏}‏ مستأنفة جواب عن سؤال مقدّر‏.‏ والهمزة لإنكار وقوع ما طلبوه من الإخراج أو العود، والواو للحال، أي أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا للعود إليها، أو أتخرجوننا من قريتكم في حال كراهتنا للخروج منها، أو في حال كراهتنا للأمرين جميعاً، والمعنى‏:‏ إنه ليس لكم أن تكرهونا على أحد الأمرين، ولا يصح لكم ذلك، فإن المكره لا اختيار له، ولا تعدّ موافقته مكرها موافقة، ولا عوده إلى ملتكم مكرهاً عوداً، وبهذا التقرير يندفع ما استشكله كثير من المفسرين في هذا المقام، حتى تسبب عن ذلك تطويل ذيول الكلام‏.‏

‏{‏قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ‏}‏ التي هي الشرك ‏{‏بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا‏}‏ بالإيمان، فلا يكون منا عود إليها أصلاً ‏{‏وَمَا يَكُونُ لَنَا‏}‏ أي ما يصح لنا ولا يستقيم ‏{‏أَن نَّعُودَ فِيهَا‏}‏ بحال من الأحوال ‏{‏إِلاَّ أَن يَشَاء الله‏}‏ أي إلا حال مشيئته سبحانه، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أي إلا بمشيئة الله عزّ وجلّ، قال‏:‏ وهذا قول أهل السنة‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه لا يكون منا العود إلى الكفر، إلا أن يشاء الله ذلك، فالاستثناء منقطع‏.‏ وقيل‏:‏ إن الاستثناء هنا على جهة التسليم لله عزّ وجلّ، كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بالله‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏ وقيل‏:‏ هو كقولهم لا أكلمك حتى يبيضّ الغراب، وحتى يلج الجمل في سمّ الخياط، والغراب لا يبيض، والجمل لا يلج، فهو من باب التعليق بالمحال‏.‏

‏{‏وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا‏}‏ أي أحاط علمه بكل المعلومات، فلا يخرج عنه منها شيء، و‏{‏علماً‏}‏ منصوب على التمييز‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا‏}‏ أي القرية بعد أن كرهتم مجاورتنا لهم ‏{‏إِلاَّ أَن يَشَاء الله‏}‏ عودنا إليها ‏{‏عَلَى الله تَوَكَّلْنَا‏}‏ أي عليه اعتمدنا في أن يثبتنا على الإيمان، ويحول بيننا وبين الكفر وأهله، ويتمّ علينا نعمته، ويعصمنا من نقمته‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين‏}‏ الفتاحة الحكومة، أي احكم بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين‏.‏ دعوا الله سبحانه أن يحكم بينهم، ولا يكون حكمه سبحانه إلا بنصر المحقين على المبطلين، كما أخبرنا به في غير موضع من كتابه فكأنهم طلبوا نزول العذاب بالكافرين، وحلول نقمة الله بهم ‏{‏وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ‏}‏ معطوف على ‏{‏قَالَ الملأ الذين استكبروا‏}‏ يحتمل أن يكون هؤلاء هم أولئك، ويحتمل أن يكونوا غيرهم من طوائف الكفار الذين أرسل إليهم شعيب، واللام في ‏{‏لئن اتبعتم شعيبا‏}‏ موطئة لجواب قسم محذوف، أي دخلتم في دينه، وتركتم دينكم ‏{‏إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون‏}‏ جواب القسم ساد مسدّ جواب الشرط‏.‏ وخسرانهم‏:‏ هلاكهم، أو ما يخسرونه بسبب إيفاء الكيل والوزن، وترك التطفيف الذي كانوا يعاملون الناس به ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة‏}‏ أي‏:‏ الزلزلة‏.‏ وقيل‏:‏ الصيحة كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جاثمين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 94‏]‏ قد تقدم تفسيره في قصة صالح‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا‏}‏ هذه الجملة مستأنفة مبينة لما حلّ بهم من النعمة، والموصول مبتدأ، و‏{‏كأن لم يغنوا‏}‏ خبره يقال غنيت بالمكان إذا أقمت به، وغنى القوم في دارهم، أي طال مقامهم فيها، والمغني‏:‏ المنزل، والجمع المغاني‏.‏ قال حاتم الطائي‏:‏

غنينا زماناً بالتصعلك والغنى *** وكلا سقاناه بكاسيهما الدهر

فما زادنا بغياً على ذي قرابة *** غنانا ولا أزرى باحساننا الفقر

ومعنى الآية‏:‏ الذين كذبوا شعيباً كأن لم يقيموا في دارهم، لأن الله سبحانه استأصلهم بالعذاب، والموصول ‏{‏في الذين كذبوا‏}‏ شعيباً مبتدأ خبره ‏{‏كَانُواْ هُمُ الخاسرين‏}‏، وهذه الجملة مستأنفة كالأولى، متضمنة لبيان خسران القوم المكذبين ‏{‏فتولى عَنْهُمْ‏}‏ أي شعيب لما شاهد نزول العذاب بهم ‏{‏وَقَالَ ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبّى‏}‏ التي أرسلني بها إليكم ‏{‏وَنَصَحْتُ لَكُمْ‏}‏ ببيان ما فيه سلامة دينكم ودنياكم ‏{‏فَكَيْفَ ءاسى‏}‏ أي أحزن ‏{‏على قَوْمٍ كافرين‏}‏ بالله، مصرّين على كفرهم، متمردين عن الإجابة، أو الأسى شدة الحزن، آسى على ذلك فهو آس‏.‏ قال شعيب هذه المقالة تحسراً على عدم إيمان قومه، ثم سلا نفسه بأنه كيف يقع منه الأسى على قوم ليس بأهل للحزن عليهم لكفرهم بالله، وعدم قبولهم لما جاء به رسوله‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن عساكر، عن عكرمة، والسدي قالا‏:‏ ما بعث الله نبياً مرتين إلا شعيباً‏:‏ مرة إلى مدين فأخذتهم الصيحة، ومرة إلى أصحاب الأيكة ‏{‏فأخذهم الله بعذاب يوم الظلة‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 189‏]‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس ‏{‏وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ‏}‏ قال‏:‏ لا تظلموا الناس‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن قتادة ‏{‏وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ‏}‏ قال‏:‏ لا تظلموهم ‏{‏وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ‏}‏ قال‏:‏ كانوا يوعدون من أتى شعيباً وغشيه وأراد الإسلام‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس ‏{‏وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ‏}‏ قال‏:‏ كانوا يجلسون في الطريق، فيخبرون من أتى عليهم أن شعيباً كذاب، فلا يفتننكم عن دينكم‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد ‏{‏بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ‏}‏ قال‏:‏ بكل سبيل حق ‏{‏وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ قال‏:‏ تصدّون أهلها ‏{‏وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا‏}‏ قال‏:‏ تلتمسون لها الزيغ‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ ‏{‏وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ‏}‏ قال‏:‏ هو العاشر ‏{‏وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ قال‏:‏ تصدّون عن الإسلام ‏{‏وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا‏}‏ قال‏:‏ هلاكاً‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن مجاهد، قال‏:‏ هم العُشَّار‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية، عن أبي هريرة أو غيره، شك أبو العالية قال‏:‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به على خشبة على الطريق لا يمرّ بها ثوب إلا شقته، ولا شيء إلا خرقته، قال‏:‏

«ما هذا يا جبريل‏؟‏» قال‏:‏ هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه ثم تلا ‏{‏وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ‏}‏‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السدي، في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا‏}‏ قال‏:‏ ما ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله ‏{‏إِلا أَن يَشَاء الله رَبُّنَا‏}‏ والله لا يشاء الشرك، ولكن يقول‏:‏ إلا أن يكون الله قد علم شيئاً، فإنه قد وسع كل شيء علماً‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن الأنباري في الوقف والابتداء، عن ابن عباس قال‏:‏ ما ما كنت أدري ما قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق‏}‏ حتى سمعت ابنته ذي يزن تقول‏:‏ تعال أفاتحك، تعني أقاضيك‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه، في قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا افتح‏}‏ يقول‏:‏ اقض‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، قال‏:‏ الفتح القضاء لغة يمانية إذا قال أحدهم تعال أقاضيك القضاء قال‏:‏ تعال أفاتحك‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس ‏{‏لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا‏}‏ قال‏:‏ لم يعيشوا فيها‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة، مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس ‏{‏فَكَيْفَ ءاسى‏}‏ قال‏:‏ أحزن‏.‏ وأخرج ابن عساكر، عن ابن عباس قال‏:‏ في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما، قبر إسماعيل، وقبر شعيب، فقبر إسماعيل في الحجر، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود‏.‏ وأخرج ابن عساكر عن وهب بن منبه أن شعيباً مات بمكة، ومن معه من المؤمنين، فقبورهم في غربي الكعبة بين دار الندوة وبين باب بني سهم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم، عن ابن إسحاق قال‏:‏ ذكر لي يعقوب بن أبي مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر شعيباً قال‏:‏ «ذاك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه فيما يريدهم به، فلما كذبوه وتوعدوه بالرجم والنفي من بلادهم وعتوا على الله أخذهم عذاب يوم الظلة»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 100‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ‏(‏94‏)‏ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏95‏)‏ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏96‏)‏ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ‏(‏97‏)‏ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏98‏)‏ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏99‏)‏ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ‏}‏ لما فصل الله سبحانه أحوال بعض الأنبياء مع أممهم، وهم المذكورون سابقاً، أجمل حال سائر الأمم المرسل إليها، أي وما أرسلنا في قرية من القرى من نبيّ من الأنبياء‏.‏ وفي الكلام محذوف، أي فكذب أهلها ‏{‏إلا أخذناهم‏}‏، والاستثناء مفرّغ، أي ما أرسلنا في حال من الأحوال، إلا في حال أخذنا أهلها، فمحل أخذنا النصب‏.‏ والبأساء‏:‏ البؤس والفقر‏.‏ والضراء‏:‏ الضرّ‏.‏ وقد تقدم تحقيق معنى البأساء والضراء ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ‏}‏ أي لكي يتضرعوا ويتذللوا، فيدعوا ما هم عليه من الاستكبار وتكذيب الأنبياء‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَدَّلْنَا‏}‏ معطوف على ‏{‏أخذنا‏}‏ أي ثم بعد الأخذ لأهل القرى بدّلناهم ‏{‏مَكَانَ السيئة‏}‏ التي أصبناهم بها من البلاء والامتحان ‏{‏الحسنة‏}‏ أي الخصلة الحسنة، فصاروا في خير وسعة وأمن ‏{‏حتى عَفَواْ‏}‏ يقال عفا كثر، وعفا درس، فهو من أسماء الأضداد، والمراد هنا‏:‏ أنهم كثروا في أنفسهم وفي أموالهم، أي أعطيناهم الحسنة مكان السيئة، حتى كثروا ‏{‏وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضراء والسراء‏}‏ أي قالوا هذه المقالة عند أن صاروا في الحسنة بعد السيئة، أي أن هذا الذي مسنا من البأساء والضراء، ثم من الرخاء والخصب من بعد، هو أمر وقع لآبائنا قبلنا مثله‏.‏ فمسهم من البأساء والضراء ما مسنا، ومن النعمة والخير ما نلناه، ومعناهم‏:‏ أن هذه العادة الجارية في السلف والخلف، وأن ذلك ليس من الله سبحانه ابتلاء لهم، واختبار لما عندهم، وفي هذا من شدة عنادهم وقوة تمردهم وعتوّهم ما لا يخفى، ولهذا عاجلهم الله بالعقوبة ولم يمهلهم فقال‏:‏ ‏{‏فأخذناهم بَغْتَةً‏}‏ أي فجأة عقب أن قالوا هذه المقالة من دون تراخ ولا إمهال «و» الحال أن ‏{‏هُمْ لا يَشْعُرُونَ‏}‏ بذلك ولا يترقبونه‏.‏ واللام في ‏{‏القرى‏}‏ للعهد، أي‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى‏}‏ التي أرسلنا إليها رسلنا ‏{‏ءامَنُواْ‏}‏ بالرسل المرسلين إليهم ‏{‏واتقوا‏}‏ ما صمموا عليه من الكفر، ولم يصرّوا على ما فعلوا من القبائح ‏{‏لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والأرض‏}‏ أي يسرنا لهم خير السماء والأرض، كما يحصل التيسير للأبواب المغلقة بفتح أبوابها‏.‏ قيل المراد بخير السماء‏:‏ المطر، وخير‏:‏ الأرض النبات، والأولى حمل ما في الآية على ما هو أعمّ من ذلك‏.‏ ويجوز أن تكون اللام في ‏{‏القرى‏}‏ للجنس‏.‏ والمراد‏:‏ لو أن أهل القرى أين كانوا، وفي أيّ بلاد سكنوا ‏{‏آمنوا واتقوا‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ ‏{‏ولكن كَذَّبُواْ‏}‏ بالآيات والأنبياء ولم يؤمنوا ولا اتقوا ‏{‏فأخذناهم‏}‏ بالعذاب بسبب ‏{‏مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ من الذنوب الموجبة لعذابهم‏.‏ والاستفهام في ‏{‏أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى‏}‏ للتقريع والتوبيخ، وأهل القرى هم أهل القرى‏:‏ المذكورة قبله، والفاء للعطف، وهو مثل‏:‏

‏{‏أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 50‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالقرى مكة وما حولها، لتكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، والحمل على العموم أولى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بياتا‏}‏ أي‏:‏ وقت بيات، وهو الليل، على أنه منصوب على الظرفية، ويجوز أن يكون مصدراً، بمعنى تبيتاً، أو مصدراً في موضع الحال، أي مبيتين، وجملة‏:‏ ‏{‏وَهُمْ نَائِمُونَ‏}‏ في محل نصب على الحال، والاستفهام في ‏{‏أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ‏}‏ كالاستفهام الذي قبله‏.‏ والضحى ضحوة النهار، وهو في الأصل اسم لضوء الشمس إذا أشرقت وارتفعت‏.‏ قرأ ابن عامر والحرميان ‏"‏ أوْ أمن ‏"‏ بإسكان الواو، وقرأ الباقون بفتحها‏.‏ وجملة ‏{‏وَهُمْ يَلْعَبُونَ‏}‏ في محل نصب على الحال، أي يشتغلون بما لا يعود عليهم بفائدة‏.‏ والاستفهام في ‏{‏أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله‏}‏ للتقريع والتوبيخ، وإنكار ما هم عليه من أمان مالا يؤمن من مكر الله بهم وعقوبته لهم، وفي تكرير هذا الاستفهام زيادة تقرير، لإنكار ما أنكره عليهم، ثم بين حال من أمن مكر الله، فقال‏:‏ ‏{‏فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون‏}‏ أي الذين أفرطوا في الخسران، ووقعوا في وعيده الشديد‏.‏ وقيل‏:‏ مكر الله هنا هو استدراجه بالنعمة والصحة‏.‏ والأولى حمله على ما هو أعمّ من ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا‏}‏ قرئ «نهد» بالنون وبالتحتية‏.‏ فعلى القراءة بالنون يكون فاعل الفعل هو الله سبحانه، ومفعول الفعل ‏{‏أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ أي أن الشأن هو هذا، وعلى القراءة بالتحتية يكون فاعل يهد هو ‏{‏أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ أي أخذناهم بكفرهم وتكذيبهم‏.‏ والهداية هنا بمعنى التبيين، ولهذا عديت باللام‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ‏}‏ أي ونحن نطبع على قلوبهم على الاستئناف، ولا يصح عطفه على ‏{‏أصبنا‏}‏ لأنهم ممن طبع الله على قلبه، لعدم قبولهم للإيمان‏.‏ وقيل‏:‏ هو معطوف على فعل مقدّر دلّ عليه الكلام‏.‏ كأنه قيل يغفلون عن الهداية ونطبع‏.‏ وقيل معطوف على ‏{‏يرثون‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ جواب ‏"‏ لو ‏"‏ أي صاروا بسبب إصابتنا لهم بذنوبهم، والطبع على قلوبهم، لا يسمعون ما يتلوه عليهم من أرسله الله إليهم من الوعظ، والإعذار، والإنذار‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة‏}‏ قال‏:‏ مكان الشدة الرخاء ‏{‏حتى عَفَواْ‏}‏ قال‏:‏ كثروا، وكثرت أموالهم‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏حتى عَفَواْ‏}‏ قال‏:‏ جَمُّوا‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضراء والسراء‏}‏ قال‏:‏ قالوا قد أتى على آبائنا مثل هذا فلم يكن شيئاً ‏{‏فأخذناهم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءامَنُواْ‏}‏ قال‏:‏ بما أنزل الله ‏{‏واتقوا‏}‏ قال‏:‏ ما حرّمه الله ‏{‏لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والأرض‏}‏ يقول‏:‏ أعطتهم السماء بركتها والأرض نباتها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم من طريق معاذ بن رفاعة، عن موسى الطائفي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أكرموا الخبز، فإن الله أنزله من بركات السماء، وأخرجه من بركات الأرض» وأخرج البزار والطبراني، قال السيوطي، بسند ضعيف، عن عبد الله ابن أمّ حرام قال‏:‏ صليت القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «أكرموا الخبز، فإن الله أنزله من بركات السماء، وسخر له بركات الأرض، ومن تتبع ما يسقط من السفرة، غفر له» وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال‏:‏ كان أهل قريةِ أوسع الله عليهم، حتى كانوا يستنجون بالخبز، فبعث الله عليهم الجوع‏.‏

وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَهْدِ‏}‏ قال‏:‏ أو لم نبين‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ في قوله‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا‏}‏ قال‏:‏ المشركون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 102‏]‏

‏{‏تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ‏(‏101‏)‏ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ القرى‏}‏ أي التي أهلكناها، وهي قرى قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، المتقدّم ذكرها‏.‏ ‏{‏نَقُصُّ عَلَيْكَ‏}‏ أي نتلو عليك ‏{‏مِنْ أَنبَائِهَا‏}‏ أي من أخبارها‏.‏ وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين‏.‏ و‏{‏نقصّ‏}‏ إما في محل نصب على أنه حال، و‏{‏تِلْكَ القرى‏}‏ مبتدأ وخبر، أو يكون في محل رفع على أنه الخبر، و‏{‏القرى‏}‏ صفة ‏{‏لتلك‏}‏، و‏{‏من‏}‏ في ‏{‏مِنْ أَنبَائِهَا‏}‏ للتبعيض، أي نقصّ عليك بعض أنبائها، واللام في ‏{‏وَلَقَد جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات‏}‏ جواب القسم‏.‏ والمعنى‏:‏ أن من أخبارهم أنها جاءتهم رسل الله ببيناته، كما سبق بيانه في قصص الأنبياء المذكورين قبل هذا ‏{‏فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ‏}‏ عند مجيء الرسل ‏{‏بِمَا كَذَّبُواْ‏}‏ به ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ مجيئهم، أو فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل، في حال من الأحوال، ولا في وقت من الأوقات بما كذبوا به قبل مجيئهم، بل هم مستمرون على الكفر، متشبثون بأذيال الطغيان دائماً، ولم ينجع فيهم مجيء الرسل، ولا ظهر له أثر، بل حالهم عند مجيئهم كحالهم قبله‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ فما كانوا ليؤمنوا بعد هلاكهم بما كذبوا به لو أحييناهم كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 28‏]‏ وقيل سألوا المعجزات، فلما رأوها لم يؤمنوا بما كذبوا به من قبل رؤيتها، والأوّل‏:‏ أولى، ومعنى تكذيبهم قبل مجيء الرسل‏:‏ أنهم كانوا في الجاهلية يكذبون بكل ما سمعوا به من إرسال الرسل، وإنزال الكتب‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين‏}‏ أي مثل ذلك الطبع الشديد يطبع الله على قلوب الكافرين، فلا ينجع فيهم بعد ذلك وعظ ولا تذكير ولا ترغيب ولا ترهيب‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ‏}‏ الضمير يرجع إلى أهل القرى المذكورين سابقاً، أي ما وجدنا لأكثر أهل هذه القرى من عهد، أي عهد يحافظون عليه ويتمسكون به، بل دأبهم نقض العهود في كل حال‏.‏ وقيل الضمير يرجع إلى الناس على العموم، أي ما وجدنا لأكثر الناس من عهد‏.‏ وقيل المراد بالعهد‏:‏ هو المأخوذ عليهم في عالم الذرّ‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير يرجع إلى الكفار على العموم من غير تقييد بأهل القرى، أي الأكثر منهم لا عهد ولا وفاء‏.‏ والقليل منهم قد يفي بعهده ويحافظ عليه، و«إن» في ‏{‏وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لفاسقين‏}‏ هي المخففة من الثقيلة، وضمير الشأن محذوف، أي أن الشأن وجدنا أكثرهم لفاسقين، أو هي النافية‏.‏ واللام في ‏{‏لفاسقين‏}‏ بمعنى إلا، أي إلا فاسقين خارجين عن الطاعة خروجاً شديداً‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبيّ بن كعب، في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ‏}‏ قال‏:‏ كان في علم الله يوم أقروا له بالميثاق من يكذب به ممن يصدّق به‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ‏}‏ قال‏:‏ مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن، في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ‏}‏ قال‏:‏ الوفاء‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، في الآية قال‏:‏ هو ذاك العهد يوم أخذ الميثاق‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لفاسقين‏}‏ قال‏:‏ ذاك أن الله إنما أهلك القرى، لأنهم لم يكونوا حفظوا ما وصاهم به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 122‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏103‏)‏ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏104‏)‏ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏105‏)‏ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏106‏)‏ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ‏(‏107‏)‏ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏108‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏109‏)‏ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ‏(‏110‏)‏ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏111‏)‏ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ‏(‏112‏)‏ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏114‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ‏(‏115‏)‏ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ‏(‏116‏)‏ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ‏(‏117‏)‏ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏118‏)‏ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ‏(‏119‏)‏ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ‏(‏120‏)‏ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏121‏)‏ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى‏}‏ أي من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب أي ثم أرسلنا موسى بعد إرسالنا لهؤلاء الرسل‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في ‏{‏مّن بَعْدِهِمْ‏}‏ راجع إلى الأمم السابقة، أي من بعد إهلاكهم ‏{‏إلى فِرْعَوْنَ وملئه‏}‏ فرعون هو لقب لكل من يملك أرض مصر بعد العمالقة‏.‏ وملأ فرعون‏:‏ أشراف قومه، وتخصيصهم بالذكر مع عموم الرسالة لهم ولغيرهم، لأن من عداهم كالأتباع لهم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَظَلَمُواْ بِهَا‏}‏ أي كفروا بها‏.‏ وأطلق الظلم على الكفر، لكون كفرهم بالآيات التي جاء بها موسى كان كفراً متبالغاً، لوجود ما يوجب الإيمان من المعجزات العظيمة التي جاءهم بها‏.‏ والمراد بالآيات هنا‏:‏ هي الآيات التسع‏.‏ أو معنى‏:‏ ‏{‏فَظَلَمُواْ بِهَا‏}‏ ظلموا الناس بسببها لما صدّوهم عن الإيمان بها، أو ظلموا أنفسهم بسببها ‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين‏}‏ أي المكذبين بالآيات الكافرين بها، وجعلهم مفسدين، لأن تكذيبهم وكفرهم من أقبح أنواع الفساد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ موسى يافرعون إِنّى رَسُولٌ مِن رَّبّ العالمين‏}‏ أخبره بأنه مرسل من الله إليه، وجعل ذلك عنواناً لكلامه معه، لأن من كان مرسلاً من جهة من هو رب العالمين أجمعين، فهو حقيق بالقبول لما جاء به، كما يقول من أرسله الملك في حاجة إلى رعيته‏:‏ أنا رسول الملك إليكم، ثم يحكي ما أرسل به فإن في ذلك من تربية المهابة، وإدخال الروعة، مالا يقادر قدره‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏حَقِيقٌ عَلَى أَن لا أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق‏}‏ قرئ ‏"‏ حقيق عليّ أن لا أقول ‏"‏ أي واجب عليّ، ولازم لي، أن لا أقول فيما أبلغكم عن الله إلا القول الحق، وقرئ ‏{‏حَقِيقٌ عَلَى أَن لا أَقُولَ‏}‏ بدون ضمير في ‏"‏ على ‏"‏؛ قيل‏:‏ في توجيهه إن ‏"‏ على ‏"‏ معنى الباء، أي حقيق بأن لا أقول‏.‏ ويؤيده قراءة أبيّ والأعمش، فإنهما قرآ «حقيق بأن لا أقول»‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏{‏حَقِيقٌ‏}‏ مضمن معنى حريص‏.‏ وقيل‏:‏ إنه لما كان لازماً للحق، كان الحق لازماً له‏.‏ فقول الحق حقيق عليه، وهو حقيق على قول الحق‏.‏ وقيل إنه أغرق في وصف نفسه في ذلك المقام، حتى جعل نفسه حقيقة على قول الحق، كأنه وجب على الحق أن يكون موسى هو قائله‏.‏ وقرأ عبد الله بن مسعود «حقيق أن لا أقول» بإسقاط ‏"‏ على ‏"‏، ومعناها واضح‏.‏ ثم قال بعد هذا ‏{‏قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ أي بما يتبين به صدقي، وأني رسول من رب العالمين‏.‏ وقد طوى هنا ذكر ما دار بينهما من المحاورة، كما في موضع آخر أنه قال فرعون‏:‏

‏{‏فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 49‏]‏‏.‏ ثم قال بعد جواب موسى ‏{‏وَمَا رَبُّ العالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 23‏]‏ الآيات الحاكية لما دار بينهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إسراءيل‏}‏ أمره بأن يدع بني إسرائيل يذهبون معه، ويرجعون إلى أوطانهم، وهي الأرض المقدّسة‏.‏ وقد كانوا باقين لديه مستعبدين ممنوعين من الرجوع إلى وطنهم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فلما قال ذلك ‏{‏قَالَ‏}‏ له فرعون ‏{‏إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيةٍ‏}‏ من عند الله كما تزعم ‏{‏فَأْتِ بِهَا‏}‏ حتى نشاهدها، وننظر فيها ‏{‏إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ في هذه الدعوى التي جئت بها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ‏}‏ أي وضعها على الأرض فانقلبت ثعباناً، أي حية عظيمة من ذكور الحيات‏.‏ ومعنى ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ أن كونها حية في تلك الحال أمر ظاهر واضح لا لبس فيه‏.‏ ‏{‏وَنَزَعَ يَدَهُ‏}‏ أي أخرجها وأظهرها من جيبه، أو من تحت إبطه، وفي التنزيل‏:‏ ‏{‏وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 12‏]‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين‏}‏ أي فإذا يده التي أخرجها بيضاء تتلألأ نوراً، يظهر لكل مبصر‏.‏

‏{‏قَالَ الملأ‏}‏ أي الأشراف ‏{‏مِن قَوْمِ فِرْعَونَ‏}‏ لما شاهدوا انقلاب العصى حية، ومصير يده بيضاء من غير سوء ‏{‏إِنَّ هَذَا‏}‏ أي موسى ‏{‏لساحر عَلِيمٌ‏}‏ أي كثير العلم بالسحر‏.‏ ولا تنافي بين نسبة هذا القول إلى الملأ هنا، وإلى فرعون في سورة الشعراء، فكلهم قد قالوه، فكان ذلك مصححاً لنسبته إليهم تارة وإليه أخرى‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ‏}‏ وصف ‏{‏لساحر‏}‏‏.‏ والأرض المنسوبة إليهم هي أرض مصر‏.‏ وهذا من كلام الملأ‏.‏ وأما ‏{‏فَمَاذَا تَأْمُرُونَ‏}‏ فقيل‏:‏ هو من كلام فرعون، قال للملأ لما قالوا بما تقدّم، أي بأي شيء تأمرونني‏.‏ وقيل‏:‏ هو من كلام الملأ، أي قالوا لفرعون، فبأي شيء تأمرنا، وخاطبوه بما تخاطب به الجماعة تعظيماً له، كما يخاطب الرؤساء أتباعهم‏.‏ و‏"‏ ما ‏"‏ في موضع نصب بالفعل الذي بعدها‏.‏ ويجوز أن تكون ‏"‏ ذا ‏"‏ بمعنى الذي، كما ذكره النحاة في ماذا صنعت، وكون هذا من كلام فرعون هو الأولى، بدليل ما بعده، وهو‏:‏ ‏{‏قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ‏}‏ قال الملأ جواباً لكلام فرعون، حيث استشارهم وطلب ما عندهم من الرأي‏:‏ ‏{‏أرجه‏}‏، أي أخره وأخاه‏.‏ يقال أرجأته وأرجيته‏:‏ أخرته‏.‏ قرأ عاصم والكسائي وحمزة وأهل المدينة «أرجه» بغير همز‏.‏ وقرأ الباقون بالهمز‏.‏ وقرأ أهل الكوفة إلا الكسائي ‏"‏ أرجه ‏"‏ بسكون الهاء‏.‏ قال الفراء‏:‏ هي لغة للعرب يقفون على الهاء في الوصل، وأنكر ذلك البصريون‏.‏ وقيل معنى ‏{‏أرجه‏}‏ احبسه‏.‏ وقيل هو من رجا يرجو، أي أطمعه ودعه يرجوك، حكاه النحاس عن محمد بن يزيد المبرد ‏{‏وَأَرْسِلْ فِى المدائن حاشرين‏}‏ أي أرسل جماعة حاشرين في المدائن التي فيها السحرة، و‏{‏حاشرين‏}‏ مفعول ‏{‏أرسل‏}‏‏.‏

وقيل‏:‏ هو منصوب على الحال‏.‏ و‏{‏يَأْتُوكَ‏}‏ جواب الأمر، أي يأتوك هؤلاء الذين أرسلتهم ‏{‏بِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ‏}‏ أي بكل ماهر في السحر، كثير العلم بصناعته‏.‏ قرأ أهل الكوفة إلا عاصم «سحار»‏.‏ وقرأ من عداهم ‏{‏ساحر‏}‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَجَاء السحرة فِرْعَوْنَ‏}‏ في الكلام طيّ، أي فبعث في المدائن حاشرين، وجاء السحرة فرعون‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا‏}‏ أي فلما جاءوا فرعون قالوا له إن لنا لأجراً، والجملة استئنافية جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل‏:‏ أيّ شيء قالوا له لما جاءوه‏؟‏ والأجر الجائزة والجعل، ألزموا فرعون أن يجعل لهم جُعلاً، إن غلبوا موسى بسحرهم‏.‏ قرأ نافع، وابن كثير ‏{‏إن لنا‏}‏ على الإخبار‏.‏ وقرأ الباقون «أئن لنا» على الاستفهام‏.‏ استفهموا فرعون عن الجعل الذي سيجعله لهم على الغلبة، ومعنى الاستفهام التقرير‏.‏ وأما على القراءة الأولى، فكأنهم قاطعون بالجعل، وأنه لابدّ لهم منه، فأجابهم فرعون بقوله‏:‏ ‏{‏نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين‏}‏ أي إن تلكم لأجراً، وإنكم مع هذا الأجر المطلوب منكم لمن المقرّبين لدينا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ يا موسى إَمَا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين‏}‏ هذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل‏:‏ فما قالوا لموسى بعد أن قال لهم فرعون ‏{‏نعم وإنكم لمن المقرّبين‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم خيروا موسى بين أن يبتدئ بإلقاء ما يلقيه عليهم، أو يبتدئوه هم بذلك تأدّباً معه، وثقة من أنفسهم بأنهم غالبون، وإن تأخروا، و‏"‏ أن ‏"‏ في موضع نصب، قاله الكسائي والفراء، أي إما أن تفعل الإلقاء أو نفعله نحن‏.‏ فأجابهم موسى بقوله‏:‏ ‏{‏أَلْقَوْاْ‏}‏ اختار أن يكونوا المتقدّمين عليه بإلقاء ما يلقونه غير مبال بهم، ولا هائب لما جاءوا به‏.‏ قال الفراء‏:‏ في الكلام حذف‏.‏ المعنى‏:‏ قال لهم موسى إنكم لم تغلبوا ربكم، ولن تبطلوا آياته‏.‏ وقيل هو تهديد، أي ابتدئوا بالإلقاء فستنظرون ما يحل بكم من الافتضاح‏.‏ والموجب لهذين التأويلين عند من قال بهما أنه لا يجوز على موسى أن يأمرهم بالسحر ‏{‏فَلَمَّا أَلْقُوْاْ‏}‏ أي حبالهم وعصيهم ‏{‏سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس‏}‏ أي قلبوها وغيروها عن صحة إدراكها بما جاءوا به من التمويه والتخييل الذي يفعله المشعوذون وأهل الخفة ‏{‏واسترهبوهم‏}‏ أي أدخلوا الرهبة في قلوبهم إدخالاً شديداً ‏{‏وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ‏}‏ في أعين الناظرين لما جاءوا به، وإن كان لا حقيقة له في الواقع‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ‏}‏ أمره الله سبحانه، عند أن جاء السحرة بما جاءوا به من السحر، أن يلقي عصاه ‏{‏فَإِذَا هِىَ‏}‏ أي العصا ‏{‏تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ‏}‏ قرأ حفص ‏{‏تَلْقَفْ‏}‏ بإسكان اللام، وتخفيف القاف من لقف يلقف‏.‏ وقرأ الباقون بفتح اللام، وتشديد القاف من تلقف يتلقف، يقال لقفت الشيء وتلقفته‏:‏ إذا أخذته أو بلعته‏.‏

قال أبو حاتم‏:‏ وبلغني في بعض القراءات ‏"‏ تلقم ‏"‏ بالميم والتشديد، قال الشاعر‏:‏

أنت عصا موسى التي لم تزل *** تلقم ما يأفكه الساحر

و«ما» في ‏{‏مَا يَأْفِكُونَ‏}‏ مصدرية أو موصولة، أي إفكهم أو ما يأفكونه، سماه إفكاً، لأنه لا حقيقة له في الواقع، بل هو كذب وزور وتمويه وشعوذة ‏{‏فَوَقَعَ الحق‏}‏ أي ظهر وتبين لما جاء به موسى ‏{‏وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ من سحرهم، أي تبين بطلانه ‏{‏فَغُلِبُواْ‏}‏ أي السحرة ‏{‏هُنَالِكَ‏}‏ أي في الموقف الذي أظهروا فيه سحرهم ‏{‏وانقلبوا‏}‏ من ذلك الموقف ‏{‏صاغرين‏}‏ أذلاء مقهورين ‏{‏وَأُلْقِىَ السحرة ساجدين‏}‏ أي خروا ساجدين، كأنما ألقاهم ملق على هيئة السجود، أو لم يتمالكوا مما رأوا، فكأنهم ألقوا أنفسهم، وجملة ‏{‏قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ العالمين رَبّ موسى وهارون‏}‏ مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل‏:‏ ماذا قالوا عند سجودهم أوفي سجودهم‏؟‏ وإنما قالوا هذه المقالة وصرّحوا بأنهم آمنوا بربّ العالمين، ثم لم يكتفوا بذلك حتى قالوا‏:‏ ‏{‏ربّ موسى وهارون‏}‏ لئلا يتوهم متوهم من قوم فرعون المقرّين بإلهيته، أن السجود له‏.‏

وقد أخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا موسى‏}‏ قال‏:‏ إنما سمي موسى، لأنه ألقى بين ماء وشجر، فالماء بالقبطية‏:‏ مو والشجر‏:‏ سي‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد أن فرعون كان فارسياً من أهل إصطخر‏.‏ وأخرج أيضاً عن ابن لهيعة، أنه كان من أبناء مصر‏.‏ وأخرج أيضاً وأبو الشيخ، عن محمد بن المنكدر قال‏:‏ عاش فرعون ثلثمائة سنة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن عليّ بن أبي طلحة، أن فرعون كان قبطياً ولد زنا طوله سبعة أشبار‏.‏ وأخرج أيضاً عن الحسن قال‏:‏ كان علجاً من همذان‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن إبراهيم بن مقسم الهذلي، قال‏:‏ مكث فرعون أربعمائة سنة لم يصدع له رأس‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏فألقى عَصَاهُ‏}‏ قال‏:‏ ذكر لنا أن تلك العصا عصا آدم، أعطاه إياها ملك حين توجه إلى مدين، فكانت تضيء بالليل، ويضرب بها الأرض بالنهار، فتخرج له رزقه ويهشّ بها على غنمه ‏{‏فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ‏}‏ قال‏:‏ حية تكاد تساوره‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، على ابن عباس، قال‏:‏ لقد دخل موسى على فرعون وعليه زرمانقة من صوف ما تجاوز مرفقيه، فاستأذن على فرعون فقال‏:‏ أدخلوه، فدخل فقال‏:‏ إن إلهي أرسلني إليك، فقال للقوم حوله‏:‏ ‏{‏ما علمت لكم من إله غيري‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏، خذوه‏.‏ قال إني قد جئتك بآية، قال‏:‏ فائت بها إن كنت من الصادقين، فألقى عصاه، فصارت ثعباناً بين لحييه، ما بين السقف إلى الأرض، وأدخل يده في جيبه، فأخرجها مثل البرق تلتمع الأبصار، فخروا على وجوههم، وأخذ موسى عصاه ثم خرج، ليس أحد من الناس إلا نفر منه‏.‏

فلما أفاق وذهب عن فرعون الروع قال للملأ حوله‏:‏ ماذا تأمروني‏؟‏ ‏{‏قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاه‏}‏ ولا تأتنا به ولا يقربنا ‏{‏وَأَرْسِلْ فِى المدائن حاشرين‏}‏ وكانت السحرة يخشون من فرعون، فلما أرسل إليهم قالوا‏:‏ قد احتاج إليكم إلهكم‏؟‏ قال‏:‏ إن هذا فعل كذا وكذا‏.‏ قالوا‏:‏ إن هذا ساحر سحر ‏{‏إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين‏}‏‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عنه، قال‏:‏ عصى موسى اسمها ماشا‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ من طرق، عنه، في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ‏}‏ قال‏:‏ الحية الذكر‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ، في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ‏}‏ قال‏:‏ الذكر من الحيات، فاتحة فمها، واضعة لحيها الأسفل في الأرض، والأعلى على سور القصر، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه، فلما رآها ذُعِر منها ووثب فأحدث، ولم يكن يحدث قبل ذلك، فصاح يا موسى خذها وأنا أؤمن بربك وأرسل معك بني إسرائيل، فأخذها موسى فصارت عصا‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏أَرْجِهْ‏}‏ قال‏:‏ أخره‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة، قال‏:‏ احبسه وأخاه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس من طرق في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَرْسِلْ فِى المدائن حاشرين‏}‏ قال‏:‏ الشُّرَط‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَاء السحرة‏}‏ قال‏:‏ كانوا سبعين رجلاً أصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء‏.‏

وقد اختلفت كلمة السلف في عددهم؛ فقيل‏:‏ كانوا سبعين كما قال ابن عباس‏.‏ وقيل كانوا اثني عشر‏.‏ وقيل‏:‏ خمسة عشر ألفاً‏.‏ وقيل‏:‏ سبعة عشر ألفاً‏.‏ وقيل‏:‏ تسعة عشر ألفاً‏.‏ وقيل‏:‏ ثلاثين ألفاً‏.‏ وقيل‏:‏ سبعين ألفاً‏.‏ وقيل‏:‏ ثمانين ألفاً‏.‏ وقيل ثلثمائة ألف‏.‏ وقيل تسعمائة ألف‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ لَنَا لأَجْرًا‏}‏ أي عطاء‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَلْقُوْاْ‏}‏ قال‏:‏ ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً، فأقبلت يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ قال‏:‏ ألقى موسى عصاه فأكلت كل حية لهم، فلما رأوا ذلك سجدوا‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، نحوه‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ‏}‏ قال‏:‏ ما يكذبون‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ‏}‏ قال‏:‏ تسترط حبالهم وعصيهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن مسعود، وناس من الصحابة قال‏:‏ التقى موسى وأمير السحرة، فقال له موسى‏:‏ أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي‏؟‏ وتشهد أن ما جئت به حق‏؟‏ فقال الساحر‏:‏ لآتينّ غداً بسحر لا يغلبه سحر‏.‏ فو الله لئن غلبتني لأمننّ بك، ولأشهدنّ أنه حق، وفرعون ينظر إليهما وهو قول فرعون ‏{‏إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى المدينة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 123‏]‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الأوزاعي قال‏:‏ لما خرّ السحرة سجداً رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 129‏]‏

‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏123‏)‏ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏124‏)‏ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ‏(‏125‏)‏ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ‏(‏126‏)‏ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ‏(‏127‏)‏ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏128‏)‏ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ‏(‏129‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏آمَنتُمْ بِهِ‏}‏ قرئ بحذف الهمزة على الإخبار وبإثباتها‏.‏ أنكر على السحرة فرعون إيمانهم بموسى قبل أن يأذن لهم بذلك، ثم قال بعد الإنكار عليهم، مبيناً لما هو الحامل لهم على ذلك في زعمه ‏{‏إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى المدينة‏}‏ أي حيلة احتلتموها أنتم وموسى عن مواطأة بينكم سابقة ‏{‏لِتُخْرِجُواْ‏}‏ من مدينة مصر ‏{‏أَهْلِهَا‏}‏ من القبط، وتستولوا عليها وتسكنوا فيها أنتم وبنو إسرائيل‏.‏ ومعنى ‏{‏فِى المدينة‏}‏ أن هذه الحيلة والمواطأة كانت بينكم، وأنتم بالمدينة، مدينة مصر، قبل أن تبرزوا أنتم وموسى إلى هذه الصحراء‏.‏ ثم هدّدهم بقوله‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ عاقبة صنعكم هذا، وسوء مغبته، ثم لم يكتف بهذا الوعيد المجمل، بل فصّله فقال‏:‏ ‏{‏لأقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ‏}‏ أي الرجل اليمنى واليد اليسرى، أو الرجل اليسرى واليد اليمنى، ثم لم يكتف عدوّ الله بهذا، بل جاوزه إلى غيره فقال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لاَصَلّبَنَّكُمْ‏}‏ في جذوع النخل، أي أجعلكم عليها مصلوبين زيادة تنكيل بهم، وإفراطاً في تعذيبهم، وجملة ‏{‏قَالُواْ إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ‏}‏ استئنافية جواب سؤال كما تقدّم، ومعناه‏:‏ إنك وإن فعلت بنا هذا الفعل، فبْعَدْه يومُ الجزاء سيجازيك الله بصنعك، ويحسن إلينا بما أصابنا في ذاته، فتوعدوه بعذاب الله في الآخرة، لما توعدهم بعذاب الدنيا، ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ ‏{‏إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ‏}‏ بالموت، أي لا بدّ لنا من الموت، ولا يضرّنا كونه بسبب منك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَنقِمُ مِنَّا‏}‏ قرأ الحسن بفتح القاف‏.‏ قال الأخفش‏:‏ هي لغة، وقرأ الباقون بكسرها‏.‏ يقال نقمت الأمر أنكرته، أي لست تعيب علينا وتنكر منا ‏{‏إِلا أَنْ ءامَنَّا بئايات رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا‏}‏ مع أن هذا هو الشرف العظيم والخير الكامل، ومثله لا يكون موضعاً للعيب ومكاناً للإنكار، بل هو حقيق بالثناء الحسن والاستحسان البالغ، ثم تركوا خطابه وقطعوا الكلام معه والتفتوا إلى خطاب الجناب العليّ، مفوّضين الأمر إليه، طالبين منه عزّ وجلّ أن يثبتهم على هذه المحنة بالصبر قائلين‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا‏}‏ الإفراغ‏:‏ الصبّ، أي اصببه علينا حتى يفيض ويغمرنا‏.‏ طلبوا أبلغ أنواع الصبر، استعداداً منهم لما سينزل بهم من العذاب من عدوّ الله، وتوطيناً لأنفسهم على التصلب في الحق، وثبوت القدم على الإيمان، ثم قالوا‏:‏ ‏{‏وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ‏}‏ أي توفنا إليك حال ثبوتنا على الإسلام، غير محرّفين، ولا مبدّلين، ولا مفتونين‏.‏ ولقد كان ما هم عليه من السحر، والمهارة في علمه، مع كونه شرّاً محضاً، سبباً للفوز بالسعادة، لأنهم علموا أن هذا الذي جاء به موسى خارج عن طوق البشر، وأنه من فعل الله سبحانه، فوصلوا بالشرّ إلى الخير، ولم يحصل من غيرهم ممن لا يعرف هذا العلم من أتباع فرعون، ما حصل منهم من الإذعان والاعتراف والإيمان، وإذا كانت المهارة في علم الشرّ قد تأتي بمثل هذه الفائدة، فما بالك بالمهارة في علم الخير، اللهم انفعنا بما علمتنا، وثبت أقدامنا على الحق، وأفرغ علينا سجال الصبر، وتوفنا مسلمين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الأرض‏}‏‏؟‏ هذا الاستفهام منهم للإنكار عليه، أي أتتركه وقومه ليفسدوا في الأرض بإيقاع الفرقة وتشتيت الشمل‏؟‏ والمراد بالأرض هنا‏:‏ أرض مصر‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ‏}‏ قرأ نعيم بن ميسرة «ويذرك» بالرفع على تقدير مبتدأ، أي وهو يذرك، أو على العطف على ‏{‏أَتَذَرُ موسى‏}‏ أي أتذره ويذرك‏.‏ وقرأ الأشهب العقيلي ‏"‏ وَيَذَرَك ‏"‏ بالجزم، إما على التخفيف بالسكون لثقل الضمة، أو على ما قيل في ‏{‏وَأَكُن مّنَ الصالحين‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 10‏]‏ في توجيه الجزم‏.‏ وقرأ أنس بن مالك «ونذرك» بالنون والرفع، ومعناه‏:‏ أنهم أخبروا عن أنفسهم بأنهم سيذرونه وآلهته‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏ويذرك‏}‏ بالنصب بأن مقدّرة على أنه جواب الاستفهام، والواو نائبة عن الفاء، أو عطفاً على ‏{‏يفسدوا‏}‏ أي ليفسدوا، وليذرك، لأنهم على الفساد في زعمهم، وهو يؤدّي إلى ترك فرعون وآلهته‏.‏

واختلف المفسرون في معنى‏:‏ ‏{‏وَءالِهَتَكَ‏}‏ لكون فرعون كان يدّعي الربوبية كما في قوله‏:‏ ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَنَاْ رَبُّكُمُ‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏ فقيل معنى و‏{‏آلهتك‏}‏ وطاعتك‏.‏ وقيل معناه‏:‏ وعبادتك‏.‏ ويؤيده قراءة علي، وابن عباس، والضحاك «وإلهتك»، وفي حرف أبي «أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وقد تركوك أن يعبدوك» وقيل‏:‏ إنه كان يعبد بقرة، وقيل‏:‏ كان يعبد النجوم‏.‏ وقيل‏:‏ كان له أصنام يعبدها قومه تقرّباً إليه، فنسبت إليه، ولهذا قال ‏{‏أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏ قاله الزجاج‏.‏ وقيل‏:‏ كان يعبد الشمس‏.‏ فقال فرعون مجيباً لهم، ومثبتاً لقلوبهم على الكفر ‏{‏سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ‏}‏‏.‏ قرأ نافع وابن كثير «سنقتل» بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد، أي سنقتل الأبناء، ونستحيي النساء، أي نتركهنّ في الحياة‏.‏ ولم يقل سنقتل موسى، لأنه يعلم‏.‏ أنه لا يقدر عليه ‏{‏وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون‏}‏ أي مستعلون عليهم بالقهر والغلبة، أو هم تحت قهرنا وبين أيدينا‏.‏ ما شئنا أن نفعله بهم فعلناه‏.‏

وجملة ‏{‏قَالَ موسى لِقَوْمِهِ‏}‏ مستأنفة جواب سؤال مقدّر، لما بلغ موسى ما قاله فرعون أمر قومه بالاستعانة بالله والصبر على المحنة، ثم أخبرهم ‏{‏أَنَّ الارض‏}‏ يعني‏:‏ أرض مصر ‏{‏للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ أو جنس الأرض، وهو وعد من موسى لقومه بالنصر على فرعون وقومه، وأن الله سيورثهم أرضهم وديارهم‏.‏ ثم بشّرهم بأن العاقبة للمتقين، أي العاقبة المحمودة في الدنيا والآخرة للمتقين من عباده، وهم موسى ومن معه‏.‏ وعاقبة كل شيء آخره‏.‏ وقرئ «والعاقبة» بالنصب عطفاً على الأرض‏.‏

وجملة ‏{‏قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا‏}‏ مستأنفة جواب سؤال مقدّر كالتي قبلها، أي أوذينا من قبل أن تأتينا رسولاً، وذلك بقتل فرعون أبناءنا عند مولدك لما أخبر بأنه سيولد مولود يكون زوال ملكه على يده ‏{‏وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا‏}‏ رسولاً بقتل أبنائنا الآن‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أوذينا من قبل أن تأتينا باستعمالنا في الأعمال الشاقة بغير جعل ‏{‏ومن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا‏}‏ بما صرنا فيه الآن من الخوف على أنفسنا وأولادنا وأهلنا‏.‏ وقيل‏:‏ إن الأذى من قبل ومن بعد واحد، وهو قبض الجزية منهم‏.‏ وجملة ‏{‏قَالَ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ‏}‏ مستأنفة كالتي قبلها، وعدهم بإهلاك الله لعدوّهم، وهو فرعون وقومه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأرض‏}‏ هو تصريح بما رمز إليه سابقاً من أن الأرض لله‏.‏ وقد حقّق الله رجاءه، وملكوا مصر في زمان داود وسليمان، وفتحوا بيت المقدس مع يوشع ابن نون، وأهلك فرعون وقومه بالغرق وأنجاهم ‏{‏فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏}‏ من الأعمال بعد أن يمنّ عليكم بإهلاك عدوّكم ‏{‏وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأرض‏}‏ فيجازيكم بما عملتم فيه من خير وشرّ‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى المدينة‏}‏ إذا التقيتما لتظاهرا فتخرجا منها أهلها ‏{‏لأقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ‏}‏ الآية، قال‏:‏ فقتلهم وقطعهم كما قال‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ كان أوّل من صلب فرعون، وهو أوّل من قطع الأيدي والأرجل من خلاف‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏مّنْ خلاف‏}‏ قال‏:‏ يداً من ها هنا، ورجلاً من ها هنا‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا‏}‏ قال‏:‏ من قبل إرسال الله إياك ومن بعده‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن وهب بن منبه، في الآية قال‏:‏ قالت بنو إسرائيل لموسى كان فرعون يكلفنا اللبن قبل أن تأتينا‏.‏ فلما جئت كلفنا اللبن مع التبن أيضاً، فقال موسى‏:‏ أي ربّ أهلك فرعون، حتى متى تبقيه‏؟‏ فأوحى الله إليهم إنهم لم يعملوا الذنب الذي أهلكهم به‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة في الآية قال‏:‏ حزا لعدوّ الله حاز أنه يولد في العام غلام يسلب ملكك، قال‏:‏ فتتبع أولادهم في ذلك العام بذبح الذكر منهم، ثم ذبحهم أيضاً بعد ما جاءهم موسى‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال‏:‏ إن بنا أهل البيت يفتح ويختم، ولا بدّ أن تقع دولة لبني هاشم فانظروا فيمن تكون من بني هاشم‏؟‏ وفيهم نزلت‏:‏ ‏{‏عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏}‏ وينبغي أن ينظر في صحة هذا عن ابن عباس، فالآية نازلة في بني إسرائيل، لا في بني هاشم، واقعة في هذه القصة الحاكية لما جرى بين موسى وفرعون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 136‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏130‏)‏ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏131‏)‏ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏132‏)‏ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏133‏)‏ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏134‏)‏ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ‏(‏135‏)‏ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ‏(‏136‏)‏‏}‏

المراد بآل فرعون هنا قومه، والمراد بالسنين الجدب‏.‏ وهذا معروف عند أهل اللغة‏.‏ يقولون أصابتهم سنة‏:‏ أي جدب سنة، وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ‏"‏، وأكثر العرب يعربون السنين إعراب جمع المذكر السالم‏.‏ ومن العرب من يعربه إعراب المفرد، ويجري الحركات على النون، وأنشد الفراء‏:‏

أرى مرّ السنين أخذن مني *** كما أخذ السرار من الهلال

بكسر النون من السنين‏.‏ قال النحاس‏:‏ وأنشد سيبويه هذا البيت بفتح النون‏.‏

أقول‏:‏ قد ورد ما لا احتمال فيه وهو قول الشاعر‏:‏

وماذا تزدري الأقوام مني *** وقد جاوزت حدّ الأربعين

وبعده‏:‏

أخو الخمسين مجتمع أشدي *** وتجدبني مداورة السنين

فإن الأبيات قبله وبعده مكسورة‏.‏ وأوّل هذه الأبيات‏:‏

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا *** متى أضع العمامة تعرفوني

وحكى الفراء عن بني عامر أنهم يقولون‏:‏ أقمت عنده سنيناً مصروفاً‏.‏ قال‏:‏ وبنو تميم لا يصرفونه‏.‏ ويقال أسنت القوم، أي أجدبوا، ومنه قول ابن الزبعري‏:‏

ورجال مكة مسنتون عجاف *** ‏{‏وَنَقْصٍ مّن الثمرات‏}‏ بسبب عدم نزول المطر، وكثرة العاهات ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ فيتعظون ويرجعون عن غوايتهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه‏}‏ أي الخصلة الحسنة من الخصب بكثرة المطر، وصلاح الثمرات، ورخاء الأسعار ‏{‏قَالُواْ لَنَا هذه‏}‏ أي أعطيناها باستحقاق، وهي مختصة بنا ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ‏}‏ أي خصلة سيئة من الجدب والقحط، وكثرة الأمراض ونحوها من البلاء ‏{‏يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ‏}‏ أي يتشاءموا بموسى ومن معه من المؤمنين به، والأصل يتطيروا أدغمت التاء في الطاء، وقرأ طلحة ‏"‏ تطيروا ‏"‏ على أنه فعل ماض‏.‏ وقد كانت العرب تتطير بأشياء من الطيور والحيوانات، ثم استعمل بعد ذلك في كل من تشاءم بشيء‏.‏ ومثل هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اوإن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏ قيل‏:‏ ووجه تعريف الحسنة أنها كثيرة الوقوع، ووجه تنكير السيئة ندرة وقوعها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله‏}‏ أي سبب خيرهم وشرهم بجميع ما ينالهم من خصب وقحط، هو من عند الله، ليس بسبب موسى ومن معه‏.‏ وكان هذا الجواب على نمط ما يعتقدونه وبما يفهمونه‏.‏ ولهذا عبر بالطائر عن الخير والشر الذي يجري بقدر الله وحكمته ومشيئته ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ بهذا، بل ينسبون الخير والشر إلى غير الله جهلاً منهم‏.‏ وقرأ الحسن «طيرهم»‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ قال الخليل‏:‏ أصل ‏{‏مهما‏}‏‏:‏ «ما» الشرطية زيدت عليه «ما» التي للتوكيد، كما تزاد في سائر الحروف مثل‏:‏ حيثما وأينما وكيفما ومتى ما‏.‏ ولكنهم كرهوا اجتماع المثلين فأبدلوا ألف الأولى هاء‏.‏

وقال الكسائي‏:‏ أصله‏:‏ مه، أي اكفف ما تأتينا به من آية، وزيدت عليها «ما» الشرطية‏.‏ وقيل‏:‏ وهي كلمة مفردة يجازى بها‏.‏ ومحل ‏{‏مهما‏}‏ الرفع على الابتداء، أو النصب بفعل يفسره ما بعدها‏.‏ و‏{‏من آية‏}‏ لبيان ‏{‏مهما‏}‏، وسموها آية استهزاء بموسى كما يفيده ما بعده‏.‏ وهو ‏{‏لّتَسْحَرَنَا بِهَا‏}‏ أي لتصرفنا عما نحن عليه كما يفعله السحرة بسحرهم‏.‏ والضمير في ‏"‏ به ‏"‏ عائد إلى ‏{‏مهما‏}‏، والضمير في ‏{‏بها‏}‏ عائد إلى ‏{‏آية‏}‏؛ وقيل‏:‏ إنهما جميعاً عائدان إلى ‏{‏مهما‏}‏، وتذكير الأوّل باعتبار اللفظ، وتأنيث الثاني باعتبار المعنى ‏{‏فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ جواب الشرط، أي فما نحن لك بمصدّقين‏.‏ أخبروا عن أنفسهم أنهم لا يؤمنون بشيء مما يجيء به من الآيات التي هي في زعمهم من السحر، فعند ذلك نزلت بهم العقوبة من الله عزّ وجلّ المبينة بقوله‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان‏}‏ وهو المطر الشديد‏.‏ قال الأخفش‏:‏ واحده طوفانة، وقيل‏:‏ هو مصدر كالرجحان والنقصان فلا واحد له‏.‏ وقيل الطوفان‏:‏ الموت‏.‏ وقال النحاس‏:‏ الطوفان في اللغة ما كان مهلكاً من موت أو سيل، أي ما يطيف بهم فيهلكهم‏.‏ والجراد هو الحيوان المعروف‏.‏ أرسله الله لأكل زروعهم فأكلها‏.‏ والقمل قيل‏:‏ هي الدباء‏.‏ والدباء‏:‏ الجراد قبل أن تطير، وقيل‏:‏ هي السوس، وقيل‏:‏ البراغيث، وقيل‏:‏ دواب سود صغار، وقيل‏:‏ ضرب من القردان، وقيل‏:‏ الجعلان‏.‏ قال النحاس‏:‏ يجوز أن تكون هذه الأشياء كلها أرسلت عليهم‏.‏ وقرأ الحسن «القمل» بفتح القاف وإسكان الميم‏.‏ وقرأ الباقون بضم القاف وفتح الميم مشددة‏.‏ وقد فسّر عطاء الخراساني «القمل» بالقمل ‏{‏والضفادع‏}‏ جمع ضفدع، وهو الحيوان المعروف الذي يكون في الماء‏.‏ ‏{‏والدم‏}‏ روي أنه سال النيل عليهم دماً‏.‏ وقيل‏:‏ هو الرعاف‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏آيَاتٍ مّفَصَّلاَت‏}‏ أي مبينات‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هو منصوب على الحال‏.‏ والمعنى‏:‏ أرسلنا عليهم هذه الأشياء حال كونها آيات بينات ظاهرات ‏{‏فاستكبروا‏}‏ أي ترفعوا عن الإيمان بالله ‏{‏وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ‏}‏ لا يهتدون إلى حق، ولا ينزعون عن باطل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز‏}‏ أي العذاب بهذه الأمور التي أرسلها الله عليهم‏.‏ وقرئ بضم الراء وهما لغتان‏.‏ وقيل‏:‏ كان هذا الرجز طاعوناً مات به من القبط في يوم واحد سبعون ألفاً‏.‏ ‏{‏قَالُواْ يا موسى ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ‏}‏ أي بما استودعك من العلم، أو بما اختصك به من النبوّة، أو بما عهد إليك أن تدعو به فيجيبك‏.‏ والباء متعلقة ب ‏{‏ادع‏}‏ على معنى‏:‏ أسعفنا إلى ما نطلب من الدعاء بحق ما عندك من عهد الله، أو ادع لنا متوسلاً إليه بعهده عندك‏.‏ وقيل‏:‏ إن الباء للقسم، وجوابه لنؤمنن، أي أقسمنا بعهد الله عندك ‏{‏لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ‏}‏ على أن جواب الشرط سدّ مسدّ جواب القسم، وعلى أن الباء ليست للقسم، تكون اللام في ‏{‏لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز‏}‏ جواب قسم محذوف‏.‏

و ‏{‏لَنُؤْمِنَنَّ‏}‏ جواب الشرط سادّ مسدّ جواب القسم ‏{‏وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إسراءيل‏}‏ معطوف على لنؤمننّ‏.‏ وقد كانوا حابسين لبني إسرائيل عندهم، يمتهنونهم في الأعمال، فوعدوه بإرسالهم معه‏.‏

‏{‏فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز إلى أَجَلٍ هُم بالغوه‏}‏ أي رفعنا عنهم العذاب عند أن رجعوا إلى موسى وسألوه بما سألوه، لكن لا رفعاً مطلقاً، بل رفعاً مقيداً بغاية هي الأجل المضروب لإهلاكهم بالغرق‏.‏ وجواب «لما» ‏{‏إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ‏}‏ أي ينقضون ما عقدوه على أنفسهم، و«إذا» هي الفجائية، أي فاجؤوا النكث وبادروه‏.‏

‏{‏فانتقمنا مِنْهُمْ‏}‏ أي أردنا الانتقام منهم لما نكثوا بسبب ما تقدّم لهم من الذنوب المتعددة ‏{‏فأغرقناهم فِي اليم‏}‏ أي في البحر‏.‏ قيل‏:‏ هو الذي لا يدرك قعره‏.‏ وقيل هو لجته وأوسطه‏.‏ وجملة ‏{‏بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا‏}‏ تعليل للإغراق ‏{‏وَكَانُواْ عَنْهَا غافلين‏}‏ معطوف على كذبوا، أي كانوا غافلين عن النقمة المدلول عليها بانتقمنا، أو عن الآيات التي لم يؤمنوا بها، بل كذبوا بها، وكانوا في تكذيبهم بمنزلة الغافلين عنها‏.‏ والثاني أولى لأن الجملتين تعليل للإغراق‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن مسعود ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بالسنين‏}‏ قال‏:‏ السنين الجوع‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد قال‏:‏ السنين الجوائح ‏{‏وَنَقْصٍ مّن الثمرات‏}‏ دون ذلك‏.‏ وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال‏:‏ لما أخذ الله آل فرعون بالسنين يبس كل شيء لهم، وذهبت مواشيهم حتى يبس نيل مصر، واجتمعوا إلى فرعون، فقالوا‏:‏ إن كنت كما تزعم فائتنا في نيل مصر بماء، قال‏:‏ غدوة يصبحكم الماء، فلما خرجوا من عنده قال‏:‏ أي شيء صنعت إن لم أقدر على أن أجري في نيل مصر ماء غدوة كذبوني‏.‏ فلما كان جوف الليل قام فاغتسل، ولبس مدرعة صوف، ثم خرج حافياً حتى أتى نيل مصر فقال‏:‏ اللهم إنك تعلم، أني أعلم أنك تقدر على أن تملأ نيل مصر ماء فاملأه ماء‏.‏ فما علم إلا بجزر الماء يقبل، فخرج وأقبل النيل يزخ بالماء لما أراد الله بهم من الهلكة‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة‏}‏ قال‏:‏ العافية والرخاء ‏{‏قَالُواْ لَنَا هذه‏}‏ نحن أحق بها ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ‏}‏ قال‏:‏ بلاء وعقوبة ‏{‏يَطَّيَّرُواْ بموسى‏}‏ قال‏:‏ يتشاءموا به‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله‏}‏ قال‏:‏ الأمر من قبل الله‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن عائشة، قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الطوفان الموت» قال ابن كثير‏:‏ هو حديث غريب‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، قال‏:‏ الطوفان الغرق‏.‏ وأخرج هؤلاء عن مجاهد قال‏:‏ الطوفان الموت على كل حال‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، قال‏:‏ الطوفان‏:‏ مطروا دائماً بالليل والنهار ثمانية أيام‏.‏ والقمل‏:‏ الجراد الذي له أجنحة‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه، قال‏:‏ الطوفان أمر من أمر ربك، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبّكَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد قال‏:‏ الطوفان الماء، والطاعون والجراد‏.‏ قال يأكل مسامير رُتُجهم‏:‏ يعني أبوابهم وثيابهم، والقمل‏:‏ الدباء‏.‏ والضفادع، تسقط على فرشهم وفي أطعمتهم، والدم‏:‏ يكون في ثيابهم ومائهم وطعامهم‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس قال‏:‏ القمل الدباء‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، قال‏:‏ كانت الضفادع بريّة، فلما أرسلها الله على آل فرعون سمعت وأطاعت، فجعلت تقذف نفسها في القدر وهي تغلي، وفي التنانير وهي تفور‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، قال‏:‏ سال النيل دماً، فكان الإسرائيلي يستقي ماء طيباً، ويستقي الفرعوني دماً، ويشتركان في إناء واحد، فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء طيباً وما يلي الفرعوني دماً‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن زيد بن أسلم، في قوله‏:‏ ‏{‏والدم‏}‏ قال‏:‏ سلط الله عليهم الرعاف‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال‏:‏ مكث موسى في آل فرعون بعدما غلب السحرة أربعين سنة، يريهم الآيات، والجراد، والقمل والضفادع‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عنه في قوله‏:‏ ‏{‏آيَاتٍ مّفَصَّلاَت‏}‏ قال‏:‏ كانت آيات مفصلات يتبع بعضها بعضاً ليكون لله الحجة عليهم‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عنه، قال‏:‏ يتبع بعضها بعضاً تمكث فيهم سبتاً إلى سبت، ثم ترفع عنهم شهراً‏.‏

وأخرج ابن مردويه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الرجز‏:‏ العذاب» وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال‏:‏ الرجز الطاعون‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إلى أَجَلٍ هُم بالغوه‏}‏ قال‏:‏ الغرق‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، من طرق، عن ابن عباس قال‏:‏ اليم البحر‏.‏ وأخرج أيضاً عن السديّ مثله‏.‏