فصل: تفسير الآيات رقم (167- 170)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏167- 170‏]‏

‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏167‏)‏ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏168‏)‏ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏169‏)‏ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ‏(‏170‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذ تَأَذَّنَ رَبُّكَ‏}‏ معطوف على ما قبله، أي واسألهم وقت تأذن ربك، وتأذن تفعل من الأيذان، وهو الإعلام‏.‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ آذن بالمد أعلم، وأذّن بالتشديد نادى‏.‏ وقال قوم‏:‏ كلاهما بمعنى أعلم، كما يقال أيقن وتيقن، والمعنى في الآية‏:‏ واسألهم وقت أن وقع الإعلام لهم من ربك ‏{‏لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ‏}‏ قيل‏:‏ وفي هذا الفعل معنى القسم كعلم الله، وشهد الله، ولذلك أجيب بما يجاب به القسم، حيث قال‏:‏ ‏{‏لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ ليرسلنّ عليهم، ويسلطن، كقوله‏:‏ ‏{‏بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ غاية لسومهم سوء العذاب ممن يبعثه الله عليهم، وقد كانوا أقمأهم الله هكذا أذلاء مستضعفين معذبين بأيدي أهل الملل، وهكذا هم في هذه الملة الإسلامية، في كل قطر من أقطار الأرض، في الذلة المضروبة عليهم والعذاب والصغار، يسلمون الجزية بحقن دمائهم، ويمتهنهم المسلمون فيما فيه ذلة من الأعمال التي يتنزه عنها غيرهم من طوائف الكفار‏.‏ ومعنى ‏{‏يَسُومُهُمْ‏}‏‏:‏ يذيقهم‏.‏ وقد تقدّم بيان أصل معناه، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب‏}‏ يعاجل به في الدنيا كما وقع لهؤلاء ‏{‏وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ كثير الغفران والرحمة‏.‏

‏{‏وقطعناهم فِي الأرض‏}‏ أي‏:‏ فرّقناهم في جوانبها، أو شتتنا أمرهم، فلم تجتمع لهم كلمة، و‏{‏أُمَمًا‏}‏ منتصب على الحال، أو مفعول ثان لقطعنا، على تضمينه معنى صيرنا، وجملة ‏{‏مّنْهُمُ الصالحون‏}‏ بدل من ‏{‏أمماً‏}‏، قيل‏:‏ هم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن مات قبل البعثة المحمدية غير مبدّل‏.‏ وقيل‏:‏ هم الذين سكنوا وراء الصين كما تقدّم بيانه قبل هذا ‏{‏وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك‏}‏ أي‏:‏ دون هذا الوصف الذي اتصفت به الطائفة الأولى وهو الصلاح، ومحل ‏{‏دُونِ ذَلِكَ‏}‏ الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير‏:‏ ومنهم أناس دون ذلك، والمراد بهؤلاء هم من لم يؤمن، بل انهمك في المخالفة لما أمره الله به‏.‏ قال النحاس ‏{‏دُونِ‏}‏ منصوب على الظرف، ولا نعلم أحداً رفعه ‏{‏وبلوناهم بالحسنات والسيئات‏}‏ أي‏:‏ امتحناهم بالخير والشرّ رجاء أن يرجعوا مما هم من الكفر والمعاصي‏.‏

‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ‏}‏ المراد بهم‏:‏ أولاد الذين قطعهم الله في الأرض‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ الخلف بسكون اللام‏:‏ الأولاد، الواحد والجمع سواء‏.‏ والخلف بفتح اللام البدل ولداً كان أو غيره‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ الخلف بالفتح الصالح، وبالسكون الطالح‏.‏ قال لبيد‏:‏

ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خلف كجلد الأجرب

ومنه قيل للرديء من الكلام خلف بالسكون، وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر، ومنه قول حسان ابن ثابت‏:‏

لنا القدم الأولى إليك وخلفنا *** لأوّلنا في طاعة الله تابع

‏{‏وَرِثُواْ الكتاب‏}‏ أي‏:‏ التوراة من أسلافهم يقرءونها ولا يعملون بها ‏{‏يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى‏}‏ أخبر الله عنهم بأنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدّة حرصهم وقوّة نهمتهم، والأدنى‏:‏ مأخوذ من الدنوّ، وهو القرب، أي يأخذون عرض هذا الشيء الأدنى، وهو الدنيا يتعجلون مصالحها بالرشاء، وما هو مجعول لهم من السحت في مقابلة تحريفهم لكلمات الله، وتهوينهم للعمل بأحكام التوراة، وكتمهم لما يكتمونه منها‏.‏ وقيل‏:‏ إن الأدنى مأخوذ من الدناءة والسقوط، أي إنهم يأخذون عرض الشيء الدنيء الساقط‏.‏

‏{‏وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا‏}‏ أي‏:‏ يعللون أنفسهم بالمغفرة، مع تماديهم في الضلالة، وعدم رجوعهم إلى الحق‏.‏ وجملة ‏{‏يَأْخُذُونَ‏}‏ يحتمل أن تكون مستأنفة لبيان حالهم، أو في محل نصب على الحال‏.‏ وجملة ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ معطوفة عليها، والمراد بهذا الكلام‏:‏ التقريع والتوبيخ لهم، وجملة ‏{‏وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ‏}‏ في محل نصب على الحال، أي يتعللون بالمغفرة، والحال أنهم إذا أتاهم عرض مثل العرض الذي كانوا يأخذونه أخذوه غير مبالين بالعقوبة، ولا خائفين من التبعة‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في ‏{‏يَأْتِهِمْ‏}‏ ليهود المدينة، أي وإن يأت هؤلاء اليهود الذين هم في عصر محمد صلى الله عليه وسلم عرض مثل العرض الذي كان يأخذه أسلافهم، أخذوه كما أخذه أسلافهم‏.‏

‏{‏أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب‏}‏ أي‏:‏ التوراة ‏{‏أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقّ‏}‏ والاستفهام للتقريع والتوبيخ، وجملة ‏{‏وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ‏}‏ معطوفة على ‏{‏يُؤْخَذْ‏}‏ على المعنى، وقيل‏:‏ على ‏{‏وَرِثُواْ الكتاب‏}‏، والأولى‏:‏ أن تكون في محل نصب على الحال بتقدير قد‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم تركوا العمل بالميثاق المأخوذ عليهم في الكتاب، والحال أن قد درسوا ما في الكتاب وعلموه، فكان الترك منهم عن علم لا عن جهل، وذلك أشدّ ذنباً وأعظم جرماً‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏دَرَسُوا مَا فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ محوه بترك العمل به والفهم له، من قولهم درست الريح الآثار‏:‏ إذا محتها‏.‏ ‏{‏والدار الآخرة خَيْرٌ‏}‏ من ذلك العرض الذي أخذوه وآثروه عليها ‏{‏لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ الله، ويجتنبون معاصيه ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ فتعلمون بهذا وتفهمونه، وفي هذا من التوبيخ والتقريع ما لا يقادر قدره‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب‏}‏ قرأ الجمهور ‏{‏يمسكون‏}‏ بالتشديد من مسك وتمسك، أي استمسك بالكتاب، وهو التوراة‏.‏ وقرأ أبو العالية، وعاصم، في رواية أبي بكر، بالتخفيف من أمسك يمسك‏.‏ وروي عن أبيّ بن كعب أنه قرأ «مسكوا» والمعنى‏:‏ أن طائفة من أهل الكتاب لا يتمسكون بالكتاب، ولا يعملون بما فيه، مع كونهم قد درسوه وعرفوه، وهم من تقدّم ذكره‏.‏ وطائفة يتمسكون بالكتاب، أي التوراة ويعملون بما فيه، ويرجعون إليه في أمر دينهم، فهم المحسنون الذين لا يضيع أجرهم عند الله، والموصول مبتدأ‏.‏

و ‏{‏إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين‏}‏ خبره، أي لا نضيع أجر المصلحين منهم، وإنما وقع التنصيص على الصلاة مع كونها داخلة في سائر العبادات التي يفعلها المتمسكون بالتوراة، لأنها رأس العبادات وأعظمها، فكان ذلك وجهاً لتخصيصها بالذكر‏.‏ وقيل لأنها تقام في أوقات مخصوصة، والتمسك بالكتاب مستمرّ، فذكرت لهذا وفيه نظر‏.‏ فإن كل عبادة في الغالب تختصّ بوقت معين، ويجوز أن يكون الموصول معطوفاً على الموصول الذي قبله، وهو ‏{‏للذين يتقون‏}‏، وتكون ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ جملة معترضة‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏يَسُومُهُمْ سُوء العذاب‏}‏ قال محمد وأمته إلى يوم القيامة وسوء العذاب‏:‏ الجزية‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، قال ‏{‏سُوء العذاب‏}‏ الخراج‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وقطعناهم‏}‏ قال‏:‏ هم اليهود بسطهم الله في الأرض، فليس منها بقعة إلا وفيها عصابة منهم وطائفة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، في قوله‏:‏ ‏{‏لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ‏}‏ قال‏:‏ على اليهود والنصارى ‏{‏إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سُوء العذاب‏}‏ فبعث الله عليهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يأخذون منهم الجزية، وهم صاغرون ‏{‏وقطعناهم فِي الأرض أُمَمًا‏}‏ قال‏:‏ يهود ‏{‏مّنْهُمُ الصالحون‏}‏ وهم مسلمة أهل الكتاب ‏{‏وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك‏}‏ قال‏:‏ اليهود ‏{‏وبلوناهم بالحسنات‏}‏ قال‏:‏ الرخاء والعافية ‏{‏والسيئات‏}‏ قال‏:‏ البلاء والعقوبة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس ‏{‏وبلوناهم بالحسنات والسيئات‏}‏ بالخصب والجدب‏.‏

وأخرج أبو الشيخ، عنه، أنه سئل عن هذه الآية ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى‏}‏ قال‏:‏ أقوام يقبلون على الدنيا، فيأكلونها، ويتبعون رخص القرآن ‏{‏وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا‏}‏ ولا يعرض لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ‏}‏ قال‏:‏ النصارى ‏{‏يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى‏}‏ قال‏:‏ ما أشرف لهم من شيء من الدنيا حلالاً أو حراماً يشتهونه أخذوه، ويتمنون المغفرة، وإن يجدوا الغد مثله يأخذوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ‏}‏ الآية يقول‏:‏ يأخذون ما أصابوا ويتركون ما شاءوا من حلال أو حرام ‏{‏وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا‏}‏‏.‏

وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق‏}‏ فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون إليها ولا يتوبون منها‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي زيد، في قوله‏:‏ ‏{‏وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ‏}‏ قال‏:‏ علموا ما في الكتاب، لم يأتوه بجهالة‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الحسن، في قوله‏:‏ ‏{‏والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب‏}‏ قال‏:‏ هي لأهل الإيمان منهم‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب‏}‏ قال‏:‏ من اليهود والنصارى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏171- 171‏]‏

‏{‏وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏171‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ‏}‏ منصوب بفعل مقدر معطوف على ما قبله، أي واسألهم إذ نتقنا الجبل، أي رفعنا الجبل ‏{‏فَوْقَهُمُ‏}‏ و‏{‏كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ‏}‏ أي‏:‏ كأنه لارتفاعه سحابة تظلهم، والظلة‏:‏ اسم لكل ما أظلّ، وقرئ «طلة» بالطاء من أطلّ عليه إذا أشرف ‏{‏وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ ساقط عليهم‏.‏ قيل‏:‏ الظنّ هنا بمعنى العلم‏.‏ وقيل‏:‏ هو على بابه ‏{‏خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ‏}‏ هو على تقدير القول، أي وقلنا لهم خذوا، والقوّة‏:‏ الجدّ والعزيمة، أي أخذاً كائناً بقوّة ‏{‏واذكروا مَا فِيهِ‏}‏ من الأحكام التي شرعها الله لكم، ولا تنسوه ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ رجاء أن تتقوا ما نهيتهم عنه، وتعملوا بما أمرتم به، وقد تقدّم تفسير ‏"‏ ما ‏"‏ هنا في البقرة مستوفى، فلا نعده‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذ نَتَقْنَا الجبل‏}‏ يقول‏:‏ رفعناه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 154‏]‏ فقال‏:‏ ‏{‏خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ‏}‏ وإلا أرسلته عليكم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عنه، في الآية قال‏:‏ رفعته الملائكة فوق رؤوسهم، فقيل لهم‏:‏ ‏{‏خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ‏}‏ فكانوا إذا نظروا إلى الجبل قالوا سمعنا وأطعنا، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا سمعنا وعصينا‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، أيضاً قال‏:‏ إني لأعلم لم تسجد اليهود على حرف، قال الله ‏{‏وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ لتأخذنّ أمري أو لأرمينكم به، فسجدوا وهم ينظرون إليه مخافة أن يسقط عليهم، وكانت سجدة رضيها الله سبحانه فاتخذوها سنة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة ‏{‏وَإِذ نَتَقْنَا الجبل‏}‏ قال‏:‏ انتزعه الله من أصله، ثم جعله فوق رؤوسهم، ثم قال‏:‏ لتأخذنّ أمري أو لأرمينكم به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏172- 174‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ‏(‏172‏)‏ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏173‏)‏ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏174‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ‏}‏ منصوب بفعل مقدّر معطوف على ما قبله كما تقدّم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏مِن بَنِى ءادَمَ‏}‏ استدلّ بهذا على أن المراد بالمأخوذين هنا‏:‏ هم ذرية بني آدم، أخرجهم الله من أصلابهم نسلاً بعد نسل‏.‏

وقد ذهب إلى هذا جماعة من المفسرين، قالوا‏:‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ‏}‏ دلهم بخلقه على أنه خالقهم، فقامت هذه الدلالة مقام الإِشهاد، فتكون هذه الآية من باب التمثيل، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ أن الله سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجسام، وأنه جعل فيها من المعرفة ما فهمت به خطابه سبحانه‏.‏ وقيل المراد ببني آدم هنا‏:‏ آدم نفسه، كما وقع في غير هذا الموضع‏.‏ والمعنى أن الله سبحانه لما خلق آدم مسح ظهره، فاستخرج منه ذريته، وأخذ عليهم العهد، وهؤلاء هم عالم الذرّ، وهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، ولا المصير إلى غيره، لثبوته مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وموقوفاً على غيره من الصحابة، ولا ملجئ للمصير إلى المجاز، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل‏.‏ وسنذكر آخر هذا البحث إن شاء الله بعض ما ورد في ذلك‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏مِن ظُهُورِهِمْ‏}‏ هو بدل من بني آدم، بدل بعض من كل‏.‏ وقيل بدل اشتمال قوله‏:‏ ‏{‏ذرياتهم‏}‏، قرأ الكوفيون وابن كثير «ذريتهم» بالتوحيد، وهي تقع على الواحد والجمع‏.‏ وقرأ الباقون «ذرياتهم» بالجمع ‏{‏وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ أشهد كل واحد منهم ‏{‏أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ قائلاً ألست بربكم، فهو على إرادة القول ‏{‏قَالُواْ بلى شَهِدْنَا‏}‏ أي‏:‏ على أنفسنا بأنك ربنا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَن تَقُولُواْ‏}‏، قرأ أبو عمرو بالياء التحتية في هذا وفي قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يَقُولُواْ‏}‏ على الغيبة كما كان فيما قبله على الغيبة، وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب‏.‏ والمعنى‏:‏ كراهة أن يقولوا، أو لئلا يقولوا، أي‏:‏ فعلنا ذلك الأخذ والإشهاد، كراهة أن يقولوا ‏{‏يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين‏}‏ أي‏:‏ عن كون الله ربنا وحده لا شريك له‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ‏}‏ معطوف على ‏{‏تَقُولُواْ‏}‏ الأوّل أي‏:‏ فعلنا ذلك كراهة أن تعتذروا بالغفلة، أو تنسبوا الشرك إلى آبائكم دونكم، و‏"‏ أَوْ ‏"‏ لمنع الخلوّ دون الجمع، فقد يعتذرون بمجموع الأمرين ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ من قبل زماننا ‏{‏وَكُنَّا ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ‏}‏ لا نهتدي إلى الحق، ولا نعرف الصواب ‏{‏أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون‏}‏ من آبائنا، ولا ذنب لنا لجهلنا وعجزنا عن النظر، واقتفائنا آثار سلفنا، بين الله سبحانه في هذه الحكمة التي لأجلها أخرجهم من ظهر آدم، وأشهدهم على أنفسهم، وأنه فعل ذلك بهم لئلا يقولوا هذه المقالة يوم القيامة، ويعتلوا بهذه العلة الباطلة، ويعتذروا بهذه المعذرة الساقطة ‏{‏وكذلك‏}‏ أي‏:‏ ومثل ذلك التفصيل ‏{‏نُفَصّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ إلى الحق، ويتركون ما هم عليه من الباطل‏.‏

وقد أخرج مالك في الموطأ، وأحمد في المسند، وعبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان في صحيحه، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، والضياء في المختارة‏:‏ أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ‏}‏ الآية فقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عنها فقال‏:‏ «إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال‏:‏ خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون‏.‏ ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذرية، فقال‏:‏ خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون»، فقال رجل‏:‏ يا رسول الله ففيم العمل‏؟‏ فقال‏:‏ «إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله النار» وأخرج أحمد، وابن جرير، والنسائي، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان، يوم عرفة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلمهم فقال‏:‏ ‏{‏أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏المبطلون‏}‏» وإسناده لا مطعن فيه‏.‏ وقد أخرجه ابن أبي حاتم موقوفاً على ابن عباس‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن منده في كتاب «الردّ على الجهمية» عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «‏{‏وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم‏}‏، قال‏:‏ أخذهم من ظهره كما يؤخذ المشط من الرأس، فقال لهم‏:‏ ألست بربكم‏؟‏ قالوا بلى، قالت الملائكة‏:‏ ‏{‏شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين‏}‏» وفي إسناده أحمد بن أبي طبية أبو محمد الجرجاني قاضي قومس كان أحد الزهاد، وأخرج له النسائي في سننه‏.‏ وقال أبو حاتم الرازي‏:‏ يكتب حديثه‏.‏ وقال ابن عديّ‏:‏ حدث بأحاديث كثيرة غرائب‏.‏ وقد روى هذا الحديث عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الله ابن عمر، وهؤلاء أئمة ثقات‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والطبراني، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، عن أبي أمامة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«لما خلق الله الخلق، وقضى القضية، وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء، فأخذ أهل اليمين بيمينه، وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى وكلتا يدي الرحمن يمين، فقال‏:‏ يا أصحاب اليمين، فاستجابوا له فقالوا‏:‏ لبيك ربنا وسعديك، قال‏:‏ ألست بربكم قالوا بلى» الحديث‏.‏ والأحاديث في هذا الباب كثيرة، بعضها مقيد بتفسير هذه الآية، وبعضها مطلق يشتمل على ذكر إخراج ذرية آدم من ظهره، وأخذ العهد عليهم، كما في حديث أنس مرفوعاً في الصحيحين وغيرهما‏.‏

وأما المروي عن الصحابة في تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من صلبه في عالم الذرّ، وأخذ العهد عليهم وإشهادهم على أنفسهم فهي كثيرة، منها عن ابن عباس، عند عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ‏}‏ الآية قال‏:‏ خلق الله آدم وأخذ ميثاقه أنه ربه، وكتب أجله ورزقه، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر، فأخذ مواثيقهم أنه ربهم، وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصيباتهم‏.‏ وأخرج نحوه عنه ابن جرير، وابن أبي حاتم‏.‏ وأخرج نحوه عنه أيضاً ابن جرير، وابن المنذر‏.‏ وأخرج نحوه عنه عبد الرزاق وابن المنذر‏.‏ وأخرج نحوه عنه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن منده‏.‏ وهذا المعنى مروي عنه من طرق كثيرة غير هذه موقوفة عليه‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عبد الله بن عمر في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ‏}‏ الآية قال‏:‏ أخذهم كما يأخذ المشط من الرأس‏.‏ وأخرج ابن عبد البرّ في التمهيد عن ابن مسعود، وناس من الصحابة في تفسير الآية نحوه‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وعبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن منده، وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات، والضياء في المختارة، وابن عساكر في تاريخه، عن أبيّ بن كعب في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ‏}‏ الآية قال‏:‏ جمعهم جميعاً فجعلهم أرواحاً في صورهم، ثم استنطقهم فتكلموا، ثم أخذ عليهم العهد والميثاق، ثم أشهدهم على أنفسهم‏.‏

وقد روي عن جماعة ممن بعد الصحابة تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من ظهره، وفيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسيرها مما قدمنا ذكره ما يغني عن التطويل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏175- 178‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ‏(‏175‏)‏ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏176‏)‏ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ‏(‏177‏)‏ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏178‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏واتل‏}‏ معطوف على الأفعال المقدّرة في القصص السابقة وإيراد هذه القصة منه سبحانه، وتذكير أهل الكتاب بها، لأنها كانت مذكورة عندهم في التوراة‏.‏

وقد اختلف في هذا الذي أوتي الآيات ‏{‏فانسلخ مِنْهَا‏}‏ فقيل‏:‏ هو بلعم بن باعوراء، وكان قد حفظ بعض الكتب المنزلة‏.‏ وقيل‏:‏ كان قد أوتي النبوّة، وكان مجاب الدعوة، بعثه الله إلى مدين يدعوهم إلى الإيمان، فأعطوه الأعطية الواسعة، فاتبع دينهم، وترك ما بعث به، فلما أقبل موسى في بني إسرائيل لقتال الجبارين، سأل الجبارون بلعم بن باعوراء أن يدعو على موسى، فقام ليدعو عليه فتحوّل لسانه بالدعاء على أصحابه، فقيل له في ذلك فقال‏:‏ لا أقدر على أكثر مما تسمعون‏.‏ واندلع لسانه على صدره، فقال قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة، وسأمكر لكم، وإني أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم، فإن الله يبغض الزنا، فإن وقعوا فيه هلكوا، فوقع بنو إسرائيل في الزنا، فأرسل الله عليهم الطاعون، فمات منهم سبعون ألفاً‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا الرجل اسمه باعم، وهو من بني إسرائيل‏.‏ وقيل المراد به أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولاً في ذلك، فلما أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به‏.‏ وقيل هو أبو عامر بن صيفي وكان يلبس المسوح في الجاهلية، فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في قريش آتاهم الله آياته التي أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا بها‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في اليهودوالنصارى، انتظروا خروج محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فانسلخ مِنْهَا‏}‏ أي‏:‏ من هذه الآيات التي أوتيها، كما تنسلخ الشاة عن جلدها، فلم يبق له بها اتصال ‏{‏فَأَتْبَعَهُ الشيطان‏}‏ عند انسلاخه عن الآيات، أي لحقه فأدركه، وصار قريناً له، أو فأتبعه خطواته، وقرئ «فاتبعه» بالتشديد بمعنى تبعه ‏{‏فَكَانَ مِنَ الغاوين‏}‏ المتمكنين في الغواية وهم الكفار‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه بِهَا‏}‏ الضمير يعود إلى الذي أوتي الآيات، والمعنى‏:‏ لو شئنا رفعه‏:‏ بما آتيناه من الآيات لرفعناه بها، أي بسببها، ولكن لم نشأ ذلك لانسلاخه عنها، وتركه للعمل بها‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ ولو شئنا لأمتناه قبل أن يعصي فرفعناه إلى الجنة بها، أي بالعمل بها ‏{‏ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض‏}‏ أصل الإخلاد‏:‏ اللزوم، يقال أخلد فلان بالمكان إذا قام به ولزمه، والمعنى هنا‏:‏ أنه مال إلى الدنيا ورغب فيها، وآثرها على الآخرة ‏{‏واتبع هَوَاهُ‏}‏ أي‏:‏ اتبع ما يهواه، وترك العمل بما يقتضيه العلم الذي علمه الله، وهو حطام الدنيا‏.‏

وقيل‏:‏ كان هواه مع الكفار‏.‏ وقيل‏:‏ اتبع رضا زوجته، وكانت هي التي حملته على الانسلاخ من آيات الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب‏}‏ أي‏:‏ فصار لما انسلخ عن الآيات ولم يعمل بها منحطاً إلى أسفل رتبة، مشابهاً لأخس الحيوانات في الدناءة مماثلاً له في أقبح أوصافه، وهو أنه يلهث في كلا حالتي قصد الإنسان له وتركه‏.‏ فهو لاهث سواء زجر أو ترك، طرد أو لم يطرد، شدّ عليه أو لم يشد عليه، وليس بعد هذا في الخسة والدناءة شيء، وجملة ‏{‏إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث‏}‏ في محل نصب على الحال، أي مثله كمثل الكلب حال كونه متصفاً بهذه الصفة، والمعنى‏:‏ أن هذا المنسلخ عن الآيات لا يرعوى عن المعصية في جميع أحواله، سواء وعظه الواعظ، وذكره المذكر، وزجره الزاجر، أو لم يقع شيء من ذلك‏.‏

قال القتيبي‏:‏ كل شيء يلهث، فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال، وحال الراحة، وحال المرض، وحال الصحة، وحال الري، وحال العطش‏.‏ فضربه الله مثلاً لمن كذب بآياته؛ فقال‏:‏ إن وعظته ضلّ، وإن تركته ضلّ، فهو كالكلب إن تركته لهث، وإن طردته لهث، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 193‏]‏ واللهث‏:‏ إخراج اللسان لتعب أو عطش أو غير ذلك‏.‏ قال الجوهري‏:‏ لهث الكلب بالفتح يلهث لهثاً ولهاثاً بالضم إذا أخرج لسانه من التعب أو العطش، وكذلك الرجل إذا أعيا‏.‏ قيل معنى الآية‏:‏ أنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هارباً، وإن تركته شدّ عليك ونبح، فيتعب نفسه مقبلاً عليك ومديراً عنك، فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان‏.‏

والإشارة بقوله ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما تقدّم من التمثيل بتلك الحالة الخسيسة‏.‏ وهو مبتدأ وخبره ‏{‏مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا‏}‏ أي‏:‏ ذلك المثل الخسيس مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا من اليهود، بعد أن علموا بها وعرفوها، فحرفوا وبدّلوا، وكتموا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبوا بها ‏{‏فاقصص القصص‏}‏ أي فاقصص عليهم هذا القصص الذي هو صفة الرجل المنسلخ عن الآيات، فإن مثله المذكور كمثل هؤلاء القوم المكذبين من اليهود الذين تقص عليهم ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ في ذلك ويعملون فيه أفهامهم، فينزجرون عن الضلال، ويقبلون على الصواب‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏سَاء مَثَلاً القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا‏}‏ هذه الجملة متضمنة لبيان حال هؤلاء القوم البالغة في القبح إلى الغاية، يقال ساء الشيء قبح، فهو لازم، وساءه يسوؤه مساءة‏:‏ فهو متعد وهو من أفعال الذم‏:‏ كبئس، وفاعله ضمير مستتر فيه، و‏{‏مثلاً‏}‏ تمييز مفسر له، والمخصوص بالذم هو ‏{‏الذين كذبوا بآياتنا‏}‏، ولا بدّ من تقدير مضاف محذوف لأجل المطابقة، أي‏:‏ ساء مثلاً مثل القوم الذين كذبوا‏.‏

وقال الأخفش‏:‏ جعل المثل القوم مجازاً، والقوم مرفوع بالابتداء أو على إضمار مبتدأ، التقدير‏:‏ ساء المثل مثلاً هو مثل القوم، كذا قال‏.‏ وقدره أبو علي الفارسي‏:‏ ساء مثلاً مثل القوم كما قدّمنا‏.‏ وقرأ الجحدري والأعمش «وَسَاء مَثَلُ القوم»‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ ما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم، لا يتعداها ظلمهم إلى غيرها ولا يتجاوزها‏.‏ والجملة معطوفة على التي قبلها على معنى أنهم جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم ‏{‏مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدى‏}‏ لما أمر به وشرعه لعباده ‏{‏وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون‏}‏ الكاملون في الخسران، من هداه فلا مضلّ له، ومن أضله فلا هادي له، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن‏.‏

وقد أخرج الفريابي، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن مسعود، في قوله‏:‏ ‏{‏واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذى ءاتيناه ءاياتنا‏}‏ قال‏:‏ هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن آبر‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه، من طرق عن ابن عباس قال‏:‏ هو بلعم بن باعوراء‏.‏ وفي لفظ‏:‏ بلعام بن باعر الذي أوتي الاسم كان في بني إسرائيل‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذى ءاتيناه ءاياتنا‏}‏ قال‏:‏ هو رجل من مدينة الجبارين يقال له بلعم، تعلم اسم الله الأكبر، فلما نزل بهم موسى أتاه بنو عمه وقومه فقالوا‏:‏ إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يردّ عنا موسى ومن معه، قال‏:‏ إني إن دعوت الله أن يردّ موسى ومن معه مضت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به حتى دعا الله فسلخ ما كان فيه‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث‏}‏ قال‏:‏ إن حمل الحكمة لم يحملها، وإن ترك لم يهتد لخير، كالكلب إن كان رابضاً لهث وإن يطرد لهث‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، في الآية قال‏:‏ هو رجل أعطى ثلاث دعوات يستجاب له فيهن، وكانت له امرأة له منها ولد، فقالت‏:‏ اجعل لي منها واحدة، قال‏:‏ فلك واحدة فما الذي تريدين‏؟‏ قالت ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل، فدعا الله فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل؛ فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه، وأرادت شيئاً آخر، فدعا الله أن يجعلها كلبة فصارت كلبة، فذهبت دعوتان، فجاء بنوها فقالوا‏:‏ ليس بنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها، فادع الله أن يردّها إلى الحال التي كانت عليه، فدعا الله فعادت كما كانت فذهبت الدعوات الثلاث وسميت البسوس‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن عبد الله بن عمرو، في الآية‏:‏ قال‏:‏ هو أمية بن أبي الصلت الثقفي، وفي لفظ‏:‏ نزلت في صاحبكم أمية بن أبي الصلت‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر، عنه نحوه‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن الشعبي في هذه الآية قال‏:‏ قال ابن عباس هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعام بن باعوراء، وكانت الأنصار تقول‏:‏ هو ابن الراهب الذي بنى له مسجد الشقاق‏.‏ وكانت ثقيف تقول‏:‏ هو أمية بن أبي الصلت‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال‏:‏ هو صيفي بن الراهب‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عنه، في قوله‏:‏ ‏{‏فانسلخ مِنْهَا‏}‏ قال‏:‏ نزع منه العلم، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه بِهَا‏}‏ قال‏:‏ رفعه الله بعلمه‏.‏ وأخرج مسلم، والنسائي، وابن ماجه، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن جابر بن عبد الله، قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يحمد الله ويثنى عليه بما هو أهله، ثم يقول‏:‏ ‏"‏ من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» ثم يقول‏:‏ «بعثت أنا والساعة كهاتين ‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏179- 179‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ‏(‏179‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا‏}‏ أي خلقنا‏.‏ وقد تقدّم بيان أصل معناه مستوفى، وهذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها، ‏{‏لِجَهَنَّمَ‏}‏ أي‏:‏ للتعذيب بها ‏{‏كَثِيراً‏}‏ أي خلقاً كثيراً ‏{‏مّنَ الجن والإنس‏}‏ أي من طائفتي الجنّ والإنس، جعلهم سبحانه للنار بِعَدْ لِه، وبعمل أهلها يعملون‏.‏ وقد علم ما هم عاملون قبل كونهم، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، ثم وصف هؤلاء فقال‏:‏ ‏{‏لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا‏}‏ كما يفقه غيرهم بعقولهم‏.‏ وجملة ‏{‏لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا‏}‏ في محل رفع على أنها صفة لقلوب‏.‏ وجملة ‏{‏لَهُمْ قُلُوبٌ‏}‏ في محل نصب صفة ل ‏{‏كثيراً‏}‏ جعل سبحانه قلوبهم لما كانت غير فاقهة لما فيه نفعهم وإرشادهم، غير فاقهة مطلقاً، وإن كانت تفقه في غير ما فيه النفع والرشاد فهو كالعدم، وهكذا معنى ‏{‏وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا‏}‏ فإن الذي انتقى من الأعين هو إبصار ما فيه الهداية بالتفكر والاعتبار، وإن كانت مبصرة في غير ذلك، والذي انتقى من الآذان هو سماع المواعظ النافعة، والشرائع التي اشتملت عليها الكتب المنزلة‏.‏ وما جاءت به رسل الله، وإن كانوا يسمعون غير ذلك‏.‏ والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إلى هؤلاء المتصفين بهذه الأوصاف كالأنعام في انتفاء انتفاعهم بهذه المشاعر، ثم حكم عليهم بأنهم أضلّ منها، لأنها تدرك بهذه الأمور ما ينفعها ويضرّها، فينتفع بما ينفع، وتجتنب ما يضرّ، وهؤلاء لا يميزون بين ما ينفع وما يضرّ باعتبار ما طلبه الله منهم وكلفهم به، ثم حكم عليهم بالغفلة الكاملة لما هم عليه من عدم التمييز الذي هو من شأن من له عقل وبصر وسمع‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا‏}‏ قال‏:‏ خلقنا‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن الحسن في الآية قال خلقنا لجهنم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وابن النجار، عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله لما ذرأ لجهنم من ذرأ كان ولد الزنا ممن ذرأ لجهنم» وأخرج ابن جرير، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ‏}‏ قال‏:‏ لقد خلقنا لجهنم ‏{‏لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا‏}‏ قال‏:‏ لا يفقهون شيئاً من أمور الآخرة ‏{‏وَلَهُمْ آذانٌ لاَّ يَسمَعُونَ بِهَا‏}‏ الهدى ‏{‏وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا‏}‏ الحق، ثم جعلهم كالأنعام، ثم جعلهم شراً من الأنعام، فقال‏:‏ ‏{‏بَلْ هُمْ أَضَلُّ‏}‏ ثم أخبر أنهم الغافلون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏180- 180‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏180‏)‏‏}‏

هذه الآية مشتملة على الإخبار من الله سبحانه بماله من الأسماء، على الجملة دون التفصيل، والحسنى تأنيث الأحسن، أي التي هي أحسن الأسماء لدلالتها على أحسن مسمى وأشرف مدلول، ثم أمرهم بأن يدعوه بها عند الحاجة، فإنه إذا دعي بأحسن أسمائه كان ذلك من أسباب الإجابة، وقد ثبت في الصحيح‏:‏ ‏"‏ إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة ‏"‏ وسيأتي، ويأتى أيضاً بيان عددها، آخر البحث إن شاء الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ‏}‏ الإلحاد‏:‏ الميل وترك القصد‏.‏ يقال لحد الرجل في الدين وألحد‏:‏ إذا مال، ومنه اللحد في القبر، لأنه في ناحية، وقرئ «يلحدون» وهما لغتان، والإلحاد في أسمائه سبحانه يكون على ثلاثة أوجه، إما بالتغيير كما فعله المشركون، فإنهم أخذوا اسم اللات من الله، والعزّى من العزيز، ومناة من المنان؛ أو بالزيادة عليها بأن يخترعوا أسماء من عندهم لم يأذن الله بها، أو بالنقصان منها بأن يدعوه ببعضها دون بعض‏.‏ ومعنى ‏{‏وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ‏}‏ أتركوهم ولا تحاجوهم، ولا تعرضوا لهم، وعلى هذا المعنى فالآية منسوخة بآيات القتال، وقيل معناه الوعيد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 3‏]‏ وهذا أولى لقوله‏:‏ ‏{‏سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ فإنه وعيد لهم بنزول العقوبة، وتحذير للمسلمين أن يفعلوا كفعلهم‏.‏ وقد ذكر مقاتل وغيره من المفسرين، أن هذه الآية نزلت في رجل من المسلمين كان يقول في صلاته يا رحمن يا رحيم، فقال رجل من المشركين أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً فما بال هذا يدعو ربين اثنين‏؟‏ حكى ذلك القرطبي‏.‏

وقد أخرج أحمد، والبخاري ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وأبو عوانة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن منده، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن لله تسعة وتسعين إسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة إنه وتريحب الوتر ‏"‏ وفي لفظ ابن مردويه وأبي نعيم «من دعا بها استجاب الله دعاءه» وزاد الترمذي في سننه بعد قوله ‏"‏ يحبّ الوتر ‏"‏ «هو الله الذي لا إله إلا هو الرّحمن الرّحيم، الملك، القدّوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العليّ، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الوليّ، الحميد، المحصى، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدّم، المؤخر، الأوّل، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالى، البرّ، التوّاب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضارّ، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور»‏.‏

هكذا أخرج الترمذي هذه الزيادة عن الجوزجاني، عن صفوان بن صالح، عن الوليد بن مسلم، عن شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعة وقال‏:‏ هذا حديث غريب‏.‏ وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة، ولا يعلم في كثير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث‏.‏ ورواه ابن حبان في صحيحه، وابن خزيمة، والحاكم من طريق صفوان بإسناده السابق‏.‏ ورواه ابن ماجه في سننه من طريق أخرى، عن موسى ابن عقبة، عن الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعاً، فسرد الأسماء المتقدّمة بزيادة ونقصان‏.‏

قال ابن كثير في تفسيره والذي عوّل عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه‏.‏ وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم، وعبد الملك بن محمد الصنعاني، عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك، أي أنهم جمعوها من القرآن كما روي عن جعفر بن محمد، وسفيان بن عيينة، وأبي زيد اللغوي‏.‏

قال‏:‏ ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في التسعة والتسعين، بدليل ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن يزيد بن هارون، عن فضيل ابن مرزوق، عن أبي سلمة الجهنى، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «ما أصاب أحداً قط همّ ولا حزن، فقال‏:‏ اللهم إني عبدك ابن عبدك وأمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرجاً» فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها‏؟‏ فقال‏:‏ «بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها» وقد أخرجه الإمام أبو حاتم بن حبان في صحيحه بمثله انتهى‏.‏ وأخرجه البيهقي أيضاً في الأسماء والصفات‏.‏

قال ابن حزم‏:‏ جاءت في إحصائها، يعني الأسماء الحسنى أحاديث مضطربة لا يصح منها شيء أصلاً‏.‏ وقد أخرجها بهذا العدد الذي أخرجه الترمذي، وابن مردويه، وأبو نعيم، عن ابن عباس، وابن عمر قالا‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكراه، ولا أدري كيف إسناده‏.‏

وأخرج ابن أبي الدنيا، والطبراني كلاهما في الدعاء، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي عن أبي هريرة‏:‏ إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة‏:‏ أسأل الله الرحمن، الرحيم، الإله، الربّ، الملك، القدّوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصوّر، الحليم، العليم، السميع، البصير، الحي، القيوم، الواسع، اللطيف، الخبير، الحنان، المنان، البديع، الغفور، الودود، الشكور، المجيد، المبدئ، المعيد، النور، البارئ- وفي لفظ‏:‏ القائم- الأوّل، الآخر، الظاهر، الباطن، العفوّ، الغفار، الوهاب، الفرد- وفي لفظ‏:‏ القادر- الأحد، الصمد، الوكيل، الكافي، الباقي، المغيث، الدائم، المتعالي، ذا الجلال والإكرام، المولى، البصير، الحق، المتين، الوارث، المنير، الباعث، القدير- وفي لفظ‏:‏ المجيب- المحيي، المميت الحميد- وفي لفظ‏:‏ الجميل- الصادق، الحفيظ، المحيط، الكبير، القريب، الرقيب، الفتاح، التواب، القديم، الوتر، الفاطر، الرزاق، العلام، العلي، العظيم، الغني، الملك، المقتدر، الأكرم، الرؤوف، المدبر، المالك، القاهر، الهادي، الشاكر، الكريم، الرفيع، الشهيد، الواحد، ذا الطول، ذا المعارج، ذا الفضل، الخلاق، الكفيل، الجليل‏.‏

وأخرج أبو نعيم عن محمد بن جعفر قال‏:‏ سألت أبي جعفر بن محمد الصادق عن الأسماء التسعة والتسعين التي من أحصاها دخل الجنة‏؟‏ فقال‏:‏ هي في القرآن، ففي الفاتحة خمسة أسماء‏:‏ يا الله، يا ربّ، يا رحمن، يا رحيم، يا ملك‏.‏ وفي البقرة ثلاثة وثلاثون اسماً‏:‏ يا محيط، يا قدير، يا عليم، يا حكيم، يا علي، يا عظيم، يا تواب، يا بصير، يا ولي، يا واسع، يا كافي، يا رؤوف، يا بديع، يا شاكر، يا واحد، يا سميع، يا قابض، يا باسط، يا حيّ، يا قيوم، يا غني، يا حميد، يا غفور، يا حليم، يا إله، يا قريب، يا مجيب، يا عزيز، يا نصير، يا قوي، يا شديد، يا سريع، يا خبير‏.‏ وفي آل عمران‏:‏ يا وهاب، يا قائم، يا صادق، يا باعث، يا منعم، يا متفضل‏.‏ وفي النساء‏:‏ يا رقيب، يا حسيب، يا شهيد، يا مقيت، يا وكيل، يا عليّ، يا كبير‏.‏ وفي الأنعام‏:‏ يا فاطر، يا قاهر، يا لطيف، يا برهان‏.‏ وفي الأعراف‏:‏ يا محيي، يا مميت‏.‏ وفي الأنفال‏:‏ يا نعم المولى، ويا نعم النصير، وفي هود‏:‏ يا حفيظ، يا مجيد، يا ودود، يا فعال لما تريد‏.‏ وفي الرعد‏:‏ يا كبير، يا متعالي‏.‏ وفي إبراهيم‏:‏ يا منان، يا وارث‏.‏ وفي الحجر‏:‏ يا خلاق‏.‏ وفي مريم‏:‏ يا فرد‏.‏ وفي طه‏:‏ يا غفار‏.‏ وفي قد أفلح‏:‏ يا كريم‏.‏ وفي النور‏:‏ يا حق، يا مبين‏.‏ وفي الفرقان‏:‏ يا هادي‏.‏ وفي سبأ‏:‏ يا فتاح‏.‏ وفي الزمر‏:‏ يا عالم‏.‏ وفي غافر‏:‏ يا قابل التوب، ياذا الطول، يا رفيع‏.‏ وفي الذاريات‏:‏ يا رزاق، ياذا القوة، يا متين‏.‏ وفي الطور‏:‏ يا برّ‏.‏ وفي اقتربت‏:‏ يا مقتدر، يا مليك‏.‏ وفي الرحمن‏:‏ ياذا الجلال والإكرام، يا رب المشرقين، يا ربّ المغربين، يا باقي، يا معين‏.‏

وفي الحديد‏:‏ يا أوّل، يا آخر، يا ظاهر، يا باطن‏.‏ وفي الحشر‏:‏ يا ملك، يا قدّوس، يا سلام، يا مؤمن، يا مهيمن، يا عزيز، يا جبار، يا متكبر، يا خالق، يا بارئ، يا مصوّر‏.‏ وفي البروج‏:‏ يا مبدئ، يا معيد‏.‏ وفي الفجر‏:‏ يا وتر‏.‏ وفي الإخلاص‏:‏ يا أحد، يا صمد‏.‏ انتهى‏.‏

وقد ذكر ابن حجر في التلخيص أنه تتبعها من الكتاب العزيز إلى أن حرّرها منه تسعة وتسعين ثم سردها فابحثه‏.‏ ويؤيد هذا ما أخرجه أبو نعيم، عن ابن عباس، وابن عمر، قالا‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة، وهي في القرآن ‏"‏ وأخرج البيهقي، عن عائشة أنها قالت‏:‏ «يا رسول الله علمني اسم الله الذي إذا دعى به أجاب، قال لها‏:‏ ‏"‏ قومي فتوضيء وادخلي المسجد فصلي ركعتين ثم ادعي حتى أسمع ‏"‏، ففعلت؛ فلما جلست للدعاء قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اللهم وفقها ‏"‏، فقالت‏:‏ اللهمّ إني أسألك بجميع أسمائك الحسنى كلها ما علمنا منها وما لم نعلم، وأسألك باسمك العظيم الأعظم الكبير، الأكبر، الذي من دعاك به أجبته، ومن سألك به أعطيته، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أصبتيه أصبتيه ‏"‏ وقد أطال أهل العلم الكلام على الأسماء الحسنى حتى أن ابن العربي في شرح الترمذي حكى عن بعض أهل العلم أنه جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألف اسم‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ‏}‏ قال‏:‏ الإلحاد، أن يدعو اللات والعزّى في أسماء الله‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه، قال‏:‏ الإلحاد التكذيب‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في الآية قال‏:‏ اشتقوا العزّى من العزيز، واشتقوا اللات من الله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطاء في الآية قال‏:‏ الإلحاد المضاهاة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش أنه قرأ ‏{‏يلحدون‏}‏ من لحد، وقال تفسيرها‏:‏ يدخلون فيها ما ليس منها‏.‏ وأخرج عبد الرزاق بن حميد، وابن جرير، عن قتادة، في الآية قال‏:‏ يشركون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏181- 186‏]‏

‏{‏وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ‏(‏181‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏182‏)‏ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ‏(‏183‏)‏ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏184‏)‏ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ‏(‏185‏)‏ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏186‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمِمَّنْ خَلَقْنَا‏}‏ خبر مقدّم و‏{‏أُمَّةٍ‏}‏ مبتدأ مؤخر، و‏{‏يَهْدُونَ‏}‏ وما بعده صفة له‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏وَمِمَّنْ خَلَقْنَا‏}‏ هو المبتدأ كما تقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أن من جملة من خلقه الله أمة يهدون الناس متلبسين بالحق، أو يهدونهم بما عرفوه من الحق‏.‏ ‏"‏ و‏"‏ بالحق ‏{‏يَعْدِلُونَ‏}‏ بينهم‏.‏ قيل‏:‏ هم من هذه الأمة، وإنهم الفرقة الذين لا يزالون على الحق ظاهرين، كما ورد في الحديث الصحيح‏.‏

ثم لما بين حال هذه الأمة الصالحة بين حال من يخالفهم فقال‏:‏ ‏{‏والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ والاستدراج‏:‏ هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة، والدرج‏:‏ كفّ الشيء، يقال أدرجته ودرجته، ومنه إدارج الميت في أكفانه‏.‏ وقيل‏:‏ هو من الدرجة، فالاستدراج‏:‏ أن يخطو درجة بعد درجة إلى المقصود، ومنه درج الصبيّ‏:‏ إذا قارب بين خطاه، وأدرج الكتاب‏:‏ طواه شيئاً بعد شيء، ودرج القوم‏:‏ مات بعضهم في إثر بعض‏.‏ والمعنى‏:‏ سنستدرجهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم، وذلك بإدرار النعم عليهم وإنسائهم شكرها، فينهمكون في الغواية، ويتنكبون طرق الهداية لاغترارهم بذلك، وأنه لم يحصل لهم إلا بما لهم عند الله من المنزلة والزلفة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَأُمْلِى لَهُمْ‏}‏ معطوف على سنستدرجهم، أي أطيل لهم المدّة وأمهلهم، وأؤخر عنهم العقوبة‏.‏ وجملة ‏{‏إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ‏}‏ مقرّرة لما قبلها من الاستدراج والإملاء، ومؤكدة له‏.‏ والكيد‏:‏ المكر، والمتين‏:‏ الشديد القويّ، وأصله من المتن وهو اللحم الغليظ الذي على جانب الصلب‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ سماه كيداً، لأنه شبيه بالكيد من حيث إنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان‏.‏

والاستفهام في ‏{‏أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ‏}‏ للإنكار عليهم، حيث لم يتفكروا في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما جاء به‏.‏ و«ما» في ‏{‏مَا بِصَاحِبِهِم‏}‏ للاستفهام الإنكاري، وهي في محل رفع بالابتداء والخبر ‏{‏بصاحبهم‏}‏، والجنة مصدر، أي وقع منهم التكذيب، ولم يتفكروا أيّ شيء من جنون كائن بصاحبهم كما يزعمون، فإنهم لو تفكروا لوجدوا زعمهم باطلاً، وقولهم زوراً وبهتاً‏.‏ وقيل إنّ «ما» نافية واسمها ‏{‏مّن جِنَّةٍ‏}‏ وخبرها بصاحبهم، أي ليس بصاحبهم شيء مما يدّعونه من الجنون، فيكون هذا رداً لقولهم‏:‏ ‏{‏ياأَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 6‏]‏ ويكون الكلام قد تمّ عند قوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ‏}‏‏.‏ والوقف عليه من الأوقاف الحسنة‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ مقررة لمضمون ما قبلها، ومبينة لحقيقة حال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ والاستفهام في ‏{‏أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ السموات والأرض‏}‏ للإنكار والتقريع والتوبيخ، ولقصد التعجيب من إعراضهم عن النظر في الآيات البينة الدالة على كمال قدرته وتفرده بالإلهية، والملكوت من أبنية المبالغة، ومعناه الملك العظيم وقد تقدّم بيانه‏.‏

والمعنى‏:‏ إن هؤلاء لم يتفكروا حتى ينتفعوا بالتفكر، ولا نظروا في مخلوقات الله حتى يهتدوا بذلك إلى الإيمان به، بل هم سادرون في ضلالتهم، خائضون في غوايتهم، لا يعملون فكراً، ولا يمعنون نظراً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقَ الله مِن شَئ‏}‏ أي‏:‏ لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض، ولا فيما خلق الله من شيء من الأشياء كائناً ما كان، فإن في كل مخلوقاته عبرة للمعتبرين، وموعظة للمتفكرين، سواء كانت من جلائل مصنوعاته كملكوت السموات والأرض، أومن دقائقها من سائر مخلوقاته‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ‏}‏ معطوف على ملكوت‏.‏ و«أن» هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن وخبرها ‏{‏عسى‏}‏ وما بعدها، أي أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، فيموتون عن قريب‏.‏ والمعنى‏:‏ إنهم إذا كانوا يجوّزون قرب آجالهم فما لهم لا ينظرون فيما يهتدون به، وينتفعون بالتفكر فيه والاعتبار به‏.‏ ‏{‏فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ‏}‏ الضمير يرجع إلى ما تقدّم من التفكر والنظر في الأمور المذكورة، أي فبأيّ حديث بعد هذا الحديث المتقدم بيانه يؤمنون‏؟‏ وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ ما لا يقادر قدره؛ وقيل الضمير للقرآن‏.‏ وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل للأجل المذكور قبله‏.‏

وجملة ‏{‏مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ‏}‏ مقررة لما قبلها، أي إن هذه الغفلة منهم عن هذه الأمور الواضحة البينة ليس إلا لكونهم ممن أضله الله، ومن يضلله فلا هادي له، أي فلا يوجد من يهديه إلى الحق، وينزعه عن الضلالة ألبتة ‏{‏وَيَذَرُهُمْ فِى طغيانهم يَعْمَهُونَ‏}‏ قرئ بالرفع على الاستئناف، وبالجزم عطفاً على محل الجزاء‏.‏ وقرئ بالنون‏.‏ ومعنى يعمهون‏:‏ يتحيرون‏.‏ وقيل‏:‏ يترددون، وهو في محل نصب على الحال‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق‏}‏ قال‏:‏ ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «هذه أمتي بالحق يحكمون ويقضون ويأخذون ويعطون» وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة، في الآية قال‏:‏ بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقولإذا قرأها‏:‏ «هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها» ‏{‏وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 159‏]‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في الآية قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم متى نزل» وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله‏:‏ ‏{‏سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ يقول‏:‏ سنأخذهم من حيث لا يعلمون‏.‏

قال‏:‏ عذاب بدر‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن يحيى بن المثنى في الآية قال‏:‏ كلما أحدثوا ذنباً جددنا لهم نعمة، تنسيهم الاستغفار‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا، وأبو الشيخ، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن سفيان في الآية قال‏:‏ نسبغ عليهم النعمة ونمنعهم شكرها‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا، والبيهقي عن ثابت البناني، أنه سئل عن الاستدراج فقال‏:‏ ذلك مكر الله بالعباد المضيعين‏.‏

وأخرج أبو الشيخ، في قوله‏:‏ ‏{‏وَأُمْلِى لَهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ أكفّ عنهم ‏{‏إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ‏}‏ إن مكري شديد، ثم نسخها الله فأنزل ‏{‏فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ كيد الله العذاب والنقمة‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، قال‏:‏ ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قام على الصفا، فدعا قريشاً فخذاً فخذاً‏:‏ يا بني فلان يا بني فلان، يحذرهم بأس الله ووقائع الله إلى الصباح حتى قال قائل‏:‏ إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوّت حتى أصبح، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏187- 192‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏187‏)‏ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏188‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏189‏)‏ فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏190‏)‏ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ‏(‏191‏)‏ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ‏(‏192‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة‏}‏ السائلون‏:‏ هم اليهود‏.‏ وقيل‏:‏ قريش‏.‏ والساعة‏:‏ القيامة‏.‏ وهي من الأسماء الغالبة، وإطلاقها على القيامة لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها‏.‏ و‏{‏أيان‏}‏ ظرف زمان مبني على الفتح‏.‏ قال الراجز‏:‏

أيان تقضي حاجتي أيانا *** أما ترى لنجحها أوانا

ومعناه معنى متى، واشتقاقه من أيّ‏.‏ وقيل من أين‏.‏ وقرأ السلمي «إيان» بكسر الهمزة وهو في موضع رفع على الخبر‏.‏ و‏{‏مرساها‏}‏ المبتدأ عند سيبويه‏.‏ و‏{‏مرساها‏}‏ بضم الميم، أي وقت إرسائها من أرساها الله، أي أثبتها، وبفتح الميم من رست، أي ثبتت، ومنه‏:‏ ‏{‏وَقُدُورٍ راسيات‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 13‏]‏، ومنه رسا الجبل‏.‏ والمعنى‏:‏ متى يرسيها الله، أي يثبتها ويوقعها‏.‏ وظاهر ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة‏}‏ أن السؤال عن نفس الساعة، وظاهر ‏{‏أَيَّانَ مرساها‏}‏ أن السؤال عن وقتها، فحصل من الجميع أن السؤال المذكور هو عن الساعة‏.‏ باعتبار وقوعها في الوقت المعين لذلك، ثم أمره الله سبحانه بأن يجيب عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي‏}‏ أي‏:‏ علمها باعتبار وقوعها عند الله، لا يعلمها غيره ولا يهتدي إليها سواه ‏{‏لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ‏}‏ أي‏:‏ لا يظهرها لوقتها، ولا يكشف عنها إلا الله سبحانه‏.‏ والتجلية‏:‏ إظهار الشيء، يقال جلى لي فلان الخبر‏:‏ إذا أظهره وأوضحه، وفي استئثار الله سبحانه بعلم الساعة حكمة عظيمة، وتدبير بليغ كسائر الأشياء التي أخفاها الله واستأثر بعلمها‏.‏ وهذه الجملة مقررة لمضمون التي قبلها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ثَقُلَتْ فِى السموات والأرض‏}‏ قيل معنى ذلك‏:‏ أنه لما خفي علمها على أهل السموات والأرض كانت ثقيلة، لأن كل ما خفي علمه ثقيل على القلوب‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ لا تطيقها السموات والأرض لعظمها، لأن السماء تنشق، والنجوم تتناثر، والبحار تنضب‏.‏ وقيل‏:‏ عظم وصفها عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ ثقلت المسألة عنها‏.‏ وهذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها أيضاً‏.‏ ‏{‏لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً‏}‏ إلا فجأة على غفلة‏.‏ والبغتة مصدر في موضع الحال‏.‏ وهذه الجملة كالتي قبلها في التقرير‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا‏}‏‏.‏ قال ابن فارس‏:‏ الحفيّ العالم بالشيء، والحفي المستقصى في السؤال، ومنه قول الأعشى‏:‏

فإن تسألي عني فيارب سائل *** حفيّ عن الأعشى به حيث أصعدا

يقال أحفى في المسألة وفي الطلب فهو محف، وحفيّ على التكثير مثل مخصب وخصيب‏.‏ والمعنى‏:‏ يسألونك عن الساعة كأنك عالم بها، أو كأنك مستقص للسؤال عنها ومستكثر منه‏.‏ والجملة التشبيهية في محل نصب على الحال، أي‏:‏ يسألونك مشبهاً حالك حال من هو حفيّ عنها‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ يسألونك عنها كأنك حفيّ بهم، أي حفيّ ببرهم وفرح بسؤالهم‏.‏ والأوّل‏:‏ هو معنى النظم القرآني على مقتضى المسلك العربي‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي‏}‏ أمره الله سبحانه بأن يكرّر ما أجاب به عليهم سابقاً لتقرير الحكم وتأكيده‏.‏

وقيل‏:‏ ليس بتكرير، بل أحدهما معناه الاستئثار بوقوعها، والآخر الاستئثار بكنهها نفسها ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ باستئثار الله بهذا، وعدم علم خلقه به، لم يعلمه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء الله‏}‏ هذه الجملة متضمنة لتأكيد ما تقدّم من عدم علمه بالساعة أيان تكون ومتى تقع، لأنه إذا كان لا يقدر على جلب نفع له، أو دفع ضرّ عنه إلا ماشاء الله سبحانه من النفع له والدفع عنه، فبالأولى أن لا يقدر على علم ما استأثر الله بعلمه، وفي هذا من إظهار العبودية والإقرار بالعجز عن الأمور التي ليست من شأن العبيد، والاعتراف بالضعف عن انتحال ما ليس له صلى الله عليه وسلم ما فيه أعظم زاجر، وأبلغ واعظ لمن يدّعي لنفسه ما ليس من شأنها، وينتحل علم الغيب بالنجامة أو الرمل أو الطرق بالحصا أو الزجر‏.‏ ثم أكّد هذا وقرّره بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير‏}‏ أي‏:‏ لو كنت أعلم جنس الغيب لتعرّضت لما فيه الخير فجلبته إلى نفسي، وتوقيت ما فيه السوء حتى لا يمسني، ولكني عبد لا أدري ما عند ربي، ولا ما قضاه فيَّ وقدره لي، فكيف أدري غير ذلك وأتكلف علمه‏؟‏ وقيل المعنى‏:‏ لو كنت أعلم ما يريد الله عزّ وجلّ مني من قبل أن يعرفنيه لفعلته‏.‏ وقيل‏:‏ لو كنت أعلم متى يكون لي النصر في الحرب، لقاتلت فلم أغلب‏.‏ وقيل‏:‏ لو كنت أعلم الغيب لأجبت عن كل ما أسأل عنه، والأولى حمل الآية على العموم، فتندرج هذه الأمور وغيرها تحتها‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن ‏{‏وَمَا مَسَّنِىَ السوء‏}‏ كلام مستأنف، أي‏:‏ ليس بي ما تزعمون من الجنون والأولى‏:‏ أنه متصل بما قبله‏.‏ والمعنى‏:‏ لو علمت الغيب ما مسني السوء، ولحذرت عنه كما قدّمنا ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ ما أنا إلا مبلغ عن الله لأحكامه أنذر بها قوماً، وأبشر بها آخرين، ولست أعلم بغيب الله سبحانه‏.‏ واللام في ‏{‏لِقَوْمٍ‏}‏ متعلق بكلا الصفتين‏:‏ أي بشير لقوم‏.‏ ونذير لقوم، وقيل‏:‏ هو متعلق ببشير، والمتعلق بنذير محذوف، أي نذير لقوم يكفرون، وبشير لقوم يؤمنون‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة‏}‏ هذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر نعم الله على عباده وعدم مكافأتهم لها، مما يجب من الشكر والاعتراف بالعبودية، وأنه المنفرد بالإلهية‏.‏ قال جمهور المفسرين‏:‏ المراد بالنفس الواحدة‏.‏ آدم، وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا‏}‏ معطوف على ‏{‏خَلَقَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ هو الذي خلقكم من نفس آدم، وجعل من هذه النفس زوجها، وهي حواء، خلقها من ضلع من أضلاعه‏.‏

وقيل المعنى ‏{‏جَعَلَ مِنْهَا‏}‏ من جنسها، كما في قوله‏:‏ ‏{‏جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 72‏]‏ والأوّل‏:‏ أولى‏.‏ ‏{‏لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا‏}‏ علة للجعل، أي جعله منها لأجل ‏{‏يسكن إليها‏}‏ يأنس إليها‏.‏ ويطمئن بها، فإن الجنس بجنسه أسكن وإليه آنس‏.‏ وكان هذا في الجنة، كما وردت بذلك الأخبار‏.‏ ثم ابتدأ سبحانه بحالة أخرى كانت بينهما في الدنيا بعد هبوطهما، فقال‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَغَشَّاهَا‏}‏، والتغشي كناية عن الوقاع، أي فلما جامعها ‏{‏حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا‏}‏ علقت به بعد الجماع، ووصفه بالخفة لأنه عند إلقاء النطفة أخفّ منه عند كونه علقة، وعند كونه علقة أخفّ منه عند كونه مضغة، وعند كونه مضغة أخفّ مما بعده‏.‏ وقيل‏:‏ إنه خفّ عليها هذا الحمل من ابتدائه إلى انتهائه، ولم تجد منه ثقلاً‏.‏ كما تجده الحوامل من النساء، لقوله‏:‏ ‏{‏فَمَرَّتْ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ استمرت بذلك الحمل تقوم وتقعد، وتمضى في حوائجها لا تجد به ثقلاً، والوجه الأوّل، لقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَثْقَلَت‏}‏ فإن معناه‏:‏ فلما صارت ذات ثقل لكبر الولد في بطنها‏.‏ وقرئ «فمرت به» بالتخفيف، أي فجزعت لذلك، وقرئ «فمارت به» من المور، وهو المجيء والذهاب‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ فاستمرّت به‏.‏ وقد رويت قراءة التخفيف عن ابن عباس، ويحيى بن يعمر‏.‏ ورويت قراءة «فمارت» عن عبد الله بن عمر‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قرأ «فاستمرت به»‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا‏}‏ جواب لما، أي‏:‏ دعا آدم وحواء ربهما ومالك أمرهما ‏{‏لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صالحا‏}‏ أي‏:‏ ولداً صالحاً، واللام جواب قسم محذوف، و‏{‏لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين‏}‏ جواب القسم سادّ مسدّ جواب الشرط، أي من الشاكرين لك على هذه النعمة‏.‏ وفي هذا الدعاء دليل على أنهما قد علما أن ما حدث في بطن حواء من أثر ذلك الجماع هو من جنسهما، وعلما بثبوت النسل المتأثر عن ذلك السبب ‏{‏فَلَمَّا ءاتاهما‏}‏ ما طلباه من الولد الصالح، وأجاب دعاءهما ‏{‏جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما‏}‏ قال كثير من المفسرين‏:‏ إنه جاء إبليس إلى حواء وقال لها‏:‏ إن ولدت ولداً فسميه باسمى فقالت‏:‏ وما اسمك‏؟‏ قال‏:‏ الحارث ولو سمى لها نفسه لعرفته، فسمته عبد الحارث، فكان هذا شركاً في التسمية، ولم يكن شركاً في العبادة‏.‏ وإنما قصدا أن الحارث كان سبب نجاة الولد، كما يسمى الرجل نفسه عبد ضيفه، كما قال حاتم الطائي‏:‏

وإني لعبد الضيف مادام ثاويا *** وما فيّ إلا تلك من شيمة العبد

وقال جماعة من المفسرين‏:‏ إن الجاعل شركاً فيما آتاهما هم جنس بني آدم، كما وقع من المشركين منهم، ولم يكن ذلك من آدم وحواء، ويدلّ على هذا جمع الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ وذهب جماعة من المفسرين إلى أن معنى ‏{‏مّن نَّفْسٍ واحدة‏}‏ من هيئة واحدة وشكل واحد ‏{‏وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا‏}‏ أي‏:‏ من جنسها ‏{‏فَلَمَّا تَغَشَّاهَا‏}‏ يعني جنس الذكر جنس الأنثى‏.‏

وعلى هذا لا يكون لآدم وحوّاء ذكر في الآية، وتكون ضمائر التثنية راجعة إلى الجنسين‏.‏ وقد قدّمنا الإشارة إلى نحو هذا، وذكرنا أنه خلاف الأولى لأمور منها ‏{‏وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا‏}‏ بأن هذا إنما هو لحواء‏.‏ ومنها ‏{‏دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا‏}‏ فإن كل مولود يولد بين الجنسين، لا يكون منهما عند مقاربة وضعه هذا الدعاء‏.‏ وقد قرأ أهل المدينة وعاصم «شركاً» على التوحيد‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وسائر أهل الكوفة بالجمع‏.‏ وأنكر الأخفش سعيد القراءة الأولى‏.‏ وأجيب عنه بأنها صحيحة على حذف المضاف، أي جعلا له ذا شرك، أو ذوي شرك‏.‏

والاستفهام في ‏{‏أَيُشْرِكُونَ مَالا يَخْلُقُ شَيْئاً‏}‏ للتقريع والتوبيخ، أي كيف يجعلون لله شريكاً لا يخلق شيئاً ولا يقدر على نفع لهم، ولا دفع عنهم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يُخْلَقُونَ‏}‏ عطف على ‏{‏مَالا يَخْلُقُ‏}‏ والضمير راجع إلى الشركاء الذين لا يخلقون شيئاً، أي وهؤلاء الذين جعلوهم شركاء من الأصنام أو الشياطين مخلوقون‏.‏ وجمعهم جمع العقلاء لاعتقاد من جعلهم شركاء أنهم كذلك ‏{‏وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ لمن جعلهم شركاء ‏{‏نَصْراً‏}‏ إن طلبه منهم ‏{‏وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ‏}‏ إن حصل عليهم شيء من جهة غيرهم، ومن عجز عن نصر نفسه فهو عن نصر غيره أعجز‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وأبو الشيخ عن ابن عباس، قال‏:‏ قال حمل بن أبي قيس، وشمول بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أخبرنا متى الساعة إن كنت نبياً كما تقول فإنا نعلم ما هي‏؟‏ فأنزل الله ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة ‏{‏أَيَّانَ مرساها‏}‏ أي‏:‏ متى قيامها‏؟‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ‏}‏ قال‏:‏ قالت قريش يا محمد أسرّ إلينا الساعة لما بيننا وبينك من القرابة‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ الله‏}‏ وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏"‏ تهيج الساعة بالناس، والرجل يسقي على ماشيته، والرجل يصلح حوضه، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه، والرجل يقيم سلعته في السوق، قضاء الله لا تأتيكم إلا بغتة ‏"‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏أَيَّانَ مرساها‏}‏ قال‏:‏ ‏{‏منتهاها‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد ‏{‏لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ‏}‏ يقول‏:‏ لا يأتي بها إلا الله‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة، في الآية قال‏:‏ هو يجليها لوقتها لا يعلم ذلك إلا الله‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏ثَقُلَتْ فِى السموات والأرض‏}‏ قال‏:‏ ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏ثَقُلَتْ فِى السموات والأرض‏}‏ قال‏:‏ ثقل علمها على أهل السموات والأرض‏.‏ يقول كبرت عليهم‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله‏:‏ ‏{‏ثَقُلَتْ فِى السموات والأرض‏}‏ قال‏:‏ إذا جاءت انشقت السماء، وانتثرت النجوم، وكوّرت الشمس، وسيرت الجبال، وما يصيب الأرض‏.‏ وكان ما قال الله سبحانه فذلك ثقلها فيهما‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً‏}‏ قال‏:‏ فجأة آمنين‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في البعث، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا‏}‏ قال‏:‏ استحفيت عنها السؤال حتى علمتها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا‏}‏ يقول‏:‏ كأنك عالم بها، أي لست تعلمها‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي عنه ‏{‏كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا‏}‏ قال‏:‏ لطيف بها‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي، عنه أيضاً ‏{‏كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا‏}‏ يقول‏:‏ كأن بينك وبينهم مودّة كأنك صديق لهم‏.‏ قال لما سأل الناس محمداً صلى الله عليه وسلم عن الساعة، سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمداً حفيّ بهم، فأوحى الله إليه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله‏}‏ استأثر بعلمها فلم يطلع ملكاً ولا رسولاً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن عمرو بن دينار قال‏:‏ كان ابن عباس يقرأ «كأنك حفيّ بها»‏.‏

وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريج ‏{‏قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضراً‏}‏ قال‏:‏ الهدى والضلالة ‏{‏وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب‏}‏ متى أموت ‏{‏لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير‏}‏ قال‏:‏ العمل الصالح‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير‏}‏ قال‏:‏ لعلمت إذا اشتريت شيئاً ما أربح فيه، فلا أبيع شيئاً لاربح فيه ‏{‏وَمَا مَسَّنِىَ السوء‏}‏ قال‏:‏ ولا يصيبني الفقر‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن زيد في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا مَسَّنِىَ السوء‏}‏ قال‏:‏ لاجتنبت ما يكون من الشرّ قبل أن يكون‏.‏

وأخرج أحمد، والترمذي وحسنه، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والروياني، والطبراني، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«لما ولدت حواء طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال‏:‏ سميه عبد الحارث فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث فعاش، فكان ذلك من وحى الشيطان وأمره» وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن مردويه، عن سمرة في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا ءاتاهما صالحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء‏}‏ قال‏:‏ سمياه عبد الحارث‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ، عن أبيّ بن كعب، نحو حديث سمرة المرفوع موقوفاً عليه‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ حملت حواء فأتاها إبليس فقال‏:‏ إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة، لتطيعنني أو لأجعلن له قرني أيل، فيخرج من بطنك فيشقه، ولأفعلنّ، ولأفعلنّ، يخوّفهما، سمياه عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتاً، ثم حملت فأتاهما أيضاً فقال مثل ذلك، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً، ثم حملت فأتاهما، فذكر لهما، فأدركهما حبّ الولد، فسمياه عبد الحارث‏.‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن الحسن، في الآية قال‏:‏ كان هذا في بعض أهل الملل وليس بآدم‏.‏

وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه، عن سمرة، في قوله‏:‏ ‏{‏حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا‏}‏ لم يستبن ‏{‏فَمَرَّتْ بِهِ‏}‏ لما استبان حملها‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَرَّتْ بِهِ‏}‏ قال‏:‏ فشكت أحملت أم لا‏؟‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن أيوب قال‏:‏ سئل الحسن عن قوله‏:‏ ‏{‏فَمَرَّتْ بِهِ‏}‏ قال‏:‏ لو كنت عربياً لعرفتها، إنما هي استمرّت بالحمل‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن السدّي، في قوله‏:‏ ‏{‏حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا‏}‏ قال‏:‏ هي النطفة ‏{‏فَمَرَّتْ بِهِ‏}‏ يقول‏:‏ استمرت به‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَرَّتْ بِهِ‏}‏ قال‏:‏ فاستمرت به‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ميمون بن مهران ‏{‏فَمَرَّتْ بِهِ‏}‏ يقول‏:‏ استخفته‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي صالح في قوله‏:‏ ‏{‏لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صالحا‏}‏ فقال‏:‏ أشفق أن يكون بهيمة، فقالا لئن آتيتنا بشراً سوياً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الحسن في الآية قال غلاماً سوياً‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏جعلا له شركاء‏}‏ قال‏:‏ كان شريكاً في طاعة، ولم يكن شريكاً في عبادة‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه، قال‏:‏ ما أشرك آدم إنّ أوّلها شكر، وآخرها مثل ضربه لمن بعده‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ، في قوله‏:‏ ‏{‏فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ هذا فصل من آية آدم خاصة في آلهة العرب‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ، عن الحسن، في الآية قال‏:‏ هذا في الكفار يدعون الله، فإذا آتاهما صالحاً هوّداً أو نصراً، ثم قال‏:‏ ‏{‏أَيُشْرِكُونَ مَالا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ‏}‏ يقول‏:‏ يطيعون مالا يخلق شيئاً، وهي الشياطين لا تخلق شيئاً وهي تخلق ‏{‏وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا‏}‏ يقول لمن يدعوهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏193- 198‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ‏(‏193‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏194‏)‏ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ ‏(‏195‏)‏ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ‏(‏196‏)‏ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ‏(‏197‏)‏ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏198‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ‏}‏ هذا خطاب للمشركين، أي وإن تدعوا هؤلاء الشركاء إلى الهدى والرشاد بأن تطلبوا منهم أن يهدوكم ويرشدوكم لا يتبعوكم ولا يجيبوكم إلى ذلك، وهو دون ما تطلبونه منهم من جلب النفع، ودفع الضرّ، والنصر على الأعداء‏.‏ قال الأخفش معناه وإن تدعوهم، أي الأصنام إلى الهدى لا يتبعوكم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد من سبق في علم الله أنه لا يؤمن‏.‏ وقرئ ‏{‏لا يتبعوكم‏}‏ مشدّداً ومخففاً وهما لغتان‏.‏ وقال بعض أهل اللغة أتبعه مخففاً‏:‏ إذا مضى خلفه ولم يدركه، واتبعه مشدّداً‏:‏ إذا مضى خلفه فأدركه‏.‏ وجملة ‏{‏سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون‏}‏ مقرّرة لمضمون ما قبلها، أي دعاؤكم لهم عند الشدائد وعدمه سواء، لا فرق بينهما لأنهم لا ينفعون ولا يضرون ولا يسمعون ولا يجيبون، وقال‏:‏ ‏{‏أَمْ أَنتُمْ صامتون‏}‏ مكان أصمتم لما في الجملة الاسمية من المبالغة‏.‏ وقال محمد بن يحيى‏:‏ إنما جاء بالجملة الاسمية لكونها رأس آية، يعني لمطابقة ‏{‏وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ‏}‏ وما قبله‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ‏}‏ أخبرهم سبحانه بأن هؤلاء الذين جعلتموهم آلهة هم عباد لله كما أنتم عباد له مع أنكم أكمل منهم، لأنكم أحياء تنطقون وتمشون، وتسمعون وتبصرون‏.‏ وهذه الأصنام ليست كذلك، ولكنها مثلكم في كونها مملوكة لله مسخرة لأمره‏.‏ وفي هذا تقريع لهم بالغ، وتوبيخ لهم عظيم‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ‏}‏ مقررة لمضمون ما قبلها من أنهم إن دعوهم إلى الهدى لا يتبعوهم، وأنهم لا يستطيعون شيئاً، أي ادعوا هؤلاء الشركاء، فإن كانوا كما تزعمون ‏{‏فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ فيما تدّعونه لهم من قدرتهم على النفع والضرّ‏.‏

والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏أَلَهُمْ أَرْجُلٌ‏}‏‏؟‏ وما بعده للتقريع والتوبيخ، أي هؤلاء الذين جعلتموهم شركاء ليس لهم شيء من الآلات التي هي ثابتة لكم، فضلاً عن أن يكونوا قادرين على ما تطلبونه منهم‏.‏ فإنهم كما ترون هذه الأصنام التي تعكفون على عبادتها ليست لهم‏:‏ ‏{‏أَرْجُلٌ‏}‏ يَمْشُونَ بِهَا في نفع أنفسهم، فضلاً عن أن يمشوا في نفعكم، وليس ‏{‏لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا‏}‏ كما يبطش غيرهم من الأحياء، وليس ‏{‏لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا‏}‏ كما تبصرون، وليس ‏{‏لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُون بِهَا‏}‏ كما تسمعون، فكيف تدعون من هم على هذه الصفة من سلب الأدوات، وبهذه المنزلة من العجز، و«أم» في هذه المواضع هي المنطقة التي بمعنى بل، والهمزة كما ذكره أئمة النحو‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير‏:‏ «إِنَّ الذين تَدْعُونَ» بتخفيف «إن» ونصب «عبادا» أي ما الذين تدعون ‏{‏مِن دُونِ الله عِبَادًا أمثالكم‏}‏ على إعمال إن النافية عمل ما الحجازية‏.‏

وقد ضعفت هذه القراءة بأنها خلاف ما رجحه سيبويه وغيره من اختيار الرفع في خبرها‏.‏ وبأن الكسائي قال‏:‏ إنها لا تكاد تأتي في كلام العرب بمعنى «ما» إلا أن يكون بعدها إيجاب كما في قوله‏:‏ ‏{‏إِنِ الكافرون إِلاَّ فِى غُرُورٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 20‏]‏، والبطش‏:‏ الأخذ بقوّة‏.‏ وقرأ أبو جعفر ‏"‏ يَبْطِشُونَ ‏"‏ بضم الطاء، وهي لغة‏.‏ ثم لما بين لهم حال هذه الأصنام، وتعاور وجوه النقص والعجز لها من كل باب، أمره الله بأن يقول لهم‏:‏ ادعوا شركاءكم الذين تزعمون أن لهم قدرة على النفع والضرّ‏.‏ ‏{‏ثُمَّ كِيدُون‏}‏ أنتم وهم جميعاً بما شئتم من وجوه الكيد ‏{‏فَلاَ تُنظِرُونِ‏}‏ أي‏:‏ فلا تمهلوني، ولا تؤخروا إنزال الضرر بي من جهتها، والكيد‏:‏ المكر‏.‏ وليس بعد هذا التحدّي لهم والتعجيز لأصنامهم شيء‏.‏

ثم قال لهم‏:‏ ‏{‏إِنَّ وَلِيّىَ الله الذى نَزَّلَ الكتاب‏}‏ أي‏:‏ كيف أخاف هذه الأصنام التي هذه صفتها، ولي وليّ ألجأ إليه وأستنضر به، وهو الله عزّ وجلّ ‏{‏الذى نَزَّلَ الكتاب‏}‏ وهذه الجملة تعليل لعدم المبالاة بها‏.‏ ووليّ الشيء هو الذي يحفظه، ويقوم بنصرته، ويمنع منه الضرر ‏{‏وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين‏}‏ أي‏:‏ يحفظهم وينصرهم، ويحول ما بينهم وبين أعدائهم‏.‏ قال الأخفش‏:‏ وقرئ ‏"‏ إِنَّ وَلِيّىَ الله الذى نَزَّلَ الكتاب ‏"‏ يعني جبرائيل‏.‏ قال النحاس‏:‏ هي قراءة عاصم الجحدري‏.‏ والقراءة الأولى أبين لقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين‏}‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ‏}‏ كرّر سبحانه هذا لمزيد التأكيد والتقرير، ولما في تكرار التوبيخ والتقريع من الإهانة للمشركين، والتنقيص بهم، وإظهار سخف عقولهم، وركاكة أحلامهم ‏{‏وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ‏}‏ جملة مبتدأة لبيان عجزهم، أو حالية، أي والحال أنك تراهم ينظرون إليك حال كونهم لا يبصرون‏.‏ والمراد‏:‏ الأصنام أنهم يشبهون الناظرين، ولا أعين لهم يبصرون بها‏.‏ قيل‏:‏ كانوا يجعلون للأصنام أعيناً من جواهر مصنوعة، فكانوا بذلك في هيئة الناظرين، ولا يبصرون‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بذلك المشركون، أخبر الله عنهم بأنهم لا يبصرون حين لم ينتفعوا بأبصارهم، وإن أبصروا بها غير ما فيه نفعهم‏.‏

وقد أخرج أبو الشيخ، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ يجاء بالشمس والقمر حتى يلقيا بين يدي الله تعالى، ويجاء بمن كان يعبدهما، فيقال‏:‏ ‏{‏ادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السديّ، في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ‏}‏ قال‏:‏ هؤلاء المشركون‏.‏

وأخرج هؤلاء أيضاً عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ ما يدعوهم إليه من الهدى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏199- 206‏]‏

‏{‏خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ‏(‏199‏)‏ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏200‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ‏(‏201‏)‏ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ‏(‏202‏)‏ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏203‏)‏ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏204‏)‏ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ‏(‏205‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ‏(‏206‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏خُذِ العفو‏}‏ لما عدّد الله ما عدده من أحوال المشركين وتسفيه رأيهم وضلال سعيهم، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ العفو من أخلاقهم‏.‏ يقال أخذت حقي عفواً، أي سهلاً‏.‏ وهذا نوع من التيسير الذي كان يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في الصحيح أنه كان يقول‏:‏ ‏"‏ يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا ‏"‏ والمراد بالعفو هنا ضد الجهد‏.‏ وقيل المراد‏:‏ خذ العفو من صدقاتهم، ولا تشدّد عليهم فيها وتأخذ ما يشق عليهم‏.‏ وكان هذا قبل نزول فريضة الزكاة ‏{‏وَأْمُرْ بالعرف‏}‏ أي‏:‏ بالمعروف‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر «بالعُرف» بضمتين، وهما لغتان‏.‏ والعرف والمعروف والعارفة‏:‏ كل خصلة حسنة ترتضيها العقول، وتطمئن إليها النفوس، ومنه قول الشاعر‏:‏

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه *** لا يذهب العرف بين الله والناس

‏{‏وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين‏}‏ أي‏:‏ إذا أقمت الحجة في أمرهم بالمعروف فلم يفعلوا، فأعرض عنهم ولا تمارهم، ولا تسافههم مكافأة لما يصدر منهم من المراء والسفاهة‏.‏ قيل‏:‏ وهذه الآية هي من جملة ما نسخ بآية السيف، قاله عبد الرحمن بن زيد وعطاء‏.‏ وقيل هي محكمة، قاله مجاهد وقتادة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ‏}‏ النزغ‏:‏ الوسوسة، وكذا النغز والنخس‏.‏ قال الزجاج‏:‏ النزغ أدنى حركة تكون، ومن الشيطان أدنى وسوسة، وأصل النزغ‏:‏ الفساد، يقال نزغ بيننا‏:‏ أي أفسد، وقيل النزغ‏:‏ الإغواء‏.‏ والمعنى متقارب‏:‏ أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم إذا أدرك من وسوسة الشيطان أن يستعيذ بالله وقيل إنه لما نزل قوله‏:‏ ‏{‏خُذِ العفو‏}‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كيف ياربّ بالغضب‏؟‏ ‏"‏ فنزلت، وجملة ‏{‏إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ علة لأمره بالاستعاذة، أي استعذ به والتجئ إليه، فإنه يسمع ذلك منك ويعلم به‏.‏

وجملة ‏{‏إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ‏}‏ مقرّرة لمضمون ما قبلها، أي‏:‏ إن شأن الذين يتقون الله، وحالهم هو التذكر لما أمر الله به من الاستعاذة به، والالتجاء إليه، عند أن يمسهم طائف من الشيطان وإن كان يسيراً‏.‏ قرأ أهل البصرة ‏"‏ طيف ‏"‏ وكذا أهل مكة‏.‏ وقرأ أهل المدينة والكوفة ‏{‏طَائِفٌ‏}‏‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير ‏"‏ طيف ‏"‏ بالتشديد‏.‏ قال النحاس‏:‏ كلام العرب في مثل هذا ‏"‏ طيف ‏"‏ بالتخفيف على أنه مصدر من طاف يطيف‏.‏ قال الكسائي‏:‏ هو مخفف مثل ميت وميت‏.‏

قال النحاس ومعناه في اللغة ما يتخيل في القلب أو يرى في النوم، وكذا معنى طائف‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ سألت الأصمعي عن طيف فقال‏:‏ ليس في المصادر فيعل‏.‏

قال النحاس‏:‏ ليس هو مصدراً ولكن يكون بمعنى طائف‏.‏ وقيل‏:‏ الطيف والطائف معنيان مختلفان، فالأوّل‏:‏ التخيل‏.‏ والثاني‏:‏ الشيطان نفسه‏.‏ فالأوّل‏:‏ من طاف الخيال يطوف طيفاً، ولم يقولوا من هذا طائف‏.‏ قال السهيلي‏:‏ لأنه تخيل لا حقيقة له، فأما قوله ‏{‏فَطَافَ عَلَيْهم طَائِفٌ مِّن رَّبّكَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 19‏]‏ فلا يقال فيه طيف، لأنه اسم فاعل حقيقة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ طفت عليهم أطوف، فطاف الخيال يطيف‏.‏ قال حسان‏:‏

فدع هذا ولكن من لِطَيْف *** يؤرقني إذا ذهب العشاء

وسميت الوسوسة طيفاً، لأنها لمة من الشيطان تشبه لمة الخيال‏.‏ ‏{‏فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ‏}‏ بسبب التذكر، أي منتبهون‏.‏ وقيل على بصيرة‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير «تَذَكَّرُواْ» بتشديد الذال‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولا وجه له في العريبة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى‏}‏ قيل المعنى‏:‏ وإخوان الشياطين، وهم الفجار من ضلال الإنس، على أن الضمير في إخوانهم يعود إلى الشيطان المذكور سابقاً، والمراد به الجنس‏.‏ فجاز إرجاع ضمير الجمع إليه‏.‏ ‏{‏يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى‏}‏ أي‏:‏ تمدّهم الشياطين في الغيّ، وتكون مدداً لهم‏.‏ وسميت الفجار من الإنس إخوان الشياطين، لأنهم يقبلون منهم ويقتدون بهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد بالإخوان الشياطين، وبالضمير الفجار من الإنس، فيكون الخبر جارياً على من هو له‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير‏.‏ والمعنى‏:‏ ‏{‏والذين تدعون من دونه لا يستطيعون لكم نصراً ولا أنفسهم ينصرون‏}‏ ‏{‏وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى‏}‏ لأن الكفار إخوان الشياطين، ‏{‏ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ‏}‏ الإقصار‏:‏ الانتهاء عن الشيء، أي لا تقصر الشياطين في مدّ الكفار في الغيّ‏.‏ قيل‏:‏ إن ‏{‏في الغيّ‏}‏ متصلاً بقوله ‏{‏يَمُدُّونَهُمْ‏}‏ وقيل‏:‏ بالإخوان‏.‏ والغي‏:‏ الجهل‏.‏ قرأ نافع «يَمُدُّونَهُمْ» بضم حرف المضارعة وكسر الميم‏.‏ وقرأ الباقون بفتح حرف المضارعة وضم الميم، وهما لغتان‏.‏ يقال مدّ وأمد‏.‏ قال مكي‏:‏ ومدّ أكثر‏.‏ وقال أبو عبيد وجماعة من أهل اللغة‏:‏ فإنه يقال إذا كثر شيء شيئاً بنفسه مدّه‏.‏ وإذا كثره بغيره، قيل‏:‏ أمدّه نحو ‏{‏يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الملئكة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 125‏]‏ وقيل‏:‏ يقال‏:‏ مددت في الشرّ وأمددت في الخير‏.‏ وقرأ عاصم الجحدري «يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى»‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر «ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ» بفتح الياء وضم الصاد وتخفيف القاف‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِئَايَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها‏}‏ اجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه، أي جمعه، أي‏:‏ هلا اجتمعتها افتعالاً لها من عند نفسك‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى اختلقتها، يقال‏:‏ اجتبيت الكلام‏:‏ انتحلته واختلقته واخترعته إذا جئت به من عند نفسك‏.‏ كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تراخى الوحي هذه المقالة، فأمره الله بأن يجيب عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحِى إِلَىَّ‏}‏ أي‏:‏ لست ممن يأتي بالآيات من قبل نفسه كما تزعمون بَلِ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحِى إِلَىَّ مّن رَّبّى، فما أوحاه إليّ وأنزله عليّ أبلغته إليكم‏.‏

وبصائر جمع بصيرة، أي هذا القرآن المنزل عليّ هو ‏{‏بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ‏}‏ يتبصر بها من قبلها‏.‏ وقيل‏:‏ البصائر الحجج والبراهين‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ البصائر الطرق ‏{‏وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ معطوف على بصائر أي هذا القرآن هو بصائر وهدى يهتدي به المؤمنون ورحمة لهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُرِئ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ‏}‏ أمرهم الله سبحانه بالاستماع للقرآن والإنصات له عند قراءته؛ لينتفعوا به ويتدبروا ما فيه من الحكم والمصالح‏.‏ قيل‏:‏ هذا الأمر خاص بوقت الصلاة عند قراءة الإمام، ولا يخفاك أن اللفظ أوسع من هذا والعام لا يقصر على سببه، فيكون الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في كل حالة، وعلى أيّ صفة مما يجب على السامع‏.‏ وقيل‏:‏ هذا خاص بقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن دون غيره، ولا وجه لذلك‏.‏

‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ تنالون الرحمة وتفوزون بها بامتثال أمر الله سبحانه، ثم أمره الله سبحانه أن يذكره في نفسه‏.‏ فإن الإخفاء أدخل في الإخلاص، وأدعى للقبول‏.‏ قيل‏:‏ المراد بالذكر هنا ما هو أعم من القرآن وغيره من الأذكار التي يذكر الله بها‏.‏ وقال النحاس‏:‏ لم يختلف في معنى ‏{‏واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ‏}‏ أنه الدعاء‏.‏ وقيل هو خاص بالقرآن، أي اقرأ القرآن بتأمل وتدبر، و‏{‏تَضَرُّعًا وَخِيفَةً‏}‏ منتصبان على الحال، أي متضرعاً وخائفاً، والخيفة‏:‏ الخوف، وأصلها خوفة قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها‏.‏ وحكى الفراء أنه يقال في جمع خيفة خيف‏.‏ قال الجوهري‏:‏ والخيفة الخوف والجمع خيف، وأصله الواو‏:‏ أي خوف‏.‏

‏{‏وَدُونَ الجهر مِنَ القول‏}‏ أي‏:‏ دون المجهور به من القول، وهو معطوف على ما قبله، أي متضرعاً وخائفاً، ومتكلماٍ بكلام هو دون الجهر من القول‏.‏ و‏{‏بالغدو والآصال‏}‏ متعلق ب ‏{‏اذكر‏}‏ أي أوقات الغدوات وأوقات الأصائل‏.‏ والغدوّ‏:‏ جمع غدوة، والآصال‏:‏ جمع أُصيل، قاله الزجاج والأخفش، مثل يمين وأيمان‏.‏ وقيل الآصال جمع أُصل، والأُصلُ جمع أصيل، فهو على هذا جمع الجمع، قاله الفراء‏.‏ قال الجوهري الأصيل الوقت من بعد العصر إلى المغرب، وجمعه أُصل وآصال وأصائل، كأنه جمع أصيلة‏.‏ قال الشاعر‏:‏

لعمري لأنت البيت أكرم أهله *** وأقعد في أفنائه بالأصائل

ويجمع أيضاً على أصلان مثل بعير وبعران‏.‏ وقرأ أبو مجلز «والإيصال» وهو مصدر‏.‏ وخصّ هذين الوقتين لشرفهما‏.‏ والمراد‏:‏ دوام الذكر لله‏.‏

‏{‏وَلاَ تَكُنْ مّنَ الغافلين‏}‏ أي‏:‏ عن ذكر الله ‏{‏إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ‏}‏ المراد بهم‏:‏ الملائكة‏.‏ قال القرطبي‏:‏ بالإجماع‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وقال ‏{‏عند ربك‏}‏ والله عزّ وجلّ بكل مكان لأنهم قريبون من رحمته، وكل قريب من رحمة الله عزّ وجلّ فهو عنده‏.‏ وقال غيره‏:‏ لأنهم في موضع لا ينفذ فيه إلا حكم الله‏.‏

وقيل‏:‏ إنهم رسل الله، كما يقال عند الخليفة جيش كثير‏.‏ وقيل‏:‏ هذا على جهة التشريف والتكريم لهم، ومعنى‏:‏ ‏{‏يسبحونه‏}‏ يعظمونه وينزهونه عن كل شين ‏{‏وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ‏}‏ أي‏:‏ يخصونه بعبادة السجود التي هي أشرف عبادة‏.‏ وقيل المراد بالسجود‏:‏ الخضوع والذلة‏.‏ وفي ذكر الملأ الأعلى تعريض لبني آدم‏.‏

وقد أخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبخاري، وأبو داود، والنسائي، والنحاس في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن عبد الله بن الزبير، في قوله‏:‏ ‏{‏خُذِ العفو‏}‏ الآية، قال‏:‏ ما نزلت هذه الآية إلا في اختلاف الناس‏.‏ وفي لفظه‏:‏ أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن ابن عمر في قوله‏:‏ ‏{‏خُذِ العفو‏}‏ قال‏:‏ أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس‏.‏

وأخرج ابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الشعبي، قال‏:‏ لما أنزل الله‏:‏ ‏{‏خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما هذا يا جبريل‏؟‏ قال‏:‏ لاأدري حتى أسأل العالم، فذهب ثم رجع فقال‏:‏ إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك» وأخرج ابن مردويه، عن جابر، نحوه‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن قيس بن سعد بن عبادة، قال‏:‏ لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمزة بن عبد المطلب قال‏:‏ «والله لأمثلنّ بسبعين منهم»، فجاه جبريل بهذه الآية‏.‏

وأخرج ابن مردويه، عن عائشة، في قوله‏:‏ ‏{‏خُذِ العفو‏}‏ ما عفا لك من مكارم الأخلاق‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏خُذِ العفو‏}‏ قال‏:‏ خذ ما عفا من أموالهم ما أتوك به من شيء فخذه‏.‏ وهذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقة وتفصيلها‏.‏ وأخرج ابن جرير، والنحاس، في ناسخه، عن السديّ في الآية قال‏:‏ الفضل من المال نسخته الزكاة‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد، قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏خُذِ العفو‏}‏ الآية‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كيف بالغضب ياربّ‏؟‏ فنزل ‏{‏وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ‏}‏» وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين اتقوا‏}‏ قال هم المؤمنون‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله‏:‏ «إِذَا مَسَّهُمْ طيف مِنَ الشيطان» قال‏:‏ الغضب‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ الطيف‏:‏ الغضب‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ، في قوله‏:‏ ‏{‏تَذَكَّرُواْ‏}‏ قال‏:‏ إذا زلوا تابوا‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، في الآية قال الطائف‏:‏ اللمة من الشيطان ‏{‏تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ‏}‏ يقول‏:‏ فإذا هم منتهون عن المعصية، آخذون بأمر الله، عاصون للشيطان ‏{‏وإخوانهم‏}‏ قال‏:‏ إخوان الشياطين‏:‏ ‏{‏يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ‏}‏ قال‏:‏ لا الإنس يمسكون عما يعملون من السيئات، ولا الشياطين تمسك عنهم ‏{‏وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِئَايَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها‏}‏ يقول‏:‏ لولا أحدثتها، لولا تلقيتها فأنشأتها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عنه ‏{‏وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى‏}‏ قال‏:‏ هم الجنّ يوحون إلى أوليائهم من الإنس ‏{‏ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ‏}‏ يقول‏:‏ لا يسأمون ‏{‏وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِئَايَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها‏}‏ يقول‏:‏ هلا افتعلتها من تلقاء نفسك‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وابن عساكر، عن أبي هريرة، في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُرِئ القرءان‏}‏ الآية قال‏:‏ نزلت في رفع الأصوات، وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي، عن ابن عباس، في الآية قال‏:‏ يعني في الصلاة المفروضة‏.‏ وأخرج ابن مردويه، والبيهقي، عنه قال‏:‏ صلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ خلفه قوم فخلطوا، فنزلت‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُرِئ القرءان‏}‏ الآية، فهذه في المكتوبة‏.‏ قال‏:‏ وإن كنا لم نستمع لمن يقرأ بالأخفى من الجهر‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم، والبيهقي عن محمد بن كعب القرظي نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي عن عبد الله بن مغفل نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي، عن ابن مسعود، نحوه أيضاً‏.‏

وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف، وصرحوا بأن هذه الآية نزلت في قراءة الصلاة من الإمام‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، عن الحسن، في الآية قال‏:‏ عند الصلاة المكتوبة، وعند الذكر‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في الآية قال‏:‏ في الصلاة وحين ينزل الوحي‏.‏ وأخرج البيهقي عنه في الآية أنه قال‏:‏ هذا في الصلاة‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ‏}‏ الآية قال‏:‏ أمره الله أن يذكره، ونهاه عن الغفلة، أما بالغدوّ فصلاة الصبح، والآصال بالعشي‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي صخر‏.‏ قال‏:‏ الآصال ما بين الظهر والعصر‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن زيد، في الآية قال‏:‏ لا تجهر بذاك ‏{‏بالغدو والآصال‏}‏ بالبكر والعشيّ‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن مجاهد ‏{‏بالغدو‏}‏ قال‏:‏ آخر الفجر صلاة الصبح‏.‏ والآصال آخر العشي صلاة العصر‏.‏

والأحاديث والآثار عن الصحابة في سجود التلاوة، وعدد المواضع التي يسجد فيها، وكيفية السجود، وما يقال فيه مستوفاة في كتب الحديث والفقه، فلا نطوّل بإيراد ذلك هاهنا‏.‏