فصل: تفسير الآيات رقم (43- 46)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 46‏]‏

‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ‏(‏43‏)‏ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏44‏)‏ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ‏(‏45‏)‏ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

قد تقدم الكلام في تفسير إقامة الصلاة، واشتقاقها، والمراد هنا‏:‏ الصلاة المعهودة، وهي صلاة المسلمين، على أن التعريف للعهد، ويجوز أن تكون للجنس، ومثلها الزكاة‏.‏ والإيتاء‏:‏ الإعطاء، يقال‏:‏ آتيته‏.‏ أي أعطيته‏.‏ والزكاة مأخوذة من الزكاء، وهو‏:‏ النماء، زكا الشيء‏:‏ إذا نما، وزاد، ورجل زكي، أي‏:‏ زائد الخير، وسمي إخراج جزء من المال زكاة، أي‏:‏ زيادة مع أنه نقص منه؛ لأنها تكثر بركته بذلك، أو تكثر أجر صاحبه‏.‏ وقيل الزكاة مأخوذة من التطهير، كما يقال زكا فلان‏:‏ أي‏:‏ طهر‏.‏

والظاهر أن الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، ونحوها قد نقلها الشرع إلى معان شرعية هي‏:‏ المرادة بما هو مذكور في الكتاب والسنة منها‏.‏ وقد تكلم أهل العلم على ذلك بما لا يتسع المقام لبسطه‏.‏ وقد اختلف أهل العلم في المراد بالزكاة هنا، فقيل المراد المفروضة، لاقترانها بالصلاة‏.‏ وقيل صدقة الفطر، والظاهر أن المراد ما هو أعم من ذلك‏.‏

والركوع في اللغة‏:‏ الانحناء، وكل منحن راكع، قال لبيد‏:‏

أخَبِّرُ أخبارَ القرون التي مضت *** أدِبُّ كأني كلما قمت راكعُ

وقيل‏:‏ الانحناء يعم الركوع والسجود، ويستعار الركوع أيضاً للانحطاط في المنزلة، قال الشاعر‏:‏

لا تهين الفقير علك أن *** تركع يوماً والدهر قد رفعه

وإنما خص الركوع بالذكر هنا؛ لأن اليهود لا ركوع في صلاتهم‏.‏ وقيل‏:‏ لكونه كان ثقيلاً على أهل الجاهلية‏.‏ وقيل‏:‏ إنه أراد بالركوع جميع أركان الصلاة‏.‏ والركوع الشرعي‏:‏ هو أن ينحني الرجل، ويمد ظهره وعنقه، ويفتح أصابع يديه، ويقبض على ركبتيه، ثم يطمئن راكعاً، ذاكراً بالذكر المشروع‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَعَ الراكعين‏}‏ فيه الإرشاد إلى شهود الجماعة، والخروج إلى المساجد، وقد ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما ما هو معروف‏.‏ وقد أوجب حضور الجماعة بعض أهل العلم، على خلاف بينهم في كون ذلك عيناً أو كفاية، وذهب الجمهور إلى أنه سنة مؤكدة مرغب فيها، وليس بواجب‏.‏ وهو الحق للأحاديث الثابتة الصحيحة عن جماعة من الصحابة، من أن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة، أو بسبع وعشرين درجة‏.‏ وثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم «الذي يصلي مع الإمام أفضل من الذي يصلي وحده، ثم ينام» والبحث طويل الذيول كثير النقول‏.‏

والهمزة في قوله‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر‏}‏ للاستفهام مع التوبيخ للمخاطبين، وليس المراد توبيخهم على نفس الأمر بالبر، فإنه فعل حسن مندوب إليه، بل بسبب ترك فعل البر المستفاد من قوله‏:‏ ‏{‏وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ‏}‏ مع التطهر بتزكية النفس، والقيام في مقام دعاة الخلق إلى الحق إيهاماً للناس، وتلبيساً عليهم، كما قال أبو العتاهية‏:‏

وصفت التُّقي حتى كأنك ذو تُقىً *** وريحُ الخطايا من ثِيابك تسطع

والبرّ‏:‏ الطاعة، والعمل الصالح‏.‏ والبر‏:‏ سعة الخير والمعروف‏.‏ والبر‏:‏ الصدق‏.‏ والبر‏:‏ ولد الثعلب‏.‏ والبر‏:‏ سوق الغنم‏.‏ ومن إطلاقه على الطاعة قول الشاعر‏:‏

لا هُمُ ربّ أن بكراً دونكا *** يَبَرُّك الناسُ ويفجرونكا

أي‏:‏ يطيعونك، ويعصونك‏.‏ والنسيان بكسر النون هو‏:‏ هنا بمعنى الترك، أي‏:‏ وتتركون أنفسكم، وفي الأصل خلاف الذكر، والحفظ، أي‏:‏ زوال الصورة التي كانت محفوظة عن المدركة، والحافظة‏.‏ والنفس‏:‏ الروح، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏ يريد الأرواح‏.‏ وقال أبو خراش‏:‏

نجا سالم، والنفس منه بشدقه *** والنفس أيضاً الدم، ومنه قولهم‏:‏ سالت نفسه، قال الشاعر‏:‏

تسيل على حدّ السيوف نفوسنا *** وليس على غير الظبات تسيل

والنفس الجسد، ومنه‏:‏

نُبئّتُ أن بني سُحَيم أدخلوا *** أبياتَهم تأمُور نَفسِ المُنذِر

والتأمور البدن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتاب‏}‏ جملة حالية مشتملة على أعظم تقريع، وأشد توبيخ، وأبلغ تبكيت‏:‏ أي‏:‏ كيف تتركون البر الذي تأمرون الناس به‏؟‏ وأنتم من أهل العلم العارفين بقبح هذا الفعل، وشدّة الوعيد عليه، كما ترونه في الكتاب الذي تتلونه، والآيات التي تقرءونها من التوراة‏.‏ والتلاوة‏:‏ القراءة، وهي المراد هنا، وأصلها الإتباع؛ يقال تلوته‏:‏ إذا تبعته، وسمي القارئ تالياً، والقراءة تلاوة؛ لأنه يتبع بعض الكلام ببعض على النسق الذي هو عليه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ استفهام للإنكار عليهم، والتقريع لهم، وهو أشدّ من الأوّل، وأشدّ‏.‏

وأشدّ ما قرّع الله في هذا الموضع من يأمر بالخير، ولا يفعله من العلماء، الذين هم غير عاملين بالعلم، فاستنكر عليهم أوّلاً أمرهم للناس بالبرّ مع نسيان أنفسهم في ذلك، الأمر الذي قاموا به في المجامع، ونادوا به في المجالس إيهاماً للناس بأنهم مبلغون عن الله ما تحملوه من حججه، ومبينون لعباده ما أمرهم ببيانه، وموصلون إلى خلقه ما استودعهم، وائتمنهم عليه، وهم أترك الناس لذلك، وأبعدهم من نفعه، وأزهدهم فيه، ثم ربط هذه الجملة بجملة أخرى، جعلها مبينة لحالهم، وكاشفة لعوارهم، وهاتكة لأستارهم، وهي‏:‏ أنهم فعلوا هذه الفعلة الشنيعة، والخصلة الفظيعة على علم منهم، ومعرفة بالكتاب الذي أنزل عليهم، وملازمة لتلاوته، وهم في ذلك كما قال المعرّي‏:‏

وَإنَّما حمل التَّوْراة قارِئها *** كَسْبُ الفَوائِد لا حُب التلاواتِ

ثم انتقل معهم من تقريع إلى تقريع، ومن توبيخ إلى توبيخ فقال‏:‏ إنكم لو لم تكونوا من أهل العلم، وحملة الحجة، وأهل الدراسة لكتب الله، لكان مجرد كونكم ممن يعقل حائلاً بينكم وبين ذلك ذائداً لكم عنه زاجراً لكم منه، فكيف أهملتم ما يقتضيه العقل بعد إهمالكم لما يوجبه العلم‏؟‏ والعقل في أصل اللغة‏:‏ المنع، ومنه عقال البعير؛ لأنه يمنعه عن الحركة، ومنه العقل في الدية؛ لأنه يمنع وليّ المقتول عن قتل الجاني‏.‏

والعقل نقيض الجهل، ويصح تفسير ما في الآية هنا بما هو، أصل معنى العقل عند أهل اللغة‏:‏ أي‏:‏ أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المزرية‏؟‏ ويصح أن يكون معنى الآية‏:‏ أفلا تنظرون بعقولكم التي رزقكم الله إياها حيث لم تنتفعوا بما لديكم من العلم‏؟‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واستعينوا بالصبر‏}‏ الصبر في اللغة‏:‏ الحبس، وصبرت نفسي على الشيء‏:‏ حبستها‏.‏ ومنه قول عنترة‏:‏

فصبرتُ عارفةً لذلك حُرّةً *** تَرْسُو إذا نَفْسُ الجبَان تَطلَّعُ

والمراد هنا‏:‏ استعينوا بحبس أنفسكم عن الشهوات، وقصرها على الطاعات على دفع ما يرد عليكم من المكروهات‏.‏ وقيل الصبر هنا هو خاص بالصبر على تكاليف الصلاة‏.‏ واستدل هذا القائل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 132‏]‏، وليس في هذا الصبر، الخاص بهذه الآية ما ينفي ما تفيده الألف واللام الداخلة على الصبر من الشمول كما أن المراد بالصلاة هنا جميع ما تصدق عليه الصلاة الشرعية من غير فرق بين فريضة، ونافلة‏.‏ واختلف المفسرون في رجوع الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ‏}‏ فقيل‏:‏ إنه راجع إلى الصلاة، وإن كان المتقدم هو الصبر، والصلاة، فقد يجوز إرجاع الضمير إلى أحد الأمرين المتقدم ذكرهما‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 62‏]‏ إذا كان أحدهما داخلاً تحت الآخر بوجه من الوجوه، ومنه قول الشاعر‏:‏

إنَّ شَرْخَ الشَّبابِ والشَّعَر الأس *** ودَ ما لم يُعاضَ كان جنونا

ولم يقل ما لم يعاضا بل جعل الضمير راجعاً إلى الشباب؛ لأن الشعر الأسود داخل فيه، وقيل‏:‏ إنه عائد إلى الصلاة من دون اعتبار دخول الصبر تحتها؛ لأن الصبر هو عليها، كما قيل سابقاً، وقيل‏:‏ إن الضمير راجع إلى الصلاة وإن كان الصبر مراداً معها، لكن لما كانت آكد، وأعم تكليفاً، وأكثر ثواباً كانت الكناية بالضمير عنها، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏ كذا قيل‏.‏ وقيل‏:‏ إن الضمير راجع إلى الأشياء المكنوزة، ومثل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 11‏]‏ فأرجع الضمير هنا إلى الفضة والتجارة لما كانت الفضة أعم نفعاً وأكثر وجوداً، والتجارة هي الحاملة على الانفضاض‏.‏ والفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الأوّل‏:‏ أن الصبر هناك جعل داخلاً تحت الصلاة، وهنا لم يكن داخلاً وإن كان مراداً، وقيل إن المراد الصبر والصلاة، ولكن أرجع الضمير إلى أحدهما استغناء به عن الآخر، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 50‏]‏ أي‏:‏ ابن مريم آية وأمه آية‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

ومن يَكُ أمسى بالمدينة رَحْلُه *** فإني وَقَيّارُ بها لغريبُ

وقال آخر‏:‏

لكل هَمٍّ من الهموم سَعَة *** والصُّبْح والمساء لا فلاح مَعَه

وقيل‏:‏ رجع الضمير إليهما بعد تأويلهما بالعبادة‏.‏

وقيل‏:‏ رجع إلى المصدر المفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏واستعينوا‏}‏ وهو الاستعانة‏.‏ وقيل‏:‏ رجع إلى جميع الأمور التي نهى عنها بنو إسرائيل‏.‏ والكبيرة التي يكبر أمرها، ويتعاظم شأنها على حاملها؛ لما يجده عند تحملها، والقيام بها من المشقة، ومنه‏:‏ ‏{‏كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏‏.‏ والخاشع‏:‏ هو المتواضع، والخشوع‏:‏ التواضع‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ والخشوع‏:‏ الإخبات والتطامن، ومنه الخشعة للرملة المتطامنة، وأما الخضوع‏:‏ فاللين والانقياد، ومنه خضعت بقولها‏:‏ إذا ليَّنَتْه‏.‏ انتهى‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الخاشع الذي يرى أثر الذلّ والخشوع عليه كخشوع الدار بعد الأقوى، ومكان خاشع‏:‏ لا يهتدى إليه، وخشعت الأصوات، أي‏:‏ سكنت، وخشع ببصره‏:‏ إذا غضه، والخشعة‏:‏ قطعة من الأرض رخوة‏.‏ وقال سفيان الثوري‏:‏ سألت الأعمش عن الخشوع، فقال‏:‏ يا ثوري أنت تريد أن تكون إماماً للناس، ولا تعرف الخشوع‏؟‏‏!‏ ليس الخشوع بأكل الخشن، ولبس الخشن، وتطأطؤ الرأس، لكن الخشوع أن ترى الشريف، والدنيء في الحق سواء، وتخشع لله في كل فرض افترض عليك‏.‏ انتهى‏.‏ وما أحسن ما قاله بعض المحققين في بيان ماهيته‏:‏ إنه هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون، وتواضع‏.‏ واستثنى سبحانه الخاشعين مع كونهم باعتبار استعمال جوارحهم في الصلاة، وملازمتهم لوظائف الخشوع الذي هو روح الصلاة، وإتعابهم لأنفسهم إتعاباً عظيماً في الأسباب الموجبة للحضور، والخضوع؛ لأنهم لما يعلمونه من تضاعف الأجر، وتوفر الجزاء، والظفر بما وعد الله به من عظيم الثواب، تسهل عليهم تلك المتاعب، ويتذلل لهم ما يرتكبونه من المصاعب، بل يصير ذلك لذة لهم خالصة، وراحة عندهم محضة، ولأمر ما هان على قوم ما يلاقونه من حرّ السيوف عند تصادم الصفوف، وكانت الأمنية عندهم طعم المنية حتى قال قائلهم‏:‏

ولست أبالي حين أقتل مسلماً *** على أيّ جنب كان في الله مصرعي

والظن هنا عند الجمهور بمعنى اليقين، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنّى ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 20‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 53‏]‏ ومنه قول دريد بن الصمة‏:‏

فقلت لهم ظُنُّوا بألفَي مدجَّج *** سَراتُّهُم بالفارسي المُسَوَّدِ

وقيل‏:‏ إن الظن في الآية على بابه، ويضمر في الكلام بذنوبهم، فكأنهم توقعوا لقاءه مذنبين، ذكره المهدوي والماوردي، والأوّل أولى‏.‏ وأصل الظن‏:‏ الشك مع الميل إلى أحد الطرفين، وقد يقع موقع اليقين في مواضع، منها هذه الآية‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏ملاقوا رَبّهِمْ‏}‏ ملاقوا جزائه، والمفاعلة هنا ليست على بابها، ولا أرى في حمله على أصل معناه من دون تقدير المضاف بأساً‏.‏ وفي هذا مع ما بعده من قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجعون‏}‏ إقراراً بالبعث، وما وعد الله به في اليوم الآخر‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏واركعوا‏}‏ قال‏:‏ صلوا‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم أيضاً عن مقاتل في قوله‏:‏ ‏{‏واركعوا مَعَ الراكعين‏}‏ قال‏:‏ أمرهم أن يركعوا مع أمة محمد، يقول‏:‏ كونوا منهم ومعهم‏.‏

وأخرج عبد ابن حميد عن قتادة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر‏}‏ الآية، قال‏:‏ أولئك أهل الكتاب كانوا يأمرون الناس بالبرّ، وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب، ولا ينتفعون بما فيه‏.‏ وأخرج الثعلبي والواحدي عن ابن عباس قال‏:‏ نزلت هذه الآية في يهود أهل المدينة، كان الرجل منهم يقول لصهره، ولذي قرابته، ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين‏:‏ اثبت على الدين الذي أنت عليه، وما يأمرك به هذا الرجل، يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم، فإن أمره حق، وكانوا يأمرون الناس بذلك، ولا يفعلونه‏.‏

وأخرج ابن جرير عنه في قوله‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر‏}‏ قال‏:‏ بالدخول في دين محمد‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال‏:‏ تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوّة، والعهد من التوراة، وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسلي‏؟‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن جرير، والبيهقي، عن أبي الدرداء في الآية قال‏:‏ لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه، فيكون لها أشدّ مقتاً‏.‏ وأخرج أحمد وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية، وابن حبان، وابن مردويه، والبيهقي عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت رجعت، فقلت لجبريل‏:‏ من هؤلاء‏؟‏ قال‏:‏ هؤلاء خطباء من أمتك كانوا يأمرون الناس بالبرّ، وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون ‏"‏ وثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد، قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق به أقتابه، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار، فيقولون‏:‏ يا فلان ما لك‏؟‏ ما أصابك‏؟‏ ألم تكن تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر‏؟‏ فيقول‏:‏ «كنت آمركم بالمعروف، ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر، وآتيه ‏"‏ وفي الباب أحاديث منها عن جابر مرفوعاً عند الخطيب، وابن النجار، وعن الوليد بن عقبة مرفوعاً عند الطبراني، والخطيب بسند ضعيف، وعند عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عنه موقوفاً، ومعناها جميعاً‏:‏ أنه يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار، فيقولون لهم‏:‏ بما دخلتم النار، وإنما دخلنا الجنة بتعليمكم‏؟‏ قالوا‏:‏ إنا كنا نأمركم، ولا نفعل‏.‏ وأخرج الطبراني، والخطيب في الاقتضاء، والأصبهاني في الترغيب بسند جيد عن جندب بن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏"‏ مثل العالم الذي يعلم الناس الخير، ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس، ويحرق نفسه ‏"‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عنه نحوه‏.‏ وأخرج الطبراني، والخطيب في الاقتضاء عن أبي برزة مرفوعاً نحوه‏.‏ وأخرج ابن قانع في معجمه، والخطيب في الاقتضاء عن سليك مرفوعاً نحوه‏.‏ وأخرج ابن سعد، وابن أبي شيبة، وأحمد في الزهد عن أبي الدرداء قال‏:‏ «ويل للذي لا يعلم مرة، ولو شاء الله لعلمه، وويل للذي يعلم، ولا يعمل سبع مرات»‏.‏ وأخرج أحمد في الزهد عن عبد الله بن مسعود مثله،

وما أحسن ما أخرجه ابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان، وابن عساكر عن ابن عباس؛ أنه جاءه رجل فقال‏:‏ يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، قال‏:‏ أو بلغت ذلك‏؟‏ قال‏:‏ أرجو، قال‏:‏ فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله، فافعل، قال‏:‏ وما هنّ‏؟‏ قال‏:‏ قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 44‏]‏ أحكمت هذه الآية‏؟‏ قال لا، قال‏:‏ فالحرف الثاني، قال‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 2، 3‏]‏ أحكمت هذه الآية‏؟‏ قال لا، قال‏:‏ فالحرف الثالث‏؟‏ قال‏:‏ قول العبد الصالح شعيب ‏{‏مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏ أحكمت هذه الآية‏؟‏ قال لا، قال‏:‏ فابدأ بنفسك‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏ قال‏:‏ إنهما معونتان من الله، فاستعينوا بهما‏.‏ وقد أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الصبر، وأبو الشيخ في الثواب، والديلمي في مسند الفردوس عن عليّ، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الصبر ثلاثة‏:‏ فصبر على المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية ‏"‏ وقد وردت أحاديث كثيرة في مدح الصبر والترغيب فيه، والجزاء للصابرين، ولم نذكرها هنا، لأنها ليست بخاصة بهذه الآية، بل هي واردة في مطلق الصبر، وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور ها هنا منها شطراً صالحاً، وفي الكتاب العزيز من الثناء على ذلك، والترغيب فيه الكثير الطيب‏.‏ وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن جرير عن حذيفة، قال‏:‏ «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» وأخرج أحمد، والنسائي، وابن حبان، عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ كانوا‏:‏ يعني الأنبياء، يفزعون إذا فزعوا إلى الصلاة ‏"‏ وأخرج ابن أبي الدنيا، وابن عساكر، عن أبي الدرداء مرفوعاً نحو حديث حذيفة‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، والحاكم، والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عباس، أنه كان في مسير له، فنعى إليه ابن له، فنزل فصلى ركعتين ثم استرجع، فقال‏:‏ فعلنا كما أمرنا الله فقال‏:‏ ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏‏.‏

وقد روى عنه نحو ذلك سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي لما نعى إليه أخوه قثم‏.‏ وقد روى نحو ذلك عن جماعة من الصحابة، والتابعين،

وأخرج ابن جرير، عن الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ‏}‏ قال‏:‏ لثقيلة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ عَلَى الخاشعين‏}‏ قال‏:‏ المؤمنين حقاً‏.‏ وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ عَلَى الخاشعين‏}‏ قال‏:‏ الخائفين‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال‏:‏ كل ظنّ في القرآن، فهو يقين، ولا يتم هذا في مثل قوله‏:‏ ‏{‏إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 28‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 12‏]‏ ولعله يريد الظن المتعلق بأمور الآخرة، كما رواه ابن جرير عن قتادة قال‏:‏ ما كان من ظن الآخرة، فهو علم‏.‏ وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجعون‏}‏ قال‏:‏ يستيقنون أنهم يرجعون إليه يوم القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 50‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏47‏)‏ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏49‏)‏ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ‏}‏ قد تقدم تفسيره، وإنما كرر ذلك سبحانه توكيداً للحجة عليهم، وتحذيراً لهم من ترك اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قرنه بالوعيد، وهو قوله‏:‏ ‏{‏واتقوا يَوْمًا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ‏}‏ معطوف على مفعول اذكروا أي‏:‏ اذكروا نعمتي، وتفضيلي لكم على العالمين، قيل المراد بالعالمين عالم زمانهم، وقيل على جميع العالمين بما جعل، فيهم من الأنبياء‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ على الجمّ الغفير من الناس كقوله‏:‏ ‏{‏بَارَكْنَا فِيهَا للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 71‏]‏ يقال رأيت عالماً من الناس‏:‏ يراد الكثرة‏.‏ انتهى‏.‏ قال الرازي في تفسيره‏:‏ وهذا ضعيف؛ لأن لفظ العالم مشتق من العلم، وهو الدليل، وكل ما كان دليلاً على الله كان علماً، وكان من العالم، وهذا تحقيق قول المتكلمين‏:‏ العالم كل موجود سوى الله، وعلى هذا لا يمكن تخصيص لفظ العالم ببعض المحدثات‏.‏ انتهى‏.‏

وأقول‏:‏ هذا الاعتراض ساقط، أما أوّلا، فدعوى اشتقاقه من العلم لا برهان عليه، وأما ثانياً‏:‏ فلو سلمنا صحة هذا الاشتقاق كان المعنى موجوداً بما يتحصل معه مفهوم الدليل على الله الذي يصح إطلاق اسم العلم عليه، وهو كائن في كل فرد من أفراد المخلوقات التي يستدل بها على الخالق، وغايته أن جميع العالم يستلزم أن يكونوا مفضلين على أفراد كثيرة من المحدثات؛ وأما أنهم مفضلون على كل المحدثات في كل زمان، فليس في اللفظ ما يفيد هذا، ولا في اشتقاقه ما يدل عليه، وأما من جعل العالم أهل العصر، فغايته أن يكونوا مفضلين على أهل عصور، لا على أهل كل عصر، فلا يستلزم ذلك تفضيلهم على أهل العصر الذين، فيهم نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا على ما بعده من العصور، ومثل هذا الكلام ينبغي استحضاره عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 20‏]‏ وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 32‏]‏ وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم وَءالَ عمران عَلَى العالمين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 33‏]‏ فإن قيل‏:‏ إن التعريف في العالمين يدل على شموله لكل عالم‏.‏ قلت‏:‏ لو كان الأمر هكذا لم يكن ذلك مستلزماً لكونهم أفضل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ لقوله تعالى ‏{‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ فإن هذه الآية ونحوها تكون مخصصة لتلك الآيات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏واتقوا يَوْمًا‏}‏ أمر معناه الوعيد، وقد تقدم معنى التقوى‏.‏ والمراد باليوم‏:‏ يوم القيامة أي‏:‏ عذابه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا‏}‏ في محل نصب صفة ليوم، والعائد محذوف‏.‏ قال البصريون في هذا وأمثاله‏:‏ تقديره فيه‏.‏

وقال الكسائي‏:‏ هذا خطأ، بل التقدير لا تجزيه؛ لأن حذف الظرف لا يجوز، ويجوز حذف الضمير وحده‏.‏ وقد روى عن سيبويه، والأخفش، والزجاج جواز الأمرين‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏لا تجزي‏}‏‏:‏ لا تكفي، وتقضي، يقال جزا عني هذا الأمر يجزي، أي‏:‏ قضى، واجتزأت بالشيء أجتزيء، أي‏:‏ اكتفيت، ومنه قول الشاعر‏:‏

فإن الغدرَ في الأقوام عَارٌ *** وإن الحر يَجزي بالكُراع

والمراد أن هذا اليوم لا تقضي نفس عن نفس شيئاً، ولا تكفي عنها، ومعنى التنكير‏:‏ التحقير، أي‏:‏ شيئاً يسيراً حقيراً، وهو منصوب على المفعولية، أو على أنه صفة مصدر محذوف، أي‏:‏ جزاء حقيراً‏.‏ والشفاعة مأخوذة من الشفع، وهو الاثنان، تقول استشفعته‏:‏ أي‏:‏ سألته أن يشفع لي، أي‏:‏ يضمّ جاهه إلى جاهك عند المشفوع إليه، ليصل النفع إلى المشفوع له، وسميت الشفعة شفعة؛ لأنك تضم ملك شريكك إلى ملكك‏.‏ وقد قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، تقبل بالمثناة الفوقية؛ لأن الشفاعة مؤنثة، وقرأ الباقون بالياء التحتية؛ لأنها بمعنى الشفيع‏.‏ قال الأخفش‏:‏ الأحسن التذكير‏.‏ وضمير ‏{‏منها‏}‏ يرجع إلى النفس المذكورة ثانياً‏:‏ أي‏:‏ إن جاءت بشفاعة شفيع، ويجوز أن يرجع إلى النفس المذكورة أوّلاً‏:‏ أي‏:‏ إذا شفعت لم يقبل منها‏.‏ والعدل بفتح العين‏:‏ الفداء، وبكسرها‏:‏ المثل‏.‏ يقال عدل، وعديل للذي ماثل في الوزن والقدر‏.‏ وحكى ابن جرير‏:‏ أن في العرب من يكسر العين في معنى الفدية‏.‏ والنصر‏:‏ العون، والأنصار‏:‏ الأعوان، وانتصر الرجل‏:‏ انتقم، والضمير، أي‏:‏ هم، يرجع إلى النفوس المدلول عليها بالنكرة في سياق النفي، والنفس تذكر وتؤنث‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ نجيناكم‏}‏ متعلق بقوله ‏{‏اذكروا‏}‏ والنجاة‏:‏ النجوة من الأرض، وهي ما ارتفع منها، ثم سمي كل فائز ناجياً‏.‏ وآل فرعون‏:‏ قومه، وأصل آل‏:‏ أهل؛ بدليل تصغيره على أُهيل‏.‏ وقيل غير ذلك، وهو يضاف إلى ذوي الخطر‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ إنما يقال في الرئيس الأعظم نحو آل محمد‏.‏ ولا يضاف إلى البلدان، فلا يقال من آل المدينة‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ قد سمعناه في البلدان قالوا‏:‏ آل المدينة‏.‏ واختلفوا هل يضاف إلى المضمر أم لا‏.‏ فمنعه قوم وسوّغه آخرون، وهو الحق، ومنه قول عبد المطلب‏:‏

وانصر على آل الصلي *** ب وعابديه اليوم آلك

وفرعون‏:‏ قيل هو اسم ذلك الملك بعينه‏.‏ وقيل إنه اسم لكل ملك من ملوك العمالقة كما يسمى من ملك الفرس‏:‏ كسرى، ومن ملك الروم‏:‏ قيصر، ومن ملك الحبشة‏:‏ النجاشي‏.‏ واسم فرعون موسى المذكور هنا‏:‏ قابوس، في قول أهل الكتاب‏.‏ وقال وهب‏:‏ اسمه الوليد بن مصعب بن الريان‏.‏ قال المسعودي‏:‏ لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ إن كل عات يقال له‏:‏ فرعون، وقد تفرعن وهو ذو فرعنة‏:‏ أي‏:‏ دهاء ومكر‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ تفرعَن فلان‏:‏ إذا عتا وتجبر‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏يَسُومُونَكُمْ‏}‏ يولونكم، قاله أبو عبيدة، وقيل يذيقونكم، ويلزمونكم إياه، وأصل السوم الدوام، ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي، ويقال‏:‏ سامه خطة خسف‏:‏ إذا أولاه إياها‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ أصله من سام السلعة إذا طلبها، كأنه بمعنى‏:‏ يبغونكم سوء العذاب، ويريدونكم عليه‏.‏ انتهى‏.‏ ‏{‏وسوء العذاب‏}‏‏:‏ أشدّه، وهو صفة مصدر محذوف، أي يسومونكم سوماً سوء العذاب، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً، وهذه الجملة في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ مقدّر، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال أي‏:‏ سائمين لكم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يُذَبّحُونَ‏}‏ وما بعده بدل من قوله‏:‏ ‏{‏يَسُومُونَكُمْ‏}‏ وقال الفراء‏:‏ إنه تفسير لما قبله، وقرأه الجماعة بالتشديد، وقرأ ابن محيصن بالتخفيف‏.‏ والذبح في الأصل‏:‏ الشقّ، وهو فرى أوداج المذبوح،

والمراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ‏}‏ يتركونهن أحياء؛ ليستخدموهنّ، ويمتهنوهنّ وإنما أمر بذبح الأبناء، واستحياء البنات، لأن الكهنة أخبروه بأنه يولد مولود يكون هلاكه على يده، وعبر عن البنات باسم النساء؛ لأنه جنس يصدق على البنات‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ إنه أمر بذبح الرجال، واستدلوا بقوله‏:‏ ‏{‏نِسَاءكُمْ‏}‏ والأوّل أصح بشهادة السبب‏.‏ ولا يخفى ما في قتل الأبناء، واستحياء البنات للخدمة ونحوها، من إنزال الذلّ بهم، وإلصاق الإهانة الشديدة بجميعهم لما في ذلك من العار‏.‏ والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏وَفِى ذلكم‏}‏ إلى جملة الأمر، والبلاء يطلق تارة على الخير، وتارة على الشرّ، فإن أريد به هنا الشرّ كانت الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏وَفِى ذلكم بَلاء‏}‏ إلى ما حلّ بهم من النقمة بالذبح ونحوه، وإن أريد به الخير كانت الإشارة إلى النعمة التي أنعم الله عليهم بالإنجاء، وما هو مذكور قبله من تفضيلهم على العالمين‏.‏ وقد اختلف السلف ومن بعدهم في مرجع الإشارة، فرجح الجمهور الأوّل، ورجح الآخرون الآخر‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ وأكثر ما يقال في الشرّ بلوته أبلوه بلاء، وفي الخير أبلية إبلاء وبلاء، قال زهير‏:‏

جَزَى الله بِالإحْسانِ مِاَ فَعَلا بِكُم *** وأبلاهما خَيْر البَلاءِ الذَّيَ يَبْلُو

قال‏:‏ فجمع بين اللغتين؛ لأنه أراد، فأنعم عليهما خير النعم، التي يختبر بها عباده‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ فَرَقْنَا‏}‏ متعلق بما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏اذكروا‏}‏ وفرقنا‏:‏ فلقنا، وأصل الفرق‏:‏ الفصل، ومنه فرق الشعر، وقرأ الزهري‏:‏ «فرَّقنا» بالتشديد، والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بِكُمْ‏}‏ قيل‏:‏ هي بمعنى اللام، أي‏:‏ لكم‏.‏ وقيل هي الباء السببية، أي‏:‏ فرقناه بسببكم‏.‏ وقيل‏:‏ إن الجار والمجرور في محل الحال، أي‏:‏ فرقناه متلبساً بكم، والمراد ها هنا‏:‏ أن فرق البحر كان بهم، أي‏:‏ بسبب دخولهم فيه، أي‏:‏ لما صاروا بين الماءين صار الفرق بهم‏.‏ وأصل البحر في اللغة‏:‏ الاتساع، أطلق على البحر الذي هو مقابل البر، لما فيه من الاتساع بالنسبة إلى النهر، والخليج، ويطلق على الماء المالح، ومنه أبحر الماء‏:‏ إذا ملح، قال نصيب‏:‏

وقد عاد ماءُ الأرض بَحْراً فزادني *** إلى مَرَضي أن أبْحَرَ المَشْربُ العذْبُ

وقوله‏:‏ ‏{‏فأنجيناكم‏}‏ أي‏:‏ أخرجناكم منه‏.‏ ‏{‏وأغرقنا آل فرعون‏}‏ فيه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ‏}‏ في محل نصب على الحال، أي‏:‏ حال كونكم ناظرين إليهم بأبصاركم‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ وأنتم تنظرون، أي‏:‏ ينظر بعضكم إلى البعض الآخر من السالكين في البحر، وقيل‏:‏ نظروا إلى أنفسهم ينجون، وإلى آل فرعون يغرقون‏.‏ والمراد بآل فرعون هنا‏:‏ هو وقومه وأتباعه‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب؛ أنه كان إذا تلا‏:‏ ‏{‏اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ‏}‏ قال‏:‏ مضى القوم، وإنما يعني به أنتم، وأخرج ابن جرير عن سفيان بن عيينة قال في قوله‏:‏ ‏{‏اذكروا نِعْمَتِيَ‏}‏ هي أيادي الله، وأيامه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال‏:‏ نعمة الله التي أنعم بها على بني إسرائيل، فيما سمى، وفيما سوى ذلك، فجَّر لَهُم الحجر، وأنزل عليهم المنّ، والسلوى، وأنجاهم من عبودية آل فرعون‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين‏}‏ قال‏:‏ فضلوا على العالم الذي كانوا فيه، ولكل زمان عالم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وابن جرير عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين‏}‏ قال‏:‏ بما أعطوا من الملك، والرسل، والكتب على من كان في ذلك الزمان، فإن لكل زمان عالماً‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا‏}‏ قال‏:‏ لا تغني نفس مؤمنة عن نفس كافرة من المنفعة شيئاً‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن عمرو بن قيس المُلائي، عن رجل من بني أمية من أهل الشام أحسن الثناء عليه، قال‏:‏ «قيل يا رسول الله ما العدل‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ العدل الفدية ‏"‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس نحوه‏.‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ وروى عن أبي مالك، والحسن، وسعيد بن جبير وقتادة، والربيع بن أنس نحو ذلك‏.‏ وأخرج عبد الرزاق عن عليّ في تفسير الصرف، والعدل قال‏:‏ التطوّع والفريضة‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ وهذا القول غريب هاهنا، والقول الأوّل أظهر في تفسير هذه الآية‏.‏

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال‏:‏ قالت الكهنة لفرعون‏:‏ إنه يولد في هذا العام مولود يذهب بملكه، فجعل فرعون على كل ألف امرأة مائة رجل، وعلى كل مائة عشرة، وعلى كل عشر رجلاً، فقال‏:‏ انظروا كل امرأة حامل في المدينة، فإذا وضعت حملها، فإن كان ذكراً فاذبحوه، وإن كان أنثى، فخلوا عنها، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ‏}‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب‏}‏ قال‏:‏ إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة‏.‏

فقالت له الكهنة‏:‏ إنه سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه، فبعث في أهل مصر نساء قوابل، فإذا ولدت امرأة غلاماً أتى به فرعون فقتله، ويستحيي الجواري‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏بَلاء مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ‏}‏ يقول‏:‏ نقمة‏.‏ وأخرج وكيع عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر‏}‏ فقال‏:‏ إي والله لفرق البحر بينهم حتى صار طريقاً يبساً يمشون فيه، فأنجاهم الله، وأغرق آل فرعون عدوّهم‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين، وغيرهما من حديث ابن عباس قال‏:‏ «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال‏:‏ ‏"‏ ما هذا اليوم‏؟‏ ‏"‏ قالوا‏:‏ هذا يوم صالح نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوّهم فصامه موسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ نحن أحق بموسى منكم، فصامه، وأمر بصومه ‏"‏ وقد أخرج الطبراني، وأبو نعيم في الحلية عن سعيد بن جبير أن هرقل كتب إلى معاوية يسأله عن أمور، منها عن البقعة التي لم تصبها الشمس إلا ساعة، فكتب معاوية إلى ابن عباس، فأجابه عن تلك الأمور وقال‏:‏ وأما البقعة التي لم تصبها الشمس إلا ساعة من نهار‏:‏ فالبحر الذي أفرج عن بني إسرائيل‏.‏ ولعله سيأتي إن شاء الله تعالى زيادة على ما هنا عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 63‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 54‏]‏

‏{‏وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏51‏)‏ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏52‏)‏ وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏53‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قرأ أبو عمرو ‏"‏ وعدنا ‏"‏ بغير ألف، ورجحه أبو عبيدة، وأنكر «واعدنا» قال‏:‏ لأن المواعدة إنما تكون من البشر، فأما من الله فإنما هو التفرّد بالوعد على هذا وجدنا القرآن كقوله‏:‏ ‏{‏وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 22‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 7‏]‏ ومثله، قال أبو حاتم ومكي‏:‏ وإنما قالوا هكذا نظراً إلى أصل المفاعلة، أنها تفيد الاشتراك في أصل الفعل، وتكون من كل واحد من المتواعدين، ونحوهما، ولكنها قد تأتي للواحد في كلام العرب كما في قولهم‏:‏ داويت العليل، وعاقبت اللص، وطارقت النعل، وذلك كثير في كلامهم‏.‏ وقرأه الجمهور‏:‏ ‏{‏واعدنا‏}‏ قال النحاس‏:‏ وهي أجود، وأحسن، وليس قوله‏:‏ ‏{‏وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 9، النور‏:‏ 55‏]‏ من هذا في شيء؛ لأن واعدنا موسى إنما هو من باب الموافاة، وليس هو من الوعد والوعيد في شيء، وإنما هو من قولك‏:‏ موعدك يوم الجمعة، وموعدك موضع كذا؛ والفصيح في هذا أن يقال، واعدته‏.‏ قال الزجاج‏:‏ واعدنا بالألف ها هنا جيد؛ لأن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة، فمن الله سبحانه وعد، ومن موسى قبول‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَرْبَعِينَ لَيْلَةً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ التقدير تمام أربعين ليلة، وهي عند أكثر المفسرين ذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، وإنما خص الليالي بالذكر دون الأيام؛ لأن الليلة أسبق من اليوم فهي قبله في الرتبة‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اتخذتم العجل‏}‏ أي‏:‏ جعلتم العجل إلهاً من بعده، أي‏:‏ من بعد مضي موسى إلى الطور‏.‏ وقد ذكر بعض المفسرين أنهم عدوا عشرين يوماً، وعشرين ليلة‏.‏ وقالوا‏:‏ قد اختلف موعده، فاتخذوا العجل، وهذا غير بعيد منهم، فقد كانوا يسلكون طرائق من التعنت خارجة عن قوانين العقل، مخالفة لما يخاطبون به، بل ويشاهدونه بأبصارهم، فلا يقال‏:‏ كيف تعدون الأيام، والليالي على تلك الصفة، وقد صرح لهم في الوعد بأنها أربعون ليلة، وإنما سماهم ظالمين؛ لأنهم أشركوا بالله، وخالفوا موعد نبيهم عليهم السلام، والجملة في موضع نصب على الحال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِ ذلك‏}‏ أي‏:‏ من بعد عبادتكم العجل، وسمي العجل عجلاً، لاستعجالهم عبادته كذا قيل، وليس بشيء؛ لأن العرب تطلق هذا الاسم على ولد البقر‏.‏ وقد كان جعله لهم السامريّ على صورة العجل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ أي لكي تشكروا ما أنعم الله به عليكم، من العفو عن ذنبكم العظيم الذي وقعتم فيه‏.‏ وأصل الشكر في اللغة‏:‏ الظهور، من قولهم‏:‏ دابة شكور إذ ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الشكر‏:‏ الثناء على المحسن بما أولاك من المعروف، يقال شكرته وشكرت له، وباللام أفصح، وقد تقدّم معناه، والشكران خلاف الكفران‏.‏

والكتاب‏:‏ التوراة بالإجماع من المفسرين‏.‏

واختلفوا في الفرقان، وقال الفراء، وقُطرُب‏:‏ المعنى‏:‏ آتينا موسى التوراة، ومحمداً الفرقان‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذا غلط، أوقعهما فيه أن الفرقان مختص بالقرآن، وليس كذلك، فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 48‏]‏ وقال الزجاج‏:‏ إن الفرقان هو‏:‏ الكتاب، أعيد ذكره تأكيداً‏.‏ وحكى نحوه عن الفراء، ومنه قول عنترة‏:‏

حييت من طلل تقادم عهده *** أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

وقيل‏:‏ إن الواو صلة، والمعنى‏:‏ آتينا موسى، الكتاب الفرقان، والواو قد تزاد في النعوت كقول الشاعر‏:‏

إلى المَلكِ القَرْم وابن الهمام *** وليثِ الكتَيبةِ في المُزَدحمْ

وقيل المعنى‏:‏ أن ذلك المنزل جامع بين كونه كتاباً وفارقاً بين الحق، والباطل، وهو كقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَامًا عَلَى الذى أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَئ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 154‏]‏ وقيل الفرقان‏:‏ الفرق بينهم، وبين قوم فرعون، أنجى هؤلاء، وأغرق هؤلاء‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الفرقان‏:‏ انفراق البحر‏.‏ وقيل الفرقان‏:‏ الفرج من الكرب‏.‏ وقيل‏:‏ إنه الحجة والبيان بالآيات التي أعطاها الله من العصا، واليد، وغيرهما، وهذا أولى، وأرجح، ويكون العطف على بابه، كأنه قال‏:‏ آتينا موسى التوراة، والآيات التي أرسلناه بها معجزة له‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمٌ‏}‏ القوم يطلق تارة على الرجال دون النساء، ومنه قول زهير‏:‏

وَمَا أدْرِي وَسَوف إخَالُ أدْرِي *** أقَومٌ آل حِصْنٍ أَمْ نِسَاء

ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏، ومنه ‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 80‏]‏ أراد الرجال، وقد يطلق على الجميع كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 1‏]‏ والمراد هنا بالقوم‏:‏ عبدةُ العجل‏.‏ والباريء‏:‏ الخالق‏.‏ وقيل إن الباريء‏:‏ هو‏:‏ المبدع المحدث، والخالق هو‏:‏ المقدّر الناقل من حال إلى حال‏.‏ وفي ذكر البارئ هنا إشارة إلى عظيم جرمهم، أي‏:‏ فتوبوا إلى الذي خلقكم، وقد عبدتم معه غيره‏.‏ والفاء في قوله‏:‏ «فتوبوا» للسببية‏:‏ أي‏:‏ لتسبب التوبة عن الظلم، وفي قوله‏:‏ ‏{‏فاقتلوا‏}‏ للتعقيب، أي‏:‏ اجعلوا القتل متعقباً للتوبة‏.‏ قال القرطبي‏:‏ وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده‏.‏ قيل‏:‏ قاموا صفين، وقتل بعضهم بعضاً‏.‏ وقيل‏:‏ وقف الذين عبدوا العجل، ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ قيل‏:‏ في الكلام حذف أي‏:‏ فقتلتم أنفسكم، ‏{‏فتاب عليكم‏}‏ أي‏:‏ على الباقين منكم‏.‏ وقيل‏:‏ هو جواب شرط محذوف، كأنه قال‏:‏ فإن فعلتم، فقد تاب عليكم‏.‏ وأما ما قاله صاحب الكشاف من أنه يجوز أن يكون خطاباً من الله لهم على طريقة الالتفات، فيكون التقدير‏:‏ ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم، فهو بعيد جداً كما لا يخفى‏.‏

وقد أخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏أَرْبَعِينَ لَيْلَةً‏}‏ قال‏:‏ ذا القعدة، وعشراً من ذي الحجة‏.‏

وقد أخرج ابن جرير عنه في قوله‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِ ذلك‏}‏ قال‏:‏ من بعد ما اتخذتم العجل‏.‏ وأخرج عبد ابن حميد، وابن جرير عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان‏}‏ قال‏:‏ الكتاب هو‏:‏ الفرقان، فرق بين الحق والباطل‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس قال‏:‏ الفرقان جماع اسم التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه قال‏:‏ أمر موسى قومه عن أمر ربه أن يقتلوا أنفسهم، واختبأ الذين عكفوا على العجل، فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظلمة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلمة عنهم عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن عليّ قال‏:‏ قالوا‏:‏ لموسى ما توبتنا‏؟‏ قال‏:‏ يقتل بعضكم بعضاً، فأخذوا السكاكين، فجعل الرجل يقتل أخاه، وأباه، وابنه، لا يبالي من قتل حتى قتل منهم سبعون ألفاً، فأوحى الله إلى موسى‏:‏ مرهم، فليرفعوا أيديهم، وقد غفر لمن قُتل، وتَيب على من بقي‏.‏ وقد أخرج عبد بن حميد عن قتادة، وأخرج أحمد في الزهد، وابن جرير عن الزهري، نحواً مما سبق‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏إلى بَارِئِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ خالقكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 57‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏55‏)‏ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏56‏)‏ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ‏}‏ هذه الجملة معطوفة على التي قبلها، وظاهر السياق أن القائلين هذه المقالة هم‏:‏ قوم موسى‏.‏ وقيل هم السبعون الذين اختارهم‏.‏ وذلك أنهم لما سمعوا كلام الله قالوا له بعد ذلك هذه المقالة، فأرسل الله عليهم ناراً فأحرقتهم، ثم دعا موسى ربه، فأحياهم كما قال تعالى هنا‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بعثناكم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ‏}‏ وسيأتي ذلك في الأعراف إن شاء الله‏.‏ والجهرة‏:‏ المعاينة، وأصلها الظهور، ومنه الجهر بالقراءة، والمجاهرة بالمعاصي، ورأيت الأمر جهرة وجهاراً‏:‏ أي غير مستتر بشيء، وهي مصدر واقع موقع الحال، وقرأ ابن عباس‏:‏ «جهرة» بفتح الهاء، وهي لغتان مثل زهرة، وزهرة، ويحتمل أن يكون على هذه القراءة جمع جاهر‏.‏ والصاعقة قد تقدم تفسيرها، وقرأ عمر، وعثمان وعليّ‏:‏ «الصعقة» وهي قراءة ابن محيصن، والمراد بأخذ الصاعقة إصابتها إياهم‏.‏

‏{‏وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ‏}‏ في محل نصب على الحال، والمراد من هذا النظر الكائن منهم أنهم نظروا أوائل الصاعقة النازلة بهم الواقعة عليهم‏.‏

لا آخرها الذي ماتوا عنده، وقيل المراد بالصاعقة الموت، واستدل عليه بقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بعثناكم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ‏}‏ ولا موجب للمصير إلى هذا التفسير، لأن المصعوق قد يموت كما في هذه الآية، وقد يغشى عليه، ثم يفيق كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَخَرَّ موسى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏ ومما يوجب بُعْد ذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ‏}‏ فإنها لو كانت الصاعقة عبارة عن الموت لم يكن لهذه الجملة كبير معنى، بل قد يقال‏:‏ إنه لا يصح أن ينظروا الموت النازل بهم، إلا أن يكون المراد نظر الأسباب المؤثرة للموت‏.‏ والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بعثناكم‏}‏ الإحياء لهم لوقوعه بعد الموت، وأصل البعث الإثارة للشيء من محله، يقال‏:‏ بعثت الناقة، أي‏:‏ أثرتها، ومنه قول امرئ القيس‏:‏

وإخوان صدقٍ قد بَعَثْت بِسحْرِة *** فَقَامُوا جَمِيعاً بين غَاثٍ ونشوان

وقول عنترة‏:‏

وصحابةٌ شُمُ الأُنوف بَعْثتَهم *** لَيلاً وَقد مَال الكرَى بطلاها

وإنما عوقبوا بأخذ الصاعقة لهم؛ لأنهم طلبوا ما لم يأذن الله به من رؤيته في الدنيا‏.‏ وقد ذهبت المعتزلة ومن تابعهم إلى إنكار الرؤية في الدنيا والآخرة، وذهب من عداهم إلى جوازها في الدنيا، والآخرة، ووقوعها في الآخرة‏.‏ وقد تواترت الأحاديث الصحيحة بأن العباد يرون ربهم في الآخرة، وهي قطعية الدلالة، لا ينبغي لمنصف أن يتمسك في مقابلها بتلك القواعد الكلامية التي جاء بها قدماء المعتزلة، وزعموا أن العقل قد حكم بها، دعوى مبنية على شفا جُرُف هار، وقواعد لا يغترّ بها إلا من لم يحظ من العلم النافع بنصيب، وسيأتيك إن شاء الله بيان ما تمسكوا به من الأدلة القرآنية، وكلها خارج عن محل النزاع، بعيد من موضع الحجة، وليس هذا موضع المقال في هذه المسألة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام‏}‏ أي‏:‏ فعلناه كالظلة، والغمام جمع غمامة كسحابة، وسحاب، قاله الأخفش‏:‏ قال الفراء ويجوز غمائم‏.‏ وقد ذكر المفسرون أن هذا جرى في التيه بين مصر، والشام لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين‏.‏ والمنّ‏:‏ قيل هو‏:‏ الترنجبين‏.‏ قال النحاس‏:‏ هو بتشديد الراء، وإسكان النون، ويقال‏:‏ الطرَّنجبين بالطاء، وعلى هذا أكثر المفسرين، وهو‏:‏ طلٌّ ينزل من السماء على شجر، أو حجر، ويحلو، وينعقد عسلاً، ويجفّ جفاف الصمغ، ذكر معناه في القاموس، وقيل إن المنّ العسل، وقيل شراب حلو، وقيل خبز الرقاق، وقيل إنه مصدر يعمّ جميع ما مَنَّ الله به على عباده، من غير تعب، ولا زرع، ومنه ما ثبت في صحيح البخاري، ومسلم، من حديث سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أن الكمأة من المنّ الذي أنزل على موسى» وقد ثبت مثله من حديث أبي هريرة عند أحمد، والترمذي، ومن حديث جابر، وأبي سعيد، وابن عباس عند النسائي‏.‏ والسلوى‏:‏ قيل هو‏:‏ السُمَاني، كحبارى، طائر يذبحونه، فيأكلونه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ السلوى طير بإجماع المفسرين، وقد غلط الهذلي فقال‏:‏

وقاسمهما بالله جَهْداً لأنتُما *** ألذُّ من السَلوى إذا ما أشورها

ظنّ أن السلوى العسل‏.‏ قال القرطبي‏:‏ ما ادعاه من الإجماع لا يصح‏.‏ وقد قال المؤرج أحد علماء اللغة، والتفسير‏:‏ إنه العسل‏.‏ واستدل ببيت الهذلي، وذكر أنه كذلك بلغة كنانة، وأنشد‏:‏

لو شربت السُّلوان ما سلوت *** ما بي غنا عنك وإن غنيت

وقال الجوهري‏:‏ والسلوى العسل‏.‏ قال الأخفش‏:‏ السلوى لا واحد له من لفظه مثل الخير والشرّ، وهو يشبه أن يكون واحده سلوى‏.‏ وقال الخليل‏:‏ واحده سلواة، وأنشد‏:‏

وإني لتعروني لذكراك سلوة *** كما انتفض السلواة من سلكه القطر

وقال الكسائي‏:‏ السلوى واحدة، وجمعه سلاوى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كلوا‏}‏ أي‏:‏ قلنا لهم كلوا، وفي الكلام حذف، والتقدير‏:‏ قلنا كلوا فعصوا، ولم يقابلوا النعم بالشكر، فظلموا أنفسهم، وما ظلمونا، فحذف هذا لدلالة ‏{‏ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ عليه، وتقديم الأنفس هنا يفيد الاختصاص‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏حتى نَرَى الله جَهْرَةً‏}‏ قال‏:‏ علانية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن أنس قال‏:‏ هم‏:‏ السبعون الذين اختارهم موسى ‏{‏فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة‏}‏ قال‏:‏ ماتوا ‏{‏ثُمَّ بعثناكم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بعثناكم‏}‏ نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام‏}‏ قال‏:‏ غمام أبرد من هذا، وأطيب، وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر، وكان معهم في التيه‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام‏}‏ قال‏:‏ كان هذا الغمام في البرية ظلل عليهم الغمام من الشمس، وأطعمهم المنّ، والسلوى حين برزوا إلى البرية، فكان المنّ يسقط عليهم في محلتهم سقوط الثلج أشدّ بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فيأخذ الرجل قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإن تعدى ذلك فسد ما يبقى عنده، حتى إذا كان يوم سادسه يوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه، ويوم سابعه فبقي عنده، لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر المعيشة، ولا لطلبة شيء، وهذا كله في البرية‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال‏:‏ المنّ شيء أنزل الله عليهم مثل الطلّ، والسلوى‏:‏ طير أكبر من العصفور‏.‏

وأخرج وكيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد، قال‏:‏ المنّ صمغة، والسلوى‏:‏ طائر‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي قال‏:‏ قالوا‏:‏ يا موسى كيف لنا بما ها هنا أين الطعام‏؟‏ فأنزل الله عليهم المنّ، فكان يسقط على الشجرة الترنجبين‏.‏ وأخرجوا عن وهب أنه سئل ما المنّ‏؟‏ قال‏:‏ خبز الرقاق، مثل الذرة، أو مثل النوى‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال‏:‏ المنّ شراب كان ينزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء، ثم يشربونه‏.‏ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ كان المنّ ينزل عليهم بالليل على الأشجار، فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا، والسلوى طائر يشبه السماني، كانوا يأكلون منه ما شاءوا‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود وناس من الصحابة، في السلوى مثله‏.‏ وقد روى نحو ذلك عن جماعة من التابعين، ومن بعدهم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا ظَلَمُونَا‏}‏ قال نحن أعزّ من أن نظلم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ قال‏:‏ يضرّون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 59‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏58‏)‏ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

قال جمهور المفسرين‏:‏ القرية هي بيت المقدس‏.‏ وقيل إنها أريحاء قرية من قرى بيت المقدس، وقيل‏:‏ من قرى الشام‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كُلُواْ‏}‏ أمر إباحة، و‏{‏رَغَدًا‏}‏ كثيراً واسعاً، وهو‏:‏ نعت لمصدر محذوف، أي‏:‏ أكلاً رغداً، ويجوز أن يكون في موضع الحال، وقد تقدم تفسيره‏.‏ والباب الذي أمروا بدخوله هو باب في بيت المقدس يعرف اليوم بباب حطة‏.‏ وقيل‏:‏ هو‏:‏ باب القبة التي كان يصلي إليها موسى وبنو إسرائيل‏.‏ والسجود قد تقدم تفسيره‏:‏ وقيل‏:‏ هو‏:‏ هنا الانحناء، وقيل‏:‏ التواضع والخضوع، واستدلوا على ذلك بأنه لو كان المراد السجود الحقيقي الذي هو وضع الجبهة على الأرض لامتنع الدخول المأمور به؛ لأنه لا يمكن الدخول حال السجود الحقيقي‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ إنهم أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكراً لله، وتواضعاً‏.‏ واعترضه أبو حيان في النهر المادّ، فقال‏:‏ لم يؤمروا بالسجود، بل هو‏:‏ قيد في وقوع المأمور به، وهو‏:‏ الدخول، والأحوال نسب تقييدية، والأوامر نسب إسنادية‏.‏ انتهى‏.‏ ويجاب عنه بأن الأمر بالمقيد أمر بالقيد، فمن قال‏:‏ اخرج مسرعاً، فهو أمر بالخروج على هذه الهيئة، فلو خرج غير مسرع كان عند أهل اللسان مخالفاً للأمر، ولا ينافي هذا كون الأحوال نسباً تقييدية، فإن اتصافها بكونها قيوداً مأموراً بها هو شيء زائد على مجرد التقييد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حِطَّةٌ‏}‏ بالرفع في قراءة الجمهور على إضمار مبتدأ، قال الأخفش‏:‏ وقرئت‏:‏ «حطة» نصباً على معنى احطط عنا ذنوبنا حطة، وقيل معناها الاستغفار ومنه قول الشاعر‏:‏

فَازَ بِالحطةِ التي أمرَ الله *** بها ذَنْبَ عبده مَغْفُوراً

وقال ابن فارس في المجمل‏:‏ ‏{‏حطة‏}‏ كلمة أمروا بها، ولو قالوها لحطت أوزارهم‏.‏ قال الرازي في تفسيره‏:‏ أمرهم بأن يقولوا ما يدل على التوبة؛ وذلك لأن التوبة صفة القلب، فلا يطلع الغير عليها، وإذا اشتهر، وأخذ بالذنب، ثم تاب بعده لزمه أن يحكي توبته لمن شاهد منه الذنب؛ لأن التوبة لا تتمّ إلا به‏.‏ انتهى‏.‏ وكون التوبة لا تتم إلا بذلك لا دليل عليه، بل مجرد عقد القلب عليها يكفي، سواء اطلع الناس على ذنبه أم لا‏.‏ وربما كان التكتم بالتوبة على وجه لا يطلع عليها إلا الله- عزّ وجل- أحبّ إلى الله، وأقرب إلى مغفرته، وأما رفع ما عند الناس من اعتقادهم بقاءه على المعصية، فذلك باب آخر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏نَغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ قرأ نافع بالياء التحتية المضمومة، وقرأه ابن عامر بالتاء الفوقية المضمومة، وقرأه الباقون بالنون، وهي أولى‏.‏ والخطايا جمع خطيئة بالهمز، وقد تكلم علماء العربية في ذلك بما هو معروف في كتب الصرف، وقوله‏:‏ ‏{‏وَسَنَزِيدُ المحسنين‏}‏ أي‏:‏ نزيدهم إحساناً على إحسانهم المتقدم، وهو اسم فاعل من أحسن، وقد ثبت في الصحيح‏:‏ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الإحسان فقال‏:‏

«أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وقوله‏:‏ ‏{‏فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ‏}‏ قيل‏:‏ إنهم قالوا‏:‏ حنطة‏.‏ وقيل غير ذلك، والصواب أنهم قالوا‏:‏ حبة في شعرة كما سيأتي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ هو من وضع الظاهر موضع المضمر لنكتة، كما تقرر في علم البيان، وهي هنا‏:‏ تعظيم الأمر عليهم وتقبيح فعلهم، ومنه قول عدي بن زيد‏:‏

لا أرَى المْوت يسبق الموتَ شيءٌ *** نغَّص الموت ذا الغنَى والفَقِيرا

فكرر الموت في البيت ثلاثاً؛ تهويلاً لأمره، وتعظيماً لشأنه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏رِجْزًا‏}‏ بكسر الراء في قراءة الجميع إلا ابن مُحَيْصن، فإنه قرأ بضم الراء‏.‏ والرجز‏:‏ العذاب، والفسق قد تقدم تفسيره‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏ادخلوا هذه القرية‏}‏ قال‏:‏ بيت المقدس‏.‏ وأخرج بن جرير عن ابن زيد قال‏:‏ هي أريحاء قرية من بيت المقدس‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ادخلوا الباب‏}‏ قال‏:‏ باب ضيق ‏{‏سُجَّدًا‏}‏ قال‏:‏ ركعاً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حِطَّةٌ‏}‏ قال‏:‏ مغفرة، فدخلوا من قبل أستاهم، وقالوا‏:‏ حنطة؛ استهزاء‏.‏ قال‏:‏ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ‏}‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال‏:‏ الباب هو أحد أبواب بيت المقدس، وهو‏:‏ يدعى باب حطة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الكبير، وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال‏:‏ قيل لهم‏:‏ ‏{‏ادخلوا الباب سُجَّداً‏}‏ فدخلوا مقنعي رءوسهم، وقالوا حنطة‏:‏ حبة حمراء فيها شعيرة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وابن أبي حاتم، عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏وادخلوا الباب سُجَّدًا‏}‏ قال‏:‏ طأطئوا رءوسكم‏.‏ ‏{‏وَقُولُواْ حِطَّةٌ‏}‏ قال‏:‏ قولوا لا إله إلا الله‏.‏ وأخرج البيهقي في الأسماء، والصفات عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏قُولُواْ حِطَّةٌ‏}‏ قال‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ كان الباب قبل القبلة‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «قيل لبني إسرائيل‏:‏ ادخلوا الباب سجداً، وقولوا حطة، فبدلوا، فدخلوا يزحفون على أستأهم، وقالوا حبة في شعرة» وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس وأبي هريرة، قالا‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «دخلوا الباب الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجداً يزحفون على أستاههم، وهم يقولون‏:‏ حنطة في شعيرة»

، والأول أرجح لكونه في الصحيحين‏.‏ وقد أخرجه معهما من أخرج هذا الحديث الآخر‏:‏ أعني ابن جرير، وابن المنذر‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، عن عليّ قال‏:‏ إنما مثلنا في هذه الأمة كسفينة نوح، وكباب حطة في بني إسرائيل‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ كل شيء في كتاب الله من الرجز يعني‏:‏ العذاب‏.‏ وأخرج مسلم، وغيره من حديث أسامة بن زيد وسعد بن مالك وخزيمة بن ثابت، قالوا‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وإن الطاعون رجز، وبقية عذاب عُذِّب به أناس من قبلكم، فإذا كان بأرض، وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا بلغكم أنه بأرض، فلا تدخلوها»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 61‏]‏

‏{‏وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏60‏)‏ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

الاستسقاء إنما يكون عند عدم الماء وحبس المطر‏.‏ ومعناه في اللغة‏:‏ طلب السقيا‏.‏ وفي الشرع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفته من الصلاة والدعاء‏.‏ والحجر يحتمل أن يكون حجراً معيناً، فتكون اللام للعهد، ويحتمل أن لا يكون معيناً، فتكون للجنس، وهو أظهر في المعجزة وأقوى للحجة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فانفجرت‏}‏ الفاء مترتبة على محذوف، تقديره‏:‏ فضرب، فانفجرت، والانفجار‏:‏ الانشقاق‏:‏ وانفجر الماء انفجاراً‏:‏ تفتح، والفجرة‏:‏ موضع تفتح الماء‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ولا خلاف أنه كان حجراً مربعاً يخرج من كل جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى سالت العيون، وإذا استغنوا عن الماء جفت‏.‏ والمشرب‏:‏ موضع الشرب، وقيل هو‏:‏ المشروب نفسه، وفيه دليل على أنه يشرب من كل عين قوم منهم لا يشاركهم غيرهم‏.‏ قيل‏:‏ كان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها إلى غيرها، والأسباط‏:‏ ذرية الاثني عشر من أولاد يعقوب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كُلُواْ‏}‏ أي‏:‏ قلنا لهم كلوا المنّ والسلوى، واشربوا الماء المتفجر من الحجر، وعثا يعثي عثيا، وعثا يعثو عثواً، وعاث يعيث عيثاً، لغات بمعنى أفسد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مُفْسِدِينَ‏}‏ حال مؤكدة‏.‏ قال في القاموس‏:‏ عثي كرمي، وسعى ورضي، عيْثا، وعُيُوثاً، وعَيثاناً، وعثَا يَعْثُو عُثُواً‏:‏ أفسد‏:‏ وقال في الكشاف‏:‏ «العثي‏:‏ أشدّ الفساد‏.‏ فقيل لهم‏:‏ لا تمادوا في الفساد في حال فسادكم؛ لأنهم كانوا متمادين فيه»‏.‏ انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد‏}‏ تضجُّر منهم بما صاروا فيه من النعمة، والرزق الطيب، والعيش المستلذ، ونزوع إلى ما ألفوه قبل ذلك من خشونة العيش‏:‏

إنَّ الشَقيَّ بالشَقَاءِ مُولعٌ *** لا يَمْلِكُ الردَّ لَهُ إذا أتى

ويحتمل أن لا يكون هذا منهم تشوقاً إلى ما كانوا فيه، ونظراً لما صاروا إليه من العيشة الرافهة، بل هو‏:‏ باب من تعنتهم، وشعبة من شعب تعجرفهم كما هو دأبهم، وهِجّيِراهم في غالب ما قصّ علينا من أخبارهم‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ إنهم كانوا أهل كراث، وأبصال، وأعداس، فنزعوا إلى عكرهم، أي‏:‏ أصلهم عكر السوء، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم، فقالوا‏:‏ ‏{‏لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد‏}‏ والمراد بالطعام الواحد‏:‏ هو‏:‏ المنّ والسلوى، وهما، وإن كانا طعامين لكن لما كانوا يأكلون أحدهما بالآخر جعلوهما طعاماً واحد‏.‏ وقيل‏:‏ لتكررهما في كل يوم، وعدم وجود غيرهما معهما، ولا تبدلة بهما‏.‏ و«من» في قوله‏:‏ ‏{‏مِمَّا تُنبِتُ‏}‏ تخرج‏.‏ قال الأخفش زائدة، وخالفه سيبويه، لكونها لا تزاد في الكلام الموجب‏.‏ قال النحاس‏:‏ وإنما دعا الأخفش إلى هذا؛ لأنه لم يجد مفعولاً ليخرج فأراد أن يجعل «ما» مفعولاً‏.‏ والأولى أن يكون المفعول محذوفاً دل عليه سياق الكلام، أي‏:‏ تخرج لنا مأكولاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مِن بَقْلِهَا‏}‏ بدل من «ما» بإعادة الحرف‏.‏ والبقل‏:‏ كل نبات ليس له ساق، والشجر‏:‏ ما له ساق‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ «البقل‏:‏ ما أنبتته الأرض من الخضر، والمراد به أطايب البقول التي يأكلها الناس كالنعناع، والكرفس، والكراث، وأشباهها»‏.‏ انتهى‏.‏ والقثاء بكسر القاف، وفتحها‏.‏ والأولى قراءة الجمهور، والثانية قراءة يحيى بن وثاب، وطلحة بن مُصَرَّف، وهو معروف‏.‏ والفوم‏:‏ قيل هو‏:‏ الثوم، وقد قرأه ابن مسعود بالثاء‏.‏ وروي نحو ذلك عن ابن عباس، وقيل‏:‏ الفوم‏:‏ الحنطة، وإليه ذهب أكثر المفسرين، كما قال القرطبي‏.‏ وقد رجح هذا ابن النحاس‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ الثوم الحنطة، وممن قال بهذا الزجاج، والأخفش، وأنشد‏:‏

قَدْ كُنْتُ أحْسبني كَأغْنَى وَاحِد *** تَركَ المدينةَ عَنْ زِراعةِ فُومِ

وقال بالقول الأوّل الكسائي، والنضر بن شميل، ومنه قول أمية بن أبي الصلت‏:‏

كَانَت مَنَازِلُهم إذ ذَاكَ ظَاهِرة *** فِيهَا الفَرَادِيسُ والفُومَاتُ والبْصَلُ

أي الثوم، وقال حسان‏:‏

وأنتم أُناسٌ لِئَامُ الأصُولِ *** طَعَامكم الفْوُمُ وَالْحوَقلُ

يعني الثوم والبصل، وقيل‏:‏ الفوم‏:‏ السنبلة‏.‏ وقيل الحمص‏.‏ وقيل‏:‏ الفوم‏:‏ كل حبّ يخبز‏.‏ والعدس والبصل معروفان‏.‏ والاستبدال‏:‏ وضع الشيء موضع الآخر و‏{‏أَدْنَى‏}‏ قال الزجاج‏:‏ إنه مأخوذ من الدنوّ‏.‏ أي‏:‏ القرب، والمراد‏:‏ أتضعون هذه الأشياء التي هي دون موضع المنّ والسلوى اللذين هما خير منها من جهة الاستلذاذ، والوصول من عند الله بغير واسطة أحد من خلقه، والحلّ الذي لا تطرقه الشبهة، وعدم الكلفة بالسعي له، والتعب في تحصيله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏اهبطوا مِصْرًا‏}‏ أي‏:‏ انزلوا، وقد تقدّم معنى الهبوط‏.‏ وظاهر هذا أن الله أذن لهم بدخول مصر‏.‏ وقيل‏:‏ إن الأمر للتعجيز؛ لأنهم كانوا في التيه، فهو مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً‏}‏ ‏(‏الإسراء‏:‏ 50‏)‏، وصرف مصر هنا مع اجتماع العلمية، والتأنيث؛ لأنه ثلاثي ساكن الوسط، وهو‏:‏ يجوز صرفه مع حصول السببين، وبه قال الأخفش والكسائي‏.‏ وقال الخليل، وسيبويه‏:‏ إن ذلك لا يجوز، وقالا‏:‏ إنه لا علمية هنا؛ لأنه أراد مصراً من الأمصار، ولم يرد المدينة المعروفة، وهو خلاف الظاهر‏.‏ وقرأ الحسن، وأبان بن تغلب، وطلحة بن مصرف بترك التنوين، وهو كذلك في مصحف أبيّ، وابن مسعود‏.‏ ومعنى ضرب الذلة، والمسكنة إلزامهم بذلك، والقضاء به عليهم قضاء مستمراً لا يفارقهم، ولا ينفصل عنهم، مع دلالته على أن ذلك مشتمل عليهم اشتمال القباب على من فيها، ومنه قول الفرزدق يهجو جريراً‏:‏

ضرَبَت عَلَيْكَ العَنكَبوتُ بِوزَنها *** وَقَضى عَلَيْكَ بِه الكِتابُ المُنزلُ

وهو ضرب من الهجاء بليغ، كما أنه إذا استعمل في المديح كان في منزلة رفيعة، ومنه قول الشاعر‏:‏

إنَّ المُروءةَ والشَجَاعَة والنَدَى *** في قُبةٍ ضُرِبتْ على ابن الحَشرجِ

وهذا الخبر الذي أخبرنا الله به هو معلوم في جميع الأزمنة، فإن اليهود أقمأهم الله أذلّ الفرق، وأشدّهم مسكنة، وأكثرهم تصاغراً، لم ينتظم لهم جمع، ولا خفقت على رءوسهم راية، ولا ثبتت لهم ولاية، بل ما زالوا عبيد العصى في كل زمن، وطروقة كل فحل في كل عصر، ومن تمسك منهم بنصيب من المال وإن بلغ في الكثرة أيّ مبلغ فهو متظاهر بالفقر مُتَرَدٍّ بأثواب المسكنة ليدفع عن نفسه أطماع الطامعين في ماله، إما بحق كتوفير ما عليه من الجزية، أو بباطل كما يفعله كثير من الظلمة من التجرؤ على الله بظلم من لا يستطيع الدفع عن نفسه‏.‏ ومعنى ‏{‏باءوا‏}‏ رجعوا، يقال باء بكذا، أي‏:‏ رجع به، وباء إلى المباءة، أي‏:‏ رجع إلى المنزل، والبواء‏:‏ الرجوع، ويقال‏:‏ هم في هذا الأمر بواء، أي‏:‏ سواء‏:‏ يرجعون فيه إلى معنى واحد، وباء فلان بفلان‏:‏ إذا كان حقيقاً بأن يقبل به لمساواته له، ومنه قول الشاعر‏:‏

ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي *** محاربنا لا يبوأ الدم بالدم

والمراد في الآية‏:‏ أنهم رجعوا بغضب من الله، أو صاروا أحقاء بغضبه‏.‏ وقد تقدم تفسير الغضب، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما تقدم من حديث الذلة وما بعده بسبب كفرهم بالله، وقتلهم لأنبيائه بغير حق يحق عليهم اتباعه والعمل به، ولم يخرج هذا مخرج التقييد حتى يقال‏:‏ إنه لا يكون قتل الأنبياء بحق في حال من الأحوال لمكان العصمة، بل المراد‏:‏ نعي هذا الأمر عليهم وتعظيمه، وأنه ظلم بحت في نفس الأمر‏.‏ ويمكن أن يقال‏:‏ أنه ليس بحق في اعتقادهم الباطل، لأن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لم يعارضوهم في مال ولا جاه، بل أرشدوهم إلى مصالح الدين‏.‏ والدنيا، كما كان من شعيا وزكريا ويحيى، فإنهم قتلوهم، وهم يعلمون ويعتقدون أنهم ظالمون، وتكرير الإشارة لقصد التأكيد، وتعظيم الأمر عليهم، وتهويله، ومجموع ما بعد الإشارة الأولى والإشارة الثانية هو السبب لضرب الذلة وما بعده‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز أن تكون الإشارة الثانية إلى الكفر والقتل، فيكون ما بعدها سبباً للسبب وهو بعيد جداً‏.‏ والاعتداء تجاوز الحدّ في كل شيء‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ‏}‏ قال ذلك في التيه، ضرب لهم موسى الحجر، فصار فيها اثنتا عشرة عيناً من ماء، لكل سبط منهم عين يشربون منها‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة ومجاهد وابن أبي حاتم عن جويبر نحو ذلك‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض‏}‏ قال‏:‏ لا تسعوا في الأرض فساداً‏.‏ وأخرج ابن جرير عن أبي العالية مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال‏:‏ يعني‏:‏ لا تمشوا بالمعاصي‏.‏

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال‏:‏ لا تسيروا في الأرض مفسدين‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد‏}‏ قال‏:‏ المنّ والسلوى، واستبدلوا به البقل، وما حكى معه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَفُومِهَا‏}‏ قال‏:‏ الخبز، وفي لفظ‏:‏ البر، وفي لفظ‏:‏ الحنطة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ الفوم‏:‏ الثوم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الربيع بن أنس مثله‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن ابن مسعود؛ أنه قرأ‏:‏ «وثومها» وروى ابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه قال‏:‏ قراءتي قراءة زيد، وأنا آخذ ببضعة عشر حرفاً من قراءة ابن مسعود هذا أحدها‏:‏ «من بقلها وقثائها وثومها»‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏الذى هُوَ أدنى‏}‏ قال‏:‏ أردأ‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏اهبطوا مِصْرًا‏}‏ قال مصراً من الأمصار‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية‏:‏ أنه مصر فرعون‏.‏ وأخرج نحوه ابن أبي داود، وابن الأنباري عن الأعمش‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة‏}‏ قال‏:‏ هم أصحاب الجزية‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة والحسن؛ قال‏:‏ ضربت عليهم الذلة، والمسكنة أي‏:‏ يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية قال‏:‏ المسكنة الفاقة‏.‏ وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله‏}‏ قال‏:‏ استحقوا الغضب من الله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَبَاءوا‏}‏ قال‏:‏ انقلبوا‏.‏ وأخرج أبو داود الطيالسي، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال‏:‏ كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبيّ، ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قيل‏:‏ إن المراد بالذين آمنوا‏:‏ المنافقون، بدلالة جعلهم مقترنين باليهود، والنصارى، والصابئين، أي‏:‏ آمنوا في الظاهر، والأولى أن يقال إن المراد الذين صدّقوا النبي صلى الله عليه وسلم، وصاروا من جملة أتباعه، وكأنه سبحانه أراد أن يبين أن حال هذه الملة الإسلامية وحال من قبلها من سائر الملل يرجع إلى شيء واحد، وهو‏:‏ أن من آمن منهم بالله، واليوم الآخر، وعمل صالحاً استحق ما ذكره الله من الأجر، ومن فاته ذلك فاته الخير كله، والأجر دِقُّه وجِِلَّه‏.‏ والمراد بالإيمان هاهنا هو‏:‏ ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله لما سأله جبريل عن الإيمان فقال‏:‏ ‏"‏ أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشرّه ‏"‏ ولا يتصف بهذا الإيمان إلا من دخل في الملة الإسلامية، فمن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا بالقرآن، فليس بمؤمن، ومن آمن بهما صار مسلماً مؤمناً، ولم يبق يهودياً ولا نصرانياً ولا مجوسياً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هَادُواْ‏}‏ معناه صاروا يهوداً، قيل هو‏:‏ نسبة لهم إلى يهوذا بن يعقوب بالذال المعجمة، فقلبتها العرب دالاً مهملة، وقيل معنى هادوا‏:‏ تابوا لتوبتهم عن عبادة العجل، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏ أي تبنا‏.‏ وقيل إن معناه السكون، والموادعة‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ إن معناه‏:‏ دخل في اليهودية‏.‏ والنصارى‏:‏ قال سيبويه‏:‏ مفرده نصران ونصرانة كندمان وندمانة، وأنشد شاهداً على ذلك قول الشاعر‏:‏

تراه إذا زار العِشَا مُتَخَفَّفاً *** ويُضْحي لديه وهو نَصرانُ شامِس

وقال الآخر‏:‏

فكلتاهما خَرَّت وأسْجَدَ رأسها *** كَمَا سَجَدَت نصْرانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ

قال‏:‏ ولكن لا يستعمل إلا بياء النسب، فيقال‏:‏ رجل نصراني وامرأة نصرانية‏.‏ وقال الخليل‏:‏ واحد النصارى نصري، وقال الجوهري‏:‏ ونصران قرية بالشام تنسب إليها النصارى، ويقال ناصرة، وعلى هذا، فالياء للنسب‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ إن الياء للمبالغة كالتي في أحمري، سموا بذلك؛ لأنهم نصروا المسيح‏.‏ والصابيئن‏:‏ جمع صابيء‏.‏ وقيل‏:‏ صاب‏.‏ وقد اختلف فيه القراء، فهمزوه جميعاً إلا نافعاً، فمن همزه جعله من صبأت النجوم‏:‏ إذا طلعت، وصبأت ثنية الغلام‏:‏ إذا خرجت‏.‏ ومن لم يهمزه جعله من صبا يصبو‏:‏ إذا مال‏.‏ والصابئ في اللغة‏:‏ من خرج، ومال من دين إلى دين، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبأ، وسموا هذه الفرقة صابئة؛ لأنها خرجت من دين اليهود، والنصارى، وعبدوا الملائكة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَنْ ءامَنَ بالله‏}‏ في موضع نصب بدلاً من الذين آمنوا وما بعده، وقد تقدم معنى الإيمان، ويكون خبر إن قوله‏:‏ ‏{‏فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ‏}‏ ويجوز أن يكون قوله‏:‏ «من آمن بالله» في محل رفع على أنه مبتدأ خبره قوله‏:‏ «فلهم أجرهم» وهما جميعاً خبر إن، والعائد مقدّر في الجملة الأولى، أي‏:‏ من آمن منهم، ودخلت الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط‏.‏

وقد تقدم تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 38‏)‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سلمان قال‏:‏ سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم، فذكرت من صلاتهم، وعبادتهم، فنزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَادُواْ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج الواحدي عن مجاهد نحو ذلك‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي في ذكر السبب بنحو ما سبق، وحكى قصة طويلة‏.‏ وأخرج أبو داود في الناسخ، والمنسوخ، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَادُواْ‏}‏ قال‏:‏ فأنزل الله بعد هذا ‏{‏وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاخرة مِنَ الخاسرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 85‏]‏‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن علي قال‏:‏ إنما سميت اليهود؛ لأنهم قالوا ‏{‏إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال‏:‏ نحن أعلم من أين سميت اليهود باليهودية من كلمة موسى عليه السلام ‏{‏إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ‏}‏ ولِمَ تسمت النصارى بالنصرانية‏؟‏ من كلمة عيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏كُونُواْ أنصار الله‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 17‏]‏ وأخرج أبو الشيخ نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير عن قتادة‏:‏ إنما تسموا نصارى بقرية يقال لها ناصرة‏.‏ وأخرج ابن سعد في طبقاته، وابن جرير، عن ابن عباس قال‏:‏ إنما سميت النصارى؛ لأن قرية عيسى كانت تسمى ناصرة‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال‏:‏ الصابئون‏:‏ فرقة بين اليهود‏.‏ والنصارى، والمجوس، ليس لهم دين‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، عنه قال‏:‏ قال ابن عباس، فذكر نحوه‏.‏ وقد روى في تفسير الصابئين غير هذا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 66‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏63‏)‏ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏64‏)‏ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ‏(‏65‏)‏ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا‏}‏ هو في محل نصب بعامل مقدر، هو‏:‏ اذكروا، كما تقدم غير مرة‏.‏ وقد تقدّم تفسير الميثاق، والمراد‏:‏ أنه أخذ سبحانه عليهم الميثاق بأن يعملوا بما شرعه لهم في التوراة، وبما هو أعم من ذلك، أو أخص‏.‏ والطور‏:‏ اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، وأنزل عليه التوراة فيه‏.‏ وقيل‏:‏ هو‏:‏ اسم لكل جبل بالسريانية‏.‏ وقد ذكر كثير من المفسرين أن موسى لما جاء بني إسرائيل من عند الله بالألواح قال لهم‏:‏ اسم خذوها، والتزموها‏.‏ فقالوا‏:‏ لا، إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك‏.‏ فُصعِقوا، ثم أحيوا، فقال لهم‏:‏ خذوها، والتزموها، فقالوا‏:‏ لا، فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلاً من جبال فلسطين، طوله فرسخ في مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، وأتُوا ببحر من خلفهم، ونار من قبل وجوههم، وقيل لهم خذوها، وعليكم الميثاق أن لا تضيعوها، وإلا سقط عليكم الجبل، فسجدوا توبة لله، وأخذوا التوراة بالميثاق‏.‏

قال ابن جرير عن بعض العلماء‏:‏ لو أخذوها أوّل مرة لم يكن عليهم ميثاق‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والذي لا يصح سواه أن الله سبحانه اخترع وقت سجودهم الإيمان، لا أنهم آمنوا كرهاً، وقلوبهم غير مطمئنة‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا تكلُّف ساقط حمله عليه المحافظة على ما قد ارتسم لديه من قواعد مذهبية قد سكن قلبه إليها كغيره، وكل عاقل يعلم أنه لا سبب من أسباب الإكراه أقوى من هذا، أو أشد منه، ونحن نقول‏:‏ أكرههم الله على الإيمان، فآمنوا مكرهين، ورفع عنهم العذاب بهذا الإيمان، وهو نظير ما ثبت في شرعنا من رفع السيف عمن تكلم بكلمة الإسلام، والسيف مصلت قد هزَّه حامله على رأسه، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن قتل من تكلم بكلمة الإسلام معتذراً عن قتله بأنه قالها تقية، ولم تكن عن قصد صحيح‏:‏ «أأنت فتشت عن قلبه» وقال‏:‏ «لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس» وقوله‏:‏ ‏{‏خُذُواْ‏}‏ أي‏:‏ وقلنا لهم‏:‏ ‏{‏خذوا مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ‏}‏ والقوّة‏:‏ الجدّ والاجتهاد‏.‏ والمراد بذكر ما فيه أن يكون محفوظاً عندهم ليعملوا به‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ‏}‏ أصل التولي‏:‏ الإدبار عن الشيء، والإعراض بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات اتساعاً ومجازاً، والمراد هنا‏:‏ إعراضهم عن الميثاق المأخوذ عليهم، وقوله‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِ ذلك‏}‏ أي‏:‏ من بعد البرهان لهم، والترهيب بأشد ما يكون، وأعظم ما تجوزه العقول، وتقدر الأفهام، وهو‏:‏ رفع الجبل فوق رءوسهم كأنه ظلة عليهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ بأن تدارككم بلطفه، ورحمته، حتى أظهرتم التوبة لخسرتم‏.‏

والفضل‏:‏ الزيادة‏.‏ قال ابن فارس في المجمل‏:‏ الفضل الزيادة، والخير، والإفضال‏:‏ الإحسان‏.‏ انتهى‏.‏ والخسران‏:‏ النقصان، وقد تقدم تفسيره‏.‏

والسبت في أصل اللغة‏:‏ القطع؛ لأن الأشياء تمت فيه وانقطع العمل‏.‏ وقيل‏:‏ هو‏:‏ مأخوذ من السبوت، وهو الراحة، والدعة‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ «السبت مصدر سبتت اليهود، إذا عظمت يوم السبت»‏.‏ انتهى‏.‏ وقد ذكر جماعة من المفسرين أن اليهود افترقت فرقتين‏:‏ ففرقة اعتدت في السبت‏:‏ أي‏:‏ جاوزت ما أمرها الله به من العمل فيه، فصادوا السمك الذي نهاهم الله عن صيده فيه، والفرقة الأخرى انقسمت إلى فرقتين‏.‏ ففرقة جاهرت بالنهي، واعتزلت، وفرقة لم توافق المعتدين، ولا صادوا معهم، لكنهم جالسوهم، ولم يجاهروهم بالنهي، ولا اعتزلوا عنهم، فمسخهم الله جميعاً، ولم تنج إلا الفرقة الأولى فقط، وهذه من جملة المحن التي امتحن الله بها هؤلاء الذين بالغوا في العجرفة، وعاندوا أنبياءهم، وما زالوا في كل موطن يظهرون من حماقاتهم، وسخف عقولهم، وتعنتهم نوعاً من أنواع التعسف، وشعبة من شعب التكلف، فإن الحيتان كانت في يوم السبت كما وصف الله سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كذلك نَبْلُوهُم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 163‏]‏ فاحتالوا لصيدها، وحفروا الحفائر، وشقوا الجداول فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت، فيصيدونها يوم الأحد، فلم ينتفعوا بهذه الحيلة الباطلة‏.‏ والخاسئ‏:‏ المبعد، يقال‏:‏ خسأته، فخسأ، وخسيء، وانخسأ‏:‏ أبعدته، فبعد‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 4‏]‏ أي‏:‏ مبعداً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏اخسئوا فِيهَا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏ أي‏:‏ تباعدوا تباعد سخط، ويكون الخاسئ بمعنى الصاغر‏.‏ والمراد هنا‏:‏ كونوا بين المصير إلى أشكال القردة مع كونهم مطرودين صاغرين، فقردة خبر الكون، وخاسئين خبر آخر، وقيل‏:‏ إنه صفة لقردة، والأوّل أظهر‏.‏

واختلف في مرجع الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فَجَعَلْنَاهَا‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا‏}‏ فقيل‏:‏ العقوبة‏.‏ وقيل‏:‏ الأمة، وقيل‏:‏ القرية‏.‏ وقيل‏:‏ القردة‏.‏ وقيل الحيتان‏.‏ والأول أظهر‏.‏

والنكال‏:‏ الزجر والعقاب، والنكل‏:‏ القيد؛ لأنه يمنع صاحبه، ويقال للجام الدابة نكل؛ لأنه يمنعها‏.‏ والموعظة‏:‏ مأخوذة من الاتعاظ، والانزجار، والوعظ‏:‏ التخويف‏.‏ وقال الخليل‏:‏ الوعظ التذكير بالخير‏.‏ وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال‏:‏ الطور الجبل الذي أنزلت عليه التوراة، وكان بنو إسرائيل أسفل منه‏.‏ وأخرج نحوه عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس؛ قال‏:‏ الطور ما أنبت من الجبال، وما لم ينبت، فليس بطور‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه في قوله‏:‏ ‏{‏خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ‏}‏ قال‏:‏ أي بجدّ‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏واذكروا مَا فِيهِ‏}‏ قال‏:‏ اقرءوا ما في التوراة، واعملوا به‏.‏ وأخرج ابن إسحاق وابن جرير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ قال‏:‏ لعلكم تنزعون عما أنتم عليه‏.‏

وأخرج ابن جرير عنه قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ‏}‏ أي‏:‏ عرفتم ‏{‏واعتدوا‏}‏ يقول‏:‏ اجترءوا في السبت بصيد السمك، فمسخهم الله قردة بمعصيتهم، ولم يعش مسيخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه قال‏:‏ القردة والخنازير من نسل الذين مسخوا‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال‏:‏ انقطع ذلك النسل‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال‏:‏ مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة، وإنما هو‏:‏ مثل ضربه الله لهم كقوله‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 5‏]‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في الآية، قال‏:‏ أحلت لهم الحيتان، وحرّمت عليهم يوم السبت، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، فكان فيهم ثلاثة أصناف، وذكر نحو ما قدّمناه عن المفسرين‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ صار شباب القوم قردة، والمشيخة صاروا خنازير‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏خاسئين‏}‏ قال‏:‏ ذليلين‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه في قوله‏:‏ ‏{‏خاسئين‏}‏ قال‏:‏ صاغرين‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن مجاهد مثله‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس ‏{‏فجعلناها نكالا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا‏}‏ من القرى ‏{‏وَمَا خَلْفَهَا‏}‏ من القرى‏:‏ ‏{‏وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ الذين من بعدهم إلى يوم القيامة‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه‏:‏ ‏{‏فَجَعَلْنَاهَا‏}‏ يعني الحيتان ‏{‏نكالا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا‏}‏ من الذنوب التي عملوا قبل وبعد‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه‏:‏ ‏{‏فَجَعَلْنَاهَا‏}‏ قال‏:‏ جعلنا تلك العقوبة، وهي المسخة ‏{‏نكالا‏}‏ عقوبة ‏{‏لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا‏}‏ يقول‏:‏ ليحذر من بعدهم عقوبتي ‏{‏وَمَا خَلْفَهَا‏}‏ يقول‏:‏ للذين كانوا معهم ‏{‏وَمَوْعِظَةً‏}‏ قال‏:‏ تذكرة، وعبرة للمتقين‏.‏