فصل: تفسير الآيات رقم (35- 44)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 44‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ‏(‏35‏)‏ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ‏(‏37‏)‏ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ‏(‏38‏)‏ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏39‏)‏ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ‏(‏40‏)‏ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏41‏)‏ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ‏(‏42‏)‏ قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ‏(‏43‏)‏ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افتراه‏}‏ أنكر سبحانه عليهم قولهم‏:‏ إن ما أوحى إلى نوح مفترى، فقال‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افتراه‏}‏ ثم أمره أن يجيب بكلام متصف، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَىَّ إِجْرَامِى‏}‏ بكسر الهمزة على قراءة الجمهور، مصدر أجرم‏:‏ أي فعل ما يوجب الإثم، وجرم وأجرم بمعنى قاله النحاس، والمعنى‏:‏ فعليّ إثمي، أو جزاء كسبي‏.‏ ومن قرأ بفتح الهمزة، قال‏:‏ هو جمع جرم ذكره النحاس أيضاً ‏{‏وَأَنَاْ بَرِئ مّمَّا تُجْرَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ من إجرامكم بسبب ما تنسبونه إليّ من الافتراء، قيل‏:‏ وفي الكلام حذف والتقدير‏:‏ لكن ما افتريته، فالإجرام وعقابه ليس إلا عليكم، وأنا بريء منه‏.‏ وقد اختلف المفسرون في هذه الآية، فقيل‏:‏ إنها حكاية عن نوح، وما قاله لقومه، وقيل‏:‏ هي حكاية عن المحاورة الواقعة بين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكفار مكة‏.‏ والأوّل‏:‏ أولى؛ لأن الكلام قبلها وبعدها مع نوح عليه السلام‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمن‏}‏ ‏{‏أنه لن يؤمن‏}‏ في محل رفع على أنه نائب الفاعل الذي لم يسمّ‏.‏ ويجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير الباء‏:‏ أي بأنه، وفي الكلام تأييس له من إيمانهم، وأنهم مستمرّون على كفرهم، مصممون عليه، لا يؤمن أحد منهم إلا من قد سبق إيمانه ‏{‏فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ‏}‏ البؤس‏:‏ الحزن، أي فلا تحزن، والبائس‏:‏ المستكين، فنهاه الله سبحانه عن أن يحزن حزن مستكين؛ لأن الابتئاس حزن في استكانة‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

وكم من خليل أو حميم رُزِئته *** فلم أبتئس والرزءُ فيه جليلُ

ثم إن الله سبحانه لما أخبره أنهم لا يؤمنون ألبتة عرفه وجه إهلاكهم، وألهمه الأمر الذي يكون به خلاصه، وخلاص من آمن معه، فقال‏:‏ ‏{‏واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا‏}‏ أي‏:‏ اعمل السفينة متلبساً بأعيننا‏:‏ أي بمرأى منا، والمراد بحراستنا لك وحفظنا لك، وعبر عن ذلك بالأعين لأنها آلهة الرؤية، والرؤية هي‏:‏ التي تكون بها الحراسة والحفظ في الغالب، وجمع الأعين للتعظيم لا للتكثير‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ ‏{‏بِأَعْيُنِنَا‏}‏ أي‏:‏ بأعين ملائكتنا الذين جعلناهم عيوناً على حفظك‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏بِأَعْيُنِنَا‏}‏ بعلمنا‏.‏ وقيل‏:‏ بأمرنا‏.‏ ومعنى بوحينا‏:‏ بما أوحينا إليك من كيفية صنعتها ‏{‏وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ أي‏:‏ لا تطلب إمهالهم، فقد حان وقت الانتقام منهم، وجملة ‏{‏إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ‏}‏ للتعليل‏:‏ أي‏:‏ لا تطلب منا إمهالهم، فإنه محكوم منا عليهم بالغرق، وقد مضى به القضاء فلا سبيل إلى دفعه ولا تأخيره‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ ولا تخاطبني في تعجيل عقابهم، فإنهم مغرقون في الوقت المضروب لذلك، لا يتأخر إغراقهم عنه‏.‏ وقيل المراد بالذين ظلموا‏:‏ امرأته وابنه‏.‏

‏{‏وَيَصْنَعُ الفلك‏}‏ أي‏:‏ وطفق يصنع الفلك، أو وأخذ يصنع الفلك‏.‏ وقيل‏:‏ هو حكاية حال ماضية لاستحضار الصورة، وجملة‏:‏ ‏{‏وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ‏}‏ في محل نصب على الحال‏:‏ أي استهزءوا به لعمله السفينة‏.‏ قال الأخفش والكسائي‏:‏ يقال سخرت به ومنه‏.‏ وفي وجه سخريتهم منه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنهم كانوا يرونه يعمل السفينة، فيقولون يا نوح صرت بعد النبوّة نجاراً‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم لما شاهدوه يعمل السفينة، وكانوا لا يعرفونها قبل ذلك، قالوا‏:‏ يا نوح ما تصنع بها‏؟‏ قال‏:‏ أمشي بها على الماء فعجبوا من قوله، وسخروا به‏.‏ ثم أجاب عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ‏}‏ وهذا الكلام مستأنف على تقدير سؤال كأنه قيل‏:‏ فماذا قال لهم‏؟‏ والمعنى‏:‏ إن تسخروا منا بسبب عملنا للسفينة اليوم، فإنا نسخر منكم غداً عند الغرق‏.‏ ومعنى السخرية هنا‏:‏ الاستجهال، أي‏:‏ إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلون، واستجهاله لهم باعتبار إظهاره لهم ومشافهتهم، وإلا فهم عنده جهال قبل هذا وبعده، والتشبيه في قوله‏:‏ ‏{‏كَمَا تَسْخَرُونَ‏}‏ لمجرد التحقق والوقوع، أو التجدّد والتكرّر، والمعنى‏:‏ إنا نسخر منكم سخرية متحققة واقعة كما تسخرون منا كذلك، أو متجدّدة متكرّرة كما تسخرون منا كذلك‏.‏ وقيل معناه‏:‏ نسخر منكم في المستقبل سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق، وفيه نظر، فإن حالهم إذ ذاك لا تناسبه السخرية، إذ هم في شغل شاغل عنها‏.‏

ثم هدّدهم بقوله‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ‏}‏ وهو عذاب الغرق في الدنيا ‏{‏وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ‏}‏ وهو عذاب النار الدائم، ومعنى يحلّ‏:‏ يجعل المؤجل حالاً، مأخوذ من حلول الدين المؤجل، و‏"‏ من ‏"‏ موصولة في محل نصب، ويجوز أن تكون استفهامية في محل رفع‏:‏ أي أينا يأتيه عذاب يخزيه‏.‏ وقيل‏:‏ في موضع رفع بالابتداء، و‏{‏يأتيه‏}‏ الخبر، و‏{‏يخزيه‏}‏ صفة لعذاب‏.‏ قال الكسائي‏:‏ إن ناساً من أهل الحجاز يقولون‏:‏ ‏"‏ سوف تعلمون ‏"‏؛ قال‏:‏ ومن قال ‏"‏ ستعلمون ‏"‏ أسقط الواو والفاء جميعاً، وجوّز الكوفيون «سف تعلمون» ومنعه البصريون، والمراد بعذاب الخزي‏:‏ العذاب الذي يخزي صاحبه، ويحل عليه العار‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التنور‏}‏ ‏"‏ حتى ‏"‏ هي الابتدائية دخلت على الجملة الشرطية، وجعلت غاية لقوله‏:‏ ‏{‏واصنع الفلك بأعيننا‏}‏‏.‏ والتنور‏:‏ اختلف في تفسيرها على أقوال‏:‏ الأوّل‏:‏ أنها وجه الأرض، والعرب تسمى وجه الأرض تنوراً، روي ذلك عن ابن عباس، وعكرمة، والزهري، وابن عيينة‏.‏ الثاني‏:‏ أنه تنور الخبز الذي يخبزونه فيه، وبه قال مجاهد وعطية والحسن، وروي عن ابن عباس أيضاً‏.‏ الثالث‏:‏ أنه موضع اجتماع الماء في السفينة، روي عن الحسن‏.‏ الرابع‏:‏ أنه طلوع الفجر، من قولهم تنّور الفجر، روي عن عليّ بن أبي طالب‏.‏

الخامس‏:‏ أنه مسجد الكوفة، روي عن عليّ أيضاً ومجاهد‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كان ناحية التنّور بالكوفة‏.‏ السادس‏:‏ أنه أعالي الأرض، والمواضع المرتفعة، قاله قتادة‏.‏ السابع‏:‏ أنه العين التي بالجزيرة المسماة عين الوردة، روي ذلك عن عكرمة‏.‏ الثامن‏:‏ أنه موضع بالهند‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان تنور آدم بالهند‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذه الأقوال ليست بمتناقضة، لأن الله سبحانه قد أخبر بأن الماء قد جاء من السماء والأرض، قال‏:‏ ‏{‏فَفَتَحْنَا أبواب السماء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 11، 12‏]‏ فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان علامة‏.‏ هكذا قال، وفيه نظر، فإن القول الرابع ينافي هذا الجمع، ولا يستقيم عليه التفسير بنبع الماء‏.‏ إلا إذا كان المراد مجرد العلامة، كما ذكره آخراً‏.‏ وقد ذكر أهل اللغة أن الفور‏:‏ الغليان، والتنور‏:‏ اسم عجمي عرّبته العرب‏.‏ وقيل‏:‏ معنى فار التنور‏:‏ التمثيل بحضور العذاب كقولهم‏:‏ حَمي الوطيس‏:‏ إذا اشتدّ الحرب، ومنه قول الشاعر‏:‏

تركتم قدركم لا شيء فيها *** وقِدرُ القوم حامية تفورُ

يريد‏:‏ الحرب‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين‏}‏ أي‏:‏ قلنا‏:‏ يا نوح، احمل في السفينة من كل زوجين مما في الأرض من الحيوانات اثنين ذكراً وأثنى‏.‏ وقرأ حفص‏:‏ ‏{‏من كلّ‏}‏ بتنوين كل‏:‏ أي‏:‏ من كل شيء زوجين، والزوجان للاثنين اللذين لا يستغنى أحدهما عن الآخر، ويطلق على كل واحد منهما زوج، كما يقال للرجال زوج، وللمرأة زوج، ويطلق الزوج على الاثنين إذا استعمل مقابلاً للفرد، ويطلق الزوج على الضرب والصنف، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏، ومثله قول الأعشى‏:‏

وكل ضرب من الديباج يلبسه *** أبو حذافة مخبوّ بذاك معا

أراد كل صنف من الديباج ‏{‏وَأَهْلَكَ‏}‏ عطف على ‏{‏زوجين‏}‏، أو على اثنين على قراءة حفص، وعلى محل كل زوجين، فإنه في محلّ نصب ب ‏{‏احمل‏}‏، أو على ‏{‏اثنين‏}‏ على قراءة الجمهور، والمراد‏:‏ امرأته وبنوه ونساؤهم ‏{‏إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول‏}‏ أي‏:‏ من تقدّم الحكم عليه بأنه من المغرقين، في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ‏}‏ على الاختلاف السابق فيهم، فمن جعلهم جميع الكفار من أهله وغيرهم كان هذا الاستثناء من جملة ‏{‏احمل فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ‏}‏ ومن قال‏:‏ المراد بهم ولده كنعان وامرأته واعلة أمّ كنعان جعل الاستثناء من أهلك، ويكون متصلاً إن أريد بالأهل ما هو أعمّ من المسلم والكافر منهم، ومنقطعاً إن أريد بالأهل المسلمون منهم فقط، قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ ءامَنَ‏}‏ معطوف على ‏{‏أهلك‏}‏‏:‏ أي‏:‏ واحمل في السفينة من آمن من قومك، وأفرد الأهل منهم لمزيد العناية بهم، أو للاستثناء منهم على القول الآخر‏.‏ ثم وصف الله سبحانه قلة المؤمنين مع نوح بالنسبة إلى من كفر به، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ‏}‏ قيل‏:‏ هم ثمانون إنساناً‏:‏ منهم ثلاثة من بنيه، وهو سام، وحام، ويافث، وزوجاتهم، ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية يقال لها قرية الثمانين، وهي موجودة بناحية الموصل‏.‏

وقيل‏:‏ كانوا عشرة‏.‏ وقيل‏:‏ سبعة، وقيل‏:‏ كانوا اثنين وسبعين‏.‏ وقيل‏:‏ غير ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ اركبوا فِيهَا‏}‏ القائل‏:‏ نوح، وقيل‏:‏ الله سبحانه‏.‏ والأوّل‏:‏ أولى، لقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ والركوب‏:‏ العلوّ على ظهر الشيء حقيقة نحو ركب الدابة، أو مجازاً نحو ركبه الدين، وفي الكلام حذف‏:‏ أي‏:‏ اركبوا الماء في السفينة، فلا يرد أن ركب يتعدّى بنفسه؛ وقيل إن الفائدة في زيادة «في» أنه أمرهم بأن يكونوا في جوف السفينة لا على ظهرها‏.‏ وقيل‏:‏ إنها زيدت لرعاية جانب المحلية في السفينة كما في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 65‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السفينة‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 71‏]‏ قيل‏:‏ ولعلّ نوحاً قال هذه المقالة بعد إدخال ما أمر بحمله من الأزواج، كأنه قيل‏:‏ فحمل الأزواج وأدخلها في الفلك، وقال للمؤمنين، ويمكن أن يقال إنه أمر بالركوب كل من أمر بحمله من الأزواج والأهل والمؤمنين، ولا يمتنع أن يفهم خطابه من لا يعقل من الحيوانات، أو يكون هذا على طريقة التغليب‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ‏}‏ متعلق ب ‏{‏اركبوا‏}‏، أو حال من فاعله‏:‏ أي مسمين الله، أو قائلين‏:‏ ‏{‏بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا‏}‏ قرأ أهل الحرمين وأهل البصرة بضمّ الميم فيهما إلا من شدّ منهم على أنهما اسما زمان، وهما‏:‏ في موضع نصب على الظرفية‏:‏ أي وقت مجراها ومرساها، ويجوز أن يكونا مصدرين‏:‏ أي‏:‏ وقت إجرائها وإرسائها‏.‏ وقرأ الأعمش، وحمزة، والكسائي، وحفص ‏{‏مجراها‏}‏ بفتح الميم، و‏{‏مرساها‏}‏ بضمها، وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها فيهما‏.‏ وقرأ مجاهد، وسليمان بن جندب، وعاصم الجحدري، وأبو رجاء العطاردي ‏{‏مجريها ومرسيها‏}‏ على أنهما وصفان لله، ويجوز أن يكونا في موضع رفع باضمار مبتدأ‏:‏ أي هو مجريها ومرسيها ‏{‏إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ‏}‏ للذنوب ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ بعباده، ومن رحمته إنجاء هذه الطائفة تفضلاً منه لبقاء هذا الجنس الحيواني، وعدم استئصاله بالغرق‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كالجبال‏}‏ هذه الجملة متصلة بجملة محذوفة دلّ عليها الأمر بالركوب، والتقدير‏:‏ فركبوا مسمين، وهي تجرى بهم، والموج‏:‏ جمع موجة، وهي‏:‏ ما ارتفع عن جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح، وشبهها بالجبال المرتفعة على الأرض‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ونادى نُوحٌ ابنه‏}‏ هو‏:‏ كنعان، قيل‏:‏ وكان كافراً، واستبعد كون نوح ينادي من كان كافراً مع قوله‏:‏ ‏{‏رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏، وأجيب بأنه كان منافقاً، فظن نوح أنه مؤمن‏.‏ وقيل‏:‏ حملته شفقة الأبوّة على ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ إنه كان ابن امرأته، ولم يكن بابنه، ويؤيده ما روي أن علياً قرأ «ونادى نوح ابنها»‏.‏

وقيل‏:‏ إنه كان لغير رشدة، وولد على فراش نوح‏.‏ وردّ بأن قوله‏:‏ ‏{‏ونادى نُوحٌ ابنه‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى‏}‏ يدفع ذلك على ما فيه من عدم صيانة منصب النبوّة ‏{‏وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ‏}‏ أي‏:‏ في مكان عزل فيه نفسه عن قومه، وقرابته بحيث لم يبلغه قول نوح‏:‏ اركبوا فيها، وقيل‏:‏ في معزل من دين أبيه، وقيل‏:‏ من السفينة‏.‏ قيل‏:‏ وكان هذا النداء قبل أن يستيقن الناس الغرق، بل كان في أوّل فور التنور‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مَعْزِلٍ يابنى اركب مَّعَنَا‏}‏ قرأ عاصم بفتح الياء، والباقون بكسرها، فأما الكسر فلجعله بدلاً من ياء الإضافة، لأن الأصل يا بنيّ، وأما الفتح فلقلب ياء الإضافة ألفاً لخفة الألف، ثم حذف الألف وبقيت الفتحة لتدلّ عليه‏.‏ قال النحاس‏:‏ وقراءة عاصم مشكلة‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ أصله يا بنياه ثم تحذف، وقد جعل الزجاج للفتح وجهين، وللكسر وجهين‏.‏ أما الفتح بالوجه الأوّل ما ذكرناه، والوجه الثاني‏:‏ أن تحذف الألف لالتقاء الساكنين‏.‏ وأما الكسر، فالوجه الأوّل ما ذكرناه، والثاني‏:‏ أن تحذف لالتقاء الساكنين، كذا حكى عنه النحاس‏.‏ وقرأ أبو عمرو، والكسائي، وحفص ‏{‏اركب مَّعَنَا‏}‏ بادغام الباء في الميم لتقاربهما في المخرج‏.‏ وقرأ الباقون بعدم الإدغام ‏{‏وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين‏}‏ نهاه عن الكون مع الكافرين‏:‏ أي خارج السفينة، ويمكن أن يراد بالكون معهم الكون على دينهم‏.‏

ثم حكى الله سبحانه ما أجاب به ابن نوح على أبيه، فقال‏:‏ ‏{‏قَالَ سَآوِى إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الماء‏}‏ أي‏:‏ يمنعني بارتفاعه من وصول الماء إليّ، فأجاب عنه نوح بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله‏}‏ أي‏:‏ لا مانع، فإنه يوم قد حقّ فيه العذاب وجفّ القلم بما هو كائن فيه، نفى جنس العاصم فيندرج تحته العاصم من الغرق في ذلك اليوم اندراجاً أوّلياً، وعبر عن الماء أو عن الغرق بأمر الله سبحانه تفخيماً لشأنه، وتهويلاً لأمره‏.‏ والاستثناء قال الزجاج‏:‏ هو منقطع‏:‏ أي‏:‏ لكن من رحمه الله فهو يعصمه، فيكون‏:‏ ‏{‏مَن رَّحِمَ‏}‏ في موضع نصب، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلاً على أن يكون عاصم بمعنى معصوم‏:‏ أي‏:‏ لا معصوم اليوم من أمر الله إلا من رحمه الله‏:‏ مثل‏:‏ ‏{‏مَّاء دَافِقٍ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 6‏]‏ ‏{‏عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 21‏]‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

دع المكارم لا تنهض لبغيتها *** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

أي‏:‏ المطعم المكسوّ، واختار هذا الوجه ابن جرير؛ وقيل‏:‏ العاصم بمعنى ذي العصمة، كلابن وتامر، والتقدير‏:‏ لا عاصم قط إلا مكان من رحم الله، وهو السفينة، وحينئذ فلا يرد ما يقال‏:‏ إن معنى من رحم من رحمه الله، ومن رحمه الله هو معصوم، فكيف يصحّ استثناؤه عن العاصم‏؟‏ لأن في كل وجه من هذه الوجوه دفعاً للإشكال‏.‏

وقرئ «إلا من رحم» على البناء للمفعول ‏{‏وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج‏}‏ أي‏:‏ حال بين نوح وابنه فتعذر خلاصه من الغرق‏.‏ وقيل‏:‏ بين ابن نوح، وبين الجبل، والأوّل‏:‏ أولى، لأن تفرّع ‏{‏فَكَانَ مِنَ المغرقين‏}‏ عليه يدل على الأوّل لا على الثاني، لأن الجبل ليس بعاصم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ ياأرض ابلعى مَاءكِ‏}‏ يقال‏:‏ بلع الماء يبلعه مثل منع يمنع، وبلع يبلع، مثل حمد يحمد لغتان حكاهما الكسائي والفراء‏:‏ والبلع‏:‏ الشرب، ومنه البالوعة، وهي‏:‏ الموضع الذي يشرب الماء، والازدراد، يقال‏:‏ بلع ما في فمه من الطعام إذا ازدرده، واستعير البلع الذي هو من فعل الحيوان للنشف دلالة على أن ذلك ليس كالنشف المعتاد الكائن على سبيل التدريج ‏{‏وياسماء أَقْلِعِى‏}‏ الإقلاع‏:‏ الإمساك، يقال‏:‏ أقلع المطر‏:‏ إذا انقطع‏.‏ والمعنى‏:‏ أمر السماء بامساك الماء عن الإرسال، وقدّم نداء الأرض على السماء لكون ابتداء الطوفان منها ‏{‏وَغِيضَ الماء‏}‏ أي‏:‏ نقص، يقال‏:‏ غاض الماء وغضته أنا ‏{‏وَقُضِىَ الأمر‏}‏ أي‏:‏ أحكم وفرغ منه‏:‏ يعني‏:‏ أهلك الله قوم نوح على تمام وإحكام ‏{‏واستوت عَلَى الجودى‏}‏ أي‏:‏ استقرّت السفينة على الجبل المعروف بالجودي، وهو جبل بقرب الموصل؛ وقيل‏:‏ إن الجودي‏:‏ اسم لكل جبل، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل‏:‏

سبحانه ثم سبحانا نعوذ به *** وقبلنا سبح الجوديّ والجمد

ويقال‏:‏ إنه من جبال الجنة، فلذا استوت عليه ‏{‏وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ الظالمين‏}‏ القائل‏:‏ هو الله سبحانه، ليناسب صدر الآية‏.‏ وقيل‏:‏ هو نوح وأصحابه‏.‏ والمعنى‏:‏ وقيل هلاكاً للقوم الظالمين، وهو من الكلمات التي تختص بدعاء السوء ووصفهم بالظلم للإشعار بأنه علة الهلاك، وللإيماء إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ‏}‏‏.‏ وقد أطبق علماء البلاغة على أن هذه الآية الشريفة بالغة من الفصاحة والبلاغة إلى محل يتقاصر عنه الوصف، وتضعف عن الإتيان بما يقاربه قدرة القادرين على فنون البلاغة، الثابتين الأقدام في علم البيان، الراسخين في علم اللغة، المطلعين على ما هو مدوّن من خطب مصاقع خطباء العرب، وأشعار بواقع شعرائهم، المرتاضين بدقائق علوم العربية وأسرارها‏.‏ وقد تعرّض لبيان بعض ما اشتملت عليه من ذلك جماعة منهم، فأطالوا وأطابوا، رحمنا الله وإياهم برحمته الواسعة‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏فَعَلَىَّ إِجْرَامِى‏}‏ قال عملي ‏{‏وَأَنَاْ بَرِئ مّمَّا تُجْرَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ مما تعملون‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ‏}‏ وذلك حين دعا عليهم نوح قال‏:‏ «لا تَذَكَّرَ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً» ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وأخرج أحمد في الزهد، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن الحسن، قال‏:‏ إن نوحاً لم يدع على قومه حتى نزلت الآية هذه، فانقطع عند ذلك رجاؤه منهم، فدعا عليهم‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَبْتَئِسْ‏}‏ قال‏:‏ فلا تحزن‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي، عنه، في قوله‏:‏ ‏{‏واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا‏}‏ قال‏:‏ بعين الله ووحيه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عنه، أيضاً قال‏:‏ لم يعلم نوح كيف يصنع الفلك، فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، عن عائشة، قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم، حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم قطعها، ثم جعل يعملها سفينة، ويمرّون فيسألونه، فيقول‏:‏ أعملها سفينة، فيسخرون منه، ويقولون‏:‏ يعمل سفينة في البرّ، وكيف تجري‏؟‏ قال‏:‏ سوف تعلمون، فلما فرغ منها وفار التنور، وكثر الماء في السكك خشيته أمّ الصبي عليه، وكانت تحبه حباً شديداً، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبته رفعته بين يديها حتى ذهب بها الماء، فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أمّ الصبيّ» وقد ضعفه الذهبي في مستدركه على مستدرك الحاكم‏.‏ وقد روي في صفة السفينة وقدرها أحاديث، وآثار ليس في ذكرها هنا كثير فائدة‏.‏

وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ‏}‏ قال‏:‏ هو‏:‏ الغرق ‏{‏وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ‏}‏ قال‏:‏ هو الخلود في النار‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، عنه، قال‏:‏ كان بين دعوة نوح وبين هلاك قومه ثلثمائة سنة، وكان فار التنور بالهند، وطافت سفينة نوح بالبيت أسبوعاً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عنه أيضاً قال‏:‏ التنور‏:‏ العين التي بالجزيرة عين الوردة‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عليّ بن أبي طالب، قال‏:‏ فار التنور من مسجد الكوفة من قبل أبواب كندة‏.‏ وقد روي عنه نحو هذا من طرق‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس قال‏:‏ التنور‏:‏ وجه الأرض، قيل له‏:‏ إذا رأيت الماء على وجه الأرض، فاركب أنت ومن معك‏.‏ والعرب تسمى وجه الأرض تنور الأرض‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن عليّ ‏{‏وَفَارَ التنور‏}‏ قال‏:‏ طلع الفجر، قيل له‏:‏ إذا طلع الفجر فاركب أنت وأصحابك‏.‏ وقد روي في تفسير التنور غير هذا، وقد قدّمنا الإشارة إلى ذلك‏.‏ وروي في صفة القصة، وما حمله نوح في السفينة، وكيف كان الغرق، وكم بقيت السفينة على ظهر الماء روايات كثيرة، لا مدخل لها في تفسير كلام الله سبحانه‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا‏}‏ قال حين يركبون ويجرون ويرسون‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الضحاك قال‏:‏ كان إذا أراد أن ترسي قال‏:‏ بسم الله، فأرست، وإذا أراد أن تجري قال‏:‏ بسم الله، فجرت‏.‏ وأخرج أبو يعلى، والطبراني، وابن السني، وابن عديّ، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن الحسن بن عليّ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا‏:‏ بسم الله الملك الرحمن، بسم الله مجراها ومرساها، إن ربي لغفور رحيم، ‏{‏وما قدروا الله حق قدره‏}‏ إلى آخر الآية ‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏» وأخرجه ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، عن ابن عباس، عن النبيّ‏.‏ وأخرجه أيضاً أبو الشيخ، عنه، مرفوعاً من طريق أخرى‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة، قال‏:‏ كان اسم ابن نوح الذي غرق كنعان‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس قال‏:‏ هو ابنه غير أنه خالفه في النية والعمل‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عكرمة، في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إلا مَن رَّحِمَ‏}‏ قال‏:‏ لا ناج إلا أهل السفينة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن القاسم بن أبي برّة، في قوله‏:‏ ‏{‏وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج‏}‏ قال‏:‏ بين ابن نوح والجبل‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وعن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏ياأرض ابلعى‏}‏ قال‏:‏ هو بالحبشية‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن وهب بن منبه، في ‏{‏ابلعي‏}‏ قال بالحبشية‏:‏ أي ازدرديه‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال‏:‏ معناه‏:‏ اشربي، بلغة الهند‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس مثله‏.‏ أقول‏:‏ وثبوت لفظ البلع وما يشتق منه في لغة العرب‏:‏ ظاهر مكشوف، فما لنا وللحبشة والهند‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 49‏]‏

‏{‏وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏45‏)‏ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏46‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏47‏)‏ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏48‏)‏ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

معنى‏:‏ ‏{‏وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ‏}‏ دعاه، والمراد‏:‏ أراد دعاءه، بدليل الفاء في‏:‏ ‏{‏فَقَالَ رَبّ إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى‏}‏ وعطف الشيء على نفسه غير سائغ، فلا بدّ من التقدير المذكور، ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى‏}‏ أنه من الأهل الذين وعدتني بتنجيتهم بقولك‏:‏ وأهلك‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف طلب نوح عليه السلام إنجاز ما وعده الله بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَهْلَكَ‏}‏ وهو المستثنى منه، وترك ما يفيده الاستثناء، وهو‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول‏}‏‏؟‏ فيجاب بأنه لم يعلم إذ ذاك أنه ممن سبق عليه القول، فإنه كان يظنه من المؤمنين ‏{‏وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق‏}‏ الذي لا خلف فيه، وهذا منه ‏{‏وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين‏}‏ أي‏:‏ أتقن المتقنين لما يكون به الحكم، فلا يتطرق إلى حكمك نقض، وقيل‏:‏ أراد ب ‏{‏أحكم الحاكمين‏}‏ أعلمهم وأعدلهم‏:‏ أي‏:‏ أنت أكثر علماً وعدلاً من ذوي الحكم‏.‏ وقيل‏:‏ إن الحاكم بمعنى‏:‏ ذي الحكمة كدارع‏.‏

ثم أجاب الله سبحانه عن نوح ببيان أن ابنه غير داخل في عموم الأهل، وأنه خارج بقيد الاستثناء فقال‏:‏ ‏{‏يا نُوحٍ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ‏}‏ الذين آمنوا بك، وتابعوك، وإن كان من أهلك باعتبار القرابة؛ ثم صرح بالعلة الموجبة لخروجه من عموم الأهل المبينة له بأن المراد بالقرابة قرابة الدين، لا قرابة النسب، وحده، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏عمل‏}‏ على لفظ المصدر‏.‏ وقرأ ابن عباس، وعكرمة، والكسائي، ويعقوب، ‏{‏عمل‏}‏ على لفظ الفعل؛ ومعنى القراءة الأولى المبالغة في ذمه، كأنه جعل نفس العمل، وأصله ذو عمل غير صالح ثم حذف المضاف وجعل نفس العمل، كذا قال الزجاج وغيره‏.‏ ومعنى القراءة الثانية ظاهر‏:‏ أي إنه عمل عملاً غير صالح، وهو‏:‏ كفره وتركه لمتابعة أبيه؛ ثم نهاه عن مثل هذا السؤال، فقال‏:‏ ‏{‏فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ لما بين له بطلان ما اعتقده من كونه من أهله، فرّع على ذلك النهي عن السؤال، وهو وإن كان نهياً عاماً بحيث يشمل كل سؤال، لا يعلم صاحبه أن حصول مطلوبه منه صواب، فهو يدخل تحته سؤاله هذا دخولاً أوّلياً، وفيه عدم جواز الدعاء بما لا يعلم الإنسان مطابقته للشرع، وسمى دعاءه سؤالاً لتضمنه معنى السؤال ‏{‏إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين‏}‏ أي‏:‏ أحذرك أن تكون من الجاهلين، كقوله‏:‏ ‏{‏يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 17‏]‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ أرفعك أن تكون من الجاهلين‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحاً عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء العاملين‏.‏

ثم لما علم نوح بأن سؤاله لم يطابق الواقع، وأن دعاءه ناشئ عن وهم كان يتوهمه، بادر إلى الاعتراف بالخطأ، وطلب المغفرة والرحمة، فقال‏:‏ ‏{‏رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ‏}‏ أي‏:‏ أعوذ بك أن أطلب منك ما لا علم لي بصحته وجوازه، ‏{‏وإلا تَغْفِرْ لِى‏}‏ ذنب ما دعوت به على غير علم مني ‏{‏وَتَرْحَمْنِى‏}‏ برحمتك التي وسعت كل شيء، فتقبل توبتي ‏{‏أَكُن مّنَ الخاسرين‏}‏ في أعمالي، فلا أربح فيها‏.‏

القائل‏:‏ هو الله، أو الملائكة ‏{‏قِيلَ يانوح اهبط‏}‏ أي‏:‏ انزل من السفينة إلى الأرض، أو من الجبل إلى المنخفض من الأرض، فقد بلعت الأرض ماءها، وجفت ‏{‏بسلام مّنَّا‏}‏ أي‏:‏ بسلامة وأمن، وقيل‏:‏ بتحية ‏{‏وبركات‏}‏ أي‏:‏ نعم ثابتة، مشتق من بروك الجمل، وهو ثبوته، ومنه البركة لثبوت الماء فيها، وفي هذا الخطاب له دليل على قبول توبته ومغفرة زلته ‏{‏وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ‏}‏ أي‏:‏ ناشئة ممن معك، وهم المتشعبون من ذرية من كان معه في السفينة‏.‏ وقيل‏:‏ أراد من في السفينة، فإنهم أمم مختلفة، وأنواع من الحيوانات متباينة‏.‏ قيل‏:‏ أراد الله سبحانه بهؤلاء الأمم الذين كانوا معه من صار مؤمناً من ذريتهم، وأراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ من صار كافراً من ذريتهم إلى يوم القيامة، وارتفاع أمم في قوله‏:‏ ‏{‏وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ‏}‏ على أنه خبر مبتدأ محذوف‏:‏ أي‏:‏ ومنهم أمم‏.‏ وقيل‏:‏ على تقدير‏:‏ ويكون أمم‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ هو كما تقول‏:‏ كلمت زيداً وعمرو جالس، وأجاز الفراء في غير القراءة «وأمماً سنمتعهم»‏:‏ أي‏:‏ ونمتع أمماً، ومعنى الآية‏:‏ وأمم سنمتعهم في الدنيا بما فيها من المتاع، ونعطيهم منها ما يعيشون به، ثم يمسهم منا في الآخرة عذاب أليم‏.‏ وقيل‏:‏ يمسهم إما في الدنيا أو في الآخرة‏.‏

والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ‏}‏ إلى قصة نوح، وهي مبتدأ والجمل بعده أخبار ‏{‏مِنْ أَنبَاء الغيب‏}‏ من جنس أنباء الغيب، والأنباء جمع نبأ وهو الخبر، أي من أخبار الغيب التي مرّت بك في هذه السورة، والضمير في ‏{‏نُوحِيهَا إِلَيْكَ‏}‏ راجع إلى القصة، والمجيء بالمضارع لاستحضار الصورة ‏{‏مَا كُنتُ‏}‏ يا محمد ‏{‏تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ‏}‏ يعلمها ‏{‏قَوْمِكَ‏}‏ بل هي مجهولة عندكم من قبل الوحي، أو من قبل هذا الوقت ‏{‏فاصبر‏}‏ على ما تلاقيه من كفار زمانك، والفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها ‏{‏إِنَّ العاقبة‏}‏ المحمودة في الدنيا والآخرة ‏{‏لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ لله المؤمنين بما جاءت به رسله، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبشير له بأن الظفر للمتقين في عاقبة الأمر، ولا اعتبار بمباديه‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الحسن، قال‏:‏ نادى نوح ربه فقال‏:‏ ربّ إن ابني من أهلي، وإنك قد وعدتني أن تنجي لي أهلي، وإن ابني من أهلي‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن عساكر، عن ابن عباس، قال‏:‏ ما بغت امرأة نبيّ قط‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ‏}‏ يقول‏:‏ ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، قال‏:‏ إن نساء الأنبياء لا يزنين، وكان يقرؤها ‏{‏إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح‏}‏ يقول‏:‏ مسألتك إياي يا نوح عمل غير صالح لا أرضاه لك‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَسْأَلْنِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ قال‏:‏ بين الله لنوح أنه ليس بابنه‏.‏

وأخرج أبو الشيخ، عن ابن زيد، في قوله‏:‏ ‏{‏يانوح اهبط بسلام مّنَّا‏}‏ قال‏:‏ أهبطوا والله عنهم راض‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن محمد بن كعب القرظي، قال‏:‏ دخل في ذلك السلام والبركات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة‏.‏ ودخل في ذلك العذاب الأليم كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الضحاك ‏{‏وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ‏}‏ يعني‏:‏ ممن لم يولد، أوجب الله لهم البركات لما سبق لهم في علم الله من السعادة ‏{‏وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ متاع الحياة الدنيا ‏{‏ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ لما سبق لهم في علم الله من الشقاوة‏.‏ وأخرج أبو الشيخ قال‏:‏ ثم رجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏{‏تِلْكَ مِنْ أَنْبَاء الغيب نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ‏}‏ يعني‏:‏ العرب ‏{‏مّن قَبْلِ هذا‏}‏ القرآن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 60‏]‏

‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏51‏)‏ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ‏(‏52‏)‏ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏53‏)‏ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏54‏)‏ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ‏(‏55‏)‏ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏56‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ‏(‏57‏)‏ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏58‏)‏ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏59‏)‏ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا‏}‏ معطوف على ‏{‏ولقد وأرسلنا نوحاً‏}‏‏:‏ أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم‏:‏ أي‏:‏ واحداً منهم، وهوداً عطف بيان، وقوم عاد كانوا عبدة أوثان، وقد تقدّم مثل هذا في الأعراف‏.‏ وقيل‏:‏ هم عاد الأولى وعاد الأخرى، فهؤلاء هم عاد الأولى، وعاد الأخرى هم‏:‏ شداد ولقمان وقومهما المذكورون في قوله‏:‏ ‏{‏إِرَمَ ذَاتِ العماد‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 7‏]‏، وأصل عاد، اسم رجل، ثم صار اسماً للقبيلة كتميم وبكر، ونحوهما ‏{‏مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ‏}‏ قرئ «غيره» بالجرّ على اللفظ‏.‏ وبالرفع على محل من إله، وقرئ بالنصب على الاستثناء ‏{‏إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ما أنتم باتخاذ إله غير الله إلا كاذبون على الله عزّ وجلّ، ثم خاطبهم فقال‏:‏ ‏{‏لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً‏}‏ أي‏:‏ لا أطلب منكم أجراً على ما أبلغه إليكم، وأنصحكم به من الإرشاد إلى عبادة الله وحده، وأنه لا إله لكم سواه، فالضمير راجع إلى مضمون هذا الكلام‏.‏ وقد تقدّم معنى هذا في قصة نوح ‏{‏إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الذى فَطَرَنِى‏}‏ أي‏:‏ ما أجري الذي أطلب إلا من الذي فطرني‏:‏ أي‏:‏ خلقني فهو الذي يثيبني على ذلك ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ أن أجر الناصحين إنما هو من ربّ العالمين‏.‏ قيل‏:‏ إنما قال فيما تقدّم في قصة نوح‏:‏ مالاً، وهنا قال‏:‏ أجراً لذكر الخزائن بعده في قصة نوح، ولفظ المال بها أليق، ثم أرشدهم إلى الاستغفار والتوبة‏.‏ والمعنى‏:‏ اطلبوا مغفرته لما سلف من ذنوبكم، ثم توسلوا إليه بالتوبة‏.‏ وقد تقدّم زيادة بيان لمثل هذا في قصة نوح، ثم رغبهم في الإيمان بالخير العاجل، فقال‏:‏ ‏{‏يُرْسِلِ السماء‏}‏ أي‏:‏ المطر ‏{‏عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً‏}‏ أي‏:‏ كثير الدرور، وهو منصوب على الحال، درّت السماء تدرّ، وتدرّ، فهي‏:‏ مدرار، وكان قوم هود أهل بساتين، وزرع، وعمارة، وكانت مساكنهم الرمال التي بين الشام واليمن ‏{‏وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ‏}‏ معطوف على يرسل‏:‏ أي‏:‏ شدّة مضافة إلى شدّتكم، أو خصباً إلى خصبكم، أو عزّاً إلى عزّكم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى يزدكم قوّة في النعم ‏{‏وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ لا تعرضوا عما أدعوكم إليه، وتقيموا على الكفر مصرّين عليه، والإجرام‏:‏ الآثام كما تقدّم‏.‏

ثم أجابه قومه بما يدلّ على فرط جهالتهم، وعظيم غباوتهم، فقالوا ‏{‏ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ‏}‏ أي‏:‏ بحجة واضحة نعمل عليها، ونؤمن لك بها غير معترفين بما جاءهم به من حجج الله وبراهينه، عناداً وبعداً عن الحق ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا‏}‏ التي نعبدها من دون الله، ومعنى‏:‏ ‏{‏عَن قَوْلِكَ‏}‏ صادرين عن قولك، فالظرف في محل نصب على الحال ‏{‏وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ بمصدّقين في شيء مما جئت به ‏{‏إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء‏}‏ أي‏:‏ ما نقول إلا أنه أصابك بعض آلهتنا التي تعيبها، وتسفه رأينا في عبادتها بسوء بجنون، حتى نشأ عن جنونك ما تقوله لنا، وتكرره علينا من التنفير عنها، يقال عراه الأمر واعتراه‏:‏ إذا ألمّ به، فأجابهم بما يدلّ على عدم مبالاته بهم، وعلى وثوقه بربه وتوكله عليه، وأنهم لا يقدرون على شيء مما يريده الكفار به، بل الله سبحانه هو الضارّ النافع فقَالَ ‏{‏إِنِى أُشْهِدُ الله واشهدوا‏}‏ أنتم ‏{‏إِنّى بَرِئ مّمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏ به ‏{‏مِن دُونِهِ‏}‏ أي‏:‏ من إشراككم من دون الله من غير أن ينزل به سلطاناً ‏{‏فَكِيدُونِى جَمِيعًا‏}‏ أنتم وآلهتكم إن كانت كما تزعمون من أنها تقدر على الإضرار بي، وأنها اعترتني بسوء ‏{‏ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ‏}‏ أي‏:‏ لا تمهلوني، بل عاجلوني واصنعوا ما بدا لكم؛ وفي هذا من إظهار عدم المبالاة بهم وبأصنامهم التي يعبدونها ما يصكّ مسامعهم، ويوضح عجزهم، وعدم قدرتهم على شيء‏.‏

‏{‏إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبّى وَرَبّكُمْ‏}‏ فهو‏:‏ يعصمني من كيدكم، وإن بلغتم في تطلب وجوه الإضرار بي كل مبلغ، فمن توكل على الله كفاه‏.‏ ثم لما بين لهم توكله على الله وثقته بحفظه وكلاءته، وصفه بما يوجب التوكل عليه والتفويض إليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم، وأنه مالك للجميع، وأن ناصية كل دابة من دوابّ الأرض بيده، وفي قبضته وتحت قهره، وهو تمثيل لغاية التسخير ونهاية التذليل، وكانوا إذا أسروا الأسير وأرادوا إطلاقه، والمنّ عليه جزوا ناصيته، فجعلوا ذلك علامة لقهره‏.‏ قال الفراء‏:‏ معنى آخذ بناصيتها‏:‏ مالكها والقادر عليها، وقال القتيبي‏:‏ قاهرها لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته‏.‏ والناصية‏:‏ قصاص الشعر من مقدّم الرأس؛ ثم علل ما تقدّم بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ هو على الحق والعدل، فلا يكاد يسلطكم عليّ ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ أي‏:‏ تتولوا فحذفت إحدى التاءين، والمعنى‏:‏ فإن تستمروا على الإعراض عن الإجابة والتصميم على ما أنتم عليه من الكفر ‏{‏فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ‏}‏ ليس عليّ إلا ذلك، وقد لزمتكم الحجة ‏{‏وَيَسْتَخْلِفُ رَبّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ‏}‏ جملة مستأنفة لتقرير الوعيد بالهلاك، أي يستخلف في دياركم وأموالكم قوماً آخرين، ويجوز أن يكون عطفاً على ‏{‏فقد أبلغتكم‏}‏‏.‏ وروى حفص عن عاصم أنه قرأ ‏{‏ويستخلف‏}‏ بالجزم حملاً على موضع فقد أبلغتكم ‏{‏وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا‏}‏ أي‏:‏ بتوليكم، ولا تقدرون على كثير من الضرر ولا حقير ‏{‏إِنَّ رَبّى على كُلّ شَئ حَفِيظٌ‏}‏ أي رقيب مهيمن عليه يحفظه من كل شيء، قيل‏:‏ و«على» بمعنى اللام، فيكون المعنى‏:‏ لكل شيء حفيظ، فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء‏.‏

‏{‏وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا‏}‏ أي‏:‏ عذابنا الذي هو إهلاك عاد ‏{‏نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ‏}‏ من قومه ‏{‏بِرَحْمَةٍ مّنَّا‏}‏ أي‏:‏ برحمة عظيمة كائنة منا؛ لأنه لا ينجو أحد إلا برحمة الله، وقيل هي الإيمان ‏{‏مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏ أي‏:‏ شديد، قيل‏:‏ وهو السموم التي كانت تدخل أنوفهم ‏{‏وَتِلْكَ عَاد‏}‏ مبتدأ وخبر، وأنث الإشارة اعتباراً بالقبيلة‏.‏ قال الكسائي‏:‏ إن من العرب من لا يصرف عاد ويجعله أسماء للقبيلة ‏{‏جَحَدُواْ بآيات رَبّهِمْ‏}‏ أي‏:‏ كفروا بها، وكذبوها وأنكروا المعجزات ‏{‏وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ‏}‏ أي‏:‏ هوداً وحده؛ لأنه لم يكن في عصره رسول سواه، وإنما جمع هنا؛ لأنّ من كذب رسولاً فقد كذب جميع الرسل‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم عصوا هوداً ومن كان قبله من الرسل، أو كانوا بحيث لو بعث الله إليهم رسلاً متعدّدين لكذبوهم ‏{‏واتبعوا أَمْرَ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ‏}‏ الجبار‏:‏ المتكبر، والعنيد‏:‏ الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يذعن له‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ العنيد العنود والعاند والمعاند، وهو المعارض بالخلاف منه، ومنه قيل للعرق الذي يتفجر بالدم، عاند‏.‏ قال الراجز‏:‏

إني كبير لا أطيق العندا *** ‏{‏وَأُتْبِعُواْ فِى هذه الدنيا لَعْنَةً‏}‏ أي‏:‏ ألحقوها، وهي‏:‏ الإبعاد من الرحمة والطرد من الخير، والمعنى‏:‏ أنها لازمة لهم لا تفارقهم ما داموا في الدنيا وأتبعوها ‏{‏يَوْمُ القيامة‏}‏ فلعنوا هنالك كما لعنوا في الدنيا ‏{‏أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ‏}‏ أي‏:‏ بربهم‏.‏ وقال الفراء‏:‏ كفروا نعمة ربهم، يقال‏:‏ كفرته وكفرت به‏:‏ مثل‏:‏ شكرته وشكرت له ‏{‏أَلاَ بُعْدًا لّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ‏}‏ أي‏:‏ لا زالوا مبعدين من رحمة الله، والبعد‏:‏ الهلاك، والبعد‏:‏ التباعد من الخير، يقال‏:‏ بعد يبعد بعداً‏:‏ إذا تأخر وتباعد، وبعد يبعد بعداً‏:‏ إذا هلك، ومنه قول الشاعر‏:‏

لا يبعدن قومي الذين هم *** سم العداة وآفة الجزر

وقال النابغة‏:‏

فلا تبعدن إنّ المنية منهل *** وكل امرئ يوماً به الحال زائل

ومنه قول الشاعر‏:‏

ما كان ينفعني مقال نسائهم *** وقتلت دون رجالهم لا تبعد

وقد تقدّم أن العرب تستعمله في الدعاء بالهلاك‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة ‏{‏إِلاَّ عَلَى الذى فَطَرَنِى‏}‏ أي‏:‏ خلقني‏.‏ وأخرج ابن عساكر، عن الضحاك، قال‏:‏ أمسك الله عن عاد القطر ثلاث سنين، فقال لهم هود ‏{‏استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً‏}‏ فأبوا إلا تمادياً‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن هارون التيمي، في قوله‏:‏ ‏{‏يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً‏}‏ قال‏:‏ المطر‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ شدّة إلى شدّتكم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عكرمة، في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ ولد الولد‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء‏}‏ قال‏:‏ أصابتك بالجنون‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن سعيد قال‏:‏ ما من أحد يخاف لصاً عادياً، أو سبعاً ضارياً، أو شيطاناً مارداً فيتلو هذه الآية إلا صرفه الله عنه‏.‏

وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن مجاهد ‏{‏إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ قال‏:‏ الحق‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك، في قوله‏:‏ ‏{‏عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏ قال‏:‏ شديد‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ‏}‏ قال‏:‏ المشرك‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، قال‏:‏ العنيد المشاقّ‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ، في قوله‏:‏ ‏{‏وَأُتْبِعُواْ فِى هذه الدنيا لَعْنَةً‏}‏ قال‏:‏ لم يبعث نبيّ بعد عاد إلا لعنت على لسانه‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن قتادة، في الآية قال‏:‏ تتابعت عليهم لعنتان من الله‏:‏ لعنة في الدنيا، ولعنة في الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 68‏]‏

‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ‏(‏61‏)‏ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ‏(‏62‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ‏(‏63‏)‏ وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ‏(‏64‏)‏ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ‏(‏65‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ‏(‏66‏)‏ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏67‏)‏ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا‏}‏ معطوف على ما تقدّم‏.‏ والتقدير‏:‏ وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً، والكلام فيه، وفي قوله‏:‏ ‏{‏ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ‏}‏ كما تقدّم في قصة هود‏.‏ وقرأ الحسن ويحيى بن وثاب‏:‏ «وإلى ثمود» بالتنوين في جميع المواضع‏.‏ واختلف سائر القراء فيه، فصرفوه في موضع ولم يصرفوه في موضع، فالصرف باعتبار التأويل بالحيّ، والمنع باعتبار التأويل بالقبيلة، وهكذا سائر ما يصح فيه التأويلان، وأنشد سيبويه في التأنيث باعتبار التأويل بالقبيلة‏:‏

غلب المساميح الوليد جماعة *** وكفى قريش المعضلات وسادها

‏{‏هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض‏}‏ أي‏:‏ ابتدأ خلقكم من الأرض، لأن كل بني آدم من صلب آدم، وهو مخلوق من الأرض ‏{‏واستعمركم فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ جعلكم عمارها وسكانها، من قولهم أعمر فلان فلاناً داره، فهي له عمرى، فيكون استفعل بمعنى أفعل‏:‏ مثل استجاب بمعنى أجاب‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ معناه‏:‏ أطال أعماركم، وكانت أعمارهم من ثلثمائة إلى ألف‏.‏ وقيل‏:‏ معناه أمركم بعمارتها من بناء المساكن وغرس الأشجار ‏{‏فاستغفروه‏}‏ أي‏:‏ سلوه المغفرة لكم من عبادة الأصنام ‏{‏ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ ارجعوا إلى عبادته ‏{‏إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ‏}‏ أي‏:‏ قريب الإجابة لمن دعاه، وقد تقدّم القول فيه في البقرة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداعى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏ ‏{‏قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هذا‏}‏ أي‏:‏ كنا نرجو أن تكون فيناً سيداً مطاعاً ننتفع برأيك، ونسعد بسيادتك قبل هذا الذي أظهرته من ادّعائك النبوّة، ودعوتك إلى التوحيد‏.‏ وقيل‏:‏ كان صالح يعيب آلهتهم، وكانوا يرجون رجوعه إلى دينهم، فلما دعاهم إلى الله قالوا انقطع رجاؤنا منك، والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا‏}‏ للإنكار، أنكروا عليه هذا النهي، وأن نعبد في محل نصب بحذف الجار‏:‏ أي بأن نعبد، ومعنى ما يعبد آباؤنا‏:‏ ما كان يعبد آباؤنا، فهو حكاية حال ماضية لاستحضار الصورة ‏{‏وَإِنَّنَا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ‏}‏ من أربته، فأنا أريبه‏:‏ إذا فعلت به فعلاً يوجب له الريبة، وهي‏:‏ قلق النفس وانتفاء الطمأنينة، أو من أراب الرجل‏:‏ إذا كان ذا ريبة، والمعنى‏:‏ إننا لفي شك مما تدعونا إليه من عبادة الله وحده، وترك عبادة الأوثان موقع في الريب‏.‏

‏{‏قَالَ يَاقَوْمٌ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى‏}‏ أي‏:‏ حجة ظاهرة وبرهان صحيح ‏{‏وَآتَانِي مِنْهُ‏}‏ أي‏:‏ من جهته ‏{‏رَحْمَةً‏}‏ أي‏:‏ نبوّة، وهذه الأمور وإن كانت متحققة الوقوع، لكنها صدّرت بكلمة الشك اعتباراً بحال المخاطبين، لأنهم في شك من ذلك، كما وصفوه عن أنفسهم ‏{‏فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ الله‏}‏ استفهام معناه النفي‏:‏ أي لا ناصر لي يمنعني من عذاب الله ‏{‏إِنْ عَصَيْتُهُ‏}‏ في تبليغ الرسالة، وراقبتكم وفترت عما يجب عليّ من البلاغ ‏{‏فَمَا تَزِيدُونَنِى‏}‏ بتثبيطكم إياي ‏{‏غَيْرَ تَخْسِيرٍ‏}‏ بأن تجعلوني خاسراً بإبطال عملي، والتعرّض لعقوبة الله لي‏.‏

قال الفراء‏:‏ أي تضليل وإبعاد من الخير‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ فما تزيدونني باحتجاجكم بدين آبائكم غير بصيرة بخسارتكم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً‏}‏ قد مرّ تفسير هذه الآية في الأعراف، ومعنى ‏{‏لكم آية‏}‏‏:‏ معجزة ظاهرة، وهي منتصبة على الحال، ولكم في محل نصب على الحال من ‏{‏آية‏}‏ مقدّمة عليها، ولو تأخرت لكانت صفة لها‏.‏ وقيل‏:‏ إن ناقة الله بدل من هذه، والخبر لكم، والأوّل‏:‏ أولى، وإنما قال‏:‏ ‏{‏ناقة الله‏}‏ لأنه أخرجها لهم من جبل على حسب اقتراحهم‏.‏ وقيل‏:‏ من صخرة صماء ‏{‏فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ الله‏}‏ أي‏:‏ دعوها تأكل في أرض الله مما فيها من المراعي التي تأكلها الحيوانات‏.‏ قال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ ويجوز رفع تأكل على الحال والاستئناف، ولعله يعني في الأصل على ما تقتضيه لغة العرب لا في الآية، فالمعتمد القراءات المروية على وجه الصحة ‏{‏وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء‏}‏ قال الفراء‏:‏ بعقر، والظاهر أن النهي عما هو أعمّ من ذلك ‏{‏فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ‏}‏ جواب النهي‏:‏ أي قريب من عقرها‏.‏ وذلك ثلاثة أيام ‏{‏فَعَقَرُوهَا‏}‏ أي‏:‏ فلم يمتثلوا الأمر من صالح ولا النهي، بل خالفوا كل ذلك فوقع منهم العقر لها ‏{‏فَقَالَ‏}‏ لهم صالح ‏{‏تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثلاثة أَيَّامٍ‏}‏ أي‏:‏ تمتعوا بالعيش في منازلكم ثلاثة أيام، فإن العقاب نازل عليكم بعدها‏.‏

قيل‏:‏ إنهم عقروها يوم الأربعاء، فأقاموا الخميس والجمعة والسبت، وأتاهم العذاب يوم الأحد، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما يدل عليه الأمر بالتمتع ثلاثة أيام ‏{‏وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ‏}‏ أي‏:‏ غير مكذوب فيه، فحذف الجارّ اتساعاً، أو من باب المجاز، كأن الوعد إذا وفى به صدق ولم يكذب، ويجوز أن يكون مصدراً‏:‏ أي وعد غير كذب‏.‏

‏{‏فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا‏}‏ أي‏:‏ عذابنا، أو أمرنا بوقوع العذاب ‏{‏نَجَّيْنَا صالحا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا‏}‏ قد تقدّم تفسير هذا في قصة هود ‏{‏وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ‏}‏ أي‏:‏ ونجيناهم من خزي يومئذ وهو هلاكهم بالصيحة، والخزي‏:‏ الذل والمهانة‏.‏ وقيل‏:‏ من عذاب يوم القيامة، والأوّل‏:‏ أولى‏.‏ وقرأ نافع والكسائي بفتح «يوم» على أنه اكتسب البناء من المضاف إليه‏.‏ وقرأ الباقون بالكسر ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوى العزيز‏}‏ القادر الغالب الذي لا يعجزه شيء ‏{‏وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة‏}‏ أي‏:‏ في اليوم الرابع من عقر الناقة، صيح بهم فماتوا، وذكر الفعل لأن الصيحة والصياح واحد، مع كون التأنيث غير حقيقي‏.‏ قيل‏:‏ صيحة جبريل، وقيل‏:‏ صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم وماتوا، وتقدّم في الأعراف

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 78‏]‏ قيل‏:‏ ولعلها وقعت عقب الصيحة ‏{‏فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جاثمين‏}‏ أي‏:‏ ساقطين على وجوههم موتى قد لصقوا بالتراب كالطير إذا جثمت ‏{‏كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ كأنهم لم يقيموا في بلادهم أو ديارهم، والجملة في محل نصب على الحال والتقدير‏:‏ مماثلين لمن لم يوجد ولم يقم في مقام قط ‏{‏إِلا إن ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ‏}‏ وضع الظاهر موضع المضمر؛ لزيادة البيان، وصرح بكفرهم مع كونه معلوماً تعليلاً للدعاء عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏أَلاَ بُعْدًا لّثَمُودَ‏}‏ وقرأ الكسائي بالتنوين‏.‏ وقد تقدم تفسير هذه القصة في الأعراف بما يحتاج إلى مراجعته ليضم ما في إحدى القصتين من الفوائد إلى الأخرى‏.‏

وقد أخرج أبو الشيخ، عن السديّ ‏{‏هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض‏}‏ قال‏:‏ خلقكم من الأرض‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد ‏{‏واستعمركم فِيهَا‏}‏ قال‏:‏ أعمركم فيها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد ‏{‏واستعمركم فِيهَا‏}‏ قال‏:‏ استخلفكم فيها‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن مجاهد ‏{‏فَمَا تَزِيدُونَنِى غَيْرَ تَخْسِيرٍ‏}‏ يقول‏:‏ ما تزدادون أنتم إلا خساراً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عطاء الخراساني نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد، في قوله‏:‏ ‏{‏فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جاثمين‏}‏ قال‏:‏ ميتين‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس ‏{‏كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا‏}‏ قال‏:‏ كأن لم يعيشوا فيها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، قال‏:‏ كأن لم يعمروا فيها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة، قال‏:‏ كأن لم ينعموا فيها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 76‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ‏(‏69‏)‏ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ‏(‏70‏)‏ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ‏(‏71‏)‏ قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ‏(‏72‏)‏ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ‏(‏73‏)‏ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ‏(‏74‏)‏ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ‏(‏75‏)‏ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ‏(‏76‏)‏‏}‏

هذه قصة لوط عليه السلام وقومه، وهو ابن عم إبراهيم عليه السلام، وكانت قرى لوط بنواحي الشام، وإبراهيم ببلاد فلسطين‏.‏ فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط، مرّوا بإبراهيم ونزلوا عنده، وكان كل من نزل عنده يحسن قراه، وكان مرورهم عليه لتبشيره بهذه البشارة المذكورة، فظنهم أضيافاً، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا تسعة‏.‏ وقيل‏:‏ أحد عشر، والبشرى التي بشروه بها هي بشارته بالولد‏.‏ وقيل‏:‏ بإهلاك قوم لوط‏.‏ والأولى‏:‏ أولى‏.‏ ‏{‏قَالُواْ سَلاَماً‏}‏ منصوب بفعل مقدر‏:‏ أي سلمنا عليك سلاماً ‏{‏قَالَ سلام‏}‏ ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف‏:‏ أي أمركم سلام، أو مرتفع على أنه مبتدأ والخبر محذوف، والتقدير‏:‏ عليكم سلام ‏{‏فَمَا لَبِثَ‏}‏ أي‏:‏ إبراهيم ‏{‏أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ‏}‏ قال أكثر النحويين «أن» هنا بمعنى حتى أي‏:‏ فما لبث حتى جاء‏.‏ وقيل‏:‏ إنها في محل نصب بسقوط حرف الجر، والتقدير فما لبث عن أن جاء‏:‏ أي ما أبطأ إبراهيم عن مجيئه بعجل، و«ما» نافية قاله‏:‏ سيبويه‏.‏ وقال الفراء‏:‏ فما لبث مجيئه، أي ما أبطأ مجيئه‏.‏ وقيل‏:‏ إن «ما» موصولة وهي‏:‏ مبتدأ والخبر ‏{‏أن جاء بعجل حنيذ‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ فالذي لبث إبراهيم هو مجيؤه بعجل حنيذ، والحنيذ‏:‏ المشويّ مطلقاً‏.‏ وقيل‏:‏ المشويّ بحرّ الحجارة من غير أن تمسه النار، يقال‏:‏ حنذ الشاة يحنذها‏:‏ جعلها فوق حجارة محماة لتنضجها فهي‏:‏ حنيذ‏.‏ وقيل‏:‏ معنى حنيذ‏:‏ سمين‏.‏ وقيل‏:‏ الحنيذ‏:‏ هو‏:‏ السميط‏.‏ وقيل‏:‏ النضيج، وهو فعيل بمعنى مفعول، وإنما جاءهم بعجل، لأن البقر كانت أكثر أمواله ‏{‏فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ لا يمدونها إلى العجل كما يمدّ يده من يريد الأكل ‏{‏نَكِرَهُمْ‏}‏ يقال‏:‏ نكرته وأنكرته واستنكرته‏:‏ إذا وجدته على غير ما تعهد، ومنه قول الشاعر‏:‏

فأنكرتني وما كان الذي نكرت *** من الحوادث إلا الشيب والصلعا

فجمع بين اللغتين، ومما جمع فيه بين اللغتين قول الشاعر‏:‏

إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها *** خرجت مع البازي عليّ سواد

وقيل‏:‏ يقال‏:‏ أنكرت لما تراه بعينك، ونكرت لما تراه بقلبك، قيل‏:‏ وإنما استنكر منهم ذلك، لأن عادتهم أن الضيف إذا نزل بهم ولم يأكل من طعامهم ظنوا أنه قد جاء بشرّ ‏{‏وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ أحسّ في نفسه منهم ‏{‏خِيفَةً‏}‏ أي‏:‏ خوفاً وفزعاً‏.‏ وقيل‏:‏ معنى أوجس‏:‏ أضمر في نفسه خيفة، والأول ألصق بالمعنى اللغوي، ومنه قول الشاعر‏:‏

جاء البريد بقرطاس يحث به *** فأوجس القلب من قرطاسه فزعا

وكأنه ظنّ أنهم قد نزلوا به لأمر ينكره، أو لتعذيب قومه ‏{‏قَالُواْ لاَ تَخَفْ‏}‏ قالوا له هذه المقالة مع كونه لم يتكلم بما يدل على الخوف، بل أوجس ذلك في نفسه، فلعلهم استدلوا على خوفه بأمارات كظهور أثره على وجهه، أو قالوه له بعدما قال عقب ما أوجس في نفسه من الخيفة قولاً يدلّ على الخوف، كما في قوله في سورة الحجر‏:‏

‏{‏قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 52‏]‏، ولم يذكر ذلك ها هنا اكتفاء بما هنالك، ثم علّلوا نهيه عن الخوف بقولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ أي‏:‏ أرسلنا إليهم خاصة، ويمكن أن يكون إبراهيم عليه السلام قد قال قولاً يكون هذا جواباً عنه ‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون * قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 31، 32‏]‏‏.‏ وجملة ‏{‏وامرأته قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ‏}‏ في محل نصب على الحال، قيل‏:‏ كانت قائمة عند تحاورهم وراء الستر‏.‏ وقيل‏:‏ كانت قائمة تخدم الملائكة وهو جالس‏.‏ والضحك هنا هو الضحك المعروف الذي يكون للتعجب أو للسرور كما قاله الجمهور‏.‏ وقال مجاهد وعكرمة‏:‏ إنه الحيض، ومنه قول الشاعر‏:‏

وإني لآتي العرس عند طهورها *** وأهجرها يوماً إذا تك ضاحكاً

وقال الآخر‏:‏

وضحك الأرانب فوق الصفا *** كمثل دم الخوف يوم اللقا

والعرب تقول ضحكت الأرانب‏:‏ إذا حاضت‏.‏ وقد أنكر بعض اللغويين أن يكون في كلام العرب ضحكت بمعنى حاضت‏.‏ ‏{‏فبشرناها بإسحاق‏}‏ ظاهره أن التبشير كان بعد الضحك‏.‏ وقال الفراء‏:‏ فيه تقديم وتأخير‏.‏ والمعنى‏:‏ فبشرناها فضحكت سروراً بالولد‏.‏ وقرأ محمد بن زياد من قراء مكة «فضحكت» بفتح الحاء، وأنكره المهدوي‏.‏ ‏{‏وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ‏}‏ قرأ حمزة، وابن عامر، وحفص بنصب ‏{‏يعقوب‏}‏ على أنه مفعول فعل دل عليه ‏{‏فبشرناها‏}‏، كأنه قال‏:‏ ووهبنا لها من وراء إسحاق يعقوب‏.‏ وأجاز الكسائي، والأخفش، وأبو حاتم أن يكون ‏{‏يعقوب‏}‏ في موضع جرّ‏.‏ وقال الفراء‏:‏ لا يجوز الجرّ إلا بإعادة حرفه‏.‏ قال سيبويه‏:‏ ولو قلت‏:‏ مررت بزيد أوّل من أمس، وأمس عمر، كان قبيحاً خبيثاً، لأنك فرقت بين المجرور، وما يشركه، كما يفرق بين الجار والمجرور‏.‏ وقرأ الباقون برفع «يعقوب» على أنه مبتدأ وخبره الظرف الذي قبله‏.‏ وقيل‏:‏ الرفع بتقدير فعل محذوف، أي ويحدث لها، أو وثبت لها‏.‏ وقد وقع التبشير هنا لها، ووقع لإبراهيم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبشرناه بغلام حَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 101‏]‏ ‏{‏وَبَشَّرُوهُ بغلام عَلَيمٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 28‏]‏، لأن كل واحد منهما مستحق للبشارة به لكونه منهما‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قَالَتْ ياويلتا‏}‏ مستأنفة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل‏:‏ فماذا قالت‏؟‏ قال الزجاج‏:‏ أصلها يا ويلتي، فأبدل من الياء ألف لأنها أخفّ من الياء والكسرة، وهي لم ترد الدعاء على نفسها بالويل، ولكنها كلمة تقع كثيراً على أفواه النساء إذا طرأ عليهنّ ما يعجبن منه، وأصل الويل‏:‏ الخزي، ثم شاع في كل أمر فظيع، والاستفهام في قولها‏:‏ ‏{‏ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ‏}‏ للتعجب‏:‏ أي‏:‏ كيف ألد وأنا شيخة قد طعنت في السنّ، يقال‏:‏ عجزت تعجز مخففاً ومثقلاً عجزاً وتعجيزا‏:‏ أي‏:‏ طعنت في السنّ‏.‏

ويقال‏:‏ عجوز وعجوزة، وأما عجزت بكسر الجيم‏:‏ فمعناه عظمت عجيزتها‏.‏ قيل‏:‏ كانت بنت تسع وتسعين، وقيل‏:‏ بنت تسعين ‏{‏وهذا بَعْلِى شَيْخًا‏}‏ أي‏:‏ وهذا زوجي إبراهيم شيخاً لا تحبل من مثله النساء، و‏{‏شيخاً‏}‏ منتصب على الحال، والعامل فيه معنى الإشارة‏.‏ قال النحاس‏:‏ وفي قراءة أبيّ وابن مسعود «شيخ» بالرفع على أنه خبر المبتدأ، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف، وعلى الأول يكون ‏{‏بعلى‏}‏ بدلاً من اسم الإشارة‏.‏ قيل‏:‏ كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة‏.‏ وقيل‏:‏ ابن مائة، وهذه المبشرة هي سارة امرأة إبراهيم‏.‏ وقد كان ولد لإبراهيم من هاجر أمته إسماعيل، فتمنت سارة أن يكون لها ابن، وأيست منه لكبر سنها، فبشرها الله به على لسان ملائكته ‏{‏إِنَّ هذا لَشَئ عَجِيبٌ‏}‏ أي‏:‏ ما ذكرته الملائكة من التبشير بحصول الولد، مع كونها في هذه السنّ العالية التي لا يولد لمثلها شيء يقضي منه العجب‏.‏

وجملة ‏{‏قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله‏}‏ مستأنفة جواب سؤال مقدّر، والاستفهام فيها للإنكار‏:‏ أي كيف تعجبين من قضاء الله وقدره، وهو لا يستحيل عليه شيء، وإنما أنكروا عليها مع كون ما تعجبت منه من خوارق العادة لأنها من بيت النبوّة، ولا يخفى على مثلها أن هذا من مقدوراته سبحانه، ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت‏}‏ أي‏:‏ الرحمة التي وسعت كل شيء، والبركات وهي‏:‏ النموّ والزيادة‏.‏ وقيل الرحمة‏:‏ النبوّة، والبركات‏:‏ الأسباط من بني إسرائيل لما فيهم من الأنبياء، وانتصاب ‏{‏أهل البيت‏}‏ على المدح أو الاختصاص، وصرف الخطاب من صيغة الواحدة إلى الجمع لقصد التعميم ‏{‏إِنَّهُ حَمِيدٌ‏}‏ أي‏:‏ يفعل موجبات حمده من عباده على سبيل الكثرة ‏{‏مَّجِيدٌ‏}‏ كثير الإحسان إلى عباده بما يفيضه عليهم من الخيرات، والجملة تعليل لقوله‏:‏ ‏{‏رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت‏}‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع‏}‏ أي‏:‏ الخيفة التي أوجسها في نفسه، يقال ارتاع من كذا‏:‏ إذا خاف، ومنه قول النابغة‏:‏

فارتاع من صوت كلاب فبات له *** طوع الشوامت من خوف ومن حذر

‏{‏وَجَاءتْهُ البشرى‏}‏ أي‏:‏ بالولد، أو بقولهم‏:‏ لا تخف، قوله‏:‏ ‏{‏يجادلنا فِى قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ قال الأخفش والكسائي‏:‏ إن ‏{‏يجادلنا‏}‏ في موضع جادلنا، فيكون هو جواب ‏{‏لما‏}‏‏.‏ لما تقرّر من أن جوابها يكون بالماضي لا بالمستقبل‏.‏ قال النحاس‏:‏ جعل المستقبل مكانه كما يجعل الماضي مكان المستقبل في الشرط، وقيل‏:‏ إن الجواب محذوف، و‏{‏يجادلنا‏}‏ في موضع نصب على الحال، قاله الفراء‏.‏ وتقديره‏:‏ فلما ذهب عنه الروع وجاءته البشرى اجترأ على خطابنا حال كونه يجادلنا‏:‏ أي يجادل رسلنا‏.‏ وقيل‏:‏ إن المعنى‏:‏ أخذ يجادلنا، ومجادلته لهم قيل‏:‏ إنه سمع قولهم‏:‏

‏{‏إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هذه القرية‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 31‏]‏ قال‏:‏ أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين أتهلكونهم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ فأربعون‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ فعشرون‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، ثم قال‏:‏ فعشرة، فخمسة‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فواحد‏؟‏ قالوا‏:‏ لا ‏{‏قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 32‏]‏ الآية، فهذا معنى مجادلته في قوم لوط، أي في شأنهم وأمرهم‏.‏ ثم أثنوا على إبراهيم، أو أثنى الله عليه فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ إبراهيم لَحَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ ليس بعجول في الأمور، ولا بموقع لها على غير ما ينبغي‏.‏ والأوّاه‏:‏ كثير التأوّه، والمنيب‏:‏ الراجع إلى الله‏.‏ وقد تقدّم في براءة الكلام على الأوّاه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هذا‏}‏ هذا قول الملائكة له‏:‏ أي أعرض عن هذا الجدال في أمر قد فرغ منه، وجفّ به القلم، وحقّ به القضاء ‏{‏إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ‏}‏ الضمير للشأن، ومعنى مجيء أمر الله‏:‏ مجيء عذابه الذي قدّره عليهم، وسبق به قضاؤه ‏{‏وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ‏}‏ أي‏:‏ لا يردّه دعاء ولا جدال، بل هو واقع بهم لا محالة، ونازل بهم على كل حال، ليس بمصروف ولا مدفوع‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن عثمان بن محصن، في ضيف إبراهيم قال‏:‏ كانوا أربعة‏:‏ جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ورافئيل‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏بِعِجْلٍ حَنِيذٍ‏}‏ قال‏:‏ نضيج‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عنه، قال‏:‏ مشويّ‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عنه، أيضاً قال‏:‏ سميط‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الضحاك قال‏:‏ الحنيذ‏:‏ الذي أنضج بالحجارة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن يزيد بن أبي يزيد البصري، في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ‏}‏ قال‏:‏ لم ير لهم أيدياً فنكرهم، وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏نَكِرَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ كانوا إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يأت بخير، وأنه يحدّث نفسه بشرّ، ثم حدّثوه عند ذلك بما جاءوا فيه، فضحكت امرأته‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن المغيرة قال‏:‏ في مصحف ابن مسعود «وامرأته قائمة وهو جالس»‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد ‏{‏وامرأته قَائِمَةٌ‏}‏ قال‏:‏ في خدمة أضياف إبراهيم‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة قال‏:‏ لما أوجس إبراهيم في نفسه خيفة حدّثوه عند ذلك بما جاءوا فيه، فضحكت امرأته تعجباً مما فيه قوم لوط من الغفلة، ومما أتاهم من العذاب‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس ‏{‏فَضَحِكَتْ‏}‏ قال‏:‏ فحاضت وهي‏:‏ بنت ثمان وتسعين سنة‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏فَضَحِكَتْ‏}‏ قال‏:‏ حاضت، وكانت ابنة بضع وتسعين سنة، وكان إبراهيم ابن مائة سنة‏.‏

وأخرج أبو الشيخ، عن عكرمة قال‏:‏ حاضت‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن ابن عمر مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ‏}‏ قال‏:‏ هو ولد الولد‏.‏ وأخرج ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء، عن حسان بن أبجر قال‏:‏ كنت عند ابن عباس، فجاء رجل من هذيل، فقال له ابن عباس‏:‏ ما فعل فلان‏؟‏ قال‏:‏ مات وترك أربعة من الولد وثلاثة من الوراء، فقال ابن عباس ‏{‏فبشرناها بإسحاق وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ‏}‏ قال‏:‏ ولد الولد‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وأبو الشيخ، والبيهقي في الشعب من طرق، عن ابن عباس أنه كان ينهى عن أن يزاد في جواب التحية على قولهم‏:‏ عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ويتلو هذه الآية ‏{‏رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت‏}‏‏.‏ وأخرج البيهقي عن ابن عمر نحوه‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع‏}‏ قال‏:‏ الفرق ‏{‏يجادلنا فِى قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ قال‏:‏ يخاصمنا‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وأبو الشيخ، عن قتادة في تفسير المجادلة قال‏:‏ إنه قال لهم يومئذ‏:‏ أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين‏؟‏ قالوا‏:‏ إن كان فيهم خمسون لم نعذبهم، قال‏:‏ أربعون‏؟‏ قالوا‏:‏ وأربعون‏.‏ قال‏:‏ ثلاثون‏؟‏ قالوا‏:‏ وثلاثون، حتى بلغوا عشرة، قالوا‏:‏ إن كان فيهم عشرة لم نعذبهم، قال‏:‏ ما قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير‏؟‏ قال قتادة‏:‏ إنه كان في قرية لوط أربعة آلاف ألف إنسان، أو ما شاء الله من ذلك‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس قال‏:‏ لما جاءت الملائكة إلى إبراهيم قالوا لإبراهيم‏:‏ إن كان فيها خمسة يصلون رفع عنهم العذاب‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن عمر بن ميمون قال‏:‏ الأوّاه‏:‏ الرحيم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال‏:‏ المنيب، المقبل إلى طاعة الله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال‏:‏ المنيب المخلص‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 83‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ‏(‏77‏)‏ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ‏(‏78‏)‏ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ‏(‏79‏)‏ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ‏(‏80‏)‏ قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ‏(‏81‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ‏(‏82‏)‏ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ‏(‏83‏)‏‏}‏

لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم، وكان بين إبراهيم وقرية لوط أربعة فراسخ، جاءوا إلى لوط‏.‏ فلما رآهم لوط، وكانوا في صورة غلمان حسان مرد، ‏{‏سِئ بِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ ساءه مجيئهم، يقال‏:‏ ساءه يسوءه، وأصل سيء بهم‏.‏ سويء بهم، نقلت حركة الواو إلى السين فقلبت الواو ياء، ولما خففت الهمزة ألقيت حركتها على الياء‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وأبو عمرو بإشمام السين الضم ‏{‏وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا‏}‏ قال الأزهري‏:‏ الذرع يوضع موضع الطاقة، وأصله أن البعير يذرع بيده في سيره على قدر سعة خطوه‏:‏ أي يبسطها، فإذا حمل عليه أكثر من طاقته، ضاق ذرعه عن ذلك، فجعل ضيق الذرع كناية عن قلة الوسع والطاقة وشدّة الأمر‏.‏ وقيل‏:‏ هو من ذرعه القيء‏:‏ إذا غلبه وضاق عن حبسه‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه ضاق صدره لما رأى الملائكة في تلك الصورة خوفاً عليهم من قومه، لما يعلم من فسقهم وارتكابهم لفاحشة اللواط ‏{‏وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ‏}‏ أي‏:‏ شديد‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وإنك إن لم ترض بكر بن وائل *** يكن لك يوم بالعراق عصيب

يقال عصيب وعصيصب وعصوصب على التكثير، أي‏:‏ يوم مكروه يجتمع فيه الشر، ومنه قيل‏:‏ عصبة وعصابة‏:‏ أي مجتمعو الكلمة، ورجل معصوب‏:‏ أي مجتمع الخلق ‏{‏وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ جاءوا لوطاً‏.‏ الجملة في محل نصب على الحال‏.‏ ومعنى ‏{‏يهرعون إليه‏}‏‏:‏ يسرعون إليه‏.‏ قال الكسائي، والفراء، وغيرهما من أهل اللغة‏:‏ لا يكون الإهراع إلا إسراعاً مع رعدة، يقال‏:‏ أهرع الرجل إهراعاً‏:‏ أي أسرع في رعدة من برد أو غضب أو حمى، قال مهلهل‏:‏

فجاؤوا يهرعون وهم أسارى *** نهودهم على رغم الأنوف

وقيل‏:‏ يهرعون‏:‏ يهرولون‏.‏ وقيل‏:‏ هو مشي بين الهرولة والعدو، والمعنى‏:‏ أن قوم لوط لما بلغهم مجيء الملائكة في تلك الصورة أسرعوا إليه، كأنما يدفعون دفعاً لطلب الفاحشة من أضيافه ‏{‏وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات‏}‏ أي‏:‏ ومن قبل مجيء الرسل في هذا الوقت، كانوا يعملون السيئات‏.‏ وقيل‏:‏ ومن قبل لوط كانوا يعملون السيئات، أي‏:‏ كانت عادتهم إتيان الرجال، فلما جاءوا إلى لوط، وقصدوا أضيافه لذلك العمل، قام إليهم لوط مدافعاً ‏{‏وَقَالَ ياقَوْمٌ هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ تزوّجوهنّ، ودعوا ما تطلبونه من الفاحشة بأضيافي، وقد كان له ثلاث بنات‏.‏ وقيل‏:‏ اثنتان، وكانوا يطلبون منه أن يزوجهم بهنّ، فيمتنع لخبثهم، وكان لهم سيدان مطاعان، فأراد أن يزوجهما بنتيه‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بقوله‏:‏ ‏{‏هؤلاءآء بَنَاتِى‏}‏ النساء جملة، لأن نبيّ القوم أب لهم، وقالت طائفة‏:‏ إنما كان هذا القول منه على طريق المدافعة، ولم يرد الحقيقة‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ أحلّ وأنزه‏.‏

والتطهر‏:‏ التنزه عما لا يحلّ، وليس في صيغة أطهر دلالة على التفضيل، بل هي مثل «الله أكبر»‏.‏ وقرأ الحسن، وعيسى بن عمر بنصب ‏"‏ أطهر ‏"‏، وقرأ الباقون بالرفع؛ ووجه النصب أن يكون اسم الإشارة مبتدأ، وخبره ‏{‏بناتي‏}‏، و‏{‏هنّ‏}‏ ضمير فصل، و‏{‏أطهر‏}‏ حال‏.‏ وقد منع الخليل، وسيبويه، والأخفش مثل هذا، لأن ضمير الفصل الذي يسمى عماداً إنما يكون بين كلامين بحيث لا يتمّ الكلام إلا بما بعدها، نحو كان زيد هو أخاك ‏{‏فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى‏}‏ أي‏:‏ اتقوا الله بترك ما تريدون من الفاحشة بهم، ولا تذلوني وتجلبوا عليّ العار في ضيفي، والضيف يطلق على الواحد والاثنين والجماعة، لأنه في الأصل مصدر، ومنه قول الشاعر‏:‏

لا تعدمي الدهر شفار الجازر *** للضيف والضيف أحق زائر

ويجوز فيه التثنية والجمع، والأوّل‏:‏ أكثر‏.‏ يقال‏:‏ خزي الرجل خزاية، أي استحيا أو ذلّ أو هان، وخزي خزياً‏:‏ إذا افتضح، ومعنى ‏{‏في ضيفي‏}‏‏:‏ في حق ضيفي، فخزي الضيف‏:‏ خزي للمضيف، ثم وبخهم فقال‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ‏}‏ يرشدكم إلى ترك هذا العمل القبيح، ويمنعكم منه، فأجابوا عليه معرضين عما نصحهم به، وأرشدهم إليه، بقوله‏:‏ ‏{‏مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ‏}‏ أي‏:‏ ما لنا فيهم من شهوة ولا حاجة، لأن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق‏.‏ ومعنى ما نسبوه إليه من العلم أنه قد علم منهم المكالبة على إتيان الذكور، وشدّة الشهوة إليهم، فهم من هذه الحيثية كأنهم لا حاجة لهم إلى النساء؛ ويمكن أن يريدوا‏:‏ أنه لا حق لنا في نكاحهنّ؛ لأنه لا ينكحهنّ ويتزوج بهن إلا مؤمن، ونحن لا نؤمن أبداً‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم كانوا قد خطبوا بناته من قبل فردّهم، وكان من سنتهم أن من خطب فردّ، فلا تحل المخطوبة أبداً ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ‏}‏ من إتيان الذكور‏.‏

ثم إنه لما علم تصميمهم على الفاحشة، وأنهم لا يتركون ما قد طلبوه ‏{‏قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً‏}‏ وجواب ‏"‏ لو ‏"‏ محذوف‏.‏ والتقدير‏:‏ لدافعتكم عنهم ومنعتكم منهم، وهذا منه عليه السلام على طريق التمني‏:‏ أي لو وجدت معيناً وناصراً، فسمي ما يتقوّى به قوّة ‏{‏أَوْ آوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ‏}‏ عطف على ما بعد ‏"‏ لو ‏"‏ لما فيه من معنى الفعل، والتقدير‏:‏ لو قويت على دفعكم، أو آويت إلى ركن شديد‏.‏ وقرئ «أو آوى» بالنصب عطفاً على قوّة كأنه قال‏:‏ لو أن لي بكم قوّة، أو إيواء إلى ركن شديد، ومراده بالركن الشديد‏:‏ العشيرة، وما يمتنع به عنهم هو ومن معه‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالقوّة‏:‏ الولد، وبالركن الشديد‏:‏ من ينصره من غير ولده‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالقوّة‏:‏ قوته في نفسه‏.‏ ولما سمعته الملائكة يقول هذه المقالة، ووجدوا قومه قد غلبوه وعجز عن مدافعتهم ‏{‏قَالُواْ يالُوطٍ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ‏}‏ أخبروه أوّلاً أنهم رسل ربه، ثم بشّروه بقولهم‏:‏ ‏{‏لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ‏}‏ وهذه الجملة موضحة لما قبلها؛ لأنهم إذا كانوا مرسلين من عند الله إليه لم يصل عدوّه إليه ولم يقدروا عليه، ثم أمروه أن يخرج عنهم، فقالوا له‏:‏ ‏{‏فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل‏}‏ قرأ نافع وابن كثير بالوصل، وقرأ غيرهما بالقطع، وهما لغتان فصيحتان‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏واليل إِذَا يَسْرِ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 4‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الذى أسرى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏ وقد جمع الشاعر بين اللغتين فقال‏:‏

حي النضير وربة الخدر *** أسرت عليه ولم تكن تسري

وقيل‏:‏ إن أسرى للمسير من أول الليل، وسرى للمسير من آخره، والقطع من الليل‏:‏ الطائفة منه‏.‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ ‏{‏بقطع من الليل‏}‏‏:‏ بساعة منه‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ بجنح من الليل‏.‏ وقيل‏:‏ بظلمة من الليل‏.‏ وقيل‏:‏ بعد هدوّ من الليل، قيل‏:‏ إن السرى لا يكون إلا في الليل، فما وجه زيادة بقطع من الليل‏؟‏ قيل‏:‏ لو لم يقل بقطع من الليل لجاز أن يكون في أوّله قبل اجتماع الظلمة، وليس ذلك بمراد ‏{‏وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ‏}‏ أي‏:‏ لا ينظر إلى ما وراءه، أو يشتغل بما خلفه من مال أو غيره‏.‏ قيل‏:‏ وجه النهي عن الالتفات أن لا يروا عذاب قومهم، وهول ما نزل بهم، فيرحموهم ويرقوا لهم، أو لئلا ينقطعوا عن السير المطلوب منهم بما يقع من الالتفات، فإنه لا بدّ للملتفت من فترة في سيره ‏{‏إِلاَّ امرأتك‏}‏ بالنصب على قراءة الجمهور، وقرأ أبو عمرو، وابن كثير بالرفع على البدل، فعلى القراءة الأولى امرأته مستثناة من قوله‏:‏ ‏{‏فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ‏}‏ أي‏:‏ أسر بأهلك جميعاً إلا امرأتك فلا تسر بها، فإنه ‏{‏مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ‏}‏ من العذاب، وهو رميهم بالحجارة لكونها كانت كافرة‏.‏ وأنكر قراءة الرفع جماعة منهم أبو عبيد وقال‏:‏ لا يصح ذلك إلا برفع ‏{‏يلتفت‏}‏ ويكون نعتاً، لأن المعنى يصير إذا أبدلت وجزمت أن المرأة أبيح لها الالتفات وليس المعنى كذلك‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا العمل من أبي عبيد وغيره على مثل أبي عمرو مع جلالته ومحله من العربية لا يجب أن يكون، والرفع على البدل له معنى صحيح، وهو أن يكون استثناء من النهي عن الالتفات، أي لا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك، فإنها تلتفت وتهلك‏.‏ وقيل‏:‏ إن الرفع على البدل من ‏{‏أحد‏}‏، ويكون الالتفات بمعنى التخلف لا بمعنى النظر إلى الخلف، فكأنه قال‏:‏ ولا يتخلف منكم أحد إلا امرأتك، فإنها تتخلف، والملجئ إلى هذا التأويل البعيد الفرار من تناقض القراءتين، والضمير في ‏{‏إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ‏}‏ للشأن، والجملة خبر إنّ ‏{‏إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح‏}‏ هذه الجملة تقليل لما تقدّم من الأمر بالإسراء والنهي عن الالتفات، والمعنى‏:‏ أن موعد عذابهم الصبح المسفر عن تلك الليلة، والاستفهام في ‏{‏أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ‏}‏ للإنكار التقريري، والجملة تأكيد للتعليل‏.‏

وقرأ عيسى بن عمر «أليس الصبح» بضم الباء وهي لغة، ولعلّ جعل الصبح ميقاتاً لهلاكهم لكون النفوس فيه أسكن، والناس فيه مجتمعون لم يتفرّقوا إلى أعمالهم‏.‏

‏{‏فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا‏}‏ أي‏:‏ الوقت المضروب لوقوع العذاب فيه، أو المراد بالأمر‏:‏ نفس العذاب ‏{‏جَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا‏}‏ أي‏:‏ عالي قرى قوم لوط سافلها، والمعنى‏:‏ أنه قلبها على هذه الهيئة، وهي كون عاليها صار سافلها، وسافلها صار عاليها، وذلك لأن جبريل أدخل جناحه تحتها فرفعها من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء ثم قلبها عليهم ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ‏}‏ قيل‏:‏ إنه يقال أمطرنا في العذاب ومطرنا في الرحمة‏.‏ وقيل‏:‏ هما لغتان، يقال‏:‏ مطرت السماء وأمطرت حكى ذلك الهروي‏.‏ والسجيل‏:‏ الطين المتحجر بطبخ أو غيره‏.‏ وقيل‏:‏ هو الشديد الصلب من الحجارة‏.‏ وقيل‏:‏ السجيل الكثير‏.‏ وقيل‏:‏ إن السجيل لفظة غير عربية، أصله سج وجيل، وهما بالفارسية حجر وطين عرّبتهما العرب فجعلتهما اسماً واحداً‏.‏ وقيل‏:‏ هو من لغة العرب‏.‏ وذكر الهروي‏:‏ أن السجيل اسم لسماء الدنيا‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا ضعيف يردّه وصفه بمنضود‏.‏ وقيل‏:‏ هو بحر معلق في الهواء بين السماء والأرض‏.‏ وقيل‏:‏ هي جبال في السماء‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو من التسجيل لهم، أي ما كتب لهم من العذاب فهو في معنى سجين، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ * كتاب مَّرْقُومٌ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 8، 9‏]‏ وقيل‏:‏ هو من أسجلته‏:‏ إذا أعطيته، فكأنه عذاب أعطوه، ومنه قول الشاعر‏:‏

من يساجلني يساجل ماجدا *** يملأ الدلو إلى عقد الكرب

ومعنى‏:‏ ‏{‏مَّنْضُودٍ‏}‏‏:‏ أنه نضد بعضه فوق بعض‏.‏ وقيل‏:‏ بعضه في أثر بعض، يقال‏:‏ نضدت المتاع‏:‏ إذا جعلت بعضه على بعض، فهو منضود ونضيد، والمسوّمة‏:‏ المعلمة، أي التي لها علامة‏:‏ قيل كان عليها أمثال الخواتيم‏.‏ وقيل‏:‏ مكتوب على كل حجر اسم من رمى به‏.‏ وقال الفراء‏:‏ زعموا أنها كانت مخططة بحمرة وسواد في بياض‏.‏ فذلك تسويمها، ومعنى‏:‏ ‏{‏عِندَ رَبّكَ‏}‏ في خزائنه ‏{‏وَمَا هِى مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ‏}‏ أي‏:‏ وما هذه الحجارة الموصوفة من الظالمين وهم قوم لوط ببعيد، أو ما هي من كل ظالم من الظلمة ومنهم كفار قريش ومن عاضدهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ببعيد، فهم لظلمهم مستحقون لها‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏وَمَا هِىَ‏}‏ أي‏:‏ قرى ‏{‏مِنَ الظالمين‏}‏ من كفر بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ‏{‏بِبَعِيدٍ‏}‏ فإنها بين الشام والمدينة‏.‏ وفي إمطار الحجارة قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنها أمطرت على المدن حين رفعها جبريل‏.‏ والثاني‏:‏ أنها أمطرت على من لم يكن في المدن من أهلها، وكان خارجاً عنها‏.‏

وتذكير البعيد على تأويل الحجارة بالحجر، أو إجراء له على موصوف مذكر‏:‏ أي شيء بعيد، أو مكان بعيد، أو لكونه مصدراً كالزفير والصهيل، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِئ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا‏}‏ قال‏:‏ ساء ظناً بقومه، وضاق ذرعاً بأضيافه ‏{‏وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ‏}‏ يقول‏:‏ شديد‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه، في قوله‏:‏ ‏{‏يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ‏}‏ قال‏:‏ يسرعون ‏{‏وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات‏}‏ قال‏:‏ يأتون الرجال‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، أيضاً قال‏:‏ ‏{‏يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ‏}‏ يستمعون إليه‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عنه، أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏هؤلاءآء بَنَاتِى‏}‏ قال‏:‏ ما عرض لوط بناته على قومه لا سفاحاً ولا نكاحاً، إنما قال‏:‏ هؤلاء نساؤكم، لأن النبيّ إذا كان بين ظهراني قوم فهو أبوهم، قال الله تعالى في القرآن‏:‏ «وأزواجه أمهاتهم وهو أبوهم» في قراءة أبيّ‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، قال‏:‏ لم تكن بناته ولكن كنّ من أمته، وكل نبيّ أبو أمته‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا، وابن عساكر، عن السديّ نحوه‏.‏ قال‏:‏ وفي قراءة عبد الله‏:‏ «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم»‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن حذيفة بن اليمان، قال‏:‏ عرض عليهم بناته تزويجاً، وأراد أن يقي أضيافه بتزويج بناته‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ، في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى‏}‏ قال‏:‏ لا تفضحوني‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك ‏{‏أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ‏}‏ قال‏:‏ رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس ‏{‏أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ‏}‏ قال‏:‏ واحد يقول لا إله إلا الله‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن عكرمة مثله‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ‏}‏ قال‏:‏ إنما نريد الرجال ‏{‏قَالَ‏}‏ لوط ‏{‏لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ‏}‏ يقول‏:‏ إلى جند شديد لمقاتلتكم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، ‏{‏أو آوى إلى ركن شديد‏}‏ قال‏:‏ عشيرة‏.‏ وقد ثبت في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يغفر الله للوط إن كان يأوي إلى ركن شديد» وهو مرويّ في غير الصحيح من طريق غيره من الصحابة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن عباس ‏{‏بِقِطْعٍ مّنَ اليل‏}‏ قال‏:‏ جوف الليل‏.‏

وأخرجا عنه قال‏:‏ بسواد الليل‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، عن قتادة، قال‏:‏ بطائفة من الليل‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ‏}‏ قال‏:‏ لا يتخلف‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ‏}‏ قال‏:‏ لا ينظر وراءه أحد ‏{‏إِلاَّ امرأتك‏}‏‏.‏ وأخرج أبو عبيد، وابن جرير، عن هارون قال‏:‏ في حرف ابن مسعود‏:‏ «فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك»‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا‏}‏ قال‏:‏ لما أصبحوا عدا جبريل على قريتهم، فقلعها من أركانها، ثم أدخل جناحه ثم حملها على خوافي جناحه بما فيها، ثم صعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم قلبها، فكان أوّل ما سقط منها سرادقها، فلم يصب قوماً ما أصابهم، ثم إن الله طمس على أعينهم، ثم قلبت قريتهم، وأمطر عليهم حجارة من سجيل‏.‏ وقد ذكر المفسرون روايات وقصصاً في كيفية هلاك قوم لوط طويلة متخالفة، وليس في ذكرها فائدة لا سيما وبين من قال بشيء من ذلك، وبين هلاك قوم لوط دهر طويل لا يتيسر له في مثله إسناد صحيح، وغالب ذلك مأخوذ عن أهل الكتاب، وحالهم في الرواية معروف‏.‏ وقد أمرنا بأنا لا نصدّقهم ولا نكذبهم، فاعرف هذا، فهو الوجه في حذفنا لكثير من هذه الروايات الكائنة في قصص الأنبياء وقومهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا هِى مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ‏}‏ قال‏:‏ يرهب بها قريش أن يصيبهم ما أصاب القوم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في الآية قال‏:‏ من ظلمة العرب إن لم يؤمنوا فيعذبوا بها‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، وابن أبي حاتم، عن قتادة قال‏:‏ من ظالمي هذه الأمة‏.‏