فصل: تفسير الآيات رقم (35- 40)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 40‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ‏(‏35‏)‏ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏36‏)‏ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏37‏)‏ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏38‏)‏ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏39‏)‏ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

معنى ‏{‏بَدَا لَهُمْ‏}‏ ظهر لهم، والضمير للعزيز وأصحابه الذين يدبرون الأمر معه ويشيرون عليه، وأما فاعل ‏{‏بَدَا لَهُمْ‏}‏ فقال سيبويه‏:‏ هو ‏{‏ليسجننه‏}‏ أي‏:‏ ظهر لهم أن يسجنوه‏.‏ قال المبرد‏:‏ وهذا غلط؛ لأن الفاعل لا يكون جملة، ولكن الفاعل ما دلّ عليه ‏{‏بدا‏}‏ وهو المصدر كما قال الشاعر‏:‏

وحق لمن أبو موسى أبوه *** يوفقه الذي نصب الجبالا

أي وحقّ الحقّ، فحذف الفاعل لدلالة الفعل عليه‏.‏ وقيل‏:‏ الفاعل المحذوف هو أي‏:‏ وظهر لهم رأي لم يكونوا يعرفونه من قبل، وهذا الفاعل حذف لدلالته ‏{‏ليسجننه‏}‏ عليه، واللام في ليسجننه جواب قسم محذوف على تقدير القول، أي‏:‏ ظهر لهم من بعد ما رأوا الآيات قائلين‏:‏ والله ليسجننه، وقرئ «لتسجننه» بالمثناة الفوقية على الخطاب، إما للعزيز ومن معه، أو له وحده على طريق التعظيم، والآيات‏:‏ قيل‏:‏ هي القميص وشهادة الشاهد وقطع الأيدي، وقيل‏:‏ هي البركات التي فتحها الله عليهم بعد وصول يوسف إليهم ولم يجد ذلك فيهم بل كانت امرأته هي الغالبة على رأيه، الفاعلة لما يطابق هواها في يوسف، وإنفاذ ما تقدّم منها من الوعيد له بقولها‏:‏ ‏{‏وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ بِهِ * لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّن الصاغرين‏}‏ قيل‏:‏ وسبب ظهور هذا الرأي لهم في سجن يوسف أنهم أرادوا ستر القالة، وكتم ما شاع في الناس من قصة امرأة العزيز معه‏.‏ وقيل‏:‏ إن العزيز قصد بسجنه الحيلولة بينه وبين امرأته، لما علم أنها قد صارت بمكان من حبه لا تبالي معه بحمل نفسها عليه على أيّ صفة كانت، ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏حتى حِينٍ‏}‏ إلى مدّة غير معلومة كما قاله أكثر المفسرين‏.‏ وقيل‏:‏ إلى انقطاع ما شاع في المدينة‏.‏ وقال سعيد ابن جبير‏:‏ إلى سبع سنين، وقيل‏:‏ إلى خمس، وقيل‏:‏ إلى ستة أشهر، وقد تقدّم في البقرة الكلام على تفسير الحين‏.‏ وحتى بمعنى إلى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانَ‏}‏ في الكلام حذف متقدّم عليه، والتقدير‏:‏ وبدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين فسجنوه، ‏{‏ودخل معه السجن فتيان‏}‏، ومع للمصاحبة، وفتيان تثنية فتى، وذلك يدّل على أنهما عبدان له، ويحتمل أن يكون الفتى اسماً للخادم وإن لم يكن مملوكاً، وقد قيل‏:‏ إن أحدهما خباز الملك، والآخر ساقيه، وقد كانا وضعا للملك سما لما ضمن لهما أهل مصر مالاً في مقابلة ذلك، ثم إن الساقي رجع عن ذلك وقال للملك‏:‏ لا تأكل الطعام فإنه مسموم، وقال الخباز‏:‏ لا تشرب فإن الشراب مسموم، فقال الملك للساقي‏:‏ اشرب فشرب فلم يضرّه، وقال للخباز كل فأبى، فجرّب الطعام على حيوان فهلك مكانه فحبسهما، وكان دخولهما السجن مع دخول يوسف، وقيل‏:‏ قبله، وقيل‏:‏ بعده‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ إنهما سألا يوسف عن علمه فقال‏:‏ إني أعبر الرؤيا، فسألاه عن رؤياهما كما قص الله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَالَ أَحَدُهُمَا إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا‏}‏ أي‏:‏ رأيتني، والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة‏.‏ والمعنى‏:‏ إني أراني أعصر عنباً، فسماه باسم ما يئول إليه لكونه المقصود من العصر‏.‏ وفي قراءة ابن مسعود «أعصر عنباً»‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ أخبرني المعتمر بن سليمان أنه لقي أعرابياً ومعه عنب، فقال له‏:‏ ما معك‏؟‏ فقال خمر‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏أعصر خمراً‏}‏ أي‏:‏ عنب خمر، فهو على حذف المضاف، وهذا الذي رأى هذه الرؤيا هو الساقي، وهذه الجملة مستأنفة بتقدير سؤال، وكذلك الجملة التي بعدها وهي ‏{‏وَقَالَ الآخر إِنّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا‏}‏ ثم وصف الخبز هذا بقوله‏:‏ ‏{‏تَأْكُلُ الطير مِنْهُ‏}‏ وهذا الرائي لهذه الرؤيا هو الخباز، ثم قالا ليوسف جميعاً بعد أن قصا رؤياهما عليه ‏{‏نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ‏}‏ أي‏:‏ بتأويل ما قصصناه عليك من مجموع المرئيين، أو بتأويل المذكور لك من كلامنا؛ وقيل‏:‏ إن كل واحد منهما قال له ذلك عقب قصّ رؤياه عليه، فيكون الضمير راجعاً إلى ما رآه كل واحد‏.‏ منهما؛ وقيل‏:‏ إن الضمير في بتأويله موضوع موضع اسم الإشارة، والتقدير بتأويل ذلك ‏{‏إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين‏}‏ أي‏:‏ من الذين يحسنون عبارة الرؤيا، وكذا قال الفراء‏:‏ إن معنى ‏{‏من المحسنين‏}‏ من العالمين الذين أحسنوا العلم، وقال ابن إسحاق‏:‏ من المحسنين إلينا إن فسرت ذلك، أو من المحسنين إلى أهل السجن، فقد روي أنه كان ذلك‏.‏

وجملة ‏{‏قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا‏}‏ مستأنفة جواب سؤال مقدّر، ومعنى ذلك أنه يعلم شيئاً من الغيب، وأنه لا يأتيهما إلى السجن طعام إلاّ أخبرهما بماهيته قبل أن يأتيهما، وهذا ليس من جواب سؤالهما تعبير ما قصاه عليه، بل جعله عليه السلام مقدّمة قبل تعبيره لرؤياهما بياناً لعلوّ مرتبته في العلم، وأنه ليس من المعبرين الذين يعبرون الرؤيا عن ظنّ وتخمين، فهو كقول عيسى عليه السلام ‏{‏وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 49‏]‏ وإنما قال يوسف عليه السلام لهما بهذا ليحصل الانقياد منهما له فيما يدعوهما إليه بعد ذلك من الإيمان بالله والخروج من الكفر، ومعنى ‏{‏ترزقانه‏}‏ يجري عليهما من جهة الملك أو غيره، والجملة صفة لطعام، أو يرزقكما الله سبحانه، والاستثناء بقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ‏}‏ مفرّغ من أعمّ الأحوال‏:‏ أي‏:‏ لا يأتيكما طعام في حال من الأحوال إلا حال ما نبأتكما أي‏:‏ بينت لكما ماهيته وكيفيته قبل أن يأتيكما، وسماه تأويلاً بطريق المشاكلة؛ لأن الكلام في تأويل الرؤيا، أو المعنى‏:‏ إلا نبأتكما بما يؤول إليه الكلام من مطابقة ما أخبركما به للواقع‏.‏

والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلكما‏}‏ إلى التأويل، والخطاب للسائلين له عن تعبير رؤياهما ‏{‏مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى‏}‏ بما أوحاه إليّ وألهمني إياه‏:‏ لا من قبيل الكهانة والتنجيم ونحو ذلك مما يكثر فيه الخطأ، ثم بين لهما أن ذلك الذي ناله من هذه الرتبة العلية والعلوم الجمة هو بسبب ترك الملة التي لا يؤمن أهلها بالله ولا بالآخرة واتباعه لملة الأنبياء من آبائه فقال‏:‏ ‏{‏إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله‏}‏ وهو كلام مستأنف يتضمن التعليل لما قبله، والمراد بالترك‏:‏ هو عدم التلبس بذلك من الأصل، لا أنه قد كان تلبس به، ثم تركه كما يدلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بالله‏}‏ ثم وصف هؤلاء القوم بما يدلّ على تصلبهم في الكفر وتهالكهم عليه‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَهُمْ بالاخرة هُمْ‏}‏ أي‏:‏ هم مختصون بذلك دون غيرهم لإفراطهم في الكفر بالله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏واتبعت‏}‏ معطوف على ‏{‏تركت‏}‏، وسماهم آباء جميعاً؛ لأن الأجداد آباء، وقدّم الجدّ الأعلى، ثم الجدّ الأقرب، ثم الأب لكون إبراهيم هو أصل هذه الملة التي كان عليها أولاده، ثم تلقاها عنه إسحاق، ثم يعقوب، وهذا منه عليه السلام لترغيب صاحبيه في الإيمان بالله ‏{‏مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بالله‏}‏ أي‏:‏ ما صحّ لنا ذلك فضلاً عن وقوعه، والضمير في ‏{‏لنا‏}‏ له وللأنبياء المذكورين، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى الإيمان المفهوم من قوله‏:‏ ما كان لنا أن نشرك بالله، و‏{‏مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا‏}‏ خبر اسم الإشارة أي‏:‏ ناشئ من تفضلات الله علينا ولطفه بنا بما يجعله لنا من النبوّة المتضمنة للعصمة عن معاصيه، ومن فضل الله على الناس كافة ببعثة الأنبياء إليهم وهدايتهم إلى ربهم، وتبيين طرائق الحق لهم ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ الله سبحانه على نعمه التي أنعم بها عليهم، فيؤمنون به ويوحدونه، ويعملون بما شرعه لهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ياصاحبى السجن ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار‏}‏ جعلهما مصاحبين للسجن لطول مقامهما فيه، وقيل‏:‏ المراد يا صاحبي في السجن؛ لأن السجن ليس بمصحوب فيه، وأن ذلك من باب يا سارق الليلة، وعلى الأوّل يكون من باب قوله‏:‏ ‏{‏أصحاب الجنة أصحاب النار‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 42‏]‏ ‏{‏أصحاب النار‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 29‏]‏ والاستفهام للإنكار مع التقريع والتوبيخ‏.‏ ومعنى التفرّق هنا هو التفرّق في الذوات والصفات والعدد أي‏:‏ هل الأرباب المتفرقون في ذواتهم، المختلفون في صفاتهم، المتنافون في عددهم خير لكما يا صاحبي السجن، أم الله المعبود بحق، المتفرّد في ذاته وصفاته، الذي لا ضدّ له ولا ندّ ولا شريك، القهار الذي لا يغالبه مغالب، ولا يعانده معاند‏؟‏

أورد يوسف عليه السلام على صاحبي السجن هذه الحجة القاهرة على طريق الاستفهام، لأنهما كانا ممن يعبد الأصنام‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه كان بين أيديهما أصنام يعبدونها عند أن خاطبهما بهذا الخطاب، ولهذا قال لهما‏:‏ ‏{‏مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا‏}‏ أي‏:‏ إلا أسماء فارغة سميتموها ولا مسميات لها، وإن كنتم تزعمون أن لها مسميات، وهي الآلهة التي تعبدونها، لكنها لما كانت لا تستحق التسمية بذلك صارت الأسماء كأنها لا مسميات لها‏.‏

وقيل‏:‏ المعنى ما تعبدون من دون الله إلاّ مسميات أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم من تلقاء أنفسكم، وليس لها من الإلهية شيء إلاّ مجرد الأسماء لكونها جمادات لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضرّ؛ وإنما قال‏:‏ ‏{‏مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ على خطاب الجمع، وكذلك ما بعده من الضمائر؛ لأنه قصد خطاب صاحبي السجن ومن كان على دينهم، ومفعول سميتموها الثاني محذوف أي‏:‏ سميتموها آلهة من عند أنفسكم ‏{‏مَّا أَنزَلَ الله بِهَا‏}‏ أي‏:‏ بتلك التسمية ‏{‏مّن سلطان‏}‏ من حجة تدلّ على صحتها ‏{‏إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ‏}‏ أي‏:‏ ما الحكم إلا لله في العباد، فهو الذي خلقكم وخلق هذه الأصنام التي جعلتموها معبودة بدون حجة ولا برهان، وجملة ‏{‏أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ مستأنفة، والمعنى‏:‏ أنه أمركم بتخصيصه بالعبادة دون غيره مما تزعمون أنه معبود، ثم بين لهم أن عبادته وحده دون غيره هي دين الله الذي لا دين غيره، فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ تخصيصه بالعبادة ‏{‏الدين القيم‏}‏ أي‏:‏ المستقيم الثابت ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن ذلك هو دينه القويم، وصراطه المستقيم، لجهلكم وبعدكم عن الحقائق‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عكرمة قال‏:‏ سألت ابن عباس عن قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات‏}‏ فقال‏:‏ ما سألني عنها أحد قبلك، من الآيات قد القميص، وأثرها في جسده، وأثر السكين، وقالت امرأة العزيز‏:‏ إن أنت لم تسجنه ليصدقنه الناس‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد قال‏:‏ من الآيات كلام الصبي‏.‏ وأخرج ابن جرير عن قتادة قال‏:‏ الآيات حزّهنّ أيديهنّ، وقدّ القميص‏.‏

وأقول‏:‏ إن كان المراد بالآيات‏:‏ الآيات الدالة على براءته فلا يصح عدّ قطع أيدي النسوة منها؛ لأنه وقع منهن ذلك لما حصل لهن من الدهشة عند ظهوره لهن مع ما ألبسه الله سبحانه من الجمال، الذي تنقطع عند مشاهدته عرى الصبر، وتضعف عند رؤيته قوى التجلد، وإن كان المراد‏:‏ الآيات الدالة على أنه قد أعطي من الحسن ما يسلب عقول المبصرين، ويذهب بإدراك الناظرين، فنعم يصح عدّ قطع الأيدي من جملة الآيات، ولكن ليس هذه الآيات هي المرادة هنا‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال‏:‏ عوقب يوسف ثلاث مرات‏:‏ أما أوّل مرة فبالحبس لما كان من همّه بها، والثانية لقوله‏:‏ ‏{‏اذكرنى عِندَ رَبّكَ‏}‏ ‏{‏فَلَبِثَ فِى السجن بِضْعَ سِنِينَ‏}‏ عوقب بطول الحبس، والثالثة حيث قال‏:‏ ‏{‏أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ‏}‏ فاستقبل في وجهه‏:‏ ‏{‏إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ‏}‏‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا‏}‏ خازن الملك على طعامه، والآخر ساقيه على شرابه‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه في قوله‏:‏ ‏{‏إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا‏}‏ قال‏:‏ عنباً‏.‏ وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد ‏{‏نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ‏}‏ قال‏:‏ عبارته‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين‏}‏ قال‏:‏ كان إحسانه فيما ذكر لنا أنه كان يعزّي حزينهم، ويداوي مريضهم‏.‏ ورأوا منه عبادة واجتهاداً فأحبوه‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في الشعب عن الضحاك قال‏:‏ كان إحسانه أنه إذا مرض إنسان في السجن قام عليه، وإذا ضاق عليه المكان أوسع له، وإذا احتاج جمع له‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال‏:‏ دعا يوسف لأهل السجن فقال‏:‏ اللهمّ لا تعمّ عليهم الأخبار، وهوّن عليهم مرّ الأيام‏.‏

وأخرج أبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ‏}‏ الآية، قال‏:‏ كره العبارة لهما فأجابهما بغير جوابهما ليريهما أن عنده علماً، وكان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاماً معلوماً فأرسل به إليه، فقال يوسف‏:‏ ‏{‏لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏يَشْكُرُونَ‏}‏ فلم يدعه صاحبا الرؤية حت يعبر لهما، فكره العبارة فقال‏:‏ ‏{‏ياصاحبى السجن ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ قال‏:‏ إن المؤمن ليشكر ما به من نعمة الله، ويشكر ما بالناس من نعم الله، وذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول‏:‏ يا ربّ شاكر نعمة غير منعم عليه لا يدري، ويا ربّ حامل فقه غير فقيه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ‏}‏ الآية، قال‏:‏ لما عرف يوسف أن أحدهما مقتول دعاهما إلى حظهما من ربهما، وإلى نصيبهما من آخرتهما‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك الدين القيم‏}‏ قال‏:‏ العدل، فقال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ‏(‏41‏)‏ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

هذا هو بيان ما طلباه منه من تعبير رؤياهما‏.‏ والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏أَمَّا أَحَدُكُمَا‏}‏ هو الساقي، وإنما أبهمه لكونه مفهوماً أو لكراهة التصريح للخباز بأنه الذي سيصلب ‏{‏فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا‏}‏ أي‏:‏ مالكه، وهي عهدته التي كان قائماً بها في خدمة الملك، فكأنه قال‏:‏ أما أنت أيها الساقي فستعود إلى ما كنت عليه ويدعو بك الملك ويطلقك من الحبس ‏{‏وَأَمَّا الآخر‏}‏ وهو الخباز ‏{‏فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ‏}‏ تعبيراً لما رآه من أنه يحمل فوق رأسه خبزاً فتأكل الطير منه ‏{‏قُضِىَ الأمر الذى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ‏}‏ وهو ما رأياه وقصاه عليه، يقال‏:‏ استفتاه إذا طلب منه بيان حكم شيء سأله عنه مما أشكل عليه، وهما قد سألاه تعبير ما أشكل عليهما من الرؤيا‏.‏

‏{‏وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا‏}‏ أي‏:‏ قال يوسف، والظان هو أيضاً يوسف‏.‏ والمراد بالظنّ العلم؛ لأنه قد علم من الرؤيا نجاة الشرابي وهلاك الخباز، هكذا قال جمهور المفسرين‏.‏ وقيل‏:‏ الظاهر على معناه؛ لأن عابر الرؤيا إنما يظن ظناً، والأوّل أولى وأنسب بحال الأنبياء‏.‏ ولا سيما وقد أخبر عن نفسه عليه السلام بأنه قد أطلعه الله على شيء من علم الغيب كما في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ‏}‏ الآية، وجملة‏:‏ ‏{‏اذكرنى عِندَ رَبّكَ‏}‏ هي مقول القول، أمره بأن يذكره عند سيده، ويصفه بما شاهده منه من جودة التعبير والاطلاع على شيء من علم الغيب، وكانت هذه المقالة منه عليه السلام صادرة عن ذهول ونسيان عن ذكر الله بسبب الشيطان، فيكون ضمير المفعول في أنساه عائداً إلى يوسف، هكذا قال بعض المفسرين ويكون المراد بربه في قوله‏:‏ ‏{‏ذِكْرَ رَبّهِ‏}‏ وهو الله سبحانه، أي‏:‏ إنساء الشيطان يوسف ذكر الله تعالى في تلك الحال‏.‏ ‏{‏وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا‏}‏ يذكره عند سيده ليكون ذلك سبباً لانتباهه على ما أوقعه من الظلم البين عليه بسجنه بعد أن رأى من الآيات ما يدل على براءته‏.‏

وذهب كثير من المفسرين إلى أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو الذي نجا من الغلامين، وهو الشرابي، والمعنى‏:‏ إنساء لشيطان الشرابي ذكر سيده، أي‏:‏ ذكره لسيده فلم يبلغ إليه ما أوصاه به يوسف من ذكره عند سيده، ويكون المعنى‏:‏ فأنساه الشيطان ذكر إخباره بما أمره به يوسف مع خلوصه من السجن، ورجوعه إلى ما كان عليه من القيام بسقي الملك، وقد رجح هذا بكون الشيطان لا سبيل له على الأنبياء‏.‏ وأجيب بأن النسيان وقع من يوسف، ونسبته إلى الشيطان على طريق المجاز، والأنبياء غير معصومين عن النسيان إلاّ فيما يخبرون به عن الله سبحانه، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

«إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني» ورجح أيضاً بأن النسيان ليس بذنب، فلو كان الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو يوسف لم يستحق العقوبة على ذلك بلبثه في السجن بضع سنين، وأجيب بأن النسيان هنا بمعنى الترك، وأنه عوقب بسبب استعانته بغير الله سبحانه، ويؤيد رجوع الضمير إلى يوسف ما بعده من قوله‏:‏ ‏{‏فَلَبِثَ فِى السجن بِضْعَ سِنِينَ‏}‏ ويؤيد رجوعه إلى الذي نجا من الغلامين قوله فيما سيأتي‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذى نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 45‏]‏ سنة‏.‏

‏{‏فَلَبِثَ‏}‏ أي‏:‏ يوسف ‏{‏فِى السجن‏}‏ بسبب ذلك القول الذي قاله للذي نجا من الغلامين، أو بسبب ذلك الإنساء ‏{‏بِضْعَ سِنِينَ‏}‏ البضع‏:‏ ما بين الثلاث إلى التسع كما حكاه الهروي عن العرب، وحكي عن أبي عبيدة أن البضع‏:‏ ما دون نصف العقد، يعني‏:‏ ما بين واحد إلى أربعة‏.‏ وقيل‏:‏ ما بين ثلاث إلى سبع، حكاه قطرب‏.‏ وحكى الزجاج أنه ما بين الثلاث إلى الخمس‏.‏ وقد اختلف في تعيين قدر المدة التي لبث فيها يوسف في السجن، فقيل‏:‏ سبع سنين‏.‏ وقيل‏:‏ اثنتا عشرة سنة‏.‏ وقيل‏:‏ أربع عشرة سنة، وقيل‏:‏ خمس سنين‏.‏

وقد أخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏أَمَّا أَحَدُكُمَا‏}‏ قال‏:‏ أتاه فقال‏:‏ رأيت فيما يرى النائم أني غرست حبلة من عنب فنبتت، فخرج فيه عناقيد فعصرتهنّ ثم سقيتهنّ الملك؛ فقال‏:‏ تمكث في السجن ثلاثة أيام، ثم تخرج فتسقيه خمراً‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال‏:‏ ما رأى صاحبا يوسف شيئاً، إنما تحالما ليجرّبا علمه‏.‏ فلما أوّل رؤياهما قالا‏:‏ إنما كنا نلعب، ولم نرَ شيئاً، فقال‏:‏ ‏{‏قُضِىَ الأمر الذى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ‏}‏ يقول‏:‏ وقعت العبارة فصار الأمر على ما عبر يوسف‏.‏ وأخرج أبو عبيد، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن أبي مجلز قال‏:‏ كان أحد اللذين قصا على يوسف الرؤيا كاذباً‏.‏

وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن ابن ساباط ‏{‏وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا اذكرنى عِندَ رَبّكَ‏}‏ قال‏:‏ عند ملك الأرض‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات، وابن جرير، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو لم يقل يوسف الكلمة التي قال، ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله» وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن عكرمة مرفوعاً نحوه، وهو مرسل، وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه‏.‏ وأخرج أحمد في الزهد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن الحسن مرفوعاً نحوه‏.‏

وهو مرسل‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن قتادة فذكر نحوه، وهو مرسل أيضاً‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن أنس قال‏:‏ أوحي إلى يوسف‏:‏ من استنقذك من القتل حين همّ إخوتك أن يقتلوك‏؟‏ قال‏:‏ أنت يا ربّ، قال‏:‏ فمن استنقذك من الجبّ إذ ألقوك فيه‏؟‏ قال‏:‏ أنت يا ربّ، قال‏:‏ فمن استنقذك من المرأة إذ همت بك‏؟‏ قال‏:‏ أنت يا ربّ، قال‏:‏ فما لك نسيتني، وذكرت آدمياً‏؟‏ قال‏:‏ جزعاً، وكلمة تكلم بها لساني، قال‏:‏ فوعزتي لأخلدنك في السجن بضع سنين، فلبث فيه سبع سنين، وقد اختلف السلف في تقدير مدّة لبثه في السجن على حسب ما قدّمنا ذكره، فلم نشتغل ها هنا بذكر من قال بذلك ومن خرّجه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 49‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ‏(‏43‏)‏ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ ‏(‏44‏)‏ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ‏(‏45‏)‏ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏46‏)‏ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ‏(‏47‏)‏ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ‏(‏48‏)‏ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

المراد بالملك هنا‏:‏ هو الملك الأكبر، وهو الريان بن الوليد الذي كان العزيز وزيراً له، رأى في نومه لما دنا فرج يوسف عليه السلام أنه خرج من نهر يابس ‏{‏سَبْعَ بقرات سِمَانٍ‏}‏ جمع سمين وسمينة، في إثرهن سبع عجاف‏:‏ أي‏:‏ مهازيل، وقد أقبلت العجاف على السمان فأكلتهنّ‏.‏ والمعنى‏:‏ إني رأيت، ولكنه عبر بالمضارع لاستحضار الصورة، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏يَأْكُلُهُنَّ‏}‏ عبر بالمضارع للاستحضار، والعجاف جمع عجفاء، وقياس جمعه عجف؛ لأن فعلاء وأفعل لا تجمع على فعال، ولكنه عدل عن القياس حملاً على سمان ‏{‏وَسَبْعَ سنبلات‏}‏ معطوف على سبع بقرات‏.‏ والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏خُضْرٍ‏}‏ أنه قد انعقد حبها، واليابسات قد أدركت الخضر والتوت عليها حتى غلبتها، ولعل عدم التعرّض لذكر هذا في النظم القرآني للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات‏.‏ ‏{‏ياأيها الملأ‏}‏ خطاب للأشراف من قومه ‏{‏أَفْتُونِى فِى رؤياى‏}‏ أي‏:‏ أخبروني بحكم هذه الرؤيا ‏{‏إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ تعلمون عبارة الرؤيا، وأصل العبارة مشتقة من عبور النهر، فمعنى عبرت النهر‏:‏ بلغت شاطئه، فعابر الرؤيا يخبر بما يئول إليه أمرها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ اللام في ‏{‏للرؤيا‏}‏ للتبيين، أي‏:‏ إن كنتم تعبرون‏.‏ ثم بين فقال‏:‏ ‏{‏للرؤيا‏}‏ وقيل‏:‏ هو للتقوية، وتأخير الفعل العامل فيه لرعاية الفواصل‏.‏

وجملة ‏{‏قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ‏}‏ مستأنفة جواب سؤال مقدّر، والأضغاث‏:‏ جمع ضغث، وهو كل مختلط من بقل أو حشيش أو غيرهما، والمعنى‏:‏ أخاليط أحلام، والأحلام‏:‏ جمع حلم‏:‏ وهي الرؤيا الكاذبة التي لا حقيقة لها كما يكون من حديث النفس ووسواس الشيطان، والإضافة بمعنى من، وجمعوا الأحلام ولم يكن من الملك إلاّ رؤيا واحدة مبالغة منهم في بالبطلان، ويجوز أن يكون رأى مع هذه الرؤيا غيرها مما لم يقصه الله علينا ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاحلام بعالمين‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى بتأويل الأحلام المختلطة، نفوا عن أنفسهم علم ما لا تأويل له، لا مطلق العلم بالتأويل‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم نفوا عن أنفسهم علم التعبير مطلقاً، ولم يدّعوا أنه لا تأويل لهذه الرؤيا‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم قصدوا محوها من صدر الملك حتى لا يشتغل بها، ولم يكن ما ذكروه من نفي العلم حقيقة‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذى نَجَا مِنْهُمَا‏}‏ أي‏:‏ من الغلامين، وهو الساقي الذي قال له يوسف‏:‏ ‏{‏اذكرنى عِندَ رَبّكَ‏}‏ ‏{‏وادّكر بعد أمة‏}‏ بالدال المهملة على قراءة الجمهور، وهي القراءة الفصيحة، أي‏:‏ تذكر الساقي يوسف وما شاهده منه من العلم بتعبير الرؤيا، وقرئ بالمعجمة، ومعنى ‏{‏بَعْدَ أُمَّةٍ‏}‏‏:‏ بعد حين، ومنه ‏{‏إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 8‏]‏ أي‏:‏ إلى وقت، قال ابن درستويه‏:‏ والأمة لا تكون على الحين إلاّ على حذف مضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، كأنه قال‏:‏ والله أعلم‏:‏ وادكر بعد حين أمة أو بعد زمن أمة، والأمة‏:‏ الجماعة الكثيرة من الناس‏.‏

قال الأخفش‏:‏ هو في اللفظ واحد وفي المعنى جمع، وكل جنس من الحيوان أمة‏.‏ وقرأ ابن عباس وعكرمة‏:‏ «بعد أمة» بفتح الهمزة وتخفيف الميم، أي‏:‏ بعد نسيان، ومنه قول الشاعر‏:‏

أمِهتُ وكنت لا أنسى حديثا *** كذاك الدهر يودي بالعقول

ويقال أمه يأمه أمها‏:‏ إذا نسي‏.‏ وقرأ الأشهب العقيلي ‏{‏بعد إمَّة‏}‏ بكسر الهمزة، أي‏:‏ بعد نعمة، وهي نعمة النجاة‏.‏ ‏{‏أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ‏}‏ أي‏:‏ أخبركم به بسؤالي عنه من له علم بتأويله، وهو يوسف‏.‏ ‏{‏فَأَرْسِلُونِ‏}‏ خاطب الملك بلفظ التعظيم، أو خاطبه ومن كان عنده من الملأ، طلب منهم أن يرسلوه إلى يوسف ليقصّ عليه رؤيا الملك حتى يخبره بتأويلها فيعود بذلك إلى الملك‏.‏

‏{‏يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا‏}‏ أي‏:‏ يا يوسف، وفي الكلام حذف، والتقدير‏:‏ فأرسلوه إلى يوسف فسار إليه، فقال له‏:‏ ‏{‏يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق‏}‏ إلى آخر الكلام، والمعنى‏:‏ أخبرنا في رؤيا من رأى سبع بقرات إلخ، وترك ذكر ذلك اكتفاء بما هو واثق به من فهم يوسف بأن ذلك رؤيا، وأن المطلوب منه تعبيرها ‏{‏لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى الناس‏}‏ أي‏:‏ إلى الملك ومن عنده من الملأ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ما تأتي به من تأويل هذه الرؤيا، أو يعلمون فضلك ومعرفتك لفنّ التعبير‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏قَالَ تَزْرَعُونَ‏}‏ إلخ مستأنفة جواب سؤال مقدّر كغيرها مما يرد هذا المورد ‏{‏سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا‏}‏ أي‏:‏ متوالية متتابعة، وهو مصدر‏.‏ وقيل‏:‏ هو حال، أي‏:‏ دائبين، وقيل‏:‏ صفة لسبع، أي‏:‏ دائبة‏.‏ وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه قرأ «دأبا» بتحريك الهمزة، وكذا روى حفص عن عاصم وهما لغتان قال الفراء‏:‏ حرك لأن فيه حرفاً من حروف الحلق، وكذلك كل حرف فتح أوّله وسكن ثانيه فتثقيله جائز في كلمات معروفة‏.‏ فعبر يوسف عليه السلام السبع البقرات السمان بسبع سنين فيها خصب، والعجاف بسبع سنين فيها جدب، وهكذا عبر السبع السنبلات الخضر، والسبع السنبلات اليابسات، واستدل بالسبع السنبلات الخضر على ما ذكره في التعبير من قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ‏}‏ أي‏:‏ ما حصدتم في كل سنة من السنين المخصبة فذروا ذلك المحصود في سنبله ولا تفصلوه؛ عنها لئلا يأكله السوس إلاّ قليلاً مما تأكلون في هذه السنين المخصبة، فإنه لا بدّ لكم من فصله عن سنبله وإخراجه عنها‏.‏ واقتصر على استثناء المأكول دون ما يحتاجون إليه من البذر الذي يبذرونه في أموالهم، لأنه قد علم من قوله‏:‏ ‏{‏تزرعون‏}‏ ‏{‏ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك‏}‏ أي‏:‏ من بعد السبع السنين المخصبة ‏{‏سَبْعٌ شِدَادٌ‏}‏ أي‏:‏ سبع سنين مجدبة يصعب أمرها على الناس ‏{‏يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ‏}‏ من تلك الحبوب المتروكة في سنابلها، وإسناد الأكل إلى السنين مجاز، والمعنى‏:‏ يأكل الناس فيهنّ، أو يأكل أهلهنّ ما قدمتم لهنّ‏:‏ أي‏:‏ ما ادخرتم لأجلهنّ، فهو من باب‏:‏ نهاره صائم، ومنه قول الشاعر‏:‏

نهارك يا مغرور سهو وغفلة *** وليلك نوم والردى لك لازم

‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تُحْصِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ مما تحبسون من الحب لتزرعوا به؛ لأن في استبقاء البذر تحصين الأقوات‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ معنى ‏{‏تحصنون‏}‏ تحرزون‏.‏ وقيل‏:‏ تدّخرون، والمعنى واحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ من بعد السنين المجدبات، فالإشارة إليها، والعام‏:‏ السنة ‏{‏فِيهِ يُغَاثُ الناس‏}‏ من الإغاثة أو الغوث، والغيث المطر، وقد غاث الغيث‏:‏ بالأرض، أي‏:‏ أصابها، وغاث الله البلاد يغيثها غوثاً‏:‏ أمطرها، فمعنى ‏{‏يغاث الناس‏}‏‏:‏ يمطرون ‏{‏وَفِيهِ يَعْصِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يعصرون الأشياء التي تعصر كالعنب والسمسم والزيتون‏.‏ وقيل‏:‏ أراد حلب الألبان‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏يعصرون‏}‏ ينجون، مأخوذ من العصرة وهي المنجاة‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ والعصر بالتحريك‏:‏ الملجأ والمنجاة، ومنه قول الشاعر‏:‏

صاديا يستغيث غير مغاث *** ولقد كان عصرة المنجود

واعتصرت بفلان‏:‏ التجأت به‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏تعصرون‏}‏ بتاء الخطاب، وقرئ‏:‏ «يعصرون» بضم حرف المضارعة وفتح الصاد، ومعناه يمطرون، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَاء ثَجَّاجاً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال‏:‏ قال يوسف للساقي‏:‏ أذكرني عند ربك، أي‏:‏ الملك الأعظم، ومظلمتي وحبسي في غير شيء، فقال‏:‏ أفعل، فلما خرج الساقي ردّ على ما كان عليه، ورضي عنه صاحبه، وأنساه الشيطان ذكر الملك الذي أمره يوسف أن يذكره له، فلبث يوسف بعد ذلك في السجن بضع سنين، ثم إن الملك ريان بن الوليد رأى رؤياه التي أري فيها فهالته، وعرف أنها رؤيا واقعة، ولم يدر ما تأويلها، فقال للملأ حوله من أهل مملكته ‏{‏إِنّى أرى سَبْعَ بقرات سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سنبلات خُضْرٍ وَأُخَرَ يابسات‏}‏ فلما سمع من الملك ما سمع منه ومسألته عن تأويلها، ذكر يوسف ما كان عبَّر له ولصاحبه، وما جاء من ذلك على ما قال، فقال‏:‏ أنا أنبئكم بتأويله‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أضغاث أَحْلاَمٍ‏}‏ يقول‏:‏ مشتبهة‏.‏ وأخرج أبو يعلى، وابن جرير عنه قال‏:‏ من الأحلام الكاذبة‏.‏ وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ‏}‏ قال‏:‏ بعد حين‏.‏ وأخرج ابن جرير عن مجاهد والحسن وعكرمة وعبد الله بن كثير والسدّي مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال‏:‏ بعد سنين‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال‏:‏ بعد أمة من الناس‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بقرات‏}‏ الآية، قال‏:‏ أما السمان فسنون فيها خصب، وأما العجاف فسنون مجدبة، وسبع سنبلات خضر هي السنون المخاصيب، تخرج الأرض نباتها وزرعها وثمارها، وآخر يابسات‏:‏ المحول الجُدُوب لا تنبت شيئاً‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عكرمة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره، والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترطت عليهم أن يخرجوني، ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين أتاه الرسول، ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب، ولكنه أراد أن يكون له العذر» وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تُحْصِنُونَ‏}‏ يقول‏:‏ تخزنون، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَفِيهِ يَعْصِرُونَ‏}‏ يقول‏:‏ الأعناب والدهن‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏فِيهِ يُغَاثُ الناس‏}‏ يقول‏:‏ يصيبهم فيه غيث ‏{‏وَفِيهِ يَعْصِرُونَ‏}‏ يقول‏:‏ يعصرون فيه العنب، ويعصرون فيه الزبيب، ويعصرون من كل الثمرات‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عنه أيضاً ‏{‏وَفِيهِ يَعْصِرُونَ‏}‏ قال‏:‏ يحتلبون‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عنه أيضاً ‏{‏ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ‏}‏ قال‏:‏ أخبرهم بشيء لم يسألوه عنه كأنّ الله قد علمه إياه فيه يغاث الناس بالمطر، وفيه يعصرون السمسم دهناً، والعنب خمراً والزيتون زيتاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 57‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ‏(‏50‏)‏ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏51‏)‏ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏53‏)‏ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ‏(‏54‏)‏ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ‏(‏55‏)‏ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏56‏)‏ وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ‏}‏ في الكلام حذف قبل هذا، والتقدير‏:‏ فذهب الرسول إلى الملك فأخبره بما أخبره به يوسف من تعبير تلك الرؤيا، وقال الملك لمن بحضرته‏:‏ ‏{‏ائتوني به‏}‏ أي‏:‏ بيوسف، رغب إلى رؤيته ومعرفة حاله، بعد أن علم من فضله ما علمه، من وصف الرسول له ومن تعبيره لرؤياه‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءهُ‏}‏ أي‏:‏ جاء إلى يوسف ‏{‏الرسول‏}‏ واستدعاه إلى حضرة الملك، وأمره بالخروج من السجن ‏{‏قَالَ‏}‏ يوسف للرسول ‏{‏ارجع إلى رَبّكَ‏}‏ أي‏:‏ سيدك ‏{‏فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن‏}‏ أمره بأن يسأل الملك عن ذلك، وتوقف عن الخروج من السجن، ولم يسارع إلى إجابة الملك، ليظهر للناس براءة ساحته ونزاهة جانبه، وأنه ظلم بكيد امرأة العزيز ظلماً بيناً، ولقد أعطى عليه السلام من الحلم والصبر والأناة ما تضيق الأذهان عن تصوّره، ولهذا ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي» يعني‏:‏ الرسول الذي جاء يدعوه إلى الملك‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ هذا الفعل من يوسف أناة وصبراً، وطلباً لبراءة ساحته، وذلك أنه خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة، ويسكت عن أمر ذنبه فيراه الناس بتلك العين يقولون‏:‏ هذا الذي راود امرأة العزيز، وإنما قال‏:‏ ‏{‏فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة‏}‏ وسكت عن امرأة العزيز رعاية لذمام الملك العزيز، أو خوفاً منه من كيدها وعظيم شرّها، وذكر السؤال عن تقطيع الأيدي ولم يذكر مراودتهنّ له، تنزهاً منه عن نسبة ذلك إليهنّ، ولذلك لم ينسب المراودة فيما تقدّم إلى امرأة العزيز إلاّ بعد أن رمته بدائها وانسلت‏.‏ وقد اكتفى هنا بالإشارة الإجمالية بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبّى بكيدهن عَلِيمٌ‏}‏ فجعل علم الله سبحانه بما وقع عليه من الكيد منهنّ مغنياً عن التصريح‏.‏

وجملة ‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ‏}‏ مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل‏:‏ فماذا قال الملك بعد أن أبلغه الرسول ما قال يوسف‏؟‏ والخطب‏:‏ الشأن العظيم الذي يحق له أن يخاطب فيه صاحبه خاصة، والمعنى‏:‏ ما شأنكنّ إذ راودتنّ يوسف عن نفسه‏.‏ وقد تقدّم معنى المراودة، وإنما نسب إليهنّ المراودة، لأن كل واحدة منهن وقع منها ذلك كما تقدم، ومن جملة ما شمله خطاب الملك امرأة العزيز، أو أراد بنسبة ذلك إليهنّ وقوعه منهنّ في الجملة كما كان من امرأة العزيز تحاشياً عن التصريح منه بنسبة ذلك إليها لكونها امرأة وزيره وهو العزيز، فأجبن عليه بقولهنّ‏:‏ ‏{‏قُلْنَ حَاشَ لله‏}‏ أي‏:‏ معاذ الله ‏{‏مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء‏}‏ أي‏:‏ من أمر سيء ينسب إليه، فعند ذلك ‏{‏قَالَتِ امرأت العزيز‏}‏ منزهة لجانبه مقرّة على نفسها بالمراودة له ‏{‏الآن حصحص الحق‏}‏ أي‏:‏ تبين وظهر‏.‏

وأصله‏:‏ حصّ، فقيل‏:‏ حصحص كما قيل في كبوا‏:‏ ‏{‏فكبكبوا‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 94‏]‏ قاله الزجاج، وأصل الحصّ‏:‏ استئصال الشيء، يقال‏:‏ حصَّ شعره، إذا استأصله، ومنه قول أبي قيس بن الأسلت‏:‏

قد حَصت البيضةُ رأسي فما *** أطعمُ نوما غيرَ تهجاعِ

والمعنى‏:‏ أنه انقطع الحق عن الباطل بظهوره وبيانه، ومنه‏:‏

فمن مبلغ عني خِداشا فإنه *** كَذوبٌ إذا ما حَصحَص الحق ظالِمُ

وقيل‏:‏ هو مشتق من الحصة، والمعنى‏:‏ بانت حصّة الباطل‏.‏ قال الخليل‏:‏ معناه ظهر الحق بعد خفائه، ثم أوضحت ذلك بقولها‏:‏ ‏{‏أَنَاْ راودته عَن نَّفْسِهِ‏}‏ ولم تقع منه المراودة لي أصلاً ‏{‏وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين‏}‏ فيما قاله من تبرئة نفسه، ونسبة المراودة إليها، وأرادت بالآن زمان تكلمها بهذا الكلام‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب‏}‏‏:‏ ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذا من كلام يوسف عليه السلام‏.‏ قال الفراء‏:‏ ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر، إذا دلت القرينة الصارفة إلى كل منهما إلى ما يليق به، والإشارة إلى الحادثة الواقعة منه، وهي تثبته وتأنيه، أي‏:‏ فعلت ذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه في أهله بالغيب، والمعنى‏:‏ بظهر الغيب، والجار والمجرور في محل نصب على الحال أي‏:‏ وهو غائب عني، أو وأنا غائب عنه، قيل‏:‏ إنه قال ذلك وهو في السجن بعد أن أخبره الرسول بما قالته النسوة، وما قالته امرأة العزيز‏.‏ وقيل‏:‏ إنه قال ذلك وقد صار عند الملك، والأوّل أولى، وذهب الأقلون من المفسرين إلى أن هذا من كلام امرأة العزيز، والمعنى‏:‏ ذلك القول الذي قلته في تنزيهه، والإقرار على نفسي بالمراودة ليعلم يوسف أني لم أخنه، فأنسب إليه ما لم يكن منه، وهو غائب عني، أو وأنا غائبة عنه، والإقرار على نفسي به‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى كَيْدَ الخائنين‏}‏ أي‏:‏ لا يثبته ويسدّده، أو لا يهديهم في كيدهم حتى يوقعوه على وجه يكون له تأثير يثبت به ويدوم، وإذا كان من قول يوسف ففيه تعريض بامرأة العزيز حيث وقع منها الكيد له والخيانة لزوجها‏.‏ وتعريض بالعزيز حيث ساعدها على حبسه بعد أن علم براءته ونزاهته‏.‏

‏{‏وَمَا أُبَرّئ نَفْسِى‏}‏ إن كان من كلام يوسف فهو من باب الهضم للنفس، وعدم التزكية بها مع أنه قد علم هو وغيره من الناس أنه بريء، وظهر ذلك ظهور الشمس، وأقرّت به المرأة التي ادّعت عليه الباطل، ونزهته النسوة اللاتي قطعن أيديهنّ، وإن كان من كلام امرأة العزيز فهو واقع على الحقيقة؛ لأنها قد أقرت بالذنب، واعترفت بالمراودة وبالافتراء على يوسف‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذا من قول العزيز وهو بعيد جدّاً، ومعناه‏:‏ وما أبرئ نفسي من سوء الظن بيوسف، والمساعدة على حبسه بعد أن علمت ببراءته ‏{‏إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسوء‏}‏ أي‏:‏ إن هذا الجنس من الأنفس البشرية شأنه الأمر بالسوء لميله إلى الشهوات، وتأثيرها بالطبع، وصعوبة قهرها، وكفها عن ذلك ‏{‏إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى‏}‏ أي‏:‏ إلاّ من رحم من النفوس فعصمها عن أن تكون أمارة بالسوء، أو إلاّ وقت رحمة ربي وعصمته لها، وقيل‏:‏ الاستثناء منقطع، والمعنى‏:‏ لكن رحمة ربي هي التي تكفها عن أن تكون أمارة بالسوء، وجملة ‏{‏إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ تعليل لما قبلها، أي‏:‏ إن من شأنه كثرة المغفرة لعباده والرحمة لهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى‏}‏ الملك هو الريان بن الوليد لا العزيز كما تقدّم‏.‏ ومعنى ‏{‏أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى‏}‏‏:‏ أجعله خالصاً لي دون غيري، وقد كان قبل ذلك خالصاً للعزيز، والاستخلاص‏:‏ طلب خلوص الشيء من شوائب الشركة، قال ذلك لما كان يوسف نفيساً، وعادة الملوك أن يجعلوا الأشياء النفيسة خالصة لهم دون غيرهم ‏{‏فَلَمَّا كَلَّمَهُ‏}‏ في الكلام حذف، وتقديره فأتوه به، فلما كلمه، أي‏:‏ فلما كلم الملك يوسف، ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ فلما كلم يوسف الملك، قيل‏:‏ والأوّل أولى؛ لأن مجالس الملوك لا يتكلم فيها ابتداء إلاّ هم دون من يدخل عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ الثاني أولى؛ لقول الملك‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ‏}‏ فإن هذا يفيد أنه لما تكلم يوسف في مقام الملك جاء بما حببه إلى الملك، وقربه من قلبه، فقال هذه المقالة، ومعنى ‏{‏مكين‏}‏‏:‏ ذو مكانة وأمانة بحيث يتمكن مما يريده من الملك ويأمنه الملك على ما يطلع عليه من أمره، أو على ما يكله إليه من ذلك‏.‏ قيل‏:‏ إنه لما وصل إلى الملك أجلسه على سريره، وقال له‏:‏ إني أحبّ أن أسمع منك تعبير رؤياي، فعبرها له بأكمل بيان، وأتمّ عبارة، فلما سمع الملك منه ذلك قال له‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ‏}‏‏.‏

فلما سمع يوسف منه ذلك قال ‏{‏اجعلنى على خَزَائِنِ الأرض‏}‏ أي‏:‏ ولني أمر الأرض التي أمرها إليك وهي أرض مصر، أو اجعلني على حفظ خزائن الأرض، وهي الأمكنة التي تخزن فيها الأموال‏.‏ طلب يوسف عليه السلام منه ذلك ليتوصل به إلى نشر العدل، ورفع الظلم، ويتوسل به إلى دعاء أهل مصر إلى الإيمان بالله، وترك عبادة الأوثان‏.‏

وفيه دليل على أنه يجوز لمن وثق من نفسه إذا دخل في أمر من أمور السلطان أن يرفع منار الحق، ويهدم ما أمكنه من الباطل، وطلب ذلك لنفسه، ويجوز له أن يصف نفسه بالأوصاف التي لها، ترغيباً فيما يرومه، وتنشيطاً لمن يخاطبه من الملوك بإلقاء مقاليد الأمور إليه، وجعلها منوطة به، ولكنه يعارض هذا الجواز ما ورد عن نبينا صلى الله عليه وسلم من النهي عن طلب الولاية والمنع من تولية من طلبها، أو حرص عليها‏.‏

والخزائن جمع خزانة، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء، والحفيظ‏:‏ الذي يحفظ الشيء، أي‏:‏ ‏{‏إِنّى حَفِيظٌ‏}‏ لما جعلته إليّ من حفظ الأموال لا أخرجها في غير مخارجها، ولا أصرفها في غير مصارفها ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بوجوده جمعها وتفريقها ومدخلها ومخرجها‏.‏

‏{‏وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ‏}‏ أي‏:‏ ومثل ذلك التمكين العجيب مكنا ليوسف في الأرض أي‏:‏ جعلنا له مكاناً، وهو عبارة عن كمال قدرته، ونفوذ أمره ونهيه، حتى صار الملك يصدر عن رأيه، وصار الناس يعملون على أمره ونهيه ‏{‏يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء‏}‏ أي‏:‏ ينزل منها حيث أراد ويتخذه مباءة، وهو عبارة عن كمال قدرته كما تقدّم، وكأنه يتصرف في الأرض التي أمرها إلى سلطان مصر، كما يتصرف الرجل في منزله‏.‏ وقرأ ابن كثير بالنون، وقد استدلّ بهذه الآية على أنه يجوز تولي الأعمال من جهة السلطان الجائر، بل الكافر لمن وثق من نفسه بالقيام بالحق‏.‏ وقد قدمنا الكلام على هذا مستوفياً في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 113‏]‏ ‏{‏نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء‏}‏ من العباد فنرحمه في الدنيا بالإحسان إليه، والإنعام عليه، وفي الآخرة بإدخاله الجنة وإنجائه من النار ‏{‏وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين‏}‏ في أعمالهم الحسنة التي هي مطلوب الله منهم، أي‏:‏ لا نضيع ثوابهم فيها، ومجازاتهم عليها ‏{‏وَلأجْرُ الأخرة‏}‏ أي‏:‏ أجرهم في الآخرة، وأضيف الأجر إلى الآخرة للملابسة، وأجرهم هوالجزاء الذي يجازيهم الله به فيها، وهو الجنة التي لا ينفد نعيمها ولا تنقضي مدّتها ‏{‏خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏ بالله ‏{‏وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ الوقوع فيما حرّمه عليهم‏.‏ والمراد بهم‏:‏ المحسنون المتقدم ذكرهم، وفيه تنبيه على أن الإحسان المعتدّ به، هو الإيمان والتقوى‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏مَا بَالُ النسوة‏}‏ قال‏:‏ أراد يوسف العذر قبل أن يخرج من السجن‏.‏ وأخرج الفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في الشعب عنه قال‏:‏ لما قالت امرأة العزيز‏:‏ أنا راودته، قال يوسف‏:‏ ‏{‏ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب‏}‏ فغمزه جبريل فقال‏:‏ ولا حين هممت بها‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أُبَرّئ نَفْسِى‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏حَصْحَصَ الحق‏}‏ قال‏:‏ تبين‏.‏ وأخرج ابن جرير عن مجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، والسدّي مثله‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي حاتم، عن حكيم بن حزام في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب‏}‏ فقال له جبريل‏:‏ ولا حين حللت السراويل‏؟‏ فقال عند ذلك ‏{‏وما أبرئ نفسي‏}‏‏.‏ وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى‏}‏ قال‏:‏ فأتاه الرسول فقال‏:‏ ألقِ عنك ثياب السجن والبس ثياباً جدداً وقم إلى الملك، فدعا له أهل السجن وهو يومئذٍ ابن ثلاثين سنة، فلما أتاه رأى غلاماً حدثاً، فقال‏:‏ أيعلم هذا رؤياي ولا يعلمها السحرة والكهنة‏؟‏ وأقعده قدّامه وقال‏:‏ لا تخف، وألبسه طوقاً من ذهب وثياب حرير، وأعطاه دابة مسروجة مزينة كدابة الملك، وضرب الطبل بمصر‏:‏ إن يوسف خليفة الملك‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال‏:‏ قال الملك ليوسف‏:‏ إني أحبّ أن تخالطني في كل شيء إلاّ في أهلي‏.‏ وأنا آنف أن تأكل معي، فغضب يوسف، وقال‏:‏ أنا أحق أن آنف، أنا ابن إبراهيم خليل الله، وأنا ابن إسحاق ذبيح الله، وأنا ابن يعقوب نبيّ الله‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن شيبة بن نعامة الضبي في قوله‏:‏ ‏{‏اجعلنى على خَزَائِنِ الارض‏}‏ يقول‏:‏ على جميع الطعام ‏{‏إِنّى حَفِيظٌ‏}‏ لما استودعتني ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بسني المجاعة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض‏}‏ قال‏:‏ ملكناه فيها يكون فيها حيث يشاء من تلك الدنيا يصنع فيها ما يشاء‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم، أن يوسف تزوج امرأة العزيز فوجدها بكراً، وكان زوجها عنينا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 66‏]‏

‏{‏وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏58‏)‏ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ‏(‏59‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ ‏(‏60‏)‏ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ‏(‏61‏)‏ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏62‏)‏ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏63‏)‏ قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏64‏)‏ وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ‏(‏65‏)‏ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ‏(‏66‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ‏}‏ أي‏:‏ جاءوا إلى مصر من أرض كنعان ليمتاروا لما أصابهم القحط ‏{‏فَدَخَلُواْ‏}‏ على يوسف ‏{‏فَعَرَفَهُمْ‏}‏ لأنه فارقهم رجالاً ‏{‏وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ‏}‏ لأنهم فارقوه صبياً يباع بالدراهم في أيدي السيارة بعد أن أخرجوه من الجبّ، ودخلوا عليه الآن وهو رجل عليه أبهة الملك، ورونق الرئاسة، وعنده الخدم والحشم‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم أنكروه لكونه كان في تلك الحال على هيئة ملك مصر، ولبس تاجه وتطوّق بطوقه‏.‏

وقيل‏:‏ كانوا بعيداً منه فلم يعرفوه، وقيل غير ذلك‏.‏

‏{‏وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ‏}‏ المراد به هنا أنه أعطاهم ما طلبوه من الميرة، وما يصلحون به سفرهم من العدّة التي يحتاجها المسافر‏.‏ يقال‏:‏ جهزت القوم تجهيزاً إذا تكلفت لهم جهازاً للسفر‏.‏ قال الأزهري‏:‏ القراء كلهم على فتح الجيم، والكسر لغة جيدة‏.‏ ‏{‏قَالَ ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ‏}‏ قيل‏:‏ لا بدّ من كلام ينشأ عنه طلبه لهم بأن يأتوه بأخ لهم من أبيهم، فروي أنه لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم‏:‏ ما أنتم وما شأنكم فإني أنكركم‏؟‏ فقالوا‏:‏ نحن قوم من أهل الشام جئنا نمتار ولنا أب شيخ صديق نبيّ من الأنبياء اسمه يعقوب‏.‏ قال‏:‏ كم أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ عشرة، وقد كنا اثني عشر، فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك، وكان أحبنا إلى أبينا، وقد سكن بعده إلى أخ له أصغر منه هو باقٍ لديه، يتسلى به، فقال لهم حينئذٍ‏:‏ ‏{‏ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أخاه «بنيامين» الذي تقدّم ذكره، وهو أخو يوسف لأبيه وأمه، فوعدوه بذلك، فطلب منهم أن يتركوا أحدهم رهينة عنده حتى يأتوه بالأخ الذي طلبه، فاقترعوا فأصابت القرعة «شمعون» فخلفوه عنده، ثم قال لهم‏:‏ ‏{‏أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الكيل‏}‏ أي‏:‏ أتممه، وجاء بصيغة الاستقبال مع كونه قال لهم هذه المقالة بعد تجهيزهم للدلالة على أن ذلك عادته المستمرّة، ثم أخبرهم بما يزيدهم وثوقاً به وتصديقاً لقوله، فقال‏:‏ ‏{‏وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين‏}‏ أي‏:‏ والحال أني خير المنزلين لمن نزل بي كما فعلته بكم من حسن الضيافة، وحسن الإنزال‏.‏ قال الزجاج‏:‏ قال يوسف‏:‏ ‏{‏وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين‏}‏ لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم‏.‏

ثم توعدهم إذا لم يأتوه به فقال‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ‏}‏ أي‏:‏ فلا أبيعكم شيئاً فيما بعد، وأما في الحال فقد أوفاهم كيلهم، ومعنى لا تقربون‏:‏ لا تدخلون بلادي فضلاً عن أن أحسن إليكم وقيل‏:‏ معناه‏:‏ لا أنزلكم عندي كما أنزلتكم هذه المرّة، ولم يرد أنهم لا يقربون بلاده، و‏{‏تقربون‏}‏ مجزوم إما على أن «لا» ناهية أو على أنها نافية، وهو معطوف على محل الجزاء داخل في حكمه كأنه قال‏:‏ فإن لم تأتوني تحرموا ولا تقربوا‏.‏

فلما سمعوا منه ذلك وعدوه بما طلبه منهم، قالوا ‏{‏سنراود عَنْهُ أَبَاهُ‏}‏ أي‏:‏ سنطلبه منه، ونجتهد في ذلك بما نقدر عليه‏.‏ وقيل‏:‏ معنى المراودة هنا‏:‏ المخادعة منهم لأبيهم والاحتيال عليه حتى ينتزعوه منه ‏{‏وَإِنَّا لفاعلون‏}‏ هذه المراودة غير مقصرين فيها‏.‏ وقيل‏:‏ معناه وإنا لقادرون على ذلك، لا نتعانى به ولا نتعاظمه‏.‏

‏{‏وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجعلوا بضاعتهم فِى رِحَالِهِمْ‏}‏‏.‏ قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم من رواية شعبة وابن عامر «لفتيته»، واختار هذه القراءة أبو حاتم والنحاس وغيرهما‏.‏ وقرأ سائر الكوفيين‏.‏ ‏{‏لفتيانه‏}‏، وأختار هذه القراءة أبو عبيد، وفي مصحف عبد الله بن مسعود كالقراءة الآخرة‏.‏ قال النحاس‏:‏ لفتيانه مخالف للسواد الأعظم، ولا يترك السواد المجمع عليه لهذا الإسناد المنقطع وأيضاً فإن فتية أشبه من «فتيان»، لأن فتية عند العرب لأقل العدد، وأمر القليل بأن يجعلوا البضاعة في الرحال أشبه، والجملة مستأنفة جواب سؤال، كأنه قيل‏:‏ فما قال يوسف بعد وعدهم له بذلك، فأجيب بأنه قال لفتيته‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الفتية والفتيان في هذا الموضع‏:‏ المماليك‏.‏ وقال الثعلبي‏:‏ هما لغتان جيدتان، مثل الصبيان والصبية‏.‏ والمراد بالبضاعة هنا هي التي وصلوا بها من بلادهم ليشتروا بها الطعام، وكانت نعالاً وأدماً، فعل يوسف عليه السلام ذلك تفضلاً عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ فعل ذلك ليرجعوا إليه مرة أخرى لعلمه أنهم لا يقبلون الطعام إلا بثمن‏.‏ قاله الفراء‏.‏ وقيل‏:‏ فعل ذلك ليستعينوا بها على الرجوع إليه لشراء الطعام‏.‏ وقيل‏:‏ إنه استقبح أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمن الطعام‏.‏

ثم علل يوسف عليه السلام ما أمر به من جعل البضاعة في رحالهم بقوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ‏}‏ فجعل علة جعل البضاعة في الرحال هي معرفتهم لها إذا انقلبوا إلى أهلهم، وذلك لأنهم لا يعلمون بردّ البضاعة إليهم إلاّ عند تفريغ الأوعية التي جعلوا فيها الطعام، وهم لا يفرغونها إلاّ عند الوصول إلى أهلهم، ثم علل معرفتهم للبضاعة المردودة إليهم، المجعولة في رحالهم بقوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ فإنهم إذا عرفوا ذلك وعلموا أنهم أخذوا الطعام بلا ثمن، وأن ما دفعوه عوضاً عنه قد رجع إليهم، وتفضل به من وصلوا إليه عليهم، نشطوا إلى العود إليه، ولا سيما مع ما هم فيه من الجدب الشديد، والحاجة إلى الطعام وعدم وجوده لديهم، فإن ذلك من أعظم ما يدعوهم إلى الرجوع، وبهذا يظهر أن يوسف عليه السلام لم يردّ البضاعة إليهم إلاّ لهذا المقصد، وهو رجوعهم إليه، فلا يتمّ تعليل ردّها بغير ذلك، والرحال‏:‏ جمع رحل، والمراد به هنا‏:‏ ما يستصحبه الرجل معه من الأثاث‏.‏

قال الواحدي‏:‏ الرحل كل شيء معدّ للرحيل من وعاء للمتاع، ومركب للبعير، ومجلس ورسن انتهى‏.‏ والمراد هنا‏:‏ الأوعية التي يجعلون فيها ما يمتارونه من الطعام‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ يقال للوعاء‏:‏ رحل، وللبيت‏:‏ رحل‏.‏

‏{‏فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ يأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الكيل‏}‏ أرادوا بهذا ما تقدّم من قول يوسف لهم‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى‏}‏ أي‏:‏ منع منا الكيل في المستقبل، وفيه دلالة على أن الامتيار مرة بعد مرة معهود فيما بينهم وبينه، ولعلهم قالوا له بهذه المقالة قبل أن يفتحوا متاعهم ويعلموا بردّ بضاعتهم كما يفيد ذلك قوله فيما بعد‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا فَتَحُواْ متاعهم‏}‏ إلى آخره، ثم ذكروا له ما أمرهم به يوسف، فقالوا‏:‏ ‏{‏فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا‏}‏ يعنون بنيامين، و‏{‏نَكْتَلْ‏}‏ جواب الأمر، أي‏:‏ نكتل بسبب إرساله معنا ما نريده من الطعام‏.‏ قرأ أهل الحرمين، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم‏:‏ ‏{‏نكتل‏}‏ بالنون، وقرأ سائر الكوفيون بالياء التحتية، واختار أبو عبيد القراءة الأولى‏.‏ قال‏:‏ ليكونون كلهم داخلين فيمن يكتال، وزعم أنه إذا كان بالياء كان للأخ وحده، أي‏:‏ يكتال أخونا بنيامين، واعترضه النحاس مما حاصله‏:‏ أن إسناد الكيل إلى الأخ لا ينافي كونه للجميع، والمعنى‏:‏ يكتال بنيامين لنا جميعاً‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أي إن أرسلته اكتلنا وإلاّ منعنا الكيل ‏{‏وَإِنَّا لَهُ‏}‏ أي‏:‏ لأخيهم بنيامين ‏{‏لحافظون‏}‏ من أن يصيبه سوء أو مكروه‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ‏}‏ مستأنفة جواب سؤال مقدّر كما تقدّم في نظائر ذلك في مواضع كثيرة، والمعنى‏:‏ أنه لا يأمنهم على بنيامين إلاّ كما أمنهم على أخيه يوسف، وقد قالوا له في يوسف‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَهُ لحافظون‏}‏ كما قالوا هنا‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَهُ لحافظون‏}‏ ثم خانوه في يوسف فهو إن أمنهم في بنيامين خاف أن يخونوه فيه كما خانوه في يوسف ‏{‏فالله خَيْرٌ حافظا وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين‏}‏ لعل هنا إضمار والتقدير فتوكل يعقوب على الله ودفعه إليهم، وقال‏:‏ ‏{‏فالله خير حفظاً‏}‏‏.‏ قرأ أهل المدينة «حفظاً» وهو منتصب على التمييز‏.‏ وهي قراءة أبي عمرو، وعاصم، وابن عامر، وقرأ سائر الكوفيين‏:‏ ‏{‏حافظاً‏}‏ وهو منتصب على الحال‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ على البيان يعني‏:‏ التمييز، ومعنى الآية‏:‏ أن حفظ الله إياه خير من حفظهم له، لما وكل يعقوب حفظه إلى الله سبحانه حفظه وأرجعه إليه، ولما قال في يوسف‏:‏ ‏{‏وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب‏}‏ وقع له من الامتحان ما وقع‏.‏

‏{‏وَلَمَّا فَتَحُواْ متاعهم‏}‏ أي‏:‏ أوعية الطعام أو ما هو أعمّ من ذلك مما يطلق عليه لفظ المتاع سواء كان الذي فيه طعاماً أو غير طعام ‏{‏وَجَدُواْ بضاعتهم رُدَّتْ إِلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ البضاعة التي حملوها إلى مصر ليمتاروا بها، وقد تقدّم بيانها‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا‏}‏ مستأنفة كما تقدّم ‏{‏مَا نَبْغِى‏}‏ «ما» استفهامية والمعنى‏:‏ أي شيء نطلب من هذا الملك بعد أن صنع معنا ما صنع من الإحسان بردّ البضاعة والإكرام عند القدوم إليه، وتوفير ما أردناه من الميرة‏؟‏ ويكون الاستفهام للإنكار، وجملة‏:‏ ‏{‏هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا‏}‏ مقرّرة لما دلّ عليه الاستفهام من الإنكار لطلب شيء مع كونها قد ردّت إليهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن «ما» في ‏{‏ما نبغي‏}‏ نافية، أي‏:‏ ما نبغي في القول، وما نتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وإكرامه لنا، ثم برهنوا على ما لقوه من التزيد في وصف الملك بقولهم‏:‏ ‏{‏هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا‏}‏ فإن من تفضل عليهم بردّ ذلك حقيق بالثناء عليه منهم، مستحق لما وصفوه به‏.‏

ومعنى ‏{‏وَنَمِيرُ أَهْلَنَا‏}‏‏.‏ نجلب إليهم الميرة وهي الطعام، والمائر الذي يأتي بالطعام‏.‏ وقرأ السلمي بضم النون، وهو معطوف على مقدر يدلّ عليه السياق، والتقدير‏:‏ هذه بضاعتنا ردّت إلينا فنحن نستعين بها على الرجوع ونمير أهلنا‏.‏ ‏{‏وَنَحْفَظُ أَخَانَا‏}‏ بنيامين مما تخافه عليه ‏{‏وَنَزْدَادُ‏}‏ بسبب إرساله معنا ‏{‏كَيْلَ بَعِيرٍ‏}‏ أي‏:‏ حمل بعير زائد على ما جئنا به هذه المرة، لأنه كان يكال لكل رجل وقر بعير، ومعنى ‏{‏ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ‏}‏ أن زيادة كيل بعير لأخينا يسهل على الملك، ولا يمتنع علينا من زيادته له لكونه يسيراً لا يتعاظمه ولا يضايقنا فيه‏.‏ وقيل إن المعنى‏:‏ ذلك المكيل لأجلنا قليل نريد أن ينضاف إليه حمل بعير لأخينا‏.‏ واختار الزجاج الأوّل‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا من كلام يعقوب جواباً على ما قاله أولاده، ‏{‏وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ‏}‏ يعني‏:‏ إن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لأجله بالولد، وهو ضعيف؛ لأن جواب يعقوب هو ‏{‏قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ الله‏}‏ أي‏:‏ حتى تعطوني ما أثق به، وأركن إليه من جهة الله سبحانه، وهو الحلف به، واللام في ‏{‏لَتَأْتُنَّنِى بِهِ‏}‏ جواب القسم؛ لأن معنى ‏{‏حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ الله‏}‏‏:‏ حتى تحلفوا بالله لتأتنني به أي‏:‏ لتردنّ بنيامين إليّ‏.‏

والاستثناء بقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ‏}‏ هو من أعمّ العام؛ لأن ‏{‏لَتَأْتُنَّنِى بِهِ‏}‏ وإن كان كلاماً مثبتاً فهو في معنى النفي، فكأنه قال‏:‏ لا تمنعون من إتياني به في حال من الأحوال لعلة من العلل إلاّ لعلة الإحاطة بكم، والإحاطة مأخوذة من إحاطة العدو، ومن أحاط به العدوّ فقد غلب أو هلك‏.‏ فأخذ يعقوب عليهم العهد بأن يأتوه ببنيامين إلاّ أن تغلبوا عليه أو تهلكوا دونه، فيكون ذلك عذراً لكم عندي ‏{‏فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ أعطوه ما طلبه منهم من اليمين ‏{‏قَالَ الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ‏}‏ أي‏:‏ قال يعقوب‏:‏ الله على ما قلناه من طلبي الموثق منكم وإعطائكم لي ما طلبته منكم مطلع رقيب لا يخفى عليه منه خافية، فهو المعاقب لمن خاس في عهده، وفجر في الحلف به، أو موكول إليه القيام بما شهد عليه منا‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال‏:‏ إن إخوة يوسف لما دخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون، جاء بصواع الملك الذي كان يشرب فيه، فوضعه على يده فجعل ينقره ويطنّ، وينقره ويطنّ، فقال‏:‏ إن هذا الجام ليخبرني عنكم خبراً، هل كان لكم أخ من أبيكم يقال له‏:‏ يوسف‏؟‏ وكان أبوه يحبه دونكم، وإنكم انطلقتم به فألقيتموه في الجبّ، وأخبرتم أباكم أن الذئب أكله، وجئتم على قميصه بدم كذب‏؟‏ قال‏:‏ فجعل بعضهم ينظر إلى بعض ويعجبون‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن وهيب قال‏:‏ لما جعل يوسف ينقر الصواع ويخبرهم، قام إليه بعض إخوته فقال‏:‏ أنشدك بالله أن لا تكشف لنا عورة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ‏}‏ قال‏:‏ يعني بنيامين، وهو أخو يوسف لأبيه وأمه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين‏}‏ قال‏:‏ خير من يضيف بمصر‏.‏

وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏لفتيانه‏}‏ أي‏:‏ لغلمانه ‏{‏اجعلوا بضاعتهم‏}‏ أي‏:‏ أوراقهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏مَا نَبْغِى هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا‏}‏ يقولون‏:‏ ما نبغي وراء هذا ‏{‏وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ‏}‏ أي‏:‏ حمل بعير‏.‏ وأخرج أبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد ‏{‏وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ‏}‏ قال‏:‏ حمل حمار، قال‏:‏ وهي لغة‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ يعني هذا أن الحمار يقال له‏:‏ في بعض اللغات بعير‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ تهلكوا جميعاً‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ عهدهم‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ‏}‏ قال إلاّ أن تغلبوا حتى لا تطيقوا ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 76‏]‏

‏{‏وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏67‏)‏ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏ وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏69‏)‏ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ‏(‏70‏)‏ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ ‏(‏71‏)‏ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ‏(‏72‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ‏(‏73‏)‏ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ‏(‏74‏)‏ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏75‏)‏ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ‏(‏76‏)‏‏}‏

لما تجهز أولاد يعقوب للمسير إلى مصر خاف عليهم أبوهم أن تصيبهم العين؛ لكونهم كانوا ذوي جمال ظاهر، وثياب حسنة مع كونهم أولاد رجل واحد، فنهاهم أن يدخلوا مجتمعين من باب واحد، لأن في ذلك مظنة لإصابة الأعين لهم، وأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة، ولم يكتف بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ‏}‏ عن قوله‏:‏ ‏{‏وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ‏}‏ لأنهم لو دخلوا من بابين مثلاً كانوا قد امتثلوا النهي عن الدخول من باب واحد، ولكنه لما كان في الدخول من بابين مثلاً نوع اجتماع يخشى معه أن تصيبهم العين، أمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرّقة، قيل‏:‏ وكانت أبواب مصر أربعة‏.‏

وقد أنكر بعض المعتزلة كأبي هاشم، والبلخي، أن للعين تأثيراً، وقالا‏:‏ لا يمتنع أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به كانت المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف معلقاً به‏.‏ وليس هذا بمستنكر من هذين وأتباعهما، فقد صار دفع أدلة الكتاب والسنّة بمجرد الاستبعادات العقلية دأبهم وديدنهم، وأيّ مانع من إصابة العين بتقدير الله سبحانه لذلك‏؟‏

وقد وردت الأحاديث الصحيحة بأن العين حقّ، وأصيب بها جماعة في عصر النبوّة، ومنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأعجب من إنكار هؤلاء لما وردت به نصوص هذه الشريعة ما يقع من بعضهم من الإزراء على من يعمل بالدليل المخالف لمجرد الاستبعاد العقلي والتنطع في العبارات كالزمخشري في تفسيره، فإنه في كثير من المواطن لا يقف على دفع دليل الشرع بالاستبعاد الذي يدّعيه على العقل حتى يضمّ إلى ذلك الوقاحة في العبارة على وجه يوقع المقصرين في الأقوال الباطلة، والمذاهب الزائفة، وبالجملة فقول هؤلاء مدفوع بالأدلة المتكاثرة وإجماع من يعتدّ به من هذه الأمة سلفاً وخلفاً، وبما هو مشاهد في الوجود، فكم من شخص من هذا النوع الإنساني وغيره من أنواع الحيوان هلك بهذا السبب‏.‏

وقد اختلف العلماء فيمن عرف بالإصابة بالعين، فقال قوم‏:‏ يمنع من الاتصال بالناس دفعاً لضرره بحبس أو غيره من لزوم بيته‏.‏ وقيل‏:‏ ينفي، وأبعد من قال إنه يقتل، إلاّ إذا كان يتعمد ذلك، وتتوقف إصابته على اختياره وقصده ولم ينزجر عن ذلك، فإنه إذا قتل كان له حكم القاتل‏.‏

ثم قال يعقوب لأولاده ‏{‏وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله مِن شَئ‏}‏ أي‏:‏ لا أدفع عنكم ضرراً ولا أجلب إليكم نفعاً بتدبيري هذا، بل ما قضاه الله عليكم فهو واقع لا محالة‏.‏ قال الزجاج وابن الأنباري‏:‏ لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم مع الاجتماع لكان تفرّقهم كاجتماعهم‏.‏ وقال آخرون‏:‏ ما كان يغني عنهم يعقوب شيئاً قط، حيث أصابهم ما أصابهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم، ثم صرح يعقوب بأنه لا حكم إلا لله سبحانه فقال‏:‏ ‏{‏إِنِ الحكم إِلاَّ لله‏}‏ لا لغيره ولا يشاركه فيه مشارك في ذلك ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ‏}‏ في كل إيراد وإصدار لا على غيره أي‏:‏ اعتمدت ووثقت ‏{‏وَعَلَيْهِ‏}‏ لا على غيره ‏{‏فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون‏}‏ على العموم، ويدخل فيه أولاده دخولاً أوّلياً‏.‏

‏{‏وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم‏}‏ أي‏:‏ من الأبواب المتفرقة ولم يجتمعوا داخلين من باب واحد‏.‏ وجواب لما ‏{‏مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ‏}‏ ذلك الدخول ‏{‏مِنَ الله‏}‏ أي‏:‏ من جهته ‏{‏مِن شَئ‏}‏ من الأشياء مما قدّره الله عليهم لأن الحذر لا يدفع القدر، والاستثناء بقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا‏}‏ منقطع، والمعنى‏:‏ ولكن حاجة كانت في نفس يعقوب، وهي شفقته عليهم، ومحبته لسلامتهم، قضاها يعقوب، أي‏:‏ أظهرها لهم، ووصاهم بها غير معتقد أن للتدبير الذي دبره لهم تأثيراً في دفع ما قضاه الله عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ إنه خطر ببال يعقوب أن الملك إذا رآهم مجتمعين مع ما يظهر فيهم من كمال الخلقة، وسيما الشجاعة أوقع بهم حسداً وحقداً أو خوفاً منهم، فأمرهم بالتفرّق لهذه العلة‏.‏ وقد اختار هذا النحاس وقال‏:‏ لا معنى للعين ها هنا‏.‏ وفيه أن هذا لو كان هو السبب لأمرهم بالتفرّق، ولم يخصّ النهي عن ذلك بالاجتماع عند الدخول من باب واحد؛ لأن هذا الحسد أو الخوف يحصل باجتماعهم داخل المدينة، كما يحصل باجتماعهم عند الدخول من باب واحد‏.‏ وقيل‏:‏ إن الفاعل في ‏{‏قضاها‏}‏ ضمير يعود إلى الدخول لا إلى يعقوب‏.‏ والمعنى‏:‏ ما كان الدخول يغني عنهم من جهة الله شيئاً، ولكنه قضى ذلك الدخول حاجة في نفس يعقوب لوقوعه حسب إرادته ‏{‏وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلَّمْنَاهُ‏}‏ أي‏:‏ وإن يعقوب لصاحب علم لأجل تعليم الله إياه بما أوحاه الله من أن الحذر لا يدفع القدر، وأن ما قضاه الله سبحانه فهو كائن لا محالة‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ بذلك كما ينبغي‏.‏ وقيل‏:‏ لا يعلمون أن الحذر مندوب إليه، وإن كان لا يغني من القدر شيئاً، والسياق يدفعه‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بأكثر الناس المشركون‏.‏

‏{‏وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ أوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ‏}‏ أي‏:‏ ضمّ إليه أخاه بنيامين، قيل‏:‏ إنه أمر بإنزال كل اثنين في منزل فبقي أخوه منفرداً فضمه إليه و‏{‏قَالَ إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ‏}‏ يوسف، قال له ذلك سرّاً، من دون أن يطلع عليه إخوته ‏{‏فَلاَ تَبْتَئِسْ‏}‏ أي‏:‏ فلا تحزن ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ إخوتك من الأعمال الماضية التي عملوها؛ وقيل‏:‏ إنه لم يخبره بأنه يوسف، بل قال له‏:‏ إني أخوك مكان أخيك يوسف فلا تحزن بما كنت تلقاه منهم من الجفاء حسداً وبغياً‏.‏

وقيل‏:‏ إنه أخبره بما سيدبره معهم من جعل السقاية في رحله‏.‏ فقال‏:‏ لا أبالي، وقيل‏:‏ إنه لما أخبر يوسف أخاه بنيامين بأنه أخوه قال‏:‏ لا تردّني إليهم، فقال قد علمت اغتمام أبينا يعقوب، فإذا حبستك عندي ازداد غمه، فأتى بنيامين فقال له يوسف‏:‏ لا يمكن حبسك عندي إلاّ بأن أنسبك إلى ما لا يجمل بك، فقال‏:‏ لا أبالي، فدس الصاع في رحله، وهو المراد بالسقاية وأصلها المشربة التي يشرب بها جعلت صاعاً يكال به‏.‏ وقيل‏:‏ كان تسقى بها الدوابّ ويكال بها الحبّ، وقيل‏:‏ كانت من فضة‏.‏ وقيل‏:‏ كانت من ذهب، وقيل غير ذلك‏.‏ وقد تقدم تفسير الجهاز والرحل، والمعنى‏:‏ أنه جعل السقاية التي هو الصواع في رحل أخيه الذي هو الوعاء الذي يجعل فيه ما يشتريه من الطعام من مصر ‏{‏ثُمَّ‏}‏ بعد ذلك ‏{‏أَذَّنَ مُؤَذّنٌ‏}‏ أي‏:‏ نادى منادٍ قائلاً ‏{‏أَيَّتُهَا العير‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معناه يا أصحاب العير، وكل ما امتير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير‏.‏ وقيل‏:‏ هي قافلة الحمير‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ العير الإبل المرحولة المركوبة ‏{‏إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ‏}‏ نسبة السرق إليهم على حقيقتها؛ لأن المنادي غير عالم بما دبره يوسف‏.‏ وقيل‏:‏ إن المعنى إن حالكم حال السارقين كون الصواع صار لديكم من غير رضا من الملك‏.‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي‏:‏ إخوة يوسف ‏{‏وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي حال كونهم مقبلين على من نادى منهم المنادي من أصحاب الملك ‏{‏مَّاذَا تَفْقِدُونَ‏}‏ أي‏:‏ ما الذي فقدتموه‏؟‏ يقال‏:‏ فقدت الشيء‏:‏ إذا عدمته بضياع أونحوه، فكأنهم قالوا ماذا ضاع عليكم‏؟‏ وصيغة المستقبل لاستحضار الصورة ‏{‏قَالُواْ‏}‏ في جوابهم ‏{‏نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك‏}‏‏.‏ قرأ يحيى بن يعمر «صواغ» بالغين المعجمة، وقرأ أبو رجاء «صُوع» بضم الصاد المهملة وسكون الواو بعدها عين مهملة‏.‏ وقرأ أبيّ «صياع»‏.‏ وقرأ أبو جعفر‏:‏ «صاع»، وبها قرأ أبو هريرة، وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏صواع‏}‏ بالصاد والعين المهملتين، قال الزجاج‏:‏ الصواع‏:‏ هو الصاع بعينه، وهو يذكر ويؤنث، وهو السقاية، ومنه قول الشاعر‏:‏

نشرب الخمر بالصواع جهارا *** ‏{‏وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ‏}‏ أي قالوا‏:‏ ولمن جاء بالصواع من جهة نفسه حمل بعير‏.‏ والبعير‏:‏ الجمل، وفي لغة بعض العرب أنه الحمار، والمراد بالحمل ها هنا‏:‏ ما يحمله البعير من الطعام، ثم قال المنادي ‏{‏وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ بحمل البعير الذي جعل لمن جاء بالصواع قبل التفتيش للأوعية، والزعيم هو الكفيل، ولعل القائل‏:‏ ‏{‏نفقد صواع الملك‏}‏ هو المنادي، وإنما نسب القول إلى الجماعة لكونه واحداً منهم، ثم رجع الكلام إلى نسبة القول إلى المنادي وحده، لأنه القائل بالحقيقة‏.‏

‏{‏قَالُواْ تالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الأرض‏}‏ التاء بدل من واو القسم عند الجمهور‏.‏ وقيل‏:‏ من الباء، وقيل‏:‏ أصل بنفسها، ولا تدخل إلاّ على هذا الاسم الشريف دون سائر أسمائه سبحانه، وقد دخلت نادراً على الرب، وعلى الرحمن، والكلام على هذا مستوفي في علم الإعراب، وجعلوا المقسم عليه هو علم يوسف وأصحابه بنزاهة جانبهم، وطهارة ذيلهم، عن التلوّث بقذر الفساد في الأرض، الذي من أعظم أنواعه السرقة‏.‏ لأنهم قد شاهدوا منهم في قدومهم عليه المرّة الأولى، وهذه المرّة من التعفف والزهد عما هو دون السرقة، بمراحل ما يستفاد منه العلم الجازم بأنهم ليسوا بمن يتجارأ على هذا النوع العظيم من أنواع الفساد، ولو لم يكن من ذلك إلاّ ردّهم لبضاعتهم التي وجدوها في رحالهم، والمراد بالأرض هنا‏:‏ أرض مصر‏.‏ ثم أكدوا هذه الجملة التي أقسموا بالله عليها بقولهم‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا سارقين‏}‏ لزيادة التبرّي مما قذفوهم به والتنزه عن هذه النقيصة الخسيسة والرذيلة الشنعاء‏.‏

‏{‏قَالُواْ فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كاذبين‏}‏ هذه الجملة مستأنفة كما تقدّم غير مرّة في نظائرها‏.‏ والقائلون‏:‏ هم أصحاب يوسف، أو المنادي منهم وحده كما مرّ، والضمير في ‏{‏جزاؤه‏}‏ للصواع على حذف مضاف أي‏:‏ فما جزاء سرقة الصواع عندكم، أو الضمير للسارق، أي‏:‏ فما جزاء سارق الصواع عندكم ‏{‏إِن كُنتُمْ كاذبين‏}‏ فيما تدّعونه لأنفسكم من البراءة عن السرقة، وذلك بأن يوجد الصواع معكم، فأجاب أخوة يوسف وقالوا‏:‏ ‏{‏جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ‏}‏ أي‏:‏ جزاء سرقة الصواع، أو جزاء سارق الصواع‏.‏ وجزاؤه مبتدأ، والجملة الشرطية‏:‏ وهي ‏{‏من وجد في رحله فهو جزاؤه‏}‏ خبر المبتدأ، على إقامة الظاهر مقام المضمر فيها، والأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو، فيكون الضمير الثاني عائداً إلى المبتدأ، والأوّل إلى «من»، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ‏:‏ و‏{‏من وجد في رحله‏}‏ والتقدير‏:‏ جزاء السرقة للصواع أخذ من وجد في رحله، وتكون جملة ‏{‏فهو جزاؤه‏}‏ لتأكيد الجملة الأولى، وتقريرها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَهُوَ جَزَاؤُهُ‏}‏ زيادة في البيان أي‏:‏ جزاؤه أخذ السارق فهو جزاؤه لا غير‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترقّ سنة، فلذلك استفتوهم في جزائه ‏{‏كذلك نَجْزِى الظالمين‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي الظالمين لغيرهم من الناس بسرقة أمتعتهم، وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها إذا كانت من كلام إخوة يوسف، ويجوز أن تكون من كلام أصحاب يوسف، أي‏:‏ كذلك نحن نجزي الظالمين بالرق‏.‏ ثم لما ذكروا جزاء السارق أرادوا أن يفتشوا أمتعتهم حتى يتبين الأمر، فأقبل يوسف على ذلك، فبدأ بتفتيش ‏{‏أوعيتهم‏}‏ أي‏:‏ أوعية الإخوة العشرة ‏{‏قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ‏}‏ أي‏:‏ قبل تفتيشه لوعاء أخيه بنيامين دفعاً للتهمة ورفعاً لما دبره من الحيلة ‏{‏ثُمَّ استخرجها‏}‏ أي‏:‏ السقاية أو الصواع؛ لأنه يذكر ويؤنث ‏{‏كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك الكيد العجيب كدنا ليوسف يعني‏:‏ علمناه إياه أوحيناه إليه، والكيد مبدؤه السعي في الحيلة والخديعة، ونهايته إلقاء المخدوع من حيث لا يشعر في أمر مكروه لا سبيل إلى دفعه، وهو محمول في حق الله سبحانه على النهاية لا على البداية، قال القتيبي‏:‏ معنى ‏{‏كدنا‏}‏ دبرنا، وقال ابن الأنباري‏:‏ أردنا‏.‏

وفي الآية دليل على جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف ذلك شرعاً ثابتاً‏.‏

‏{‏مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الملك‏}‏ أي‏:‏ ما كان يوسف ليأخذ أخاه بنيامين في دين الملك، أي‏:‏ ملك مصر، وفي شريعته التي كان عليها، بل كان دينه وقضاؤه أن يضرب السارق ويغرم ضعف ما سرقه دون الاستعباد سنة، كما هو دين يعقوب وشريعته، وحاصله أن يوسف ما كان يتمكن من إجراء حكم يعقوب على أخيه مع كونه مخالفاً لدين الملك وشريعته لولا ما كاد الله له ودبره وأراده حتى وجد السبيل إليه، وهو ما أجراه على ألسن إخوته من قولهم‏:‏ إن جزاء السارق الاسترقاق، فكان قولهم هذا هو بمشيئة الله وتدبيره، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَشَاء الله‏}‏ أي‏:‏ إلا حال مشيئته وإذنه بذلك وإرادته له، وهذه الجملة‏:‏ أعني ‏{‏ما كان ليأخذ أخاه‏}‏ إلخ، تعليل لما صنعه الله من الكيد ليوسف، أو تفسير له ‏{‏نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء‏}‏ بضروب العلوم والمعارف والعطايا والكرامات كما رفعنا درجة يوسف بذلك ‏{‏وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ‏}‏ ممن رفعه الله بالعلم ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ أرفع رتبة منهم وأعلى درجة لا يبلغون مداه، ولا يرتقون شأوه‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ذلك أن فوق كل أهل العلم عليم وهو الله سبحانه‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ يا بَنِى لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ‏}‏ قال‏:‏ رهب يعقوب عليهم العين‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن محمد بن كعب قال‏:‏ خشي عليهم العين‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن النخعي في قوله‏:‏ ‏{‏وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ‏}‏ قال‏:‏ أحب يعقوب أن يلقى يوسف أخاه في خلوة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا‏}‏ قال‏:‏ خيفة العين على بنيه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلَّمْنَاهُ‏}‏ قال‏:‏ إنه لعامل بما علم، ومن لا يعمل لا يكون عالماً‏.‏ وأخرج هؤلاء عنه في قوله‏:‏ ‏{‏آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ‏}‏ قال‏:‏ ضمه إليه، وفي قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَبْتَئِسْ‏}‏ قال‏:‏ لا تحزن ولا تيأس، وفي قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ قضى حاجتهم، وكال لهم طعامهم، وفي قوله‏:‏ ‏{‏جَعَلَ السقاية‏}‏ قال‏:‏ هو إناء الملك الذي يشرب منه ‏{‏فِى رَحْلِ أَخِيهِ‏}‏ قال‏:‏ في متاع أخيه‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏جَعَلَ السقاية‏}‏ قال‏:‏ هو الصواع، وكل شيء يشرب منه فهو صواع‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه‏.‏

وأخرج ابن جرير، ابن أبي حاتم عن ابن زيد نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏أَيَّتُهَا العير‏}‏ قال‏:‏ كانت العير حميراً‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ‏}‏ قال‏:‏ حمل حمار طعام، وهي لغة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ‏}‏ يقول‏:‏ كفيل‏.‏ وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والضحاك مثله‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس في قوله‏:‏ ‏{‏مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الارض‏}‏ يقول‏:‏ ما جئنا لنعصي في الأرض‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا جَزَاؤُهُ‏}‏ قال‏:‏ عرفوا الحكم في حكمهم فقالوا‏:‏ من وجد في رحله فهو جزاؤه‏.‏ وكان الحكم عند الأنبياء يعقوب وبنيه أن يؤخذ السارق بسرقته عبداً يسترقّ‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ ذكر لنا أنه كان كلما فتح متاع رجل استغفر تأثماً مما صنع حتى بقي متاع الغلام قال‏:‏ ما أظن أن هذا أخذ شيئاً‏.‏ قالوا‏:‏ بلى فاستبره‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ‏}‏ قال‏:‏ كذلك صنعنا ليوسف ‏{‏مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الملك‏}‏ يقول‏:‏ في سلطان الملك‏.‏ قال‏:‏ كان في دين ملكهم أنه من سرق أخذت منه السرقة ومثلها معها من ماله فيعطيه المسروق‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الملك‏}‏ يقول‏:‏ في سلطان الملك‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَشَاء الله‏}‏ قال‏:‏ إلا بعلة كادها الله ليوسف فاعتلّ بها‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عنه في قوله‏:‏ ‏{‏نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء‏}‏ قال‏:‏ يوسف وإخوته أوتوا علماً فرفعنا يوسف في العلم فوقهم درجة‏.‏

وأخرج الفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال‏:‏ كنا عند ابن عباس فحدث بحديث، فقال رجل عنده‏:‏ ‏{‏وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ‏}‏ فقال ابن عباس‏:‏ بئس ما قلت‏.‏ الله العليم الخبير، وهو فوق كل عالم‏.‏ وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب قال‏:‏ سأل رجل علياً عن مسألة، فقال فيها، فقال الرجل ليس هكذا ولكن كذا وكذا، قال عليّ‏:‏ أصبت وأخطأت ‏{‏وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ‏}‏ قال‏:‏ علم الله فوق كل عالم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 82‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ‏(‏77‏)‏ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏78‏)‏ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ‏(‏79‏)‏ فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏80‏)‏ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ‏(‏81‏)‏ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ إِن يَسْرِقْ‏}‏ أي بنيامين ‏{‏فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ‏}‏ يعنون يوسف‏.‏

وقد اختلف المفسرون في هذه السرقة التي نسبوها إلى يوسف ما هي‏؟‏ فقيل‏:‏ إنه كان ليوسف عمة هي أكبر من يعقوب، وكانت عندها منطقة إسحاق لكونها أسنّ أولاده وكانوا يتوارثونها فيأخذها الأكبر سناً، من ذكر أو أنثى، وكانت قد حضنت يوسف وأحبته حباً شديداً، فلما ترعرع قال لها يعقوب‏:‏ سلِّمي يوسف إليّ فأشفقت من فراقه، واحتالت في بقائه لديها، فجعلت المنطقة تحت ثيابه وحزمته بها، ثم قالت‏:‏ قد سرقت منطقة إسحاق فانظروا من سرقها، فبحثوا عنها فوجدوها مع يوسف فأخذته عندها كما هو شرع الأنبياء في ذلك الوقت من آل إبراهيم‏.‏ وقد سبق بيان شريعتهم في السرقة، وقيل‏:‏ إن يوسف أخذ صنماً كان لجدّه- أبي أمه- فكسره وألقاه على الطريق تغييراً للمنكر‏.‏ وحكي عن الزجاج أنه كان صنماً من ذهب‏.‏ وحكى الواحدي عن الزجاج أنه قال‏:‏ الله أعلم، أسرق أخ له أم لا‏؟‏ وحكى القرطبي في تفسيره عن الزجاج أنه قال‏:‏ كذبوا عليه فيما نسبوه إليه، قلت‏:‏ وهذا أولى، فما هذه الكذبة بأوّل كذباتهم، وقد قدّمنا ما يدفع قول من قال‏:‏ إنهم قد كانوا أنبياء عند صدور هذه الأمور منهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ‏}‏ قال الزجاج وغيره‏:‏ الضمير في أسرّها يعود إلى الكلمة أو الجملة، كأنه قيل‏:‏ فأسرّ الجملة في نفسه ‏{‏وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ‏}‏ ثم فسرها بقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً‏}‏ وقد ردّ أبو عليّ الفارسي هذا فقال‏:‏ إن هذا النوع من الإضمار على شريطة التفسير غير مستعمل‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير عائد إلى الإجابة، أي‏:‏ أسرّ يوسف إجابتهم في ذلك الوقت إلى وقت آخر، وقيل‏:‏ أسرّ في نفسه قولهم‏:‏ ‏{‏إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل‏}‏‏.‏ وهذا هو الأولى، ويكون معنى ‏{‏وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ‏}‏ أنه لم يبد لهم هذه المقالة التي أسرّها في نفسه بأن يذكر لهم صحتها، أو بطلانها، وجملة ‏{‏قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً‏}‏ مفسرة على القول الأوّل، ومستأنفة على القولين الآخرين، كأنه قيل‏:‏ فماذا قال يوسف لما قالوا هذه المقالة‏؟‏ أي‏:‏ ‏{‏أنتم شرّ مكانا‏}‏ أي‏:‏ موضعاً ومنزلاً ممن نسبتموه إلى السرقة وهو بريء، فإنكم قد فعلتم ما فعلتم من إلقاء يوسف إلى الجبّ، والكذب على أبيكم وغير ذلك من أفاعيلكم، ثم قال‏:‏ ‏{‏والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ‏}‏ من الباطل بنسبة السرقة إلى يوسف، وأنه لا حقيقة لذلك‏.‏

ثم أرادوا أن يستعطفوه ليطلق له أخاهم بنيامين يكون معهم يرجعون به إلى أبيهم لما تقدّم من أخذه الميثاق عليهم بأن يردّوه إليه، فقالوا‏:‏ ‏{‏يأيها العزيز إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا‏}‏ أي‏:‏ إن لبنيامين هذا أباً متصفاً بهذه الصفة، وهي كونه شيخاً كبيراً لا يستطيع فراقه ولا يصبر عنه، ولا يقدر على الوصول إليه ‏{‏فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ‏}‏ يبقى لديك، فإن له منزلة في قلب أبيه ليست لواحد منا فلا يتضرّر بفراق أحدنا كما لا يتضرّر بفراق بنيامين، ثم عللوا ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين‏}‏ إلى الناس كافة، وإلينا خاصة، فنعم إحسانك إلنيا بإجابتنا إلى هذا المطلب، فأجاب يوسف عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا متاعنا عِندَهُ‏}‏ أي‏:‏ نعوذ بالله معاذاً، فهو مصدر منصوب بفعل محذوف، والمستعيذ بالله هو المعتصم به، وأن نأخذ منصوب بنزع الخافض، والأصل من أن نأخذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده، وهو بنيامين لأنه الذي وجد الصواع في رحله فقد حلّ لنا استعباده بفتواكم التي أفتيتموها بقولكم‏:‏ ‏{‏جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّا إِذًا لظالمون‏}‏ أي‏:‏ إنا إذا أخذنا غير من وجدنا متاعنا عنده لظالمون في دينكم وما تقتضيه فتواكم‏.‏

‏{‏فَلَمَّا استيأسوا منه‏}‏ أي‏:‏ يئسوا من يوسف وإسعافهم منه إلى مطلبهم الذي طلبوه، والسين والتاء للمبالغة ‏{‏خَلَصُواْ نَجِيّا‏}‏ أي‏:‏ انفردوا حال كونهم متناجين فيما بينهم، وهو مصدر يقع على الواحد والجمع كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 52‏]‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ معناه انفردوا وليس معهم أخوهم متناجين فيما يعملون به في ذهابهم إلى أبيهم من غير أخيهم ‏{‏قَالَ كَبِيرُهُمْ‏}‏، قيل‏:‏ هو «روبيل» لأنه الأسنّ، وقيل‏:‏ «يهوذا» لأنه الأوفر عقلاً، وقيل‏:‏ «شمعون» لأنه رئيسهم ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مّنَ الله‏}‏ أي‏:‏ عهداً من الله في حفظ ابنه وردّه إليه، ومعنى كونه من الله أنه بإذنه ‏{‏وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ‏}‏ معطوف على ما قبله‏.‏ والتقدير‏:‏ ألم تعلموا أن أباكم وتعلموا تفريطكم في يوسف، ذكر هذا النحاس وغيره، و‏{‏من قبل‏}‏ متعلقة ب ‏{‏تعلموا‏}‏ أي‏:‏ وتعلموا تفريطكم في يوسف من قبل، على أن «ما» مصدرية، ويجوز أن تكون زائدة، وقيل‏:‏ ‏{‏ما فرّطتم‏}‏ مرفوع المحل على الابتداء، وخبره ‏{‏من قبل‏}‏ وقيل‏:‏ إن «ما» موصولة، أو موصوفة، وكلاهما في محل النصب أو الرفع، وما ذكرناه هو الأولى، ومعنى ‏{‏فرطتم‏}‏‏:‏ قصرتم في شأنه، ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه ‏{‏فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض‏}‏‏.‏ يقال‏:‏ برح براحاً وبروحاً، أي زال، فإذا دخله النفي صار مثبتاً أي‏:‏ لن أبرح من الأرض، بل ألزمها ولا أزال مقيماً فيها ‏{‏حتى يَأْذَنَ لِى أَبِى‏}‏ في مفارقتها والخروج منها، وإنما قال ذلك لأنه يستحي من أبيه أن يأتي إليه بغير ولده الذي أخذ عليهم الموثق بإرجاعه إليه إلاّ أن يحاط بهم كما تقدّم، ‏{‏أَوْ يَحْكُمَ الله لِى‏}‏ بمفارقتها والخروج منها، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ أو يحكم الله لي بخلاص أخي من الأسر حتى يعود إلى أبي وأعود معه، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ أو يحكم الله لي بالنصر على من أخذ أخي فأحاربه وآخذ أخي منه، أو أعجز فأنصرف بعد ذلك ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين‏}‏ لأن أحكامه لا تجري إلاّ على ما يوافق الحق، ويطابق الصواب‏.‏

ثم قال كبيرهم مخاطباً لهم ‏{‏ارجعوا إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يأَبَانَا إِنَّ ابنك سَرَقَ‏}‏‏:‏ قرأ الجمهور ‏{‏سرق‏}‏ على البناء للفاعل، وذلك لأنهم قد شاهدوا استخراج الصواع من وعائه‏.‏ وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو رزين على البناء للمفعول، وروى ذلك النحاس عن الكسائي‏.‏ قال الزجاج‏:‏ إنّ سرق يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما علم منه السرق، والآخر اتهم بالسرق ‏{‏وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا‏}‏ من استخراج الصواع من وعائه، وقيل المعنى‏:‏ ما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترق إلا بما علمنا من شريعتك وشريعة آبائك ‏{‏وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافظين‏}‏ حتى يتضح لنا هل الأمر على ما شاهدناه أو على خلافه‏؟‏ وقيل‏:‏ المعنى ما كنا وقت أخذنا له منك ليخرجا معنا إلى مصر للغيب حافظين بأنه سيقع منه السرق الذي افتضحنا به‏.‏ وقيل‏:‏ الغيب هو الليل، ومرادهم أنه سرق وهم نيام، وقيل‏:‏ مرادهم أنه فعل ذلك وهو غائب عنهم، فخفي عليهم فعله‏.‏

‏{‏واسئل القرية التى كُنَّا فِيهَا‏}‏ هذا من تمام قول كبيرهم لهم أي‏:‏ قولوا لأبيكم‏:‏ أسأل القرية التي كنا فيها أي‏:‏ مصر، والمراد أهلها أي‏:‏ أسأل أهل القرية؛ وقيل‏:‏ هي قرية من قرى مصر نزلوا فيها وامتاروا منها‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ واسأل القرية نفسها وإن كانت جماداً فإنك نبيّ الله، والله سبحانه سينطقها فتجيبك‏.‏ ومما يؤيد هذا أنه قال سيبويه‏:‏ لا يجوز كلم هنداً وأنت تريد غلام هند ‏{‏والعير التى أَقْبَلْنَا فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ وقولوا لأبيكم اسأل العير التي أقبلنا فيها أي‏:‏ أصحابها وكانوا قوماً معروفين من جيران يعقوب ‏{‏وِإِنَّا لصادقون‏}‏ فيما قلنا‏.‏ جاءوا بهذه الجملة مؤكدة هذا التأكيد، لأن ما قد تقدّم منهم مع أبيهم يعقوب يوجب كمال الريبة في خبرهم هذا عند السامع‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ‏}‏ قال‏:‏ يعنون يوسف‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال‏:‏ سرق مكحلة لخالته، يعني‏:‏ يوسف‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن عطية قال‏:‏ سرق في صباه ميلين من ذهب‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «سرق يوسف صنماً لجدّه- أبى أمه- من ذهب وفضة فكسره وألقاه على الطريق فعيره بذلك إخوته»

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير مثله غير مرفوع، وقد روى نحوه عن جماعة من التابعين‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ‏}‏ قال‏:‏ أسرّ في نفسه قوله‏:‏ ‏{‏أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ‏}‏‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن قتادة مثله‏.‏

وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق في قوله‏:‏ ‏{‏فلما استيأسوا منه‏}‏ قال‏:‏ أيسوا منه، ورأوا شدّته في أمره‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏خَلَصُواْ نَجِيّا‏}‏ قال‏:‏ وحدهم‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ كَبِيرُهُمْ‏}‏ قال «شمعون» الذي تخلف، أكبرهم عقلاً، وأكبر منه في الميلاد «روبيل»‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة قال‏:‏ كبيرهم هو «روبيل»، وهو الذي كان نهاهم عن قتله، وكان أكبر القوم‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يَحْكُمَ الله لِى‏}‏ قال‏:‏ أقاتل بسيفي حتى أقتل‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن أبي صالح نحوه‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عكرمة‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافظين‏}‏ قال‏:‏ ما كنا نعلم أن ابنك يسرق‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏واسئل القرية‏}‏ قال‏:‏ يعنون مصر‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة مثله‏.‏